الكتاب: القضاء والشهادات
المؤلف: الشيخ الأنصاري
الجزء:
الوفاة: ١٢٨١
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: تحقيق : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ربيع الأول ١٤١٥
المطبعة: باقري - قم
الناشر: المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري
ردمك:
ملاحظات:

القضاء والشهادات
1

القضاء والشهادات
للشيخ الأعظم أستاذ الفقهاء والمجتهدين
الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)
1214 - 1281 ه‍
اعداد
لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
3

بسم الله الرحمن الرحيم
5

برعاية
قائد الثورة الاسلامية ولي أمر المسلمين
سماحة آية الله السيد الخامنئي دام ظله الوارف
تم طبع هذا الكتاب
6

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله
الطيبين الطاهرين.
لم تكن الثورة الاسلامية بقيادة الإمام الخميني رضوان الله عليه حدثا سياسيا
تتحدد آثاره التغييرية بحدود الأوضاع السياسية إقليمية أو عالمية، بل كانت
وبفعل التغييرات الجذرية التي أعقبتها في القيم والبنى الحضارية التي شيد
عليها صرح الحياة الانسانية في عصرها الجديد حدثا حضاريا انسانيا شاملا
حمل إلى الانسان المعاصر رسالة الحياة الحرة الكريمة التي بشر بها الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام على مدى التأريخ وفتح أمام تطلعات الانسان الحاضر أفقا باسما
بالنور والحياة، والخير والعطاء.
وكان من أولى نتائج هذا التحول الحضاري الثورة الثقافية الشاملة
التي شهدها مهد الثورة الاسلامية إيران والتي دفعت بالمسلم الإيراني إلى
اقتحام ميادين الثقافة والعلوم بشتى فروعها، وجعلت من إيران، ومن قم
المقدسة بوجه خاص عاصمة للفكر الاسلامي وقلبا نابضا بثقافة القرآن
وعلوم الاسلام.
7

ولقد كانت تعاليم الإمام الراحل رضوان الله تعالى عليه ووصاياه وكذا
توجيهات قائد الثورة الاسلامية وولي أمر المسلمين آية الله الخامنئي المصدر
الأول الذي تستلهم الثورة الثقافية منه دستورها ومنهجها، ولقد كانت الثقافة
الاسلامية بالذات على رأس اهتمامات الإمام الراحل رضوان الله عليه وقد أولاها
سماحة آية الله الخامنئي حفظه الله تعالى رعايته الخاصة، فكان من نتائج ذاك
التوجيه وهذه الرعاية ظهور آفاق جديدة من التطور في مناهج الدراسات
الاسلامية بل ومضامينها، وانبثاق مشاريع وطروح تغييرية تتجه إلى التنمية
وتطوير العلوم الاسلامية ومناهجها بما يناسب مرحلة الثورة الاسلامية
وحاجات الانسان الحاضر وتطلعاته.
وبما أن العلوم العلوم الاسلامية حصيلة الجهود التي بذلها عباقرة الفكر
الاسلامي في مجال فهم القرآن الكريم والسنة الشريفة فقد كان من أهم
ما تتطلبه عملية التطوير العلمي في الدراسات الاسلامية تسليط الأضواء
على حصائل آراء العباقرة والنوابغ الأولين الذين تصدروا حركة البناء
العلمي لصرح الثقافة الاسلامية، والقيام بمحاولة جادة وجديدة لعرض
آرائهم وأفكارهم على طاولة البحث العلمي والنقد الموضوعي، ودعوة
أصحاب الرأي والفكر المعاصرين إلى دراسة جديدة وشاملة لتراث السلف
الصالح من بناة الصرح الشامخ للعلوم والدراسات الاسلامية ورواد الفكر
الاسلامي وعباقرته.
وبما أن الإمام المجدد الشيخ الأعظم الأنصاري قدس الله نفسه يعتبر
الرائد الأول للتجديد العلمي في العصر الأخير في مجالي الفقه والأصول
- وهما من أهم فروع الدراسات الاسلامية - فقد اضطلعت الأمانة العامة
لمؤتمر الشيخ الأعظم الأنصاري - بتوجيه من سماحة قائد الثورة الاسلامية
8

آية الله الخامنئي ورعايته - بمشروع احياء الذكرى المئوية الثانية لميلاد
الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره وليتم من خلال هذا المشروع عرض
مدرسة الشيخ الأنصاري الفكرية في شتى أبعادها وعلى الخصوص ابداعات
هذه المدرسة وانتاجاتها المتميزة التي جعلت منها المدرسة الأم لما تلتها من
مدارس فكرية كمدرسة الميرزا الشيرازي والآخوند الخراساني والمحقق
النائيني والمحقق العراقي والمحقق الأصفهاني وغيرهم من زعماء المدارس
الفكرية الحديثة على صعيد الفقه الاسلامي وأصوله.
وتمهيدا لهذا المشروع فقد ارتأت الأمانة العامة أن تقوم لجنة مختصة
من فضلاء الحوزة العلمية بقم المقدسة بمهمة احياء تراث الشيخ الأنصاري
وتحقيق تركته العلمية واخراجها بالأسلوب العلمي اللائق وعرضها لرواد
الفكر الاسلامي والمكتبة الاسلامية بالطريقة التي تسهل للباحثين الاطلاع
على فكر الشيخ الأنصاري ونتاجه العلمي العظيم.
والأمانة العامة لمؤتمر الشيخ الأنصاري إذ تشكر الله سبحانه وتعالى على هذا
التوفيق تبتهل إليه في أن يديم ظل قائد الثورة الاسلامية ويحفظه للاسلام
ناصرا وللمسلمين رائدا وقائدا وأن يتقبل من العاملين في لجنة التحقيق
جهدهم العظيم في سبيل احياء تراث الشيخ الأعظم الأنصاري وأن يمن
عليهم بأضعاف من الأجر والثواب.
أمين عام مؤتمر الشيخ الأعظم الأنصاري
محسن العراقي
9

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله والطاهرين،
واللعنة على أعداء الدين.
أما بعد:
بين أيدينا كتاب القضاء والشهادات، للشيخ الأعظم، الشيخ مرتضى
الأنصاري قدس سره.
والكتاب يتكون من أقسام ثلاثة، وهي: القضاء، والشهادات،
وملاحق.
أما القضاء فهو يتكون - بدوره - من قسمين أيضا:
ألف - شرح الإرشاد: وهو يتضمن البحث في مقاصد ثلاثة:
الأول في صفات القاضي وآدابه، والثاني في كيفية الحكم، والثالث في
الدعوة، لكنه غير تام.
ب - مسائل مستقلة: وهو يتضمن البحث في سبع مسائل متفرقة.
وأما الشهادات فهو يتضمن البحث عن بعض مسائل الشهادات
بصورة مستقلة.
11

هذا وقد قال العلامة الطهراني قدس سره تحت عنوان " القضاء ":
" كتاب القضاء للشيخ الأنصاري (م 1281)، وقال سيدنا الحسن:
رأيته بخطه وهو مسودة، ويمكن اتحاده مع القضاء عن الميت الآتي ذكره " (1).
وقال بعد صفحتين: " في القضاء عن الميت، للشيخ المرتضى
الأنصاري قدس سره " (2).
قال تحت عنوان " القضاء والشهادات ":
" القضاء والشهادات للشيخ الأنصاري، يوجد بخط السيد حسين بن
الحسن الموسوي الإمامي، كتبه في 1281، في الرضوية " (3).
ولم يذكر كتابا أو رسالة للشيخ الأنصاري قدس سره، بهذا العنوان غير
ما تقدم، ومن الغريب أنه كيف لم يظهر للعلامة الطهراني قدس سره أن ما رآه
السيد الصدر كان متحدا مع رسالة القضاء عن الميت، أو لا؟
وأما ما ذكره تحت عنوان القضاء والشهادات فهو من تقريرات
بحوثه، ونسخته موجودة في مكتبة الإمام الرضا عليه السلام في مشهد برقم
(2526)، وهو أوسع بكثير مما كتبه الشيخ قدس سره بخطه، حيث إن عدد
أوراقه (249 ورقة)، وأما ما كتبه هو فيقارب (74 ورقة).
وعلى هذا فمن المحتمل جدا أن يكون ما رآه السيد الصدر قدس سره،
هو القضاء والشهادات الذي كتبه الشيخ قدس سره بخطه.
ثم إنه كتب كثير من تلامذته تقريرات بحوثه في القضاء، وقد ذكرنا

(1) الذريعة 17: 137.
(2) نفس المصدر: 139.
(3) نفس المصدر: 141.
12

أهمها في مقدمة كتاب الطهارة، فليراجع.
النسخ المعتمد عليها:
اعتمدنا في تحقيق الكتاب على نسختين خطيتين وهما:
ألف - النسخة الأصلية (مخطوطة المؤلف قدس سره):
وهي موجودة في مكتبة الإمام الرضا عليه السلام في مشهد ضمن مجموعة
تحتوي على عدة كتب ورسائل كالوصايا والنكاح وغيرها برقم (11127)،
وقد تفضلت المكتبة بمصورتها.
ويبدأ القسم الأول من القضاء - أي شرح الإرشاد - من الصفحة
اليسرى من الورقة (130) من المجموعة، وينتهي في الصفحة اليمنى من
الورقة (181) منها.
ثم تأتي مطالب مستقلة ومتفرقة - غير مرتبطة بالقضاء - من الصفحة
اليسرى من الورقة (181)، وتنتهي في الصفحة اليمنى من الورقة (187).
ثم يأتي قسم الشهادات - وهو شرح الإرشاد أيضا - ويبدأ من
الصفحة اليسرى من الورقة (187) وينتهي بالصفحة اليمنى من الورقة
(195).
ثم يأتي قسم القضاء الثاني (مسائل مستقلة)، ويبدأ من الصفحة
اليسرى من الورقة (196)، وينتهي في الصفحة اليمنى من الورقة (202).
ورمزنا لهذه النسخة برمز " ق ".
ب - نسخة خطية ثانية:
وهي نسخة جيدة ويبدو أن مستنسخها كان فاضلا، حيث أشار فيها
إلى موارد السقط أو الاغتشاش الموجود في النسخة الأصلية.
13

والنسخة موجودة في مكتبة گوهر شاد في مشهد برقم (1 / 785)
استفدنا من مصورتها في تحقيق الكتاب.
ورمزنا لهذه النسخة برمز " ش ".
وللكتاب نسخ خطية أخرى، منها ما هو موجود في مكتبة مجلس
الشورى الاسلامي برقم (403)، ومكتبة المدرسة الفيضية برقم (1 / 993).
وأما الملاحق فهي أربع مواضيع متفرقة رتبناها كالآتي:
الأول - ورقة واحدة من مخطوطة المؤلف وفيها بعض الأخبار الدالة
على كون الكبيرة ما أوعد الله عليها النار، والبحث حول التصرف في مال
اليتيم، وإن حق الوالد أعظم من الوالدة.
الثاني - ورقتان تشتملان على البحث حول العقوق.
الثالث - ورقتان تشتملان على بعض الأخبار التي استطرفها، والبحث
عن وجوب الوفاء بالوعد.
الرابع - مطلب مذكور في هامش الصفحة الأخيرة من رسالة المواريث
يتضمن البحث عن معنى الايمان والفكر.
وهذه الأوراق المتفرقة لم تطبع قبل هذا.
صعوبات في طريق التحقيق:
كانت هناك صعوبات كثيرة واجهتنا في تحقيق هذا الأثر القيم، وهذه
المشاكل وإن كانت مشتركة بين هذا الكتاب وغيره من آثار الشيخ قدس سره
إلا أن هناك خصوصية في هذا الكتاب جعلته يمتاز عن غيره، وهي أنه
لم يطبع قبل هذا مطلقا حتى بالطبعة الحجرية، وأدى هذا إلى بقاء مشاكله
على حالها.
14

وفيما يلي نشير إلى بعض هذه المشاكل:
أولا - فقدان بعض الأوراق من الكتاب، وقد أدى ذلك إلى عدم
ارتباط بعض المطالب مع بعضها الآخر، وقد أشرنا في هامش الكتاب إلى
محل السقط أو احتماله.
ومما كان يزيد في المشكلة أنه ربما كتب الشيخ قدس سره في حاشية (1)
الورقة المفقودة مطلبا كانت بقاياه في الأوراق الموجودة أو بالعكس،
ولم نتمكن من تحديد محل المطلب بالدقة، بل وحتى لو حددناه وأدرجنا فيه
المطلب لكان ناقصا، ولذلك آثرنا في مثل هذه الحالة درج ذلك في هامش
الكتاب.
ثانيا - إن الترتيب الذي كانت عليه النسخة الأصلية لم يكن صحيحا،
وقد حصل فيه تقديم وتأخير في عدد من الأوراق، في الصفحة اليمنى من
الورقة (131) ترتبط بالصفحة اليسرى من الورقة (136) من الكتاب
والصفحة اليمنى من الورقة (136) ترتبط بالصفحة اليسرى من الورقة
(139) والصفحة اليمنى من الورقة (139) ترتبط بالصفحة اليسرى من
الورقة (131).
هناك ورقة منفردة وضعت في آخر المجموعة بحث فيها حول حكم
القاضي بعلمه، أوردناها في البحث عن آداب القاضي.
هذا سوى ما جرت به عادة الشيخ قدس سره من حذف أو تغيير ما كتبه
بالشطب الذي كان يؤدي إلى مشاكل عديدة، كعدم تحديد المشطوب عليه،
أو ارجاع الضمائر وأسماء الإشارة أو الموصول إلى المشطوب بدل المكتوب

(1) والحواشي التي كان يكتبها الشيخ إنما كانت من متن الكتاب.
15

عوضا عنه.
وقد قام المحققون بدراسة هذه المشاكل وحلها بجدية.
ختاما نشكر جميع الأخوة الذين اشتركوا في تحقيق هذه المجموعة
- أي القضاء والشهادات والملاحق - ونخص بالذكر حجج الاسلام
والمسلمين: الشيخ حافظ النجفي والشيخ علي أكبر محراب زادة اللذين
قاما باستخراج مصادر النصوص، والسيد علي الموسوي والشيخ
مرتضى الواعظي اللذين قاما بمراجعة هذه الاستخراجات مراجعة دقيقة،
والسيد محمد جواد الجلالي الذي اشترك مع السيد الموسوي في تقويم
نص الكتاب وتنظيمه، والسيد منذر الحكيم الذي كتب العناوين الجانبية،
والسيد هادي العظيمي الذي قام بتنظيم الفهارس الفنية.
هذا ونسأل الله تعالى لنا ولهم مزيد التوفيق إنه قريب مجيب.
مسؤول لجنة التحقيق
محمد علي الأنصاري
16

صورة الصفحة الأولى من كتاب القضاء من نسخة " ق "
17

صورة الصفحة الأخيرة من كتاب القضاء من نسخة " ق "
18

صورة الصفحة الأولى من المسائل المستقلة من النسخة " ق "
19

صورة الصفحة الأخيرة من المسائل المستقلة من نسخة " ق "
20

صورة الصفحة الأولى من كتاب القضاء من نسخة " ش "
21

صورة الصفحة الأخيرة من كتاب القضاء من نسخة " ش "
22

المؤتمر العالمي للذكرى المئوية الثانية
لميلاد الشيخ الأنصاري قدس سره
القضاء والشهادات
للشيخ الأعظم أستاذ الفقهاء والمجتهدين
الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)
1214 - 1281 ه‍
اعداد
لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
23

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
24

كتاب القضاء
وهو بالمد والقصر لمعان، أنهاها بعضهم (1) إلى عشرة، ولا يبعد ارجاع
الكل إلى معنى واحد، وهو: إتمام الشئ والفراغ عنه - كما اعترف به
الأزهري على ما حكي عنه (2) - أو فصل الأمر قولا أو فعلا، كما في كشف
اللثام (3).
وشرعا - كما في المسالك (4) والكشف (5) وغيرهما (6) -: ولاية الحكم
شرعا لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين على أشخاص معينين
من البرية بإثبات الحقوق، واستيفائها للمستحق.
والظاهر أن ادراج الولاية مبني على جعل القضاء من المصادر

(1) مجمع البيان 1: 193، وجواهر الكلام 40: 7.
(2) تاج العروس 10: 297.
(3) كشف اللثام 2: 320.
(4) المسالك 2: 283.
(5) كشف اللثام 2: 320.
(6) انظر التنقيح الرائع 4: 230، والرياض 2: 385.
25

المستعملة في شأنية المبدأ ومنصبه - كما في لفظ الحكومة والإمارة والوزارة
ونحوها - لا في نفس المبدأ، فالمنصب في هذه المبادئ نظير الملكة في الكتابة
ونحوها. وهذا الاستعمال وإن كان شائعا في كثير من المصادر، وملحوظا
في لفظ القاضي، إلا أنه قليل في خصوص لفظ القضاء، بل يعبر عنه
عرفا بالقضاوة، وإن لم يسمع هذا الوزن في كلام أهل اللغة.
وعلي أي حال، فظاهر التعريف خروج مثل الحكم بثبوت الهلال،
فإنه وإن كان منصبا للقاضي إلا أن صدق المبدأ ليس باعتباره، فهو نظير
ولايته على أشخاص خاصة وأعيان خاصة.
وقد عرفه في الدروس بما يشمل الكل، أعني ولاية شرعية على
الحكم، وعلى المصالح العامة من قبل الإمام عليه السلام (1)، والأول أوجه.
وعلى أي حال، فالظاهر تعريفهم للصحيح من القضاء.
والظاهر بل المقطوع عدم ثبوت الحقيقة الشرعية لهذا اللفظ
وما يشتق منه، بل ولا الحقيقة المتشرعية إلا في خصوص لفظ " القاضي "،
فلا يبعد أن يراد بقولهم: " شرعا " فن علم الشريعة، يعني اصطلاح الفقهاء،
والأمر في ذلك كله سهل.
وهذا الباب (2) (فيه مقاصد):

(1) الدروس 2: 65.
(2) كذا في النسختين.
26

المقصد الأول
في
صفات القاضي
وآدابه التي يستعملها عند التصدي للقضاء
وهذا فيه مطلبان
27

[المطلب] الأول
(يشترط فيه: البلوغ والعقل والايمان والعدالة وطهارة المولد)
بالاجماع المحقق والمنقول (1) في الجميع.
(و) كذا يشترط فيه (العلم) بما يتصدى له من القضاء، علما
ناشئا عن الأدلة المتعارفة، أعني: الكتاب والسنة والعقل، فلا يكفي العلم
من أي سبب كان وإن كان حجة على نفسه، إلا أن اطلاق لفظ " العلم "
و " العالم " في أدلة اشتراط هذا الشرط من الاجماع والنص، مثل
قوله عليه السلام: " رجل قضى بالحق وهو يعلم " (2) ومثل أدلة نصب الفقهاء (3)،
وغير ذلك، منصرف إلى غيره، بل هذا شئ معلوم من حال الشارع
ضرورة.

(1) انظر المسالك 2: 283، والكفاية: 261، والرياض 2: 385.
(2) الوسائل 18: 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
(3) انظر الوسائل 18: 4، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 5،
و 18: 95، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20 و 18: 99، الباب
11 من الأبواب، الحديث الأول وغيرها من الأحاديث.
29

ويدخل في العلم: الظن الاجتهادي الحاصل من الظنون المعتبرة،
لانتهائه إلى العلم.
ولا فرق في المجتهد بين المطلق والمتجزي على الأقوى، وفاقا
للمصنف (1) والشهيدين (2) وغيرهم (3) قدس الله أسرارهم لاطلاق بعض أدلة النصب
في حال الغيبة كما سيجئ، ولأن الظاهر بل المقطوع أن المنصوبين في زمن
النبي والأمير صلوات الله عليهما وآلهما لم يكن لبعضهم ملكة استنباط جميع المسائل،
فتأمل.
ولمرفوعة أبي خديجة: " ولكن انظروا إلى رجل يعلم شيئا من قضايانا
فاجعلوه قاضيا " (4)، فإن ظاهرها كفاية العلم بالقضية المحتاج إليها في القضاء.
ولا يعارضها قوله عليه السلام - في مقبولة ابن حنظلة -: " انظروا إلى
رجل منكم، قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا،
فارضوا به حكما " (5)، بناء على إفادة الجمع المضاف للعموم، لا لما توهمه
بعض (6) من عدم التنافي بين نصب المطلق ونصب المتجزي، لأن المقبولة
واردة في مقام بيان المرجع وتعريفه، فالقيود فيها احترازية، وتفيد حصر

(1) انظر قواعد الأحكام 2: 202، والتحرير 2: 180.
(2) الدروس 2: 66، والروضة البهية 2: 418.
(3) كالمحقق السبزواري في الكفاية: 261 والمحقق القمي في الغنائم: 672.
(4) الوسائل 18: 4، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
(5) الوسائل 18: 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول، وفيه:
" ينظران من كان منكم ممن.. ".
(6) انظر الجواهر 40: 34.
30

المرجع في المتصف بتلك الصفات، بل لأن حمل الجمع على العموم غير ممكن
مع إبقاء قوله: " عرف " على ظاهره من المعرفة الفعلية، للاجماع،
بل الضرورة على عدم اعتبار العلم الفعلي بجميع الأحكام، فحمل الفعل
الماضي على إرادة الملكة ليس بأولى من حمل الجمع المضاف على الجنس،
بل هو أولى بمراتب، ومع التساوي فيسقط الاستدلال، مع احتمال حمل القيد
على ما هو الغالب في ذلك الزمان من عدم تجزي ملكة الاستنباط، لكن هذا
لا يقدح في اطلاق رواية أبي خديجة (1)، كما لا يخفى.
وربما يرد الاستدلال بالمرفوعة بأن غايتها إفادة الظن، واعتماد
المتجزي عليه يوجب الدور، لأن الكلام في حجية ظنه.
وفيه: إن هذا الاستدلال إنما هو من المطلق على حجية ظن
المتجزي، ليفتي مقلده بالرجوع إليه، وأما المتجزي فلا بد له من أن ينتهي
بظنه إلى العلم بحجيته، ولا يكفيه التمسك بالمرفوعة إلا إذا قطع بحجيته على
نفسه من حيث السند والدلالة وعدم المعارض، بل الحال كذلك في المطلق
أيضا.
وأما الكلام في سند المرفوعة، فحقيق بالاعراض عنه بعد اطلاق
" المشهورة " عليها، وركون المشهور إليها ولو في غير المقام، بل في المقام
حيث إن الظاهر أن المشهور صحة التجزي، بل القول بعدمها لم نعرفه من
الإمامية قبل صاحب المعالم (2)، وإن لم يستلزم صحته مضي حكمه على الغير،
إلا أن الظاهر ندرة القائل بالفرق.

(1) الوسائل 18: 4، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
(2) المعالم: 239.
31

وعلى أي حال، فما نسبه بعض (1) إلى صاحب المسالك، من دعواه
الاجماع في المقام على اعتبار كون القاضي مجتهدا مطلقا، محل نظر يظهر لمن
لاحظ عبارة المسالك، كما أن ما فهمه صاحب المسالك من قول المحقق
في الشرائع: ولا بد أن يكون عارفا بجميع ما وليه (2)، من اعتبار الاجتهاد
المطلق في القاضي (3)، أيضا محل تأمل، ولذا عبر بهذه العبارة المصنف
في القواعد (4) والتحرير (5) مع قوله بالتجزي، مع أن المعرفة الفعلية بجميع
المسائل غير ميسر غالبا، وإرادة العلم بالقوة، لعله خلاف الظاهر.
وحينئذ، فلا يبعد أن يكون المراد: اعتبار معرفته فعلا بجميع ما وليه
من المنصب، ويكون معرفته بحسب ولايته من حيث العموم والخصوص،
ولا يقصر علمه عن ذلك، فإنه قد يولى أمرا خاصا كأمر الديون
أو المواريث، وقد يولى جميع الأمور في خصوص بلدة أو قرية معينة،
أو مطلقا. وحينئذ فلا يبعد استظهار صحة التجزي من هذا الكلام،
مع اعتبار المعرفة الفعلية، وعدم كفاية القوة.
ثم هل يمضي حكم المتجزي مطلقا، أو يشترط عدم التمكن من
المطلق؟ لا اشكال في الأول لو قلنا بعدم تعين الأعلم، ولو قلنا بتعينه
فوجهان:

(1) كفاية الأحكام: 261.
(2) الشرائع 4: 67.
(3) المسالك 2: 283.
(4) القواعد 2: 201.
(5) التحرير 2: 180.
32

من أن الاطلاق لا يستلزم الأعلمية، لجواز أن يكون المتجزي أقوى
ملكة.
ومن صدق الأعلم عليه عرفا، أما لأن الإحاطة مستلزمة عادة لقوة
الملكة، وأما لأن الظاهر من التفضيل في العلم: أكثرية المعلومات، كما في
كثير من أسماء التفضيل.
ثم الظاهر أن المقصود من اعتبار العلم: اخراج المقلد وبيان عدم
كفاية القضاء عن تقليد، كما هو المشهور، وفي المسالك أنه موضع وفاق (1)،
بل عن الروضة الاجماع عليه في حال الحضور والغيبة (2)، وعن الخلاف
دعوى الاجماع على أنه لا يجوز أن يقلد غيره ثم يقضي به، دليلنا على ذلك
اجماع الفرقة وأخبارهم (3)، بل هو الظاهر من عبارة المبسوط (4) وإن نسب
إليه أنه نقل في المسألة أقوالا ثلاثة ولم يجزم بشئ، لكن النسبة في غير
محلها، فلاحظ.
وهو ظاهر الغنية (5)، بل صريحه، بل المحكي عن المصنف قدس سره
في المختلف (6) - في مسألة احضار القاضي من ينبهه - أنه قال: قد أجمعنا على

(1) المسالك 2: 283.
(2) الروضة البهية 2: 418 و 419.
(3) الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 1.
(4) المبسوط 8: 99.
(5) الغنية (الجوامع الفقهية): 562.
(6) المختلف: 703.
33

أنه لا يجوز أن يلي القضاء المقلد (1)، بل هذا اجماع المسلمين قاطبة، فإن
العامة أيضا يشترطون في القاضي الاجتهاد، وإنما يجوزون قضاء غيره
بشرط أن يوليه ذو الشوكة وهو السلطان المتغلب، وجعلوا ذلك ضرورة،
فالقول بجواز القضاء لمن قصر عن الدرجة من غير تولية ذي الشوكة
- كما هو الواقع - مخالف لاجماع المسلمين (2)، انتهى.
ويكفيك في تحقق هذا الاجماع دعوى صاحب المفاتيح (3) له - على
ما حكي - مع أنه ممن لا يعتني بالاجماعات.
والأصل في المسألة - بعد الأصل وقبل الاجماعات المذكورة -: ما دل
على حصر منصب القضاء في النبي والوصي والشقي (4)، خرج المأذون عن
الأولين بالنص والاجماع الدالين على الإذن في المجتهد، وقوله عليه السلام - في
التوقيع الرفيع -: " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا:
فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله " (5) عين المرجع في مقام جواب السؤال
عنه في الرواة، فيدل على الحصر وعلل الرجوع إليهم بكونهم حجة منه على
الناس فيدل على انتفائه عمن لم يكن حجة منه عليهم.

(1) إلى هنا كلام العلامة في المختلف، ومن قوله: " بل هذا " إلى آخر الكلام هو كلام
السيد في المناهل.
(2) المناهل: 696.
(3) المفاتيح 3: 247.
(4) الوسائل 18: 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
(5) الوسائل 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
34

ونحوه في التعيين والتعليل مقبولة ابن حنظلة (1)، ومشهورة
أبي خديجة (2).
وبعد ذلك كله فلا أرى وجها لميل بعض متأخري المعاصرين - تبعا
لبعض من تقدم عليه (3) منهم - إلى تقوية الجواز، مستظهرا ذلك من
الاطلاقات الدالة على حسن القضاء بالحق ورجحانه، مثل اطلاقات الأمر
بالمعروف، وقوله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (4)،
وقوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله) (5)، وقوله عليه السلام " القضاة أربعة: واحد
منها في الجنة، وهو الذي قضى بالحق وهو يعلم) (6)، وغير ذلك مما سبق
أكثره لبيان حكم آخر، وقيد جميعه بما تقدم من الأدلة، لفساد توهم حكومة
هذه عليها، بزعم كونها مفيدة للإذن العام في قضاء كل من يقضي بالحق.
هذا كله، مضافا إلى امكان منع دلالة جميع ما ذكر من الآيات،
إذ المراد (بما أنزل الله) و (بالمعروف) و (العدل) و (الحق) في الآيات
والروايات إن كان هو الواقعي المشترك بين جميع المكلفين على اختلاف
اجتهاداتهم وتقليداتهم، فلا ريب في أن المقلد لا يمكنه الحكم بكون ما يقضي
به تقليدا حقا واقعيا، غاية ما ثبت بالأدلة أنه حق بالنسبة إليه ومن يوافقه

(1) الوسائل 18: 3، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.
(2) الوسائل 18: 4، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
(3) راجع الجواهر 40: 15.
(4) النساء: 58.
(5) المائدة: 44، 45 و 47.
(6) الوسائل 18: 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
35

في التقليد.
ومن هنا استدل في الخلاف (1) والغنية (2) على عدم الجواز بقوله تعالى:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله) (3) وقوله عليه السلام: " القضاة أربعة.. منها:
رجل قضى على جهل فهو في النار ". واستدل به كاشف اللثام (4) أيضا.
واستدل عليه في محكي السرائر بأن الحاكم إذا كان مفتقرا إلى مسألة
غيره كان جاهلا، وقد بينا قبح الحكم بغير علم (5).
وفي محكي الغنية (6): أن الأصل في اعتبار أهلية الفتوى في صحة
القضاء - بعد الاجماع - الأصول والعمومات من الكتاب والسنة المستفيضة
بل المتواترة، الناهية عن العمل بالمظنة، ومن ليس له الأهلية لا يحصل له
سوى المظنة - غالبا - المنهي عن العمل بها، بل من له الأهلية كذلك، إلا أن
حجية ظنه مقطوع بها، مجمع عليها، فهو ظن مخصوص في حكم القطع كسائر
الظنون المخصوصة كظاهر الكتاب والسنة المتواترة القطعية والأنساب
والسوق واليد وغيرها. ولا كذلك ظن من ليس له الأهلية، إذ لا دليل على

(1) الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 1، وفيه: " وأن أحكم بينهم.. ". وفيه
أيضا: " القضاة ثلاثة ".
(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 562.
(3) المائدة: 44، 45، 47.
(4) كشف اللثام 2: 322.
(5) السرائر 3: 541.
(6) لم نعثر عليه في الغنية، وإنما حكى ذلك صاحب المناهل عن والده في الرياض.
راجع المناهل: 697، والرياض (الطبعة الحجرية) 2: 386.
36

حجيته قطعيا ولا ظنيا، ولو سلم الأخير فغايته اثبات الظن بمثله، وهو غير
جائز بإطباق العقلاء، انتهى.
وحاصل كلامهم: أن المقلد جاهل بالحكم الواقعي، ولو حصل له
ظن به من التقليد، فليس حجة له، نظير حجية ظن المجتهد له، ولهذا يحرم
عليه الاخبار عن حكم الله تعالى في المسألة من دون الحكاية، واستند فيه
بعضهم إلى أنه قول بما لا يعلم، بأن يقول: يجب كذا، ويحرم كذا (1).
ودعوى أن حرمة ذلك عليه لأجل التدليس اعتراف بما ذكرنا،
إذ لو لم يكن الاخبار عن حكم الله حراما على المقلد، لم يكن في اخباره
دلالة على الاجتهاد حتى يكون تدليسا.
وبالجملة، فالمعلوم عند المقلد وجوب البناء في أعمال نفسه على فتوى
مجتهده، وبه يندفع ما ربما يورد على ما ذكروه في الاستدلال من أن فتوى
المقلد أيضا حجة على المقلد كأدلة الفقه بالنسبة إلى المجتهد.
نعم، لو فرضنا المتخاصمين قد قلدا في حكم وافقهما (2) مجتهد ذلك
المقلد، كما لو قلد الزوجان في مسألة نكاح البكر البالغة بغير إذن أبيها ذلك
المجتهد الحاكم بصحة العقد، ولم نجوز لهما الرجوع، كان لذلك المقلد الذي
ترافعا عنده أن يلزمهما على العمل بمذهب مجتهدهما، لأنه هو المعروف
بالنسبة إليهما، فيجب أمرهما به.
لكن هذا الأمر والالزام ليس مختصا بمقلد ذلك، بل يجب على كل أحد

(1) لم نعثر عليه بعينه، ولعل المراد ما نقله السيد المجاهد في المناهل: 698، عن السيد
عميد الدين.
(2) كذا في " ش "، ويظهر من " ق " كونه: ووافقهما.
37

- مجتهدا أو مقلدا، موافقا في الفتوى والتقليد للمتخاصمين أو مخالفا لهما،
أو لا مجتهدا ولا مقلدا - أن يلزمهما على الحكم الذي التزما به من باب الأمر بالمعروف، ومن المعلوم أن هذا ليس قضاء قطعا، وإلا فمجرد وجوب
عمل مقلد على فتوى مجتهد لا يوجب الزام غيره عليه مطلقا من باب
الأمر بالمعروف أو الحكم بما أنزل الله.
وهذا بخلاف المجتهد، فإنه إذا صح له الاخبار عن حكم الله الواقعي
في المسألة بقوله: يجب كذا ويحرم كذا، ويصح ذا، كان له الزام
الناس عليه مع التخاصم وبدونه، إلا أن يكونوا أو يصيروا ملتزمين بغيره
اجتهادا أو تقليدا.
وبالجملة، فالتمسك بما ذكر من الاطلاقات، مع ما عرفت من حالها في
مقابل ما عرفت من الأدلة، ضعيف جدا.
وأضعف منه دعوى أنه وإن لم يجز للمقلد الاستقلال في القضاء،
إلا أنه يجوز للمجتهد أن يأذن له فيه، وينصبه للحكومة، نظرا إلى أن
للمجتهد من الولاية ما للإمام عليه السلام إلا ما خرج، والظاهر ثبوت هذه
الولاية له عليه السلام بأن ينصب عاميا للحكومة، لعدم الدليل على عدم
جوازه له، مع ما علم له عليه السلام من الولاية العامة والرئاسة المطلقة، وما دل
بظاهره من أدلة نصب الفقهاء على انحصار المرجع في المجتهد، فالمراد به
المرجع على الاطلاق في جميع الأمور والوقائع، فلا ينافي جواز نصب الإمام
للعامي في خصوص خصومات بلدة، بل يدل على وقوعه أن الظاهر قصور
كثير من المنصوبين في زمان النبي والوصي صلوات الله عليهما وآلهما عن درجة
الاستنباط.
وفيه، أولا: أن ظاهر نصب أدلة الفقهاء تعليل الأمر بالرجوع إليهم
38

في الخصومات بكونهم حكاما على الاطلاق وحججا كذلك، فيدل على
انحصار مباشرة فصل الخصومات في من هو مرجع على الاطلاق في جميع
الوقائع والأمور، فما استظهره من تلك الأدلة من كونها في مقام بيان المرجع
المطلق، يضره ولا ينفعه.
وثانيا: أن مجرد عدم الدليل على عدم الجواز لا يكون دليلا على
الجواز، لأن المقام ليس من قبيل الحكم التكليفي حتى يتمسك فيه بأصالة
الإباحة، بل أصالة فساد الحكومة تكفي في الحكم ظاهرا بعدم جواز نصب
العامي للحكومة.
وأما ما استظهر منه وقوع ذلك من النبي والوصي صلوات الله عليهما وآلهما من
نصب القاصرين عن درجة الاستنباط، ففيه: أن المقصود في هذا المقام عدم
جواز نصب المقلد في الواقعة التي يقضي فيها، لا وجوب كون المنصوب
مجتهدا اصطلاحيا في تلك الواقعة، فلو سمع رجل عامي في غاية قصور الفهم
أحكام المواريث من الإمام عليه السلام، فولاه لقطع خصومات المواريث في بلد
جاز، وليت شعري هل كان واحد من المنصوبين في عصر النبي
والوصي صلوات الله عليهما وآلهما مقلدا لمجتهد؟
هذا كله، مع أن ما ذكر من ولاية المجتهد في جميع ما للإمام عليه السلام
الولاية فيه محل كلام، فلو سلم فلا ريب في أن إطلاق ما تقدم - من
الاجماعات في عدم مباشرة القضاء للمقلد - كاف في عدم جواز إذن
المجتهد، فالمتجه ما عليه المشهور.
ثم لو فرض أن قضى بإذن من يجوز الإذن في القضاء، فهل
ينفذ حكمه بحيث يجب على مجتهد آخر إنفاذه؟ وجهان، الأقوى العدم،
إلا أن يحكم المجتهد الآذن بإمضائه وإنفاذه، فيجب إنفاذه على غيره، إلا أن
39

يمنع عموم وجوب انفاذ جميع ما يحكم به المجتهد حتى مثل هذا الامضاء.
ثم الظاهر أنه لا فرق فيما ذكرنا من عدم جواز حكومة المقلد بين
حالتي التمكن من المجتهد وعدمه، لاطلاق الأدلة من النصوص والاجماعات،
بل في معقد بعضها التصريح بعدم الفرق.
وربما يحكى الجواز عند عدم التمكن عن حاشية مكتوبة في هامش
الدروس منسوبة إلى ابن فهد، وهذا شك في شك، فالأقوى المنع.
ولا فرق - أيضا - في إطلاقات النصوص ومعاقد الاجماعات بين كون
واقعة القضاء مما يحتاج إلى اجتهاد أو تقليد كالمسائل الخلافية، وكونها
مما لم يقع فيه خلاف، كمسألة أن الحكم للمدعي إذا أقام بينة عادلة،
بأن فرضنا أن أحد المتخاصمين ادعى على غيره فأقام عليه بينة عادلة
واضحة العدالة، فإن كون الحكم للمدعي مما لا يحتاج إلى اجتهاد أو تقليد.
نعم، لو كان ذلك مع عدم التمكن من المجتهد أمكن جوازه، نظرا إلى
عموم أدلة الحكم مع البينة وأدلة الأمر بالمعروف، السليم عن التقييد بما دل
على أن الحكومة للإمام عليه السلام أو نائبه (1)، بناء على أن المراد به الولاية
والتسلط على احضار المدعى عليه، وإلزام المحكوم عليه بالعمل على طبق
الحكم، وما دل على وجوب الرجوع إلى رواة الحديث (2) أو الناظرين في
الحلال والحرام (3)، بناء على ظهوره في صورة التمكن، ومع ذلك فالحكم
لا يخلو عن نظر.
(و) يشترط في القاضي أيضا (الذكورة) فالمرأة لا تولى

(1) انظر الوسائل 18: 6، الباب 3 من أبواب صفات القاضي وغيره من الأبواب.
(2) الوسائل 18: 98 و 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.
(3) الوسائل 18: 98 و 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي.
40

القضاء، كما في النبوي (1) المطابق للأصل المنجبر بعدم الخلاف في المسألة.
(و) يشترط أيضا (الضبط) فيما يحتاج إليه من مقدمات القضاء.
(و) يشترط (الحرية) أيضا (على رأي) مشهور بين
الأصحاب، سيما الشيخ (2) وأتباعه (3)، بل جزم في الروضة (4) بندرة القائل
بخلافه.
ويدل [عليه] (5) - بعد وجوب الاقتصار في الحكومة المختصة بالنبي
والوصي صلوات الله عليهما على من علم إذنهما له، والإذن للعبد غير متيقن، لأن
إطلاق أدلة نصب فقهاء الغيبة وارد مورد الغالب - أن الوالي أجل قدرا من
أن يكون مملوكا، بل ربما قيل بعدم جواز شهادته (6)، مع أنه لا يقدر على
شئ [و] ليس له من الأمر شئ، خلافا للشرائع (7) وشرحه (8) وشرح
الكتاب (9) بل حاشيته (10)، للاطلاقات الحاكمة على الأصل، السليمة عن

(1) الوسائل 18: 6، الباب 2 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(2) المبسوط 8: 101.
(3) انظر المهذب 2: 599، ونسبه في غاية المراد: 294 إلى الشيخ والقاضي
والكيدري ونجيب الدين، وقال: ويلوح من كلام ابن حمزة.
(4) الروضة البهية 3: 62، وفيه: بل نسب اعتبار الحرية فيها على الأشهر.
(5) من " ش ".
(6) قاله ابن الجنيد، كما في المختلف 1: 720.
(7) الشرائع 4: 68.
(8) المسالك 2: 283.
(9) مجمع الفائدة 12: 15.
(10) غاية المراد: 294.
41

معارضة شئ بعد فرض إذن المولى له.
(و) يشترط (البصر) أيضا (على رأي) محكي عن الأكثر (1)،
بل عامة من تأخر (2)، وعن الإسكافي (3) والشيخ (4) وابن سعيد (5) والمصنف (6)
والشهيدين (7)، بل عن الرياض: أن شهرة هذا القول بالغة حد الاجماع،
لعدم معروفية القائل بالخلاف من الأصحاب وإن أشعر بوجوده بعض
العبارات (8).
واستدلوا عليه بالأصل (9)، وبتوقف القضاء على تمييز الخصوم (10)
والشهود، ولكن الأصل مورود بالاطلاقات، ودعوى انصرافها إلى
غير الأعمى ممنوعة جدا كما يشهد له الانصاف، كدعوى توقف تمييز
الخصوم على البصر.
ولو فرض التوقف في مقام خاص التزمنا به، فالأقوى عدمه، وفاقا

(1) حكاه السبزواري في كفاية الأحكام: 262.
(2) نسبه إليهم السيد المجاهد في المناهل: 702.
(3) حكاه عنه الشهيد في غاية المراد: 295.
(4) المبسوط 8: 101.
(5) الجامع للشرائط: 522.
(6) قواعد الأحكام 2: 201.
(7) الدروس 2: 65، المسالك 2: 283، والروضة البهية 3: 62.
(8) الرياض 2: 387.
(9) انظر الرياض 2: 387.
(10) انظر الشرائع 4: 68.
42

للمحكي عن بعض (1)، وتبعه صاحب الكفاية (2)، وغير واحد ممن تأخر
عنه (3).
(و) يشترط فيه أيضا (العلم بالكتابة على رأي) محكي عن
الشيخ (4) وأتباعه (5) وابن سعيد (6) والمحقق (7) والمصنف (8) والشهيدين (9)، بل
عن عامة متأخري أصحابنا (10)، بل استظهر من السرائر دعوى الاجماع
عليه، حيث نسبه إلى مقتضى مذهبنا (11)، ولعلها الحجة بعد الأصل المؤيد
بافتقار القاضي إلى معرفة الوقائع والأحكام التي لا تنضبط غالبا
إلا بالكتابة.

(1) في المناهل (702) ما يلي: وقد حكاه في المسالك والروضة عن بعض بلفظ:
" قيل "، وربما كان في عبارة الشرائع والنافع والقواعد والارشاد والتحرير والدروس
وغاية المراد إشعار بوجود هذا القول وبأنه مما يفتى به.
(2) كفاية الأحكام: 262.
(3) منهم النراقي ووالده، انظر المستند 2: 520، ويظهر من الجواهر (40: 21) الميل
إليه.
(4) المبسوط 8: 120.
(5) حكاه الفاضل الآبي في كشف الرموز 2: 494.
(6) الجامع للشرائع: 522.
(7) الشرائع 4: 67، وفيه: والأقرب اشتراط ذلك.
(8) انظر القواعد 2: 201.
(9) انظر الدروس 2: 65، والروضة البهية 3: 67.
(10) حكاه النراقي في المستند (2: 519) بلفظ " قيل ".
(11) السرائر: 2: 166.
43

ويرد الأصل بالاطلاقات، والشهرة بعدم بلوغها حد الاجماع.
واستظهار الاجماع من السرائر فيه ما فيه. والتوقف المدعى ممنوع، والحاجة
تندفع بتفويض ضبط الوقائع إلى كتاب ثقات، فالأقوى عدمه وفاقا
للمحكي عن بعض (1)، واختاره بعض مشايخنا (2).
واعلم أنه لا يبعد أن يكون مراد القائلين باشتراط البصر والضبط
والكتابة، اشتراطها في تولية الشخص ولاية عامة في صقع من الأصقاع،
بحيث نعلم أن فقدان هذه الأمور موجب لاختلال قضائه في بعض الوقائع
- كما هو كذلك بمقتضى الانصاف - فهذه من شروط تولية الإمام له، وليست
شروطا في صحة كل فرد فرد من أقضيته.
فهذه الشروط نظير اشتراط جماعة كونه عالما بجميع ما وليه (3)، حيث
إنه شرط للمجموع لا لكل فرد، نظير اشتراط بعضهم البصيرة باللغات،
والتدبير، واجتماع العقل والرأي، وغير ذلك من الصفات المعتبرة في كمال
الرئاسة.
ويشهد لما ذكرنا دعواهم في الاستدلال غلبة توقف مقدمات القضاء
على الكتابة (4)، لا أن الأمر كذلك دائما.
ومنه يعلم اشتراط عدم الخرس فيه، بل عدم الصمم أيضا، نعم
ربما يقال باشتراط شروط القضاء في الفتوى أيضا. وهو ضعيف، لعدم

(1) راجع غاية المراد: 295.
(2) انظر المستند 2: 519.
(3) انظر الشرائع 4: 67 والقواعد 2: 201 ومفتاح الكرامة 10: 9.
(4) انظر المسالك 2: 283، والمناهل: 701.
44

الدليل عليه بحيث يقيد إطلاق أدلة التقليد من الكتاب والسنة ومعاقد
الاجماع.
(و) اعلم أنه لا يكفي في ولاية القضاء اجتماع ما ذكرنا من
الشروط، بل لا بد مع ذلك من (إذن الإمام عليه السلام أو من فوض إليه (1)
الإمام) الإذن، بلا خلاف ظاهر، بل في الرياض (2) دعوى اتفاق النص
والفتوى عليه.
واستدل عليه بقوله عليه السلام: " اتقوا الحكومة، فإنما هي للإمام العالم
بالقضاء، العادل في المسلمين كنبي أو وصي " (3)، وقوله عليه السلام لشريح:
" جلست مجلسا لا يجلس فيه إلا نبي أو وصي أو شقي " (4)، وما تقدم من
تعليل الرجوع إلى رواة الأحاديث بقوله عليه السلام: " فإني قد جعلته عليكم
قاضيا " (5) أو " حاكما " (6)، وقوله عجل الله فرجه: " فإنهم حجتي عليكم " (7).
(و) يترتب عليه أنه (لو نصب أهل البلد قاضيا لم تثبت ولايته،
و) لم يلزم العمل بحكمه، نعم (لو تراضى خصمان بواحد من الرعية، وحكم

(1) في الإرشاد: أو من نصبه.
(2) الرياض 2: 387.
(3) الوسائل 18: 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
(4) الوسائل 18: 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
(5) الوسائل 18: 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
(6) الوسائل 18: 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(7) الوسائل 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9، وتقدم في
الصفحة: 34.
45

بينهما، لزم الحكم) بلا خلاف، قيل (1): للعمومات الدالة على القضاء
مثل قوله: " رجل قضى بالحق وهو يعلم " (2) وأدلة الأمر بالمعروف، خرج
منها: الحكم الصادر بغير رضى المتحاكمين.
ولا يقيد هذه بما تقدم من اعتبار إذن الإمام عليه السلام، لأن ما يعتبر فيه
الإذن هو نفوذ الحكم مطلقا، ويعبر عنه بولاية الحكم وبالحكومة، فتأمل.
واستدل جماعة (3) - تبعا للمبسوط (4) - بالنبوي: " من حكم بين اثنين
تراضيا به فلم يعدل بينهما، فعليه لعنة الله " (5) وفي دلالته تأمل، وإن كان
المحكي عن الإيضاح تقريبها بوجوه (6).
وهل يعتبر رضاهما بعد الحكم؟ قولان، اختار أولهما في المبسوط (7)،
أخذا بالمتيقن. والأقوى العدم، لاطلاق ما مر، واستشكل في القواعد في
ثبوت الحبس له، واستيفاء العقوبة، قال: ولا ينفذ في حق غير المترافعين
حتى لا يضرب الدية على عاقلة الراضي بحكمه (8)، وهو حسن إن استند في
مشروعيته إلى النبوي المنجبر بالشهرة، لا إلى عمومات الحكم والقضاء

(1) انظر كشف اللثام 2: 320.
(2) الوسائل 18: 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
(3) انظر إيضاح الفوائد 4: 296، وكشف اللثام 2: 320.
(4) المبسوط 8: 165.
(5) لم نعثر عليه في المجاميع الروائية، ونقله الشيخ في المبسوط 8: 165.
(6) الإيضاح 4: 296.
(7) المبسوط 8: 165.
(8) القواعد 2: 201، وفيه: ولا ينفذ على غير المتراضين..
46

بالحق.
(و) اعلم أن قاضي التحكيم لا يتصور في زمان [الغيبة] (1)، بناء
على ما أجمعوا عليه ظاهرا - كما في الروضة (2) - من أنه (يشترط فيه
ما يشترط في القاضي المنصوب (3))، لأنه حينئذ يكون في زمان الغيبة منصوبا
بالنصب العام،
لما دل من الاجماع والنص على أن (في حال الغيبة ينفذ قضاء
الفقيه من علماء الإمامية، الجامع لشرائط الفتوى) والقضاء، إلا أنا لم نجد
مستندا لاعتبار تلك الشروط في قاضي التحكيم، وإن لم نجد أيضا دليلا
يعتد به في صحته على وجه الاطلاق، بحيث لا يحتاج في جبر سنده
أو دلالته إلى فتوى الأصحاب، المفقودة مع اختلال بعض الشرائط.
ثم إن ثبوت الإذن للفقهاء في القضاء مما لا شك فيه، ولا يبعد وصوله
إلى حد ضروري المذهب، ولعل الأصل في ذلك مقبولة ابن حنظلة: " انظروا
إلى رجل منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا،
فارضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا
فلم يقبل منه، فبنا استخف (4) وعلينا قد رد، والراد علينا راد على الله " (5).
وقوله في مشهورة أبي خديجة: " انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من

(1) من " ش ".
(2) الروضة البهية 3: 70.
(3) في الإرشاد: ما شرط في القاضي المنصوب عن الإمام.
(4) في الوسائل: فإنما استخف بحكم الله.
(5) الوسائل 18: 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول، مع
اختلاف في بعض الألفاظ.
47

قضايانا، فاجعلوه بينكم قاضيا فإني قد جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه " (1).
وقوله عجل الله تعالى فرجه، في التوقيع الرفيع - الصادر في أجوبة مسائل
إسحاق بن يعقوب، المروي في كتاب الغيبة وكمال الدين والاحتجاج -
وفيه: " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي
عليكم وأنا حجة الله " (2).
بل لولا الأخبار المذكورة لاستدل على ذلك بالعمومات المتقدمة في
القضاء، وخصصنا اعتبار الإذن بحال التمكن، نظير ما ذكره بعضهم (3) في صلاة
الجمعة، فتأمل.
ثم إن الظاهر من الروايات المتقدمة: نفوذ حكم الفقيه في جميع
خصوصيات الأحكام الشرعية، وفي موضوعاتها الخاصة، بالنسبة إلى ترتب
الأحكام عليها، لأن المتبادر عرفا من لفظ " الحاكم " هو المتسلط على
الاطلاق، فهو نظير قول السلطان لأهل بلدة: جعلت فلانا حاكما عليكم،
حيث يفهم منه تسلطه على الرعية في جميع ما له دخل في أوامر السلطان
جزئيا أو كليا.
ويؤيده: العدول عن لفظ " الحكم " إلى " الحاكم "، مع أن الأنسب
بالسياق - حيث قال: " فارضوا به حكما " - أن يقول: " فإني قد جعلته

(1) الوسائل 18: 4، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 5، مع اختلاف
يسير.
(2) كتاب الغيبة: 177، وكمال الدين 2: 484، والاحتجاج 2: 283، وعنها جميعا
الوسائل 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
(3) ذكره الشهيد في الذكرى: 231.
48

عليكم حكما ".
وكذا، المتبادر من لفظ " القاضي " عرفا: من يرجع إليه وينفذ حكمه
وإلزامه في جميع الحوادث الشرعية كما هو معلوم من حال القضاة، سيما
الموجودين في أعصار الأئمة عليهم السلام من قضاة الجور.
ومنه يظهر كون الفقيه مرجعا في الأمور العامة، مثل الموقوفات
وأموال اليتامى والمجانين والغيب، لأن هذا كله من وظيفة القاضي عرفا.
وأما التوقيع الرفيع، فصدره وإن كان مختصا بالأحكام الشرعية
الكلية، من حيث تعلق حكم الرجوع إلى رواة الحديث، فدل على كون
الرجوع إليه فيما لرواية الحديث مدخل فيه، إلا أن قوله عجل الله تعالى فرجه
في التعليل: " إنهم حجتي عليكم " يدل على وجوب العمل بجميع ما يلزمون
ويحكمون، فكما أنه لو حكم بكون شخص سارقا بعلمه أو بالبينة وجب
قطع يده والحكم بفسقه، فكذلك إذا قال: اليوم عيد أو أول الشهر، أو قال:
إن الشخص الفلاني حكمت بفسقه أو بعدالته.
وإن شئت تقريب الاستدلال بالتوقيع وبالمقبولة بوجه أوضح، فنقول:
لا نزاع في نفوذ حكم الحاكم في الموضوعات الخاصة إذا كانت محلا
للتخاصم، فحينئذ نقول: إن تعليل الإمام عليه السلام وجوب الرضى بحكومته في
الخصومات بجعله حاكما على الاطلاق وحجة كذلك، يدل على أن حكمه في
الخصومات والوقائع من فروع حكومته المطلقة وحجيته العامة، فلا يختص
بصورة التخاصم، وكذا الكلام في المشهورة إذا حملنا القاضي فيها على المعنى
اللغوي المرادف لفظ " الحاكم ". وسيجئ تمام الكلام في مدلول هذه
الروايات وفي كيفية نصب الفقهاء، وأنه هل هو من قبيل الإذن والاستنابة،
أو أنه يشبه إنشاء الحكم الشرعي - مثل الحكم بوجوب العمل بقول البينة،
49

وبإخبار ذي اليد - إلا أن الذي يظهر من كلام الأصحاب في المنصوب
الخاص والعام كونه نائبا عن الإمام عليه السلام في القضاء، وهو بظاهره مناف
لما اتفقوا عليه ظاهرا من أنه (واجب (1) على الكفاية)، فإن اللازم كون كل
قاض أصيلا في امتثال الواجب، لا نائبا عن غيره. غاية الأمر توقفه على
إذن الغير - مثل توقف تجهيز الموتى على إذن الولي - مع عدم كون المأذون
نائبا عن الولي في الصلاة وغيرها، ولهذا لا ينوي النيابة، ويصلي الولي معه.
فالمناسب للنيابة كون الخطاب بالقضاء متوجها إلى خصوص الإمام على
وجه التخيير بين مباشرته والاستنابة، كما لا يبعد المصير إليه، واستقربه
غير واحد من المعاصرين (2) وهو الظاهر من عبارة السرائر (3)، ويشعر به
تفريع وجوب الحكم على الخلافة في قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة
في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) (4) إلا أن يقال: إن المتفرع على
الخلافة وجوب كون الحكم بالحق، فتأمل.
هذا كله، مضافا إلى المنافاة بين وجوبه كفاية (و) بين ما ذكروه
أيضا من أنه (يستحب للقادر عليه): لأجل الوثوق على نفسه بالقيام
بشرائطه وآدابه، حيث إن الوجوب الكفائي لا يجتمع مع الاستحباب
العيني، وإن أمكن توجيهه - نظير ما يوجه به اجتماع الوجوب التخييري

(1) في الإرشاد: والقضاء واجب.
(2) لم نعثر عليه بعينه، انظر الرياض 2: 387 و 388، والمناهل: 693، والجواهر
40: 39 و 40.
(3) انظر السرائر 2: 153 و 155.
(4) سورة ص: 25.
50

مع الاستحباب العيني - إلا أنه لا دليل هنا على ثبوت مزية زائدة توجب
الاستحباب العيني، فإنه لم يستدلوا عليه إلا بما ورد من فضيلة قطع
الخصومات بين الناس (1) الباعثة لوجوبه كفاية، (و) لذا (يتعين عليه،
إن لم يوجد غيره) وإلا فالمزية الغير المانعة من النقيض في حد ذاته
لا يوجب تعيين الفعل عند عدم قيام الغير به.
هذا كله مع أن الحكم باستحبابه عينا لكل من يثق من نفسه
غير صحيح، لأن القضاء في كل واقعة فعل واحد لا يطلب عينا من متعدد.
اللهم إلا أن يدفع اشكال اجتماع النيابة مع الوجوب الكفائي
بأن الواجب هو القدر المشترك بين إيقاع الفعل أصالة أو نيابة فيجب على
الإمام المباشرة أو الاستنابة، وعلى غيره الاستنابة. فالنيابة إنما تعرض الفعل
قبل ملاحظة تعلق الوجوب به، والتنافي أنما هو بين الوجوب كفاية على
جماعة، وكون بعضهم نائبا عن بعض في فعل الواجب وإسقاط الأمر.
وبالجملة، فوصف النيابة سابق في العروض على صفة الوجوب.
ويمكن أن يراد بالاستحباب العيني في حق من يثق به (2) مجرد سلامة
الرجحان الحاصل من الوجوب الكفائي عن مزاحمة فعل مرجوح مقارن معه
- كتعريض النفس في الهلكة، الحاصل بالنسبة إلى من لا يثق من نفسه -

(1) لم نعثر على ما ورد في فضيلة قطع الخصومات بين الناس بخصوصه، نعم في
الروايات ما يدل على فضيلة إصلاح ذات البين مثل ما في الوسائل 13: 161،
الباب الأول من أبواب أحكام الصلح، هذا واستدل الحلي في السرائر ببعض الآيات
وبالاجماع على استحباب القضاء، راجع السرائر 2: 152.
(2) في " ش " يثق بنفسه.
51

فالقضاء في حقه مكروه، بمعنى رجحان التقاعد عنه ووكوله إلى غيره،
نظير كراهية تغسيل المخالف على القول بوجوبه كفاية.
وأما استحبابه عينا لكل من يثق به، فالمراد استحباب تصديهم له
في الموارد المتعددة.
ثم إن مقتضى الوجوب الكفائي على كل من الإمام والرعية إن
الواجب على الإمام إذا علم خلو بلد عن القاضي نصب قاض لهم. ويجب
على القابلين للقضاء استنابته، وإعلامه بالحال لو فرض عدم اطلاعه.
فإن ولى واحدا بالخصوص تعين عليه إن كان تعينه لمصلحة ترجع
إلى الدين، وإن فرض كونه اقتراحا فالظاهر أيضا تعينه عليه، لوجوب
طاعة الإمام عليه السلام، ولو في غير ما أمر الله به، فإنها ليست بأدون من
طاعة الأب والسيد.
وظاهر المحقق قدس سره المنع من ذلك، محتجا بأن الإمام لا يلزم
ما ليس بلازم (1).
وفيه: أنه لا مانع من أن يأمر على وجه عدم الرضى بأمر غير لازم
شرعا، لمصلحة شرعية غير بالغة حد الالزام، راجعة إلى نفسه أو إلى غيره.
وإن ولى واحدا من جماعة وجب عليهم كفاية إذا استووا في العلم،
(و) مع التفاوت (يتعين) على الإمام تقليد الأعلم منصب القضاء،
كما يجب على الناس (تقليد الأعلم) في الفتوى (مع) استجماعه
(الشرائط) المذكورة للقضاء على المشهور بل لا خلاف يوجد إلا عن

(1) الشرائع 4: 69.
52

بعض من عاصرناه (1)، وفي منية المريد: لا نعلم فيه مخالفا (2)، وفي المعالم نسبه
إلى بعض الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم (3)، وفي شرح الكتاب أنه نقل عليه
الاجماع (4)، وفي الرياض دعوى الاجماع عليه من السيد (5)، ولعلها الحجة في
مثل المسألة التي هي من مسائل الفروع - على ما حققناه في الأصول -
مضافا إلى الأصول السليمة عما يتوهم وروده عليها - كما سيجئ (6) -
وإلى ما هو المجبول في العقول من تقديم الأعلم من أهل الخبرة في جميع
أمورهم. ولولا ما قرع سمعهم من مخالفة بعض العلماء في المسألة لم يأخذوا
في مسألة من فنون علم الدين بقول غير الأعلم مع تيسر الأخذ بقول
الأعلم.
مضافا إلى مقبولة عمر بن حنظلة (7) المجبورة قصور دلالتها - من
حيث اختصاصها بموردها - بالاجماع المركب الظني وتنقيح المناط القطعي.
مع أن الرواية - عند التأمل - ظاهرة في أن ترجيح حكم الأعلم من
أحد الحاكمين على الآخر من جهة رجحان فتواه، بل من جهة رجحان
روايته التي هي مأخذ فتواه، ولذا كان مورد السؤال والجواب في باقي

(1) انظر المستند 2: 521.
(2) منية المريد: 167.
(3) المعالم: 246.
(4) مجمع الفائدة 12: 21.
(5) لم نقف عليه.
(6) في الصفحة: 56.
(7) الوسائل 18: 98، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
53

الرواية في تعارض روايتهما.
وبالجملة، دلالة الرواية على ترجيح فتوى الأفقه واضحة عند التأمل،
غير محتاجة إلى ضميمة، ولذا ادعى الشهيد الثاني (1) - فيما حكي عنه - أن
الرواية نص في المدعى، وفي معناها رواية داود بن الحصين (2) ورواية موسى.
ابن أكيل (3).
وقد يستدل أو يؤيد الدليل بما عن نهج البالغة في كتابه عليه السلام إلى
الأشتر رحمه الله: " اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك " (4)، وفيه
تأمل.
كل ذلك مضافا إلى أن الظاهر أن حجية فتوى الفقيه إنما هو لكونها
من الظنون الخاصة، التي لا يعتبر إفادتها للظن الشخصي، كأصالة الحقيقة
والخبر الصحيح عند جماعة (5)، ومن المعلوم أن مثل هذه إذا تعارضت يجب
الرجوع إلى الأقوى منهما في ذاته وإن لم يفد الظن الشخصي، ولا يلتفت
إلى الأخرى وإن أفادت الظن من جهة المرجحات الخارجية التي لم يثبت
الترجيح بها.
وإذا ادعوا الاجماع على وجوب الأخذ بما هو الأقوى في نفس
المتشرعة من الأمارة، فهذا هو الأصل في تعارض الأمارات المعتبرة عند

(1) انظر المسالك 2: 285.
(2) الوسائل 18: 80، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.
(3) الوسائل 18: 88، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45.
(45) نهج البالغة (قسم الكتب)، الكتاب: 53.
(5) لم نقف عليه.
54

الشارع لحكمة كشفها عن الواقع لو خليت وطباعها وإن لم يكن اعتبارها
منوطا بالكشف الفعلي.
وبه يندفع ما اشتهر بين المعاصرين (1) تبعا للشارح (2) من الايراد على
الاستدلال المشهور في المقام، المصرح به بل المقتصر عليه في كلام جماعة (3)
من قوة الظن بقول الأعلم بأن الظن قد يقوى في فتوى غير الأعلم
في خصوص المقام لبعض الأمور كموافقتها لفتوى الأعلم من المتقدمين
بل للمشهور، إذ بعد إهمال الشارع لتلك الخصوصيات المرجحة بالنسبة
إلى المقلد يكون وجودها كعدمها، فهو نظير ما إذا قلنا بحجية قول العادل
من جهة حصول الوثوق به لأجل عدالته ثم تعارض خبرا عادل وأعدل،
واحتف خبر العادل بخصوصيات غير معتبرة أوجبت الظن الشخصي
في المحتف بها.
وبالجملة، فبعد ما ثبت من أن المرجحية كالحجية مخالفة للأصل،
لا بد من الاقتصار فيها على المقدار الثابت، فكل أمارتين تعارضتا يقدم
أقواهما من حيث نفسه، لا بملاحظة المرجحات الخارجية.
نعم، هذا كله حسن على تقدير اعتبار الأمارة من حيث مطلق الظن.
هذا كله، مع أنه إذا ثبت وجوب الأخذ بقول الأعلم مع عدم اعتضاد
فتوى غير الأعلم بما يوجب الظن في جانبها، ثبت ذلك في موضع الاعتضاد

(1) انظر المستند 2: 522، والجواهر 40: 44.
(2) مجمع الفائدة 12: 21.
(3) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 285.
55

بالاجماع (1)، إذ لم يقل أحد بتعيين الرجوع إلى غير الأعلم في هذه الصورة.
فغاية الأمر - هنا - عدم المرجح لقول الأعلم، ولذا احتجنا فيها إلى اثبات
الترجيح بالاجماع المركب، فتأمل.
وعلى كل حال، فلو لم يكن في المقام إلا الأصل لكفى (2)، لفقد ما يرد
عليها (3)، عدا ما يتوهم من استصحاب التخيير فيما إذا فرضنا متساويين
فثبت التخيير ثم صار أحدهما أعلم فيستصحب التخيير، ولا يعارض
باستصحاب تعيين المجتهد إذا انحصر ثم حدث بعده من هو دونه كما لا يخفى،
مضافا إلى أنه إن أريد بذلك الأصل أصالة الاشتغال، فهو لا يتمشى على
مذهب من يحكم [بالبراءة - ظ] (4) في مثل المقام.
وإن أريد أصالة عدم حجية قول المفضول، ففيه: أنها إنما تجري
فيما شك في أصل حجيته في ذاته ومع قطع النظر عن المعارض، وأما إذا
فرض حجية شئ في حد ذاته ومع قطع النظر عن المعارض، - كما في المقام -
ثم شك في ثبوت الترجيح الشرعي لمعارضه فمقتضى توقيفية الترجيح
بالأمارات كنفس حجيتها، الحكم بعدم كون الشئ مرجحا إلا أن يدل عليه
الدليل، والكلام ليس إلا في ذلك.
ومن (5) اطلاق أدلة التقليد واستمرار السيرة خلفا عن سلف.

(1) في " ش ": بالاجماع المركب (ظ).
(2) في " ش "، وظاهر " ق ": لكفى به.
(3) كذا ظاهرا، وفي " ش ": عليه.
(4) من " ش "، وقد أضيف استظهارا.
(5) معطوف على " من استصحاب التخيير ".
56

ثم (1) إن الظاهر المطابق للأصل كون الأعلمية كنفس الاجتهاد وسائر
الشروط، شرطا واقعيا لا عمليا،
فلو لم يطلع على الأعلم واعتقد عدمه
ثم بان خطأه استأنف التقليد بعد المرافعة. نعم، لو لم يوجد الأعلم واقعا
أو لم يتمكن منه إلا بعد قضاء غيره لم يستأنف الترافع، وهل يستأنف
التقليد فيجب الرجوع عن قول غير الأعلم إليه وإن عمل بقوله في الواقعة
- نعم، تمضي نفس تلك الواقعة الشخصية لا أمثالها - أم لا؟ وجهان:
من عدم جريان عمدة الأدلة المتقدمة إلا في التقليد الابتدائي، لأن
الأصول مدفوعة باستصحاب التقليد السابق، واطلاقات الفتاوى ومعاقد
الاجماع منصرفة إلى التقليد الابتدائي، أعني غير المسبوق بتقليد آخر في
تلك الواقعة، كما أن مقبولة ابن حنظلة (2) نص فيه.
ومن عدم جريان الاستصحاب المذكور، لا بالنسبة إلى أصل التقليد
ولا بالنسبة إلى المسألة الفرعية فيها، كما بين مبسوطا في مسألة
الرجوع عن التقليد.
والتحقيق في المقام هو دوران الأمر في المقام بين وجوب البقاء،
ووجوب الرجوع من غير أصل يقتضي أحدهما.
لكن الانصاف يقتضي منع الانصراف المذكور في اطلاقات وجوب
تقليد الأعلم، مضافا إلى بناء العقلاء على ترجيح الأعلم على الاطلاق،

(1) هذا أول الصفحة اليمنى من الورقة (135)، وفي هامش " ش " ما مفاده: هذا آخر
ما في الورقة في الأصل، وقوله: " ثم إن الظاهر.. " هو أول الصفحة، ولا يبعد ضياع
ورق في البين.
(2) الوسائل 18: 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
57

وحكم العقل بترجيح إحدى أقوى الأمارتين، وإن حصلت القوة بعد الأخذ
بأحدهما.
بقي هنا شئ، وهو أن الظاهر أدلة المختار وجوب ترجيح الأعلم
مع الاختلاف في الفتوى دون ما إذا اتفقا، فيجوز الترافع إلى غير الأعلم
مع وجود الأعلم إذا كان فصل المنازعة لا يحتاج إلى الفتوى في مسألة
خلافية كما إذا كان المدعي ممتازا عن المدعى عليه وكان للمدعي بينة عادلة
بعدالة الملكة (1)، فإن الحكم هنا لا يحتاج إلى أعمال مسألة خلافية، فالأقوى
عدم وجوب الرجوع إلى الأعلم هنا، وإن كان علم المترافعين بذلك في أول
الأمر نادرا.
ومما ذكرنا ظهر عدم تعين الأعلم في مناصب الحاكم مثل الولاية على
الأيتام وأموال الغيب إذا لم يكن هنا مسألة اختلف فيها الأعلم وغيره،
وكذلك قبض مال الإمام عليه السلام إذا كان مذهبهما متحدا في المصرف، وكذلك
تولي الأوقاف، ونحو ذلك.
(و) اعلم أنه ذكر المصنف وغيره (2) أنه (لا ينفذ حكم من لا تقبل
شهادته) على المحكوم (كالولد على والده، والعبد على مولاه، والخصم
على عدوه)، لأن مناط عدم قبول الشهادة على هؤلاء موجود في الحكم
عليهم على وجه آكد. وفي الاعتماد على مثل هذا الوجه اشكال، خصوصا
بعد عموم أدلة نصب الفقهاء وكونهم حجة على الخلق شبه حجية
الإمام عليه السلام.

(1) كذا في " ش " والكلمة في " ق " غير واضحة.
(2) كالمحقق في الشرائع 4: 71.
58

أو أجازه، لما تقدم سابقا.
(ولا) ينفذ (حكم من لا يستجمع الشرائط) وإن أذن له المستجمع
(وإن اقتضت المصلحة توليته) مع فقده للشرائط، فإن كانت المصلحة
في علم الإمام عليه السلام راجحة على المصلحة الداعية للشارع على اعتبار
ذلك الشرط المفقود جاز، بل يخرج حينئذ الشرط عن الشرطية في حق
هذا المنصوب كما في تقرير أمير المؤمنين عليه السلام لقضاوة شريح (1)، بناء على
أنه لم يثبت أنه عليه السلام نهاه عن إمضاء حكم من دون أن يعرضه على الإمام
كما في بعض الروايات (2).
وإن لم تكن المصلحة بتلك المرتبة (لم تجز)، لأن فيه إهمال أقوى
المصلحتين لأضعفهما، بل لا يعد الضعيف حينئذ مصلحة، ولعل من نظيره
عدم تقرير أمير المؤمنين عليه السلام لخلافة معاوية، وإن ترتب على رده
ما ترتب في أيام حياته صلوات الله عليه إلى انقراض ملك بني أمية (3).

(1) الوسائل 18: 194، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 6.
(2) الوسائل 18: 6، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(3) هذا آخر ما في الصفحة اليمنى من الورقة (136)، وفي هامشها هامش طويل يبدو
أنه كان تابعا لهامش الصفحة المقابلة، ولكن حيث وقع التقديم والتأخير في الأوراق
واحتمال فقدان بعض الصفحات لم يعرف ما كان في مقابلها. كما يحتمل ارتباطها
بما تقدم من قوله: " اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، وفيه تأمل ".
[راجع الصفحة: 54] والهامش ما يلي:
بل قد يتأمل في دلالة الأخبار المذكورة بأن العمل بالمرجحات المذكورة فيهما
الراجحة [فيها الراجعة - ظ] إلى الترجيح فيما بين الروايات المتعارضة وإجرائها في
الفتاوى المتعارضة خلاف الاجماع، فليحمل على الفتاوى الصادرة عن الرواة في زمن
الأئمة المنزلة منزلة الروايات في حق القادرين على الترجيح بين الروايات المتعارضة،
فهي في الحقيقة أدلة للمجتهدين يعمل عند تعارضها بما يعمل عند تعارض الروايات،
إلا أن يدفع ذلك بأن ظاهرها حجية تلك الفتاوى في حق كل جاهل بالواقعة،
إلا أن العارف بعلاج تعارض الروايات يجعلها كالروايات، والعاجز عن ذلك ليس له
إلا الترجيح بالأعلمية لعدم [كلمات لا تقرأ] المرجحات كالشهرة وموافقة الكتاب
ومخالفة [العامة]، وعلى تقدير معرفة ذلك فهو عاجز عن معرفة سلامتها عن
المرجحات المقابلة لها، فليس في حقه إلا الاطمئنان في الترجيح بمجرد أعلمية المفتي،
فتأمل.
إلا أن يقال: إن الأعلمية إنما تكون موجبا للاطمئنان إذا لم [يسبق - ظ] المسألة
بفتوى المشهور من العلماء أو أعلم الأموات، وإلا فمجرد أعلم الأحياء
لا يوجب قوة الظن في صورة مخالفتها لفتوى من هو أعلم منه من الأموات أو لفتوى
المشهور، وعدم حجية قول الميت أو قول المشهور له لا يوجب عدم الترجيح بهما
أو عدم الوهن، مع أنه قد تقرر في باب التراجيح أن المقبولة ونحوها مسوقة لبيان
إرشادية الترجيح، وأن العبرة بالأوثقية فليكن في الفتوى كذلك، ومن هنا ذهب
بعض المعاصرين إلى الترجيح بالأوثقية، ولكن ظاهر مراده أوثق الحيين لا الأوثق
بحسب الواقع، ولو لاعتضاده بفتوى المشهور أو أوثق الأموات.
59

وعلى (1) أي تقدير، فالمصلحة المقتضية لنصب الفاقد إن كانت مصلحة
اختيارية كان حكم المنصوب نافذا، وإن كانت راجعة إلى الضرورة والتقية
فهو كغير المنصوب.
ثم إن من لا ينفذ حكمه لا يجوز له التعرض، لأنه غير نائب عن

(1) هذا هو أول الصفحة اليسرى من الورقة (139).
60

النبي والوصي عليهما وآلهما السلام، فيكون شقيا،
ويحرم التحاكم إليه مع التمكن من
غيره، لكونها (1) إعانة على الإثم، بل هي (2) كبيرة لو كان الحاكم من
المخالفين، بل عن ظاهر المسالك (3) والروضة (4) دعوى الاتفاق عليه، ولعله
لما دل على أن المأخوذ بحكمهم سحت كما في مقبولة ابن حنظلة (5)، ولظاهر
المنزلة فيها، وفي خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام: " أيما رجل كان
بينه وبين أخ له مماراة في حق، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه
وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة الذين قال الله تعالى: (ألم
تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون
أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) " (6)، وبمضمونه خبر
آخر لأبي بصير (7).
وللحكم بكونه شريكا مع الحاكم في إثم حكمه في صحيحة ابن سنان
" أيما مؤمن قدم مؤمنا في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر فقضى عليه
بغير حكم الله فقد شركه في الإثم " (8).

(1) كذا في " ق "، والظاهر أنه لا يوجد أنه لا وجه لتأنيث الضمير.
(2) كذا في " ق "، والظاهر أنه لا يوجد أنه لا وجه لتأنيث الضمير.
(3) المسالك 2: 284.
(4) الروضة البهية 3: 67.
(5) الوسائل 18: 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(6) الوسائل 18: 3، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 2: وفيه:
" قال في رجل "، والآية من سورة النساء: 60.
(7) الوسائل 18: 3، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.
(8) الوسائل 18: 2، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
61

وتوهم اختصاص الإثم إذا قضى بغير حكم الله مدفوع بأن الفاقد
لشرائط القضاء قاض دائما بغير حكم الله، لأن ثبوت أسباب الحكم
عند الفاقد لا يوجب عند الشارع سلطنة المدعي على المدعى عليه فالحكم
بثبوتها عليه ووجوب خروجه من حقه حكم بغير ما أنزل الله.
هذا، مع أن الاقدام على الترافع إلى من لا يؤمن منه الحكم
بغير ما أنزل الله اقدام على الكبيرة، وتجر عليها فلا يبعد أن يكون كبيرة.
ومما ذكرنا يظهر أنه لا يبعد أن يستظهر من الصحيحة كون الترافع
إلى مطلق الفاقد كبيرة، كما هو ظاهر معقد اتفاق المسالك من كون المضي
إلى قاضي الجور كبيرة عندنا.
وعلى أي حال، فهل يستبيح المحكوم له ما يأخذه بحكم الجائر
أو لا؟ ظاهر قوله عليه السلام في مقبولة ابن حنظلة: " إن ما يأخذه بحكمه
فإنما يأخذه سحتا وإن كان حقه ثابتا، لأنه إنما أخذه بحكم الطاغوت " (1).
والتحقيق أن يقال: إن كان المأخوذ عينا شخصية يعتقد المدعي
استحقاقها فلا يحرم، لعدم خروجها عن ملكه بمجرد حكم القاضي
بالاستحقاق، والرواية غير ظاهرة في ذلك. ولا ينافيه كون السؤال عن
المنازعة في دين أو ميراث، كما لا يخفى. مع احتمال أن يكون المراد أن أخذه
كأخذ السحت، لا أن المأخوذ كهو.
وإن لم يعلم بالاستحقاق لم يجز أخذها إلا إذا كان المدعي والحاكم
كلاهما من أهل الخلاف فيرى الحاكم استحقاق المدعي لملك العين في
مذهبهم، فيجوز الأخذ هنا، بناء على ما ورد من قوله عليه السلام: " ألزموهم

(1) الوسائل 18: 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي. الحديث الأول.
62

بما ألزموا به أنفسهم " (1) ونحو ذلك، لكن المسألة تحتاج إلى نظر تام.
وإن كان دينا أو عينا غير شخصية كالإرث، فالظاهر عدم جواز
الأخذ وإن علم بالاستحقاق، إذ المقبوض لا يتعين ملكا له، لأن الدافع
منكر لاستحقاقه فلا يعقل منه تعيين حقه.
ولو فرضنا اعترافه بثبوت الحق ظاهرا، أو علمنا باعترافه باطنا
لم ينفع ذلك أيضا، لأنه زمان الدفع غير قاصد للابقاء.
نعم، لو فرضنا أن المدعى عليه معتقد لحقية الحاكم، وأن حكمه نافذ،
ولم يعلم بعدم استحقاق المدعي منه شيئا، وعلم المدعي بالاستحقاق أمكن
قصد الايفاء والتعيين حينئذ، بل لو كان المدعى عليه مخالفا كالحاكم جاز
الأخذ وإن لم يعلم المدعي بالاستحقاق، بل وإن علم بعدمه، فيجوز له
مطالبتهم في الإرث بمقتضى مذهبهم في العول والعصبة والحبوة، بناء على
ما ذكرنا.
هذا كله مع الاختيار، وأما مع الاضطرار - وفسروه بعدم التمكن من
أخذ الحق إلا بالترافع إلى الجائر - فالمشهور الجواز، بل عن الرياض (2)
استظهار الوفاق عن بعض، لأدلة نفي الحرج (3) والضرر (4).
وربما يعارضان بإطلاقات أدلة المنع (5) وحرمة المعاونة على الإثم

(1) الوسائل 17: 598، الباب 3 من أبواب ميراث المجوس، الحديث 2.
(2) رياض المسائل 2: 388.
(3) الحج: 78.
(4) الوسائل 17: 340، الباب 12 من أبواب احياء الموات.
(5) الوسائل 18: 2، الباب الأول من أبواب صفات القاضي.
63

والعدوان (1)، وربما يرجح أدلة الحرج بكونها أقوى، مضافا إلى أصالة
البراءة.
وفي المعارضة والجواب نظر، أما في المعارضة، فأولا: بانصراف أدلة المنع
إلى حال الاختيار، كما صرح به في رواية أبي بصير (2)، وأما حرمة المعاونة
فهي فرع تحققها الممنوع فيما نحن فيه.
وثانيا: بأن أدلة نفي الحرج والضرر حاكمة على تلك العمومات،
وغيرها من العمومات المثبتة بعمومها للتكليف في موارد الحرج.
وأما في الجواب بكون أدلة الحرج أقوى، فبمنع ذلك، كيف؟! وحرمة
المعاونة ثابتة بالعقل والنقل، فلا وجه للتقديم غير ما ذكرنا من الحكومة.
وأما التأييد بأصالة البراءة، ففيه: إن الاستصحاب قد يقتضي الحرمة
كما فيما إذا كان مسبوقا بعدم الانحصار، فتأمل.
فالعمدة ما ذكرنا من دعوى الانصراف في إطلاقات المنع وحكومة
أدلة الحرج، لكن تحقق الحرج في جميع الموارد لا يخلو عن تأمل.
(ولو تجدد مانع) أصل (الانعقاد) بفقد أحد الشروط المتقدمة
(انعزل) (3) بنفسه من دون حاجة إلى عزل، لأن النصب إنما كان باعتبار
استجماعه للشروط الظاهرة في الشرطية ابتداء واستدامة، فكأن القضية
مشروطة عامة.
وهذا مما لا إشكال فيه، إنما الاشكال في عود الولاية بعد زوال المانع،

(1) المائدة: 2.
(2) الوسائل 18: 3، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
(3) في الإرشاد زيادة: كالجنون والفسق.
64

من أن الأصل عدم حدوثها بعد ارتفاعها، ومن أن المرتفع أثر الولاية
والمنصب لا نفسهما، مع إمكان دعوى كون قضية النصب هو دوران
النصب (1) مع الشرائط، وأن احتمال إرادة توليته ما دام، خلاف الظاهر،
بل الظاهر توليته ما دام هذه الأوصاف موجودة فيه، فكأنه قال: نصبتك
في جميع أزمان استجماعك للشروط.
ويضعف الدعويان بخلوهما عن البينة، والشك كاف في استصحاب
العدم، مع أن التزام بقاء أصل الولاية للمجنون ومن صار عاميا بعد
الاجتهاد خلاف الظاهر بل المقطوع، كيف؟! ولو جاز بقاء الولاية مع
الجنون وعدم الاجتهاد لجاز تولية المجنون والعامي والصبي، ثم لا يجوز
تصرفهما إلا بعد الكمال والاجتهاد.
نعم، لا يبعد استظهار الدوران المذكور في بعض الفروض، كمن علم
الإمام عليه السلام أن له جنونا إدواريا يعتريه أحيانا في المدة التي تشهد الحال
ببقاء الولاية إلى تلك المدة، كما لو جن في كل يوم مرة، أو في كل أسبوع،
أو شهر، إذا علم عدم قصور مدة التولية عن الأسبوع والشهر. ولعله مبنى
ما في المسالك (2) من الفرق بين ما يزول سريعا كالاغماء، وبين غيره
كالجنون، بأن يدعى ظهور دليل النصب في كون المانع القصير غير رافع
لأصل الولاية، وإلا فمجرد سرعة الزوال وبطئه غير مؤثر.
وبالجملة، فالمتبع ما يظهر من دليل النصب، ولذا لا ينبغي الاشكال
في حدوث ولاية المنصوب العام بعد زوال المانع، لأن دليل نصبه بمنزلة

(1) كذا في " ق " ظاهرا، وفي " ش ": المنصب.
(2) المسالك 2: 286.
65

حكم كلي لموضوع كلي متصف بصفات خاصة يدور الحكم مع ذلك
الموضوع، وليس نفسه بإنشاء خاص لموضوع خاص.
(و) اعلم أنه لا إشكال في أنه ينبغي (للإمام) عليه السلام (ونائبه
عزل جامع الشرائط لمصلحة) دينية، وهل يجوز (لا) لها، بل (مجانا)؟
الأقوى: نعم، لأن التولية حق له فهو مسلط عليه.
ودعوى كونها حقا لله تعالى جعل الإمام عليه السلام ناظرا فيه، فليس له
عزل من ثبت ولايته شرعا إلا بإذن من الله ومصلحة تعود إلى دين الله،
ممنوعة، ولو سلمت فلا تقتضي إلا وجوب نصب واحد من الرعية
على سبيل التخيير ابتداء واستدامة، غاية الأمر عدم جواز العزل مع اقتضاء
المصلحة للابقاء كما لم يجز في الابتداء نصب واحد مع كون غيره أرجح.
وبالجملة، فحال استدامة هذا المنصب كابتدائه.
واعلم أن المقصود من البحث في أمثال هذه المسائل تشحيذ الذهن
باستخراج تكليف الإمام عليه السلام ونائبه من القواعد التي بأيدينا، وإلا
فلا يترتب عليها ثمرة عملية له.
(وينعزل) المنصوب بالخصوص (بموت الإمام و) بموت
(المنوب) الناصب له إذا كان نائبا عنه لا عن الإمام. أما انعزاله بموت
الإمام، فلانعزال ناصبه بذلك، لأن التولية يتضمن الإذن والاستنابة المرتفعين
بفقد المستنيب، وهذا الانعزال ليس لأجل عدم سلطنة الإمام عليه السلام بالنسبة
إلى الأزمنة المتأخرة عن زمانه - حتى يقال: بأن إمام كل عصر له النصب
في الأزمنة المتأخرة، فإن الزمان بأجمعه لجميعهم، ويفصل حينئذ بين ما إذا
فهم من دليل النصب توقيته بمدة حياته، وبين ما إذا فهم منه أزيد من ذلك
فينعزل في الأول دون الثاني، ويجعل نصب الصادق عليه السلام للفقهاء من قبيل
66

الثاني، ولذا لا ينعزلون - بل لعدم قابلية الإذن والنيابة للبقاء بعد موت
الآذن والمستنيب، إلا أن يدعى أن موته عليه السلام كحياته وليس كموت أحدنا
في العجز عن التصرف في الأمور حتى لا يعقل تصرف نوابه بعنوان النيابة،
لكنا بمعزل عن هذه الدعوى، فإنا لا نقول فيهم إلا بما صح لنا عنهم.
وكيف كان، فلا إشكال في انعزال القضاة بموت الإمام عليه السلام، سواء
قلنا: إن ذلك لاقتضاء الاستنابة والإذن الارتفاع بعد الموت، على ما هي
قاعدة الوكالة، وإما لانفهام كون النصب مقيدا بمدة الحياة.
وربما يحكى عن الشيخ في المبسوط عدم الانعزال، لأن ولايتهم ثابتة
شرعا فلا يزول إلا بدليل، والذي وجدناه في المبسوط (1) في باب كتاب
قاض إلى قاض - موافقا للخلاف (2) -: " إن الذي يقتضيه مذهبنا انعزال
القضاة بموت الإمام ". نعم حكي عدم الانعزال عن بعض العامة (3) مستدلا
بما ذكر.
هذا كله في منصوب الإمام، وأما منصوب النائب، فإما أن يكون
منصوبا للقضاء، أو يكون منصوبا لأمور عامة مثل تولي الأوقاف والأيتام،
أو يكون منصوبا لأمر معين كبيع مال يتيم وإحراز غلة وقف ونحو ذلك.
أما الثالث، فلا ريب في انعزاله، بل ادعى عليه الوفاق في المسالك (4)،
لأنه من باب الوكالة، وكذا الثاني على ما يقتضيه قاعدة الاستنابة، إلا أن

(1) المبسوط 8: 127.
(2) لم نقف عليه ولا على من حكى عنه.
(3) انظر المغني، لابن قدامة 9: 103.
(4) المسالك 2: 287.
67

المحكي عن الإيضاح (1) دعوى الاتفاق عليه، للحوق الضرر واختلال نظام
تلك الأمور بذلك. فلو ثبت الاجماع، وإلا ففي نهوض ما ذكر من لحوق
الضرر لرفع اليد عن القاعدة، نظر.
وأما المنصوب للقضاء فالأشبه أنه ينعزل، لما عرفت في نواب الإمام.
وبما [يقال] (2) بعدم انعزال (نائب المنصوب بموته) (3) لأنه في الحقيقة
منصوب من قبل الإمام، وفيه نظر.
ومثل موت المنوب: عزل الإمام له، فينعزل نائبه إن كان نائبا عنه
وإن كان بإذن الإمام صريحا في الاستنابة، بل استنابة هذا الشخص المعين.
إلا أن يدعى أن المفهوم - من قوله " استنب فلانا " - كونه مأذونا،
بل منصوبا من قبل الآمر، وحينئذ فلا ينعزل بانعزال المستنيب المأمور،
بل ولا بعزله وإن كان هو الناصب له، فتأمل.
وهل للمنصوب على وجه الاطلاق عزل قضاة الإمام، بناء على أن
عزله كعزل الإمام، كما أن نصبه كنصبه؟ الأقوى ذلك، فيجوز لكل من
المنصوبين على وجه الاطلاق عزل صاحبه.
وهل يجوز لكل منهما عزل وكيل الآخر من دون عزله؟ الأقوى ذلك،
لرجوعه إلى عزل الناصب في خصوص توكيل هذا الشخص.
هذا كله بحسب ما يقتضيه النصب المطلق، إلا أن الظاهر من إطلاق

(1) إيضاح الفوائد 4: 305.
(2) من " ش ".
(3) ما بين القوسين من " ش "، ومشطوب عليه في " ق "، والظاهر أنه شطب عليه
سهوا.
68

النصب توليته فيما لا مدخل فيه للمنصوب الآخر فليس له التعرض له
ولا لمنصوبه.
هذا كله في المنصوب الخاص، أما المنصوب العام أعني الفقيه الجامع
للشرائط، فربما يقال: إن ما ذكر في حكم المنصوب الخاص يقتضي انعزاله
أيضا لو [لا] (1) الاجماع. قال في المسالك - بعد الحكم بانعزال القضاة بموت
الإمام -: إنه قد يقدح هذا في ولاية الفقيه حال الغيبة، فإن الإمام الذي
جعله قاضيا وحاكما قد مات، فيجري في حكمه ذلك الخلاف المذكور،
إلا أن الأصحاب مطبقون على استمرار تلك التولية، فإنها ليست كالتولية
الخاصة، بل حكم بمضمون ذلك، فإعلامه بكونه من أهل الولاية على ذلك
كإعلامه بكون العدل مقبول الشهادة وذي اليد مقبول الخبر وغير ذلك،
وفيه بحث (2)، انتهى.
أقول: إذا كان الإمام الذي مات نصب فقهاء (3) زمان الغيبة حال
حياته وعدم وجود المنصوب ولا المنصوب عليهم، فانتصابه بعد موت
الإمام، فكيف يعقل انعزاله بالموت حتى يقدح الحكم بانعزال القضاة بعد
الإمام في ولاية الفقهاء المفروض حدوثها بعد الإمام؟!
هذا، إذا قلنا بأن قوله عليه السلام - في مقبولة ابن حنظلة (4)، ومرفوعة

(1) من " ش ".
(2) المسالك 2: 286.
(3) كان في " ق " و " ش ": " الفقيه " فشطب عليه وكتب فوقه " فقهاء "، ولم يغير
الضمائر التالية، فلاحظ.
(4) الوسائل 18: 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
69

أبي خديجة " فإني قد جعلته عليكم حاكما وقاضيا " (1) إنشاء لنصب جميع
الفقهاء من الموجودين والمعدومين على جميع الرعية كذلك، على ما هو ظاهر
من فهم الأصحاب، حيث استدلوا بنفس تلك الأخبار على نصب الفقهاء.
وأما إذا قلنا: إن ظاهر اللفظ يختص بالفقيه الموجود حال الخطاب
للرعية الموجودة في تلك الحال، وأما حكم غير الحاضرين فإنما فهم من
دليل دل على منصوبية الفقهاء في كل زمان عن إمام ذلك الزمان،
فلا إشكال أيضا سواء قلنا بكون هذا الدليل هو الاجماع، أم قلنا بأنه
إخبار الصادق عليه السلام - في المقبولة - بأنه " إذا حكم بحكمنا فلم يقبل
فبحكمنا قد استخف، وعلينا قد رد " (2)، حيث دل على أن مناط تحريم الرد
هو [كون] (3) الحكم حكمهم فيكون الرد ردا عليهم، أم قلنا بأن الرخصة
وصلت من كل إمام إلى فقهاء عصره، وقد وصل‍ [ت] إلينا من إمام
زماننا عجل الله فرجه بما رواه الصدوق والشيخ والطبرسي في كمال الدين وكتاب
الغيبة والاحتجاج في قوله عليه السلام في أجوبة مسائل إسحاق بن يعقوب (4)
فيما خرج على يد العمري: " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة
حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم " (5).

(1) راجع الصفحة: 45.
(2) الوسائل 18: 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(3) من " ش ".
(4) في " ق ": يعقوب بن إسحاق.
(5) كمال الدين 2: 484، وكتاب الغيبة: 177، والاحتجاج 2: 283، وعنهم
الوسائل 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
70

(ويجوز) للإمام وللمأذون عنه في النصب (نصب قاضيين في بلد)
واحد، بحيث (يشتركان في ولاية واحدة) فيجوز لكل منهما الحكم وإن
خالف الآخر، فيكونان كوكيلين مستقلين في أن الحكم لسابقهما،
(أو يختص) ولاية (كل) واحد (بطرف)، كأحد طرفي بغداد والحلة،
أو بطائفة كالعرب والعجم، أو بزمان، أو بدعوى كدعوى المال دون غيرها.
والظاهر عدم الخلاف في شئ مما ذكر مع موافقته للأصل.
أما (لو شرط) في صورة التشريك (اتفاقهما في كل حكم)
فإن كان مرجعه إلى وجوب اتفاقهما في حكم جميع الدعاوي المرفوعة إليهما
(لم يجز) لأنه ليس مقدورا لهما.
وإن كان مرجعه إلى التولية في قطع الدعاوي التي لا يختلفان
في حكمها دون ما اختلفا فيه فيجب الرجوع فيه إلى الناصب، أو إلى ثالث
نصبه لقطع الدعاوي المختلف فيها بين الأولين، فلا ينبغي الاشكال في الجواز،
ومرجع الوجهين إلى كون الاتفاق في الحكم شرطا للواجب أو للوجوب.
ولو كان عبارة النصب ظاهرا في الأول وجب صرفه إلى الثاني
لوجوب تصحيح الفعل.
ولو دار الأمر بين الاستقلال والاشتراك، اتبع ظاهر عبارة النصب،
وإن أجمل عمل على المتيقن.
وحيث ثبت الاستقلال (فإن تنازع الخصمان في الترافع، قدم اختيار
المدعي) لأن له الاستعداء على خصمه عند كل واحد منهما، فيجب عليه
إعداؤه باحضار خصمه، أو الحكم عليه غائبا إن كان بعيدا.
ولو أنكر المدعى عليه ولاية مختار المدعي كاجتهاده أو عدالته
أو غيرهما، لم يكبر عليه.
71

(وإذا) نصب الإمام أو نائبه أحدا و (أذن له في الاستخلاف)
عن الإمام أو نفسه لنفسه أو للإمام (جاز)، فيكون المستخلف في الأولين
خليفة المنصوب وفي الثانيين خليفته، لكن في جواز عزله له في الصورة
الأولى منهما إشكال، وفي الثانيين خليفة الإمام يجوز له عزله فيهما،
(وإلا) يأذن في الاستخلاف (فلا) يجوز: (إلا مع وجود الأمارة) الدالة
عرفا على الجواز (كاتساع الولاية) فيجوز.
والظاهر أنه حينئذ خليفة عن المنصوب يجوز له عزله، واحتمل في
المسالك (1) جواز الاستخلاف مع الاطلاق، لأنه ناظر في المصالح وأن الإمام
قد وثق بنظره، إلا أنه أحسن في تضعيفه بمنع ثبوت النظر له إلا في مباشرة
القضاء، وهو واضح.
ثم إن ما ذكر من الاستخلاف إنما يتصور في المنصوب الخاص،
وأما المنصوب العام، وهو الفقيه الجامع للشرائط، فلا يتصور في حقه
الاستخلاف بعدما تقدم من اعتبار الاجتهاد في الحاكم، لأن المجتهدين جميعا
في مرتبة واحدة من جهة المنصوبية عموما، فواجد الشرائط لا يحتاج إلى
استخلافه، وفاقده لا يجوز استخلافه.
نعم لو لم يثبت وجوب كون المباشر للحكومة مجتهدا، وكان القدر
الثابت وجوب كون الحكم حقا وانتهاء الحاكم في حكومته إلى إذن
الإمام عليه السلام، جاز للمجتهد المتولي عن الإمام بالولاية العامة نصب مقلد
لمباشرة القضاء. لكنك قد عرفت ظهور النص والاجماع بخلافه واعتبار
الاجتهاد في مباشرة القضاء.

(1) المسالك 2: 285.
72

نعم، يمكن القول بجواز توكيل المجتهد مقلده أو غيره في إنشاء الحكم
في واقعة خاصة، نظير التوكيل في سائر الايقاعات، وإن كان ينافيه ظاهر
اتفاقهم على عدم دخول النيابة في القضاء، لكن الظاهر إرادتهم نفس فعل
القضاء بحيث يستند إليه أصالة لا مجرد كونه آلة لاجراء الصيغة، لكن ينافيه
تمثيلهم لما يدخل فيه النيابة بالطلاق، فتأمل.
(و) اعلم أنه (تثبت الولاية) لمدعيها (بشاهدين) مقبولي
الشهادة، وإن لم يحكم بها حاكم، لعموم أدلة قبول الشهادة في جميع الأمور
إلا ما خرج.
(و) تثبت أيضا (بالاستفاضة) وهو شياع الأخبار عن طائفة
يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب، ولا إشكال في ذلك، لأن حصول العلم
منتهى دلالة كل دليل.
ولو أفادت الظن ففي حجيتها وعدمها وجوه بل أقوال، ثالثها: الحجية
إن بلغ الظن إلى حد يقرب العلم بحيث تثق به النفس وتطمئن.
وذكر الشارح: أن الشياع إذا أفاد الظن الغالب المتاخم للعلم - بل
هو العلم العادي العرفي الذي لا يضره الاحتمال البعيد الذي هو مجرد
التجويز العقلي - فلا ينبغي النزاع في ثبوت الولاية به ولا في ثبوت غيرها
من الأحكام إلا ما نص الشارع، انتهى (1).
وفي ظاهره تدافع، حيث جمع بين جعل الظن المتاخم للعلم مقابلا
للاستفاضة العلمية، وبين كونه علما عاديا، لكون احتمال الخلاف بمجرد
تجويز العقل، ثم حكمه بحجيته في جميع الأحكام إلا ما خرج بالنص.

(1) مجمع الفائدة 12: 32.
73

وكيف كان، فلم تجد لحجية الاستفاضة الغير العلمية دليلا يطمأن به،
ولذا اختار في المبسوط (1) عدمها، وإن قال بها في الوقف والعتق والنكاح (2).
نعم لو ثبت أن الولاية مما ينسد فيها غالبا باب العلم القطعي والظن
الخاص الحاصل من شهادة العدلين، أمكن اعتبار الاستفاضة فيها، بناء على
أن كل مل كان كذلك وجب بحكم العقل أن يعتبر فيها الأمارة المفيدة لوثوق
النفس بمضمونها، سيما إذا تحقق في الخارج غلبة مطابقتها للواقع وقلة تخلفها،
كما هو الشأن في الاستفاضة.
بل هذا شئ ثابت بحكم الشرع المستفاد من تتبع موارد كثيرة علل
فيها اعتبار بعض الأمارات بأنه لولاه للزم إبطال الحقوق، أو لم يقم
للمسلمين سوق (3)، مثل ما دل على حجية اليد وكونها أمارة للملك (4)، ومثل
ما دل على اعتبار شهادة الذمي في الوصية (5)، ومثل ما دل على جواز
شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه (6)، وما دل على حكمة جعل
اليمين في دعوى الدماء على المدعي (7) ونحو ذلك.
ومن هنا يقوى ثبوت النسب والوقف والنكاح بالاستفاضة، كما تقدم

(1) المبسوط 8: 86.
(2) المبسوط 8: 86.
(3) الوسائل 18: 215، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم والدعوى، الحديث 2.
(4) الوسائل 18: 214، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم والدعوى.
(5) الوسائل 18: 287، الباب 40 من أبواب الشهادات.
(6) الوسائل 18: 258، الباب 24 من أبواب الشهادات.
(7) الوسائل 18: 170، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم والدعوى، الحديث 3 و 6.
74

من الشيخ (1)، لأنها مما لا سبيل غالبا إلى إثباتها بالبينة، وهذا غير ثابت في
مثل ولاية القاضي، لأن العلم فيها سهل الحصول من جهة الأمارات، وقيام
العدلين عليها كذلك، بل هما أسهل من الاستفاضة، بل لو حصلت
الاستفاضة لم تنفك عن العلم من جهة الأمارات والقرينة، فإن نفس دعوى
الولاية من طرف الإمام يحصل منها ظن قوي بالصدق، بل ربما يحصل منها
القطع، كما نشاهد في حكومة الحكام العرفية من قبل سلاطينهم.
وربما يستدل لاعتبارها فيما نحن فيه - تبعا لكاشف اللثام (2) -
بقوله عليه السلام في مرسلة يونس: " خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها
بظاهر الحكم: الولايات والمناكح والذبائح والشهادات والأنساب " (3)، بناء
على أن المراد ب‍ " ظاهر الحكم " هو ما ظهر بين الناس من الحكم، يعني:
نسبة المحمول إلى الموضوع في الأمور المذكورة، إذ هو معنى الشياع
والاستفاضة المذكورين، كما أن المراد من الاكتفاء به [في] (4) الشهادات أنه
يجوز الشهادة بما يحصل منه، كما يقول: دار زيد وقف، وعمرو ابن خالد،
ونحو ذلك مما هو متعارف بين الناس من الحكم في ذلك، إذا كان شائعا.
وفيه - مع عدم جريان ما ذكره من معنى " ظاهر الحكم " في الذبائح،
بل ولا في الشهادات إلا بارتكاب التفكيك، كما لا يخفى - أن تفسير ظاهر

(1) تقدم في الصفحة السابقة.
(2) كشف اللثام 2: 321 - 322.
(3) الوسائل 18: 212، الباب 22 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث
الأول.
(4) من " ش ".
75

الحكم بذلك يتوقف على قرينة مفقودة.
هذا، مع أن ما ذكره في الشهادات ينافيه قوله عليه السلام بعد ذلك
مفرعا (1) عليه: " فمن كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل
عن باطنه " (2).
والذي ينبغي أن يستظهر من الرواية، بل يجزم به أن يراد ب‍ " ظاهر
الحكم " الحكم الذي يقتضيه الظاهر، كما يؤيده إبدال ذلك في بعض كتب
الروايات ب‍ " ظاهر الحال " (3).
فالمراد وجوب العمل بمقتضى الظاهر، وجعله بمنزلة الواقع، ويكون
المراد من الولايات: التصرفات الظاهرة في سلطنة المتصرف، فيجب الحكم
بصحة سلطنات الناس وذبائحهم وأنسابهم ومناكحهم وشهاداتهم، بمعنى
تصديقها وعدم الفحص عن باطن الشاهد، فلا دلالة في الرواية على حكاية
الاستفاضة، ولا تعرض فيها لحكم ولاية القاضي.
ويتلوه في الضعف: الاستدلال على قبول الاستفاضة بما رواه الكليني
في الحسن، في قصة إسماعيل بن الصادق عليه السلام، حيث أراد أن يستبضع (4)
رجلا من قريش، فشاور في ذلك أباه عليه السلام، فقال: " يا بني أما بلغك أنه
يشرب الخمر؟ قال: يا أبت هكذا يقول الناس. قال: يا بني لا تفعل،
فعصى أباه، فدفع إليه دنانيره فاستهلكها، ولم يأت بشئ منها، وقضى أن

(1) كذا ظاهرا في " ق "، وفي " ش ": متفرعا.
(2) الوسائل 18: 212، الباب 22 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
(3) التهذيب 6: 288، الحديث 798.
(4) أي يبتاع بضاعة.
76

أبا عبد الله عليه السلام حج وحج إسماعيل في تلك السنة فجعل يطوف ويقول:
اللهم آجرني واخلف علي. فلحقه أبو عبد الله عليه السلام فهمزه بيده من خلفه،
وقال له: مه يا بني، فلا - والله - ما لك على الله هذا ولا لك، أو يؤجرك
ولا يخلف عليك وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته؟ فقال إسماعيل:
يا أبت إني لم أره يشرب الخمر [إنما] (1) سمعت الناس يقولون. فقال: يا بني
إن الله عز وجل يقول: في كتابه: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) (2) يقول:
يصدق الله ويصدق للمؤمنين فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم، ولا تأمن
شارب الخمر، فإن الله يقول: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) (3)، فأي سفيه
أسفه من شارب الخمر، لا يزوج إذا خطب ولا يشفع إذا شفع ولا يؤتمن
على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله
أن يؤجره ولا يخلف عليه " (4)، بناء على أن الشياع من أعلى أفراد قول
الناس وشهادة المؤمنين، بل ظاهره حجية الشياع وإن لم يفد الظن أيضا.
وفيه، أولا: أن الرواية لا تدل على حجية الاستفاضة بالخصوص،
وإنما تدل على وجوب قبول شهادة جنس المؤمن، واحدا كان أو أكثر، فإن
عمل على هذا الاطلاق فلا يبقى عنوان للاستفاضة، بل الحجة شهادة المؤمن.
ودعوى تقييد إطلاقها بأحد أمرين: عدالة الشاهد أو كثرة الشهود،

(1) من المصدر.
(2) التوبة: 61.
(3) النساء: 5.
(4) الكافي 5: 299، الحديث الأول، والوسائل 13: 230، الباب 6 من أبواب
أحكام الوديعة، الحديث الأول.
77

مما يأبى عنه سوق كلام الإمام عليه السلام في جواب إسماعيل واستشهاده بالآية.
هذا، مع أن الايمان غير شرط في الاستفاضة.
ولو حمل الجمع فيها على إرادة جنس الجمع، ففيه: مع مخالفته لظاهر
الجمع المحلى إذا تعذر حمله على العموم. ومع مخالفته للاستشهاد بقوله تعالى:
(يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) (1) مخالفة للاجماع في مورده، فإن الظاهر انعقاد الاجماع على عدم ثبوت الفسق بالاستفاضة الظنية، كما سيجئ.
مع أن الرواية معارضة برواية أظنها عن " أبي بصير " (2)، وفيها:
" يا أبا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون
قسامة أنه قال قولا، وقال لم أقله، فصدقه وكذبهم " (3) فإن تكذيب السمع
كالصريح في مخالفة ما دلت عليه الصحيحة، فالظاهر لزوم الجمع بينهما
بتكذيب السمع عنه في عدم سوء الظن به، والمراد من تصديق المؤمنين
إذا شهدوا عليه: أن لا يكذبهم ولا يعتني بقولهم وينزل خبرهم منزلة
المعدوم، بل يجب عليه أن لا يسئ الظن بالقائل ولا بالمقول فيه، وحاصله
الأخذ في أفعاله في مجامع الاحتياط ليسلم على كل من تقديري صدق القول
وكذبه، وعليه يحمل لوم الإمام عليه السلام لإسماعيل، حيث كان اللازم عليه
بعد ملاحظة ما ورد في ذم شارب الخمر وعدم ائتمانه أن لا يطرح قول
من شهد على الرجل بشرب الخمر، بل يحتاط في ذلك ولا يستبضعه

(1) التوبة: 61.
(2) والرواية عن محمد بن الفضيل.
(3) الوسائل 8: 609، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4، وفيه:
" يا محمد.. الخ ".
78

ولا يأتمنه.
وبالجملة، فلم نعثر على دليل على حجية الاستفاضة الظنية في المقام،
وأضعف ما يقال - هنا -: أن الظن [الحاصل] (1) من الاستفاضة إذا كان
غالبا فهو أولى بالاعتبار من شهادة العدلين كما في المسالك (2)، فالأقوى
أن المعتبر العلم أو البينة.
(ولا يجب) على الناس (قبول قوله من دونهما) لتطابق العقل
والنقل على حرمة العمل بما لا ينتهي إلى العلم (وإن حصلت الأمارة)
التي لا دليل على حجيتها.
(ولو كانت الدعوى على القاضي) فإن كان في غير ولايته رفع
إلى حاكم تلك الولاية، وإن كان (في ولايته) فإن كان له خليفة فيها
أو مشارك في الولاية (رفع إلى خليفته) أو مشاركه، وإلا رفع الأمر
إلى الإمام أو حاكم ولاية أخرى. وفي سماع الدعوى عليه محررة
أو غير محررة خلاف يأتي.

(1) من " ش ".
(2) المسالك 2: 285.
79

المطلب الثاني
في الآداب التي ينبغي على القاضي رعايتها
(يستحب سكناه في وسط البلد): ليرد الناس عليه متساوين، وربما
علل بأنه أقرب إلى التسوية بين الخصوم، وفيه ما لا يخفى.
(والاعلام بقدومه) بأن ينادى به، إذا كان البلد وسيعا.
(والجلوس) للقضاء (بارزا) بأن يجلس في رحبة أو مسجد:
ليسهل الوصول إليه.
ويكون (مستدبر القبلة): ليكون وجه الخصوم إليها.
(واستعلام حال بلده) مما يحتاج إليه من مراتب الناس في العلم
والصلاح ممن يثق به (من أهله) أو من الأجنبي المطلع.
(والبدأة بأخذ الحجج) التي للناس على معاملاتهم، من البيع والمداينة
والمصالحة والعتق والمناكحة (من المعزول)، وكذا غير الحجج من ديوان
الحكم، وهي - كما في كشف اللثام (1) - الخرائط والصناديق ونحوها، أو البيت
المعد لذلك أن كان وقفا أو رضي المالك، وكذا وثائق الناس أعني رهونهم،
والمحاضر وهي نسخ ما ثبت عند الحاكم، والسجلات وهي نسخ ما حكم به.

(1) كشف اللثام 2: 325.
81

ويدخل فيها كتب نصب الأولياء على الأيتام والأوقاف والصدقات
ونحو ذلك.
(و) كذا (الودائع) الثابتة للغيب المدفوعة إلى الحاكم.
ثم يستحب له - مع عدم فوات حق واجب عليه لأحد - النظر في
حال المحبوسين (والسؤال عن سبب الحبس) لأن الحبس عقوبة، فلعل
بعضهم لا يستحقها أو انقضى زمان استحقاقها (و) ليكن ذلك بعد
(إحضار غرمائهم) بأن ينادى في البلد إلى ثلاثة أيام بأن القاضي ينظر في
حال المحبوسين يوم كذا، فمن كان له خصم محبوس فليحضر، ويكتب أسماء
المحبوسين في رقاع، فإذا حضر الزمان الموعود للنظر صب الرقاع بين يديه،
فإذا خرجت واحدة باسم محبوس نادى خصمه، ثم سأل المحبوس عن سبب
حبسه دون الخصم، قيل: لأن الظاهر أن الحاكم لا يحبسه إلا بحق (1)
فليس على الخصم بيان سبب الحبس (و) إنما (النظر في صحة السبب)
للحبس (وفساده) مراعاة لجانب المحبوس، فينبغي أن يكون هو المسؤول،
فلعله يدعي ظلما، فإن اعترف بأنه حبس بحق رده إلى الحبس، وإن ادعى
أنه معسر عن الحق المحبوس له، فإن اعترف به خصمه أطلقه، وإلا عامل
معه بما سيأتي من حكم مدعي الاعسار.
وإن ادعى أنه حبس ظلما، فإن علم بذلك أو ظهر ولو باعتراف
الخصم أطلقه، وإلا طولب خصمه بالبينة فإن أقامها وإلا أحلفه بالتماس
الخصم وأطلقه بعد الاستظهار وتحصيل الظن بعدم ثبوت خصم آخر له.
(ولو لم يظهر لأحدهم غريم) وادعى الظلم، فظاهر فعل الحاكم الأول

(1) انظر تحرير الأحكام 2: 182.
82

يقتضي أنه لا يطلق إلا (بعد الإشاعة) لحاله والفحص عن غريمه، ثم يحلفه
على أنه لم يحبس بحق، فإن حلف (أطلقه) وفاقا للشيخ (1) والمصنف في
القواعد (2) وكاشفه (3)، لأن رفع اليد عن ظاهر فعل الحاكم المعزول بدعوى
المحبوس قدح فيه، وظاهر المصنف هنا - تبعا للشرائع (4) - عدم الحلف، ولعله
لأصالة البراءة، وعدم الخصم، وفيه: أنها لا تعارض أصالة صحة الحبس،
فالجمع بينهما يقتضي الاحلاف، فتأمل. ولكن الظاهر عدم سقوط الدعوى
بهذا الحلف.
ولو علم أن له خصما غائبا، ففي جواز إطلاقه بالحلف إشكال،
واستقرب في القواعد (5) أنه لا يحبس ولا يطلق، ولكن يراقب إلى أن يحضر
خصمه، ويكتب إليه ليعجل الحضور.
ثم يستحب - بعد الفراغ عن أمر المحبوسين - السؤال (عن أولياء
الأيتام) الذين ولاهم عليهم آباؤهم وأجدادهم (واعتماد ما ينبغي) اعتماده
(من عزل) من لا يليق ذلك (أو ضم) معاون إلى من يعجز عن
الاستقلال (أو تضمين) لمن أتى بما يوجب الضمان منهم (أو إبقاء) لمن
كان قابلا مستقبلا، أو أخذ المال عنه إذا بلغ ورشد.
(و) أما السؤال (عن أمناء الحاكم) المعزول، والنظر في أحوالهم

(1) انظر المبسوط 8: 94.
(2) القواعد 2: 203.
(3) كشف اللثام 2: 326.
(4) الشرائع 4: 73.
(5) القواعد 2: 203.
83

فالظاهر وجوبه، بل (و) كذا السؤال عن (الضوال، وبيع ما يراه منها)،
لاشرافه على الضياع أو لاستيعاب نفقته لقيمته، ونحو ذلك، بناء على انعزالهم
بعزل الحاكم السابق فيحتاج تقريرهم على ولايتهم من الفحص عن
أحوالهم من حيث العدالة والأمانة وعدمهما.
[(وتسليم المعرف حولا إلى ملتقطه إن طلبه، وإحضار العلماء حكمه،
ليرجع إذا نبهوه على الغلط، فإن أتلف خطأ فالضمان على بيت المال، ويعزر المعتدي
من الغريمين إن لم يرجع إلا به.
ويكره الحاجب وقت القضاء، والقضاء وقت الغضب والجوع والعطش والغم
والفرح والوجع ومدافعة الأخبثين والنعاس، وأن يتولى البيع والشراء لنفسه)] (1)
(و) أن يتولى (الحكومة) أي التحاكم مع الخصم إلى قاض، لسقوط
محله بذلك عن القلوب، ولما روي من أن أمير المؤمنين عليه السلام وكل عقيلا
في خصومته، وقال: " إن للخصومة قحما، وإني لأكره أن أحضرها " (2)
والرواية تدل على كراهة مباشرة الخصومة مطلقا.
(و) يكره استعمال (الانقباض)، لاحتمال منعه عن تحرير المدعي
لدعواه والجواب، واحتمال الذهول عن حجته لهيبة القاضي (و) كذا
استعمال (اللين) المفرط الموجب لسقوط محله عن القلوب وهو موجب
لفوات القصود أحيانا.

(1) لم يرد ما بين المعقوفتين في " ق "، وورد في هامش " ش " ما مضمونه: " أنه
قد ضاع مقدار ورقة أو أكثر من النسخة "، وقد أوردنا المتن من الإرشاد حفاظا
على الترابط بين الموضوع.
(2) انظر شرح نهج البلاغة، لابن ميثم 5: 372.
84

(و) يكره أيضا (تعيين قوم) مخصوصين لأجل التحمل
(للشهادة)، لايجابه الحرج على الناس، أما تعيين قوم لها تحملا وأداء
بحيث لا يقبل شهادة غيرهم مع استجماعه لشروط القبول، فمرجعه
إلى الحكم بين الناس بغير ما أنزل الله.
(و) يكره أيضا (أن يضيف أحد الخصمين)، لأنه قد يوجب الميل
معه فلا يسوي بينهما، خصوصا مع الأمر بإكرام الضيف زائدا على غيره من
الحضار، وروي: " أن رجلا نزل بأمير المؤمنين عليه السلام فمكث عنده أياما
فقدم إليه في خصومة لم يذكرها لأمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخصم أنت؟
قال: نعم. قال: تحول عنا، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى أن يضاف
خصم إلا ومعه خصمه " (1).
(و) يكره له (الشفاعة) إلى أحد الخصمين (في إسقاط) شئ
من حقه الثابت أو دعواه، (أو إبطال) أصل حقه من المال أو البينة
ونحو ذلك ولو بالصلح، لأنه منصوب لاستيفاء الحقوق وسماع الدعاوي،
ولا ينافي ذلك استحباب طلبه الصلح منهما.
(و) يكره (توجيه الخطاب إلى أحدهما) دون الآخر، لمنافاته
للتسوية، لكن مقتضى ما سيجئ من وجوبها: الحرمة، فتأمل.
ويكره الجلوس لسماع الدعاوي (والحكم في المساجد دائما على رأي)
المحقق (2) والمصنف (3) قدس سرهما، لقوله عليه السلام: " جنبوا مساجدكم البيع والشراء

(1) الوسائل 18: 157، الباب 3 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.
(2) انظر الشرائع 4: 74.
(3) انظر القواعد 2: 204.
85

والصبيان والمجانين والأحكام والحدود ورفع الصوت " (1).
وقوله صلى الله عليه وآله: " جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم
وخصوماتكم ورفع أصواتكم " (2).
وقوله صلى الله عليه وآله: " إنما المساجد لذكر الله والصلاة " (3)،
وفي دلالته نظر، لا لأن القضاء ذكر الله، بل لعدم دلالته على كراهة غيرهما،
ولذا لم يحكموا بكراهة ما عداهما من الأفعال.
ثم ظاهر هذه الأخبار الكراهة مطلقا، فلعل الحكم بأنه (لا يكره
متفرقا) لما روي من فعل النبي (4) والوصي صلوات الله عليهما وآلهما، ودكة القضاء
بجامع الكوفة معروفة، ولكن المنقول فعل في واقعة لعله وقع على جهة
الوجوب أو الاستحباب لخصوصية، ولعله لذا أفتى في محكي الفقيه (6)
والمقنع (7) بالكراهة مطلقا، وعن المبسوط (8) والخلاف (9) عدم الكراهة مطلقا،

(1) الوسائل 3: 507، الباب 27 من أبواب أحكام المساجد، الحديث الأول.
(2) انظر كنز العمال 7: 670، الحديث 20834، وفي المبسوط (8: 87) وروي
عنه عليه السلام أنه قال: " جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم والحكومة ".
(3) انظر كنز العمال 7: 662، الحديث 20797، والحديث منقول بالمعنى.
(4) انظر صحيح البخاري 9: 85، باب من حكم في المسجد.
(5) مستدرك الوسائل 17: 391 و 392، الباب 17 من أبواب كيفية الحكم،
الحديث 5 و 7.
(6) راجع الفقيه 1: 237، باب فضل المساجد وحرمتها، الحديث 715.
(7) حكاه صاحب الجواهر في الجواهر 40: 81، ولم نعثر عليه في المقنع.
(8) المبسوط 8: 87.
(9) الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 3.
86

ولعله لقصور دلالة ما تقدم من الأخبار، بل عن ظاهر المقنعة (1) والنهاية (2)
والمراسم (3) والسرائر (4) الاستحباب، لأن القضاء من أفضل الطاعات،
والمسجد من أشرف البقاع، ولمعروفية دكة القضاء بجامع الكوفة.
وفي الكشف (5) عن بعض الكتب: أنه بلغ عليا عليه السلام أن شريحا يقضي
في بيته، فقال: " يا شريح اجلس في المسجد فإنه أعدل بين الناس، وأنه
وهن بالقاضي أن يجلس في بيته " (6).
ويرد على الأول: التزام عدم كراهة القضاء بنفسه في المسجد، كما إذا
تمت مقدمات الحكم في غيره ووقع إنشاء الحكم فيه، فالمراد الجلوس لترافع
الناس إليه.
ولا حجة فيما روي عن بعض الكتب، مع احتمال أن يراد من قوله:
" فإنه أعدل بين الناس "، أنه أرفق بهم من جهة أنه ربما لا يعرف بعضهم
بيت القاضي.
وأما معروفية دكة القضاء، فلعلها لوقوع بعض الأقضية الغريبة
كما في قصة بيت الطشت (7) ونحوها (8)، فلا تدل على مداومة الإمام عليه السلام

(1) المقنعة: 722.
(2) النهاية: 338.
(3) المراسم: 230.
(4) السرائر 2: 156.
(5) كشف اللثام 2: 327.
(6) مستدرك الوسائل 17: 358، الباب 11 من آداب القاضي، الحديث 3.
(7) البحار 40: 277، الباب 97 من قضاياه عليه السلام، الحديث 42.
(8) المصدر المتقدم، نفس الباب.
87

على ذلك، والمسألة محل إشكال، إلا أن الترك أولى.
(و) يكره له (أن يعنت الشهود) أي: يوقعهم في مشقة من جهة
المداقة في الاستفسار عنهم والتفريق بينهم، والسؤال عن مشخصات القضية
إذا كانوا من (العارفين الصلحاء) المبعدين عن التهمة والسوء والخطأ.
(نعم) لو كان الشهود من غيرهم (وارتاب) بهم القاضي (فرق
بينهم) وسألهم عن مشخصات القضية من حيث لا يطلع الآخر، فإن
اتفقوا فيها حكم، وإن اختلفوا بما يوجب الطرح أطرح شهادتهم، وهذا
الحكم ذكره الشيخ (1) ومن تأخر (2) عنه، واستدل (3) لهم عليه بأن فيه نوع
استظهار وتثبت، وبما حكي من فعل داود (4) ودانيال (5) وأمير
المؤمنين صلوات الله عليه وعليهم (6).
أقول: وفي النفس من هذا الحكم شئ وإن كان مشهورا، لمنع كونه
استظهارا وتثبتا، لأنه إن أريد التثبت والاستظهار بالنسبة إلى الواقع
فلا يعلم أنه يحصل من التفريق انكشاف الواقع لا ظنا ولا قطعا، إذا
كما يحتمل أن يظهر اتفاق كلمة الشهود بعد الاستفسار فيحصل الوثوق
والاطمئنان بصدقهم فيكون حكمه الظاهري مقرونا بالاطمئنان الواقعي، كذا

(1) المبسوط 8: 105.
(2) انظر المراسم: 234، والوسيلة: 210.
(3) انظر الجواهر 40: 122.
(4) الكافي 7: 371، الحديث 8.
(5) الكافي 7: 425، الحديث 9.
(6) انظر الوسائل 18: 204 - 205، الباب 20 من أبواب كيفية الحكم، الحديث الأول.
88

يحتمل اختلافهم بعد الاستفسار فيسقط قولهم عن الاعتبار فيحكم باليمين
من دون اطمئنان، فإن الاختلاف لا يوجب الظن بالكذب فضلا عن
الاطمئنان به، ومع ذلك يكون فيه تزكية إبطال لسبب الحكم للمدعي حتى
لو قلنا بأن محل الاستفسار قبل تزكية الشهود كما صرح به في المسالك (1).
لكنه لا يخلو عرفا من تعريض حق المدعي للسقوط، ومن صدق أن
القاضي يريد عدم ثبوت [الدعوى] (2) لأجل مداقته في الشهود،
ولذا استحب التفريق في شهود حدود الله المبنية على الستر والتخفيف مطلقا
ولو مع عدم الريبة.
نعم، لو علم أن بالتفريق يحصل انكشاف الواقع على وجه العلم
أو الاطمئنان المعتبر الذي لا يفيده قول الشهود قبل الاستفسار جاز،
كما فعل أمير المؤمنين عليه السلام في الرجل الذي قتله رفقته في السفر
وأخذوا ماله، فاستعدى ولده عليهم إلى شريح ثم إلى أمير المؤمنين عليه السلام
ففرقهم واستعمل عليه السلام بعض الحيل حتى رجع بعض الشهود بظن رجوع
بعض آخر، واعترف بقتل الرجل وأخذ ماله (3)، وكذا فعل داود (4)
ودانيال على نبينا وآله وعليهما السلام (5)، مع أنها أفعال في قضايا شخصية لا يقاس عليها
فلعلهم علموا بالقضية وأرادوا بما فعلوا التوصل إلى إثباتها بالطرق الظاهرية.

(1) المسالك 2: 293.
(2) من " ش ".
(3) الوسائل 18: 204، الباب 20 من أبواب كيفية الحكم، الحديث الأول.
(4) الكافي 7: 371، الحديث 8.
(5) الكافي 7: 425، الحديث 9.
89

وبالجملة، فالتفريق حسن مع حصول التبين فيه على كل تقدير،
لا على التوافق المعارض بتقدير التخالف الموجب لاسقاط البينة
والحكم باليمين من دون ظن بالواقع، مع استلزامه لتفويت حق المدعي عرفا.
ومما يؤيد ما ذكرنا من عدم وضوح مدرك لحسن المداقة في أسباب
الحكم: أنه لو كان حسنا من باب الاستظهار لم يفرق فيه بين ثبوت الريبة
وعدمها إذا فرضنا عدم حصول عنت للشهود بالمبالغة في السؤال عن
المشخصات.
ويؤيده أيضا ما اشتهر من قولهم: " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى
السرائر " ومثل قوله: " إنما أقضي بينكم بالبينات، ولعل بعضكم ألحن
بحجته، وإنما أقضي على نحو ما أسمع، فمن اقتطعت له قطعة من مال أخيه
فإنما أقطع له قطعة من النار " (1) فإن المستشم من ذلك عدم المداقة في سؤال
المتداعيين أو الشهود عن الخصوصيات التي يتغير الحكم بها، ولذا لو بالغ
القاضي في الاستفسار عن الشهود يتهمه المدعي بإرادة إبطال حقه.
وكيف كان، فالظاهر عدم جواز ذلك بعد تحقق شرائط قبول الشهود لتحقق
سبب الحكم شرعا فيثبت للمدعي حق الحكم، ولذا لو التمس من الحاكم
الحكم وجب عليه، فالاستفسار معرض لحقه للسقوط، (وتحرم الرشوة (2)).

(1) الوسائل 18: 169، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى (والظاهر أن الرواية متخذة من الحديثين 1 و 3 من هذا الباب).
(2) هذا آخر الصفحة اليسرى من الورقة (147)، وبعدها بياض، وفي الإرشاد بعد
هذه العبارة ما يلي: " ويأثم الدافع إن توصل بها إلى الباطل، وعلى المرتشي إعادتها
فإن تلفت ضمن ". ولم نقف على شرح المؤلف قدس سره لذلك.
90

[مسألة]
.. وأراد (1) أن يحكم بعلمه لم تحتج إلى مطالبة المدعى عليه بالجواب،
لعدم الفائدة في سماع الجواب. والأخبار المتقدمة ظاهرة في غير صورة علم
القاضي بالحق، واحتمال توقف الحكم مطلقا على جواب المدعى عليه بعيد.
واعلم أن المصنف قدس سره لم يتعرض في هذا الكتاب لقضاء الحاكم
بعلمه، فينبغي لنا أن نتعرض له في الجملة، فنقول:
لا ينبغي الاشكال في أن للإمام عليه السلام، بل عليه أن يقضي بين
الناس وعليهم بمقتضى علمه الحاصل له بالفعل، وجعله في المبسوط (2) قضية
مذهبنا، وعليه الاجماع في محكي الانتصار (3) والغنية (4) ونهج الحق (5)

(1) هذا هو أول الصفحة اليمنى من الورقة (204)، وهي الورقة الأخيرة في المجموعة التي
هي بخط المؤلف قدس سره، وتتعلق بالبحث عن قضاء الحاكم بعلمه. ويبدو أنها كانت منقطعة
عن الأوراق فألحقت بآخر المجموعة. وبما أنا رأينا أن جماعة من الأعلام قد بحثوا عن قضاء
الحاكم بعلمه في ضمن البحث عن آداب القضاء، أوردنا هذا البحث هنا.
(2) المبسوط 8: 166.
(3) الإنتصار: 237.
(4) الغنية (الجوامع الفقهية): 562.
(5) نهج الحق: 563.
91

والايضاح (1) وغيرها (2). وهي الحجة فيه.
مضافا إلى أن معلومه هو الحق، والقسط الذي أمر الله به، وخلافه
هو الباطل.
ويؤيده ما عن الكليني بسنده إلى الحسين بن خالد عن
أبي عبد الله عليه السلام: " الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني
أو يشرب خمرا، أن يقيم عليه الحد، ولا يحتاج إلى بينة مع نظره، لأنه أمين
الله في خلقه، وإذا نظر الإمام إلى رجل يسرق، فالواجب عليه أن يزبره
وينهاه، ويمضي ويدعه، قال: فقلت: كيف ذاك؟ قال: لأن الحق إذا كان
لله تعالى فالواجب على الإمام إقامته، وإذا كان للناس فهو للناس " (3).
ومقتضى التعليل بقوله: " لأنه أمين الله في خلقه " عدم الفرق بين حقوق
الله وحقوق الناس.
وتوهم دلالة ذيل الرواية على الفرق، مدفوع بأن الفرق المستفاد من
الذيل إنما هو في الإقامة وعدمها قبل مطالبة من له الحق، فلا ينافي الحكم
بمقتضى العلم إذا فرض مطالبة من له الحق.
وربما يستدل بقول أمير المؤمنين عليه السلام لشريح - في حديث درع طلحة
الذي استرده عليه السلام ممن أخذه غلولا يوم البصرة -: " ويلك إمام المسلمين

(1) إيضاح الفوائد 4: 312.
(2) التنقيح الرائع 4: 242.
(3) الكافي 7: 262، باب النوادر من كتاب الحدود، الحديث 15، والوسائل
18: 344، الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.
92

يؤمن من أمورهم على أعظم من هذا " (1)، وهو حسن إن كان مناط
الاستدلال ما يفهم منه من كون إمام المسلمين مأمونا على أمورهم
وإلا فأخذه عليه السلام الدرع المأخوذ غلولا كان عملا بعلمه، لا قضاء به.
وكيف كان، فالمحكي عن الإسكافي (2) من عدم تجويز ذلك ضعيف
مخالف لجميع الأدلة التي علق فيها الأحكام على موضوعاتها الواقعية.
وأضعف منه استدلاله (3) بعدم حكم النبي صلى الله عليه وآله بكفر من كان
يبطن الكفر ويظهر الاسلام، ليمتنع الناس عن مناكحته ومشاورته وأكل
ذبائحه وتوريثه من قريبه.
وقد حكي عن سيدنا المرتضى قدس سره (4) الجواب عنه، أولا: بمنع علم
النبي صلى الله عليه وآله بهؤلاء المنافقين بأعيانهم، وإن أخبره الله تعالى
بوجودهم إجمالا. وفي هذا الجواب نظر.
وثانيا: بأن تحريم المناكحة والمشاورة ونحوهما، لعله مما يترتب على
إظهار الكفر، لا تحققه واقعا وإن أظهر الاسلام.
وهذا الجواب وإن كان غير مطابق لما هو المقرر في الشريعة، من عدم
جواز ترتيب أحكام الاسلام على من أظهر الاسلام وعلم بكفره، إلا أن
الحكم به في صدر الاسلام مما يمنع تقوية الاسلام بهؤلاء وبذراريهم.
ويمكن الجواب - أيضا - بأن الكلام في العلم العادي المسبب عن

(1) الوسائل 18: 194، الباب 14 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 6.
(2) نقله عنه العلامة في المختلف: 696.
(3) راجع المختلف: 697.
(4) الإنتصار: 242 - 243.
93

الأسباب العادية، كالحس والتواتر ونحو ذلك، لا في العلم الغيبي المسبب عن
أسباب غير عادية.
ولكن فيه نظر، فإن ظاهر الأدلة وفتاوى الأصحاب عدم الفرق بين
العلمين، ويبعد عدم اطلاع الإسكافي والسيد بمحل الكلام.
وأما غير الإمام، فالأقوى أنه كذلك يقضي بعلمه مطلقا، في حقوق
الله وحقوق الناس، لما تقدم من أن معلوم القاضي هو الحق والقسط والعدل
الواقعي فلو حكم بخلافه كان جائرا في الحكم، ولو توقف عن الحكم كان
جائرا في حكومته، لأنه حبس الحقوق، وهو معنى ما في المبسوط (1)
والسرائر (2): " أنه لو لم يقض بعلمه أفضى إلى ايقاف الأحكام أو فسق
الحكام ". نعم ذكر أن في بعض الروايات: أنه ليس له أن يقضي بعلمه،
لمكان التهمة (3).
أقول: وهو المحكي عن الإسكافي (4)، حيث منع عن عمله بعلمه في
شئ من الحقوق والحدود، وقد بالغ السيد قدس سره في رده مدعيا أنه مسبوق
بالاجماع وملحوق به، قال: " وكيف يخفى إطباق الإمامية على وجوب الحكم
بالعلم وهم ينكرون توقف أبي بكر عن الحكم لفاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها وذريتها
بفدك، لما أنحلها أبوها، ويقولون: إذا كان عالما بعصمتها وطهارتها وأنها

(1) المبسوط 8: 166.
(2) السرائر 2: 179.
(3) لم نقف عليه، نعم في المبسوط (8: 166) هكذا: وقد روي في بعضها أنه ليس له
أن يحكم بعلمه لما فيه من التهمة.
(4) نقله عنه العلامة في المختلف: 696.
94

لا تدعي إلا حقا، فلا وجه لمطالبتها بإقامة البينة، لأن البينة لا وجه لها
مع العلم بالصدق " (1)، انتهى. وتبعه غيره (2) في الانكار على الإسكافي.
لكن يمكن أن يقال: إن الانكار على أبي بكر، لأجل انتزاع فدك من
فاطمة صلوات الله عليها مع علمه بانتقالها إليها، وبصدقها في دعواها التملك لها،
ولم لها عليها السلام مدع غير أبي بكر يزعم تولي ذلك عن المسلمين،
فالطعن عليه من جهة ترك عمله بعلمه، لا ترك الحكم بعلمه، فهو
- بلا تشبيه - نظير انتزاع أمير المؤمنين عليه السلام (3) درع طلحة من زيد من يد من
أخذه غلولا يوم البصرة.
هذا، مع أن ظاهر الرواية المروية في الاحتجاج (4)، أن الطعن عليه
في طلب البينة من جهة كون فاطمة عليها السلام ذات يد، وذو اليد لا يطالب
بالبينة.
ثم إن المحكي عن السيد (5) نسبة القول بعدم جواز الحكم بالعلم مطلقا
إلى الإسكافي، وفي المسالك أن ذلك لعله في غير مختصره الأحمدي،
وإلا فالمذكور فيه التجويز في حقوق الله دون حقوق الناس. وحكى

(1) الإنتصار: 238.
(2) مثل العلامة في المختلف: 697.
(3) الوسائل 18: 194، الباب 14 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 6، وتقدم في
الصفحة: 93.
(4) الإحتجاج 1: 119 - 127
(5) نقله عنه العلامة في المختلف: 696.
95

عكس ذلك عن الحلي (1).
أقول: والموجود في السرائر (2) في كتاب القضاء، وفي كتاب آخر منه (3)
موافقته للمرتضى قدس سره.
ثم ذكر بعضهم (4) أنه يستثنى من منع الحكم بالعلم على القول به أمور:
منها: تزكية الشاهد وجرحه، وهو حسن، لا لأجل الدور، لاحتمال
حصولها بالاستفاضة العلمية، والظاهر أنه ليس موردا للنزاع، بل لأجل
تحقق الاجماع عليه قولا وعملا.
ومنها: ما لو علم الحاكم بخطأ الشهود أو كذبهم، ولعله لأن الحكم
بالبينة حينئذ لا يجوز، فيرد البينة بمجرد علمه.
ومنها: ما لو أقر المدعى عليه في مجلس القضاء، ووجهه: إن ذلك
عمل بعلمه في طريق الحكم، فهو نظير سماع البينة، وربما لحق به الاقرار
ولو في غير مجلس الحكم.
ومنها: تعزير من أساء الأدب بحضرته، لأن تعطيله مناف لأبهة
القضاء.
ومنها: ما لو شهد واحد بحق (5)، فإنه لا يقصر عن شاهد واحد،

(1) المسالك 2: 289.
(2) السرائر 2: 179.
(3) انظر السرائر 3: 289.
(4) المسالك 2: 289.
(5) كذا ظاهرا والكلمة غير واضحة، وفي المسالك: " ومنها: أن يشهد معه آخر،
فإنه.. الخ ".
96

وفيه تأمل، وإن كان غير بعيد.
واعلم أن المخالف في المسألة قد استدل بوجوه ضعيفة من الأخبار
والاعتبار، فلا تقاوم أدلة المختار (1).
داعيا للحاكم على الحكم له.
ثم أن المصنف قدس سره لم يتعرض لحكم أخذ القاضي الجعل على القضاء،
ولا لحكم ارتزاقه من بيت المال.
أما حكم الجعل، فنقول: أن القاضي إما أن يتعين عليه القضاء
وإما لا يتعين، فإن تعين لا يجوز له أخذ الجعل بلا خلاف، على الظاهر
المصرح به في كشف اللثام (2) وعن الكفاية لا أعرف فيه خلافا (3)
وعن المعتمد للفاضل النراقي وغيره (4) الاجماع عليه، وهي (5) الحجة مضافة
إلى عدم جواز أخذ الأجر على الواجب العيني، لعدم سلطنة الفاعل
على علمه وعدم استحقاقه إياه ليملك عليه العوض، إذ لكل أحد أن يجبره
عليه مع الامتناع.

(1) هذا هو آخر ما في الورقة الأخيرة من نسخة " ق "، ويبدو أن ناسخ " ش "
لو يوردها في نسخته، وراجع الصفحة: 91، الهامش 3.
(چ‍) هذا هو أول الصفحة اليسرى من الورقة (148)، والعبارة تدل على ارتباطها
بما قبلها من الأوراق المفقودة، وراجع الصفحة: 91، الهامش 1.
(2) كشف اللثام 2: 323.
(3) الكفاية: 262.
(4) راجع المستند 2: 525.
(5) تأنيث الضمير باعتبار الخبر.
97

وأما جواز أخذ العوض في مثل سقي المرأة اللبأ (1) وإعلاف الملتقط
الضالة، فالفرق - مع كون العوض فيهما لعلف واللبن - إن الواجب فيهما
ليس عنوان السقي والاعلاف، بل العنوان هو وجوب حفظ النفس المتحقق
بالمعاوضة على السقي والاعلاف [ولذا لا يجوز إجبارهما على ذلك مجانا.
وبالجملة، فرق بين بين الأمر بالسقي وبين الأمر بحفظ النفي] (2)
ولذا لو وجب بعض الصنائع كالخياطة والحجامة ونحوهما على شخص لعدم
وجود غيره، لم يحرم عليه أخذ الأجرة عليها، لأن حفظ النفس لا يتوقف
على التبرع بهذه الأعمال، بل يحصل بها وبالمعاوضة عليها. ولو فرضنا
امتناع المعمول له عن المعاوضة لم يجبر العامل على التبرع، وإنما يجبر الممتنع
على المعاوضة أو يعاوض عنه وليه الخاص أو العام، لأن المعاوضة واجبة
عينا على المعمول له دون العامل (3).
فتأمل في المقام، حتى لا يختلط عليك ما ذكرنا بما ذكره بعضهم من أن
كل واجب قد فهم من دليله المجانية لم يجز أخذ الأجرة عليه. وذلك لفساد
هذا، أولا: بأن جميع الأدلة الدالة على وجوب العنوانات الخاصة مساوية
في انفهام ذلك منها وعدمه، والمتحقق عدم انفهام ذلك في شئ منها للقطع
أو الظن بعدم ملاحظة الآمر لهذه الصفة عند الأمر كما يستفاد من الأوامر
العرفية.

(1) اللبأ: على فعل - بكسر الفاء وفتح العين -: أول اللبن في النتاج، انظر الصحاح
1: 70، " مادة: لبأ ".
(2) ما بين المعقوفتين ليس في " ش ".
(3) كذا في " ق ".
98

وثانيا: بأن صفة المجانية إذا اعتبرت في الواجب كان غايته عدم تحقق
الامتثال لو فقدت هذه الصفة، لا عدم سقوط الأمر ولا حرمة أخذ الأجرة
عليه.
ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا بين كون القاضي ذا كفاية وعدمه، لأن عدم
الكفاية سبب لوجوب إعانته كفاية لو لم يكن هناك مال للفقراء ولا يوجب
حل الأجر له على الواجب.
وبهذا يندفع ما اشتهر من نقض الحكم المشهور بحرمة أخذ الأجرة
على الواجب بجواز أخذها على الحرف والصنائع.
هذا، مع أن حكمة إيجابها إنما اقتضت ايجابها على وجه المعاوضة، إذ
لو لك يصح المعاوضة عليها ووجب التبرع بها لترك أكثر الناس أكثر الحرف
ولزم من ذلك فوات الغرض المقصود من ايجابها كما لا يخفى، ومن هنا شرع
أخذ الأجرة على الجهاد الواجب كفاية، إذ لولا ذلك تواكله الناس، بعضهم
على بعض، لما فيه من المشقة، ولزم فوات الغرض، بل لولا الاجماعات
المنقولة (1) على عدم جواز أخذ الأجرة على تجهيز الموتى لاتجه القول بجوازه،
لأنه من جهة تنفر الطباع لو لم يكن بإزائه أجرة تواكله الناس وتقاعدوا
عنه، ولعل هذا هو الوجه في ذهاب السيد المرتضى (2) إلى جواز أخذ الأجرة
على ذلك، لا ما ذكروه من بناء ذلك على قوله بوجوب التجهيز على الولي،
فافهم.

(1) انظر مجمع الفائدة 8: 89، والرياض 1: 505.
(2) لم نجده في كتبه المتوفرة لدينا، ولكن حكاه عنه المحقق الثاني في جامع المقاصد
4: 36.
99

ويؤيد ما ذكرنا من اطلاق الحكم في المسألة، بل يدل عليه: رواية
يوسف بن جابر عن أبي جعفر عليه السلام: " لعن رسول الله صلى الله عليه وآله من
نظر إلى فرج امرأة لا تحل له، ورجلا خان أخاه في امرأته، ورجلا احتاج
الناس إليه لفقهه فسألهم الرشوة " (1)، فإن الظاهر أن المراد بالرشوة المسؤولة
هو الأجر على الفتوى والقضاء.
ونحوها صحيحة ابن سنان: " عن قاض يأخذ من السلطان على
القضاء الرزق، قال: ذلك السحت " (2) بناء على أن المراد بالرزق على القضاء
الأجر عليه، وأن القاضي يشمل القاضي الجامع للشرائط، لا ما هو الغالب
في قضاة ذلك الزمان.
والمروي في الخصال أن السحت أنواع كثيرة، وعد منها: أجور
القضاة (3).
ثم ظاهر اطلاق ما تقدم: حرمة الجعل، حتى فيما إذا لم يحصل له كفاية
من محل آخر - كتبرع متبرع أو بيت مال موجود أو مال آخر للفقراء -
ولو يوجد من يجبره الحاكم على الانفاق عليه، لكن يعارض وجوب القضاء
حينئذ وجوب التكسب، والترجيح لوجوب التكسب.
وهل يجوز حينئذ أن يأخذ الجعل جمعا بين الواجبين؟ وجهان:
من إطلاق ما ذكر من الوجوه، ومن أن القضاء حينئذ غير متعين عليه

(1) الوسائل 18: 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 5.
(2) الوسائل 18: 161، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث الأول.
(3) الخصال 1: 329، الحديث 26، الوسائل 12: 64، الباب 5 من أبواب
ما يكتسب به، الحديث 12.
100

قطعا، لأنه إما مخير بين القضاء والكسب، وإما أن يتعين عليه التكسب.
والأقوى جواز أخذ الجعل حينئذ على وجه الاستنقاذ لا المعاوضة، بل يمكن
القول بجواز المعاوضة أيضا، لأن الفرض قابلية الفعل للتملك به ذاتا، وعدم
جريان ما ذكرنا من الموانع حتى إطلاقات الاجماعات والأخبار،
لاختصاص معاقد الاجماع بصورة التعين وإن كان مرادهم به مقابل الكفائي
لا التخييري، وانصراف الأخبار إلى غير الفرض.
ومما ذكرنا يظهر إمكان الفول بجواز أخذ الجعل فيما إذا لم يتعين عليه
إذا لم يقدر على كفاية له كما هو أحد القولين، بل عن بعض شراح المفاتيح (1)
نسبة الجواز إلى المشهور مطلقا حتى مع الكفاية، وعن المفيد (2) والقاضي (3)
إطلاق الجواز مع الكراهة، ولعله لما ذكرنا من عدم الدليل على المنع عن أخذ
الجعل على الواجب إذا لم يتعين، لأنه لعدم تعينه كالمباح، ولذا جاز أخذ
الجعل على الجهاد، والرواية الأولى من الروايات ظاهرة بل صريحة في
صورة تعين القضاء، والثانية منصرفة منصرفة إليه كالثالثة الضعيفة.
وربما يستدل على الجواز بأنه لو تعدد القاضي واشتركوا في الضرورة
فإن لم يجز لهم الأخذ لزم تعطيل الأحكام إن امتنعوا من الحكم واشتغلوا
بالتكسب لمعاشهم، وإن اشتغلوا أو بعضهم بالقضاء عن التكسب لزم الضرر
أو التكليف بما لا يطاق.
وفيه: أن فرض اشتراك الكل في الضرورة مستلزم لايجاب القضاء

(1) لم نقف عليه.
(2) المقنعة: 588، وفيه: والتبرع أفضل.
(3) المهذب 1: 346.
101

على أحد المضطرين، فإن كان جائزا لم يجز تعليل ترك الأخذ بالضرر، وإن
لم يجز لم يجز ايجاب القضاء مضطر معين فيلزم جواز أخذ الجعل مع
التعين، وهو مراد كاشف اللثام حين أجاب عنه بأنه لو تم جاز الأخذ مع
التعين بطريق أولى، إذ مع التعدد ربما أمكن الجمع بين القضاء والتكسب (1).
إلا أن يقال: إن المنع من أخذ الجعل مع التعين هو ما تقدم سابقا من
عدم سلطنة الانسان على ما يجب عليه عينا.
ويرد عليه - حينئذ - وقوع التعارض بين أدلة نفي الضرر وبين أدلة
وجوب القضاء، فإما أن يجمع بينهما بأخذ الجعل وإما أن يحكم بعدم وجوب
القضاء، فيجوز أخذ الجعل حينئذ، لعدم تعينه.
وعلى أي تقدير، فلا وجه للتفصيل بين المعين وغيره من جهة الضرر.
هذا، إذا كان الضرر مما لا يجب تحمله، وأما إذا كان مما يحرم تحمله،
تعارض وجوب التكسب ووجوب القضاء. كلن هنا يمكن أخذ الجعل على
وجه الاستنقاذ من المتحاكمين، لوجوب دفع ضرر القاضي على كل أحد سيما
المتحاكمين.
وكيف كان، فلا دليل يطمأن به على المنع عن أخذ الجعل في صورة
عدم التعين وعدم الكفاية. نعم، لو قام اجماع في خصوص المسألة كما حكي
عن بعض (2)، أو كيلة على عدم جواز أخذ الجعل في الواجب الكفائي،
أو على أن الأصل في الواجب الكفائي ذلك إلا إذا اقتضت الحكمة الموجبة له
ذلك، كان هو المتبع.

(1) كشف اللثام 2: 323.
(2) جامع المقاصد 4: 36.
102

ومنه يعلم قوة القول بالجواز مع وجود الكفاية كما تقدم القول به
لولا الاجماع كلية أو في خصوص المقام، فإن القضاء الواجب كفاية إن كان
يجوز أخذ الجعل عليه لم يمنع ذلك وجود الكفاية للقاضي وإن لم يكن كذلك
لم يجوزه فقر القاضي، كما في سائر الواجبات الكفائية التي منها ما يجوز أخذ
الأجر عليه مطلقا كالجهاد، ومنها ما لا يجوز كذلك كأكثر الواجبات
الكفائية، والاحتياط مما لا يترك.
ولو فرض عدم الكفاية لجميع أفراد الواجب الكفائي ولم يتمكنوا من
الجمع بين القضاء والتكسب على وجه التناوب فمقتضى ما ذكرنا من أدلة نفي
الحرج وحرمة الضرر عدم وجوب التعرض مجانا لواحد منهم، وجواز أخذ
الجعل على القضاء، جمعا بين الحقوق والأدلة، أو منعا لانصراف الأدلة
المانعة (1).
ومما ذكرنا ظهر فساد الاستدلال للقائلين بالجواز مع عدم التعين بأنه
لو تعدد القاضي واشتركوا في الضرورة فإن لم يجز لهم الأخذ لزم تعطيل
الأحكام إن امتنعوا من الحكم واشتغلوا بالتكسب، وإن اشتغلوا أو بعضهم
بالقضاء عن التكسب لزم الضرر أو التكليف بما لا يطاق.
ثم إن ما ذكرنا في المسألة ليس إحداث قول فيها، بل هو إما راجع
إلى القول بعدم جواز الجعل مطلقا إلا أن صورة لزوم الحرج الشديد،
بل الضرر المنهي خارج عن إطلاق كلماتهم كخروجه عن إطلاقهم في أكثر
المسائل، وإما راجع إلى التفصيل بين وجدان الكفاية وعدمها، فإن الظاهر
من بعض تحقق القول بجواز الأخذ في الثاني بقول مطلق.

(1) في " ق " زيادة: " والظاهر أن مراد المجوزين "، والظاهر أنه قدس سره أعرض عنها.
103

وأما حكم الارتزاق، فنقول: الظاهر أنه لا خلاف في جوازه له إذا
كان فقيرا، ومع الغنى فيه قولان، ظاهر جماعة منهم المصنف (1) والشهيد (2) في
بعض كتبهما: العدم، وإليه ذهب جمع من المتأخرين (3)، ولعله لأن الأخذ
منه (4) مع الغنى لا مصلحة فيه فهو تضييع له (5)، مع أنه إذا لم يدخل في باب
الحسبة لرفع حاجة القاضي، دخل في باب الأجرة المحرمة بما تقدم من
صحيحة ابن سنان (6).
وفيه: منع ذلك، لأنه يوجب زيادة الرغبة فيه وعدم التقاعد عنه،
والاشتغال بغيره، حيث لا يجب إلا كفاية فالأقوى جواز أخذه مع عدم
الحاكة بما يراه الإمام عليه السلام أو من هو وكيله على بيت المال، حتى أنه
لو كان بيد نفس القاضي جاز له أن يأخذ منه مقدارا يعلم أنه لو كان في يد
غيره لم يقنع منه بما دون ذلك.
قال في المبسوط: إن القاضي الذي لا يتعين عليه القضاء إن لم يكن له
كفاية، جاز له أخذ الرزق، وإن كان له كفاية فالمستحب أن لا يأخذ، فإن
أخذ جاز، ولا يحرم عليه بل كان مباحا، وجواز اعطاء الرزق للقضاة
إجماع، ولأن بين المال معد للمصالح - إلى أن قال -: هذا إذا لم يتعين عليه

(1) انظر القواعد 2: 202، والارشاد 1: 358.
(2) انظر اللمعة الدمشقية: 94، والدروس 2: 69.
(3) انظر مفتاح الكرامة 4: 98 - 99، والجواهر 40: 52.
(4) مرجع الضمير في " منه " و " له " هو " بيت المال " وقد كان مذكورا في سطر
متقدم شطب المؤلف قدس سره عليه كله.
(5) مرجع الضمير في " منه " و " له " هو " بيت المال " وقد كان مذكورا في سطر
متقدم شطب المؤلف قدس سره عليه كله.
(6) الوسائل 18: 161، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث الأول.
104

القضاء، فإن تعين عليه حرم مع الكفاية، لأنه يؤدي فرضا قد تعين عليه،
وإن لم يكن له كفاية حل له، لأن عليه فرضا وهو التكسب وفرضا آخر
وهو القضاء، فإذا أخذ الرزق جمع بين الفرضين، لأن الرزق يقوم مقام
التكسب، فكان الجمع بين الفرضين أولى من اسقاط أحدهما (1)، انتهى.
وظاهر إطلاق الاجماع الذي ادعاه: عدم الفرق بين وجدان الكفاية
وعدمه، بل استشهاده يدل على القطع بإرادة هذا الفرد من معقد الاجماع.
وأما عدم الجواز مع الغنى والتعين، فلعدم المصلحة فيه، لعدم جواز
التقاعد عنه حتى يكون الرزق داعيا إليه، بل التقاعد عنه إلى أن يعطى
الرزق حينئذ موجب للفسق المخرج عن أهلية القضاء.
وكذا يجوز إعطاء القاضي الغني إذا علم أن يتطوع بالقضاء من دون
التماس رزق، فإن وجد متطوعا لم يجز له اعطاء من يطلب عليه الرزق،
كما صرح به في المبسوط (2) والسرائر (3)، فإطلاق بعضهم جواز إعطاء الغني
محمول على ذلك.
ومما يدل على جواز إعطاء الرزق للقضاة: رواية حماد الطويلة
الواردة في الخمس وغيره من حقوق الله وفيها: " وأما الأرضون التي
أخذت عنوة فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها أو يحييها - ثم ذكر
الزكاة وحصة العمال، إلى أن قال -: ويؤخذ الباقي فيكون أرزاق أعوانه
على دين الله وفي مصلحة ما ينويه من تقوية الاسلام وتقوية الدين في

(1) المبسوط 8: 84.
(2) المبسوط 8: 160.
(3) السرائر 2: 178.
105

وجوه الجهاد وغير ذلك، ثم قال: إن الله تعالى لم يترك شيئا من الأموال
إلا وقد قسمه فأعطى كل ذي حق حقه، الخاصة والعامة والفقراء
والمساكين، وكل صنف من صنوف الناس.. الخبر " (1).
وعن نهج البلاغة: " واعلم أن الرعية طبقات، منها: جنود الله،
ومنها: كتاب العامة والخاصة، ومنها: قضاة العدل - إلى أن قال -: وكل قد
سمى الله به سهمه ووضعه على حده وفريضته، ثم قال: ولكل على الوالي
حق بقدر ما يصلحه، ثم قال: واختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في
نفسك ممن لا يضيق به الأمور.. ثم ذكر صفات القاضي، ثم قال: وأكثر
تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يزيح علته وتقل معه حاجته
إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره.. الخبر " (2).
ثم إن الفرق بين الرزق والأجر واضح عرفا وشرعا، فإن الرزق
بمنزلة الوظائف التي يأخذها أهل المناصب في زماننا، كالقاضي وشيخ
الاسلام من السلطان الجائر، فإنه لا يسمى أجرا قطعا، ولذا لو فرضنا أنه
لم يقع في تلك السنة مرافعة كثيرة، بل مرافعة أصلا لم يسترد منه شيئا.
ثم إنه ذكر الشيخ قدس سره في موضع (3) من المبسوط ضابطا لما يجوز أخذ
الأجرة أو الرزق عليه وما لا يجوز. فقال: كل عمل جاز أن يفعله الغير
عن الغير تبرعا جاز بعقد إجارة كالخياطة والبناء، وكل ما لا يجوز

(1) الوسائل 18: 162، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.
(2) نهج البلاغة، الكتاب (53)، والوسائل 18: 163، الباب 8 من أبواب آداب
القاضي، الحديث 9.
(3) في " ق ": غير موضع، ويحتمل أنه شطب على كلمة " غير ".
106

أن يفعله الغير عن الغير، ولكنه إذا فعله عن نفسه عاد نفعه إلى الغير جاز
أخذ الرزق، ولا يجوز أخذ الأجرة، كالأذان والإقامة والإمامة والقضاء
والخلافة. وكل ما لا يجوز أن يفعله الغير عن الغير، وإذا فعله عن نفسه
لم يعد نفعه إلى الغير لم يجز أخذ الرزق عليه ولا الأجرة، كصلاة الفرض
وصلاة التطوع، وحجة الفرض (1)، انتهى.

(1) المبسوط 8: 134.
107

المقصد الثاني
في كيفية الحكم وبعض آدابه
109

في كيفية الحكم وبعض آدابه
(إذا حضر الخصمان) عند القاضي، جلسا (بين يديه) استحبابا،
كما عن التحرير (1) وغيره (2)، لما روي في المبسوط من أنه: " قضى
رسول الله صلى الله عليه وآله أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي " (3)،
ولرواية شريح الآتية (4).
ويجوز القيام - أيضا - كما عن التحرير (5).
وكيف كان، فإذا حضرا (سوى بينهما في السلام) عليهما، ورده
لو سلما عليه. ولو لم يمكن التسوية في جوابهما ابتداء، بأن سبق أحدهما
بالتسليم صبر رجاء أن يسلم الآخر فيجيبهما معا. فإن طال الفصل بحيث
يخرج عن كونه جوابا للأول فيرد فبله على المسلم، كذا في المسالك (6).

(1) التحرير 2: 185.
(2) انظر القواعد 2: 205.
(3) المبسوط 8: 149.
(4) نفس المصدر، ويأتي في الصفحة: 113.
(5) التحرير 2: 186.
(6) المسالك 2: 294.
111

(و) في (الكلام) بأن يبدأ أحدهما بالكلام منفردا
كما عن النهاية (1) والسرائر (2).
(و) في (القيام) لهما إذا قام (و) في (النظر) إليهما
بأن لا يكون نظره إلى أحدهما أكثر.
(و) كذا سائر (أنواع الاكرام) من طلاقة الوجه وطرز الكلام
والمجلس.
وهل التسوية المذكورة على سبيل الوجوب - كما عن الصدوقين (3)
والمحقق (4) والمصنف (5) والشهيد (6)، بل عن المشهور (7) - أو على الاستحباب
كما عن المختلف (8) والسرائر (9) وشرح الكتاب (10) والكفاية (11)

(1) النهاية: 338.
(2) السرائر 2: 157.
(3) انظر المختلف: 700، والمقنع (الجوامع الفقهية): 33.
(4) الشرائع 4: 80.
(5) التحرير 2: 183.
(6) اللمعة الدمشقية: 94.
(7) انظر الروضة البهية 3: 72.
(8) المختلف: 701.
(9) السرائر 2: 157.
(10) مجمع الفائدة 12: 54.
(11) الكفاية: 266، والظاهر أنه رحمه الله توقف في المسألة، كما في مفتاح الكرامة
10: 30.
112

وكشف اللثام (1) والرياض (2)؟ قولان، أقواهما: الثاني، للأصل السليم
عما ينهض للورود عليه، عدا رواية سلمة بن كهيل عن أمير المؤمنين عليه السلام،
أنه قال لشريح: " ثم واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى
لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوك من عدلك " (3).
وفي النبوي: " من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في نظره
وإشارته ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر " (4).
وفي العلوي: " من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النظر
وفي المجلس " (5).
وعن الرضوي: " واعلم أنه يجب عليك أن تساوي بين الخصمين
حتى في النظر إليهما، حتى لا يكون نظرك إلى أحدهما أكثر من نظرك
إلى الثاني " (6).
والروايات ضعيفة السند، وإن كان ابن محبوب في طريق الأولى،
مع أن ذيلها - الدال على كون الغرض من ذلك رفع التهمة، وسوء ظن
الصديق والعدو - مشعر بالاستحباب.
هذا، مضافا إلى كون ذلك حرجا على القاضي، بل على أحد الخصمين

(1) كشف اللثام 2: 328.
(2) الرياض 2: 394، ويظهر من كلامه أنه قائل بالوجوب.
(3) الوسائل 18: 155، الباب الأول من أبواب آداب القاضي، الحديث الأول
(4) المغني، لابن قدامة 9: 80، مع تفاوت في الألفاظ.
(5) الوسائل 18: 157، الباب 3 من أبواب آداب القاضي، الحديث الأول.
(6) الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السلام: 260.
113

غالبا.
(و) أما (الانصات (1) وهو الاستماع للمتكلم منهما، فلا إشكال
في وجوبه، لتوقف العدل في الحكم عليه.
(و) لا كلام في أنه (لا يجب التسوية) بينهما (في الميل
القلبي)، لأنه غير مقدور للانسان إلا بعد المجاهدة ليرى الناس كالأباعر.
نعم، يكره حب توجه القضاء لأحدهما على صاحبه، وإظهار ذلك
ولو لله سبحانه بالدعاء، كما في رواية الثمالي عن الباقر عليه السلام، قال:
" كان في بني إسرائيل قاض يقضي بالحق فيهم، فلما حضره الموت قال
لامرأته: إذا أنا مت فاغسليني وكفنيني وضعيني على سريري وغطي وجهي،
فإنك لا ترين سوءا، فلما مات فعلت ذلك، ثم سكنت (2) بذلك حينا، ثم إنها
كشفت عن وجهه لتنظر إليه فإذا هي بدودة تقرض منخره، ففزعت
من ذلك، فلما كان الليل أتاها في منامها فقال لها: أفزعك ما رأيت؟ قالت:
أجل، لقد فزعت. فقال لها: أما لئن كنت فزعت ما كان الذي رأيت إلا في
أخيك فلان، أتاني ومعه خصم له، فلما جلس إلي قلت: اللهم اجعل الحق له
ووجه القضاء على صاحبه، فلما اختصما إلي كان الحق له، ورأيت ذلك بينا
في القضاء، فوجهت القضاء له على صاحبه، فأصابني ما رأيت لموضع هواي
كان مع [موافقة] الحق (3).

(1) في الإرشاد زيادة: " والعدل في الحكم ".
(2) في المصدر: مكث.
(3) الوسائل 18: 164، الباب 9 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2، والزيادة من
المصدر.
114

(ولا) يجب التسوية أيضا في المجلس (بين المسلم والكافر، فيجوز
إجلاس المسلم وإن كان الكافر قائما)، ولذا لما ترافع أمير المؤمنين عليه السلام
مع يهودي إلى شريح، فقام شريح وجلس الأمير عليه السلام مكانه، وجلس شريح
واليهودي بين يديه، فقال عليه السلام: " لولا أنه ذمي لجلست معه بين يديك،
غير أني سمعت النبي صلى الله عليه وآله: لا تساووهم في المجلس " (1).
والظاهر أن وجوب التسوية بينهما في سائر الأمور أيضا ساقط،
لأن العمدة في هذا الحكم رواية سلمة بن كهيل المتقدمة (2)، وهي مختصة
بالمسلمين، بل الثانية كذلك أيضا، بل الثالثة والرابعة، حيث دلتا - بالظهور
أو النصوصية - على رجحان التسوية في المجلس المفقودة في الذمي، فيكشف
عن اختصاصه بالمسلمين، إلا أن الحكم بالاستحباب لا يخلو عن وجه،
لرفع التهمة.
(ويحرم عليه تلقين أحد الخصمين) ما فيه ضرر على صاحبه،
بأن يعلمه دعوى صحيحة مع عدم إتيانه بها، كأن يكون مترددا أو ظانا،
فيلقنه أن يوقع الدعوى بصورة الجزم، لتسمع (وتنبيهه على وجه الحجاج)،
بأن يدعي عليه قرض فيريد أن يجيب بالايفاء، فيلقنه الجواب بإنكار
الاشتغال، ونحو ذلك.
قيل، لأنه نصب لصد المنازعة، وفعل هذا يفتح بابها (3)، وفيه تأمل،

(1) المبسوط 8: 149.
(2) تقدمت في الصفحة: 113.
(3) قاله العلامة في القواعد 2: 205.
115

ولذا تأمل في الحرمة، بل مال إلى عدمها جماعة، أولهم الشارح قدس سره (1).
نعم، لو قلنا بوجوب التسوية أمكن تحريم ذلك بالفحوى، ويشعر به
أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما أنا بشر أقضي بينكم بالبينات، ولعل بعضكم
ألحن بحجته، وإنما أقضي على نحو ما أسمع " (2).
ويؤيده ما ورد من أن " يد الله ترفرف فوق رأس القاضي، فإذا
حاف وكله الله إلى نفسه " (3)، فإن الظاهر أن هذا حيف.
وذكر في المسالك، أنه لا بأس بالاستفسار، وإن أدى إلى صحة
الدعوى، بأن يدعي دراهم فيقول: أهي صحاح أم مكسورة؟
إلى غير ذلك، ويحتمل المنع أيضا (4)، انتهى.
أقول: والمنع محكي عن الحلي، حيث قال في السرائر: إن لم يحرر
الدعوى ولم يحسن ذلك، فلا يجوز للحاكم أن يلقنه تحريرها (5)، انتهى.
وكيف كان، فلا ينبغي الاشكال في جواز التلقين إذا علم الحاكم حقية
دعواه، ولم يرد العمل بعلمه، لكون المقام محل التهمة، أو لأنه لا يرى العمل

(1) انظر مجمع الفائدة 12: 54، والكفاية: 266، والجواهر 40: 144.
(2) الوسائل 18: 169، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، والظاهر أن ما ذكره المؤلف قدس سره مقتبس من روايتين، وهما الرواية الأولى والثالثة من هذا
الباب.
(3) الوسائل 18: 164، الباب 9 من أبواب آداب القاضي، الحديث الأول، مع
تفاوت يسير.
(4) المسالك 2: 294.
(5) السرائر 2: 177 - 178.
116

بعلمه، كأن يعلم بإيفائه للدين فأراد أن يجيب بالايفاء فيلقنه الجواب بإنكار
الاشتغال.
والظاهر عدم حرمة التلقين من غير الحاكم.
(و) إذا حضر خصمان وزعم كل منهما أنه المدعي، فإن سبق
أحدهما صاحبه بالدعوى، فلا اشكال في أنه (يسمع) الحاكم (من
السابق بالدعوى)، لما سيجئ من لزوم تقديم الأسبق فالأسبق، ولأنه
لولا ذلك لم ينته التداعي والمزاحمة ولم يحصل الفصل (فإن اتفقا) من دون
سبق (ف‍) يسمع (من الذي عن يمين صاحبه) عند الجلوس بين يدي
القاضي على المشهور، بل عن الشيخ دعوى الاجماع عليه والأخبار (1)،
وعن السيد أنه مما انفردت به الإمامية (2)، والأصل فيه - كما في المسالك (3) -
رواية ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: " أن رسول الله صلى الله عليه وآله قضى
أن يقدم صاحب اليمين في المجلس بالكلام " (4)، ويمكن تأييده برواية ابن
سنان: " إذا تقدمت مع خصم إلى وال - أو إلى قاض - فكن عن يمين
خصمك " (5)، بناء على أنه لا فائدة فيه إلا تقديمه في سماع الدعوى، وفي
دلالتهما على المدعى نظر، كما اعترف به غير واحد (6). فالقرعة - كما قواه

(1) الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 32.
(2) الإنتصار: 243.
(3) المسالك 2: 295.
(4) الوسائل 18: 160، الباب 5 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.
(5) الوسائل 18: 159، الباب 5 من أبواب آداب القاضي، الحديث الأول.
(6) انظر المسالك 2: 259، والرياض 2: 394.
117

الشيخ رحمه الله، وحكاه عن بعض العامة - أولى، وأقوى منه بحسب القاعدة
كما سيجئ تخيير القاضي، كما حكاه عن بعض آخر من العامة (1)،
وعن الإسكافي (2) حمل صاحب اليمين على المدعي، لأنه هو الذي يطلب
الحلف من المنكر، فالرواية دالة على تقديم المدعي، وفيه ما لا يخفى
(ولو تضرر أحدهما بالتأخير قدمه (، إذ لا ضرر ولا ضرار.
(ولو تعدد الخصوم) وترتبوا في الادعاء على خصومهم (بدئ
بالأول فالأول) اتفاقا، على ما استظهره بعض (3)، لأن تقديم المتأخر ميل،
بل حيف منهي عنه، ولأحقية السابق في جميع الحقوق المشتركة.
وفي كلا الوجهين نظر.
(فإن وردوا دفعة) أو اشتبه السبق أو السابق (أقرع) بينهم، على
المشهور ظاهرا، بل عن السرائر (4) نسبته إلى رواية أصحابنا، لعموم قول
أبي الحسن عليه السلام في رواية محمد بن حكيم: " كل مجهول ففيه القرعة " (5)،
وعن الشيخ في النهاية: إنه روي عن أبي الحسن عليه السلام وعن غيره من
أبنائه وآبائه عليهم السلام " كل مجهول فيه القرعة، فقلت: إن القرعة تخطئ

(1) انظر الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 32.
(2) انظر المختلف: 699، وفيه: يحتمل أن يكون أراد بذلك المدعي لأن صاحب اليمين
هو واليمين مردودة إليه.
(3) انظر المناهل: 715.
(4) السرائر 2: 156.
(5) الوسائل 18: 189، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 11.
118

وتصيب. فقال: كل ما حكم الله به فليس بمخطئ " (1)، وعن الخلاف أنه
مذهبنا في كل أمر مجهول (2)، وظاهر المجهول في الرواية ومعقد الاتفاق:
الموضوع المشتبه المندرج واقعا تحت أحد عنوانين علم حكمهما، فيختص
فيما تحقق السبق واشتبه السابق، أما مع العلم بعدم السبق فلا اشتباه، إلا أن
يراد من المجهول ما يعم ما جهل حكمه الخاص الثابت في الموضوع الخاص
من جهة المصالح الجزئية، فإن الواردين دفعة وإن علم بعدم مرجح لأحدهما
من حيث العنوانات الكلية المتعلقة للأحكام الكلية الشرعية، ولذا كان
الحكم فيها التخيير الواقعي للحاكم، لولا أدلة القرعة - إلا أن المرجحات
الجزئية الموجودة في الموارد الجزئية غير معلومة الانتفاء، بل معلومة التحقق
عادة، فالقرعة لاستخراج الراجح بهذه التراجيح الخفية، فهي نظير
الاستخارة في الأمور الخالية عن المرجح الظاهر الشرعي لبعضها على بعض،
كما يشير إليه دعاء القرعة بعد التسمية: " اللهم فاطر السماوات والأرض،
عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا
فيه يختلفون، أسألك بحق محمد وآل محمد، أن تصلي على محمد وآل محمد،
وأن تخرج لي خير السهمين في ديني ودنياي وآخرتي وعاقبة أمري،
في عاجلة (2) أمري وآجله، إنك على كل شئ قدير، ما شاء الله لا قوة

(1) النهاية: 346، والوسائل 18: 189، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى، الحديث 11.
(2) الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 32.
(3) في الوسائل: عاجل أمري.
119

إلا بالله وصلى الله على محمد وآله " (1).
هذا، مضافا إلى ما دل على عموم مشروعية القرعة فيما كان من
هذا القبيل، ففي صحيحة حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر، عن
أبي عبد الله عليه السلام في رجل قال: أول مملوك أملكه فهو حر، فورث ثلاثة.
قال: " يقرع بينهم فمن أصابته القرعة أخرج (2)، قال: والقرعة سنة " (3).
ثم إن الظاهر من اطلاق القرعة في النصوص والفتاوى لزوم الاقراع
في كل واقعة، بأن يقرع لكل من الخصوم قرعة مستقلة، بأن يكتب أسماء
الخصوم ويجعلها في بنادق (4) من طين أو شمع ويجعله عند من لم يحضر،
فيقال له: أخرج، كما صرح به كاشف اللثام (5) وتبعه غيره (6).
وهذا قيد يؤدي إلى مشقة القاضي، ولذا قيده في المبسوط بما إذا كان
العدد قليلا يمكن الاقراع بينهم، قال: وإن كثروا وتعذرت القرعة كتب
الحاكم أسماءهم في رقاع وجعلها بين يديه ومد يده فأخذ رقعة بعد رقعة
كيف ما اتفق، لأن القرعة تعذرت (7)، انتهى.

(1) الوسائل 18: 191، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم والدعوى، الحديث 19.
(2) في المصدر: أعتق.
(3) الوسائل 18: 187، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم والدعوى، الحديث 2.
(4) البنادق: جمع " بندقة "، وهي طينة مدورة مجففة (مجمع البحرين 5: 141،
مادة بندق).
(5) كشف اللثام 2: 328.
(6) انظر الجواهر 40: 146.
(7) المبسوط 8: 153.
120

وتبعه عليه جماعة ممن تأخر عنه (1)، والظاهر أن القرعة يصدق
على هذا أيضا، كما اعترف به بعض (2)، سيما إذا جعل الرقاع في بنادق.
وذكر في المبسوط أيضا: أنه إذا قدم رجلا بالسبق أو القرعة أو الرقعة
فحكم بينه وبين خصمه، فإذا فرغ صرفه وقال: قم حتى يتقدم من بعدك،
فإن قال: لي حكومة أخرى لم يلتفت إليه، لأنه لو قضي بينه وبين كل
من يخاصمه أفضى إلى أن يستغرق المجلس لنفسه (3) انتهى. وظاهره
عدم الحكومة بين الأول وبين خصم آخر.
ولو كان له حكومة أخرى مع الخصم الأول، ففي تقديمه على غيره
وجهان، من اقتضاء القرعة تقديمه، ولهذا قال بعض (4) - على ما حكي -
بوجوب كتابه أسماء الخصوم أيضا، بل عن السرائر نسبة ذلك إلى رواية
أصحابنا (5)، ومن اختصاص القرعة بما إذا لم يدل على خلافها دليل شرعي
ظاهر، مثل لزوم تعطيل أحكام الناس، فلعل له مع خصمه حكومات
لا تنقضي في يوم واحد.
ولعل الأنسب قصد الحكومة الواحدة للشخص الواحد حين الاقراع
مع كتابة خصمه أيضا، فإن كان له خصم آخر أو حكومة أخرى مع خصمه
الأول، كتب ثانيا على النهج السابق وجعل في الرقاع. وهنا فروع غير مهمة

(1) انظر السرائر 2: 156، والمراسم 230، والتحرير 2: 183.
(2) انظر المسالك 2: 294، والجواهر 40: 146.
(3) المبسوط 8: 153.
(4) انظر السرائر 2: 156.
(5) السرائر 2: 156.
121

اشتغلنا عنها بما هو أهم.
(و) اعلم أنه (إذا اتضح الحكم) ولم يبق فيه اشتباه حكمي
ولا موضوعي بحسب الأدلة المقررة من الشارع (وجب) الحكم، إذا
التمسه من هو له، وهو المدعي مع البينة، والمنكر مع اليمين.
(و) لكن (يستحب) للحاكم (الترغيب) لمن له الحكم
(بالصلح)، وفاقا للمحكي عن المبسوط (1) والسرائر (2) وكثير (3)، لكون
الصلح خيرا، ولصحيحة هشام بن سالم: " لئن أصلح بين خصمين، أحب إلي
من أن أتصدق بدينارين " (4)، ورواية أبي حنيفة سائق الحاج، قال:
مر بنا المفضل وأنا وختني نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة ثم قال لنا:
تعالوا إلى المنزل، فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمئة درهم، فدفعها إلينا من عنده،
حتى إذا استوثق كل منا من صاحبه، قال: أما إنها ليس من مالي،
ولكن أبو عبد الله عليه السلام أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا لشئ
أن أصلح بينهما وأفتديهما من ماله " (5).
قال في محكي السرائر: وله أن يأمرهما بالصلح ويشير بذلك، لقوله
تعالى: (والصلح خير) (6)، وما هو خير فللانسان فعله، بغير خلاف من

(1) المبسوط 8: 170.
(2) السرائر 2: 160.
(3) انظر اللمعة: 95، والروضة البهية 3: 75، والجواهر 40: 145.
(4) الوسائل 13: 162، الباب الأول من أبواب أحكام الصلح، الحديث الأول.
(5) الوسائل 13: 162، الباب الأول من أبواب أحكام الصلح، الحديث 4.
(6) النساء: 128.
122

محصل. وقد يشتبه هذا على كثير من المتفقهة، فيظن أنه لا يجوز للحاكم
أن يأمر بالصلح، ولا أن يشير به، وهذا خطأ من قائله " (1) انتهى.
وعن تفسير العسكري عليه السلام الحاكي لكيفية قضاء
رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه بعد ثبوت جرح الشهود: " أنه لم يهتك
ستر الشاهدين ولا عابهما ولا وبخهما ولكن يدعو الخصم إلى الصلح،
فلا يزال بهم حتى يصطلحوا.. الخبر " (2).
لكن الظاهر منه اختصاص الترغيب بصورة ثبوت جرح البينة
عنده صلى الله عليه وآله، وعدم اطلاع المتداعيين على ذلك، وإلا فصدره وذيله
دال على الحلف بعد عدم البينة، أو جرح المدعى عليه لها، من غير تعرض
للحلف، وظاهر الروايتين المتقدمتين أيضا رجحان الصلح قبل ثبوت الحجة
لأحدهما، وإن كان ظاهر أولهما مطلقا، مع أن الحكم حق لمن هو أهله،
فيجب فورا عند مطالبة صاحبه، كغيره من حقوق الناس (3).
[(وإن أشكل أخر إلى أن يتضح.
ولو سكتا استحب أن يقول: ليتكلم المدعي، أو يأمر به إن احتشماه.
وإذا عرف الحاكم عدالة الشاهدين حكم بعد سؤال المدعي، وإلا طلب
المزكي)] (4).

(1) السرائر 2: 160.
(2) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: 674، الحديث 376.
(3) في " ق ": هنا بياض بمقدار ثلاث صفحات، وأشار إلى ذلك ناسخ " ش " في الهامش
ولعله ترك ذلك لشرح ما أوردناه بين معقوفتين.
(4) من كتاب الإرشاد.
123

(ولا يكفي) في ثبوت عدالة الشاهد (معرفته بالاسلام) كما عن
الإسكافي (1) والمفيد (2) والشيخ في الخلاف (3)، وقواه في السرائر (4)، وهو الظاهر
من الوسيلة (5). إما بناء على ما تقرر في الشريعة من أصالة الصحة، لأجل
أن الاسلام ملكة رادعة عن المعاصي، أو لما دل على حمل أمور المسلمين
تركا وفعلا وقولا على الصحة (6)، فلا يترك واجبا ولا يفعل محرما، وإما لأن
المستفاد من الأدلة كون الفسق مانعا، فيدفع عند الشك بالأصل، وإما لما دل
على كفاية مجرد الاسلام وعدم ظهور الفسق في ثبوت العدالة،
مثل قوله عليه السلام لشريح - في رواية سلمة بن كهيل -: " واعلم أن المسلمين
عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد لم يتب منه، أو معروفا
بشهادة زور أو ظنين " (7).
وقوله عليه السلام في رواية علقمة الآتية: " فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا
ولم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة
وإن كان في نفسه مذنبا، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية الله،

(1) انظر المختلف: 717.
(2) انظر المقنعة: 725.
(3) الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 10.
(4) السرائر 2: 117.
(5) الوسيلة: 230.
(6) منها في أصول الكافي 2: 361، 362، وفي الوسائل 8: 613، الباب 161 من
أبواب أحكام العشرة.
(7) الوسائل 18: 155، الباب الأول من أبواب آداب القاضي، الحديث الأول.
124

داخل في ولاية الشيطان.. الحديث " (1).
وإما لما دل على قبول شهادة المسلمين مع عدم العلم بفسقهم، مثل
قوله عليه السلام: " إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم " (2) خرج منه من علم
فسقه.
ومثل مصححة حريز - في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنى
فعدل منهم اثنان ولم يعدل الآخران - قال: فقال: " إذا كانوا أربعة نفر
من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعا، وأقيم الحد
على الذي شهدوا عليه، إنما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا به وعلموا،
وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم جميعا، إلا أن يكونوا معروفين بالفسق " (3).
ورواية علقمة قال: قال الصادق عليه السلام - وقد قلت له: أخبرني
عمن تقبل شهادته ومن لا تقبل؟ فقال: " يا علقمة كل من كان على فطرة
الاسلام جازت شهادته، فقلت له: تقبل شهادة مقترف للذنوب؟ فقال:
يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لم تقبل إلا شهادة الأنبياء
والأوصياء، لأنهم هم المعصومون دون سائر الخلق، فمن لم تره بعينك
يرتكب.. إلى آخر ما تقدم " (4).
لضعف الكل، أما أصالة الصحة، فلمنع كون الاسلام رادعا عن

(1) الوسائل 18: 292، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 13.
(2) الكافي 5: 299، الحديث الأول.
(3) الوسائل 18: 293، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 18.
(4) الوسائل 18: 292، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 13. وانظر تمام
الحديث في الصفحة السابقة.
125

المعاصي، كيف؟! وما ركب في النفوس من قوتي الشهوية والغضبية
مقتض لها. ومجرد وجوب حمل أمورهم على الصحة لا يوجب الحكم
بوجود العدالة المخالفة للأصل، وحمل قولهم على الصحة لا يوجب الحكم
بقول بعضهم على بعض.
وأما دعوى مانعية الفسق لقبول الشهادة، فيكذبها الأدلة الكثيرة من
الكتاب والسنة على كون العدالة شرطا، مثل قوله تعالى: (اثنان ذوا عدل
منكم) (1) وقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (2)، فإن الأمر هنا
للوجوب الشرطي، فدل على اشتراط الطلاق بشهادة عدلين فليس التمسك
بمفهوم الوصف كما زعم، وقوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) (3)، خصوصا
بملاحظة ما ورد في تفسيره عنه عليه السلام بقوله: " ترضون دينه وأمانته
وصلاحه " (4)، فلا حاجة إلى تقييدها بالآية السابقة كما يزعم، إلا أن الظاهر
أن الأمر للارشاد، فيسقط الاستدلال به كما هو واضح، وقوله تعالى: (إن
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة) (5)، الدال بهموم التعليل على
مانعية خوف الوقوع في الندم بقبول الخبر، فيشترط فيه زوال الخوف،
المشترك بين خبر الفاسق وخبر مجهول الحال، فاندفع توهم مانعية خصوص

(1) المائدة: 106.
(2) الطلاق: 2.
(3) البقرة: 282.
(4) الوسائل 18: 295، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 23.
(5) الحجرات: 6.
126

الفسق. والأخبار الدالة على اشتراط العدالة أو ما هو مساوق لها متواترة
جدا، فلا بد من إحراز الشرط، ولا يكفي عدم العلم بعدمه.
ثم لو سلمنا مانعية الفسق، منعنا عن اعتبار أصالة العدم قبل الفحص
في مثل المقام، وإن كان الشبهة في الموضوع، لأن اللازم منه تضييع حقوق
كثيرة، بل الهرج والمرج في الأنفس والأموال والأعراض، فتأمل.
وأما رواية سلمة بن كهيل (1)، فهي على تقدير سلامة سندها تدل على
خروج الظنين، وهو المتهم، ومجهول الحال متهم، فتأمل. مع أن سوق
الرواية اعتبار العلم أو الظن بعدم كونه مجلودا أو معروفا بشهادة الزور
أو ظنينا، إلا أن هذه موانع تدفع عند الشك بالأصل من دون فحص،
وقد دل غير واحد من الأخبار (2) على كون الفاسق داخلا في الظنين.
وأما رواية علقمة (3)، فالظاهر أن المراد منها بقرينة قوله عليه السلام:
" فهو من أهل العدالة والستر " من لم تره بعد المباشرة والفحص في الحال
يرتكب ذنبا، وإلا فكيف يمكن الحكم على مجهول الحال الذي ما رأيناه
إلا في مجلس المرافعة أنه من أهل الستر؟ ويؤيده قوله: " وإن كان في نفسه
مذنبا " يعني فيما بينه وبين الله تعالى، فالرواية في مقام أن مجرد المعصية
ولو في الباطن لا يقدح، كما يشعر به قوله عليه السلام: " وإلا لم تقبل إلا شهادة
الأنبياء والأوصياء " فإن هذه الملازمة لا تستقيم إلا إذا كان مجرد الذنب،
ولو في الباطن قادحا.

(1) المتقدمة في الصفحة: 124.
(2) الوسائل 18: 274، الباب 30 من أبواب الشهادات.
(3) المتقدمة في الصفحة: 124.
127

وأما مصححة حريز (1) فيرد عليها ما ذكرنا أخيرا في رواية سلمة بن
كهيل، وأما صدر رواية علقمة فيعرف المراد بقرينة ذيلها الذي عرفت المراد
منه.
ثم إن بعض ما ذكرنا في دلالة هذه الروايات وإن كان محلا للتأمل،
إلا أنه لا تأمل في أنه لو سلم ظهور بعضها وسلامة سنده وجب رفع اليد
عن إطلاقها - وإن بعد - بالأخبار الكثيرة الظاهرة، بل الصريحة في عدم
قبول قول مجهول الحال.
منها: ما روي عن تفسير (2) مولانا العسكري عليه السلام من مداومة
النبي صلى الله عليه وآله على استزكاء الشهود المجهولين على أبلغ الوجوه وأدقها،
والرواية طويلة ذكرناها في باب الجماعة.
ومنها صحيحة ابن أبي يعفور: " بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين
حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ "، جعل قبول الشهادة غاية لمعرفة
العدالة.
ومنها: ما دل على عدم قبول شهادة السائل بكفه، معللا بأنه
لا يؤمن على الشهادة (4).
ومنها: ما دل على عدم قبول شهادة القابلة إذا سئل عنها فعدلت (5).

(1) المتقدمة في الصفحة: 125.
(2) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: 673.
(3) الوسائل 18: 288، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث الأول.
(4) الوسائل 18: 281، الباب 35 من أبواب الشهادات، الحديث 2.
(5) الوسائل 18: 266، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 38.
128

ومنها: ما دل على عدم قبول شهادة الظنين والمتهم (1).
ومنها: ما دل على أن من كان على فطرة الاسلام وعرف بالصلاح
في نفسه جازت شهادته.
[(ولا البناء على حسن الظاهر، ولو ظهر فسقهما حال الحكم نقضه،
ويسأل عن التزكية سرا)] (3).
(ويفتقر المزكي) في التزكية (إلى المعرفة الباطنة المستندة إلى تكرار
المعاشرة)، لأن الملكة من الأمور الباطنة، والغالب التستر بالمعاصي فمعرفة
وجودها موقوفة على الخلطة التامة والصحبة المتأكدة. نعم، قد تحصل
المعرفة بأدنى خلطة، لكن الكلام مبني على الغالب.
وكيف كان، فظاهره اعتبار العلم بالملكة في مستند الشهادة بها وعدم
كفاية الظن بها في التعديل، وهو ظاهر غيره أيضا (4)، وصرح في القواعد
بأنه لا يجوز الجرح والتعديل بالتسامع (5)، بل ربما يظهر من هذا وغيره
عدم جواز العمل في طريق العدالة إلا بالعلم أو البينة كما في الجرح،
وهو مشكل، للزوم اختلال أمر الحكام، ولزوم الحرج على الناس في أمورهم

(1) الوسائل 18: 274، الباب 30 من أبواب الشهادات.
(2) الوسائل 18: 290، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 5.
(3) ما بين المعقوفتين من الإرشاد، ولم نقف على شرح المؤلف له فيما بأيدينا، وكتب
ناسخ " ش " في الهامش ما مفاده: يحتمل فقد ورقة أو أكثر هنا فإن مقدارا من متن
الإرشاد لم يشرح هنا.
(4) انظر الشرائع 4: 77، والجواهر 40: 114.
(5) القواعد 2: 206.
129

من المرافعات وغيرها.
والظاهر من كلماتهم الاتفاق على عدم كفاية مطلق الظن بالعدالة
سيما للحاكم، ولذا اعتبروا في المعدل: العدالة والتعدد والاستناد إلى العلم،
مضافا إلى عدم الدليل على اعتبار مطلق الظن، لأن انسداد باب العلم
بها غالبا، ولزوم الحرج - من الاقتصار على العلم أو البينة - لا يوجب
العمل بمطلق الظن إلا إذا لم يثبت من الشرع اعتبار خصوص مرتبة منه،
وقد ثبت في المقام من الأخبار المتكاثرة كفاية الظن البالغ حد الوثوق، حتى
يصح عرفا أن يقال: أنه عفيف صائن صالح، ويصدق عليه أن ظاهره
ظاهر مأمون، وأنه يوثق بدينه وأمانته، وأنه مرضي وممن يرضى،
وغير ذلك من العناوين المذكورة في النصوص (1). وكما يجوز العمل بهذا الظن
يجوز الاستناد إليه في التعديل، كما صرح به الشارح قدس سره (2).
ويمكن أن يراد من " المعرفة " في المتن ما يعم هذا، إذ يصدق عليه
عرفا أنه عرف بالعدالة، مع احتمال أنه لا يبعد أن يراد معرفة الأمور الباطنة
التي يستدل بها ولو ظنا على ثبوت العدالة لا معرفة نفس العدالة.
ويؤيد ذكرنا من جواز العمل بهذا الظن والاستناد إليه في الشهادة
ما في صحيحة ابن أبي يعفور، من قوله عليه السلام - بعد ذكر ما يثبت به
العدالة -: " والدليل على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم
على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، ويجب عليهم تزكيته

(1) راجع الوسائل 18: 288، الباب 41 من أبواب الشهادات.
(2) انظر مجمع الفائدة 12: 325.
130

وإظهار عدالته " (1).
وقوله عليه السلام في هذه الرواية - بعد الحث على فعل الصلوات الخمس
جماعة -: " ولولا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد لأحد بالصلاح ".
وقوله عليه السلام في الرواية المحكية عن الخصال: " ثلاث من كن فيه
أوجبت (2) له أربعا على الناس: إذا حدثهم فلم يكذبهم، وإذا وعدهم
فلم يخلفهم، وإذا خالطهم فلم يكذبهم، وجب عليهم أن يظهروا في الناس
عدالته، ويظهر فيهم مروته، ويحرم عليهم غيبته، ووجبت أخوته " (3).
ولا ريب أن المذكور فيها وفي الرواية السابقة من موجبات اظهار
العدالة والصلاح لا يوجب سوى الظن البالغ حد الوثوق.
ويؤيده أيضا - بعد ما ذكرنا من الأخبار (4) المتقدمة الدالة على جواز
العمل في قبول الشهادة بقول من وثق بثبوت الملكة [فيه] (5) - ما سيأتي في
باب الشهادات من القاعدة المستفادة من بعض الأدلة، أن كلما جاز العمل
به من الطرق الشرعية الظاهرية جاز الاستناد إليه في الشهادة، ومنه يظهر

(1) الوسائل 18: 288، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث الأول.
(2) في المصدر: أو جبن.
(3) الخصال: 208، باب الأربعة، الحديث: 29، وفيه: ثلاث من كن فيه أو جبن له
أربعا على الناس: من إذا حدثهم لم يكذبهم، وإذا خالطهم لم يظلمهم، وإذا وعدهم
لم يخلفهم، وجب أن تظهر في الناس عدالته، وتظهر فيهم مروءته، وأن تحرم عليهم
غيبته، وأن تجب عليهم أخوته، وانظر الوسائل 18: 293، الباب 41 من أبواب
الشهادات، الحديث 16.
(4) في " ق ": بالأخبار.
(5) من " ش ".
131

جواز استناد المعدل إلى شهادة العدلين، فتأمل.
والظاهر جواز استناده إلى الاستصحاب، وسيأتي تفصيل الكلام في
مستند الشهادة في باب الشهادات إن شاء الله تعالى (1).
(و) كيف كان، فالظاهر أنه (لا يجب) على الشاهد في التزكية
(التفصيل) لما له ملكة تركها من الكبائر، وفاقا للمشهور، لا لأن أسباب
الفسق غير محصورة الأنواع، ولا متناهية الأفراد، ولا لأن العدالة هي
الأصل والفسق طارئ، ولا لأن التعديل يرجع إلى الشهادة بأنه لم يشاهد
الفسق منه مع طول الصحبة فهي شهادة على النفي، لأن جميع ذلك محل نظر.
والتحقيق أن يقال: إن أريد من تعرضه للتفصيل تعرضه بقوله:
لم أشاهد منه بعد المعاشرة كذا وكذا.. إلى آخر المعاصي، بأن يشهد بترك
الكبائر عن ملكة، فلا ينبغي الاشكال في عدم وجوب التفصيل،
لأن المقصود من الاستزكاء استكشاف وجود الملكة الباعثة على ترك
ما يوجب فعله الفسق، وأما تركه بالفعل فإنما يستفاد من الملكة المانعة بمعونة
أصالة العدم، كما في مستصحب العدالة. كيف؟! ولولا الأصل لم يثبت ذلك
بقول الشاهد: " لم أر منه ذلك " لأن عدم الرؤية لا يعلم منه عدم الوجود،
بل ولا يظن منه ذلك، لأن كثيرا مما يوجب الفسق مما لم تجر العادة بفعلهما (2)
إلا في الخلوات. وترك المعاصي الظاهرة لا تدل على ترك مثل ذلك إلا إذا
أوجب علما أو ظنا بالملكة، فالأمارة على الترك في الحقيقة هي الملكة،
وقد شهد بها الشاهد.

(1) راجع باب الشهادات في الصفحة: 263 وما بعدها.
(2) كذا في " ق "، وفي " ش ": بفعلها. والظاهر أن الصحيح: بفعله.
132

وإن أريد تفصيل الكبائر التي يشهد له بملكة تركها بأن يقول: أشهد
أن له ملكة المواظبة على الواجبات، وترك كذا وكذا.. إلى آخر الكبائر،
من دون أن يشهد بتركها فعلا، فربما يرجح في النظر عدم الفرق بين التعديل
والجرح في ذلك، لما ذكره المصنف قدس سره في المختلف حيث قال: " إن الوجه
التسوية بينهما، يعني الجرح والتعديل. لنا أن المقتضي لتفصيل الجرح ثابت
في التزكية، فإن الشئ قد لا يكون سببا للجرح عند الشاهد ويكون
جارحا عند الحاكم، فإذا أطلق الشاهد التعديل تعويلا منه على عدم تأثير
ذلك الشئ فيه كان تغريرا للحاكم، بل الأحوط أن يسمع الجرح مطلقا،
ويستفصل عن سبب التعديل، لأنه أحوط للحقوق " (1)، انتهى.
إلا أنه يرد عليه، أولا: أن المزكي لا بد أن يمشي في الكبائر على
مذهب الفاعل دون مذهبه أو مذهب الحاكم، كما هو المتعين إذا اختلف
مذاهبهم في أصل المعصية، فما يعتقده الفاعل صغيرة أو يعتقده مباحا
لا يعتبر ملكة تركه فيه وإن كان عند المزكي والحاكم كبيرة، فيتوقف
التعديل حينئذ على معرفة مذهب الشاهد في الكبائر، ولا يحتاج إلى تفصيل
الكبائر أصلا، بل التفصيل لا ينفع، إذ لا يجوز للحاكم جرحه بما يكون
كبيرة عنده، إذ لعله مباح أو صغيرة عند الفاعل.
فما استند إليه المصنف قدس سره في لزوم التفصيل من احتمال اختلاف
المزكي والحاكم، محل نظر.
نعم يستقيم ذلك في الذنوب التي يراها الحاكم كبيرة والفاعل صغيرة،
إذا قلنا بأن ذلك أيضا يوجب التفسيق، لكنه محل نظر، بل الأولى هنا

(1) المختلف: 706.
133

أيضا: الاعتبار بحال الفاعل، نظير ما إذا اختلفا في أصل كون الفعل معصية
وثانيا: لو سلم أن العبرة في ذلك بمذهب الحاكم لم ينفع تفصيل
الكبائر، بل على ما عرفت - من قوله في المختلف: من أنه يحتمل أن يكون
شئ غير مؤثر عند المزكي مؤثرا عند الحاكم، فيكون الاطلاق تغريرا
للحاكم - يكون اللازم ذكر جميع ما يحتمل أن يكون كبيرة أو صغيرة ليشهد
له بترك الأولى والاصرار (1) على الثانية أو بثبوت ملكة ذلك له، وهذا
مما يعجز فحول العلماء عن استحضاره حين الزكية فضلا عن العوام،
فلو أهمل شيئا منها ولم يذكر تركه أو ملكة تركه، احتمل أن يكون
عند الحاكم كبيرة أو صغيرة يكون الاصرار عليه كبيرة.
نعم، لو ذكر الحاكم له أولا جميع ما هو كبيرة عنده وما هو صغيرة
عنده، ليشهد بترك الأولى وترك الاصرار على الثانية صح. لكن لا يخفى
ما فيه أيضا.
فحاصل ما ذكرنا، أن المزكي إذا قال: لفلان ملكة العدالة، فلا بد
من حمله على ملكة ترك ما هو كبيرة عند الفاعل، لا ما كان كبيرة في الواقع
باعتقاد الشاهد أو الحاكم، ولا يحتاج إلى تفصيل الكبائر، ولا ينفع تفصيلها.
نعم، يحتاج إلى علم المزكي بوجود ملكة ترك جميع المعاصي، أو علمه
بمذهب الفاعل في الكبائر ليعلم منه ملكة تركها بالخصوص، فافهم.
فتحصل مما ذكرنا: عدم وجوب التفصيل في التعديل (و) إن قلنا:
إن العبرة (في) أسباب (الجرح) بمذهب الحاكم.

(1) في " ش ": وترك الاصرار.
134

نعم، يصلح هذا مبنى للحكم بأنه (يجب) في الجرح (التفصيل (1)
على) ما هو (رأي) المشهور، لكنك قد عرفت أن العبرة بمذهب الفاعل
في تحقق أصل المعصية اجماعا، وفي تحقق الفسق بها على الأقوى، فحينئذ
لا يجوز له تفسيقه مستندا إلى سبب حتى يعرف منه اعتقاد كونه معصية
كبيرة، وإلا فإذا احتمل في حقه أن يكون قد اعتقد بالتقليد أو الاجتهاد أن
الفعل الفلاني مباح أو صغيرة لو يتوعد عليه بالخصوص، فضعف داعي تركه
لظن أنه من الصغائر المكفرة، لم يجز تفسيقه به.
نعم، لو كان كان جميع المعاصي عند الحاكم كبيرة مفسقة، ولم يكن الأمر
كذلك عند الفاعل، لم يبعد اعتبار مذهب الحاكم، لكن الاختلاف في هذه
المسألة لا يوجب وجوب التفصيل، لأن الجرح إن كان مستندا إلى ما يكون
معصية عند الفاعل كان فسقا عند الحاكم، وإلا لم يجز جرحه، لما عرفت من
أن العبرة في تحقق المعصية مذهب الفاعل اجماعا.
فظهر مما ذكرنا: عدم الفرق بين التعديل والجرح في صحة الاطلاق
وعدم وجوب [التفصيل] (2)، وإن القول المشهور بالتفصيل - في التفصيل بين
الجرح والتعديل - لم يقم عليه دليل، وأن ما ذكره في المختلف (3) أولا من
التسوية في لزوم التفصيل، وما جنح إليه أخيرا - وفاقا لبعض العامة (4) - من
عكس التفصيل، كلاهما عليل، خصوصا بعد التعليل بما ذكره في الأخير

(1) في الإرشاد: " التفسير ".
(2) من " ش ".
(3) المختلف: 705 - 706.
(4) وهو موافق لقول أبي حنيفة، انظر المغني لابن قدامة، كتاب القضاء 9: 69.
135

من إنه أحوط للحقوق.
وربما يستدل للمختار بأن من المعلوم المقرر في الشريعة حمل المشهود
به في جميع الشهادات على الأمر الواقعي، وإن كان مما اختلف في أسباب
تحققه بين العلماء، كما إذا شهد الشاهد بالملك أو بالنجاسة أو بغيرهما،
مع احتمال استناده إلى ما لا يكون سببا للمشهود به عند الحاكم.
وهذا حسن، لأن ما دل على وجوب تصديق قول العادل ظاهره
وجوب حمل مضمونه على ما هو المطابق للواقع، فإنه ليس بأدون مما دل
على وجوب تصحيح فعل المسلم، إلا أنه لا حاجة إليه فيما نحن فيه،
بناء على ما ذكرنا من كون العبرة بمذهب الفاعل، إذ العدالة والفسق
الواقعيان - حينئذ - يدوران مدار اعتقاد الفاعل، فليسا من قبيل الملكية
والطهارة والنجاسة.
نعم، يحتاج إلى هذه القاعدة بناء على ما ذكروه من أن العبرة بمذهب
الحاكم.
وكيف كان، فالظاهر أنه لا يجب تعرض المزكي لما سوى العدالة من
شروط قبول الشهادة، مثل انتفاء الأبوة والرقية والعداوة، بل ولا منافيات
المروة، بناء على كونها شرطا في قبول الشهادة لا مأخوذة في العدالة،
لأن جميع هذه الأمور مندفعة بالأصل، سواء جعلناها من قبيل الموانع
أم جعلنا عدمها شروطا، لأن الشرط إذا كان أمرا عدميا صح احرازه
بالأصل، فابتناء جريان الأصل في هذا المقام على كونها موانع، ضعيف.
ويظهر من المسالك اعتبار تعرض المزكي لذلك كله، ولذا اعتبر معرفة
136

المزكي بنسب الشاهدين ونسبتهما مع المتداعيين من حيث العداوة وعدمها (1)
وفيه نظر، لما عرفت.
بل الظاهر كلماتهم - حيث عنونوا المسألة بالتزكية والجرح - عدم
وجوب التعرض من المزكي بقبول شهادته في هذه الواقعة الخاصة،
بل ولا يجب ذلك على الحاكم أيضا، لاندفاع ذلك كله بالأصل الجاري
من دون اعتبار الفحص.
ولو ادعاه المشهود عليه أيضا، لم يسمع منه إلا بالبينة، إذ القول فيها
قول المشهود له.
ومن هنا ظهر أن الأقوى كفاية أن يقول المعدل: " إنه عدل "،
ولا يعتبر ضم قوله: " لي وعلي " ولا ضم " أنه مقبول الشهادة " دفعا.
لاحتمال عدم قبول شهادته بكثرة غفلته أو بموانع أخر، لأن كل ذلك
مندفع بالأصل، إلا أن تقوم بها البينة.
ثم إذا شهدت البينة بالتعديل، فإن لم يقم المشهود عليه بينة بالجرح
فهو، (ولو) أقام بينة بالجرح (واختلف الشهود [في الجرح والتعديل] (2)
قدم الجرح) إن لم يعارض مضمون شهادته المعدل، كما إذا أسند التعديل
إلى عدم رؤية الفسق منه بعد المعاشرة التامة، وشهد الجارح بصدور الفسق
منه في زمان يبعد مراقبة المعدل له في ذلك الزمان.
(وإن تعارضا) فإن كان أحدهما كالنص بالنسبة إلى الآخر قدم،
كما لو أطلقا الجرح والتعديل، فإنه يقدم الجرح، لا لعدم التنافي بين وجود

(1) المسالك 2: 292.
(2) من الإرشاد.
137

الملكة وصدور الكبيرة فيكون من القسم الأول، لأن الشهادة بالعدالة
الواقعية يتضمن اثبات الملكة مع تحقق الترك فعلا وإلا فالملكة المجامعة مع
الكبيرة ليست عدالة، بل السبب ابتناء التعديل - غالبا - على الاطلاع على
الملكة مع تحقق الترك فعلا، ولعدم الاطلاع عليه بعد المراقبة التامة الظاهرة
في الدلالة على الترك الواقعي.
ومثله ما لو استند المعدل إلى مشاهدته مواظبا للعبادة، وشهد الجارح
بفساد عباداته الواجبة والمندوبة، لخلل لم يطلع عليه المعدل، فإنه يقدم
الجرح.
وينعكس الأمر لو استند الجارح إلى مصيبة كبيرة، بناء على حصول
القطع له من ظاهر الحال مع عدم تفطنه بالاحتمال، وعدله المعدل مع اطلاعه
على ذلك الفعل، بحيث يكون ذلك إما لتوجيه ذلك الفعل على وجه
لا يوجب الفسق، وإما لاطلاعه على التوبة عنه في الزمان المتأخر،
كما لو قال الجارح: أنه عشار يأخذ العشور كل يوم، وشهد المعدل بأنه
عادل، فإن الظاهر أن المعدل مع ظهور اطلاعه على كونه عشارا لم يعدله
إلا لأجل أنه علم منه أن أخذ العشور لضرورة مسوغة كالتقية، أو لأجل
أنه علم منه التوبة.
وإن كانا كالنصين، كما لو ذكر الجارح أنه قتل فلانا بالأمس، وذكر
المعدل ملاقاته للمقتول اليوم، ونحو ذلك (وقف) الحكم عند المصنف
وغيره (1)، لعدم ثبوت التعديل، ولا بد من حمل ذلك على ما إذا لم يعلم
الحاكم حالة سابقة له، فإن علم عدالته فأتى المشهود عليه بالجارح فكذبه

(1) انظر المسالك 2: 292، والخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 12.
138

الشهود ببينة، أو علم الفسق فأتى الشهود ببينة حدوث الملكة، وكذبه
المشهود عليه ببينة، كان الحكم - بعد التساقط - الرجوع إلى الحالة السابقة.
وربما يضعف التوقف مع عدم العلم بالحالة السابقة من جهة أصالة
عدم صدور الفسق، فإن الجارح لا يكذب المعدل في ثبوت الملكة،
وإنما يدعي صدور الفسق منه، فإذا كذبه العادل (1) في ذلك أيضا تساقطا من
جهة صدور الفسق، والملكة غير مكذبة.
[وفيه: أن العدالة إن كانت هي الملكة المجامعة لترك الكبائر فعلا
فلم يتحقق] (2) وهو حسن لو كان الجارح مكذبا للمعدل في دعوى ما زاد
على ملكة العدالة، لكون تكاذبهما في أمر خارج عن ملكة العدالة
كما في المثال المتقدم، لكنه في الحقيقة خارج عن مسألة تكاذب الجارح
والمعدل، وإن اشتهر التمثيل له بما هو من قبيل ذلك المثال، لأن معنى تكاذب
الجارح والمعدل أن يكون الجارح بجرحه مكذبا للمعدل بتعديله وبالعكس،
لا أن يتكاذبا في شئ خارج عن ملكة العدالة.
فالأولى التمثيل له بما إذا استند الجارح إلى أنه وجده من أول الشهر
الماضي إلى آخره مشغولا بالملاهي والفسوق ببغداد، واستند المعدل
في تعديله إلى أني رافقته من أول الشهر الماضي بعينه إلى آخره في حجرة
من حجرات المشهد المقدس فوجدته ذا ملكة قوية في المواظبة
على الطاعات والكف عن المناهي جميعا.
(ويحرم الشهادة بالجرح إلا مع المشاهدة) لسببه الذي يستند إليه

(1) في " ش ": المعدل.
(2) ما بين المعقوفتين من هامش " ق "، ولم يورده ناسخ " ش ".
139

عادة، ولو في ظاهر الحال، مع عدم تطرق الاحتمال المعتد به عرفا،
(أو) العلم به، لأجل (الشياع الموجب للعلم).
وأما مطلق الظن فلا يجوز الجرح به اجماعا، على ما يظهر من
بعضهم، لأنه كالعدالة في كونه أمرا باطنيا لا يحصل العلم به غالبا،
بل هي حسي، فهو كسائر الموضوعات التي قيل فيها: " على مثل الشمس
فاشهد أو دع " (1)، بل هذا أولى لمثل قوله عليه السلام: " كذب سمعك وبصرك
عن أخيك " (2) وغيره (3) مما دل على حرمة سوء الظن، فضلا عن إظهاره
للناس، خصوصا حكام الشرع.
نعم ربما يستفاد من بعض الأخبار المتقدمة في ثبوت الولاية
بالاستفاضة (4): جواز الجرح بالاستفاضة، ولعله تردد في المسالك في
جواز الاستناد إلى الشياع الموجب للظن المقارب للعلم، وإن جعل المنع
أولى (5)، وقد تقدم لك النظر في الخبر المذكور (6).
نعم، ربما يحتمل جواز الاستناد في الشهادة بالجرح بالبينة، كما يجوز
الاستناد فيها إلى الاقرار على ما صرح (7) به الشارح، وإلى الاستصحاب،

(1) الوسائل 18: 250، الباب 20 من أبواب الشهادات، الحديث 3.
(2) الوسائل 8: 609، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4.
(3) الوسائل 8: 613، الباب 161 من أبواب أحكام العشرة.
(4) راجع الصفحة: 73.
(5) المسالك 2: 293.
(6) راجع الصفحة: 73.
(7) مجمع الفائدة 12: 82.
140

إذ لولاه لما أمكن الشهادة بالفسق، لاحتمال التوبة (و) حسن الحال،
كما أن (مع ثبوت العدالة) عند الحاكم في زمان بالعلم أو بالبينة
(ويحكم باستمرارها) للاستصحاب المتفق على جريانه، بل لولاه لا نسد باب
التعديل.
وفي اعتبار ظن الشاهد أو الحاكم ببقائها وجهان، أحوطهما ذلك،
ولعله لذا حكي عن بعض (1) تجديد النظر إذا مضت مدة يمكن فيها التغيير.
(ولو طلب المدعي) بعد إقامة البينة (حبس المنكر إلى أن يحضر
المزكي لم يجب) لأن الحبس عقوبة لم يثبت موجبها.
ولا فرق في ذلك بين كون العدالة شرطا أو كون الفسق ما نعا، لفقد
شرط الحكم على القولين، أما على الأول فواضح، وأما على الثاني فلأن
المفروض اشتراط العمل على الأصل بالفحص وإلا لم يوقف الحكم.
ومما ذكر يظهر ما في المسالك من ابتناء الحكم المذكور على كون
العدالة شرطا، وابتناء قول الشيخ بالحبس (2) على كون الفسق مانعا،
مع أنه استدل لقول الشيخ بأن الأصل في المسلم العدالة (3)، الظاهر في أنها
شرط مطابق للأصل، إلا أن يوجه الابتناء المذكور بأنه على القول
بمانعية الفسق يتم سبب الحكم بإقامة البينة ولو لم تعدل، وإنما يتفحص
عن المزكي مراعاة لجانب المنكر، ولذا لو اعترف بالتزكية لم يجب الفحص،

(1) المبسوط 8: 112.
(2) المبسوط 8: 93.
(3) المسالك 2: 289.
141

فإذا تم سبب الحكم ثبت حق المدعي، فإيقاف الحكم لحق المانع (1)
ففي الحبس جمع بين الحقين، وفي الاطلاق تضييع لحق المدعي، كما أن
في الحكم إضاعة حق المنكر.
وأما على القول بشرطية العدالة، فلم يتم ما على المدعي من إقامة
سبب الحكم.
وأما ما ذكره للشيخ من الاستناد إلى أصالة العدالة، فهو حسن على
مذهب الشيخ، لتمام سبب الحكم وبقاء حق المنكر، والابتناء الذي ذكره
إنما هو على المذهب المشهور في العدالة.
فحاصل ما ذكره: أنا لو قلنا بأصالة العدالة صح قول الشيخ وإن
كانت العدالة شرطا، ولو قلنا بعدمها فالمسألة مبتنية على كون العدالة شرطا
أو مانعا. فقد أتى قدس سره في المسألة بما لا مزيد عليه، غير أن المختار هو القول
المشهور إن (2) قلنا بمانعية الفسق، لأن تمام السبب لا يحصل إلا برفع المانع
فهو أيضا لحق المدعي، وسقوطه مع الاعتراف لو قلنا به فليس لكونه حقا
للمنكر.
(و) اعلم أنه (لا تثبت التزكية) في ظاهر الشريعة للحاكم
(إلا بشهادة عدلين)، للأصل وظهور الاجماع. [)
وكذا الترجمة.
ويجب في كتاب القاضي العدالة والمعرفة، ويستحب الفقه)] (3).
(وكل حكم ظهر) واتضح (بطلانه) إما لمخالفته لطرق قطع

(1) كذا ظاهرا.
(2) في " ش ": وإن.
(3) من الإرشاد، ولم نقف على شرح لهذه العبارة.
142

الدعوى المقررة في الشريعة، كأن حكم بالبينة أو اليمين أو القرعة
في غير محالها، وإما لمخالفته للحكم الشرعي الواقعي في تلك القضية،
كأن حكم بالعول أو العصبة، أو للحكم الاجتهادي فيها بأن تبين فساد
اجتهاده لغفلة عن معارض أو لغلط في رواية أو توهم صحة سندها
أو نحو ذلك، (فإنه) يجب عليه في هذه الموارد أن (ينقضه).
أما في الأولين، فلكونه حكما بالجور، فلو أنفذه كان ممن قضى بالجور
وهو يعلم.
وأما في الثالث، فلأن المفروض فساد الاجتهاد، وعدم صيرورة
الحكم ظاهريا في حقه، فهو كحكم العامي وإن لم يعلم مخالفته للواقع،
بل لو علم موافقته للواقع أيضا، فاللازم تجديد الحكم به، لأن السابق
كالعدم (سواء كان هو الحاكم) (1) به، (أو) كان الحاكم به (غيره،
وسواء كان مستند الحكم) في المسألة (قطعيا) كأن كان عليه نص كتاب
أو سنة متواترة أو إجماع (أو) كان اجتهاديا) كسائر ظنون المجتهد.
ثم إن الظاهر أن المراد بظهور البطلان هو العلم به، وحصوله فيما إذا
كان مستند الحكم قطعيا، ظاهر. وأما إذا كان ظنيا فلا يحصل القطع بالبطلان
إلا إذا وقع التقصير في الاجتهاد وبين فساده ولو لغفلة.
وحينئذ فالنقض في صورتين، إحداهما: صورة العلم بمخالفة الحكم
للواقع، والأخرى صورة العلم بمخالفته لمقتضى (2) الاجتهاد الصحيح
عند الحاكم به، وحينئذ فيوافق ما في القواعد من أنه إذا خالف دليلا قطعيا

(1) في الإرشاد: " كان الحاكم هو ".
(2) كذا ظاهرا، والكلمة غير واضحة، وفي " ش ": بمقتضى.
143

وجب عليه، وعلى غير الحاكم نقضه، وإن خالف به دليلا ظنيا
لم ينقض إلا أن يقع الحكم خطأ، بأن حكم بذلك لا لدليل قطعي ولا ظني
أو لم يستوف شرائط الاجتهاد (1)، انتهى (2).
ويمكن رد الصورتين إلى صورة التقصير في الاجتهاد، إذ مع وجود
الدليل القطعي لا يعدل إلى غيره إلا غفلة أو اشتباها.
فالمراد بظهور الخطأ: ظهور التقصير في الاجتهاد وفساده، كما فسره
به المحقق الشارح (3)، واستظهره من عبارة الشهيد في الدروس، حيث قال:
" ينقض الحكم إذا علم بطلانه، سواء كان هو الحاكم أو غيره وسواء أنفذه
الجاهل به أم لا، ويحصل ذلك بمخالفة نص الكتاب أو المتواتر من السنة
أو الاجماع أو خبر واحد صحيح غير شاذ أو مفهوم الموافقة أو منصوص
العلة عند بعض الأصحاب، بخلاف ما تعارض فيه الأخبار وإن كان بعضها
أقوى بنوع من المرجحات، أو ما تعارض فيه عمومات الكتاب أو السنة
المتواترة أو دلالة الأصل إذا تمسك الأول بدليل مخرج عن الأصل فإنه
لا ينقض " (4)، انتهى.
بناء على أن المعيار في النقض وجود دليل في المسألة، قطعي أو ظني
لا يتعداه المجتهد إلا غفلة أو اشتباها.

(1) القواعد 2: 206.
(2) ورد في هامش " ق " - هنا - عبارة: " وقد حمل في المسالك على ما ذكرنا عبارة
الشرائع، وهي أنه إذا قضى الحاكم الأول على غريم "، وسيأتي في الصفحة الآتية.
(3) مجمع الفائدة 12: 83، ذيل قوله: وكل حكم.
(4) الدروس 2: 76، مع اختلاف يسير في التعبير.
144

ولا فرق في ذلك بين الغفلة عن نفس ذلك الدليل الموجود كما إذا غفل
عن وجود الخبر الصحيح، وبين الغفلة عن دليل اعتباره كما لو أنكر أحد
حجية الخبر الصحيح في مثل هذا الزمان، مقتصرا في الفقه على الكتاب
والسنة المتواترة والاجماع، مستندا في غير مواردها إلى الأصول العملية
ونظيره إنكار مفهوم الموافقة، بل منصوص العلة في بعض المقامات، بخلاف
ترجيح أحد المتعارضين على الآخر، أو الاجتهاد في مقابل أصل البراءة،
فإن خطأ المجتهد في ذلك لا يعد تقصيرا واشتباها، وإن كان قد يتفق
الاشتباه والتقصير في ذلك أيضا، إلا أنه لا يعلم ذلك إلا إذا كان هو الحاكم
الثاني، أو أقر به الأول عند الثاني. وهذا بخلاف القسم الأول فإن مجرد
وجود ذلك الدليل الواضح دليل على تقصيره في الاجتهاد.
وقد حمل في المسالك (1) على ما ذكرنا من الصورتين السابقتين عبارة
الشرائع، وهي: " أنه إذا قضى الحاكم الأول على غريم بضمان مال فأمر
بحسبه، فعند حضور [الثاني] (2) ينظر فإن كان موافقا للحق ألزم (3)، وإلا
أبطله سواء كان مستند الحكم قطعيا أو اجتهاديا (4)، انتهى.
وكأن الداعي على هذا الحمل ما اشتهر بين المتأخرين عن
المصنف قدس سره من أن الحكم الناشئ عن الظن الاجتهادي لا ينقض به

(1) المسالك 2: 290.
(2) من " ش "، ولكن في المصدر هكذا (الحاكم الثاني).
(3) في " ق ": لزم، وما أثبتناه موافق للمصدر.
(4) الشرائع 4: 75.
145

الحكم الأول، إذا صدر عن اجتهاد صحيح، كما عرفت من صريح القواعد (1)
والدروس (2)، فجمع بذلك الحمل بين كلماتهم وبين كلمات من تقدمهم ممن
أطلق النقض، كالمحقق في الشرائع (3) وقبله ابن سعيد على ما حكي عنه (4)،
وقبلهما ابن حمزة (5)، وقبلهم الشيخ في المبسوط (6) والخلاف (7).
قال في الوسيلة في آداب الحاكم الثاني: " وهو بالخيار في تتبع أحكام
الحاكم الأول إلا أن يستعدي المحكوم عليه، فإذا تتبع وكان قد حكم بالحق
أمضاه، وإن حكم بالباطل نفاه " (8)، انتهى.
وأنت خبير بأن حمل هذا الكلام - كعبارة الشرائع المتقدمة -
على ما إذا علم البطلان بالدليل القطعي تقييد بلا شاهد، وإهمال لحكم
ما إذا ثبت البطلان بالدليل الظني الاجتهادي، فإن ابن حمزة وإن كان
ممن يعمل بالقطعيات، إلا أن العمل بالظن عنده في ترجيح الأدلة المتعارضة
من حيث الدلالة غير عزيز.
فالظاهر أن مراده ومراد المحقق أنه إن أداه (9) نظره الصحيح علما

(1) القواعد 2: 206.
(2) الدروس: 173.
(3) الشرائع 4: 75.
(4) الجامع للشرائع: 529.
(5) الوسيلة: 210.
(6) المبسوط 8: 101.
(7) الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 7.
(8) الوسيلة: 210.
(9) كذا في " ق "، ويحتمل: أدى.
146

أو ظنا إلى كون الحكم الأول حقا أنفذه، وإلا أبطله.
ويؤيده في عبارة الشرائع أنه لو أريد صورة التقصير لم يناسب
قوله: " فإن كان موافقا للحق لزم " (1) لأن الحكم الناشئ عن الاجتهاد
لا يلزم وإن وافق الحق.
وقال في الخلاف: " إذا قضى الحاكم بحكم فأخطأ فيه، ثم بان أنه
أخطأ، أو بان أن حاكما كان قبله قد أخطأ فيما حكم به وجب نقضه،
ولا يجوز الاقرار عليه بحال، وقال الشافعي: إن أخطأ فيما لا يسوغ فيه
الاجتهاد، بأن خالف نص كتاب أو سنة أو إجماعا أو دليلا لا يحتمل
إلا معنى واحدا - وهو القياس الجلي على قول بعضهم، والقياس الجلي
الواضح على قول الباقي منهم - فإنه ينقض حكمه، وإن أخطأ فيما يسوغ فيه
الاجتهاد لم ينقض حكمه.. إلى أن قال: دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم،
وأيضا فقد ثبت عندنا أن الحق في واحد، وأن القول بالقياس والاجتهاد
باطل. فإذا ثبت ذلك، فكل من قال بذلك قال بما قلناه، وإنما خالف في ذلك
من جوز الاجتهاد " (2)، انتهى.
ولا يخفى أن الظاهر منه - حيث ابتنى مسألة النقض على التخطئة
والتصويب - أنه أراد الأعلم من الحكم القطعي والظني الثابت بالاجتهاد
الصحيح. فاندفع توهم ظهور لفظ " بان " في القطع الواقعي، مع أنه كيف
يجوز الفصل فيه بين ما يسوغ فيه الاجتهاد وما لا يسوغ؟! فإن تبين الخطأ
فيما يسوغ فيه الاجتهاد ليس إلا بالظن.

(1) في " ق ": لزم، وما أثبتناه موافق للمصدر.
(2) الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 7.
147

هذا، مع أن اللازم من حمل التبين على القطع، إهمال الشيخ لحكم (1)
صورة حصول الظن الاجتهادي المعتبر بخطأ الأول.
ودعوى قطعية جميع الأدلة عند الشيخ رحمة الله عليه - مع بعدها في نفسها -
تنافي ابتنائه المسألة على مسألة التخطئة والتصويب المعقودة في المسائل
الظنية.
فالمراد بتبين الخطأ ظهوره ولو بمقتضى الأمارة الشرعية.
وقد ذكر نظير هذا العنوان في موضع من المبسوط (2)، وذكر تفصيل
العامة بين تبين الخطأ فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وتبينه فيما يسوغ فيه.
وقال في موضع آخر: " إذا حكم حاكم باجتهاده ثم ولي غيره، هل
ينقض بالاجتهاد ما حكم فيه بالاجتهاد؟ على قولين: أحدهما لا ينقضه،
بل [عليه أن] (3) يقره ويمضيه، لأنه ثبت بالاجتهاد، فلا ينقض بالاجتهاد
حكما ثبت باجتهاد، كاجتهاد نفسه، والقول الثاني [لا] (4) ينقضه [لأنه
ثبت بالاجتهاد] (5) ولا يمضيه، لأنه باطل عنده. إلى أن قال: وهذا لا يصح
على مذهبنا، لأن الحكم بالاجتهاد لا يصح، وإنما يحكم الحاكم بما يدل
الدليل عليه " (6)، انتهى موضع الحاجة.
وقال في مسألة احضار من يشاوره من العلماء: " إنه إذا حكم بحكم،
فإن وافق الحق لم يكن لأحد أن يعارضه فيه، وإن أخطأ وجب عليهم أن

(1) كذا ظاهرا.
(2) المبسوط 8: 101.
(3) الزيادات من المصدر.
(4) الزيادات من المصدر.
(5) الزيادات من المصدر.
(6) المبسوط 8: 94.
148

ينبهوه، وقال المخالف: ليس لأحد أن يرد عليه وإن حكم بالباطل عنده،
لأنه إذا كان حكمه باجتهاده وجب عليه العمل به، فلا يعترض عليه بما هو
فرضه، إلا أن يخالف نص الكتاب أو سنة أو اجماعا أو قياسا لا يحتمل
إلا معنى واحدا فإن ذلك ينكر عليه، وقد قلنا ما عندنا أنه إن أصاب الحق
نفذ حكمه ولا يعترض عليه، وإن أخطأ وجب على من حضره أن ينبهوه
على خطأه، ولا قياس عندنا في الشرع ولا اجتهاد، وليس كل مجتهد
مصيبا " (1)، انتهى.
ويكفيك فيما ادعيناه من الظهور ابتناؤه مسألة النقض على مسألة
التخطئة والتصويب، وهذا الابتناء يظهر أيضا من كلام المحقق رحمة الله عليه
في الشرائع، حيث قال في آداب القضاء: " ويحضر من أهل العلم من يشهد
حكمه، فإن أخطأ نبهوه، لأن المصيب عندنا واحد " (2)، انتهى.
وقد حمل في المسالك الخطأ في كلامه على الغفلة، فأورد عليه بأنه
لا يبتنى هذا على مسألة التخطئة والتصويب (3)، ولكنك خبير بأن ظاهر
كلامه الخطأ في الاجتهاد الصحيح، كما عرفت من عبارة الشيخ، فيكون
فائدة الاحضار هو أن لا ينقض الحكم بعد زمان فيصعب تدارك ما فات.
والحاصل، إنا لم نعرف قبل المصنف قدس سره من يفصل في مسألة النقض
بين الحكم الثابت بالدليل القطعي والثابت بالدليل الظني، ولم نجد أحدا
يدعي الاجماع على عدم النقض في الدليل الظني.

(1) المبسوط 8: 90.
(2) الشرائع 4: 74.
(3) المسالك 2: 288.
149

نعم، هو مشهور في ألسنة المعاصرين ومن يقرب منهم، فالتمسك
بالاجماع المنقول في المسألة مما لا ينبغي، فضلا عن المحقق.
وحينئذ فلا مانع من إبقاء كلام المحقق كعبارة الكتاب - الذي هو آخر
كتب المصنف، وموافق لآخر عبارة ذكرها في باب نقض الحكم من
القواعد (1) - على ظاهرهما، من إرادة الأعم من تبين البطلان بالقطع
أو بالظن الاجتهادي، مع كون الاجتهاد الأول صحيحا أيضا.
بقي الكلام في حكم النقض بالاجتهاد بناء على ثبوت الخلاف
في المسألة، فنقول: الأقوى حرمة نقض الحكم الأول بالاجتهاد، لا لما قيل (2)
من لزوم الهرج والمرج، لضعفه بقلة نظر الحكام في أحكام غيرهم،
بل أحكام أنفسهم، ولا لقوله عليه السلام في المقبولة: " فإذا حكم بحكمنا
فلم يقبل منه فبحكم الله قد استخف وعلينا قد رد " (3)، لأن المفروض إن
الحكم الثاني هو حكمهم عليهم السلام لا الحكم الأول، ولذا لا يجوز أن يحكم به
في الزمان الثاني، بل يجب رده وعدم قبوله، بل لما تقرر في محله من أن
كل عمل أتى به بحسب الاجتهاد الأول، فلا يجب إعادته لو ظهر فساده
بالاجتهاد الثاني، لأن وجوب إعادته واستدراكه إن كان بالأمر الواقعي،
وهو ايجاب الحكم بالحق الواقعي فهو غير ممكن، لعدم العلم بكون ما فهمه
حكما واقعيا.

(1) راجع القواعد 2: 207.
(2) لم نقف عليه.
(3) الوسائل 18: 98، الباب 11، من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
150

وإن كان بالأمر الثانوي - وهو ايجاب الحكم بمقتضى الطرق المجعولة
شرعا للحق الواقعي - فهذا الأمر قد امتثل مرة واحدة وحصل المطلوب
في الحكم السابق، ولا مزية للحكم الثاني عليه، لأن كلا منهما إنما أمر به،
لكونه مؤدى الطريق الظاهري.
إلا أن يقال: أن الدليل إنما أوجب الحكم بالحق الواقعي، ولما تبين
بالظن الاجتهادي - الذي هو بمنزلة العلم - إن هذا الحكم الثاني هو الحق
الواقعي دون ما حكم به أولا، تعين الحكم به.
وهذا الكلام يجري في كل واجب أتى به أولا بظن اجتهادي ثم
تغير الظن.
والأصل في المسألة: أن الظن الاجتهادي موجب لانقلاب التكليف،
أو أنه طريق صرف ومرآة محضة للواقع؟ والأظهر هو الثاني، وإن كان
عمل العلماء، بل سيرة المسلمين في بعض المقامات يقتضي العمل على الأول.
فالأولى الاقتصار على مقامات الاجماع والسيرة، وقد أشبعنا الكلام
في هذه المسألة في الأصول في باب الرجوع عن الفتوى (1).
ومما ذكرنا ظهر أنه لو سلم عدم نقض الحكم بالاجتهاد من جهة
الاجماع أو السيرة أو لزوم الهرج، فإنما هو في الحكومة المأمور بها في قطع
الخصومات، وأما الحكم الناشئ من غير خصومة على القول بصحته
ووجوب الالتزام، بحيث يحرم بعده الخصومة وجر المحكوم له إلى حاكم آخر
- من جهة عموم (2) ما دل على وجوب قبول حكم الحاكم، لأنه حكمهم

(1) التقليد: 80 - 81.
(2) الوسائل 18: 98، الباب 11 وغيره من أبواب صفات القاضي.
151

فالرد عليه رد عليهم - فلا دليل على حرمة نقضه بحكم آخر من نفس
الحاكم أو من غيره إذا تبين بعد النظر فيه خطأه بالاجتهاد، بل مقتضى
وجوب الرجوع إلى الحق نقض الحاكم له، لأن الحكم الثاني يصير حكم
الإمام عليه السلام، وغيره حكم الجور.
وبالجملة، فحال هذا الحكم حال الفتوى التي يرجع عنها المفتي،
كما إذا وقع معاملة بالاجتهاد ثم تغير الاجتهاد، وهو المسمى
ب‍ " نقض الفتوى بالفتوى "، وقد علمت أن الأظهر فيه بحسب الأدلة النقض،
وللمتأخرين هنا تفصيلات ليس هنا محل ذكرها.
وأولى منه: نقض الفتوى بالحكم، والظاهر أنه اتفاقي إذا كان الحكم
في مقام فصل الخصومة، لأن مقتضى أدلة نصب الحاكم وكونه حجة كون
حكمه نافذا على المتحاكمين وإن كان حكمهما بحسب الفتوى خلافه.
وظاهرهم عدم الفرق بين مخالفة المحكوم له للحاكم في الفتوى،
وبين مخالفة المحكوم عليه إلا أن الحكم في الصورة الأولى لا يخلو
عن اشكال، بل منع، لأن ظاهر أدلة حجية الحاكم حرمة رده ممن
حكم عليه، ولو كان مقتضى فتواه بطلان حكمه.
أما جواز عمل المحكوم له بحكمه مع مخالفته لفتواه، فهو محل كلام،
بل لا يجوز له الترافع إليه، مثل إذا تنازعا في بيع وقع على بعض
المسوخات فحكم بالصحة، بناء على طهارتها، فإذا فرض اعتقاد أحد
المتداعيين فنجاستها وفساد البيع، فكيف يجوز أكله الثمن بمجرد حكم الحاكم
بالصحة؟! بل يحرم حينئذ مطالبة المشتري بالثمن والترافع به إلى من يرى
طهارتها وصحة البيع، وسيأتي في كلام المصنف الجزم بالتحريم فيما إذا اعتقد
152

المدعي حرمة الشفعة مع الكثرة (1)، وأما في غير مقام فصل الخصومة
فالظاهر عدم نقض الفتوى به.
وأما نقض الحكم بالفتوى، فيعرف حاله مما ذكرنا في نقض الحكم
بالحكم، وإن الحكم الذي لا ينقض هو الحكم في مقام الخصومة، وأما غيره
فلا دليل على حرمة نقضه بالحكم ولا بالفتوى، خصوصا على ما ذكره
الشهيد قدس سره (2) من أن الحكم أعم من القول بأن يقول: حكمت بصحة هذا
البيع، ومن الفعل بأن يباشر ايقاع العقد بنفسه.
ثم إن بعض المعاصرين (3) قد استثنى من صورة نقض الحكم
ما لو جدد المترافعان التحاكم إلى الحاكم الثاني برضى منهما، وحكم بجواز
نقض الحكم السابق ولو بالاجتهاد بناء منه على أن التراضي منهما على رفع
اليد عن الحكم الأول جعله كأن لم يكن، بل ربما حمل عليه العبارة المتقدمة
من الشرائع (4) المشتملة على وجوب النظر في أمر المحبوس الذي قضى عليه
بضمان مال، وجعل هذا وجها للحكم بوجوب النظر، مع أنه ليس بواجب،
إلا إذا ادعى المحكوم عليه الجور في الحكم.
وأنت خبير بما في جعل تجديد المرافعة برضى المتداعيين سببا لوجوب
النظر، لعدم الدليل على دوران الأمر مدار تشهي المترافعين، والأصل بقاء
أثره، مع منافاته لأدلة وجوب الرضى بالفقيه حكما، مع أن حكم الحاكم في

(1) الإرشاد 2: 142، وفيه: ولو اعتقد تحريم الشفعة مع الزيادة لم يحل له أخذها
بحكم من يعتقدها.
(2) انظر الروضة البهية 3: 75.
(3) الظاهر أنه صاحب الجواهر قدس سره، انظر الجواهر 40: 94.
(4) المتقدمة في الصفحة: 145.
153

الواقعة الشخصية والعمل فيها ليس بأدون من العمل في الواقعة الشخصية
بفتوى المفتي، وقد ادعوا الاجماع على عدم جواز رفع اليد والرجوع عنه في
نفس تلك الواقعة الشخصية، وإن جوز بعضهم الرجوع عنه في مثلها (1).
فالأقوى أن تجديد المرافعة غير مشروع.
وأبعد من ذلك: حمل عبارة الشرائع على هذا المعنى، وأبعد من الكل
تجويز النقض حينئذ حتى بالظن الاجتهادي، لأن هذه الصورة ليست بأولى
من صورة دعوى المحكوم عليه بالجور، فتأمل.
وبالجملة، فلا ينبغي الاشكال في عدم جواز تجديد المرافعة.
(ولا يجب) بمجرد تشهي المترافعين (تتبع الحكم السابق)،
نعم، له أن يتتبع بلا خلاف يظهر، للأصل، وإذا تتبع فلا يجوز النقض
(إلا مع علم الخطأ)، بناء على ما تقدم من التفصيل المعروف بين المتأخرين
بين العلم والظن الاجتهادي (2)، فينقضه مع العلم بالخطأ وإن كان في حقوق
الناس، ولم يطالب [المتداعيين].. (3).
المخالفين (4) فلا يفتى به، (فإن زعم الخصم) المحكوم عليه
(البطلان) (5) المدعى بالبينة وإلا أحلف الحاكم.

(1) حكى الاجماع والجواز، السيد المجاهد في مفاتيح الأصول: 616 عن
العلامة قدس سره في نهاية الأصول.
(2) راجع الصفحة: 143 وما بعدها.
(3) ما بين المعقوفتين من " ش "، والكلمة غير مقروءة في " ق "، ومحل النقط منخرم في
" ق " بمقدار ثلاثة أسطر تقريبا.
(4) كذا في " ق "، والعبارة في " ش " هكذا: ولم يطالب المتداعيين المخالفين.. الخ.
(5) كذا في النسختين، ويحتمل وجود سقط هنا، لعدم الارتباط بين الكلمات.
154

وإن ادعى الجور، أي بطلان الحكم الكلي الذي حكم به عليه،
لا الجور في كيفية فصل الخصومة، فإنهما دعويين أخريين لا دخل للنظر في
صدقهما وكذبهما، بل الحكم هناك بالبينة واليمين.
نعم، يحتمل أن يراد به الأعم من لزوم النظر وجوب النظر في أمرهما
وتتبع حال الحاكم في الإصابة والخطأ بما يقتضيه دعوى مدعي البطلان، فإن
ادعى جوره في كيفية الفصل.. (1) أو أحلف المنكر مع وجود البينة وذلك
أحضر (2) القاضي بينهما على التفصيل الآتي.
وإن ادعى خطأه في الحكم الكلي الذي أمضاه في الواقعة، نظر في تلك
المسألة وأدلتها.
وبالجملة، فالمقصود هنا بيان وجوب التتبع في مقام عدم وجوبه إذا لم
يدعي المحكوم عليه شيئا، لكن المعنى الأول أظهر (3)، (نظر) الحاكم الثاني
(فيه)، لأن ذلك مما لا مدخل للبينة فيه، فوجب على الحاكم تحصيل العلم
به، فإن علم صدق المدعى نقض الحكم ولو قلنا إن الحاكم لا يحكم بعلمه،
لأن ذلك في الشبهات الموضوعية.
وإن لم يعلم صدقه أمضى الحكم الأول، وليس له على الحاكم الأول
يمين إلا إذا ادعى علمه بذلك، مع احتمال ثبوت اليمين على أنه لم يعلم
ببطلان حكمه.

(1) محل النقط بياض بمقدار كلمات.
(2) كذا، والعبارة غير واضحة.
(3) من قوله: " (البطلان) إلى هنا ليس في " ش " والعبارة في " ش " هكذا: (فإن
زعم الخصم) المحكوم عليه (البطلان) أي بطلان الحكم الكلي حكم الذي به عليه
(نظر) الحاكم الثاني (فيه).
155

ولا فرق فيما ذكرنا بين حكام حال الحضور، وحكام زمان الغيبة،
ويحتمل الفرق بناء على ظهور أدلة نصب حكام الغيبة في وجوب القبول
عنهم وعدم جواز الرد عليهم (1).
وفيه: أن الواجب قبول حكم الله وعدم رده، والمفروض أن المحكوم
عليه يدعي أن هذا ليس ذاك. غاية الأمر أن الحاكم أمين في إجراء حكم
الله، وهذا المقدار لا يوجب عدم جواز هذه الدعوى.
نعم، يمكن الاستشكال في وجوب النظر في حكم الحاكم مطلقا بمجرد
الدعوى أولا بعدم الدليل على سماع هذه الدعوى إن كانت على الحاكم
الأول، إذ لا يلزم من ثبوتها ضمان عليه ولهذا لو اعترف الحاكم به لم يلزمه
شئ، لأن الموجب للضمان هو تعمد الحكم بالجور، وأما الخطأ في الحكم
فلو حصل بسببه إتلاف فإنما هو في بيت المال، مع أنه قد لا يوجد سبب
الضمان، كما لو كانت دعوى الجور قبل ترتيب الأثر على الحكم.
ولو أرجعت هذه الدعوى إلى الدعوى على المحكوم له، بأنك
لا تستحق شيئا لأجل هذا الحكم لم ينفع، لأن النافع له علم المحكوم له
بذلك (2).

(1) انظر الوسائل 18: 2 و 98، الباب 1 و 11 من أبواب صفات القاضي.
(2) هذا آخر ما في الصفحة اليمنى من الورقة (164) من نسخة " ق "، وقد ذهب
من الهامش مقدار إثر تجليد الكتاب، ويظهر أن المؤلف قدس سره كان قد كتب فيه
هامشين لم يبق من الأول سوى ما يلي: ".. لأنه من فعل الغير.. النظر إلى
وجوب ". ومن الثاني: ".. الدعوى تغريم المدعي سواء جعلناه الحاكم أو.. بل
المقصود منها.. "، هذا وقد نبه ناسخ " ش " على ذلك فكتب في الهامش ما مفاده:
ذهب مقدار في التصحيف وتجليد النسخة.
156

ومما ذكرنا ظهر أن المقصود منها رفع أثر الحكم الأول بالنسبة إلى
المحكوم عليه، فعلى تقدير كونها مسموعة لا مخلص لها إلا وجوب نظر
الحاكم الثاني في المسألة، ولذا لم يذكر أحد هنا في علاج هذه الدعوى
غير النظر.
وليست هذه المسألة من جزئيات مسألة دعوى الجور على الحاكم التي
يترتب عليها احضار الحاكم، أو مطالبة المدعي بالبينة، أو الحاكم باليمين،
بل بإقامة البينة على أنه حكم بالعدل، وقد وقع التعبير عن هذه الدعوى
بدعوى الجور في عبارة الشرائع (1) والقواعد (2)، فزعم بعض (3) شراحهما تبعا
لكاشف اللثام، أنها من جزئيات مسألة الدعوى على القاضي، فذكر كاشف
اللثام بعد التردد في احضار القاضي قبل إقامة البينة أنه " إذا نظر فيه وثبت
الجور ضمنه ما تلف بحكمه. وإن لم يثبت، هل عليه اثبات أنه هل حكم
بالعدل، أو القول قوله؟ " (4) وتبعه في ذلك بعض شراح الكتابين (5)، مع
استشكال بعضهم في ذلك بأنه كيف له أن يقيم البينة المطلعة على الحكم
الشرعي ليشهد أنه حكم بالعدل؟!
واستشكل آخر (6) فيه، تارة بعدم الدليل على سماع هذه الدعوى على

(1) الشرائع 4: 76.
(2) القواعد 2: 207.
(3) انظر مفتاح الكرامة 10: 56.
(4) كشف اللثام 2: 333.
(5) تقدم أعلاه.
(6) هو صاحب الجواهر في الجواهر 4: 104 و 105.
157

الحاكم، خصوصا في زمان الغيبة، مع كونه كالولي بالنسبة إلى المترافعين
فلا يسمع دعواهما عليه، لأنها نظير دعوى المولى عليه على الولي حال
ولايته، فالمناسب تخصيص الحكم بالقاضي المعزول الذي تزول ولايته.
وأخرى بأن سماعها لا يوجب وجوب النظر، بل يحصل التخلص عنها
ببينة المدعي أو يمين المنكر، وإلى غير ذلك مما ذكر في المقام.
وأنت خبير بأن منشأ ذلك كله تعبير الشرائع والقواعد عن هذه
الدعوى بدعوى الجور، وعدم تفطن الشراح لكون الحكم بوجوب النظر
فيها وعدم التعرض فيها للبينة واليمين، قرينة على إرادة دعوى بطلان
الحكم، ليرتفع أثره عن المحكوم عليه، لا ليضمن القاضي شيئا.
فالأحسن في التعبير: ما ذكره المصنف هنا من دعوى البطلان،
وأحسن منه تعبير الدروس بقوله: " لو ادعى الخصم موجب الخطأ لزم
النظر " (1)، لأن المتبادر من الجور - كما ذكرنا - الجور في كيفية فصل
الخصومة، كأن يعمل بالبينة في غير محلها أو يهملها في محلها (و)
كما (لو ادعى) أنه حكم عليه بشهادة (فاسقين (2)) مع عدم ثبوت
عدالتهما عنده، أو غير ذلك مما لا مدخل للنظر في صدقه وكذبه، توجه
بعض ما ذكروه (3) من التردد في احضاره قبل إقامة البينة، وإن جزم المصنف
هنا بأنه (وجب احضاره، وإن لم يقم [المدعي] (4) قبل الاحضار (بينة)

(1) الدروس 2: 76.
(2) في الإرشاد: ولو ادعى استناد الحكم إلى فاسقين.
(3) انظر المبسوط 8: 102، والمسالك 2: 290، والكفاية: 265.
158

تشهد له بعد الاحضار، بل وإن اعترف لعدم ثبوت البينة له، لاحتمال اقراره
بعد الحضور أو الاكتفاء بيمينه، بناء على سقوط اليمين عنه، هذا هو
المحكي (1) عن الأكثر، وهو الأوفق بقاعدة سماع الدعوى.
وقيل: لا يجب احضاره، بل لا يجوز، لأن فتح هذا الباب موجب
لهتك القاضي الموجب لزهد القضاة في القضاء (2). وفيه ما لا يخفى.
نعم، ينبغي أن يعتبر في سماع الدعوى، دعوى علم القاضي بفسقهما
أو عدم استزكائهما مع جهالة حالهما عنده، وإلا فمجرد حكمه بفاسقين
واقعيين لا يوجب ضمانه، ولو اعترف به، فكيف يسمع دعوى ذلك عليه؟!
ثم إذا حضر (فإن اعترف بالدعوى (3)) على وجه يوجب الضمان
(ألزمه) بما يقتضيه اعترافه من تضمينه المال المستوفي بحكمه إذا لم يعترف
المحكوم له بفسق الشهود.
(وإلا) يعترف، فإن قام عليه البينة على ذلك الوجه أيضا ضمن،
وإلا حلف على أنه لم يحكم عليه بشهادة فاسقين غير ظاهري العدالة عنده.
وقيل (4) بعدم اليمين عليه، لما يظهر من الشرع من أمانته وحرمة اتهامه،
ومنافاة ذلك لحكمة نصب الحكام، وفيه ما لا يخفى.
هذا، لو لم يعترف بأصل الحكم، ولو اعترف بالحكم وأسنده إلى

(1) انظر المسالك 2: 290.
(2) المسالك 2: 290.
(3) في الإرشاد: اعترف به.
(4) انظر إيضاح الفوائد 4: 306.
159

شهادة عدلين، فهل عليه البينة - كما عن المبسوط - (1) لصيرورته مدعيا
والأصل عدم حكمه شهادة عدلين، أم يقتصر على يمينه كما عن الأكثر (2)،
لأنه أمين في فعله، فما عليه عند دعوى الخيانة عليه إلا اليمين، مع أنه قد
يعلم هو عدالة الشهود ولا يعلمها غيره فيعجز عن إقامة البينة مع أنه
لا اشكال في تقديم مدعي الصحة أم لا يفتقر إلى اليمين أيضا، كما رجحه في
محكي الإيضاح (3) بعد اختياره القول الثاني؟ وجوه، خيرها أوسطها.
(فالقول قوله في الحكم بشهادة عدلين على رأي) الأكثر لأنه أمين،
وفي المبسوط يقيم البينة، لاعترافه بنقل المال وادعائه المزيل الشرعي (4)،
وفيه: أن هذا شأن كل من يدعي سببا صحيحا من العقود والايقاعات.
ثم هل يفتقر (مع) ذلك إلى (يمينه) أم لا؟ قولان: أقواهما
الأول، لهموم: " اليمين على من ادعى عليه " (5)، وعن بعض العامة الثاني (6).
وحكي عن الإيضاح ترجيحه (7)، ومال إليه الشارح (8)، لما تقدم مع تضعيفه.

(1) المبسوط 8: 103.
(2) انظر المسالك 2: 290، والشرائع 4: 76، والتحرير 2: 185.
(3) إيضاح الفوائد 4: 306.
(4) المبسوط 8: 103.
(5) الوسائل 18: 170، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث
الأول.
(6) المغني، لابن قدامة 9: 63.
(7) إيضاح الفوائد 4: 306.
(8) مجمع الفائدة 12: 89، ذيل شرح قوله: " ولو ادعى ".
160

وفي المسالك (1): أنه لا يعلم به قائل من أصحابنا.
[(ويحرم عليه أن يتعتع الشاهد بأن يداخله في التلفظ بالشهادة
أو يتعقبه، بل يكف حتى يشهد، فإن تلعثم صبر عليه، ولو توقف لم يجز له ترغيبه
في الإقامة ولا تزهيده فيها، ولا ايقاف عزم الغريم عن الاقرار إلا في حقوقه
تعالى)] (2).
(وإذا سأل الخصم الحاكم احضار خصمه مجلس الحكم، أجيب) التماسه
(مع حضوره) في البلد (وإن لم يحرر الدعوى) عند علمائنا، كما في
المسالك (4)، وعن ظاهر المبسوط أيضا الاجماع عليه (5)، ولعله لأنه المتعارف
في أعداء المستعدي وانتصار (6) المظلوم وإحقاق الحقوق الذي أمر به القاضي،
فإن المتبع في مثل ذلك هو الطريق المتعارف المعمول بين الحكام العرفية،
مع أن تحرير الدعوى في غياب المدعى عليه لا فائدة فيه، بعد لزوم إعادتها
إذا حضر ليستمعها ويجيب عنها، فاحتمال أن يكون دعواه دعوى
غير مسموعة، فيكون احضار الخصم لغوا، جار في صورة تحرير الدعوى
في غيابه أيضا، إذ لعله يحررها بعد الحضور على وجه لا تسمع، فتأمل.

(1) المسالك 2: 290.
(2) ما بين المعقوفتين من الإرشاد، ولم نقف على شرح العبارات في " ق " ونبه ناسخ
" ش " في هامش نسخته على فقدان ورقة من النسخة.
(3) هذا هو أول الصفحة اليسرى من الورقة (166).
(4) المسالك 2: 294.
(5) المبسوط 8: 154.
(6) كذا.
161

فما ذكره في الشرح من التأمل في لزوم الاحضار قبل تحرير الدعوى
لولا الاجماع - لأنه لم يثبت تسلط المدعى عليه مطالبة الجواب (1) - مدفوع
بما ذكرنا من الوجهين، والاشكال عن أولهما، فإن ما ذكر أخيرا جار مع
عدم الحضور في البلد، مع أنه قد صرح المصنف قدس سره (و) غيره (2) بأنه
(لا يجاب) التماسه (في الغائب) عن البلد (إلا مع التحرير) لدعواه،
معللين له بثبوت المشقة في ذلك، فلا يكلف به إلا بعد معرفة كون الدعوى
مسموعة المتوقفة على تحريرها. واحتمال أن يحررها بعد الحضور على وجه
لا تسمع احتمال بعيد لا يعبأ به، وعن المصنف قدس سره في المختلف (3) والشيخ (4)
في الخلاف وابن سعيد (5)، والإسكافي (6) أنه لا يحضر بعد التحرير، إلا أن
المحكي عن ظاهر الأخيرين أنه يحضر بعد اثبات المدعي حقه (7)،
وعن المصنف (8): أنه لا يحضر إلا بعد عجز المدعي عن الاثبات وطلبه
احلاف المدعى عليه فيحضر للحلف أو بعد الاثبات وكون المال عنده،
وإلا فإذا أثبت المدعى باع الحاكم ماله ودفعه إلى المدعي.

(1) مجمع الفائدة 12: 91.
(2) انظر الشرائع 4: 78.
(3) المختلف: 703.
(4) الخلاف، كتاب آداب القضاء، المسألة 34، وفيه: أنه قال: يحضر بعد التحرير.
(5) انظر الجامع للشرائع: 527، وحكاه عنه في الجواهر 40: 126.
(6) كما في المختلف: 702 - 703.
(7) انظر الجامع للشرائع: 527، والمختلف: 702 - 703.
(8) انظر المختلف: 703.
162

هذا كله، إذا كان المدعى عليه في ولايته التي يباشر أمورها، وإن كان
في ولاية خليفته سمع بينته وأرسل إلى خليفته، وله أيضا احضاره، وأن
يستخلف هناك من يحكم عليه، وله أيضا ارسال المدعي إلى خليفته ليثبت
عنده ويحكم له، لكن قيده بعض برضى المدعي (1).
(وإن كان في غير ولايته) لم يكن له أن يحضره، كما في المسالك (2)، إذ
لا سلطنة له عليه وإن كان من أهل تلك الولاية، لأن العبرة في تولية
البلاد بمن حضر الولاية وإن لم يكن من أهلها، بل (أثبت الحكم عليه)
بالحجة ويكون الغائب على حجته، ولا منافاة بين نفوذ حكمه عليه إذا كان
المحكوم له حاضرا في ولايته وعدم تسلطه على احضار المحكوم عليه، إذ
يكفي في نفوذ الحكم جواز مباشرة القضاء، ولا ريب في جوازها إذا حضر
عنده المدعي ولا سلطنة له على الغائب عن ولايته.
ثم إن ظاهر تفصيلهم بين كون المدعى عليه في ولايته وبين كونه في
غيرها، وجوب الاحضار في الأول قبل التحرير أو بعده، مع أن القضاء على
الغائب عن مجلس الحكم ثابت عندهم، فإما أن يحمل وجوب الاحضار على
ما إذا التمس المدعي ذلك، وإما أن يراد الوجوب التخييري بينه وبين الحكم
على الغائب في مقابل من خرج عن ولايته، حيث يتعين فيه القضاء على
الغائب (3).

(1) انظر مفتاح الكرامة 10: 59.
(2) المسالك: 2: 294.
(3) هذا هو آخر ما في الصفحة اليمنى من الورقة (166)، وبعده بياض بمقدار نصف
صفحة، وكتب ناسخ " ش " في الهامش ما مفاده: يحتمل ضياع مقدار معتد به من
الأوراق، واحتمال عدم شرح المؤلف قدس سره لها بعيد.
163

[(وإن كانت امرأة برزة كلفت الحضور، وإلا أنفذ من يحكم بينهما.
ويكتب ما يحكم به في كتاب، ولا يجب عليه دفع القرطاس من ماله، بل
يأخذه من بيت المال أو الملتمس.
ولو اعتقد تحريم الشفعة مع الزيادة لم يحل له أخذها بحكم من يعتقدها،
لكن لا يمنعهم من الطلب بناء على معتقده.
ولا يحل له أن يحكم بما يجده مكتوبا بخطه من دون الذكر - كالشهادة -
ولو كان الخط محفوظا عنده وأمن التزوير.
ولو شهد شاهدان بقضائه ولم يذكر، فالوجه القضاء، ولو تمكن المدعي من
انتزاع عينه ولو قهرا فله ذلك من دون الحاكم مع انتفاء الضرر.
ولو كان الدعوى دينا والغريم باذل مقر لم يستقل من دون تعيينه أو تعيين
الحاكم مع المنع، ولو كان جاحدا وهناك بينة ووجد الحاكم فالأقرب جواز الأخذ
من دونه، ولو فقدت البينة أو تعذر الحاكم جاز الأخذ إما مثلا أو بالقيمة، فإن
تلفت العين قبل بيعها، قال الشيخ: لا ضمان ولو كان المال وديعة كره الأخذ على
رأي ولو ادعى ما لا يد لأحد عليه فهو أولى.
ولو انكسرت سفينة، فما أخرجه البحر فلأهله، وما أخرج بالغوص
فلمخرجه)] (1).

(1) من الإرشاد، ولم نجد هذه العبارات في ما بأيدينا من النسختين.
164

المقصد الثالث
في الدعوى
وفيه مطالب:
165

المطلب الأول
في تحقيق الدعوى والجواب
[(يشترط في المدعي: التكليف، وأن يدعي لنفسه أو لمن له ولاية عليه
- كالأب والوصي والوكيل والحاكم وأمينه - ما يصح تملكه)] (1).
واعلم أنه لا يعتبر في صحة الدعوى وسماعها كون المدعى معلوما،
بل يسمع (وإن كان مجهولا (2))، وفاقا لأكثر المتأخرين (3)، بل قيل (4) كلهم
عدا نادر، لعمومات وجوب الحكم، و " أن البينة على المدعي واليمين على من
ادعي [عليه] (5) " (6)، ولأن الحاجة قد تمس إلى سماعها، لعدم علم المدعي به

(1) من الإرشاد، وقد سبقت الإشارة إلى وجود بياض في " ق " واحتمال ضياع أوراق
من النسخة.
(2) في الإرشاد زيادة: لازما.
(3) منهم المحقق في المختصر النافع: 284، وفخر المحققين في الإيضاح 4: 327،
والشهيد الثاني في الروضة البهية 3: 79.
(4) قاله صاحب الجواهر في الجواهر 40: 150.
(5) الزيادة من " ش ".
(6) انظر الوسائل 18: 171، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 5.
167

وعجزه عن بيانه (1)، فلو لم تسمع لضاع حقه.
خلافا للمحكي عن الشيخ (2) وابن زهرة (3) وابن حمزة (4) وابن إدريس (5) وأبي الصلاح (6) والمصنف في التذكرة (7) والشهيد في الدروس (8)
فلم يسمعوها، ولعله لعدم ثبوت شئ من أجلها بالبينة والاقرار، لعدم
العلم بمطابقة ما أقر به أو قام به البينة لما ادعاه المدعي، فيكون كالاقرار
والبينة الغير المسبوقين بالدعوى، ولامتناع الحكم بالمجهول، فلا فائدة في
سماعها.
ودعوى أن الفائدة هي الزام المدعى عليه بعد الاقرار بالتفسير،
لا تجدي، لأن ما يثبت حينئذ إنما يثبت بالتفسير الذي هو خارج عن
جواب المدعي لا بالاقرار.
والظاهر من أدلة قطع الخصومات هو قطعها بنفس الأسباب الشرعية،
مثل قوله تعالى في الحديث القدسي مخاطبا لبعض أنبياء بني إسرائيل: " إقض

(1) في " ف ": عن إثباته.
(2) المبسوط 8: 156.
(3) الغنية (الجوامع الفقهية): 563.
(4) الوسيلة: 216.
(5) السرائر 2: 177.
(6) الكافي في الفقه: 445.
(7) التذكرة 2: 151.
(8) الدروس 2: 84.
168

بينهم بالبينات " (1)، وقوله صلى الله عليه وآله: " إنما أقضي بينكم بالبينات " (2)،
وقوله عليه السلام: " استخراج الحقوق بأربعة: بينة عادلة ويمين قاطعة.. " (3).
ودعوى أن إلزام المدعى عليه بالتفسير لا يثبت به شئ، وإنما هو
من باب المقدمة للخروج عن الحق المجهول الذي ثبت بالاقرار، مدفوعة
بما تقدم من امتناع الحكم بالمجهول، ولذا صرح جماعة كالشيخ (4) والحلي (5)
وابن زهرة (6) في باب الاقرار: أن المقر بالمبهم إذا لم يفسره جعلناه ناكلا،
فإن حلف المقر له، وإلا فلا حق له، وصرح جماعة (7) بوجوب حبسه
حتى يفسر، وصرح في الروضة (8) بأنه إذا مات طولب وارثه بالتفسير.
ولكن التحقيق الحكم بالسماع، وإلزامه بالتفسير بعد الاقرار،

(1) الوسائل 18: 167، الباب الأول من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 2، وفيه: " اقض عليهم بالبينات "، والمخاطب فيه نبي من الأنبياء، لا من أنبياء بني إسرائيل.
(2) الوسائل 18: 169، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث
الأول.
(3) لم نقف عليه باللفظ المذكور، والظاهر حصول الخلط بين مرسلة يونس ورواية
ضمرة بن أبي ضمرة اللتين ستأتي الإشارة إليهما من المؤلف قدس سره في الصفحة: 174
(4) انظر المبسوط 3: 4.
(5) انظر السرائر 2: 499.
(6) لم نقف عليه في الغنية المطبوع ضمن (الجوامع الفقهية) في مبحث الاقرار، نعم
عثرنا عليه في المطبوع ضمن (سلسلة الينابيع الفقهية) 12: 182.
(7) انظر الشرائع 3: 152، والقواعد 1: 280، وإيضاح الفوائد 2: 440.
(8) الروضة البهية 6: 390.
169

فإن أبى حكم عليه بمسمى المدعى. وامتناع الحكم بالمجهول ممنوع
وإن استدل به بعضهم (1)، إذ لا مانع من أن يقول له: أخرج عما اعترفت
من الحق. وكذا لو أقام المدعي البينة، بناء على سماعها هنا، كما يظهر
من الشارح (2).
نعم، لو قام إجماع على عدم الالزام بالمجهول، وأن المقر مطالب
بتفسيره حتى يموت، أو أنه يجعل ناكلا فيرد اليمين على المدعي إذا عينه،
فإن حلف وإلا فلا حق له، كان عدم السماع غير بعيد، لما عرفت من
انصراف الأدلة إلى الحقوق القابلة للاستخراج والدعاوي القابلة للفصل
بالبينة والاقرار، حتى يترتب على ذلك احلاف المدعى عليه عند الانكار.
وأما دعوى عدم العلم بالمطابقة بين الاقرار والبينة عند قيامها وبين
المدعي فمكذبة بحكم العرف، وإن سلمنا صدقها عند التدقيق، مع أنه قد يقر
أو تقوم البينة على وجه يصدق المدعي، فتأمل.
ثم الظاهر اتفاقهم على صحة دعوى الوصية بالمجهول أو الاقرار به (3)،
لصحة تعلقهما بالمجهول. وكما يسمع دعوى المجهول كذلك يسمع دعوى الفرد
الشائع في جنسه، كأن يدعي عليه فرسا على سبيل البدلية، لاحتمال استناده
في ذلك إلى نذر أو وصية (4).

(1) كالشيخ في المبسوط 8: 156.
(2) مجمع الفائدة 12: 116.
(3) انظر إيضاح الفوائد 4: 327.
(4) هذا آخر ما ورد في الصفحة اليمنى من الورقة (167)، وبعده بياض بقدر نصف
صفحة، وكتب ناسخ " ش " في الهامش ما مفاده: هنا بياض في الأصل وقد ترك
مقدارا من المتن بدون شرح أو أنه شرحه وفقد.
170

[(فلا تسمع دعوى الهبة مجردة عن دعوى القبض، ولا دعوى أن هذه
بنت أمته أو ضم: ولدتها في ملكي، ما لم يصح بدعوى ملكية البنت، ولا تسمع
البينة إلا بذلك، وكذا: هذه ثمرة نخلتي، ولو أقر الخصم بذلك لم يحكم عليه،
ويحكم له لو قال: هذا الغزل من قطنه أو الدقيق من حنطته، ولو قالت: هذا
زوجي، كفى في دعوى النكاح من غير توقف على ادعاء حقوقها.
ولو ادعى علم المشهود له بفسق الشاهدين أو الحاكم أو الاقرار أو أنه قد
حلف، ففي اليمين اشكال، لأنه ليس عين الحق بل ينتفع فيه، وليس له تحليف
الشاهد والقاضي وإن نفعه تكذيبهم أنفسهم، وتسمع الدعوى بالدين المؤجل،
ولا تفتقر الدعوى إلى الكشف إلا في القتل، فلو ادعى فرسا سمعت)] (1).
(وهل (2) يشترط) في سماع الدعوى كونها على وجه (الجزم، أو يكفي
الظن) بل الاحتمال، مثل قوله: أظن أو أتوهم كذا؟ (إشكال) وخلاف.
فعن جماعة (3)، بل عن المشهور (4) اعتباره، للأصل، ولأن المتبادر من
الدعوى - لغة وعرفا - ما كان بصيغة الجزم، لأن مرجعها إلى مطالبة الحق
الظاهرة في الجزم بالاستحقاق، فحينئذ لا تسمع بينته، لأن الثابت هو سماع
بينة المدعي المفروض عدم صدقه هنا. وكذا لا يحلف الخصم، لعدم كونه

(1) ما بين المعقوفتين من الإرشاد، ولم يتعرض المؤلف قدس سره لشرحه فيما بأيدينا من
النسختين.
(2) هذا هو أول الصفحة اليسرى من الورقة (167).
(3) منهم الحلبي في الكافي: 450 وابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 563،
والمحقق في الشرائع 4: 82.
(4) نسبه إلى المشهور، السبزواري في كفاية الأحكام: 266.
171

ممن ادعى عليه، وعنوان المنكر وإن صدق عليه إلا أن مقابلته بالمدعي في
النبوي المشهور (1) كالصريح في أن المراد به من ادعي عليه لا كل من أنكر.
ولأن القضاء بمجرد النكول أو يمين المدعي من لوازم الدعوى وفصل
الخصومة، إذ ربما ينكر المدعي عليه ولا يحلف ولا بينة، ولا يمكن ذلك مع
عدم الجزم، أما الثاني: فواضح، لعدم جواز اليمين مع الاحتمال.
وأما الأول: فلأنه لا يجوز للمدعي أن يستبيح بمجرد حكم الحاكم
- الذي لا يغير الواقع - شيئا لا يعلم استحقاقه، بل يعلم استحقاق المنكر له
في ظاهر الشرع قبل حكم الحاكم.
ويرشد إلى ما ذكرنا قوله صلى الله عليه وآله - في مقام قطع الخصومة -:
" فمن اقتطعت له من مال أخيه شيئا فقد اقتطعت له قطعة من النار " (2).
خلافا لجماعة، فحكموا بالسماع، إما مطلقا (3) أو مع التهمة (4) أو فيما
يعسر الاطلاع عليه (5)، لعمومات وجوب الحكم، ومنع عدم صدق الدعوى
- ولذا يقال دعوى ظنية أو احتمالية - ولمسيس الحاجة إلى سماعها كثيرا

(1) وهو قوله صلى الله عليه وآله: " البينة على المدعي واليمين على من أنكر "، مستدرك
الوسائل 17: 368، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث 4.
(2) الوسائل 18: 169، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم والدعوى، الحديث الأول.
(3) قواه فخر المحققين (على ما في نسخة من الإيضاح، انظر إيضاح الفوائد 4: 328)،
ومال إليه المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 12: 125.
(4) نسبه المحقق إلى بعض معاصريه، وقال فخر المحققين - بعد نقل كلام المحقق -
قوله: " بعض من عاصرنا " إشارة إلى الفقيه محمد بن نمار رحمه الله، انظر الشرائع 4: 82،
وإيضاح الفوائد 4: 328.
(5) استوجهه الشهيد الثاني في الروضة البهية 3: 80.
172

وإلا لزم تضييع الحق سيما فيما يعسر الاطلاع عليه غالبا، ومنع رد اليمين هنا
على المدعي وإن قلنا به في غيره، وكذا القضاء بمجرد النكول، فيكون القضاء
بالنكول أو برد اليمين من لوازم الدعوى العلمية.
ويكتفى هنا بالبينة في اثبات الحق، وما ورد من أن استخراج الحقوق
بأربعة وعد منها يمين المدعي مع شاهد واحد أو اليمين المردودة (1)، فليس
المراد به اعتبار قابلية كل دعوى لهذه الأمور الأربعة، بل معناه: إنها
لا يخلو اثباتها عن واحد من تلك الأربعة.
هذا، مع أنه ربما يمنع من حرمة أخذ المدعى مع النكول الذي هو
كالاقرار أو البينة في إباحة الأخذ، ولأنه لو كان الجزم شرطا لوجب
الاستفسار من المدعي - إذا ادعى - هل هو جازم أو لا؟ لوجوب احراز
شرط سماع الدعوى.
وفي الجميع نظر، لأن أدلة الحكم بين الناس - مع فرض وجود مطلق
فيها يشمل ما نحن فيه - مقيدة بما دل على وجوب القضاء بينهم بالبينة
واليمين، وقد خص الشارع البينة بالمدعي واليمين بالمدعى عليه، وقد عرفت
عدم تحقق الدعوى إلا بالجزم، إلا أن يقال: إن حصر البينة واليمين في كل
من المدعي والمنكر إضافي بالنسبة إلى الآخر.
فالعمدة منع العموم في أدلة الحكم بين الناس أو أدلة القضاء بينهم
بالبينات والأيمان.
ثم إن دعوى ظهور الدعوى فيما يعم الشك والظن مكابرة، يكذبها

(1) انظر الوسائل 18: 176، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 4.
173

الرجوع إلى فهم العرف من قولك: ادعى فلان على فلان.
ودعوى أنه يلزم من ذلك عدم سماع البينة لو أقيمت على هذه
القضية وعدم (1) سقوط الحق عن المنكر لو حلف، مسلمة أولا، مع منع
بطلان التالي، فإن الدعوى إذا لم تسمع لم ينفع إقامة البينة ولا بذل المنكر
لليمين.
نعم، إذا سمعها الحاكم لا على وجه الوجوب واستفسر من الخصم
لا على وجه المطالبة، فإن أقر حكم عليه، وإن أنكر وقامت البينة حكم
عليه أيضا، من جهة عمومات وجوب الحكم بثبوت الحق عند قيام البينة
أو الاقرار وسقوطه عند يمين المنكر، مثل قوله عليه السلام: " استخراج الحقوق
بأربعة شهادة رجلين.. الخ " (2)، وقوله عليه السلام: " أحكام المسلمين على ثلاثة:
بينة عادلة ويمين قاطعة.. " (3).
نعم، لو بذل المنكر اليمين لم ينفع، لعدم كونه مدعى عليه.
وبالجملة، فالفرق واضح بين وجوب فصل الخصومات بالبينة واليمين
المتوقف على مطالبة المنكر بالجواب ثم الزامه بمقتضى اقراره أو انكاره إن
لم يقم البينة، وبين وجوب حكم الحاكم في كل قضية اتفق قيام البينة عليها.
فإن الأول يحتاج إلى تحقق عنوان المدعي والمدعى عليه بخلاف الثاني،
ولذلك ذكرنا عدم سقوط الحق عن المنكر لو بذل اليمين.

(1) في " ق ": ولا عدم، والظاهر زيادة " لا ".
(2) الوسائل 18: 176، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث 4.
(3) الوسائل 18: 168، الباب الأول من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 6.
174

وأما منع لزوم القضاء بالنكول أو اليمين المردودة لمطلق الدعوى،
ففيه أنه إن أريد من ذلك وجوب الزام المنكر بالحلف وحبسه عليه
إلى أن يموت، فلا يخفى أنه مخالف للدليل من غير تقييد، وليس بأولى
من عدم سماع هذه الدعوى، حيث لا يمكن فصلها على طبق الأدلة،
فتأمل.
وإن أريد أنه لو لم يحلف المنكر لم يلزم به ولم يحكم عليه بالنكول،
ففيه: أن الخصومة لا تنقطع بذلك، لأنه إذا لم يحكم عليه بالنكول بالانكار
لم يحكم عليه إذا سكت فينتفي فائدة السماع رأسا.
وأما منع حرمة الأخذ بمجرد قضاء القاضي بالنكول، تنزيلا له منزلة
الاقرار أو البينة، ففيه - بعد تسليمه -: أنه بمنزلة أحدهما في الأحكام
الوضعية المترتبة عليهما في مقام فصل الخصومة لا مطلقا، فيكون دليلا
شرعيا للمدعي إذا كان شاكا.
هذا، ولكن الانصاف امكان التفصي عن الوجه الثاني بجميع الوجوه
المذكورة في منعه.
أما حبسه ليحلف (1)، إلى أن يموت، كما عن الصيمري، فهو غير بعيد
بعد فرض وجوب الحكم بين الناس إذا توقف قطع النزاع عليه، ومنه يظهر
صحة الوجه الثاني، وهو فصل الخصومة بالبينة فقط وعدم الزام المنكر
بالحلف، فلو لم يحلف لم يرد اليمين على المدعي ولم يقض بالنكول، بل توقف

(1) كذا في النسختين، وسيأتي في الصفحة (218) القول بوجوب حبس المنكر حتى
يقر أو يحلف، عن الصيمري. وراجع الهامش (4) هناك.
175

الدعوى، كما عن جماعة (1).
وأما الوج الثالث، فلا ضير في التزامه أيضا بعد فرض دلالة الدليل
على وجوب القضاء بالنكول، كما صرح به في المسالك (2)، إلا أن يدعى
اختصاص أدلة القضاء بالنكول بصورة جزم المدعي، كما هو الظاهر
[فيسقط الوجه الثالث، ويبقى فصل الخصومة] (3) بأحد الأولين.
ثم إنه ربما يستشهد لإباحة الأخذ بالمدعى مع الشك بوجود نظيره في
الشريعة، مثل ما دل على أن الأجير كالغسال والصباغ والمكاري إذا ادعوا
التلف ولم يقيموا بينة، حل تغريمهم المال، وإن لم يعلم بكذبهم (4).
وفيه - بعد تسليم اطلاقها بحيث يشمل صورة عدم اطلاع صاحب
المال بالحال، وبعد الغض عما سيجئ من منع ظهور تلك الأخبار في الزام
هؤلاء بالمال عند عدم إقامتهم البينة -: أنه يحتمل أن يكون ذلك لإذن
الشارع في التعويل على أصالة بقاء المال، فإن الأجير مدع وصاحب المال
منكر، فلا بأس بأن يجيب: ب‍ " لا أدري "، فيكون البينة على المدعي فإذا
لم يقمها سقط دعواه التلف وألزم بالمال أو قيمته، مع أنه ليس في تلك الأخبار - كما سيجئ - ظهور في الزامه بالمال عند عدم إقامته البينة.

(1) نسبه في الرياض (2: 411) إلى ظاهر القائلين بسماع الدعوى غير الجازمة، ثم
قال: " وبه صرح بعضهم ". والمصرح - على ما وقفنا عليه - هو الشهيد الثاني في
الروضة البهية 3: 81.
(2) المسالك 2: 295.
(3) من " ش "، والعبارة غير مقروءة في " ق ".
(4) انظر الوسائل 13: 271، الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة.
176

ومما ذكرنا يظهر ضعف التمسك بهذه الأخبار ونحوها على سماع دعوى
التهمة، ففي رواية بكر بن حبيب: " أعطيت جبة إلى القصار فذهبت بزعمه،
قال: إن اتهمته فاستحلفه، وإن لم تتهمه فليس عليه شئ " (1). ونحوها
روايته الأخرى.
ومصححة أبي بصير: " عن قصار دفعت إليه ثوبا فزعم أنه قد سرق
من بين متاعه، فقال: عليه أن يقيم البينة أنه سرق من بين متاعه " (3).
وفي أخرى: " لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك، إلا أن
يكونوا متهمين، فيخوف بالبينة أو يستحلف لعله يستخرج منه شيئا " (4).
وفي رواية - في حمال معه الزيت، فيقول: قد ذهب أو أهريق (5)
أو قطع عليه الطريق -: " فإن جاء ببينة عادلة أنه قطع عليه الطريق
أو ذهب فليس عليه شئ، وإلا ضمن " (6).
ومصححة الحلبي: " عن جمال استكري منه إبل وبعث معه بزيت إلى
أرض، فزعم أن بعض الزقاق انخرق فاهريق (7) ما فيه، فقال: إن شاء أخذ

(1) الوسائل 13: 275، الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 16.
(2) الوسائل 13: 275، الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 17.
(3) الوسائل 13: 272، الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 5.
(4) الوسائل 13: 274، الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 11.
(5) في المصدر: أهرق.
(6) الوسائل 13: 280، الباب 30 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 16.
(7) في المصدر: فاهراق.
177

الزيت، وقال: انخرق، ولكنه لا يصدق إلا ببينة عادلة " (1). إلى غير ذلك
من الروايات الظاهرة في تضمينهم مع عدم قيام البينة بمجرد احتمال كذبهم،
كما يشهد به قوله في الرواية الأخيرة: " لا يصدق إلا ببينة عادلة ".
والجواب عن الكل: أن موردها من عكس المسألة، وهو جزم المدعي
وترديد المدعى عليه، فأجاب الإمام عليه السلام في بعضها بلزوم إقامة البينة،
وفي بعضها بالاكتفاء عنه باليمين إن كان متهما، وتصديقه إن كان مأمونا.
ثم إن المراد بضمانهم عند عدم إقامة البينة ليس الزامهم بالمال.
كيف، وهو موقوف اجماعا على حلف صاحب المال، إما على عدم التلف
أو على عدم العلم به، إذا كان الجواب: " لا أدري "؟!
فالمراد بالضمان هو كونهم في معرضه، من جهة كون القول قول
صاحب المال، وكذا ما دل على وجوب احلافه مع التهمة لا يدل على
الحكم بضمانه إذا لم يحلف، بل لا يبعد أن يكون الغرض من عرض الحلف
عليه أن يخاف من اليمين الكاذبة فيرد ما أخذه على وجه لا يكذب نفسه،
كما يدل عليه قوله عليه السلام: " فيخوف بالبينة أو يستحلف لعله يستخرج منه
شيئا " (2).
ثم لو سلمنا ظهور هذه الأخبار في سماع دعوى التهمة فلا ظهور فيها
في كون ايراد الدعوى بطرق غير الجزم، بل يحتمل أن يراد منها أنه
إذا اتهم الأجير يجوز الدعوى الجزمية عليه بمطالبة المال، وإن كانت مستندة
إلى التهمة، ولا دليل على حرمة ايراد الدعوى بصيغة الجزم مع عدم الجزم

(1) الوسائل 13: 276، الباب 30 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث الأول.
(2) الوسائل 13: 274، الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 11.
178

واقعا، سيما إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما يشعر به التعليل في قوله عليه السلام:
" فيخوف بالبينة أو يستحلف لعله يستخرج منه شيئا ". خصوصا إذا جعلنا
المراد من تخويفه بالبينة اظهار بينة تشهد ببقائه عندك، لا أن المراد
مطالبته بالبينة.
هذا، مع إمكان حرمة ايراد الدعوى بصيغة الجزم مع الظن،
فإن الاخبار بمقتضى الظن لا دليل على حرمته في نفسه، وكيف كان،
فالاستدلال بتلك الروايات في غير محله.
وأضعف منها: الاستدلال بحكاية قضاء أمير المؤمنين عليه السلام في
الرجل الذي خرج إلى السفر مع رفقة له فقتلوه، فاتهمهم ولد المقتول،
فترافع بهم أولا عند شريح فحكم بحلفهم له، ثم جاء بهم عند
الأمير صلوات الله عليه، فحكم بهم بحكم داود على نبينا وآله وعليه السلام " (1).
وجه ضعفه: أن فعل شريح لا حجة فيه، وأما فعل علي عليه السلام فهو في
قضية خاصة، وقد صرح عليه السلام بكونه حكم داود.
نعم، هنا أخبار أخر ظاهرة في سماع الدعوى إذا كانت على وجه
التهمة:
منها: الرواية الواردة في الرجل الذي أخرجه رجلان من منزله ليلا،
فادعى عليهما وليه على وجه التهمة (2).
ومنها: ما ورد في باب الوصية فيمن حضره الوفاة فاستودع ماله من

(1) الوسائل 18: 204، الباب 20 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث
الأول.
(2) الوسائل 19: 36، الباب 18 من أبواب قصاص النفس، الحديث الأول.
179

نصرانيين، فخانا شيئا من المال فادعى عليهما الوارث على وجه التهمة (1)،
إلا أن في الاعتماد عليهما اشكال، بل نظر ومنع.
ثم إن مقتضى الوجه الثاني من وجهي عدم السماع - وهو عدم جواز
رد اليمين ولا القضاء بمجرد النكول - يقتضي اعتبار كون المدعي جازما في
الواقع، ليجوز له الحلف إذا رد اليمين عليه، وأكل المال إذا قضينا بمجرد
النكول، لكنك عرفت سابقا أن ذلك الوجه لا ينهض لاثبات المطلب، فيبقى
الوجه الأول، وهو منع صدق الدعوى، مع منع عموم في أدلة الحكم بين
الناس. ومقتضاه: كفاية ايراد الدعوى بصيغة الجزم، كما هو ظاهر الشرائع (2)
وصريح المسالك (3) وغاية المراد (4) وحكي عن الصيمري (5).
وقد تعجب الشارح من صاحب المسالك، حيث جمع بين كفاية
ايراد الدعوى بصيغة الجزم وإن لم يكن جازما في الواقع، وبين استدلاله له
بأن الدعوى يلزمها أن يعقبها يمين المدعي أو القضاء بالنكول، وهما
غير ممكنين مع عدم العلم بأصل الحق، واعترض عليه أيضا، بأنه كيف
يورد الدعوى بصيغة الجزم مع عدم جزمه واقعا، وذلك كذب وتدليس،

(1) الوسائل 13: 394، الباب 21 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث الأول.
(2) الشرائع 4: 82.
(3) المسالك 2: 295.
(4) غاية المراد: 299.
(5) غاية المراد (مخطوط) 2: 193، وفيه: والجزم إنما هو شرط في الايراد، لا الجزم
في نفس الأمر، وحكاه عند السيد العاملي في مفتاح الكرامة 10: 68.
180

ولا ضرورة حتى يجوز التورية (1). وتبعه في ذلك صاحب الكفاية (2).
أقول: قد عرفت أنه لا مانع من ايراد الدعوى بصيغة الجزم،
خصوصا فيما فرضه في المسالك (3) من صورة وجود بينة تشهد له بحقه،
خصوصا مع التورية، ومنع الضرورة المسوغة لها محل نظر.
هذا كله مع أن الكلام ليس في مقام الجواز التكليفي وعدمه للمدعي،
وإنما الكلام في سماع دعواه، وأما قوله: " أن الدعوى يلزمها أن يعقبها
يمين المدعي " (4) فليس معناه لزوم تعقبها له فعلا، كيف ورب دعوى
لا تنجر إليه، بل المراد أن الحاكم إذا رأى أن الدعوى ليس من شأنها
أن يعقبها يمين المدعي أو القضاء بالنكول لا يسمعها. ويكفي في شأنية
الدعوى لذلك كونها بصيغة الجزم.
نعم، لو فرض علم الحاكم بأن المدعي غير جازم في قلبه، توجه عدم
سماعها. لكن الظاهر أن كلام المسالك ومثله محمول على الغالب.
ثم إن ظاهر المحكي عن الرياض (5) أن محل الخلاف إنما هو في صورة
التهمة - المفسرة في كلام بعض (6) بما يعسر الاطلاع عليه - وأما القول

(1) مجمع الفائدة 12: 126.
(2) كفاية الأحكام: 26.
(3) المسالك 2: 295.
(4) المسالك 2: 295.
(5) الرياض 2: 411.
(6) هو الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 336.
181

بالسماع مطلقا لم يعرف لأحد من علمائنا، وإن حكاه في المسالك (1) بلفظ
" قيل "، والظاهر أنه كان كذلك إلى زمان المحقق الشارح (2)، فمال إلى السماع
مطلقا (3) وتبعه جماعة ممن تأخر عنه (4)، واختاره جماعة (5) من المعاصرين،
بل صرح بعضهم (6) بعدم الفرق بين الدعوى المظنونة والمشكوكة والموهومة،
بناء على شمول لفظ التهمة في كلامهم للوهم، وتعويلا على عبارة الدروس
حيث قال: " وأما الجزم فالاطلاق محمول عليه. ولو صرح بالظن، أو الوهم،
فثالث الأوجه: السماع فيما يعسر الاطلاع عليه " (7).
أقول: أما من عبر بالتهمة فالظاهر أنه لا يشمل مطلق الوهم، وهو
الاحتمال المرجوح، كما يعلم من قوله: " اتقوا من مواضع التهم " (8).
وما ذكروه من كراهة سؤر الحائض المتهمة، بل جعلوها أخص من
غير المأمونة. وقولهم: إن التهمة من موانع قبول الشهادة.
والظاهر أن لفظ " الوهم " في كلام الشهيد أيضا يراد به مبدأ الاتهام،

(1) المسالك 2: 295.
(2) قد تقدم في هامش الصفحة: 172، عن فخر المحققين تقوية القول بالسماع مطلقا،
وهو متقدم زمانا على المحقق الأردبيلي.
(3) مجمع الفائدة 12: 125.
(4) منهم الفاضل في كشف اللثام 2: 336، ولم نقف على غيره.
(5) مثل المحقق القمي في الغنائم: 678، والمحقق النراقي في المستند 2: 542.
(6) الظاهر أنه المحقق النراقي في المستند 2: 542.
(7) الدروس 2: 84.
(8) لم نقف عليه باللفظ المذكور، نعم ورد مؤداه في أحاديث، انظر الوسائل 8: 422،
الباب 19 من أبواب أحكام العشرة.
182

لا مطلق الاحتمال المرجوح، فتأمل.
وظاهر عبارة المصنف هنا عدم سماع غير المظنونة.
ويتفرع على ما ذكر - من سماع الدعوى المشكوكة والموهومة - سماع
الدعوى على أزيد من واحد إذا ادعى على كل منهم بالاستقلال، سواء
ادعى العلم الاجمالي بثبوت الحق على بعضهم أو لا.
وأما لو قال: " أحدكما لي عليه كذا "، فالظاهر عدم السماع، إذ
لا مدعى عليه معينا، حتى يطالب بالجواب، ولعدم سماع البينة على أحدهما
الغير المعين، وعدم جواز حلفه، واستحقاق احلاف كل منهما ليس عين
حلف المنكر.
إلا أن الظاهر من الرواية المتقدمة - في هذه المسألة - في نصرانيين
استودعهما الميت عند وفاته مالا فادعى عليهما الوارث على وجه التهمة
الخيانة في ذلك المال (1) استحقاق الحلف عليهما وإن تردد المدعي بينهما،
إلا أن يحمل على كون الدعوى عليهما على وجه الاشتراك (2).
[(ولو أحاط الدين بالتركة فالمحاكمة إلى الوارث فيما يدعيه
للميت)] (3).
(وإذا ادعى) المدعي وحرر الدعوى على وجه يستحق الجواب،

(1) تقدمت في الصفحة: 179.
(2) هذا آخر ما ورد في الصفحة اليمنى من الورقة (170)، وبعده بياض بمقدار ستة
أسطر.
(3) من الإرشاد، ولم نقف على شرح المؤلف قدس سره له فيما بأيدينا من النسختين.
183

(فإن سأل المدعي (1)) الحاكم (المطالبة بالجواب) فلا إشكال ولا خلاف
في وجوب مطالبته به، لتوقف قطع الدعوى على النحو المتعارف عليه،
ولما سيجئ.
وإن لم يسأله المطالبة فليس عليه، بل ولا له مطالبته به، كما هو ظاهر
المصنف هنا، كالمحكي عن موضع من المبسوط (2) والسرائر (3) وعن المهذب (4)
والشرائع (5) والدروس (6)، خلافا للمحكي عن ظاهر النهاية (7) والغنية (8)
وصريح التحرير (9) والمختلف (10) والكامل (11) وموضع آخر من السرائر (12)، وقواه
في محكي المبسوط (13)، بعد أن جعل الأول هو الصحيح عندنا.
وكأن الجميع متفقون على أن الجواب حق للمدعي لا يطالب المدعى عليه

(1) في الإرشاد: " فإذا ادعى وسأل المدعي.. ".
(2) المبسوط 8: 157.
(3) السرائر 2: 178.
(4) المهذب 2: 584.
(5) الشرائع 4: 82.
(6) الدروس 2: 87.
(7) النهاية: 339.
(8) الغنية (الجوامع الفقهية): 564.
(9) التحرير 2: 186.
(10) المختلف: 700.
(11) حكاه عنه في المختلف: 700.
(12) لم نقف عليه.
(13) المبسوط 8: 158.
184

به إلا بعد مطالبة المستحق. إلا أن الآخرين يكتفون - كما عن المبسوط (1)
والتحرير (2) والدروس (3) والمسالك (4) - بأن شاهد الحال يدل على سؤال
المدعي المطالبة بالجواب، للعلم العادي بأن الانسان لا يحضر خصمه مجلس
الحكم وينصرف من غير جواب.
والأولون إما أن لا يقنعوا بشهادة الحال، لاعتبار القول الصريح
في مطالبة الحق، كما لا يجوز الاكتفاء في احضار الخصم بشهادة حال المدعي
قبل التصريح بالاستعداء، أو لعدم إفادته القطع بالمطالبة بمجرد تحرير
الدعوى، فلعله لا يلزم المدعى عليه بالمبادرة. وإما لأنهم أرادوا من المطالبة
الأعم من القولي والحالي، فيكون مقصودهم بيان أن الجواب حق المدعي
ليس للحاكم مطالبته من دون التماس المدعي حالا أو مقالا، يريدون بذلك
دفع توهم كون ذلك واجبا على الحاكم، لتوقف فصل الأمر عليه، كما احتمله
الشارح المقدس قدس سره حيث قال: " قد يقال: إن كون الحق للمدعي
لا يستلزم توقفه على طلبه، أو أنه بعد الاحضار كان حقا للحاكم " (5)، انتهى.
وجزم به بعض المعاصرين (6) مستندا إلى أنه منصوب لقطع
الخصومات، وضعفه واضح، فإن قطع الخصومة قبل جواب المدعى عليه

(1) المبسوط 8: 157.
(2) التحرير 2: 186.
(3) الدروس 2: 87.
(4) المسالك 2: 295.
(5) مجمع الفائدة 12: 128.
(6) هو صاحب الجواهر في الجواهر 40: 157.
185

- لحق المدعي على عدم المطالبة - لا يجوز التصدي له (1)، كما لا يجوز
التصدي له قبل الادعاء. ودعوى شهادة الحال بطلبه قطع الخصومة رجوع
إلى ما ذكره الجماعة من حصول المطالبة بشهادة الحال.
فالتحقيق: أن مطالبة الحاكم للمدعى عليه الجواب ليس لأدلة قطع
الخصومات، لأن الخصومة لا تحصل إلا بعد الجواب، بل هي لأدلة إحقاق
الحقوق، نظير وجوب احضار المدعى عليه عند استعداء المدعي عليه
في كونها من مقدمات إحقاق الحقوق الواقعية لمستحقها الواقعي.
فحينئذ لا يعقل كونه حقا للحاكم بل هو واجب عليه لحق المدعي.
نعم، ما ذكره الجماعة من حصول المطالبة بشاهد الحال حسن
لو فرض شهادتها بسؤال مطالبة الجواب فورا عقيب تحرير الدعوى.
وربما يستدل بذلك بالأخبار الواردة في سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأمير المؤمنين عليه السلام المدعى على الجواب من دون مسألة المدعي ذلك (2)،

(1) في النسختين - هنا - زيادة ما يلي: " وفيه: - بعد تسليم تحقق الخصومة فعلا قبل
الجواب -: إن قطع الخصومة قبل جواب المدعى عليه، ليس إلا لحق المدعي،
فلا يتصدى له قبل مطالبته ". والظاهر أن أحد الجوابين زائد معرض عنه، وما أثبتناه
في المتن أوضح وأصوب، لكن في " ش " مكتوب فوق ما أثبتناه: " زياد ".
(2) انظر مفتاح الكرامة 10: 71، لكن لم نقف في أخبارنا على خبر حاك لكيفية
قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. نعم وردت روايات كثيرة في القضايا والأحكام
المنقولة عن أمير المؤمنين عليه السلام، أورد جملة منها الشيخ الحر قدس سره في الوسائل
18: 206، الباب 21 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، وهذه الأخبار غير
ظاهرة في ما استدل له، فراجع. وأجود ما في المقام ما ذكره السيد المجاهد: من خلو
الأخبار عن الإشارة إلى توقف مطالبة الجواب على التماس المدعي، انظر المناهل: 722.
186

بل يدعى أن تتبع قضاياهم يوجب القطع بذلك (1).
وفيه: أنه يحتمل أن يكون على وجه الاستفهام من دون مطالبة
والزام بالجواب، فإن الظاهر جواز ذلك من الحاكم ومن الأجنبي.
ثم إنه لو أجاب من دون مطالبة فلا إشكال، وكذا إن سأله الحاكم من
دون مسألة المدعي، والظاهر أنه لا إثم على الحاكم ما لم يلزمه عليه،
كما عرفت.
ولا ينافي ذلك كونه حقا للمدعي، لأن سؤال الحاكم ليس تصرفا
في حق المدعي واستيفاء له، بل هو كسؤال الأجنبي.
ثم إنه لو أجاب بالانكار أو الاقرار صح الحكم بشروطه.
وربما يتخيل أنه لو أجاب بمطالبة الحاكم من دون مسألة المدعي
بالانكار، لم يتوجه عليه اليمين بل يعيد السؤال، وفيه نظر.
وإن سكت لم يجر عليه أحكام السكوت الآتية، لأن المفروض عدم
وجوب الجواب عليه قبل مطالبة المدعي.
فهنا تظهر ثمرة القولين، لا فيما سبق توهمه عن بعض.
ثم إن ظاهر كلماتهم الاتفاق على عدم جواز الحكم من دون جواب
المدعى عليه، فلو أقام المدعي البينة قبل الجواب لم يجز للحاكم الحكم.
وقد يشكل بعموم أدلة القضاء بالبينة، ولذا يقضى على الغائب.
اللهم إلا أن يستظهر منها صورة التخاصم الفعلي، ويكون القضاء على
الغائب خارجا بالنص (2).

(1) ادعاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 10: 71.
(2) الوسائل 18: 216، الباب 26 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
187

هذا، مع استفاضة الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله بأنه إذا تقاضى
عندك رجلان فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر (1)، وفي بعضها:
" حتى تسأل الآخر " (2).
وفي بعضها التعليل بأنه أجدر أن تعلم الحق (3)، وفي بعضها قال
علي عليه السلام: " فما شككت في قضاء بعد ذلك " (4). وعن مولانا الرضا عليه السلام:
" إن هذه خطيئة داود على نبينا وآله وعليه السلام في قضية الخصمين، حيث قال: (لقد
ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) (5) ولم يسأل المدعي البينة، ولم يقبل على
المدعى عليه فيقول له: ما تقول " (6) (7).
وكيف كان، فإذا (طولب الخصم) بالجواب فإما أن يجيب
أو يسكت. وربما يجعل السكوت أيضا جوابا، لرتب بعض أحكام الانكار
عليه، إذ لا يعد انكارا وامتناعا عرفا، والجواب إما اعتراف وإما إنكار.
(فإن اعترف) بالمدعى وكان جامعا لشرائط قبول الاعتراف، ثبت

(1) الوسائل 18: 158، الباب 4 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث
2 و 7.
(2) الوسائل 18: 159 الباب 4 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث
6، وفيه: دون أن تسأل من الآخر.
(3) الوسائل 18: 159، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 7.
(4) الوسائل 18: 159، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 6.
(5) سورة ص: 24.
(6) الوسائل 18: 159، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 5، نقلا بالمعنى.
(7) ورد في " ق " - هنا - زيادة: " ثم إن الظاهر أن الحاكم لو كان عالما بالحق "،
وأوردها ناسخ " ش " أيضا إلا أنه شطب عليها.
188

عليه في ظاهر الشرع ما اعترف به وإن لم يحكم عليه الحاكم، لأن اقرار
العقلاء على أنفسهم جائز من دون تقييد بحكم الحاكم، مع استمرار سيرة
المسلمين على معاملة المقر بإقراره من دون مراجعة الحاكم.
نعم، لو كان دلالة كلامه على الاقرار أو استجماع إقراره لشرائط
القبول نظريا موقوفا على النظر، لم يلزم عليه إلا بعد الاجتهاد أو التقليد
في كونه اقرارا جامعا للشرائط. وفي الحقيقة السبب لثبوت الحق هو الاقرار
المستجمع للشرائط الواقعية، إلا أن تشخيص ذلك قد يكون بالاجتهاد
وقد يكون بالتقليد.
وبالجملة، فالاقرار معرف ظاهري لثبوت الحق، نظير الأسباب
الواقعية له، فكما يصح دعوى نفس الحق واثباته بالبينة والاقرار به
والانكار له والحلف والاحلاف عليه، كذلك يصح دعوى الاقرار واثباته
[بالبينة] (1) والاقرار به والانكار له والحلف والاحلاف عليه. وهذا بخلاف
البينة المجردة عن الحكم فإنها بنفسها لا توجب ثبوت الحق ظاهرا على
المدعى عليه (بل هي سبب لحكم الحاكم الذي هو سبب لثبوت الحق " (2)،
وذكر الشهيدان في وجه الفرق بينهما " أن البينة منوطة باجتهاد الحاكم في
قبولها وردها وهو غير معلوم بخلاف الاقرار " (3).
ويشكل بأنه إن أريد من ذلك اختصاص قبول البينة إذا استجمعت

(1) من " ش ".
(2) ما بين القوسين ليس في " ش ".
(3) انظر غاية المراد: 300 والمسالك 2: 296.
189

الصفات، وردها إذا لم تستجمعها بالحاكم - كما فهمه منه الشارح المحقق (1) -
أمكن أن يقال: إن مقتضى إطلاق أدلة شهادة العدلين جواز العمل بها لكل
أحد، وإن لم يحكم بمقتضاها الحاكم، بل حكم الحاكم أيضا بمقتضاها نوع من
العمل بها قد استفيد من تلك الأدلة ومن غيرها، ودعوى اختصاص أدلة
حجيتها في الحقوق بغير صورة الخصومة بعيدة.
وإن أريد من ذلك أن البينة إن كانت حجة لكل من قامت عنده،
إلا أن تشخيص استجماعها للشرائط وعدمها منوط باجتهاد الحاكم، في أنها
استجمعت للشرائط أو لا، كما فهمه بعض آخر (2) من العبارة المذكورة.
ففيه: - مع امكان دعوى مثل ذلك في الاقرار في كثير من عباراته
المشكلة وشرائطه المختلف فيها - أن إناطة قبول البينة وردها باجتهاد الحاكم
إنما هي لأجل حكمه الذي هو نوع من عمله بها، فإذا فرضنا جواز عمل
الغير أيضا بها اعتبر استجماعها للشرائط في نظره، وإن لم يكن كذلك في نظر
الحاكم، إذ لا يصح أن يكون الحجة لغير الحاكم البينة الجامعة للشرائط
عند الحاكم وإن كان فاقدا عند ذلك الغير، مع أنه قد يكون قبول الحاكم
للبينة معلوما، لكنه لم ينشئ الحكم بعد ذلك لانتظار التماس المدعي
أو غيره مما لا مدخل له في قبول البينة.
وأما ما تقدم من كون الاقرار بالحق كنفس الحق قابلا للدعوى
والانكار والاقرار والاحلاف عليه، فالبينة وإن لم يكن كذلك، إلا أن ذلك
لأجل عدم سببية البينة لثبوت الحق وقابليته لحكم الحاكم على طبقها إلا إذا

(1) مجمع الفائدة 12: 129.
(2) ذكره المحقق النراقي في المستند 2: 546 من دون إشارة إلى عبارة الشهيدين.
190

قامت على وجه خاص، فدعوى المدعي قيام البينة المقبولة له في زمان من
الأزمنة الماضية عند حاكم آخر لا يجدي لحكم هذا الحاكم، ولو ادعى
قيامها عند هذا الحاكم أيضا لم ينفع لاشتراط تذكر الحاكم للبينة حين
الحكم، فتأمل.
هذا، ولكن لا يبعد أن يكون مراد الشهيدين المعنى الأول، وهو عدم
جواز العمل بالبينة في الخصومات إلا أن يلحقه حكم حاكم، ومحصله أن
المرجع في الخصومات للجاهل بالحق هو حكم الحاكم ليس إلا، حتى أن
الحاكم بنفسه قبل حكمه لا يجوز له أن يعمل بالبينة، إلا أن يكون نفس
عمله حكما. وإنما ذكروا الوجه المذكور في كلام الشهيدين من باب حكمة
الحكم، وحاصله أن قبول البينة لما كان متوقفا على خصوصيات كثيرة نظرية
لم يكن من شأن كل أحد العمل بها، أناطه الشارع بحكم الحاكم، كما أناط
الشارع الحكم بالبينة واليمين بصدوره من المجتهد، مع قدرة المقلد عليه أيضا
فيما لا يحتاج إلى اجتهاد في تمييز المدعي والمنكر وتعيين وظيفتهما.
ويؤيد ما ذكرنا - من إرادتهم الحكمة لا العلة - أنه ذكر في المسالك
من فروع كون يمين المدعي كالبينة أو كإقرار المنكر أنه على الأول يحتاج إلى
حكم الحاكم بخلاف الثاني (1)، إذ لا يخفى أن ما ذكره من الوجه في توقف
البينة على الحكم لا يجري في يمين المدعي.
وإلى ما ذكرنا يمكن أن ينظر من قال في وجه الفرق بين الاقرار
والبينة: إن الاقرار لا يتحقق معه خصومة حتى يحتاج إلى حكم الحاكم (2).

(1) المسالك 2: 296.
(2) لم نظفر على قائله.
191

وقد حمله (1) بعضهم (2) على إرادة أنه لا مجال لحكم الحاكم معه، لعدم
خصومة يقطعها الحاكم بحكمه، فاعترض عليه باتفاقهم على صحة الحكم مع
الاقرار، بل وجوبه إذا التمسه المدعي.
وكيف كان، فإن (ألزم) المقر بالحق (3) بإنشاء الحكم (بأن يقول
الحاكم: حكمت أو قضيت أو أخرج عن (4) حقه) أو أد أو ادفع إليه حقه أو نحو
ذلك مما يعد عرفا إنشاء لفصل الخصومة انقطعت الخصومة بحيث لا تعود
أبدا.
نعم، يمكن حينئذ حدوث خصومة أخرى في أصل الحكم وعدمه.
هذا (مع التماس المدعي) للحكم، إما بالقول أو بدلالة الحال دلالة
عرفية، وإلا فلا يجوز، لأن الحكم حق للمدعي فلا يستوفي إلا بإذنه، فيقع
الحكم بدونه لغوا.
والفرق بينه وبين جواب المدعى عليه - حيث لا بقع لغوا بدون
مطالبة المدعي - هو أن الجواب ليس لمجرد حق المدعي، بل مشترك بينه
وبين المجيب، إذ للانسان أن يجيب من ادعى عليه بشئ، فإذا امتنع عنه ألزم
عليه، لحق المدعي. وهذا بخلاف حكم الحاكم على المدعى عليه للمدعي فإنه
محض حق للمدعي، فلا يستوفى من دون إذنه، كما أن الحكم بعد يمين المنكر

(1) الظاهر رجوع الضمير إلى ما ذكره في المسالك.
(2) لم نظفر عليه ولا على من اعترض عليه، نعم ورد في الجواهر (40: 166) بعض
ما ذكر، فلاحظ.
(3) في " ق " ظاهرا: " الحق ".
(4) في الإرشاد: من.
192

ببراءة ذمته حق للمنكر، فلا يجوز إلا بالتماسه.
(وإلا) يحكم الحاكم - لعدم التماس المدعي أو لمانع آخر - لم تنقطع
الخصومة، فلو أنكر لم يجز الزامه بما أقر به سابقا من دون حكم حاكم آخر
عليه، وإن (ثبت الحق) بمجرد الاقرار، لما تقدم.
وقد صرح الشهيدان (1) بأن فائدة الحكم هو انفاذ حاكم آخر إياه.
وربما يشكل بأنه إن أريد إنفاذ حاكم آخر له إذا فرض إنكار المحكوم
عليه ومرافعة المدعي إياه إلى حاكم آخر، ففيه: أنه لا فرق بين أن يثبت
عند ذلك الحاكم حكم الحاكم الأول أو اقرار المدعى عليه، فكما يثمر ثبوت
الحكم عند عدم ثبوت الاقرار، كذا يثمر ثبوت الاقرار عند عدم ثبوت
الحكم، فمع ثبوتها عند الحاكم الثاني لا فائدة في الحكم تزيد على الاقرار (2).
[(ولو طلب أن يكتب عليه أجيب إن عرفه الحاكم أو عرفه عدلان، وله
أن يشهد بالحلية. ويطالب السيد بجواب القصاص والأرش لا العبد)] (3).
(فإن ادعى) المقر (الاعسار وعرف) الحاكم (صدقه) بنفسه
أو (بالبينة) المطلعة على باطن أمره (أو اعترف (4) خصمه) بالاعسار
المستلزم لعدم التسلط عليه في الحال (انظر) ولم يطالب بأداء المال في

(1) غاية المراد: 299، والمسالك 2: 296.
(2) هذا آخر ما ورد في الصفحة اليسرى من الورقة (172)، والصفحة اليمنى من
الورقة (173)، بياض، وقوله: فإن ادعى المقر هو أول الصفحة اليسرى من
الورقة (173).
(3) من الإرشاد، ولم نقف على شرح العبارة فيما بأيدينا من النسختين.
(4) في الإرشاد: أو اعتراف.
193

الحال.
وهل يلزم بالتكسب؟ قولان، أقواهما ذلك، لكونه مقدمة للواجب
المطلق، وهو ايفاء الدين الواجب بالعقل، لكون تركه ظلما عرفا وشرعا،
لقوله عليه السلام: " مطل الغني ظلم " (1) والقادر على التكسب غني عرفا،
ولهذا يمنع عن الزكاة، ألا ترى أنه لا يفرق في تحقق الغنى عرفا ولا في
صدق ظلم الغريم بين قدرة الانسان على إجارة نفسه وبين قدرته على
إجارة الدار التي لا يملك إلا منفعتها؟ ومجرد كون منفعة الدار مالا، ومنفعة
نفسه غير مال - وإنما يعوض بالمال - لا يوجب الفرق في العرف بالبداهة.
ولقد كفانا المحكي عن المصنف قدس سره في المختلف توضيح المطلب حيث
إنه - في تقريب ما ذكره في الوسيلة من أنه إذا كان ذا حرفة دفعه إليه
ليستعمله، فما فضل عن قوته وقوت عياله بالمعروف أخذ بحقه (2) - قال:
وما ذكره ابن حمزة ليس بعيدا من الصواب، لأنه متمكن من أداء ما يجب
عليه، وايفاء الدين واجب فيجب عليه، كما يجب عليه السعي في المؤونة كذا
يجب أداء الدين. قال: ونمنع اعساره لأنه متمكن.
ولا فرق بين القدرة على المال والقدرة على تحصيله، ولذا منعنا القادر
على التكسب بالصنعة والحرفة عن أخذ الزكاة، باعتبار الحاقه بالغني القادر.
قال: والآية (3) متأولة بالعاجز عن التكسب والتحصيل، وكذا ما ورد من

(1) الوسائل 13: 90، الباب 8 من أبواب الدين والقرض، الحديث 3، وهو من
ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله، كما في المصدر.
(2) الوسيلة: 212.
(3) قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) البقرة: 280.
194

الأخبار (1)، انتهى (2).
وحكي عن الحلبي في الكافي قريب ما تقدم من الوسيلة، حيث قال:
لم يحبس ولكن يقرر عليه ما يفضل من مكسبه عن قوته وعياله لغريمه (3).
وفي المسالك - بعد حكاية ما عن المختلف - ما حاصله: أن هذه
الأدلة لا بأس بها، إلا أنها لا تدل على مذهب ابن حمزة من تسليمه
إلى الغريم ليستعمله وتسلطه على منافعه بإجارة ونحوها (4).
أقول: ويمكن أن يراد من دفعه إليه جعله مراقبا له لئلا يتلف الزائد
عن النفقة الواجبة عليه، والمقصود من استعماله هو العمل للغريم، بل لا يبعد
أن يراد به الالزام بأصل العمل من دون خصوصية في المعمول له.
وكيف كان، فلا اشكال في أن ما ذكرنا هو المتعين، إلا أن يدعى
أن المستفاد من الروايات، كون التسلط على المديون مشروطا بتملك عين
ما في ذمته أو بدله.
منها: رواية سلمة بن كهيل - وفيها ابن محبوب -، قال:
" سمعت عليا عليه السلام يقول لشريح: انظر إلى أهل المعك (5) والمطل ودفع حقوق
الناس من أهل المقدرة واليسار ممن يدلي بأموال الناس إلى الحكام، فخذ

(1) الوسائل 13: 113، الباب 25 من أبواب الدين والقرض.
(2) المختلف: 711 - 712.
(3) الكافي في الفقه: 447.
(4) المسالك 2: 296.
(5) المعك: المطال واللي، يقال معكه بدينه أي مطله به. انظر الصحاح 4: 1608،
مادة " معك ".
195

للناس بحقوقهم منهم، وبع فيها العقار والديار، فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم، ومن
لم يكن له عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه.. الخ " (1).
فإن في إطلاق نفي السبيل على من لا مال له بالفعل - مع اقتضاء
المقام للبيان - دلالة واضحة على عدم وجوب الزامه بالتكسب.
ومنها: رواية أصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه " قضى في
الدين أنه يحبس صاحبه، فإن تبين إفلاسه والحاجة خلي سبيله حتى يستفيد
مالا " (2). فإن الظاهر كون " حتى " للغاية، وجعله للتعليل بالعلة الغائية - مع
مخالفته للظاهر - لا يوجب ظهوره في وجوب الاستفادة، مع أنه لو وجب
الاستفادة لم يفد حبسه حتى يتبين إفلاسه، بل ألزم بالمال ولو بإيجاره
إن لم يدفع من ماله.
ومنها: أنه عليه السلام " قضى في الرجل يلتوي على غرمائه أنه يحبس،
ثم يؤمر به فيقسم ماله بين غرمائه بالحصص، فإن أبى باعه فقسمه
بينهم " (3)، فإن السكوت عن بيان اجباره على التكسب ظاهر في عدمه.
ومنه يظهر دلالة صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: " كان
علي عليه السلام لا يحبس في الدين إلا ثلاثة: الغاصب، وآكل مال اليتيم ظلما،

(1) الوسائل 18: 155، الباب الأول من آداب القاضي، الحديث الأول.
(2) الوسائل 18: 180، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث
الأول.
(3) المصدر السابق، ذيل الحديث المتقدم.
196

ومن ائتمن بأمانة فذهب بها، وإن وجد [له] (1) شيئا باعه، غائبا كان
أو شاهدا " (2).
وضعف سند الجميع لو سلم - كقصور دلالة البعض - مجبور بالشهرة
المحققة والمستفيضة والاجماع المحكي عن ظاهر الغنية (3)، مضافا إلى أصالة
عدم التسلط، بناء على أن المسلم من الأدلة السابقة وجوب التكسب،
وهو لا يوجب إلا الزام الحاكم له من باب الأمر بالمعروف مع تحقق
شروطه، ولا يثبت به تسلط الغريم على إلزامه بذلك، أو تسلط الحاكم عليه
لأجل الغريم.
نعم، لو تمت دعوى الظلم المتقدمة ثبت التسلط، إلا أن صدق الظلم
عرفا لا اعتبار به بعد الشك في استحقاق الغريم للمطالبة.
وأما قوله عليه السلام: " مطل الغني ظلم " (4) وقوله عليه السلام: " لي الواجد
يحل عقوبته " (5) فلا دلالة فيهما، لأن الظاهر من " المطل " و " اللي ": المدافعة،
لا التصريح بالعجز وعدم التمكن في الحال مع العلم بصدقه، فتأمل.
ويؤيد الحكم ما عن المبسوط من عدم الخلاف في عدم اجباره بقبول
الهبات والوصايا والاحتشاش والاحتطاب والاصطياد والاغتنام والتلصص

(1) من المصدر.
(2) الوسائل 18: 181، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 2.
(3) الغنية (الجوامع الفقهية): 532.
(4) الوسائل 13: 90، الباب 8 من أبواب الدين والقرض، الحديث 3.
(5) الوسائل 13: 90، الباب 8 من أبواب الدين والقرض، الحديث 4.
197

في دار الحرب، ولا تؤمر المرأة بالتزويج لتأخذ المهر وتقضي الدين،
ولا الرجل بخلع زوجته فيأخذ عوضه. قال: لأنه لا دليل على شئ من
ذلك، والأصل براءة الذمة (1)، وإن أمكن منع التأييد بذلك، لأن ما هو
اكتساب من هذه الأمور كالاحتشاش وأخويه لا نسلم الاجماع على عدم
وجوبه، وهل النزاع إلا فيه وفي أمثاله؟! وأما غيرها، فالفرق بينهما وبين
القدرة على التكسب صدق الاعسار مع التمكن منها، ولذا لا يمنع الرجل عن
الزكاة لمجرد القدرة على خلع زوجته أو التلصص من (2) دار الحرب، فتأمل.
وبالجملة، فما اختاره المصنف من إنظاره (حتى يوسع الله عليه)
لا يخلو من قوة وإن كان ما قويناه (3) أولا أيضا غير بعيد.
وعلى أي تقدير، فلا ريب في ضعف ما نسب إلى الشيخ في النهاية (4)
من مضمون رواية السكوني المتضمنة لدفع أمير المؤمنين صلوات الله عليه المعسر
إلى الغرماء، وقوله لهم: " اصنعوا به ما شئتم، إن شئتم آجروه، وإن شئتم
استعملوه " (5)، لضعف الرواية في نفسها ومخالفتها للقواعد، ولعمل جل
الأصحاب بل كلهم، فإن الشيخ لم يفت به في النهاية على ما قيل (6)،
وإنما ذكرها على وجه الرواية، مع أن فتاويه في ذلك الكتاب نقل للروايات

(1) المبسوط 2: 274.
(2) كذا في النسختين، والظاهر " في ".
(3) من تقوية إلزامه بالتكسب في الصفحة: 194.
(4) النهاية: 352.
(5) الوسائل 13: 148، الباب 7 من أبواب الحجر، الحديث 3.
(6) انظر الجواهر 40: 166.
198

بالمعنى، وأما ابن حمزة والحلبي فقد عرفت (1) إمكان توحيه كلامهما، ولذا
استقربه العلامة (2) بما يرجعه إلى القول الآخر الذي اخترناه أولا، تبعا لجماعة
من المعاصرين (3) وغيرهم، كصاحب التنقيح (4) والشارح المقدس (5).
(وإلا) يثبت إعساره بأحد الوجوه المتقدمة (طولب بالبينة) إن
ثبت عند الحاكم أنه (كان له) قبل ذلك (مال ظاهر) يوجب اليسار،
(أو كان أصل الدعوى) التي أقر بها (مالا) موجبا لليسار لا مطلق
المال، فإن بقاءه لا ينافي الاعسار، لأنه حينئذ مدع لأصالة بقاء يساره
وعدم اعساره، ولعموم قوله عليه السلام - في الرواية السابقة - أنه عليه السلام كان
يحبس في الدين فإذا تبين افلاسه والحاجة خلى سبيله (6). ومقتضى القاعدة
أنه لو لم يقم البينة توجه الحلف على المدعي المقر له إن أنكر إعساره
على وجه الجزم، فإن نكل أجرى حكم النكول، وإن أنكره على وجه عدم
العلم لم يتوجه عليه اليمين، ففي حلف مدعي الاعسار اليمين المردودة
فيخلى سبيله، أو حبسه مع عدم البينة، وجهان مبنيان على حكم المجيب
ب‍ " لا أدري وسيجئ ".

(1) في الصفحة: 195.
(2) المختلف: 711.
(3) كالنراقي في المستند 2: 547.
(4) انظر التنقيح 4: 251.
(5) مجمع الفائدة 12: 134.
(6) راجع الصفحة: 196.
199

وكيف كان، فظاهر المصنف هنا، والمحقق في الشرائع (1) بل نسبه
الشارح (2) إليهم بلفظ الجمع، أنه يحبس حتى يقيم البينة أو يخرج عن حق
المقر له يبرئه صاحب الحق.
نعم، حكي عن المصنف في التذكرة (3) أنه لو لم يقم بينة أحلف المدعي
المقر له. وزاد كاشف اللثام أنه يحلف أو يقيم بينة على عدم التلف، فإن
لم يثبته ولا حلف احتمل الاكتفاء بحلف المدعى عليه (4)، انتهى.
وحينئذ فيمكن أن يكون اهمالهم لذكر اليمين تعويلا على ما علم من
الخارج، من أن ثبوت البينة على المدعي لا ينفك عن توجه اليمين على
المنكر إذا أنكر على وجه الجزم، فيكون قولهم - هنا -: " طولب مدعي
الاعسار بالبينة " نظير قولهم - في غير المسبوق باليسار -: " إنه يحلف "،
ونظير قولهم: " أن القول قول فلان بيمينه " ومرادهم مجرد بيان المدعي
أو المدعى عليه وتميزه عن صاحبه، وليسوا في مقام استيفاء أحكام
الدعوى.
ويحتمل أن يكون مفروض كلامهم فيما هو الغالب في انكار الاعسار من
عدم كونه على وجه الجزم بقوله: " لم يثبت عندي اعسارك " وقوله: بين
اعسارك عند الحاكم " وقد عرفت عدم توجه اليمين حينئذ.
ويحتمل أن يكون ذلك منهم حكما بعدم اليمين، وتعيين الحبس تبعا

(1) الشرائع 2: 95، وفيه: حبس حتى يثبت اعساره.
(2) مجمع الفائدة 12: 134.
(3) التذكرة 2: 58.
(4) كشف اللثام 2: 337.
200

لظاهر الرواية (1)، لكنها ضعيفة سندا، بل قاصرة دلالة، لظهورها في التبين
العرفي الأعم من العلم والظن، ولذا تأمل الشارح قدس سره في أصل الحكم
بالحبس مع العجز عن اثبات الاعسار، بأنه لم يعلم كونه مماطلا ظالما حتى
يحل عقوبته، ومجرد وجود مال عنده لا يستلزم بقاءه حتى يحبس لاعطائه،
قال: " والرواية المذكورة مع ضعفها ليست بظاهرة، فإن الحبس - خصوصا
إذا كان ظاهر حاله اتلافه إلى غير ذلك مما ذكره - مبعد لهذا الحكم " (2).
وهو وإن كان محل نظر إلا أنه حسن فيما إذا علم تعذر إقامة البينة، لفقد من
يطلع على حاله. ولذا ذكر المصنف في محكي التذكرة أنه " إذا حبسه فلا يغفل
عنه بالكلية، ولو كان غريبا لا يتمكن من إقامة البينة وكل به القاضي من
يبحث عن منشئه ومنتقله، ويتفحص عن حاله بقدر الطاقة، فإذا غلب على
ظنه إفلاسه شهد به عند القاضي، لئلا يتخلد عليه عقوبة السجن (3)، انتهى.
وقد لا يتمكن الحاكم من توكيل من يتفحص عن حاله، أو يكون
الفحص عن حاله موقوفا إلى (4) مسافرة، فالاكتفاء بظن الحاكم بالاعسار
لا يخلو عن قوة، ويمكن أن يؤخذ الكفيل من الغرباء ليثبت اعساره في بلده
أو يعطى الحق.
ثم إن بينة الاعسار إن شهدت بتلف المال الذي كان موجبا ليساره

(1) الوسائل 18: 180، الباب 11 من كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث
الأول، وتقدمت في الصفحة: 196.
(2) مجمع الفائدة 12: 135.
(3) التذكرة 2: 59.
(4) كذا في النسختين.
201

- مع تسالمهما على عدم مال سواه - فلا إشكال. وإن لم يتسالما على ذلك
فإن ادعى عليه مالا آخر أثبته أو أحلفه.
وإن شهدت بالاعسار فهل عليه يمين بعد البينة؟ فيه وجهان. قال في
المبسوط: أقواهما أن عليه اليمين لأنه يجوز أن يكون له مال باطن لا يعرفه
الشهود (1)، انتهى.
وهو حسن لو ادعى عليه ذلك، لكنه أحوط مطلقا.
هذا كله إن علم له يسار سابق. وإن لم يعلم ذلك فإن أثبت عليه
يسار حالي حبس على المقر به (وإلا أحلف) فإن نكل أحلف المدعي
وحبس، كل ذلك للقاعدة السالمة عن معارضة الرواية (2) المتقدمة،
لأن موردها الدين المنصرف إلى ما تعلق بذمته لقرض أو ثمن مبيع أو نحو
ذلك، لا مثل نفقة زوجة أو صداقها أو أرش جناية أو نحوها.
وربما يستشكل بمنع القاعدة، لأن عدم المال الثابت بالأصل لا يثبت
الاعسار، لأنها صفة وجودية لا تثبت بعدم المال، لأن عدم الشئ لا يثبت
ضده، مضافا إلى اطلاق الرواية الشامل لمثل مهر الزوجة، لكنك عرفت
ظهور الرواية فيما ذكرنا.
وأما الأصل، فالمراد به أصالة عدم القدرة على بذل المال التي هي
المناط في تخلية السبيل، لا مجرد صفة الاعسار وإن كان ظاهر الآية (3) ذلك.
ومرجع هذا إلى أن اليسار شرط لا أن الاعسار مانع، مع أن الاعسار

(1) المبسوط 2: 278.
(2) تقدمت في الصفحة: 196.
(3) قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) البقرة: 280.
202

مفسر في كلام غير واحد (1) بالعجز عن أداء الحق، لعدم تملكه ما زاد على
المستثنيات. مع أن الحكم بتخلية السبيل معلق في رواية سلمة المتقدمة (2) بمن
لم يكن له مال ولا دار ولا عقار، فعدم هذه الأمور إما نفس المناط
أو معرف له.
ثم إن الحكم - هنا - بإحلاف مدعي الاعسار لا ينافي مطالبة مدعي
اليسار أولا بالبينة، كما تقدم في نظيره - أعني: مطالبة مدعي حدوث
الاعسار البينة (3) - أنه لا ينافي توجه اليمين إلى منكره عند عدم البينة.
ثم إن ما ذكر كله حكم اعتراف المدعي عليه، (وإن أنكر) ما ادعي
عليه (طولب المدعي بالبينة) إذا قال ابتداءا أو في جواب الحاكم:
" لي بينة أريد أن أقيمها "، وأما مطالبته بالبينة ابتداءا فلا وجه له وإن سمعت
لو أحضرها، لأنه قد لا يريد إقامتها.
نعم، لو شهد الحال بأنه يريد قطع الدعوى فللحاكم أن يقول له:
" أقم بينة أو أحلف المنكر "، فإن أقام بينة فسيأتي حكمها.
(وإن قال: لا بينة لي) واقتصر على ذلك عرف أن له احلاف المنكر
إن لم يعرف ذلك، فإن لم يطلب احلافه أعرض الحاكم عنهما واشتغل
بغيرهما. وليس للحاكم احلافه، لأن الحلف مسقط لحق المدعي فلا يصح من
دون إذنه، فإنه قد يتحرى له وقتا صالحا لا يجترئ المنكر فيه على الحلف،
وقد ينتظر تذكر البينة.

(1) حكاه في الرياض 2: 396 عن الفاضل المقداد، وانظر كنز العرفان 2: 57.
(2) تقدمت في الصفحة: 195.
(3) في " ش ": بالبينة.
203

هذا مضافا إلى ما سيجئ من الأخبار (1) الظاهرة في أن سقوط الحق
إنما هو بعد استحلاف المدعي لا مطلقا ولذلك كله اتفقوا هنا على عدم جواز
تبرع الحاكم هنا بذلك، دون ما تقدم في مسألتي مطالبة المدعى عليه
بالجواب والحكم عليه من دون التماس المدعي، فإن كلا منهما أداء
لحق المدعي وإن كان الثاني منهما مختصا به، ولذا كان يلغو بدون إذنه،
بخلاف الأول كما مر، وحكى كاشف اللثام أن أبا الحسين بن أبي عمر
القاضي أول ما جلس للقضاء ارتفع إليه خصمان، وادعى أحدهما على
صاحبه دنانير فأنكره، فقال القاضي للمدعي: ألك بينة؟ قال: لا، فاستحلفه
القاضي من غير مسألة المدعي. فلما فرغ قال له المدعي: ما سألتك أن
تستحلفه لي، فأمر أبو الحسين فأعطى الدنانير من خزانته، لأنه استحيى أن
يستحلفه ثانيا (2).
وهل يكتفى هنا بشاهد الحال؟ ظاهر النص والاجماع: العدم.
وربما يستظهر من الأخبار (3) الآتية في مسألة عدم سماع البينة على
الحالف وعدم جواز المقاصة منه كفاية مجرد الرض باليمين، فيتجه حينئذ
الاكتفاء بشهادة الحال إن أفادت العلم به.
وفيه: أن المسقط للدعوى والمانع عن المقاصة هي نفس اليمين

(1) الوسائل 18: 178 و 179، الباب 9 و 10 من أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى.
(2) كشف اللثام 2: 337.
(3) الوسائل 18: 178، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
204

لا محالة (1).
وفيه: أن المراد بالرضى باليمين في تلك الأخبار هو الاكتفاء والقناعة
بها من المدعى عليه عن البينة بأن يحلفه ويتركه، وهذا لا يدل على جواز
حلفه من دون استحلاف المدعي.
وأضعف من ذلك، ما ربما يقال: إن الاحلاف من نصب الحاكم
المنصوب لقطع الخصومة بين المتخاصمين.
وفيه: ما عرفت في مسألة اشتراط التماس المدعي في مطالبة الجواب
أنه منصوب لاستيفاء حقوق الناس عند مطالبتهم لها.
نعم، ربما يشكل بأن ترك مطالبة المدعي باليمين ربما يوجب توجه
الضرر على المنكر بابقاء الخصومة ورفعه عند الحاكم كل يوم.
واعلم أنه كما لا يجوز احلاف الحاكم له من دون التماس المدعي،
كذلك لا يجوز احلاف المدعي له من دون إذن الحاكم، بلا خلاف ظاهر،
كما اعترف به جماعة (2)، واستظهر بعضهم (3) الاجماع، للأصل بعد ظهور كون
الاطلاقات مسوقة لبيان حكم آخر، وهي كيفية فصل الخصومة من دون

(1) هذا آخر ما ورد في الصفحة اليمنى من الورقة (176)، لكن في أول الصفحة
اليسرى من الورقة (176) عبارات مشطوب عليها في المتن والهامش، وعبارة:
" وفيه أن المراد بالرضى.. إلى قوله: ويتركه " كانت من ضمنها، ولم يشطب عليها.
(2) انظر المستند 2: 552، وفيه: كما هو المصرح به في كلام الأصحاب من دون ذكر
خلاف ولا ظهور مخالف.
(3) لم نقف عليه، وحكاه النراقي في المستند 2: 552.
205

تعرض لمن يباشر ذلك، وللأخبار المستفيضة (1) الحاكية للحديث القدسي
حيث اشتكى إليه نبي من بني إسرائيل وقال: " كيف أقضي فيما لم تره
عيني؟ فقال: إقض بينهم بالبينات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به ".
وفي صحيحة سليمان بن خالد: " وأضفهم إلى اسمي فحلفهم به " (2).
ويؤيد ما في تفسير العسكري (3) عليه السلام: من مداومة
النبي صلى الله عليه وآله على مباشرة إحلاف المنكر، مع أنه لا يخلو عن
مرجوحية لولا الحاجة، لأنه في كثير من الأحيان تلقين لليمين الكاذبة،
ولذا ينفر الطباع عن حضور مجلس الحلف.
ثم إن ظاهر بعض الأخبار (4) كفاية الحلف عند القضاة المخالفين
في ترتب آثار اليمين عليه، من سقوط الدعوى وحرمة المقاصة، فلعلها
محمولة على التقية، أو على أن التحاكم إليهم عند عدم التمكن من غيرهم
أو عند التقية، يوجب ترتب أحكام القضاء الصحيح عليه، أو على كون
الشيعة مأذونين من طرف الإمام عليه السلام في الترافع إليهم وقبول حكمهم إذا
لم يخالف الحق، مثل الحكم بالبينة العادلة وباليمين وبالنكول وغير ذلك.
ويمكن منع ظهور تلك الأخبار أيضا في نفوذ حكمهم وصحة احلافهم،

(1) الوسائل 18: 167، الباب الأول من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الأحاديث 1 و 2 و 3.
(2) الوسائل 18: 167، الباب الأول من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث الأول.
(3) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: 673، الحديث 376.
(4) الوسائل 18: 180، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث 2.
206

ويحمل الاطلاق فيها بل التصريح في بعضها (1) بالاحلاف عند الوالي
على ما إذا كان الحاكم من الإمامية، وإن كان منصوبا من سلطان الجور،
فتأمل.
(و) كيف كان، فإن (طلب) المدعي (إحلاف) الحاكم (المنكر
أحلف وبرئ) من الحق ظاهرا، فلا يتسلط المدعي عليه، بل (يأثم
لو أعاد المطالبة) باتفاق علمائنا بل المسلمين، كما حكي (2)، لأنها ظلم،
إذ لا معنى لاستحقاقه عليه اليمين إلا أن له الاكتفاء منه بها، فلا يجمع بين
استحقاقه احلافه، وكونه بعد اليمين كما كان قبله.
هذا، مع أن الاستحقاق الواقعي لا يوجب التسلط إلا بتسليط
الشارع، والمفروض المنع عنه في الأخبار الكثيرة، ففي موثقة ابن أبي يعفور:
" إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه فحلف أن لا حق له
قبله، ذهبت اليمين بحق المدعي فلا حق له، قلت: وإن كان له بينة عادلة؟
قال: نعم وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له، وكانت
اليمين قد أبطلت كل ما ادعاه قبله مما استحلفه عليه، قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: من حلف لكم على حق فصدقوه، ومن سألكم بالله
فأعطوه، ذهبت اليمين بدعوى المدعي ولا دعوى له " (3).

(1) الوسائل 18: 180، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث 2.
(2) ظاهر العبارة الاتفاق على الإثم، ولم نقف عليه، نعم حكى غير واحد الاتفاق
على سقوط الدعوى، انظر المهذب البارع 4: 472، وفيه: اتفق المسلمون على
سقوط الدعوى في مجلس الحلف.
(3) الوسائل 18: 179، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث
1 و 2.
207

(و) من دلالة الرواية على وجوب تصديق المدعي له يعلم أنه
(لا يحل له مقاصته)، لمنافاتها تصديقه، والأخبار المعتضدة بالأصل وبعدم
ظهور الخلاف.
ففي رواية النخعي في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده،
قال: " إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئا، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على
حقه " (1)، وزاد في رواية الصدوق: " وإن احتبسه فليس له أن يأخذ
شيئا " (2).
ورواية ابن وضاح: " كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة فخانني
ألف درهم، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد علمت أنه حلف يمينا
فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة، فأردت أن أقتص
الألف درهم التي كانت لي عنده، فكتبت إلى أبي الحسن عليه السلام فأخبرته
أني قد أحلفته فحلف، وقد وقع له عندي مال، فإن أمرتني أن آخذ منه
الألف درهم التي حلف عليها فعلت، فكتب: لا تأخذ منه شيئا إن كان
ظلمك فلا تظلمه، ولولا رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من
تحت يدك، ولكنك رضيت بيمينه، وقد ذهبت اليمين بما فيها. فلم آخذ منه
شيئا، وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن عليه السلام " (3).

(1) الوسائل 18: 179، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث الأول.
(2) الفقيه 3: 185، الحديث 3695، مع اختلاف.
(3) الوسائل 18: 180، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 2.
208

ومصححة سليمان بن خالد: " عن رجل وقع لي عنده مال وكابرني
عليه وحلف، ثم وقع له عندي مال فآخذه لمكان مالي الذي أخذه وأجحده
وأحلف عليه كما صنع؟ فقال: إن خانك فلا تخنه ولا تدخل فيما عبته
عليه " (1).
ولا يعارض ما ذكر رواية الحضرمي: " رجل لي عليه دراهم فجحدني
وحلف عليها، يجوز لي أن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي؟
قال: نعم " (2) لمخالفة الأصل والشهرة، مع قابلية حمله على الحلف الغير المعتبر،
كما هو الغالب من مقارنة الجحد بالحلف سيما إذا كان الجاحد كاذبا.
ثم لا فرق في اطلاق الروايتين الأخيرتين بين كون دينا أو عينا
وإن كان مورد غيرها (3) الحق الظاهر في الدين.
وربما يستفاد من الأخبار حرمة أخذ نفس العين المملوكة للمدعي،
وهو في غير محله، لما عرفت من ظهور الأخبار، كصراحة كلام الأصحاب
في المقاصة لا في أخذ نفس المدعي.
نعم، في بعض الأخبار (4) وجوب الرضى بحلف الحالف من غير تقييد
بالدين ولا ظهور فيه. إلا أنه لقصور دلالته ومخالفته للأصل وعدم مقاومة
قاعدة تسلط الناس على أموالهم، تعين (5) حمله على الاستحباب أو على صورة

(1) الوسائل 12: 204، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.
(2) الوسائل 12: 203، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(3) في " ش ": غيرهما.
(4) انظر الوسائل 16: 124، الباب 6 من كتاب الأيمان.
(5) في " ش ": يعين.
209

عدم العلم بكذب الحالف، لأن الأصل في يمين المسلم الصدق.
نعم، في بعض النسخ ذكر ذيل صحيحة ابن أبي يعفور - المروية عن
الفقيه - هكذا: " من حلف لكم بالله فصدقوه " (1) وهو مع صحة سنده وعدم
قابليته لأحد الحملين المتقدمين - لوقوعه في مقام الاستشهاد لما قبله - حاكم
على قاعدة التسلط.
ويمكن أن يجعل محل استشهاد الإمام عليه السلام الفقرة الأخيرة وهي
قوله صلى الله عليه وآله: " ذهبت اليمين بدعوى المدعي " (2) فلا مانع من أحد
الحملين المتقدمين، مع أنه لا مناص عنه، وإلا لزم تخصيص الأكثر.
ومنه يظهر أن اللازم ارتكاب كلا الحملين، إذ لا يحصل الفرار من
ذلك المحذور إلا بهما.
ويشهد لإرادة الاستحباب عطف الجملة الأخرى عليها، وهو قوله:
" من سألكم بالله فأعطوه ".
هذا كله مع احتمال أن يكون هذه الفقرة مرسلة مستقلة في الفقيه،
لا من تتمة صحيحة ابن أبي يعفور.
ثم إن مقتضى إذهاب اليمين للحق ووجوب تصديق الحالف، حرمة
استيفاء الحق بأنحاء الاستيفاءات، فلا يجوز احتسابه زكاة أو خمسا
ولا المصالحة عليه. نعم، يجوز الابراء عنه، لأنه ليس استيفاء وإنما هو إسقاط
يتبع ثبوت الحق واقعا.
ومنه يعلم أنه لو ارتكب المحرم وقاصه بشئ

(1) الفقيه 3: 62، الحديث 3241، وفيه زيادة: على حق.
(2) الوسائل 18: 179، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث
2، وتقدم في الصفحة: 207.
210

ثم أتلفه فاستقر عليه مثل ماله على المنكر وقع التهاتر قهرا، لأن ذلك من
آثار الاستحقاق الواقعي المفروض تحققه بمقتضى علمه، إنما الممنوع منه
استيفاء الحق.
ثم ظاهر الروايات كفاية مجرد الحلف في سقوط الدعوى وإن لم يحكم
الحاكم، بل قيل (1): إنه ظاهر اطلاق الفتاوى.
ويؤيده أن الشارح المقدس (2) ذكر من جملة وجوه عدم احتياج
ثبوت الحق باليمين المردودة إلى حكم الحاكم إن سقوط الحق بيمين المنكر
لا يحتاج إليه فكذا ثبوته بيمين المدعي، فإن الظاهر من ذلك كون القيس
عليه مفروغا عنه فيكون كالاقرار، لكن الحكم به لا يخلو عن اشكال،
لأن الاطلاقات - كما تقدم - مسوقة لبيان أسباب الحكم، لا أسباب نفس
قطع الدعوى، ولذا لم يذكر اعتبار حكم الحاكم في شئ من أدلة البينة،
ولذا قيل: إن التحقيق حاجة اليمين إلى الحكم أيضا (3).
ثم إن امتنع المنكر من اليمين (فإن رد) اليمين على المدعي
(أو نكل) ولم يقض بالنكول (حلف المدعي) إن أراد إثبات حقه.
وهل للمنكر الرجوع إلى اختيار الحلف بعد الرد؟ قولان أقواهما ذلك،
لأصالة بقاء حق التخيير، وفاقا لبعض (4) من عاصرناه، تبعا لكاشف اللثام (5)

(1) لم نقف عليه.
(2) مجمع الفائدة 12: 140.
(3) انظر الجواهر 40: 175.
(4) انظر الجواهر 40: 190 و 247.
(5) كشف اللثام 2: 337.
211

وللمحكي عن الدروس (1) وكذا التحرير (2)، لكن قبل قول الحاكم للمدعي:
إحلف، خلافا للمحكي عن الشيخ (3) رحمه الله فليس له ذلك إلا برضى المدعي.
واستشكل ذلك في القواعد (4) من حيث إن الرد تفويض لا اسقاط.
وكيف كان، فاشتراط ثبوت حق المدعي بيمينه مما لا خلاف فيه
فتوى ونصا، ففي صحيحة ابن مسلم: " فإن رد اليمين على صاحب الحق
ولم يحلف فلا حق له " (5).
للمدعي، قال: يستحلف أو يرد اليمين على صاحب الحق، فإن لم يفعل
فلا حق له " (6).
وفي حسنة هشام - بابن هاشم - عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: " ترد
اليمين على المدعي " (7).
وفي مرسلة أبان: " في الرجل يدعى عليه الحق وليس لصاحب الحق
بينة، قال: يستحلف المدعى عليه، فإن أبى أن يحلف وقال: أنا أرد اليمين

(1) الدروس 2: 89.
(2) التحرير 2: 186، وفيه: ولو بذل المنكر اليمين بعد النكول لم يلتفت إليه.
(3) المبسوط 8: 190.
(4) القواعد 2: 211.
(5) الوسائل 18: 176، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث الأول.
(6) نفس المصدر، الحديث 2.
(7) نفس المصدر، الحديث 3.
212

على صاحب الحق، فإن ذلك واجب على صاحب الحق أن يحلف ويأخذ
ماله " (1).
وفي رواية جميل: " إذا أقام المدعي البينة فليس عليه يمين، وإن لم يقم
بينة فرد الذي ادعى عليه اليمين فأبى فلا حق له " (2). ونحوها رواية
أبي العباس (3).
وفي مرسلة يونس: " استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين
عدلين، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان، فإن لم يكن رجل وامرأتان،
فرجل ويمين المدعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه، فإن
لم يحلف ورد اليمين على المدعي فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقه، فإن
أبى أن يحلف فلا شئ له " (4).
[وظاهر عموم نفي الحق في هذه] (5) الروايات بطلان حق المدعي
بالنكول في ذلك المجلس وغيرها.
ويؤيده أنه لولا ذلك لترافع الخصم كل يوم فإذا رد عليه اليمين
أبى أن يحلف، وهذا وإن كان لا يخلو عن نظر، إلا أنه لا يخلو عن تأييد،

(1) الوسائل 18: 177، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 5.
(2) نفس المصدر، الحديث 6.
(3) الوسائل 18: 178، الباب 8 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 2.
(4) الوسائل 18: 176، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 4.
(5) من " ش " وفي " ق " شطب هذه الكلمات، والظاهر أنه شطب عليها سهوا.
213

مضافا إلى أن سقوط الحق في مجلس الحلف اتفاق من المسلمين - كما عن
الإيضاح (1) - فيستصحب، إلا أن يقال: إن الإباء عن الحلف قيد للموضوع
لا علة محدثة للحكم يحتمل كفايته في بقائه فلا استصحاب، بل المحقق أصالة
بقاء حق الحلف للمدعي وعدم سقوطه بمجرد الإباء في زمان،
وما عن الإيضاح والمهذب (2) من اتفاق المسلمين فلعل معقده مجلس الإباء
عن الحلف.
وأما التأييد، فمع انتقاضه بامتناع المدعي عن إحلاف المنكر يمكن حله
بأن يسأله الحاكم عن سبب الإباء، فإن لم يعلل بشئ أو قال: لا أريد أن
أحلف، حكم عليه بسقوط حقه. وإن ذكر سببا وقال: أريد أن آتي بالبينة
أو أتفحص عنها أو أسأل الفقهاء أو أنظر في الحساب أو غير ذلك، سمع منه
ذلك مطلقا - كما هو ظاهر القواعد (3) - أو مع ضرب مدة لزوال عذره.
وأما الأخبار، فظاهرها أنه لا حق لمن أبى عن اليمين إذا استمر على
الإباء، لا مطلقا وإن بذله بعد ذلك، خصوصا إذا أظهر عذرا في التأخير.
ويؤيد ذلك ذكر يمين المدعي في مرسلة يونس (4) من الوجوه الأربعة
التي يستخرج بها الحقوق متى ما أقامها صاحب الحق.
وبالجملة، فإما أن نقول: إن نفي الحق لمن أبى عن اليمين في الأخبار

(1) إيضاح الفوائد 4: 328، وفيه: أجمع المسلمون على سقوط الدعوى في ذلك
المجلس الذي يحلف فيه.
(2) المهذب البارع 4: 472، وتقدم في هامش الصفحة: 207.
(3) القواعد 2: 215، وفيه: ولو قال المدعي أمهلوني أمهل، بخلاف المدعى عليه.
(4) المتقدمة في الصفحة السابقة.
214

من باب عدم السبب لحقه، لا من باب كون ذلك سببا لبطلان الحق، وإما أن
نقول: إن سبب البطلان هو الاستمرار على الإباء.
ويدل على ما ذكرنا - أيضا - أخبار حصر أسباب قطع الخصومة التي
لا يعلم الواقع فيها بالبينات والأيمان، خرج منه استمرار المدعي على الإباء
عن اليمين المردودة، مثل قوله صلى الله عليه وآله: " إنما أقضي بينكم بالبينات
والأيمان " (1) والمستفيضة الحاكية للحديث القدسي، الوارد جوابا للسؤال عن
كيفية القضاء فيما لم تشهده العين: " إقض بينهم بالبينات وأضفهم إلى اسمي
يحلفون به " (2).
هذا، مع أن يمين المدعي عندهم إما كالاقرار وإما كالبينة، وينبغي على
كل تقدير صحتها متى ما تحققت وكيف كان.
وحينئذ (3)، فلا يبعد القول ببقاء حق المدعي من الحلف مطلقا، وعدم
سقوطه بالإباء إلا في بعض صور الاجماع على السقوط، أو تحقق الحرج على
المدعى عليه، وقد حكى كاشف اللثام (4) عن المبسوط (5) والمصنف (6) قدس سره

(1) الوسائل 18: 169، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، الحديث
الأول.
(2) الوسائل 18: 167، الباب الأول من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 2.
(3) كذا ظاهرا في " ق " ولم ترد في " ش ".
(4) كشف اللثام 2: 337.
(5) المبسوط 8: 209.
(6) قواعد الأحكام 2: 215.
215

سماع دعواه في مجلس آخر.
وربما يحكى (1) تفصيل في السماع بين ما إذا حكم الحاكم
وما إذا لم يحكم. وفيه: أن الكلام في صحة حكم الحاكم بالسقوط بمجرد إباء
المدعي، وإلا فلا كلام في عدم جواز إعادة الدعوى بعد الحكم إلا أن يدعى
كون هذا من قبيل القضاء على الغائب، ويكون المحكوم عليه على حجته.
لكن هذا مخالف للأصل، ولا يجوز قياسه على المنصوص.
هذا كله في بقاء حقه من اليمين، وأما بقاء حقه من البينة، فالأقوى أنه
كذلك، وفاقا للمحكي عن المفيد (2) والحلبي (3) والمصنف في التحرير (4)
والشهيدين (5) وغيرهم، بل عن الروضة: أنه المشهور (6).
وفي الحكاية نظر، فإنه لم يزد فيها على أن قال - في شرح قول الماتن:
" فإن امتنع سقطت دعواه " -: في هذا المجلس قطعا وفي غيره على قول
مشهور، إلا أن يأتي ببينة، للأصل، بعد كون (7) سبب البطلان الاستمرار على
الإباء مع عدم حجة أخرى.

(1) حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 10: 79.
(2) انظر المقنعة: 733.
(3) انظر الكافي في الفقه: 447.
(4) التحرير 2: 194.
(5) انظر الدروس 2: 89، والمسالك 2: 296.
(6) الروضة البهية 3: 86.
(7) العبارة في " ش " هكذا: " بعد أن المستفاد كون "، وكانت العبارة في " ق " هكذا:
" بعد ما عرفت من أن المستفاد من الأخبار كون "، فشطب المؤلف قدس سره على بعض
الكلمات وبقيت عبارة: " إن المستفاد " فأوردها ناسخ " ش " في نسخته سهوا.
216

ودعوى أن نكول المدعي إما كإقراره بعدم الحق أو كيمين المنكر،
وعلى كل حال فلا يسمع البينة بعده، ممنوعة، لامكان كونه سببا مستقلا
يلزم من انتفائه انتفاء المسبب إذا لم يقم مقامه سبب آخر.
ومثلها في المنع ما اشتهر من التردد بل الخلاف في أن (1)...
ثم (2) إن هذه الروايات (3) وإن دلت على اعتبار حلف المدعي في ثبوت
الحق اعتبارا مطلقا غير مقيدة بتمكن المدعي من الحلف إلا أن إطلاق
المدعي فيها منصرف إلى المدعي لنفسه الجازم بدعواه، لما عرفت في مسألة
سماع دعوى التهمة من أن الادعاء مختص وضعا أو انصرافا بصورة الجزم (4)،
ولإضافة الحق إليه في جميع تلك الروايات على وجه يشغر بعدم كونها لأدنى
ملابسة، نعم قوله عليه السلام في رواية جميل (5) برد اليمين على المدعي مطلق،
مع الاغماض عن دعوى انصرافه إلى صاحب الحق.
ولعله لأجل ما ذكرنا أو لأجل فهم كون تخيير المنكر بين حلفه
وإحلافه مختصا بصورة إمكان الأمرين شرعا وعقلا، استثنى الأصحاب

(1) هذا آخر الصفحة اليمنى من الورقة (179)، وبعده بياض بمقدار نصف صفحة،
وقد نبه ناسخ " ش " إلى ذلك في الهامش.
(2) هذا هو أول الصفحة اليسرى من الورقة (179).
(3) الوسائل 18: 176، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
(4) في الصفحة: 171.
(5) الوسائل 18: 177، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 6.
217

- كما قيل (1) - من رد اليمين على المدعي موارد، مثل دعوى التهمة على القول
بسماعها، ومثل دعوى الوصي - بل مطلق الولي - مالا لمن ولي عليه على
آخر، أو دعوى الوصي على الورثة أن الميت أوصى للفقراء بخمس أو زكاة
أو حج ونحو ذلك مما لا مستحق له بخصومة، بحيث يدخل في اطلاق
المدعي في الأخبار ليحكم بحضوره وحلفه، نظير الموكل في الادعاء، فإنه
يحضر ويحلف، لأنه المدعي في الحقيقة، بخلاف المدعي عن الصغير فإنه
لا يؤخر الدعوى إلى بلوغه، لأن المدعي في الحقيقة هو الولي وليس نائبا
كالوكيل، إلا أن يكون المدعى عليه أيضا صغيرا، فإنه لا يمكن حلف الولي،
ولذا ذكر في المسالك (2) أنه يؤخر إلى بلوغه.
ولو ادعى المدعي أن دعواه ظنية أبزرها بصورة الجزم، فالقول قول
منكر ذلك بيمينه. كذا قيل (3)، وهو حسن على القول بوجوب حبس المنكر
في الدعوى المظنونة إلى أن يحلف أو يقر، كما عن الصيمري (4)، وأما على
القول بإيقاف الدعوى لو نكل المنكر عن اليمين ولم تقض بالنكول، فدعوى
عدم الجزم راجعة إلى الاعتراف بعدم التسلط على المنكر في الحال لو نكل،
وأما لو قلنا بعدم سماع الدعوى المظنونة فلا اشكال في رجوعها إلى
الاعتراف بسقوط الدعوى.
ولو انعكس الفرض بأن ادعى دعوى مظنونة، فادعى المنكر إبرازها

(1) انظر الجواهر 40: 177.
(2) المسالك 2: 296.
(3) الظاهر أن القائل هو ابن نما الحلي قدس سره، كما في المسالك 2: 295.
(4) غاية المرام (مخطوط) 2: 194، وفيه: فحبس المنكر حتى يقر أو يحلف.
218

بصورة الظن ليدفع عن نفسه اليمين المردودة، وقلنا بحبس المنكر لو لم يحلف،
فإن ادعى علمه بثبوت الحق فلا يبعد احلافه على عدم العلم، وإن ادعى
علمه بالعدم فالظاهر أنه غير مسموع، وإلا لسمع العلم بالعدم على
هذه الدعوى. وهلم جرا.
ولو ادعى كون المال لمولى عليه المنكر، فإن لم يحلف قيل له:
رد اليمين على المدعي، ويشكل بأن ثمرة هذا اليمين اسقاط اليمين على أصل
الحق عن نفسه ليلزم المنكر باليمين أو بالحق فهو حلف لاثبات مال الغير (1).
[(فإن نكل بطل حقه، ولو حلف المنكر من غير مسألة المدعي الاحلاف
وقعت لاغية، وإن كانت بأمر الحاكم)] (2).
(ولو أقام المدعي بينة بعد احلاف) الحاكم (الخصم) بالتماسه
فالمشهور، بل عن الخلاف (3) والغنية (4) الاجماع على أنها (لا تسمع وإن
لم يشترط سقوط الحق باليمين) وأولى بعدم السماع الشاهد المنضم مع اليمين،
لما تقدم (5) من دلالة الأخبار على وجوب تصديق الحالف وابطال يمينه لكل
ما ادعي عليه وذهابها لدعوى المدعي التي يتفرع عليها سماع البينة التي هي

(1) هذا آخر الصفحة اليسرى من الورقة (179)، والصفحة اليمنى من الورقة (180)
بياض، وقوله: " ولو أقام المدعي بينة " هو أول الصفحة اليسرى من الورقة: (180).
(2) من الإرشاد، ولم نقف على شرح المؤلف قدس سره لهذه الفقرات.
(3) الخلاف، كتاب الشهادات، المسألة 40.
(4) الغنية (الجوامع الفقهية): 563.
(5) راجع الصفحة: 207.
219

على المدعي، ولخصوص رواية ابن أبي يعفور المتقدمة (1).
وربما يستدل عليه بأنه كما لا تسمع حجة المنكر التي هي اليمين بعد
حجة المدعي التي هي، فكذلك العكس.
وفيه: أن حجة المنكر تعليقية موقوفة على عدم البينة كما يستفاد
من ظاهر كثير من الأخبار (2)، فوجود البينة يكشف عن عدم وقوع اليمين
موقعها، ولعله لذلك حكم في موضع من المبسوط (3) بسماعها، لكن يرده
صريح صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة (4).
نعم، يمكن حملها على صورة التزام المدعي لسقوط حقه باشتراط
المنكر ذلك عليه، كما عن المفيد (5) والقاضي (6) وسلار (7) وابن حمزة (8)، بناء
على أن القناعة والاجتزاء بها عما عداها مما يستحقه المدعي (9) فمعنى الرواية
أن المدعي إذا قنع واجتزأ ورضي باليمين والتزم بأن ليس له غيرها لا ينفعه

(1) في الصفحة: 207.
(2) الوسائل 18: 176، الباب 7 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
(3) المبسوط 8: 158.
(4) تقدمت في الصفحة 207، ووصفها المؤلف قدس سره - هناك - بالموثقة.
(5) المقنعة: 733.
في كتابه " الكامل " - كما في كشف اللثام 2: 337، ومفتاح الكرامة 10: 77 -.
(7) المراسم: 235.
(8) الوسيلة: 213.
(9) في " ق " زيادة: " وإلا فمع قطع النظر عن ثبوت حق إقامة البينة ومع فرض عجزه
عنها في الحال أو في المستقبل "، وقد شطب المؤلف قدس سره على النصف الأخير من
العبارة وترك النصف الأول بحاله، والظاهر أنه ترك الشطب عليه سهوا.
220

إقامة البينة بعد ذلك. لكن الانصاف، أن المراد بالرضى باليمين في مقابل عدم
إقامة البينة بالفعل أو تأخير الدعوى إلى حين وجدان البينة أو التمكن من
المقاصة بناء على أن الشارع خيره بين هذه الأمور، لا الرضى بمعنى الالتزام
بسقوط حقه عما عداها بعد اليمين، فالرواية هي المنشئة للحكم لسقوط
ما عداها بعد تحققها، لا أن ذلك بمقتضى الالتزام بسقوطه، ولذا نسب
الإمام عليه السلام إبطال الدعوى واذهاب الحق إلى نفس اليمين. ومنه يعلم أنه
لو اشترط المنكر هذا الشرط على المدعي كان شرطا مؤكدا للحكم، كما أنه
لو شرط المدعي بقاء حقه لو أقام البينة كان شرطا مخالفا للشرع فيلغو.
ومما ذكرنا يظهر وجه ما عن جماعة (1) من سقوط حقه عن البينة
إلا أن لا يعلم بها (أو) يكون قد علمها و (نسيها). وعن
المصنف دقس سره في المختلف (2) تقويته، بناء على أن اليمين حجة تعليقية، إلا أنه
إذا طلب اليمين مع الالتفات إلى البينة والتمكن من إقامتها ولو بتأخير
الدعوى فقد قنع باليمين ورضي بها واجتزأ، بخلاف ما إذا نسيها أو لم يعلم
فإنه لما اعتقد أن حقه منحصر فيها وليس له غيرها لم يصدق عليه أنه قنع
ورضي واجتزأ بها.

(1) انظر المبسوط 8: 210، ويمكن أن يستظهر ذلك من الكافي في الفقه: 447، ولكن
قال السيد العاملي في مفتاح الكرامة (10: 77): ونسب إلى الحلبي والعجلي وقد
علمت ما وجدناه في الكافي والسرائر وأنه خلاف ما نسب إليهما، ولعلهم عثروا على
ذلك للحلبي من غير الكافي أو وجدوا في السرائر ولم نقف عليه.
(2) المختلف: 699.
221

وهذا الوجه في الرواية (1) أوضح من الوجه المقدم في تقريب قول
المفيد رحمه الله (2)، إلا أن يدعى أن المراد الرضى باليمين ولو في مقابل تأخير
الدعوى إلى أن يتمكن من البينة أو من المقاصة.
هذا، مع أنه يكفي - في المطلوب - قوله عليه السلام في تلك الصحيحة
حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من حلف لكم على حق فصدقوه،
وأن اليمين ذهبت بدعوى المدعي " (3) فإن وجوب التصديق مناف لإقامة
البينة، وكذا ذهاب الدعوى وصيرورتها كالمعدومة، إذ لا معنى لسماع البينة
بعد سقوط الدعوى وصيرورتها كالمعدومة.
(نعم، لو) رجع و (أكذب الحالف نفسه) في حلفه بأن أقر بالحق
(طولب) بالحق بلا خلاف ظاهر، بل عن المهذب (4) والصيمري (5) الاجماع
عليه، لأن الاقرار ليس كالبينة محتاجة في الحكم بمقتضاه إلى دعوى
مسموعة، فذهاب الدعوى باليمين لا ينافي ثبوت المدعى بالاقرار، لعموم
دليل الاقرار (6)، ولا يعارضه عموم (7) وجوب تصديق الحالف وإبطال اليمين

(1) أي رواية ابن يعفور المتقدمة في الصفحة: 207.
(2) تقدم في الصفحة: 220 - 221، في تقريب قول المفيد وغيره، فراجع.
(3) الوسائل 18: 179، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 2.
(4) المهذب البارع 4: 474.
(5) غاية المرام (مخطوط) 2: 195، وفيه: لجواز المطالبة مع إكذابه نفسه اجماعا.
(6) الوسائل 16: 111، الباب 3 من كتاب الاقرار.
(7) الوسائل 18: 179، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 2.
222

لكل ما ادعاه قبله، لأن المتبادر منه ما إذا لم يكذب نفسه كما لا يخفى، مع
أن الترجيح مع عموم الاقرار (1) لقلة وقوع التخصيص عليها بل عدمه،
بخلاف المعارض (2).
هذا كله مضافا إلى رواية مسمع: " إني كنت استودعت رجلا مالا
فجحدنيه فحلف لي، ثم أنه جاء بعد ذلك بالمال الذي كنت استودعته إياه،
وقال: هذا مالك خذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك في
مالك واجعلني في حل، فأخذت المال منه وأبيت أن آخذ الربح منه،
وأوقفت المال الذي كنت استودعته حتى استطلع رأيك. قال: خذ نصف
الربح وأعطه نصف الربح وحلله، إن هذا رجل تائب والله يحب التوابين " (3).
إلا أنه يمكن منع دلالتها بأن غايتها جواز القبول إذا بذل الحالف
المال، فلا يدل على جواز المطالبة بعد الاقرار وإن امتنع أو أنكر بعد
الاقرار.
وأيضا، فإن الرواية تدل على ما لا كلام في جوازه حتى مع عدم
الاقرار كما عرفت سابقا، وهو جواز أخذ عين المدعى أو عوضه الذي صار
له بإحدى المعاملات، فإن الحكم في الرواية باستحقاق الربح إما محمول على
كون المعاملة الموجبة لحدوث الربح فضوليا قد أجازه المالك، وإما على أن
المعاملة بالمال المغصوب - كالمعاملة على مال الطفل - موجب لانتقال
العرض في صورة تحقق الربح إلى رب المال، وإن وقعت المعاملة حينئذ على

(1) كذا في " ق "، وفي " ش ": مع دليل الاقرار.
(2) في " ق " ظاهرا: العارض.
(3) الوسائل 16: 179، الباب 48 من كتاب الأيمان، الحديث 3.
223

الذمة، فتأمل.
(و) [حيث ثبت الحق بالاقرار لزمه أنه لو امتنع عن الحق
(قوصص) لعموم أدلة المقاصة (1) السليمة عن مزاحمة] (2) ما دل على
حمة المقاصة بعد الحلف (3) [لأنه] (4) لا يشمل هذا، كما يظهر بالتأمل في
قوله عليه السلام: " إن ظلمك فلا تظلمه " وقوله: " إن خانك فلا تخنه ولا تدخل
فيما عبته عليه " (5).

(1) فمما ورد في ذلك من الكتاب قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل
ما اعتدى عليكم) البقرة: 194، وقوله: (والحرمات قصاص) البقرة: 194،
وقوله: (والجروح قصاص) المائدة: 45.
ومن السنة: فما في الوسائل 12: 201، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به،
الأحاديث 1 و 4 و 10، وغيرها.
(2) ما بين المعقوفتين من " ش "، وقد استخلصه الناسخ من جملة عبارات مشطوب
على أكثرها في " ق ".
(3) انظر الوسائل 18: 180، الباب 10 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.
(4) من " ش ".
(5) الوسائل 12: 204، الباب 83 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.
وهذا آخر ما ورد في الصفحة اليمنى من الورقة (181)، وأول الصفحة اليسرى
من هذه الورقة ترتبط بالبحث عن الكبائر، وقد أوردناها في الملحق رقم (1).
هذا، وجاء في هامش " ش " هنا ما يلي: هذا آخر ما وجدته مما كتب قدس سره في
القضاء في شرح الإرشاد، قد استكتبته من مسودته، ويتلوه بعض ما كتبه قدس سره في
الشهادات مستقلا، حرره بيده الجانية حسن علي الطهراني عفي عنه.
224

مسائل مستقلة
225

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله المعصومين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
[مسألة] (1)
[1]
القضاء لغة يستعمل في معان كثيرة، منها الحكم،
وفي عرف الفقهاء
استعمل تارة: في الحكم بين الناس على الوجه مخصوص، وأخرى: في
الولاية الشرعية على الحكم المذكور، ولذا عرف في كلام بعض
- كالروضة (2) - بالأول، وفي كلام آخرين (3) بالثاني.
وهو بالمعنى الأول واجب كفائي بالأدلة الأربعة، وأجره عظيم،

(1) العنوان زيادة منا، ومحله بياض بمقدار كلمة واحدة، وكذا في الموارد المماثلة الآتية.
(2) الروضة البهية 3: 61، وليس فيه: على الوجه المخصوص.
(3) انظر الدروس 2: 65، وإيضاح الفوائد 4: 293 والمسالك (الطبعة الحجرية)
2: 283.
227

وخطره جسيم، وهو وظيفة النبي والوصي صلوات الله عليهما، لقوله عليه السلام لشريح:
" جلست مجلسا لا يجلس فيه إلا نبي، أو وصي نبي، أو شقي " (1).
وقوله عليه السلام: " إياكم والحكومة، فإنها للإمام العالم بالقضاء العادل
بين المسلمين " (2).
وللأخبار المعللة لوجوب الرضى بحكم الفقيه والتحاكم والرجوع إليه
بكونه منصوبا من قبل الإمام وحجة من قبله عليه السلام على جميع البرية.. (3)،
ففي مشهورة أبي خديجة: " فاجعلوه بينكم قاضيا فإني قد جعلته عليكم
قاضيا " (4)، وفي مقبولة عمر بن حنظلة: " فارضوا به حكما فإني قد جعلته
عليكم حاكما " (5)، وفي توقيع العمري: " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها
إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله " (6).

(1) الوسائل 18: 6، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
(2) الوسائل 18: 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3، مع اختلاف
في اللفظ.
(3) محل النقط كلمتان لا يمكن قرائتهما.
(4) الوسائل 18: 4، الباب الأول من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.
(5) الوسائل 18: 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(6) الوسائل 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
228

[مسألة]
[2]
يشترط في القاضي: البلوغ والعقل والايمان والعدالة والعلم اجماعا،
فتوى ونصا، وإذن النبي أو الإمام عليهما الصلاة والسلام، لما عرفت من أنه وظيفتهما،
فلا يجوز مباشرته إلا بإذنهما.
وأما طهارة المولد والذكورة، فقد ادعى غير واحد (1) عدم الخلاف في
اعتبارهما، ولولاه قوي المصير إلى عدم اعتبار الأول مع فرض استجماع
سائر الشرائط، بل إلى عدم اعتبار الثاني، وإن اشتمل بعض الروايات (2)
على ذكر الرجل، لامكان حمله على الورود مورد الغالب، فلا يخصص به
العمومات.
وشرط جماعة (3) مضافا إلى ما ذكر " الحرية "، ولا دليل على
اشتراطها بعد اعتبار إذن المولى إذا لم يجب.

(1) انظر كفاية الأحكام: 261، ومفاتيح الشرائع 3: 246، والرياض 2: 385.
(2) الوسائل 18: 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.
(3) منهم الشيخ في المبسوط 8: 101، والقاضي في المهذب 2: 599، والعلامة في
التحرير 2: 179.
229

وأما الضبط والبصر والعلم بالكتابة وعدم الصم والخرس، فالأقوى
أيضا عدم اعتبارها، إلا إذا توقف الحكم عليها.
230

[مسألة]
[3]
وينفذ في حال غيبة الإمام عليه السلام أو قصور يد قضاء الفقيه الجامع
للشرائط المذكورة، لما عرفت من المعتبرين المذكورين (1)، والتوقيع الرفيع (2)
وغيرها (3)، مضافا إلى العمومات الدالة على وجوب الحكم بما أنزل الله من
الآيات (4)، وعلى رجحان القضاء بالحق مع العلم، ويثبت وجوبه ونفوذه
بعدم القول بالفصل، خرج من هذه العمومات من لم يستجمع الشرائط
المذكورة، وبقي الباقي.
ومما ذكرنا يعلم أن الأقوى جواز القضاء للمتجزئ - أعني: من له

(1) أي مشهورة أبي خديجة ومقبولة عمر بن حنظلة، المتقدمتين في الصفحة: 228.
(2) وهو توقيع محمد بن عثمان العمري، المتقدم في الصفحة: 228.
(3) لعل نظره قدس سره إلى مثل خبر داود بن الحصين وخبر النميري، انظر الوسائل
18: 80 و 88، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20 و 45.
(4) مثل قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) المائدة: 44.
وقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) المائدة: 45.
وقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) المائدة: 47.
231

ملكة استنباط بعض المسائل دون بعض - إذا كانت المقدمات التي أعملها
لاستنباط المسألة كلها علمية أو ظنية أقام الدليل القطعي على اعتبارها،
كما قد يتفق للمستنبط.
وجه الجواز - حينئذ - ما مر من الأدلة العامة والخاصة، عدا ما يتوهم
من مقبولة ابن حنظلة (1) من اعتبار المعرفة بكل الأحكام، بناء على حمل
الجمع المضاف على العموم، فيخصص به - من حيث المفهوم المستفاد من
كون المقام تعين المرجع في القضاء وتحديده - عموم رواية أبي خديجة
والتوقيع الشريف (2)، لكن فيه: أن إبقاء الجمع المضاف على ظاهره مستلزم
لصرف قوله: " عرف " - الظاهر في المعرفة المتحققة بالفعل - إلى إرادة ملكة
المعرفة، لأن المعرفة الفعلية غير موجودة في أعاظم المجتهدين، وليس هذا
أولى من ابقاء الفعل على حاله، وصرف الجمع المضاف إلى إرادة الجنس،
كما هو شائع ذائع، كما في تعريف الحكم بأنه " خطاب الله المتعلق بأفعال
المكلفين "، وقوله في التوقيع المتقدم: " فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ".
وأما إذا كانت المقدمات التي يعملها للاستنباط كلها أو بعضها ظنية
لا دليل على اعتبارها، عدا الدليل الدال على جية الظن في الجملة
للمجتهد، بحيث لم يعلم شموله للمتجزئ، فالظاهر عدم جواز القضاء له،
ولا الترافع إليه، إلا بإذن المجتهد الذي يرى جواز ذلك له، لعموم ما دل
على حرمة الحكم والافتاء من غير علم عموما (3)، ومفهوم الروايات

(1) تقدمت في الصفحة: 228.
(2) تقدمت في الصفحة: 228.
(3) الوسائل 18: 9، الباب 4 من أبواب صفات القاضي.
232

المتقدمة (1) المستفاد منها بقرينة المقام خصوصا.
ثم في صورة جواز الرجوع إلى المتجزئ فهل يختص بما إذا تعذر
الوصول إلى المطلق أو تعسر، أو يجوز مطلقا؟ قيل بالأول (2)، لما في مقبولة
ابن حنظلة من وجوب الأخذ
233

[مسألة]
[4]
إذا رفع المدعي خصمه إلى قاضي الجور - ونعني به هنا من
لم يستجمع الشرائط المذكورة - فإن كان مع التمكن من الترافع إلى الجامع،
فعل حراما سواء كان المدعى عينا أم كان دينا، وسواء جزم المدعي بكونه
محقا في نفس الأمر، وسواء كان القاضي فاقدا للايمان أو لغيره من الشرائط.
ويحتمل أن يكون التحريم مختصا بالمخالف، لاختصاص الأخبار الدالة
على حرمة التحاكم إلى الجائر (1) به، ولا دليل على حرمة الترافع إلى المؤمن
الفاقد لشرائط القضاء. نعم، يكون لغوا، لعدم ترتب أثر على حكمه.
ومنه بعلم محمل الروايات المتقدمة (2) الآمرة بالرجوع إلى الفقهاء
والترافع إليهم، فإن معناها أن من أراد التحاكم وقطع الخصومة، فليرجع
إلى هؤلاء، فإنهم الذين يقطع بحكمهم الخصومة، ويجب طاعتهم على
المتخاصمين.
نعم، لو فرض أن الترافع إلى المؤمن الفاقد يكون موجبا لاعلاء

(1) الوسائل 18: 2، الباب الأول من أبواب صفات القاضي.
(2) راجع الصفحة: 228.
234

كلمته الباطلة وترويج محاكمته العاطلة فليزم تلبيس الأمر على العوام،
فلا مضايقة في تحريمه.
هذا كله في أصل الترافع إليه، وأما ما يأخذه بحكم ذلك الحاكم
فهو حرام مطلقا، إلا أن يكون عينا يجزم المدعي بتملكه، فإنه لا يحرم
مطلقا، لأنه صين ماله بالفرض، فيجوز أخذه والتصرف فيه ضرورة.
وليس في الأخبار ما يوهم خلاف ذلك، إلا ما ربما يتوهم من صدر
المقبولة المتقدمة (1)، المسؤول فيها عن التحاكم في الدين والميراث،
الظاهر في العين، المجاب فيها بقوله عليه السلام: " وما يحكم له فإنما يأخذه سحتا
وإن كان حقه ثابتا "، وليس فيه تصريح بل ولا ظهور في حرمة أخذ العين
المجزوم بتملكها، لأن التحاكم في الميراث قد يكون قد يكون بالتنازع والتداعي
في عين من باب الإرث، بأن يدعي كل واحد أو أحدهما كونه ملكا لمورثه
أو غير ذلك، وقد يكون من بعض مسائله النظرية المحتاجة إلى فتوى المفتي
كمسألة الحبوة وسائر المسائل المختلف فيها في باب الميراث، ولا كلام
في حرمة أخذ المدعي - على الفرض الثاني - العين التي حكم الحاكم
المفروض بكونها ملكا له، وليس مورد الرواية صريحا في الفرض الأول،
مع أن قوله: " وإن كان حقه ثابتا " ظاهر في الدين، فيحتمل أن يكون قرينة
لإرادة خصوص الدين من قوله: " وما يحكم له فإنما يأخذه سحتا "،
فلا يبقى وثوق بعموم الموصول.
ومع تسليم ظهور الرواية في العموم للدين والعين مطلقا، فلا يخفى أن
بهذا العموم لا يرفع اليد عن الأدلة القاطعة الدالة على تسلط الناس على

(1) تقدمت في الصفحة: 228.
235

أموالهم، وجواز تصرفهم فيها، فظهر أن استشكال صاحب الكفاية في
العين (1) ليس في محله.
وإن كان مع عدم التمكن من الترافع إلى الجامع، فإن لم يجزم المدعي
بكونه محقا في نفس الأمر فعل حراما مطلقا، أو إذا كان الحاكم مخالفا - على
الاحتمال المتقدم - وحرم ما أخذه بحكمه عينا أو دينا، لأن الشرائط
المذكورة شرائط مطلقة للقاضي، وليست مختصة بحال التمكن، فأخذ مال
الغير أو ما في يده مع عدم العلم بالاستحقاق بمجرد حكم من لم ينفذ حكمه
شرعا غير جائز. نعم، لو تجاسر متجاسر ومنع الشرطية المطلقة فيما عدا
العلم بالواقعة - من أي وجه كان - والايمان، بل خصصهما بحال التمكن،
صح الترافع إلى فاقد ما عداهما.
وإن جزم المدعي بكونه محقا في نفس الأمر فالظاهر جواز الترافع إلى
الفاقد، فيكون ما يأخذه بدلا عن حقه من مال المحكوم عليه من قبيل
المقاصة، وذلك لأدلة نفي الضرر (2) والحرج (3) المرخصة لتوصل ذي الحق
إلى حقه.
وأما صدر المقبولة المتقدم ذكره (4) فلا يبعد دعوى ظهوره في صورة

(1) كفاية الأحكام: 262.
(2) الوسائل 17: 340، الباب 12 من أبواب احياء الموات.
(3) فمن الآيات قوله: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج: 78، وأيضا
قوله تعالى: " وما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " المائدة: 6، وانظر الوسائل
1: 115، 120، الباب 8 و 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 11 و 14.
(4) في الصفحة: 228.
236

التمكن من التحاكم إلى الجامع، نظرا إلى أن الذي أوجب عليه في الرواية
الرضى بحكومة الراوي للحديث العارف بالحلال والحرام، هو النهي عن
التحاكم إلى قضاة الجور، ولا ريب أن وجوب التحاكم إلى القاضي الجامع
فرع التمكن، فكذلك حرمة التحاكم إلى الفاقد، فتأمل.
ولو سلم ظهور الرواية في اطلاق، تعين تقييده بصورة التمكن من جهة
أدلة نفي الضرر والحرج المقيدة لجميع المطلقات إذا خلت من المعتضدات
الخارجة، وإن كان فيهما عموم من وجه، لقوة تلك الأدلة وكونها حاكمة
على الأدلة المثبتة.
ثم إن صاحب الكفاية استشكل في الحكم المذكور، من جهة أن حكم
الجائر بينهما فعل محرم، فالترافع إليه موجب للإعانة على الإثم المنهي
عنها (1)، وضعفه في الرياض بأن ما دل على حرمة الإعانة ليس بأقوى
مما دل على حرمة التحاكم إلى هؤلاء الظلمة، فكما يخصص بأدلة نفي الضرر
والحرج هذه، تخصص تلك، وإنما جعلت أدلة نفي الضرر والحرج مخصصة
للأدلة المانعة بنوعيها، مع كون التعرض بينها وبين الأدلة المانعة عموما من
وجه لأوفقيتها بأصالة البراءة التي هي حجة مستقلة لو فرض تساقط
الأدلة (2).
أقول: وفي كل من استشكال صاحب الكفاية وتضعيف صاحب
الرياض وما ذكره من الوجه في تقديم أدلة نفي الضرر والحرج على الأدلة
المانعة، نظر.

(1) كفاية الأحكام: 262.
(2) الرياض 2: 388.
237

أما فيما ذكره صاحب الكفاية من الاستشكال، فلأنه مبني على كون
الترافع إلى الجائر إعانة له على الإثم، وهو ممنوع جدا، إذ ليس مجرد فعل
الشخص ما له دخل في تحقق الحرام من الغير إعانة له على المحرم،
بل الإعانة عرفا هو أن يفعل الشخص ما له دخل في تحقق الحرام من الغير،
بقصد أن يتحقق منه ذلك المحرم. فبيع العنب ممن يعلم أنه يعمله خمرا، إن
كان لأجل أن يعمله خمرا إعانة، وإلا فلا، وهكذا فالترافع إلى الجائر إذا
كان لمجرد التوصل إلى الحق ليس إعانة للجائر.
وأما فيما ذكره في الرياض من تضعيف الاستشكال المذكور مع تسليم
صدق الإعانة بأن أدلة حرمة الإعانة ليست بأقوى مما دل بالخصوص على
حرمة التحاكم إلى قضاة الجور، فلأنه لا يخفى أن أدلة حرمة الإعانة أقوى
من تلك، لكونها مطابقة لحكم العقل بقبح الإعانة على القبيح، فلا تقبل
التخصيص بأدلة نفي الضرر والحرج، لأن نفيهما في المقام بالشرع لا باستقلال
العقل، فإن العقل لا يأبى في المقام عن أن يجب على المدعى ترك المرافعة إلى
أن يتمكن من حاكم عدل، أو يتوصل إلى حقه بطريق آخر.
وأما فيما ذكره أخيرا من أن الوجه في تخصيص الأدلة المانعة بأدلة نفي
الضرر والحرج هو أن أدلة نفيهما موافقة لأصل البراءة فلأن الوجه في تقديم
أدلة نفي الضرر والحرج على الأدلة المثبتة للتكاليف ليس مطابقتها للأصول،
وإلا لكن اللازم فيما إذا كان مقتضى الأصل هو لزوم الخروج عن عهدة
التكليف - كما إذا شك في الجزئية والشرطية للعبادة - تقديم الأدلة المثبتة
للتكليف على أدلة الضرر والحرج، وكان اللازم - فيما لم يكن المقام مقتضيا
للبراءة والاحتياط - أن يحكم بالتوقف أو التخيير، مع أن التالي بقسميه
باطل اتفاقا على الظاهر، حيث إنا لم نعثر على من قدم الأدلة المثبتة
238

للتكليف في مورد يلزم منه الضرر والحرج على أدلة نفيهما، من جهة موافقة
قاعدة لزوم الخروج عن العهدة، أو يتخير في مورد يلزم من اثبات الحكم
الضرر أو الحرج، من جهة عدم الترجيح بين أدلة الحكم وأدلة نفي الضرر
والحرج.
فالتحقيق أن وجه تقديم أدلة نفي الضرر والحرج على العمومات مع
كون النسبة عموما من وجه، هو حكومة الأدلة المذكورة على العمومات،
نظرا إلى أن مدلول تلك الأدلة هو أن الأحكام التي جعلها الله وبينها للعباد
بالطرق المخصوصة والأدلة المعلومة، ليس فيها ما يستلزم الضرر والحرج،
فهي بمدلولها اللفظي كأنها مفسرة للعمومات ومبينة أنها لم يرد منها ثبوت
حكمها في مورد الضرر والحرج، فتقديمها على العمومات من جهة حكومتها
عليها، لا من جهة تعارضها وتقديمها عليها، والفرق بين الحاكم والمعارض
غير خفي.
239

[مسألة]
[5]
إذا وجد بشرائط القضاء شخصان، أحدهما أعلم من الآخر،
فالمشهور وجوب الترافع إلى الأعلم، واستدل عليه بقبح العدول إلى
المفضول، وبأصالة حرمة العمل بما وراء العلم، وعدم حجية من لم يعلم
حجيته بالدليل، وعدم نفوذ حكم من لم يعلم من الإمام نصبه، والمتيقن
خروجه من مقتضى هذه الأصول، هو الفاضل.
ولما دل على وجوب اتباع الأعلم عند حصول الاختلاف بينه وبين
العالم في حكم المسألة، ولا ريب أن العلم الاجمالي حاصل بالاختلاف بينهما
في كثير من الأحكام، سيما في هذه الأزمان، ثم لا مخرج عن مقتضى هذه
الأصول والعمومات، عدا ما يتراءى من اطلاق طائفة من الأدلة، مثل
الآيات والأخبار الدالة على وجوب الحكم بما أنزل الله، ورجحان الحكم
بالحق والقسط والأمر بالمعروف، إذ المفروض أن المفضول يعتقد ما يفتي به
حقا وقسطا أنزله الله، فإذا جاز حكمه بل وجب، جاز التحاكم إليه، لأن
القائل بعدم جواز التحاكم إليه يدعي عدم كونه منصوبا من الإمام،
فلا يجوز له التعرض لوظيفته عليه السلام.
240

ومثل التوقيع المتقدم والمعتبرتين المتقدمتين (1).
ومثل قول الصادق عليه السلام فيما روي في الاحتجاج عن تفسير مولانا
العسكري عليه السلام: " فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه،
مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه " (2).

(1) راجع الصفحة: 228.
(2) الإحتجاج 2: 263، والوسائل 18: 94، الباب 10 من أبواب صفات القاضي،
الحديث 20، وبه ينتهي ما ورد في الصفحة اليمنى من الورقة (199).
241

[مسألة]
[6]
.. الاتباع (1)، كيف ولكن نقول: إن مباشرة فصل الأمور الحادثة
المتجددة في كل زمان ونظمها وضبطها وإصلاحها، لما كانت وظيفة وشغلا
للإمام الموجود في ذلك الزمان، لاحتياج ذلك إلى الحس والحياة الظاهرتين،
فلا معنى لكونها وظيفة للإمام المتقدم أو المتأخر. فإذا أحال إمام الزمان
- ذلك الشغل وتلك الوظيفة (2) - أمر ذلك كله أو بعضه إلى واحد من
الرعية، واستنابه فيه، على مقتضى العادة الجارية بين الناس في استنابة
بعضهم بعضا فيما لهم مباشرته ولا يريدون مباشرتها أو لا تسعهم، فإذا مات
الإمام انعزل النائب، وهو المراد بالقاضي في قولهم: ينعزل القضاة.
وأما من جعل منه عليه السلام وليا لنظم الأمور في زمانه وبعده، فله جهة

(1) هذا هو أول الصفحة اليسرى من الورقة (199)، والعبارة غير مرتبطة بما ورد
في آخر الصفحة السابقة فيحتمل سقوط ورقة من النسخة، فإن هذه مسألة أخرى
غير ما تقدم سابقا. وقد تقدم نظير البحث عن هذا الموضوع، في شرح المؤلف قدس سره
للارشاد، فراجع.
(2) ما بين الشارحتين ورد في هامش النسخة.
242

أخرى غير النيابة في القضاء الذي هو وظيفة إمام العصر المختصة به،
نظير ذلك سائر نوابه في أخذ الأخماس والصدقات التي تتفق في
زمانه عليه السلام، ومع ذلك فلو جعل أحدا وليا لأخذها أبدا فلا مفر عن
وجوب إطاعته.
والحاصل أن هنا أمرين: أحدهما - ما هو وظيفة إمام العصر عليه السلام
وشغله، وهو مباشرة فصل الأمور الواقعة في زمانه، ولا ريب أنها مختصة في
كل زمان بإمام ذلك الزمان، فإذا وكله إلى غيره فهو نائب عنه، ووال فيما
هو من وظيفة المنوب، ولازم ذلك أنه إذا انتفت الوظيفة انتفت النيابة
والولاية فيها.
والثاني - ما هو ولي فيه، وله السلطنة عليه، ولا ريب في أن هذه
الولاية والسلطنة تعم جميع الأمور إلى يوم النشور، فلو وكله أو بعضا
إلى غيره فهو وال عنه فيما له الولاية، فإذا لم يقيد توليته بزمان استمر زمان
ولايته تبعا لولاية الأصل، والمفروض أن ولاية الأصل ثابتة حتى في
الأمور الواقعة بعده، فولاية الفرع كذلك.
فإذا عرفت الفرق بين ما هو وظيفة وشغل لإمام العصر، وبين ما له
فيه الولاية - وأن الأول مختص بالأمور الحادثة في زمانه، والثاني عام لجميع
الأزمنة، فالمنصوب للأول: وال فيما هو الوظيفة، وفي الثاني: وال فيما له
الولاية، وأن بموت الإمام يرتفع الأول، لارتفاع المتعلق فيه، دون الثاني،
لبقاء المتعلق فيه - فاعلم أن القضاة المنصوبين التي ينصبهم بالخصوص من
قبيل الأول، ولهذا اشترطوا فيه البلوغ عند التولية والعقل وغيرهما.
وأما الفقهاء المنصوبين منه بالتولية العامة فهو من قبيل الثاني، ولهذا
لا يشترط وجودهم عند التولية فضلا عن استجماع سائر الشرائط.
243

والمراد بالقضاة المنصوبين عن الإمام عليه السلام هم النواب عنه في الأمر
الأول، وأما اعطاء شعبة من ولايته لأحد مطلقا أو مطلقا أو مقيدا فلا مجال
لأحد فيه، ألا ترى أن ولاية الإمام عليه السلام الباقية إلى يوم القيامة من
النبي صلى الله عليه وآله.
ومن هنا ظهر أن نصب الصادق عليه السلام للفقهاء في زمان الغيبة ليس
من قبيل الأول، إذ لا معنى لاستنابة من سيوجد، بل هو من قبيل الثاني،
ولهذا لا يعتبر فيه وجود الشخص في زمان التولية، ولو وجد لم ينعزل بموت
الإمام عليه السلام، فظهر مما ذكر عدم المنافاة بين حكم الأصحاب (1) - عدا
الشيخ في المبسوط (2) - بانعزال القضاة بعد موت الإمام عليه السلام، وحكمهم
بولاية الفقهاء - الذين لم يوجدوا في عصر من نصبهم بعد موته - بألف سنة
أو أزيد، وأنه لا حاجة إلى التمسك في ذلك بالاجماع أو التوقيع المروي (3) عن
مولانا القائم عليه السلام، ورفع اليد عن المقبولة (4) التي عليها تدور رحى
استدلال العلماء في ثبوت الولاية والحكومة للفقيه في زمن الغيبة.

(1) انظر السرائر 2: 176، والشرائع 4: 71، والجامع للشرائع: 530.
(2) انظر المبسوط 8: 127، لكنه بعد سطور حكم بما حكم به الأصحاب، فراجع.
(3) الوسائل 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.
(4) الوسائل 18: 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
244

[مسألة]
[7]
إذا استناب الفقيه أحدا فإن استنابه في شغل خاص - كبيع مال يتيم
أو غائب ونحو ذلك - فالظاهر انعزاله بموت الفقيه، وفي كشف اللثام حكى
عدم الخلاف فيه (1)، لأنه بمنزلة الوكالة، بل يمكن دعوى جريان عمومات
الوكالة هنا، حيث إنها وكالة.
وإن استنابه في شغل عام كمتولي يتيم أو وقف، ففي الإيضاح: عدم
الخلاف في عدم انعزاله، للزوم اختلال أمور الأيتام والأوقاف (2) ويؤيده
الاستصحاب.
ثم هل لأحد الفقيهين عزل نائب الآخر؟ قد يستشكل فيه: من أن
ولاية النائب ثبتت بالنصب، ولم يعلم عزله بعزل غير الناصب.
ومن أن الفقيه العازل أيضا نائب عن الإمام، فكما أن نصب الناصب
بمنزلة نصب الإمام، فكذا عزل العازل بمنزلة عزل الإمام، ولا تعارض بين

(1) حكاه في مسألة انعزال القاضي، لا فيما عنونه المؤلف قدس سره راجع كشف اللثام
2: 325.
(2) حكاه فخر المحققين عن والده العلامة قدس سرهما في إيضاح الفوائد 4: 305.
245

النصب السابق والعزل اللاحق، كما إذا نصب الإمام شخصا ثم عزله.
ويرد عليه: أنه إن أريد من أن نصب الناصب وعزل العازل كنصب
الإمام وعزله - حيث إنهما نائبان عنه - أن الناصب نائب في أن ينصب
عن الإمام، بأن يكون المنصوب منصوبا عن الإمام بواسطة الناصب،
كما لو صرح الإمام وقال: " انصب عني " فهو ممنوع، إذ ثبت من الأدلة
كون الفقيه وليا على من يحتاج وما يحتاج إلى ولي وراع ومحام،
كأمور الأيتام والسفهاء والأوقاف العامة ونحوها، بمعنى أن هذه الأمور
لما احتاجت إلى من يباشرها على الوجه الأصلح، وليس في العباد
من هو أولى بذلك من العالمين بالأحكام وحملة أخبار أئمة الأنام عليهم السلام،
لأنهم أبصر بذلك من غيرهم، فوض إليه هذه الأمور، فتصرفاته وأفعاله
على وجه كونه مأذونا في فعل ما يراه صلاحا من دون أن يوقع على وجه
النيابة عن الإمام، نظير أن ولي الميت إذا أذن لأحد في الصلاة عليه،
فهو وإن كان مأذونا عنه، لكنه ليس نائبا عنه في الصلاة، ولهذا لا يصح
أن تنوى (1) النيابة، ويصلي معه نفس الولي الآذن، ولا ينافي هذا الإذن
للوجوب الكفائي على الولي وغيره، فيكشف هذا كله عن أنه ليس نائبا
حقيقيا، فكذا الأمور التي يتولاها الفقيه في زمان الغيبة، فإنها ترجع
إلى الواجبات الكفائية. لكن يشترط في مضيها من فاعلها إذن الولي العام،
أعني الإمام عليه السلام.
ولو أبيت إلا عن أن الفقيه في أفعاله وتصرفاته نائب حقيقة عن
الإمام، فلا بد لك من إثباته، فإن أقصى ما استفيد هو الإذن دون

(1) كذا في " ق "، والمناسب: أن ينوي.
246

الاستنابة، وحينئذ فنقول: إذا كان من جملة أفعال الفقيه المأذون فيها
أن ينصب وليا على يتيم وشبهه أو متوليا على وقف، فهذا النصب
ليس بالنيابة عن الإمام حتى يكون العزل كذلك بالنيابة، بل هو تصرف
مأذون فيه، فكان الواجب أن يمضي كسائر الأمور، فلا يجوز لغيره عزله،
نعم، يجوز لنفسه من جهة أنه العاقد للنصب، فيجوز له حله لأنه ليس من
الأمور اللازمة.
فإن قلت: أليس للإمام عزل هذا المنصوب، فكذا الفقيه الآخر له
عزله، لأنه مأذون وإن لم يكن نائبا، والحاصل أنا لا ندعي انعزاله من
جهة أن العازل نائب عن الإمام في العزل، بل من جهة أنه مأذون من
الإمام في العزل وله ولاية العزل، كما أن للناصب كان ولاية النصب.
قلت: إن عزل ما نصبه الغير نقض لولايته وعزل له من هذه الجهة،
لأن مقتضى وجوب إمضاء أحكامه هو إمضاء النصب، فالعزل نقض
وعزل له في خصوص هذا الأمر، ولما كان ذلك جائزا للإمام عليه السلام،
صح له عليه السلام عزل منصوبه المستلزم لعزله، ونقض ما فعله في هذه
الخصوصية، ولما لم يجز لفقيه آخر عزل نفس الفقيه عن الولاية، ولو في
خصوص واقعة خاصة للزوم الترجيح بلا مرجح، لم يجز له عزل منصوبه،
لأنه مستلزم لعزله في خصوص واقعة نصبه، لأن مقتضى نصبه هو بقاء
ولاية المنصوب واستمرارها، فنقض مقتضاه نقض لفعل الفقيه وعزل له
من جهة الفعل، ولو من حيث الاستدامة.
ومن هنا يظهر فساد ما ربما يقال: إن نصب الفقيه وعزل فقيه آخر
ليسا متنافيين، حتى يكون فعل العازل ناقضا لفعل الناصب، وعازلا له من
حيث هذا الفعل، بل هما من قبيل الإجازة والفسخ، حيث يقدم الفسخ على
247

الإجازة، إذ لا يخفى الفرق بين الأمرين، فإن المجيز إنما يلتزم بما فعل نفسه،
والفاسخ يهدم ما فعل نفسه، ومن البين أن المعاوضة لا يتقوم بفعل واحد،
فلازم هدم أحدهما لما فعله، وحله حل العقد القائم بالطرفين، بخلاف النصب
والعزل، فإن مقتضى الأول ثبوت الولاية، ومقتضى الثاني ارتفاعها،
فلا محالة يكون الثاني ناقضا للأول، فنظيره في الفسخ والإجازة: ما إذا وكل
صاحب المبيع فضولا شخصين في إجازة ما فعله الفضولي وفسخه، فأجاز
أحدهما، فإنه ليس للآخر الفسخ قطعا، وكذا العكس.
ثم إن محل الكلام فيما إذا كان عزل العازل لمصلحة الأمر الذي نصب له،
وأنه هل يجوز عزل فقيه آخر له من غير اعلام الناصب بكون عزله مصلحة
ليعزله أو يعلم الناصب بالحال، ويلتمس منه عزله لأجل المصلحة؟
وأما إذا كان عزله اقتراحا، فالظاهر أنه لا يجوز قولا واحدا،
لأن هذا الفعل الاقتراحي ليس مما أذن فيه ولا ولي عليه، وكذا لو كان
لمصلحة نفس العازل المتعلقة بأمور دينه أو دنياه، إذ بم يؤذن للفقيه
أن يتعرض - ولو بمصلحة دينية - في أمور الأيتام وأشباههم، مع قيام الغير
بها على وجه ينقض ما فعله الغير، لأن إذن الإمام للفقهاء في ذلك
على طريق الكفاية كما أن وجوبها على طريق الكفاية، فمتى قام أحدهم
وتصرف فيما أذن له، فلا دليل على إذن غيره في التصرف فيما تصرف فيه.
ومنه يعلم عدم جواز التصرف بالعزل، حتى فيما إذا كان فيه
مصلحة اليتيم أو الوقف، بل لا بد أن يعلم الفقيه الناصب حتى يعزل
من نصب.
فحصل مما ذكرناه أن الأقوى أنه لا يجوز أن يعزل من نصبه
الفقيه الأول مع حياته لوجوه:
248

الأول: أن الفقهاء ليسوا بنواب حقيقة بحيث يصدر منهم الأفعال على
وجه النيابة، بل يشبه حالهم حال المصلي على الميت بإذن الولي، بل هي
هي، فلا يكون الناصب نائبا في النصب والعازل نائبا في العزل، حتى يكون
عزل فقيه بعد نصب آخر كالعزل الصادر من الإمام عليه السلام بعد صدور
النصب منه.
الثاني: أنه لو سلم نائبون في الأفعال، لكنهم ليسوا بمأذونين في
عزل ما (1) نصبه بعضهم، فليس الفقيه مأذونا في عزل ما نصبه الآخر،
لا على وجه النيابة عن الإمام عليه السلام، ولا على وجه الإذن
عنه عليه السلام، لأن قيام الفقيه بإصلاح أمور ذلك المولى عليه التي نصب وليا
فيها أغنى عن تصدي فقيه آخر لها بالمباشرة أو الاستنابة، فإن إذن الإمام
في مباشرة الفقيه للوقائع أو الاستنابة فيها، لا دليل على شموله لما إذا كانت
غنية عن تصديه لقيام غيره بها، فهو إذن كفائي، كالوجوب الكفائي، يسقط
بقيام من به الكفاية.
بل يمكن أن يقال: إن إذن الفقيه في الأمور تابعة (2) لوجوب مباشرتها
كفاية، فحيث وجبت كفاية أذن فيها، وحيث قام بها غيره سقط الوجوب
وسقط الإذن، لأن عمدة ما ثبت به إذن الفقيه في تلك الأمور هو أنها
واجبة كفاية، وليس أحد أولي منه بها.
وأما التمسك بالعمومات، مثل ما ورد في التوقيع المتقدم، من أن رواة

(1) كذا في " ق "، والظاهر: " من "، وكذا فيما يليه.
(2) كذا في " ق "، والصحيح: تابع.
249

حديثنا حجة عليكم (19، أو أن العلماء خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله (2)،
و " أنهم أمناء الرسل " (3)، و " أن الراد لحكمهم راد على الله " (4)، فلا ينفع
فيما نحن [فيه] (5)، لأن هذه إنما تدل على وجوب اتباعهم في الأفعال
والأقوال، ولا ريب أن الخطاب باتباعهم ليس مختصا بالمقلدين، بل يشمل
مثلهم، إلا ما خرج من عدم جواز اتباع الفقهاء بعضهم لأقوال بعض
في الفتاوى، وبقي الباقي، ومنه ما إذا نصب فقيه شخصا لمباشرة بعض الأمور
الشرعية، فإن العمومات المذكورة قاضية بوجوب تقريرها واتباعها على
الفقيه الآخر، فكيف يعزله؟!
الثالث: أن الفقهاء لو سلم كونهم مأذونين على وجه العموم بحيث
يشمل عموم إذنهم لعزل ما نصبه بعضهم، لكن نمنع كون الإذن في النصب
والعزل بطريق الاستنابة، وإن سلمنا ذلك في أفعالهم الآخر، فهم ليسوا
بنائبين في نصب المباشر وعزله، حتى يكون منصوبهم منصوبا من الإمام،
بل هم نائبون في نفس الأفعال التي ينصب لأجلها، ومأذونون في النصب
ارفاقا بهم، نظير ذلك أنه إذا وكل أحدا في أموره واستنابه فيها، ثم
أذن له في تفويضها إلى غيره، فحينئذ التوكيل الصادر من الوكيل لم يتعلق به

(1) الوسائل 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9، وتقدم في
الصفحة: 228.
(2) الوسائل 18: 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 7.
(3) الكافي 1: 46، باب المستأكل بعلمه، الحديث 5، وفيه: الفقهاء أمناء الرسل.
(4) الوسائل 18: 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(5) اقتضاها السياق.
250

الوكالة، بل تعلق به الإذن. نعم، لو صرح وقال: " وكل عني " كان توكيلا
في التوكيل عنه، والمفروض أنه لم يرد من الإمام عليه السلام الاستنابة في النصب
عنه، فإذا ظهر الفرق بين الإذن في النصب والاستنابة فيه، جرى مثله في
العزل، فإنه عليه السلام لم يستنب العازل في العزل له، فكيف يكون عزله عزل
الإمام. نعم، إذنه في العزل عموما، لكنه (1) إذنه في العزل معارض بإذن
الناصب في النصب، وقد عرفت أن مقتضاهما متنافيان، وليسا مثل الإجازة
الصادرة من أحد المتعاقدين، والفسخ الصادر من الآخر في عدم التنافي،
فلا يرفع اليد عما ثبت أولا.
وقد علم مما ذكرنا في الوجه الثاني من عدم الإذن في التصدي مع
قيام الغير به، أنه ليس لفقيه التعرض لواقعة تصدى لها فقيه إلا على وجه
يرضى به المتصدي الأول، فإذا سلم مال يتيم في يد شخص، فليس لفقيه
آخر رأى المصلحة أن يبيعه ليحكم على الشخص الذي بيده المال أن يسلمه
إلى مشتريه، لعدم الإذن في التصدي حينئذ، مضافا إلى أنه لا يؤمن
مع ذلك من حدوث الشحناء والبغضاء بين الفقهاء، فيسقط بذلك محلهم عن
القلوب، ويقل الاعتماد والوثوق بهم، ونحو ذلك.

(1) كذا في " ق "، والمناسب، لكن.
251

كتاب الشهادات
253

صورة الصفحة الأولى من كتاب الشهادات من نسخة " ق "
255

صورة الصفحة الأخيرة من كتاب الشهادات من نسخة " ق "
256

صورة الصفحة الأولى من كتاب الشهادات من نسخة " ش "
257

صورة الصفحة الأخيرة من كتاب الشهادات من نسخة " ش "
258

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين،
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
اعلم أن مقتضى الأصل المستفاد من الأدلة الأربعة هو عدم جواز
الشهادة إلا مع العلم القطعي بالمشهود به، والمراد من الشهادة مع عدم العلم
- التي أطبقت الأدلة (1) على منعها - هو الاخبار بصورة الجزم، وإلا فالشهادة
الحقيقية التي هي عبارة عن الاخبار عن جزم لا يعقل حصولها من دون
العلم والجزم، وهذا مما لا اشكال فيه ولا ريب يعتريه.
وإنما الاشكال، بل الخلاف في جواز الشهادة استنادا إلى أمور
غير علمية نصبها الشارع طرقا إلى الموضوعات بالنسبة إلى المكلفين
فيما يتعلق بأنفسهم كالاستصحاب وسائر الأصول والاستفاضة الغير العلمية
وشهادة العدلين ويد المسلم وتصرفه والاقرار، ونحو ذلك.

(1) فمن الكتاب قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) الإسراء: 36، وقوله
تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) الزخرف: 86، ومن السنة ما ورد في
الوسائل 18: 250، الباب 20 من أبواب الشهادات وغيره.
259

والمراد من الشهادة استنادا إلى هذه الأمور إما الاخبار عن جزم
بمقتضى تلك الطرق وهي الأمور الظاهرية، وإما الاخبار بصورة الجزم عن
الأمور الواقعية، كما قد تورد الدعوى بصيغة الجزم مع عدم الجزم في الواقع.
ولما كان حكم الاستناد مختلفا في هذه المذكورات جوازا ومنعا
لم يكن بد من الكلام في كل واحد مستقلا، وعساك تظفر في تضاعيف
كلماتنا بضابطة كلية في بيان ما يجوز استناد الشاهد إليه وما لا يجوز،
إن شاء الله تعالى.
فنقول: أما الاستصحاب وغيره من الأصول فاستناد الشاهد إليها
على أحد الوجهين المذكورين يتصور على وجهين:
الأول: أن يستند إليها في اثبات نفس المشهود به، كأن يشهد لزيد
على عمرو باشتغال ذمته بدين في الحال مستندا إلى استصحاب الاشتغال.
الثاني: أن يستند إليها في إتمام السبب الذي جعله الشارع مثبتا
للمشهود به، كأن يشهد لزيد بمالكية دار بمجرد علمه بأنه ورثه من أبيه،
مستندا في صحة الإرث إلى أصالة كونه في يد الأب على جهة الملك،
وأصالة بقاء الدار على ملك الأب إلى زمان الموت، وأصالة عدم وارث
آخر له، وعدم طروء مانع من موانع الإرث في حق زيد، وغير ذلك من
الأصول التي يعلمها (1) لتصحيح الإرث الذي هو سبب المشهود به أعني:
الملكية، وكأن يشهد بزوجية امرأة أو ملكية عبد بمجرد مشاهدة عقد النكاح
والبيع مستندا في صحتهما واستجماعهما للشرائط إلى الأصول. إلى غير ذلك
من الأمثلة.

(1) كذا ظاهرا في النسختين.
260

والظاهر أن جواز استناد الشاهد في شهادته إلى الأصول على الوجه
الثاني مما لا اشكال ولا خلاف فيه، ولولاه لما قام للمسلمين سوق،
ولضاعت أكثر الحقوق، إذ عليه تبنى الأحكام، وبه تدور رحى الشهود
والحكام.
وسيجئ السر الفارق بينه وبين الاستناد على الوجه الأول.
ثم إن ما يستند إليه على الوجه الأول على قسمين:
أحدهما: ما كلن بحيث لو ظهر لنفس الحاكم لحكم به للمشهود له،
كالمثال المذكور في الوجه الأول، وهو ما إذا لم يعلم الشاهد إلا استدانة زيد
من عمرو في الزمان الماضي فشهد على زيد باشتغال ذمته في الحال استنادا
إلى استصحاب الاشتغال، فإن هذا الاستصحاب لو حصل لنفس الحاكم بأن
يقطع بالاستدانة ويشك في الوفاء، حكم على زيد.
والثاني: ما كان بحيث لو ظهر لنفس الحاكم أو ظهر له استناد الشاهد
إليه لم يحكم به للمشهود له، مثل ما لو تنازعا في صحة معاملة وفسادها
وأقام كل منهما بينة وكان الحاكم ممن يذهب إلى ترجيح بينة الداخل،
والمفروض أن مستند بينة الداخل في الشهادة بالصحة أصالة الصحة،
ولا ريب أن الحاكم لا يحكم لمدعي الصحة بمجرد أصالة الصحة المعارضة
ببينة الفساد، بل لو ظهر له استناد بينة الصحة إليها لم يحكم أيضا قطعا.
والظاهر أن الاشكال متحقق في كلا القسمين وإن كان منع الاستناد
في القسم الثاني أسبق إلى الأذهان.
وكيف كان، فنحن نتكلم في القسم الأول ثم نتبعه بذكر حكم الثاني،
فنقول: إذا استند الشاهد إلى الاستصحاب أو غيره من الأصول في اثبات
المشهود به بحيث لو ثبت نفس ذلك المستند عند الحاكم حكم للمشهود له،
261

فالذي يتراءى في بادئ النظر هو عدم جواز الشهادة، لما عرفت من تطابق
الأدلة الأربعة على عدم جواز الشهادة إلا مع العلم القطعي بالمشهود به،
والاستصحاب كغيره من الأصول إنما ينزل موردها المشكوك فيه بمنزلة المعلوم،
فيترتب عليه جميع الآثار التي كانت تترتب على المشكوك لو كان معلوما،
ولا ينزل نفس الشك بمنزلة العلم حتى يترتب عليه آثار العلم.
ولا ريب أن جواز الشهادة بالشئ من آثار العلم بالشئ لا من
آثار نفس ذلك الشئ حتى يلزم من اثباته بالاستصحاب ثبوت جواز
الشهادة، نظير ذلك ما لو نذر زيد بأن يتصدق كل يوم بدرهم ما دام متيقنا
بحياة ابنه فشك - بعد ذهابه إلى السفر - في حياته وموته، فحكم الشارع
باستصحاب حياته لا يترتب عليه وجوب التصدق، لأن وجوب التصدق
كان في النذر معلقا على اليقين بحياة زيد، لا على نفس الحياة.
نعم، لو نذر أن يتصدق ما دام حيا وجب التصدق باستصحاب
الحياة.
وهذا كلام جار في جميع الطرق الغير العلمية، وحاصله أن الأسباب
الظاهرية إنما تفيد واجدها وجوب العمل في مواردها كما لو كانت معلومة،
وتجعل المشكوك كالمتيقن، لا الشك كاليقين، فافهم واغتنم.
ومن هنا ظهر فساد ما ربما يتمسك في اثبات جواز الشهادة
الاستصحابية بالاستصحاب، لأن الشخص كان حين العلم تجوز له الشهادة
وبعد زوال علمه نشك في الجواز وعدمه والأصل بقاء الجواز.
وجه الفساد: أن جواز الشهادة مترتب شرعا على العلم بتحقق
المشهود به فيزول بزواله، وليس مترتبا على نفس المشهود به حتى يبقى
باستصحابه.
262

ويؤيد ما ذكرنا ما رواه ثقة الاسلام في الحسن - بابن هاشم - عن
معاوية بن وهب، قال: " قلت له: إن ابن أبي ليلى يسألني الشهادة على أن
هذه الدار مات فلان وتركها ميراثا، وأنه ليس له وارث غير الذي شهدنا له،
فقال: اشهد بما هو علمك، قلت: إن ابن أبي ليلى يحلفنا الغموس؟ قال:
احلف إنما هو على علمك " (1) حيث إن الإمام عليه السلام إنما أذن له في الشهادة
بما هو معلوم له ويجوز له الحلف عليه.
وظاهر العلم: العلم في الحال، مع أن مورد السؤال مما يوجد فيه
استصحاب بقاء الدار على ملك المورث إلى حين الموت وأصالة عدم وارث
آخر، فتأمل.
فإن قلت: مقتضى ما ذكرت هو عدم جواز استناد الشاهد
إلى الأصول مطلقا، سواء استند إليها في اثبات نفس المشهود به أو في اتمام
سببه الشرعي، مع أنه قد مر عدم الاشكال والخلاف في جواز الاستناد إليها
في اتمام سبب المشهود به، فما وجه الفرق؟
قلت: مجمل الفرق أن الشهادة مع الاستناد إلى الأصول في اتمام سبب
المشهود به ترجع إلى الشهادة مع العلم القطعي بالمشهود به، بخلاف الشهادة
مع الاستناد إلى الأصول في اثبات نفس المشهود به.
وتفصيل ذلك: أن الأمور المسببة عن الأسباب الشرعية كالملكية
والزوجية والنسب ونحوها، وإن كانت أمورا واقعية تابعة لأسبابها الواقعية،
أعني البيع الصحيح الواقعي والنكاح الصحيح الواقعي ونحوهما، إلا أن

(1) الكافي 7: 387، من كتاب الشهادات، الحديث 2، والوسائل 18: 245، الباب
17 من أبواب الشهادات، الحديث الأول.
263

الواقع منها بين الناس والمتعارف عندهم والمتداول في ألسنتهم، والثابت
بأيديهم إنما هي الظاهرية المنوطة بالأسباب الصحيحة ظاهرا بضميمة
الأصول، لأن العلم بتحقق الأسباب الواقعية متعسر، بل متعذر.
أترى من نفسك أن تحصل العلم بملكية شئ واحد لنفسك فضلا عن
غيرك، بأن تتحصل العلم بصحة جميع الأيدي المترتبة عليه والتملكات
المتعاورة (1) عليه المنتهية إليك.
بل لو قلت: إن الملكية والزوجية الواقعيتين ونحوهما هي عبارة
عما يترتب على البيع والنكاح المصححين ولو بضميمة الأصول، وليس لهما
واقعي وراء ذلك، لم تبعد عن الصواب كثيرا.
فظهر من ذلك كله إن مورد الدعاوي والانكارات والشهادات
والاقرارات والحكومات كلها ليست إلا الأمور المسببة عن الأسباب
الظاهرية، فإذا ادعى زيد ملكية دار عمرو فلا يقصد إلا أنه مملوك
لي شرعا، باعتبار أنه وقع في الخارج ما جعله الشارع في الظاهر سببا
مملكا، وليس مراده أنه ملك نشأ من سبب مملك واقعي، لما عرفت من تعذر
العلم بذلك.
ولا ريب أن الشاهد بالملكية إذا استند في تصحيح سبب الملك إلى
الأصول الظاهرية فقد شهد عن علم الملكية على النحو الذي ادعاه المدعي،
فلم يشهد إلا مع العلم القطعي بالمدعى (2)، وهذا هو السر في جواز الشهادة
مستندا إلى الأصول في تصحيح سبب المشهود به، ويبقى ما مر من لزوم

(1) * كذا في النسختين.
(2) في " ش ": العلم القطعي بالمشهود به.
264

اختلال النظام مرجحا.
وهذا بخلاف ما إذا استند الشاهد إلى الأصول في اثبات نفس المشهود
به، كأن يشهد بالاشتغال للاستصحاب، فإن مورد الادعاء والانكار ليس
إلا هو الاشتغال الواقعي وليس الشاهد عالما به.
هذا غاية ما يمكن أن يستدل به على عدم جواز الشهادة مستندا إلى
الأصول في اثبات المشهود به.
ولكن الحق الحقيق بالاتباع هو جواز الشهادة مستندا في اثبات
المشهود به إلى الاستصحاب وغيره من الأصول، سواء كان على وجه ايراد
الشهادة مع الجزم على الأمور الظاهرية الثابتة بالطرق الغير العلمية، أو كان
على وجه ايرادها بصورة الجزم على الأمور الواقعية.
أما الأول، فلأن الأصول الظاهرية وإن كانت لا تفيد العلم بالواقع إلا
أنها تفيد العلم بالظاهر، وما اعترفنا به سابقا - من أنها تجعل المشكوك
كالمعلوم لا الشك كالعلم حتى يترتب عليه آثار العلم بالشئ - فإنما كان
بالنظر إلى الواقع، بمعنى أنه إذا ترتب حكم على العلم بالشئ الواقعي
- كالتصدق في المثال المذكور المعلق على اليقين بالحياة الواقعية - لم يحكم
عليه بمجرد ثبوت الشئ بالأصول، ولا يخفى أن جواز الشهادة مطلقا ليس
مترتبا على العلم بالشئ الواقعي، بل الشهادة بالشئ الواقعي متفرع على
العلم بالشئ الواقعي، والشهادة بالشئ الظاهري إنما تتفرع على العلم
بالشئ الظاهري، فإذا علم الشاهد بملكية شئ لزيد سابقا وشك في بقائه
على ملكه، فأدلة الاستصحاب وإن لم تفده العلم بالملكية الواقعية ولم تجعل
شكه فيها بمنزلة علمه بها - كما اعترفنا سابقا - إلا أنها أفادته العلم بالملكية
الظاهرية فيشهد بها عن علم قطعي.
265

فإن قلت: من شرط الشهادة موافقتها للدعوى، والمدعي إنما يدعي
الملكية الواقعية التي لا يشهد بها الشاهد.
قلت، أولا: نفرض الكلام فيما لو ادعى المدعي الملكية الظاهرية، بأن
يدعي: أني مالك على سبيل الجزم، والحاكم يعلم بأنه ما استند إلا إلى
الاستصحاب، أو يقول المدعي، إني أستحقه في ظاهر الشرع. وإذا ثبت
الحكم في هذا الفرض ثبت في غيره بالاجماع.
وثانيا: إن تطابق الشهادة والدعوى إلى هذا الحد مما لا دليل عليه،
وإنما المسلم وجوب تطابقهما في أنفسهما لا من حيث ظرف ثبوتهما،
ولذا لو انعكس الأمر بأن كان المدعي مستندا إلى الاستصحاب، والشاهد
مستندا إلى الواقع سمعت الشهادة قطعا.
والقول بأن الواقع مستلزم للظاهر فالشاهد يدعي الظاهر وزيادة،
فاسد:
أما أولا: فلأن الظاهر الثابت للشاهد من جهة قطعه بالواقع غير
الظاهر الثابت للمدعي من جهة شكه الموجب للاستصحاب.
وأما ثانيا، فلأنه لو سلم أن الشاهد بالملكية الواقعية شهد بالملكية
الظاهرية وزيادة، فكذلك المدعي إذا ادعى الملكية الواقعية فقد ادعى
الظاهرية وزيادة، فلا بد من سماع شهادة من يشهد له بالملكية الظاهرية،
لأنه قد شهد ببعض دعوى المدعي فيحكم له بالملكية الظاهرية، وهذا يكفيه
وإيانا.
فتبين من جميع ذلك أن لا فرق في الدعاوي والانكارات والشهادات
والاقرارات والحكومات بين أن ترد على الأمور الظاهرية أو الأمور
الواقعية، فهل ترى من نفسك أن لا تقبل اقرار المدعى عليه للمدعي
266

بالملكية الظاهرية، أو يمين المنكر على نفي الملكية الظاهرية؟!
فإن قلت: هذا كله حسن لو ثبت بالاستصحاب الملكية الظاهرية،
وكانت الملكية الظاهرية أمرا متحققا في الخارج بإزاء الملكية الواقعية، وهو
ممنوع، وإنما المسلم من الاستصحاب وجوب ترتيب آثار الملكية الواقعية،
ولا ريب أن جواز الشهادة ليس من تلك الآثار كما عرفت واعترفت.
وكذا الكلام في الزوجية والنسب والحياة والموت وغيرها من
الموضوعات التي لا تقبل الجعل الشرعي بجريان الأصول فيها، بل غاية
مقتضى الأصول الجارية فيها هو ترتيب آثار الأمر الواقعي.
قلت، أولا: إن هذا منقوض بما مر من الشهادة بالملكية ونحوها
مستندا في إتمام أسبابها إلى الأصول، فإنه إذا شاهد وقوع بيع أو نكاح
بين شخصين، فكيف يحكم بمجرد ذلك بالملكية والزوجية ويشهد بهما؟
مع أنه لم يثبت من البيع والنكاح المصححين - بضميمة الأصول - إلا ترتب
آثار الملكية والزوجية لا نفسهما، مع أنك قد عرفت أن جواز الشهادة
في هذين وأمثالهما إجماعي.
وثانيا: إنه ليس المراد من الملكية الظاهرية إلا أمرا منتزعا من حكم
الشارع بتحقق أحكام خاصة في موردها من جواز الانتفاع بنفسه وبعوضه
والتسلط على اخراجه إلى ملك الغير مجانا.
ومنع اطلاق الملك على موضوع ثبت له - ولو في مرحلة الظاهر -
جميع الآثار المترتبة على الملك الواقعي مكابرة أو مشاحة في التسمية
العرفية، فإنه إذا اطلع أهل العرف على حكم الشارع بترتيب جميع آثار
الملكية على موضوع بحسب الظاهر فلا يتمالكون في اطلاق الملك الظاهري
عليه، وكذا الزوجية والحرية والنسب وغيرهما من الموضوعات.
267

والحاصل، أنا لا نقول: إن جريان الأصل في موضوع يوجب جعل
الموضوع في مرحلة الظاهر، حتى يقال: إن الموضوعات الخارجية لا تنجعل
بجعل الشرع.
وإنما نقول: أنه إذا ثبت لشئ جميع آثار الملكية في الظاهر مثلا بحيث
لا يشذ عنها شئ لم يمنع عرفا ولا شرعا أن يقال له إنه ملك شرعا،
بأن ينتزع من حكم الشارع بوجوب ترتيب آثار الملكية أمر يعبر عنه
بالملك الظاهري الشرعي.
وهذا التعبير لا يحتاج إلى توقيف خاص من (1) الواضع أو الشارع
كما لا يخفى، وكذا الكلام في الزوجية والنسب والحرية والرقية.
فإن قلت: إن الثابت بالاستصحاب هي الملكية الشرعية في حق نفس
الشاهد وبالنسبة إلى تكليفه وما يتعلق بنفسه، لأنه الشاك فيها بعد تيقنها
فالجائز له أن يقول: هذا ملك شرعي بالنسبة إلي، لا أنه ملك شرعي بقول
مطلق. وإنما الأخبار بالملكية المطلقة والشهادة بها وظيفة العالم بها في نفس
الأمر، نظرا إلى أن الملكية النفس الأمرية لا تختص بواحد دون واحد،
بخلاف الملكية المجعولة ظاهرا فإنها لما كانت أمرا منتزعا من وجوب ترتيب
الآثار اختصت بمن وجب عليه ترتيب الآثار، وليس إلا خصوص الشاهد
وأمثاله ممن شك في الملكية بعد اليقين بها.
قلت، أولا: إنه منقوض بحكم الحاكم، فإنه أيضا يحكم بين المتداعيين
بمقتضى الأصول، مع أن مقتضاها مختص به وموجبة لثبوت الموضوعات
ظاهرا في حق نفسه، وكذا شهادة الشاهد بالشئ مستندا في تتميم سببه

(1) كذا في " ش "، وفي " ق ": عن.
268

الشرعي إلى الأصول فإنه أيضا يشهد بالملكية المطلقة، مع أن سببها لم يتم
إلا بالأصول الثابتة في حق نفسه دون غيره.
وثانيا: إن الثابت بالاستصحاب ليس إلا الأمر المتيقن سابقا،
وهو كون الشئ بحيث حكم عليه الشارع بترتب الآثار عليه بالنسبة
إلى كل أحد ويعبر عنها بالملكية، ولا ريب أنه لا يختص بواحد دون آخر.
نعم، البناء على هذا والعمل عليه عند الشك في البقاء والارتفاع يختص
بنفس الشاك.
ومحصل هذا أنه يجب على خصوص هذا الشخص الشاك في بقاء
الملكية أن يبني على أن هذا الشئ ملك شرعي بالنسبة إلى جميع المكلفين
كما كان كذلك سابقا حيث لم يعلم ارتفاعه لاحقا، فالمجعول أمر عام
لا يختص بواحد دون آخر، والمجعول له خاص، فافهم.
هذا تمام الكلام في الشهادة الاستصحابية على الوجه الأول،
وهو الاخبار الجزمي عن الملكية، مريدا بها الملكية الظاهرية الثابتة
بالاستصحاب.
وأما الشهادة الاستصحابية على الوجه الثاني، وهو الاخبار بصورة
الجزم عن الملكية مريدا بها الملكية الواقعية، فنقول: إنها جائزة أيضا، لعدم
الدليل على المنع، لأن ما دل على عدم جواز الشهادة مع عدم العلم من
الأدلة الأربعة لا يشمل ما نحن فيه.
أما العقل والاجماع فظاهر، وأما الكتاب (1) والسنة (2) فلأنهما يدلان

(1) الإسراء: 36، الزخرف: 86.
(2) الوسائل 18: 250، الباب 20 من أبواب الشهادات.
269

على عدم جواز الشهادة مع عدم العلم به لا ظاهرا ولا واقعا، وأما إذا علم
بثبوت الحق ظاهرا ولكن عبر في اخباره بالحق الواقعي - وبعبارة أخرى
علم بترتب جميع آثار الشئ الواقعي ظاهرا في مورد فشهد بتحقق الشئ
الواقعي نفسه - فلا يدل كتاب ولا سنة على المنع عنه.
ويدل على (1) ما ذكرناه ما رواه الكليني والشيخ - بسند فيه إرسال -
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: " قلت له: يكون للرجل من إخواني عندي
شهادة وليس كلها يجيزها القضاة عندنا، قال: فإذا علمت أنها حق
فصححها بكل وجه حتى يصح له حقه " (2).
وأصرح منه ما رواه الشيخ رحمه الله بسنده عن داود بن الحصين، قال:
" سمعت أبا عبد الله عليه السلام [يقول] (3) إذا شهدت على شهادة فأردت
أن تقيمها فغيرها كيف شئت وزينها (4) وصححها بما استطعت حتى يصح
الشئ لصاحب الحق بعد أن لا تكون تشهد إلا بحقه، ولا تزيد في الحق (5)
ما ليس بحق، فإنما الشاهد يبطل الحق ويحق الحق، وبالشاهد (6) يوجب الحق،
وبالشاهد يعطى، وأن للشاهد في إقامة الشهادة بتصحيحها بكل ما يجد إليه

(1) في " ق " زيادة: ذلك.
(2) الكافي 7: 387، من كتاب الشهادات، الحديث 3، والتهذيب 6: 262، الحديث
697، والوسائل 18: 231، الباب 4 من أبواب الشهادات، الحديث 3.
(3) من المصدرين.
(4) في المصدرين: ورتبها.
(5) في المصدرين: في نفس الحق.
(6) كذا في المصدرين، وفي النسختين: وبالشاهدين.
270

من (1) السبيل من زيادة الألفاظ والمعاني والتفسير في الشهادة ما به يثبت
الحق ويصححه ولا يوجد به (2) زيادة على الحق، مثل أجر الصائم القائم
المجاهد بسيفه في سبيل الله.. الحديث " (3). دل بصريحه على جواز التغيير في
الشهادة ما لم يحصل تفاوت في أصل المطلب.
ولا ريب أن من يعلم بترتب آثار الملكية على شئ في مرحلة
[الظاهر] (4) لو عبر بالملكية على وجه يظهر للقاضي أنه جازم بالملكية
الواقعية فقد صحح شهادة وأحيى حقا بغير حصول تفاوت.
والقول بأن الاستصحاب لا يصح أن يكون مستندا للشهادة بنفس
ترتب الآثار التي علمت بتحققها ظاهرا في مورد الشك فضلا عن أن يصلح
لأن يستند إليه في الشهادة بالأمر المنتزع من الحكم بترتب الآثار، أعني:
الملكية، كلام تعرف جوابه مما سبق، فإنه راجع إلى بعض الايرادات
السابقة.
ثم إنه يدل على ما ذكرنا من جواز استناد الشاهد في الشهادة إلى
الأصول وجوه أخر سوى ما ذكرنا من اقتضاء نفس أدلة الأصول لذلك:
الأول: السيرة القطعية الجارية بين الناس في اخباراتهم عن الأمور

(1) " من " لم ترد في المصدرين.
(2) في المصدرين: ولا يؤخذ به.
(3) التهذيب 6: 285، الحديث 787، والوسائل 18: 230، الباب 4 من أبواب
الشهادات، الحديث الأول.
(4) من " ش ".
271

المتحققة سابقا، فتراهم يخبرون عنها في الحال على وجه الجزم من دون
تردد وتزلزل، ولا يعترض عليهم أحد بأنك لم تخبر عن جزم مع وجود
احتمال زوال ما علمت تحققه، ولا يفرقون في ذلك بين اخباراتهم العرفية
وشهاداتهم الشرعية.
لكن الانصاف إن هذه الطريقة مختصة بما إذا كانوا مطمئنين ببقاء الحالة
السابقة، ولم يعرض الاحتمال إلا من مجرد الامكان الذاتي، فحينئذ لا بد من
التفرقة بين أفراد الاستصحاب فيكون مناط جواز الشهادة الاستصحابية
الاطمئنان.
بل يمكن أن يقال: إن مناط الشهادة في جميع ما يتعذر فيه العلم غالبا
الاطمئنان النفسي والجزم الصوري، فاحفظ هذا فإنه سينفعك فيما بعد إن شاء
الله تعالى.
الثاني: ما رواه ثقة الاسلام قدس سره بسند ليس فيه من يتوقف في شأنه
عدا إسماعيل بن مرار - الذي حكي عن التعليقة (1) غير واحدة من الأمارات
على وثاقته - عن أبي عبد الله عليه السلام " الرجل يكون في داره، ثم يغيب
عنه (2) ثلاثين سنة ويدع فيها عياله، ثم يأتينا هلاكه ونحن لا ندري
ما أحدث في داره ولا ندري ما حدث له من الولد إلا أنا لا نعلم أنه
أحدث في داره شيئا ولا حدث له ولد، ولا يقسم هذه الدار بين ورثته
الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أن هذه الدار دار فلان بن فلان

(1) حاشية الوحيد على منهج المقال (ولا يوجد لدينا).
(2) في المصدر: عنها.
272

مات وتركها ميراثا بين فلان فلان، أفنشهد على هذا؟ قال: نعم.
قلت: الرجل له العبد والأمة، فيقول: أبق غلامي وأبقت أمتي،
فيوجد في البلد فيكلفه القاضي البينة إن هذا غلام فلان فلم يبعه ولم يهبه،
أفنشهد على هذا إذا كلفناه ونحن لم نعلم أحدث شيئا؟ قال: فكل ما غاب
من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد عليه " (1).
ولا يخفى أن صدر الرواية صريح في المطلب، وأما ذيلها المتضمن
لحكم العبد والأمة فهو وإن كان يوهم في بادئ الرأي خلاف ذلك إلا أن
الظاهر - بل المقطوع به - عدم المخالفة، وأن قوله: " فكل ما غاب.. الخ "
استفهام استنكاري بحذف أداة الاستفهام، كما لا يخفى على من تأمل سياق
الفقرة، وما يلزم من مخالفات الظاهر في ابقائها على ظاهرها من الأخبار
دون الانكار.
مع أنا لو سلمنا عدم القرينة على ذلك وأن الظاهر منها الأخبار
والحكم دون الاستفهام الانكاري، فلا يخفى أن صدر الرواية نص
في المدعى، وغاية الأمر على سبيل الفرض أن ذيلها ظاهر في خلافه،
ولا ريب أن الأخذ بالنص والتصرف في الظاهر لأجله متعين، فليحمل
الدليل على معنى لا يخالف الصدر.
فإن قلت: إنه يعارض هذه الرواية ما تقدم في مستند منع الشهادة
استنادا إلى الاستصحاب من رواية معاوية بن وهب عنه عليه السلام، قال:
" قلت له: إن ابن أبي ليلى يسألني الشهادة على أن هذه الدار مات فلان

(1) الكافي 7: 387، من كتاب الشهادات، الحديث 4، والوسائل 18: 246، الباب
17 من أبواب الشهادات، الحديث 2.
273

وتركها ميراثا وأنه ليس له وارث غير الذي شهدنا له، فقال عليه السلام: اشهد
بما هو علمك، قلت: إن ابن أبي ليلى يحلفنا الغموس؟ قال: احلف إنما هو
على علمك " (1) حيث دلت على وجوب الشهادة على العلم في مورد السؤال
الذي يجري فيه استصحاب عدم وارث آخر وعدم انتقال الدار
إلى غير الميت قبل موته.
قلت: لا معارضة في البين، وعلى فرضها فالرواية السابقة أولى
بالتقديم، توضيح ذلك أن قوله: " اشهد على علمك " يحتمل وجوها.
الأول: أن يراد به وجوب الشهادة بما هو معلوم للسائل في حال
الشهادة، وهو ثبوت الدار للميت قبل وفاته وعدم العلم بانتقاله، وثبوت
الوارث السابق وعدم العلم بتجدد وارث آخر بأن يقول: أشهد أنه كانت
الدار لذلك الرجل المتوفى وكانت ورثته منحصرة في كذا، ولا أعلم انتقال
الدار عن ملك المتوفى قبل وفاته ولا تجدد وارث آخر، وحينئذ فيقضي
القاضي بما يراه من سماع الشهادة بالحالة السابقة وعدمه، فإذا وجبت
الشهادة على هذا الوجه بمقتضى الرواية لم تجز على وجه آخر، لأن المقام
مقام بيان كيفية الشهادة، كما هو ظاهر السؤال.
الثاني: أن يراد به وجوب الشهادة بمقتضى العلم السابق وما أوجبه
اليقين السابق لولا الشك، وهو انتقال الدار إلى الورثة وانحصارهم في كذا،
فيكون الإمام عليه السلام قد جوز الشهادة مستندا إلى الاستصحاب.
الثالث: أن يراد به وجوب الشهادة بما هو معلوم له في الحال أعني

(1) الكافي 7: 387، من كتاب الشهادات، الحديث 2، والوسائل 18: 245، الباب
17 من أبواب الشهادات، الحديث الأول.
274

الملكية الظاهرية للورثة وانحصارهم ظاهرا في كذا، فيكون عليه السلام قد جوز
أيضا الشهادة مستندا إلى الاستصحاب.
والفرق بين هذا الوجه وسابقه: أن المراد بالعلم في الوجه السابق هو
العلم السابق، ومتعلقه هو الأمر الواقعي فيكون الرواية مجوزة للشهادة
بالشئ الواقعي بصورة الجزم مستندا إلى الاستصحاب وهو الوجه الثاني
من الوجهين اللذين جوزناهما في الشهادة الاستصحابية. والمراد بالعلم في
هذا الوجه هو العلم الحالي المتعلق بالأمر الظاهري، فيكون الرواية مجوزا
للشهادة بالشئ الظاهري عن جزم استنادا إلى الاستصحاب، وهو الوجه
الأول من الوجهين اللذين جوزناهما في الشهادة الاستصحابية.
الرابع: أن يراد به وجوب الشهادة بما هو معلوم للسائل كما ذكرنا في
الوجه الأول، لكن تكون هذه الفقرة جوابا لسؤال السائل عن جواز
الشهادة على نفي الوارث الآخر غير الورثة المعلومين، كما يشهد به قول
السائل: " إن ابن أبي ليلى يسألني الشهادة على أنه ليس له وارث
غير الذي شهدنا له " وهذا يدل على أن الراوي شهد أولا عند ابن أبي ليلى
بالوارث المعلوم، لكن سأله الملعون أن يشهد على نفي الغير، فيكون معنى
الفقرة أنه إن علمت بعدم وارث آخر فاشهد على النفي، وإلا فلا.
فهذه احتمالات أربعة في مدلول الفقرة المذكورة، ولعلها تحتمل غيرها
أيضا، لكن المعارضة بينها وبين الرواية السابقة لا تقع إلا على الاحتمال
الأول، وهو وجوب الشهادة بالحالة السابقة وعدم العلم بالمزيل، لكن هذا
الاحتمال ضعيف.
أما أولا، فلأن الظاهر أن قضاة العامة يومئذ ما كانوا يحكمون في مثل
المقام بالاستصحاب ولو حصل اليقين السابق والشك اللاحق لأنفسهم،
275

فضلا عما لو ثبت الحالة السابقة لشهادة الشهود، فلا فائدة في ايجاب
الإمام عليه السلام الشهادة بالحالة السابقة وإضافة عدم العلم بالمزيل،
ولا في تجويز الحلف عليه، ويشهد بما ذكرنا من طريقة العامة ما تضمنه
السؤال في هذه الرواية من أن الراوي شهد أولا للوارث المعلوم، ثم سأله
ابن أبي ليلى على نفي الوارث الآخر والحلف على هذا النفي ليرتفع
احتمال استناد الشاهد إلى الاستصحاب، ويقطع باستناده إلى العلم الواقعي،
وهذا غاية الانكار للشهادة الاستصحابية، ويشهد به أيضا الرواية السابقة (1)
حيث ذكر في سؤالها أنه لا يقسم الدار بين ورثة المتوفى الذين تركوا فيها
حتى يشهد شاهدا عدل أنه مات فلان وتركها ميراثا بين فلان وفلان،
وليس توقفهم عن القسمة من أجل عدم ثبوت موته كما لا يخفى
على من لاحظ الرواية، بل من جهة طلب الشهادة على وراثة الورثة
وانحصارهم، ولذا قال السائل: لا نعلم بأن المتوفى ما أحدث في الدار
وما أحدث من الولد، فإذا ظهر من هذه الرواية أن دأبهم الفاسد
ورأيهم الكاسد عدم الاعتماد على أصالة بقاء الدار في ملك المتوفى
إلى حين الوفاة، وعدم تجدد وارث آخر له، فكيف يعتمدون على شهادة
الشاهد بأن هذا في الزمن السابق كان ملكا للمتوفي، وكان الورثة منحصرة
في كذا، ولا نعلم خلاف هاتين الحالتين السابقتين، فإن مضمون هذه الشهادة
محسوس لنفس القاضي ولا يعمل به فكيف يعمل بالشهادة عليه.

(1) الكافي 7: 387، من كتاب الشهادات، الحديث 4، والوسائل 18: 246، الباب
17 من أبواب الشهادات، الحديث 2، وهي رواية الكليني قدس سره المتقدمة في
الصفحة: 272 - 273.
276

وأما ثانيا، فلأنه لو كان مراد الإمام عليه السلام من الفقرة هو وجوب
الشهادة بمضمون الاستصحاب، أعني تحقق الشئ في السابق وعدم العلم
بمزيله في اللاحق لم يكن معنى لقول السائل بعد سماع هذا الجواب:
" إن ابن أبي ليلى يحلفنا الغموس " إذ من الظاهر أن ابن أبي ليلى
لم يكن ليحلف كل شاهد، فلا بد أن يكون احلافه هنا من جهة الشهادة
بالشئ جزما، مع احتمال استناده في الواقع إلى الاستصحاب من غير أن
يبين هذا المستند في شهادته.
ولعمري إن هذا من أعظم الشواهد على أن ذلك كان شعارا وطريقة
إما لجميع الناس، فأبدعت القضاة لعنهم الله شيئا مخالفا لما هو مركوز
في أذهان الناس من الشهادة والاخبار بمقتضى الاستصحاب من غير التنبيه
عليه في الكلام. وإما لخصوص الشيعة، فكان القاضي الخبيث يحتمل
في أمثال هذه الشهادات منهم الاعتماد على الاستصحاب وكان يحلفهم
ليطمئن قلبه النجس بعدم استنادهم في الشهادة إلى العلم بالواقع، وكفى
بهذا الوجه - أعني ركوز صحة الشهادة الاستصحابية في أذهان جميع الناس
أو خصوص الشيعة ومخالفة العامة في ذلك - شاهدا على الصحة نظرا
إلى ما تواتر من الأخذ بخلاف العامة (1) وبما اشتهر بين الأصحاب (2).
والحاصل، أن من نظر إلى الرواية بنظر الانصاف، ولاحظ القرائن
الخارجية - ما ذكرنا وما لم نذكر - علم أنه ليس مراد الإمام عليه السلام

(1) الوسائل 18: 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
(2) عوالي اللآلي 4: 133، الحديث 229، والمستدرك 17: 303، الباب 9،
الحديث 2.
277

هو وجوب الشهادة بما يعلمه الشاهد من الحالة السابقة مقتصرا عليه
أو مع إضافة عدم العلم بالمزيل إليه، بل الظاهر أن مراد الإمام عليه السلام
هو أحد الاحتمالات الثلاثة الأخر أقواها أولها.
ولو تنزلنا عن الظهور فلا أقل من الاجمال، ولو فرضنا ظهوره في
الاحتمال الأول فلا ريب في تقديم الرواية السابقة عليها من جهة كونها
كالصريح في التجويز، فلتحمل هذه الرواية على الاستحباب أن يشهد الشاهد
بالحالة السابقة ولا يتعرض للحال، أو يتعرض لعدم علمه بالمزيل في الحال.
ويؤيد ذلك أن الراوي في الروايتين واحد، وهو معاوية بن وهب،
بل الواقعة أيضا واحدة، وهي مسألة الشهادة الاستصحابية في إرث الدار،
فيبعد اختلاف الحكم في الروايتين فليجمع بينهما بما ذكرنا، ولو فرضنا
تساويهما في الظهور فالظاهر أن الرواية السابقة موافقة للمشهور ومخالفة
للجمهور كما عرفت، وهما من أعظم المرجحات.
الثالث (1) من الوجوه التي تدل على جواز الشهادة مستندا إلى
الاستصحاب: القاعدة المستفادة من بعض الروايات من أنه كل ما جاز
للمكلف أن يبني عليه في عمل نفسه يجوز أن يشهد به لغيره.
ولا ريب أن الملكية المستصحبة أو الزوجية أو نحوهما مما يجوز
للشاهد أن يبني عليها في عمل نفسه فيجوز أن يشهد بها لغيره،
لما رواه الكليني والشيخ عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: " قال له رجل: أرأيت إذا رأيت شيئا في يدي رجل أيجوز لي

(1) في النسختين: الثاني.
278

أن أشهد أنه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنه في يده لا أشهد أنه له
فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم،
فقال أبو عبد الله عليه السلام: فلعله لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير
ملكا لك ثم تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز لك أن تنسبه
إلى من صار ملكه من قبله إليك؟! ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لو لم يجز
هذا لم يقم للمسلمين سوق " (1).
وجه الدلالة: أن الإمام عليه السلام قد رد على الرجل المعترف بجواز
ترتيب آثار الملك على ما في يد شخص، وعدم جواز الشهادة له بنفس
الملك، وتعجب أو استفهم على وجه الانكار أنه كيف يجوز ترتيب آثار
الملك ولا يجوز الشهادة على الملك، فقد استدل عليه السلام بما ذكر على عدم
قدح الاحتمال.
فنقول فيما نحن فيه: إنه إذا تيقن الشاهد بثبوت الملكية سابقا وشك في
بقائها يجوز له ترتيب آثار الملك بأن يشتريه من الملك أو وارثه
ونحو ذلك، فكيف يجوز له هذا ولا يجوز له أن يشهد بالملكية، كما ذكره
الإمام عليه السلام في الرواية حرفا بحرف.
الرابع (2): أنه لو لم تقبل الشهادة المستندة في اثبات المشهود به إلى

(1) الكافي 7: 387، من كتاب الشهادات، الحديث الأول، والتهذيب 6: 261،
الحديث 695، والوسائل 18: 215، الباب 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى، الحديث 2.
(2) في النسختين: الثالث.
279

الاستصحاب لزم الحرج العظيم واختلال النظام المنفي عموما وخصوصا
بقوله عليه السلام: في الرواية السابقة: " لو لم يجز هذا لما قام للمسلمين سوق ".
وذلك، لأن كثيرا من الأمور مما يتعسر أو يتعذر العلم ببقائها في الآن
اللاحق مثل: الرشد والعدالة والملكية والزوجية والرقية والحياة واشتغال
الذمة والاعسار والوصية ونحو ذلك.
ولا ريب أن قوام النظام بقطع الخصومات في هذه الأمور، فلو لم يسمع
البينة المستندة إلى الاستصحاب فيها لزم إما تعطيل الدعوى أو ايجاب اليمين
على المنكر، وفي الأول فوات ما قصد من نصب الحاكم، وفي الثاني فتح
لابطال الدعاوي الصادقة بالأيمان الكاذبة.
ثم إذا ثبت وجوب قبول الشهادة مع العلم باستناده إلى الاستصحاب
ثبت جواز أدائه كذلك.
فإن قلت: إن اختلال النظام إنما يحصل لو لم يسمع البينة المستندة
إلى الاستصحاب أصلا ومطلقا، أما لو قلنا بالسماع إذا ذكر الشاهد وبين
مورد الاستصحاب، وهو العلم بالشئ سابقا والشك في بقائه لاحقا
بأن يذكر مثلا أن هذا كان ملكا لفلان في السابق ولا أعلم بانتقاله عنه
حتى يرتب القاضي عليه الحكم بمقتضى الاستصحاب، فلا يلزم اختلال
أصلا.
قلت: أولا: إن الشهادة بالملكية استنادا إلى الاستصحاب ترجع أيضا
إلى الشهادة بالملكية السابقة بإضافة عدم العلم بزوالها فلا وجه لمنعها،
وبعبارة أخرى: إذا شهد الشاهد بأنه هذا ملك في الحال لزيد فلا وجه للمنع
عنها وسماعها، لأنه إما أن يكون عالما بالملكية الواقعية وإما أن يكون
عالما بالظاهرية، وعلى الثاني يكون قد شهد بالحالة السابقة.
280

وثانيا: إنه إذا شهد الشاهد بالملكية السابقة وأضاف إليها عدم العلم
بالمزيل فلا ريب أن سماع هذه الشهادة لا يوجب الحكم على المدعي عليه
بالملكية الحالية إلا بعد استصحاب الحاكم لها، وحينئذ نقول:
أولا: إن استصحاب الحاكم لا معنى له، لأن المتيقن سابقا الشاك
لاحقا هو الشاهد لا الحاكم، والقول بأنه إذا شهد الشاهد بالملكية السابقة
فقد ثبتت للحاكم فيستصحبها، لأن ثبوت الملكية السابقة بالبينة كثبوتها
باليقين في وجوب استصحابها محل نظر، إذ لو تم ذلك وجب سماع البينة
بالملك السابق مقتصرا عليه من دون إضافة عدم العلم بالمزيل، مع أن
غير واحد منهم (1) صرح بعدم سماعها، وتوقف السماع على إضافة عدم العلم
بالمزيل.
ولا ريب أن ذكر الشاهد عدم العلم بالمزيل ليس شهادة، وأنما هو
لأجل أن بذكره يعلم أن الملكية عند الشاهد مستصحبة ولا يقطع بزوالها،
ولذا علل وجوب الضميمة المذكورة بأنه لولاها لاحتمل أن يكون الشاهد
قاطعا بزوال الحالة السابقة.
وحينئذ فسماع قول الشاهد بالملكية السابقة مع إضافة عدم العلم
بالمزيل إنما هو لرجوعه إلى الشهادة بالملكية الثابتة بالاستصحاب لا لأجل
اثبات الملكية السابقة بقوله فيستصحبها الحاكم، فكيف يسمع شهادة
لرجوعها إلى الشهادة بنتيجة الاستصحاب ولا تقبل الشهادة بنفس النتيجة؟
نعم، لو ذكر الشاهد استناده إلى الاستصحاب فقد استشكل
في السماع، ولعله لبناء الشهادة على ايراد الخبر بصورة الجزم، وإخلائها

(1) انظر قواعد الأحكام 2: 234، والمسالك 2: 314.
281

عما يدل على الترديد، نظير ما قالوا فيما لو أبدل عدم العلم بالمزيل بالشك
في الزوال، وقال: لا أدري زال أم لا، وإن كان الظاهر أن ذلك كله
لا يقدح في الشهادة.
وثانيا: سلمنا أن قبول الشهادة بالملكية السابقة بإضافة العلم
بالمزيل من جهة اثباتها للملكية ليستصحبها الحاكم، وليس من جهة
أن مرجعه إلى ثبوت الاستصحاب عند الشاهد.
لكن نقول: إن ما دل على جواز الاستصحاب للحاكم فهو بعينه يدل
على جواز الاستصحاب للشاهد، وكما أخذ على الشاهد أن لا يشهد إلا عن
علم فكذلك قد أخذ على الحاكم ذلك بوجه آكد، فإنا نعلم قطعا أن
مستند حكم الحاكم بثبوت الموضوعات التي يدعيها المدعي وينكرها المنكر
ليس إلا أدلة الاستصحاب، وهي مشتركة بينه وبين الشاهد، وليس هنا
دليل آخر يختص بالحاكم.
بل يمكن أن يقال: إن منع الحاكم على الاستصحاب أولى من منع
بناء الشاهد عليه، لأن بناء الحاكم عليه يوجب عدم التطابق بين الدعوى
والشهادة والحكم، لأن مورد الدعوى الملكية الحالية، ومورد الشهادة الملكية
السابقة، ومورد الحكم - أولا - هو الملكية السابقة التي لم يدعها المدعي
ولم ينكرها المنكر، بل يمكن أن يكون المدعي منكرا لها والمنكر معترفا بها
- وثانيا - هي الملكية الحالية بمعونة الاستصحاب، بخلاف ما لو بنى الشاهد
على الاستصحاب وأخبر بالملكية الحالية الظاهرية مع الجزم أو الواقعية
بصورة الجزم، فإنه يحصل التطابق بين الثلاثة.
لكن التحقيق: أن هذا لا يصلح مستندا، لمنع بناء الحاكم على
الاستصحاب، لأن التطابق بين الدعوى والشهادة والحكم إنما تعتبر بحسب
282

المعنى لا بحسب الصورة.
فظهر أنه لا اشكال في جواز الشهادة الاستصحابية، ولا في الحكم
لأجل الاستصحاب.
فيجوز للعالم بالملكية السابقة والشاك في زوالها أن يشهد بأن هذا
ملك في الحال مريدا به الملكية الواقعية جازما بها بحسب الصورة.
وأن يشهد بأنه ملك شرعي ظاهري في الحال جازما به في الواقع.
وأن يشهد بأنه ملكه بالاستصحاب.
وأن يشهد بأنه كان ملكا له سابقا ولا أعلم بزواله.
وأن يشهد بأنه كان ملكا له سابقا وما أدري زال أم لا.
والاشكال في التعبير الثالث والجزم في الخامس بعدم السماع،
لا وجه له بحسب الظاهر.
وأما اقتصار الشاهد على الملكية السابقة من غير إضافة عدم العلم
بالانتقال أو الشك في الزوال فالأقوى أنه لا يسمع، لأن الشاهد لما
لم يتعرض للحال لم تطابق شهادته لدعوى المدعي الواردة على الملكية في
الحال، لأن الشهادة المذكورة لا تدل على ثبوت الملكية الحالية باعتقاد
الشاهد لا في الواقع لعدم دلالة الملكية السابقة بمجردها على الملكية الحالية
ولا في الظاهر، لأن ذلك فرع شك الشاهد في البقاء وعدم علمه بالزوال
حتى يثبت الملكية الحالية في حق الشاهد ظاهرا بالاستصحاب، فإذا لم يكن
في هذه الشهادة ما يدل على عدم علمه بذلك فيحتمل أن يكون قاطعا
بالزوال، أما لو أضاف إليه عدم العلم بالانتقال فقد طابقت الشهادة بضميمة
هذه الإضافة التي تدل على ثبوت الملكية الحالية بحسب الظاهر لما يدعيه
المدعي.
283

ومن هنا انكشف لك سر ما ذكرنا سابقا (1) من أن قبول الشهادة
بالملكية السابقة مع الضميمة المذكورة ليس لأجل اثبات الملكية السابقة
بالشهادة ثم ابقائها في الحال لبناء الحاكم على الاستصحاب، وإلا لوجب
قبول الشهادة بالملكية السابقة من دون الضميمة، بل لأجل أن الشهادة
المذكورة المنضمة إلى الضميمة إنما تكشف عن ثبوت الملكية الحالية عند
الشاهد بالاستصحاب، ولما كانت الشهادة بدون تلك الضميمة لا تكشف
عن الملكية الحالية لم تقبل وإن صلحت أن تكون مستندة لاستصحاب
الحاكم، لعدم مطابقة الشهادة للدعوى لا ظاهرا ولا واقعا فلا يندرج تحت
عموم ما دل على وجوب الحكم بمقتضى الشهادة، وأن البينة على المدعي (2)،
وأن الحقوق تستخرج بالبينة (3)، وغير ذلك من أدلة وجوب إقامة البينة
وقبولها.
فإن ظاهرها أن البينة لا بد أن ترد على نفس المدعى أو ما يستلزمه
بالكشف أو التسبيب، مضافا إلى أن الحكم بالحالة السابقة بمقتضى الشهادة
حكم في غير موضع التنازع والخصومة.
اللهم إلا أن يقال: إنه إذا وجب قبول قول العدلين - ولو في غير مقام
الخصومة - وجب الحكم بالحالة السابقة ولو لم يسم هذا حكما وقضاء بين
المترافعين، فإذا ثبتت الحالة السابقة فيصير القاضي كالمتيقن بها فيحكم على

(1) في الصفحة: 281.
(2) الوسائل 18: 170، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
(3) الوسائل 18: 198، الباب 15 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى،
الحديث 2.
284

أحد المترافعين مقتضى ما ثبت عنده سابقا وشك في ارتفاعه لاحقا (1).

(1) هذا هو آخر ما ورد في الصفحة اليمنى من الورقة (192)، وبه ينتهي
ما وجدناه في الشهادات بخطه الشريف وقد نبهنا على عدم التوالي في صفحات
الكتاب في المقدمة، هذا وورد في آخر " ش " ما يلي: هذا آخر ما وجدته مما
كتب قدس سره في هذه المسألة، والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام
على خاتم أنبيائه ورسله وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
285

الملاحق
287

الملحق
[1]
في
الكبائر والتصرف في مال الأيتام وحق الوالد
289

صورة الصفحة الأولى مما الحق بكتاب القضاء
في الكبائر والتصرف في مال الأيتام وحق الوالد
291

صورة الصفحة الأخيرة من الملحق الأول
292

بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
في الأخبار الدالة على كون الكبيرة ما أوعد الله عليه النار.
الأول: ما عن الكافي - في باب الكبائر - عن ابن فضال عن
أبي جميلة عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام - في قول الله عز وجل:
(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) (2) -
قال: " الكبائر: التي أوعد الله عز وجل عليها النار " (3).
الثاني: المروي عن الكافي بسند موصوف بالصحة عن ابن مسكان
عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: " سمعته يقول: (ومن يؤت

(1) هذا هو أول الصفحة اليسرى من الورقة (281).
(2) النساء: 31.
(3) الكافي 2: 276، كتاب الايمان والكفر، باب الكبائر، الحديث الأول، والوسائل
11: 249، الباب 45 من أبواب جهاد النفس، الحديث 2.
293

الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) (1)،
قال: معرفة الإمام واجتناب الكبائر التي
أوعد الله عليها النار " (2).
الثالث: المروي عن الكافي بسند موصوف بالصحة عن ابن محبوب
قال: كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن عليه السلام يسأله عن الكبائر،
كم هي، وما هي؟ فكتب عليه السلام: " الكبائر، من اجتنب ما وعد الله عليه
النار، كفر عنه سيئاته " (3).
الرابع: ما روي عن كتاب علي بن جعفر عن أخيه موسى بن
جعفر عليه السلام، قال: سألته عن الكبائر التي قال الله عز وجل: (إن تجتنبوا
كبائر ما تنهون عنه)؟ قال: " التي أوجب الله عليها النار " (4).
الخامس: ما روي عن العلل بسند موصوف بالصحة عن عبيد بن
زرارة، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أخبرني عن الكبائر؟ فقال:
هن خمس، وهن ما أوجب الله عليهن النار " (5).
السادس: ما روي عن عقاب الأعمال وعن الفقيه عن أحمد بن

(1) البقرة: 269.
(2) الكافي 5: 128، كتاب المعيشة، باب أكل مال اليتيم، الحديث 21، والوسائل
11: 249، الباب 45 من أبواب جهاد النفس، الحديث الأول.
(3) الكافي 2: 284، كتاب الايمان والكفر، باب الكبائر، الحديث 2، والوسائل
11: 252، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث الأول.
(4) مسائل علي بن جعفر: 149، الحديث 191، والوسائل 11، 258، الباب 46 من
أبواب جهاد النفس، الحديث 21.
(5) الكافي 2: 284، كتاب الايمان والكفر، باب الكبائر، الحديث 30، والوسائل
11: 249، الباب 45 من أبواب اجتناب الكبائر، الحديث الأول.
294

النضر، عن عباد، عن (1) كثير النوا، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام
عن الكبائر؟ فقال: " كل ما أوعد الله عز وجل عليه النار " (2).
السابع: ما روي عن الكافي عن عبد الله بن مسكان عن محمد بن
مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: " الكبائر سبع: قتل
المؤمن متعمدا، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة،
وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل الربا بعد البينة، وكل ما أوجب الله عليه
النار " (3).

(1) في عقاب الأعمال والوسائل: عباد بن كثير.
(2) عقاب الأعمال 2: 277، باب عقاب من أتى الكبائر، الحديث 2، والفقيه
3: 569، باب معرفة الكبائر، الحديث 4944، والوسائل 11: 250، باب 45
اجتناب الكبائر، الحديث 6.
(3) الكافي 2: 277، كتاب الايمان والكفر، باب الكبائر، الحديث 3، والوسائل
11: 254، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 6.
295

فيما وجد من أخبار التصرف في مال الأيتام
الأول: ما في الكافي في كتاب المعيشة وعن التهذيب، بالسند الصحيح
ظاهرا إلى عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام:
" ندخل على أخ لنا في بيت أيتام ومعهم خادم لهم، فنقعد على بساطهم
ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم، وربما أطمعنا فيه الطعام من عند
صاحبنا وفيه من طعامهم، فما ترى في ذلك (1)؟ [فقال: إن كان في دخولكم
عليهم منفعة لهم فلا بأس وإن كان فيه ضرر فلا، وقال عليه السلام:
(بل الانسان على نفسه بصيرة) (2) فأنتم لا يخفى عليكم وقد قال الله عز وجل:
(وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) (3)] " (4).

(1) هذا هو آخر ما ورد في الصفحة اليسرى من الورقة (181).
(2) القيامة: 14. (3) البقرة: 220.
(4) الكافي 5: 129، كتاب المعيشة، باب أكل مال اليتيم، الحديث 4، والتهذيب
6: 339، باب الاتجار بمال اليتيم، الحديث 947، والوسائل 12: 183، الباب 71
جواز أكل مال اليتيم، الحديث الأول، وما بين المعقوفتين من المصدر.
هذا، وقد ورد في أول الصفحة اليمنى من الورقة (182) عبارة: " الوالد فيما نحن
فيه "، ولا شك في أنها ترتبط بما قبلها، فيحتمل سقوط ورقة في البين.
296

في أن حق الوالد أعظم من الوالدة
عن الكافي في باب حق على المرأة عن مالك بن عطية عن
محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام، قال: " جاءت امرأة إلى
النبي صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله من أعظم الناس حقا على
الرجل؟ فقال: والده.
قالت: من أعظم الناس حقا على المرأة؟ قال:
زوجها " (1).
ولا يعارضه ما روي في غير واحد من الأخبار (2) من تكرار الأمر
ببر الأم ثلاث مرات ثم الأمر ببر الأب، لأن ذلك لا يدل على كونها أعظم
حقا، فلعله لأمر آخر، مع أن مثل هذه الأخبار معارضة بغيرها مما دل على
التسوية في الأمر، بقوله عليه السلام: " أبر والديك " (3). وقوله: " أبرر أمك، أبرر

(1) الكافي 5: 506، باب حق الزوج على المرأة، الحديث الأول، الوسائل 14: 111.
الباب 79 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، الحديث الأول.
(2) راجع الوسائل 15: 207، الباب 94 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث الأول.
(3) الوسائل 15: 201، الباب 88 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 2، وفيه:
من أبر؟ قال: والديك.
297

أمك، أبرر أمك، أبرر أباك، أبرر أباك، أبرر أباك " (1)، وتقديم الأم لعله
للإشارة إلى الابتداء في البر بها لنقصان عقلها فتحزن عاجلا.
ويؤيده ما روي بسند غير صحيح ظاهرا: " من أنه إذا دعى المصلي
والده في الصلاة فليسبح، وإذا دعته والدته فليقل: لبيك " (2).
ويؤيد كون الوالد أعظم حقا ما يستفاد من المزايا التي جعلها الشارع
لخصوص الأب، مثل الولاية، ووجوب القضاء عنه، واختلافهم في توقف
صوم التطوع على إذن الأب، ولم يعهد منهم الفتوى بتوقفه على إذن الأم،
وكذا في توقف نذر الولد، والحج المندوب والاعتكاف، وجواز أخذ الوالد
من مال الولد لنفسه وقرضا، ووجوب نفقة الأولاد على الأب مع وجود
الأم، وكفاية اتحاد الفحل في الرضاع دون اتحاد المرضعة، وتوقف يمين الولد
على إذن الوالد، وعدم نفوذ قضاء الولد على أبيه ونفوذه على أمه، وعدم
قتل الوالد بقتل ولده وقتل الأم به، وعدم قطع يد الأب لسرقته مال ولده،
بخلاف الوالدة.

(1) الوسائل 15: 208، الباب 94 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 3.
(2) الوسائل 4: 257، الباب 9 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 7.
298

الملحق
[2]
في
العقوق
ووجوب الوفاء بالوعد والنجاة من تبعات الذنوب
299

صورة الصفحة الأولى من الملحق الثاني
في العقوق ووجوب الوفاء بالوعد والنجاة من تبعات الذنوب
301

صورة الصفحة الأخيرة من الملحق الثاني
302

بسم الله الرحمن الرحيم
عن الكافي في باب العقوق غير واحد من الأخبار: " إن أدنى العقوق
أف، ولو علم الله أهون (1) منه لنهى عنه " (2).
وفي خبر آخر في ذلك الباب - متصف بالصحة في المطالع (3) -
عن سيف بن عميرة عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: " من نظر إلى أبويه
نظر ماقت وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة " (4).
ويعارضها ما روي في الفقيه في الصحيح عن عمر بن يزيد
عن أبي عبد الله عليه السلام - حيث سأله عن إمام لا بأس به في جميع أموره
عارف غير أنه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما، أقر خلفه؟ - قال:

(1) في الأصل: أيسر. وكتب فوقه: " أهون ".
(2) الكافي 2: 348، باب العقوق، الحديث الأول، والوسائل 15: 216، الباب 104
من أبواب النكاح، الحديث 2.
(3) لا يوجد لدينا.
(4) الكافي 2: 349، كتاب الايمان والكفر، باب العقوق، الحديث 5، والوسائل
15: 217، الباب 104 من أبواب النكاح، الحديث 5.
303

" لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا "، نظرا اليان إسماع الكلام الغليظ
لا يوجب العقوق، فالتأفيف لا يوجبه بطريق أولى.
وعن الكافي في باب البر بالوالدين في الموصوف بالصحة، عن
أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله عليه السلام عن قول الله تعالى: (وبالوالدين
إحسانا) (2)، فقال عليه السلام: " الاحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلفهما أن
يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين، أليس يقول الله عز وجل:
(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) (3) قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام:
وأما قول الله عز وجل: (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما
أف ولا تنهرهما) (4) قال: إن ضجراك فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما
وإن ضرباك، قال: (وقل لهما قولا كريما) (5) وقل لهما غفر الله لكما.
فذلك منك قول كريم، قال: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) (6) قال:
" لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقة ولا ترفع صوتك
فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدم قدامهما " (7).

(1) الفقيه 1: 379، باب صلاة الجماعة، الحديث 1113، والوسائل 5: 392، الباب
11 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث الأول.
(2) البقرة: 83.
(3) آل عمران: 92.
(4) الإسراء: 23.
(5) الإسراء: 23.
(6) الإسراء: 24.
(7) الكافي 2: 157، كتاب الايمان والكفر، باب البر بالوالدين، الحديث الأول،
والوسائل 15: 204، الباب 92 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث الأول.
304

واعلم أنه قد تصدر جمع لتوجيه استشهاده عليه السلام للمطلب بقوله
تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) (1) مع عدم ارتباطه به ظاهرا
بوجوه:
منها: إن عموم الآية يشمل الانفاق قبل السؤال، فيدخل فيه الانفاق
قبل السؤال وإن كان في حال غنى المنفق عليه.
منها: إن الانفاق مما يحب المنفق، كما أنه شاق على النفس، ولهذا
أمر به، فكذلك قضاء حاجة الوالدين قبل أن يسألا.
ومنها: إن سرور الوالدين بقضاء حاجتهما قبل الطلب أكثر منه
بقضائها بعده، كما أن سرور الفقير بانفاق المحبوب أكثر منه بإنفاق غيره.
ومنها: إن المراد من الآية " حتى تنفقوا ": من الوجه الذي تحبون
أن ينفق عليكم، ولا شبهة أنه الانفاق قبل الاظهار والسؤال، وإن كان
هذا المعنى مخالفا للمشهور في تفسير الآية.
أقول: والكل بعيد، والذي يخطر بالبال في التوجيه وجه آخر يتضح
بعد مقدمتين:
الأولى: إن المراد بما تحبون في الآية: " مما تحبون " ليس خصوص
ما يحبه المنفق، ضرورة أنه لا مزية في البر بانفاق الشخص ما يحبه مع العلم
بأن غيره من عامة الناس لا يشتاقون إليه كثيرا وإن كان لهذا أيضا مزية
من حيث كونه شاقا على النفس، لكن ليس هذا فضيلة في البر بحيث
يعد من أفضل البر، وإنما هي فضيلة من حيث مجاهدة النفس ومخالفتها،

(1) آل عمران: 92.
305

بل المراد - والله العالم - هو ما يحبه عامة الناس كالحلوات (1) والطبائخ
والثمار اللذيذة، فكل أحد مخاطب مع اليسار بالانفاق مما يحبه الغالب
لا أن كل واحد مأمور بالانفاق بما يحب، فمزية الانفاق به على الانفاق لغيره
من حيث إنه يحبه المنفق عليه كما يحبه المنفق، لا من حيث إنه يحبه المنفق.
الثانية: إن الرواية لم يذكر فيها غنى الوالدين وإنما ذكر فيها استغنائهما،
والاستغناء عد النفس غنيا ولو مع الاحتياج أو الفقر، ويشهد له
قوله عليه السلام: " أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه " (2). فمعنى الحديث
- حينئذ -: أنه أنفق على والديك مما يحتاجان إليه ويشتهيانه، حيث إنك
تعلم أن كثيرا من الأشياء التي يحبها عامة الناس ويشتهيها وإن تعففا
ولم يسألاك إياها لمكان استغنائهما ولا تكلفهما أي: ولا توقعهما في كلفة
السؤال وترك التعفف.
والحاصل، أن ارتكاب تلك التوجيهات من جماعة إنما حصل
من أمرين:
أحدهما: قصر " ما تحبون " في الآية على ما يحبه المنفق، وقد عرفت
أن فضيلة البر من حيث كونه برا إنما يحصل بالانفاق بما يحبه الفقير
لا بما يحبه المنفق، فكأنه عز وجل قال لكل أحد: أنفق مما يحبون، لا أنه أنفق
مما تحب.
والثاني: حمل " الاستغناء " في الرواية على الغنى، وقد عرفت أنه

(1) كذا، والظاهر: الحلويات.
(2) الوسائل 15: 204، الباب 92 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث الأول.
306

لا داعي إليه، بل ينافيه قوله: " أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه " (1)
فافهم، وبعد ذلك فاتهم فهمي القاصر.
وعن الكافي في باب البر بالوالدين عن ابن محبوب عن خالد بن نافع
البجلي عن محمد بن مروان، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
" إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله أوصني،
فقال صلى الله عليه وله وسلم: لا تشرك بالله شيئا وإن حرقت بالنار وعذبت
إلا وقلبك مطمئن بالايمان، ووالديك فأطعهما وبرهما حيين كانا أو ميتين وإن
أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، فإن ذلك من الايمان " (2).
وفي المطالع عن الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث
الأربعمائة: " من أحزن والديه فقد عقهما " (3).

(1) الوسائل 15: 204، الباب 92 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث الأول.
(2) الكافي 2: 158، كتاب الايمان والكفر، باب بر الوالدين، الحديث 2، والوسائل
15: 205، الباب 92 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 4.
(3) الخصال 2: د 21، حديث الأربعمائة، والوسائل 15: 123، الباب 22 من أبواب
أحكام الأولاد، الحديث 4.
307

[الوفاء بالوعد]
في (1) ما يظهر منه وجوب الوفاء بالوعد مضافا إلى قوله تعالى: (كبر
مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (2) وقوله: (وأوفوا بالعهد) (3) بناء على
شموله للوعد.
في باب الوعد: ما عن الكافي - في المتصف بالصحة في المطالع - عن
هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته يقول: " عدة المؤمن
أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ، ولمقته تعرض، وذلك
قوله: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) (4) " (5).
وعنه - في باب الوعد - عن شعيب العقرقوفي، عن أبي عبد الله عليه السلام

(1) هذا أول الصفحة اليسرى من الورقة (184)، والعنوان زيادة منا.
(2) الصف: 3.
(3) الإسراء: 34.
(4) الصف: 3.
(5) الكافي 2: 3 " 63، كتاب الايمان والكفر، باب خلف الوعد، الحديث الأول،
والوسائل 8: 515، الباب 109 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.
308

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليف إذا وعد " (1).
وعنه - في باب البر بالوالدين - عن ابن محبوب، عن مالك بن عطية
عن عنبسة بن مصعب عن أبي جعفر عليه السلام قال: " ثلاث لم يجعل الله لأحد
فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر
وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين " (2).
وعنه - في باب المؤمن وعلاماته - بإسناده، عن سماعة عن
أبي عبد الله عليه السلام، قال: " من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم
فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته وكلمت مروءته
وظهر عدله ووجبت أخوته " (3).
وهذه الأخبار وإن دلت بظاهرها على وجوب الوفاء، لكن قيل:
إن الظاهر اطباق كلمات من عدا قليل من متأخري المتأخرين على عدم
الوجوب كما يظهر من اتفاقهم على عدم ووجوب الوفاء بالشرط الغير
المشترط في عقد لازم، وما دل من الأخبار على جواز نقض اليمين إذا كان
- أو صار - ترك ما حلف عليه راجحا.

(1) الكافي 2: 364، كتاب الايمان والكفر، باب خلف الوعد، الحديث 2، والوسائل
8: 515، الباب، الباب 109 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.
(2) الكافي 2: 162، كتاب الايمان والكفر، باب البر بالوالدين، الحديث 15،
والوسائل 15: 206، الباب 93 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 3.
(3) الكافي 2: 239، كتاب الايمان والكفر، باب المؤمن وعلاماته، الحديث 28،
والوسائل 8: 597، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.
309

بسم الله الرحمن الرحيم
عن الكافي في الصحيح عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن
الحكم عن فضيل بن عثمان المرادي، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " [أربع] (1) من كن فيه لم يهلك على الله
بعدهن إلا هالك، يهم العبد بحسنة فيعملها، فإن هو لم يعملها كتب له
حسنة بحسن نيته وإن هو عملها كتب الله له عشرا، ويهم بالسيئة أن يعلمها
فإن لم يعلمها لم يكتب عليه شئ، وإن هو عملها أجل سبع ساعات، وقال
صاحب الحسنات لصاحب السيئات - وهو صاحب الشمال -: لا تعجل
عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها، فإن الله عز وجل يقول: (إن الحسنات يذهبن
السيئات) (2). أو الاستغفار، فإن هو قال: " أستغفر الله الذي لا آله هو عالم
الغيب والشهادة العزيز الحكيم الغفور الرحيم ذو الجلال والاكرام وأتوب
إليه " لم يكتب عليه شئ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة
واستغفار، قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات: أكتب على الشقي

(1) من المصدر: وكان قد كتب قدس سره كلمة " ثلاث " ثم شطب عليها.
(2) هود: 114.
310

المحروم " (1).
وهذا يدل على تكفير الاستغفار والحسنة لمطلق السيئة حتى الكبيرة،
ونحو ذلك مما دل على تكفير بعض الأعمال للسيئات.
وبإزائها ما دل على أنه لا يقبل الطاعة مع الاصرار على السيئة،
مثل: ما رواه في الكافي - في باب الاصرار - عن أبي بصير (2)، وما دل على
أن تكفير السيئة منحصر بالاستغفار، مثل ما رواه في الكافي في باب
الاستغفار (3).

(1) الكافي 2: 429، كتاب الايمان والكفر، باب من يهم بالحسنة أو السيئة، الحديث
4، والرسائل 11: 351، الباب 85 من أبواب جهاد النفس، الحديث الأول.
(2) الوسائل 11: 351، الباب 85 من أبواب جهاد النفس، الحديث 2.
(3) الكافي 2: 437، كتاب الايمان والكفر، باب الاستغفار من الذنب، الحديث 2،
وهذا آخر ما في الصفحة اليسرى من الورقة (184)، والصفحة اليمنى من الورقة
(185) بياض.
311

الملحق
[3]
في
شرح بعض مستطرفات الأخبار
313

صورة الصفحة الأولى من الملحق الثالث
في مستطرفات الأخبار وبعض مواعظ أمير المؤمنين عليه السلام
315

صورة الصفحة الأخيرة من الملحق الثالث
316

بسم الله الرحمن الرحيم (1)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
في نهج البلاغة في وصيته عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام: " فإنه لم يأمرك
إلا بحسن، ولم ينهك إلا عن قبيح " (2).
وفي تلك الوصية أيضا: " دع القول فيما لا تعرف "، وفيها أيضا:
" ولا تقل ما لم تعلم وإن قل ما تعلم " (3)
وفيه أيضا - بعد قوله عليه السلام مخاطبا لأهل كوفة، سيظهر عليكم بعدي
رجل.. الخ -: " ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني، أما السب فسبوني،
فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تبرؤا مني، فإني ولدت على الفطرة

(1) هذا أول الصفحة اليسرى من الورقة (185) وكتب مرتب الأوراق على هذه
الصفحة ما مفاده، هذا الجزء يحتوي على أمور متفرقة وهي في (18) ورقة.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 31.
(3) نهج البلاغة، الخطبة 31.
317

وسبقت إلى الايمان والهجرة " (1).
وفيه أيضا: " أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر
أو بحر، إنها تدعوا إلى الكهانة، المنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر،
والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله " (2).
وفيه أيضا: " وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الانصاف من
مواريث الرجال، وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل
الواحد " (3).
وفيه أيضا: " الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كل داخل
في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضى به " (4).
وفيه أيضا: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (5).
وفيه أيضا - وقد سئل عن الايمان -: " الايمان معرفة بالقلب
واقرار باللسان وعمل بالأركان " (6).
وفيه أيضا: " إذا أضرت النوافل بالفرائض فارفضوها " (7).

(1) نهج البلاغة، الخطبة 57، هذا وقد ذكر المؤلف قدس سره في آخر رسالة التقية
(الصفحة: 42) أن النهي عن التبري مكذوب على أمير المؤمنين صلوات الله عليه وأنه
لم ينه عنه، فراجع.
(2) نهج البالغة، الخطبة 79.
(3) نهج البلاغة، الخطبة 80.
(4) نهج البلاغة، الحكمة 154.
(5) نهج البلاغة، الحكمة 165.
(6) نهج البالغة، الحكمة 227.
(7) نهج البالغة، الحكمة 279.
318

وفي موضع آخر منه: " لا قربة بالنوافل إذا أضرت بالفرائض " (1).
وفيه أيضا: " إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل
الظن برجل لم تظهر منه خزية فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان
وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر، لا تظنن بكلمة خرجت من أحد
سوء وأنت تجد لها في الخير سبيلا " (2).
وفيه أيضا: " ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ
على أهل العلم أن يعلموا " (3).
وفيه أيضا: " ولا تسافر في يوم جمعة حتى تشهد الصلاة إلا فاصلا
في سبيل الله أو في أمر تعذر به " (4).
وفيه أيضا: " وكلف يسيرا ولم يكلف عسيرا " (5).
وفيه أيضا: " لا ورع كالوقوف عنه الشبهة " (6).
وفيه أيضا: " لا عبادة كأداء الفرائض " (7).
وفيه أيضا: " الصلاة قربان كل تقي، والحج جهاد كل ضعيف،

(1) نهج البلاغة، الحكمة 1147.
(2) نهج البلاغة، الحكمة 1144.
(3) نهج البلاغة، الحكمة 478.
(4) نهج البلاغة، الكتاب 69.
(5) نهج البلاغة، الحكمة 78.
(6) نهج البلاغة، الحكمة 113.
(7) نهج البلاغة، الحكمة 113.
319

ولكل شئ زكاة وزكاة البدن الصيام، وجهاد المرأة حسن التبعل " (1).
وفي العيون: حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني، عن علي بن
إبراهيم عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي - في حديث طويل -
عن الرضا عليه السلام، قال: قلت له يا بن رسول الله: أخبرني عن الجنة والنار،
أهما اليوم مخلوقتان؟ قال: نعم، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله قد دخل
الجنة ورأي النار لما عرج به إلى السماء، قال: قلت له إن قوما يقولون
إنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين، فقال عليه السلام: ما أولئك منا ولا نحن منهم،
من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذب النبي صلى الله عليه وآله وكذبنا،
وليس من ولايتنا على شئ، ويخلد في نار جهنم " (2).
وفيه أيضا: حدثنا أحمد بن هارون الفامي، قال: حدثنا محمد بن
عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم،
عن علي بن معيد، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام
- في حديث طويل - قال عليه السلام: " من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر
مشرك، ونحن براء في الدنيا والآخرة منه.
يا بن خالد، إنما وضع الأخبار في الجبر والتشبيه الغلاة الذين صغروا
عظمة الله " (3).

(1) نهج البلاغة، الحكمة 136.
(2) عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 116، الحديث 3.
(3) عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 142، الحديث 45.
320

بسم الله الرحمن الرحيم (1)
في نهج البلاغة أنه عليه السلام قال لرجل سأله أن يعظه: " لا تكن
ممن يرجو الآخرة بغير العمل ويرجي التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا
بقول الزاهدين ويعمل فيها بعمل الراغبين، إن أعطي منها لم يشبع، وإن منع
منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، ينهى
ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض
والمذنبين وهو أحدهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه ويقيم على ما يكره الموت
له، إن سقم ظل نادما ولن صح أمن لاهيا، يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط
إذا ابتلي، إن أصابه بلاء دعى مضطرا، وإن ناله رخاء أعرض مغترا، تغلبه
نفسه ولا يغلبها على ما يستيقن، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه، ويرجو
لنفسه بأكثر من عمله، إن استغنى بطر وفتن، وإن افتقر قنط ووهن، يقصر
إذا عمل ويبالغ إذا سأل، إن عرضت له شهوة أسلف المعصية وسوف التوبة،
وإن عرته فتنة انفرج عن شرائط الملة (2)، يصف العبرة ولا يعتبر ويبالغ

(1) هذا أول الصفحة اليسرى من الورقة (186).
(2) في هامش النسخة ما يلي: أي قال أو فعل ما يقتضي الخروج عن الدين
أو لم يصبر على المعصية الذي هو شرط الملة.
321

في الموعظة ولا يتعظ، فهو بالقول مدل، ومن العمل مقل، ينافس فيما يفنى
ويسامح فيما يبقى، يرى الغنم (1) مغرما والغرم (2) مغنما، يخشى الموت ولا يبادر
الفوت (3)، يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه، ويستكثر
من طاعته ما يحقره من طاعة غيره، فهو على الناس طاعن، ولنفسه
مواهن، اللهو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم على غيره
لنفسه وإن كان باطلا ولا يحكم عليها لغيره، يرشد غيره ويغوي نفسه
فهو يطاع ويعصى، ويستوفي ما له على غيره ولا يوفي ما عليه لغيره،
ويخشى الخلق في غير ربه ولا يخشى الله في خلقه " (4) تمت.
قال السيد الأجل الرضي، الجامع لنهج البلاغة: ولو لم يكن
في هذا الكتاب إلا هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة وحكمة بالغة وبصيرة
لمبصر وعبرة لناظر مفكر.

(1) في هامش النسخة: فوت الدنيا.
(2) في هامش النسخة: إقبال الدنيا.
(3) في هامش النسخة: فوت الفرصة.
(4) نهج البلاغة، الحكمة 150، وبذيلها كلام الشريف الرضي قدس سره.
322

الملحق
[4]
في
معنى الايمان والكفر
323

صورة الصفحة الأخيرة من رسالة المواريث
وفي الهامش ما كتبه المؤلف قدس سره في الايمان والكفر
325

بسم الله الرحمن الرحيم (1)
يمكن أن يقال: إن الايمان عبارة عن الاعتقاد بالتوحيد والنبوة
وتصديق (2) ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله، إذ لا يتحقق التدين بدين
إلا بذلك.
ثم إن ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله إما أن يكون مما يحتاج معرفته
للشخص بحسب زمانه ومكانه وحاله من الأمور الضرورية التي لا تخفى
على مثله، وإما أن يكون من غير ذلك.
والثاني مما يكفي فيه التصديق الاجمالي به كخصوصيات المعاد
والبرزخ، والجاهل بها معذور، بل لم يكلف المسلمون بتفاصيلها، بل لو نظر
بها أحد وخالف الواقع لم يخرج عن تصديق النبي صلى الله عليه وآله،
لأنه إنما ينكر كون ذلك من النبي، لا أنه يكذب النبي صلى الله عليه وآله في ذلك.
وأما الأول، فلا يكفي التصديق الاجمالي، بل لا بد من معرفته

(1) وجدنا هذا المطلب في حاشية الصفحة اليمنى من الورقة (129) وهي آخر صفحة
من رسالة المواريث.
(2) كذا ظاهرا، ويحتمل: وبصدق.
327

ليصدق (1)، ولو خالفه لشبهة لم يعذر فيه، لأن ضروريته يكشف عن تقصيره
إلا أن يفرض الشبهة على وجه لا ينافي الضرورة بالنسبة إلى هذا الشخص
مثال ذلك: أصل المعاد والموت، ومن هذا القبيل مسألة الإمامة،
فإن العامة مكلفون بالاعتقاد بها، ولا يعذر الجاهل منهم بجهله - كما لا يعذر
اليهودي الجاهل -، لمكان ضرورية الحق الكاشفة عن تقصير المخالف.
ومن هنا يعلم أن المخالف كافر بالكفر المقابل للايمان، الذي عرفت
تفسيره. وإلى هذا يرجع استدلال العلامة في المنتهى (2)، بل المحقق في المعتبر (3)
على منع المخالف عن الزكاة، بأنه منكر لما علم من الدين ضرورة.
وأما الحكم بطهارتهم فلأنهم مسلمون، إذ الاسلام يكفي فيه التصديق
الاجمالي بالرسالة وعدم تكذيب النبي في أمر من الأمور الدينية مع العلم
بكونه منه.
ومن أنكر الإمامة من العامة مع العلم يحكم بكفره، بخلاف من أنكر
كونه منه صلى الله عليه وآله.
فمنكر الضروري إنما يكفر في مقابل الاسلام، إذا أنكر ما علم ما هو كونه
من الدين، ويكفي في علمنا بعلمه: كون ذلك الأمر ضروريا لا يشتبه عادة،
والمخالف‍ [ون] نعلم أنهم ينكرون كون الإمامة من دين
النبي صلى الله عليه وآله، وأما القتل فهو من آثار الارتداد لا الكفر.

(1) كذا ظاهرا، والكلمة غير واضحة.
(2) المنتهى 1: 522، السطر 28 - 30.
(3) المعتبر 2: 579.
328

[وأما الحكم] (1) بكفر منكر الضروري في مقابل الاسلام فالمراد به،
إن كان ما كان معلوما عند المنكر كونه من النبي صلى الله عليه وآله، ليرجع
إلى كذب النبي، لا انكار كون ذلك منه (2).

(1) الزيادة اقتضتها العبارة، راجع مصورة النسخة الأصلية.
(2) هذا هو آخر ما وجدناه في حاشية الصفحة اليمنى من الورقة (129).
329