الكتاب: قاعدة ضمان اليد
المؤلف: الشيخ فضل الله النوري
الجزء:
الوفاة: ١٣٢٧
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: الشيخ قاسم شيرزاده
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٥ شعبان المعظم ١٤١٤
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:

رسالة
قاعدة ضمان اليد
تأليف
شيخ الإسلام والمسلمين
آية الله العظمى
الشهيد فضل الله النوري
- قدس سره -
1259 - 1327
تحقيق
الشيخ قاسم شيرزاده
1

رسالة
قاعدة ضمان اليد
تأليف: الشهيد آية الله العظمى الشيخ فضل الله النوري
موضوع: فقه
تحقيق: الشيخ قاسم شيرزاده
الطبعة: الأولى
الصف والإخراج: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الكمية: 1000
التاريخ: 15 شعبان المعظم 1414 ه‍
مؤسسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ فضل الله النوري
- قدس سره -
رجل العلم والجهاد
على الشهادة والكرامة والعلى * وحليف علم الدين والآثار
الحمد لله الذي خص أصحاب الشهادة بالسعادة، واصطفاهم لدار العز
والكرامة، ثم الصلاة والسلام على نبيه وآله الطيبين الطاهرين، وعلى عباد الله
الصالحين، لا سيما الشهداء والصديقين.
أما بعد: فإن العالم العامل، يضيئ الطريق للسائر، والشهيد يكتسح
العقبات والعراقيل للسالك، فالعالم بمداده وحبره ينير العقول، ويزيل الظلمات
والأوهام عن البصائر والأفكار، والشهيد بتضحيته يزيل المانع، ويقطع أيدي
المتطاولين على شرف الأمة ودينها، وثروتها، فالشهيد والعالم بطلان يسيران على
طريق واحد، يهدفان إلى هدف فأرد، بهما أنيط بقاء الإسلام، بجهادهما وجهودهما
يتهافت الكفر والإلحاد.
هذا إذا جردت الشهادة، عن العلم، فما ظنك بمن كرس حياته بالعلم
والدراسة وكللها بالشهادة في سبيل الله فقد حاز حينئذ فضيلة المزيتين، وصار
رجلا مثاليا في مجالي القلم والسيف، وفاز القدح المعلى.
إن الإنسان يتصور في بادئ الأمر: أن الشهداء هم وحدهم الأبطال في
3

ميدان الدفاع والجهاد، دون حملة الفكر والعلم، أو قادة البيان والخطابة، أو أن
العلماء هم الذين لا يهمهم شئ سوى تدارس العلم وكتابته، وإلقاء الخطابة،
وبالتالي هم أمراء البيان وأصحاب الفتيا، فهم يخوضون الوعظ والإرشاد
ولا يقتحمون لجج المعارك الدامية، ولا تعرفهم ساحات القتال.
هذا هو الذي يتصوره البعض من مفهومي العالم والشهيد، ولكن عندما
يسبر الإنسان تاريخ العلم والشهادة ويقرأه بإمعان وهدوء، ينتبه إلى خطأ
الفكرة، لأنه يجد في ثنايا التاريخ بل في متونه، مجموعة كبيرة من العلماء والمفكرين
بين مقتول في المعارك الدامية، ومستشهد في ميادين الحروب الضارية، بين
مصلوب على المشانق والأعواد، وبين مقيد في قعر السجون بقي فيها إلى أن لفظ
أنفاسه الأخيرة في ظلمها، وبلين مسموم احترقت أحشاؤه وأمعاؤه إلى غير ذلك من
ألوان التعذيب.
وكأن شاعرنا المبجل المفلق الفقيه الشيخ محمود البغدادي يشير بقوله إلى
هذا لمعنى وفي حق هذا النمط من العلماء الشهداء حيث قال:
رجلان في دنيا الثبات * وهبان الحياة إلى الحياة
رجل الصراع المر * يعصف باللئام وبالطغاة
والعالم الوثاب أمينة * الشعوب الناهضات
عاشا بلا ذرات وما * كالعز في سحق الذوات
فكانوا يمثلون قول الإمام الوصي أمير المؤمنين - عليه أفضل صلوات المصلين -: " رهبان
بالليل وأسد بالنهار " (1) فلم يحجبهم الخوض في المفاهيم السامية والمعاني الدقيقة
أو عكوفهم على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، عن خوض عباب الحروب

1 - بحار الأنوار: 83 / 207 من كلام الإمام - عليه السلام - لنوف البكالي.
4

وتحمل قتار الغزوات، ومجابهة الأعداء، وفي الحقيقة هؤلاء هم الأمة المثالية والطبقة
الوسطى في المجتمع أثنى عليهم الذكر الحكيم (1)، وبجلتهم السنة الكريمة، و
أكبرتهم الشعوب الإسلامية في كل عصر.
وها نحن نوقفك على حياة عالم كبير، ومصلح عظيم من هذا النمط... عالم
كرس حياته في مدارسة العلم، وإصلاح المجتمع، وختمها بالشهادة، وكان أكبر
قائد روحي في عاصمة إيران - طهران - كافح الضلال والإلحاد، وجابه ضوضاء
الباطل بلسانه وقلمه. ألا وهو الشيخ العلامة آية الله العظمى الشيخ فضل الله
النوري - قدس الله سره -: شهيد الصمود في طريق الحق والفضيلة، ودفع التطاول على
المقدسات الإسلامية، بأيدي رجال متغربين، أرادوا القضاء على الإسلام وأهله،
تحت غطاء الثورة على الرجعية والتخلف، وواجهة إنشاء نظام ديمقراطي برلماني،
فكان شعارهم هذا، كلمة حق يراد بها باطل فقد حاولوا إبعاد الإسلام عن
الساحة، وإحلال الكفر والإلحاد مكانه، تحت شعارات خداعة، وعناوين رنانة،
فكانوا يديفون السم بالعسل.
لقد ظهرت - في العقد الثالث من القرن الرابع عشر في المنطقة - فكرة
الحرية والتخلص من السلطة الاستبدادية والقضاء على حكومة الفرد على
الشعب، بإحلال الحكومة البرلمانية مكان الملكية، وقد ظهرت هذه الفكرة في
المجتمع الإيراني بعد ما كانت السلطة عبر القرون والأجيال هي السلطة الفردية
المتمثلة في النظام الملكي، ولما برزت فكرة التحرر بثوبها الرائع، وجمالها الخداع،
انجذبت إليها القلوب، وتعلقت بها النفوس، فصارت فاكهة المجالس وزينة
العرائس، يتحدث عنها الناس في كل مناسبة، وكل مكان، حتى استهوت لفيفا

1 - حيث طبقوا العلم على العمل، دعوا للجهاد والقتال، فقدموا النفس والنفيس في ذلك المضمار.
5

من العلماء والآيات والمراجع في العراق، مثل الشيخ محمد كاظم الخراساني،
والشيخ حسين الطهراني والشيخ عبد الله المازندراني - قدس الله أسرارهم - فصوتوا مع
الأمة، وأفتوا بلزوم تطبيقها على صعيد الحكومة والواقع.
وكان شيخنا المترجم له في عاصمة إيران، ممن يدعم هذه الفكرة ويؤيدها،
فترة قليلة من الزمن، ولما أشرفت النظرية على مرحلة النضوج، وقف على أن الفكرة
سراب لا ماء، وأن الهدف من التظاهر بالحرية، هو الانحلال والتجرد عن
الضوابط الشرعية، والقوانين الإلهية، وبالتالي إقصاء الإسلام عن جميع المجالات:
القضائية، الثقافية، والاجتماعية، والأخذ بالأنظمة الإلحادية، وحصر الإسلام في
المنازل والبيوت، وقصره على الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والميراث.
فلما وقف شيخنا المترجم المغفور له على خطورة الموقف، ثارت ثائرته
وأحس أن هذا هو الوقت الذي عناه نبي العظمة صلى الله عليه وآله إذ قال: " إذا ظهرت البدع في
أمتي فليظهر العامل علمه، وإلا فعليه لعنة الله " (1) فشرع في إيقاظ الناس من
الغفلة، وتنبيههم على المؤامرات التي تحاك ضدهم، واستمرت مواجهته للفكرة
سنوات عديدة فلقي في ذلك ما يلاقي فيه كل مصلح غيور على أمته ودينه.
لقد كان لخطابات شيخنا وكتاباته إلى الزعماء والرؤساء، تأثير بالغ في منع
الأمة من التسرع إلى التصويت مع أصحاب تلك الفكرة إلى أن بلغ السيل الزبى،
ولم تجد الطغمة المعتدية على شرف الشعب ودينه، مناصا من المؤامرة على الشيخ
وقتله بصورة بشعة تكون عبرة لغيره، فاختطفوه من داره بعد هجوم عنيف عليها في
الثالث عشر من شهر رجب من شهور سنة 1327 ه‍ فساقوه وحيدا إلى المديرية
العامة للشرطة وحاكموه محاكمة صورية، وأصدر القاضي حكما بإعدامه شنقا،

1 - الكافي 1: 54 باب البدع والرأي.
6

وقد كان الحكم هذا مهيئا قبل المحاكمة، ثم أخرجوه من المديرية بعد المحاكمة
ولم تمض بضع دقائق حتى رؤي جثمانه الطاهر مشنوقا وأعداؤه حوله يصفقون
ويظهرون المسرة والابتهاج، فلقى ربه بحياة مشرقة وجهاد متواصل، ومضى
شهيدا بيد الظلم والعدوان في سبيل الحمية والدين، وقد رثاه غير واحد من
العلماء والشعراء، نكتفي بأبيات من قصائد الأديب الأريب والحكيم البارع السيد
أحمد الرضوي البيشاوري نزيل طهران (ت 1349 ه‍) بقوله:
لا زال من فضل الإله وجوده * جود يفيض على ثراك همولا (1)
روى عظامك وابل من سيبه * يعتاد لحدك بكرة وأصيلا
تلكم عظام كدن أن يأخذن من * جو إلى عرش الإله سبيلا
همت عظامك أن تشايع روحها * يوم الزماع (2) إلى الجنان رحيلا
فتصعدت معه قليلا ثم ما * وجدت لسنة ربها تبديلا
فالروح ترقى والعظام تنزلت * كالآية اليوحى بها تنزيلا
آمنت إذ حادوا برب محمد * وصبرت في ذات الإله جميلا
خنقوك لا حنقا عليك وإنما * خنقوك كي ما يخنقوا التهليلا (3)
ولعمر الحق إن القصيدة هي القصيدة الفريدة في باب الرثاء في علو
المضمون، وبداعة المعاني، ورصانة الأسلوب، ولو افتخر أبو الحسن التهامي عند
رثاء ولده بقصيدته المعروفة التي تنوف على سبعين بيتا وكلها حكم وأمثال،
فليفتخر شاعرنا المبجل الأديب البيشاوري بهذه القصيدة الزاهرة.

1 - هملت السماء: دام مطرها. 2 - يوم الخوف والذعر.
3 - وكأنه اقتفى " الشاعر المعروف ب " ديك الجن " حيث يرثي الحسين سيد الشهداء بقوله:
ويكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا
تكملة أمل الآمل للسيد حسن الصدر: 260.
7

لقد استقبلت قصيدة التهامي استقبالا رائعا وحل في القلوب حيث يقول:
حكم المنية في البرية جار * ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا * حتى يرى خبرا من الأخبار
وما أحسن قوله في تلك القصيدة:
جاورت أعدائي وجاور ربه * شتان بين جواره وجواري (1)
وما ألطف وأرق قول شاعرنا المفلق:
همت عظامك أن تشايع روحها * يوم الزماع إلى الجنان رحيلا
ويجدر بي أن أقول في حقها كلمة أخرى وهي ك إن هذه القصيدة التي نقلنا
منها عدة أبيات أشبه بقصيدة أبي الحسن الأنباري في رثاء أبي طاهر بن بقية الذي
صلبه عضد الدولة - بقوله:
علو في الحياة وفي الممات * لحق أنت إحدى المعجزات
يصف المشنوق وصفا عجيبا ويقول:
ولم أر قبل جذعك قط جذعا * تمكن من عناق المكرمات
ومالك تربة فأقول تسقى * لأنك نصب هطل الهاطلات
ركبت مطية من قبل زيد * علاها في السنين الماضيات
وتلك قضية فيها تأس * تباعد عنك تعيير العداة (2)
هكذا كان ختام حياة شيخنا المعظم وإليك لمحة عن أوليات حياته

1 - القصيدة برمتها موجودة في جواهر الأدب / 616.
2 - القصيدة موجودة في جواهر الأدب / 624، توفي أبو الحسن الأنباري عام 328.
8

وأوسطها إلى أوان شهادته وهي تسلط الضوء على مكارمه وفضائله.
ولد شيخنا في قرية " لاشك " من توابع كجور من مدن مازندران عام 1259
ه‍. ق وتلقى الأوليات في منطقة نور ثم غادر إلى طهران، وجد في دراسته، إلى أن
نال بعض ما كان يتمناه ولم يكتف بما أخذه في البلدين فأعد العدة للسفر إلى
النجف الأشرف - عاصمة العلم للشيعة - وهو بعد في عنفوان الشباب وفي أوائل
العقد الثالث من عمره، فنزل مدينة النجف بحضر عند أساطين العلم،
وأخص بالذكر منهم:
1 - الفقيه الجليل الشيخ راضي من آل خضر النجفي علم الفقه الخفاق،
والزعيم الكبير في النجف الأشرف (ت 1290).
2 - الفقيه والتحقيق الشيخ حبيب الله الرشتي (1234 - 1312 ه‍)،
وكان من كبار الفقهاء والمدرسين في عصره، حضر أبحاثه سنين متمادية وكتب من
أبحاثه الشئ الكثير، منها هذه الرسالة التي يزفها الطبع للقراء وقد عرضها بعد
التأليف على أستاذه فكتب عليها كلمة قيمة نأتي برمتها عن قريب.
3 - القائد المناضل الكبير والمرجع الأعلى للشيعة في عصره السيد محمد
حسن الشيرازي (1230 - 1312 ه‍) حضر أبحاثه في النجف الأشرف، ولما غادر
الإمام الشيرازي ذلك البلد، وألقى رحله في سامراء سنة 1291 ه‍، ارتحل شيخنا
مصطحبا خاله العلامة المحدث الكبير الشيخ حسين النوري (ت 1320 ه‍)
مؤلف مستدرك الوسائل في السنة التالية (1292 ه‍)، وبقي بها إلى أوائل القرن
الرابع عشر حتى غادرها سنة 1303 ه‍ إلى عاصمة إيران - طهران -، كقائد روحي
وأستاذ كبير، ومرجع علمي، فقام بواجبه في مجالات العلم وخدمة المجتمع وإحياء
القيم الإسلامية إلى أن لقي ربه شهيدا.
9

كلمات الثناء في حق المترجم
1 - يقول المحدث الكبير خاله الشيخ حسين النوري في حقه: عالم فاضل،
ومجمع المحاسن والفواضل، مالك أزمة الفروع والأصول، والآخذ بنواصي المعقول
والمنقول، علم الأعلام، والحبر القمقام - ابن أختنا المفخم الشيخ فضل الله
النوري.... (1)
2 - ويقول المجتهد الكبير أستاذه الرشتي في تقريظه لرسالة المترجم له
ما هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الواقف على هذه الأوراق، لو خضت زواجر البحار، وضربت آباط
الإبل في مهامة القفار، لما وجدت أحسن مما فيها تحقيقا، وأزيد منه تدقيقا، فمن
الواجب أن ينادى بفضل صاحبها في كل ناد، ويحث إليها الركاب في كل بلاد،
فقد سرحت فيها لحظي فرأيتها ملحظا وجيها، وأمعنت فيها نظري فوجدتها منظرا
صبيحا، فكم أودع فيها من الدرر الفاخرة، واللآلي الباكرة، فيليق أن يكتب بالتبر
على الأحداق، لا بالحبر على الأوراق، فلله در مؤلفها وهو العالم الأواه قرة عيني،
الشيخ فضل الله - له فضله وعلاه - فقد أتعب نفسه وعرق جبينه، في تحصيل
القواعد العلمية، والأصول الاجتهادية، التي يدور عليها مدار الاجتهاد وبها يصح
أعمال العباد.
وحضر لدي ولدى الأساتيذ العظام، والأساطين الكرام، شطرا وافيا من
الزمان، ودهرا طويلا كافيا من الأوان، فبلغ بحمد الله مناه، وصار عالما ربانيا،

1 - مقدمة " شجره طوبى " للمحدث النوري.
10

وعلما حقانيا، مجتهدا ماهرا، متبحرا كاملا، جامعا للمعقول والمنقول، فحقيق أن
يرجع إليه عباد الله المؤمنين في أمور دينهم، وينقادون إليه فيما يتعلق بآخرتهم
ودنياهم، وفي حقه وأمثاله ورد في الأثر من سيد البشر: الراد عليه راد علينا، وهو
في حد الشرك، معاذ الله منه ومن شر الشيطان، وسيئات الأعمال، ورجائي منه هو
سلوك طريق الاحتياط في الأحكام والموضوعات، وأن لا ينساني عن الدعوات عند
قاضي الحاجات، إنه ولي التوفيق.
حبيب الله الغروي الجيلاني
3 - قال العلامة الأميني عند سرد حياته: قفل شيخنا المترجم له إلى طهران،
ولم يبرح بها إماما، وقائدا روحيا، وزعيما دينيا، يعظم شعائر الله، وينشر مآثر دينه،
ويرفع أعلام الحق، ويبرز كلمة الحقيقة حتى حكمت بواعث العيث والفساد،
بعد ما جابه الإلحاد والمنكر، زمنا طويلا، فمضى شهيدا بيد الظلم والعدوان،
ضحية الدعوة إلى الله، ضحية الدين، ضحية النهي عن المنكر، ضحية الحمية
والديانة، ودفن في دار المؤمنين بلدة قم. (1)
وقد أثنى الموافق والمخالف على الشيخ وكثر عليه الثناء من مختلف
الطبقات، حتى لم يجد المعاند منتدحا من الاعتراف بدينه وصلابته في طريق
عقيدته، ومسؤوليته أمام شعبه ودينهم، وأنه هو الذي اختار الشهادة والقتل في
سبيل الله، على التعاون مع هؤلاء رجال العيث والفساد.
وأنا أستميح الشيخ الشهيد عذرا حيث أعيى البيان وضاق المجال عن
ترجمته بجميع نواحيه العلمية والسياسية وخدماته الاجتماعية وزمالته لزعماء

1 - شهداء الفضيلة: ص 357 وله في بلدة قم مقبرة عامرة، حيث دفن في إحدى حجرات الصحن
الشريف حيث تزور تربته عامة الطبقات.
11

الدين، وأخص بالذكر السيد الكبير الشيرازي في مسألة تحريم التدخين الصادر
عام 1308 ه‍ فقد ذكر غير واحد من المؤرخين مواقفه المشكورة في ذلك المجال،
ولنكتف ببيان آثاره العلمية الواصلة إلينا.
آثاره العلمية
خلف الشيخ آثارا واشتغل بالتأليف من أيام شبابه إلى شيخوخته غير أن
مؤلفاته لم تزل مخطوطة لم تر النور إلا القليل النادر منها.
وإليك بعض ما وقفنا على أسمائه وخصوصياته.
1 - درر التنظيم
منظومة حول القواعد الفقيه وقد طرح فيها خمسا وعشرين قاعدة فقهية
مع الإشارة إلى مبانيها، صاغها في بوتقة النظم، وهو في أواخر العقد الثاني من
عمره أي شرع فيها عام 1279 ه‍، يقول فيها:
قد انقضى من سني العشرونا * في سنه التاسعة والسبعونا
من بعد ألف وكذا المائتين * من هجرة النبي دون المين (1)
وقد ختمه بقوله:
قد وقع الفراغ من تصنيف هذه النسخة بيد مؤلفه الفقير فضل الله بن
عباس النوري يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة الحرام سنة 1280 ه‍ في دار
الخلافة طهران ويبلغ عدد الأبيات خمسمائة بيت، وإليك القواعد التي طرحها
الشيخ في تلك المنظومة:

1 - المين: الكذب.
12

1 - الأسباب الشرعية معرفات لا علل حقيقية.
2 - الأصل عدم تداخل الأسباب.
3 - في قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
4 - في قاعدة العقد ينحل إلى العقود.
5 - القاعدة العقيلة لا تخصص.
6 - دلالة الألفاظ وضعية لا ذاتية.
7 - الأصل عدم جواز التوكيل إلا ما خرج.
8 - أصالة الطهارة في الشبهة الحدثية والخبثية.
9 - الأصل في الدماء، النجاسة.
10 قاعدة الإمكان في الحيض وبيان حدودها.
11 - من جملة أسباب الضمان، اليد.
12 - من جملة ما جعل الشرع سببا للضمان، الاتلاف.
13 - من جملة أسباب الضمان، الأخذ بالعقد الفاسد.
14 - من جملة ما جعله في الشرع سببا للضمان، الغرور.
15 - من جملة ما جعله في الشرع سببا للضمان، التعدي والتفريط.
في مسقطات الضمان:
16 - من جملة المسقطات في الشرع، الإحسان.
17 - من جملة المسقطات في الشرع، الإقدام.
18 - من جملة المسقطات في الشرع، الاستيمان.
19 - من جملة المسقطات في الشرع، الإذن من ذي السلطان.
13

20 - قاعدة القرعة وتشخيص مواردها.
21 - في أن الأصل، وجوب القضاء، في ما وجبت فيه الإعادة.
22 - في قاعدة من ملك شيئا ملك الاقرار به.
23 - في بيان حرمة الإسراف ومدركها.
24 - عدم حجية عدم القول بالفصل " إذا كان البعض مثبتا بالأصل ".
25 - في شأن اشتراط العربية في العقود.
والمنظومة بعيدة عن التكلف والتعسف يقرأها الإنسان بسهولة، وإليك
نماذج منها وهو طرح دلالة الألفاظ على المعاني وأنها وضعية أو ذاتية:
وعن سليمان بن عباد حكي * دلالة اللفظ لذاته فاترك
حجته لزوم ترجيح بلا * مرجح، كذاك منه نقلا
لكنه مخالف المشهور * مخالف لمذهب الجمهور
لأنها وضعية تدور * مدار وضع وهو المنصور
لو لم تكن، لم يكن المنقول * لأن ما بالذات لا يزول
وقد أشار في البيت الأخير إلى أن دلالتها وضعية لا ذاتية وإلا لامتنع نقل
لفظ من معنى إلى معنى، والسير في المنظومة يعرب عن أنه قرأ القواعد والفوائد
للشهيد الأول (734 - 786 ه‍) والعوائد للشيخ أحمد النراقي (ت 1248 ه‍)،
والعناوين للعلامة السيد فتاح المراغي الذي فرغ منه عام 1245 ه‍، وتوفي عام
1250 ه‍. فربما يرد عليهم أو يقبل قول بعضهم وهو في أوائل العقد الثالث من
عمره. (1)

1 - توجد نسخة من هذا الكتاب في المكتبة المركزية لجامعة طهران.
14

2 - رسالة المشتق
هذه الرسالة تقرير لآراء أستاذه الكبير السيد المجدد الشيرازي طبعت عام
1305 ه‍ ضمن رسائل للشيخ الأنصاري وتلميذه الجليل الشيخ أبي القاسم
الطهراني المعروف ب‍: كلانتر (ت 1313 ه‍) مؤلف مطارح الأنظار الذي هو
تقرير لدرس أستاذه الأنصاري.
3 - حرمة الاستطراق إلى مكة عن طريق جبل
هذه الرسالة ألفها الشيخ بعد ما زار بيت الله الحرام من هذا الطريق ورأي
فيها المخاوف التي تحدق بالزائر ذهابا وإيابا ووجد فيه عدم الأمن وعدم تخلية
السرب، وقد أفتى بالحرمة غير واحد من مراجع ذلك العصر وطبعت الرسالة عام
1320 ه‍.
4 - الصحيفة المهدوية أو القائمية
جمع فيها أدعية الإمام المنتظر وهي بعد غير مطبوعة ألفها في أخريات أيام
إقامته في سامراء بالعراق عام 1302 ه‍.
وقد كتب عليها خاله العلامة المحدث النوري تقريظا، وأطرى فيها على
المؤلف ابن أخته وأجازه في الرواية.
5 - تذكره الغافل وإرشاد الجاهل
كانت هذه الرسالة قارعة على رؤوس المخالفين الذين كانوا يؤيدون الحركة
الدستورية غير الشرعية وقد طبعت عام 1326 ه‍. وقد فضح فيها أهداف
15

أصحاب تلك الحركة المشبوهة، وأيقظ الناس على ما يبيت لهم في تلك المؤامرة
الخطيرة.
ثم إن للشيخ خطبا ومكاتيب، وبيانات بليغة مدوية، لو جمعت في موضع
واحد لتكون منها سفر قيم، وكتاب ثمين، تتجلى فيه بلاغة الشيخ الشهيد، وقوة
بيانه، وعمق تفكيره، وشجاعة جنانه، وبعد نظره، وأصالة رأيه.
6 - رسالة قاعدة ضمان اليد
هذه الرسالة هي التي يزفها الطبع الآن إلى القراء وهي تعرب عن تضلعه في
الفقه، وإحاطته بالفروع وهذه الرسالة موجودة بخطه الشريف في مكتبة مشهد
الرضوي برقم 9632.
وبما أنه غادر النجف الأشرف عام 1292 ه‍. يرجع تاريخ تأليفها إلى قبيل
عام المغادرة، بشهادة أن المحقق الرشتي قرظها وهو في النجف الأشرف يحضر
أندية دروس الأكابر.
ولأجل إحياء مآثر شهيدنا المبجل ونظرا لما في تلك الرسالة من بدائع
الأفكار، قام الشيخ الفاضل العلامة الشيخ قاسم شيرزاده بتحقيقها وتصحيحها
والتعليق عليها حسب الحاجة، وقامت مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين
بنشرها، فشكر الله مساعي المؤلف والمعلق وشكر جهد الناشرين لأفكار علمائنا
الأبرار، وآثارهم.
مصادر المقدمة
لقد كثر التأليف والتحقيق حول شخصية وحياة شيخنا الشهيد النوري
16

من الموافق والمخالف، ربما تربو على العشرين كتابا بين مختص به أو مشير إليه
ضمن دراسات أخرى.
وها نحن نشير إلى بعض تلكم المصادر:
* - باللغة العربية
1 - أعيان الشيعة - للسيد محسن الأمين العاملي (ت 1371 ه‍) ج 24 طبعة
بيروت.
2 - شهداء الفضيلة - للشيخ عبد الحسين الأميني (1320 - 1390 ه‍) ص
356 - 358.
3 - معارف الرجال في تراجم العلماء والأدباء للشيخ محمد حسين حرز
الدين ج 2 ص 158.
4 - أحسن الوديعة في تراجم مشاهير مجتهدي الشيعة، للسيد محمد مهدي
الموسوي ج 2 ص 91.
5 - نقباء البشر في علماء القرن الرابع عشر للشيخ آغا بزرگ الطهراني
(1293 - 1389 ه‍) مخطوط.
* - المصادر باللغة الفارسية (فهي كثيرة جدا نشير إلى بعضها)
1 - المآثر والآثار، تأليف اعتماد السلطنة، طبع في طهران 1306 ه‍
ص 131.
2 - مقال " عقائد وآراء شيخ فضل الله نوري " تأليف فريدون آدميت، نشره
ضمن مجلة " جمعه ".
17

3 - پايدارى تا پاى دار، تأليف المحقق البارع الشيخ علي أبو الحسني،
طبع عام 1368 ه‍. ش، وهذا الكتاب أوسع ما ألف حول حياة الشيخ وأهدافه.
4 - شيخ فضل الله نوري ومشروطيت; روياروئى دو انديشه، تأليف ولدنا
المحقق الشيخ مهدي الأنصاري طبع عام 1411 ه‍.
5 - ريحانة الأدب لأستاذنا الجليل الشيخ محمد علي المدرس
التبريزي (1296 - 1373 ه‍).
6 - مكتوبات، إعلامية ها... پيرامون نقش شيخ شهيد فضل الله نوري،
بقلم محمد تركمان، 2 - 1.
ومن أراد التوسع في معرفة المصادر فليرجع إلى ما ألف حوله - رحمه الله -.
قم - 20 شعبان المعظم عام 1412
مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
جعفر السبحاني
18

بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة
" قاعدة ضمان اليد "
من القواعد المقررة عند الأصحاب " قاعدة ضمان اليد " وقد تداول فيهم
الاعتماد عليها، في أغلب الأبواب. والأصل في ذلك النبوي المشهور " على اليد ما
أخذت حتى تؤدي " أو " حتى تؤديه " (1) وإرسال الاستدلال به في كتب
الأصحاب قديما وحديثا من غير نكير قطعا.
فلنعطف عنان القلم إلى دلالته، ولقد اطلعت على كلام لبعض المتأخرين،
حيث حكم بإجماله من حيث احتياجه إلى التقدير، وتردده بين أمور لا يرجح
بعضها على بعض، وأطال الكلام فيه بما لا يخلو كل سطر منه عن وجوه النظر
لا يهمنا التعرض لها ونحن نشير إلى ما يساعد إليه النظر بتوفيق الله وإعانة رسول
الله والأئمة الاثني عشر - عليهم صلوات الله ما طلعت الشمس والقمر -.
فنقول: بعد مساعدة الظاهر، على أن المأخوذ نفسه، على صاحب اليد،
المعبر عنه باليد، لمناسبة أنه الآلة في البطش والقبض غالبا بالنسبة إلى سائر

1 - أخرجه أصحاب السنن والمسانيد مسندا، لاحظ سنن ابن ماجة 2 / 802، وسنن البيهقي 6 / 90،
ومسند أحمد 5 / 8 و 12، ورواه المحدث النوري في المستدرك 17 / 88 مرسلا والحديث ينتهي إلى
" سمرة بن جندب " وحاله معلوم ولكن إتقان المتن يحكي عن صحته وإن كان السند ضعيفا.
19

الجوارح كإطلاق العين، على الريبة لمناسبة حصول الاطلاع منها:
إن معنى كون الشئ المأخوذ على صاحب اليد، أنه في عهدته، وهو إطلاق
شائع في العرف قريب في تفاهمهم.
وتوضيح ذلك; أنه كما أن الذمة أمر معتبر عند العقلاء، قابلة لأن يعتبر
ثبوت المال فيها فيحكم باشتغالها، وأن يعتبر عدمه فيها، فيحكم بفراغها،
فكذلك العهدة أيضا اعتبار عقلائي; صح اعتبار ثبوت العين فيها وعدمه.
فكما أن مفاد قول القائل: " علي دين كذا "; الإخبار بثبوت المال في الذمة،
فكذا قوله: " علي العين الفلاني "; إخبار بثبوت العين في العهدة، وكلاهما
اعتباران عند العقل والعقلاء، موجودان في الخارج بوجود منشأ انتزاعهما كسائر
الاعتبارات العقلائية الانتزاعية، كالملك والحق ونحوهما، سيحكمون عليهما بآثار
كثيرة في مقاصدهم ومهماتهم.
بل صح الحكم باعتبارهما في وجه واحد، وإنما الفارق بينهما; أنهم يسندون
إلى الذمة مطلق المالية الكلية، وإلى العهدة المقيدة منها بالتشخصات العينية،
فكلمة " علي " في المقامين; للاستعلاء الحاصل في ثبوت متعلقة على وجه البت
والجزم; بحيث يتقطع به الاختيار.
فصار معنى الرواية على ما يساعده النظر بحسب متفاهم العرف; أن المال
المأخوذ نفسه على عهدة الآخذ، أي محكوم بأنه على عهدته، كما هو المحكم في
القضايا الشرعية ما لم يثبت أنها أخبار حتى يؤديه إلى مالكه، ولا يذهب عليك أنها
مسوقة حينئذ لبيان الحكم الوضعي وأما وجوب الحفظ والأداء، عينا أو بدلا فهو
من لوازم العهدة ولا حاجة إلى تقديرها، بل ولا حاجة إلى تقديره العهدة إذ هي عبارة
20

عن ثبوته عليه.
ثم إنه يحتمل أن تكون الرواية مخصوصة بإثبات عهدة العين إلى غاية الأداء
من دون تعرض لحكم صورة التلف، وثمرة إثبات العهدة لزوم أدائها.
فإن قلت: إنه لا معنى حينئذ لجعل الأداء غاية لوجوب الأداء، لأنه من
توضيح الواضح، لثبوت كل شئ إلى أن يرتفع، وثبوت كل حكم إلى أن يمتثل.
قلت: القضية غير مسوقة بمدلولها المطابقي لوجوب الأداء حتى تكون
الغاية ثابتة له، بل إنما مدلولها المطابقي هو: الحكم بثبوت العين في العهدة،
وسيقت الغاية غاية لهذا الثبوت، ولا يخفى أن ارتفاع ثبوت العين فيها بالأداء،
ليس من الواضحات ولا مما حكم به العقل، إذ من الممكن ثبوتها فيها على وجه
الدوام غير ممتد إلى غاية، إلا أنه حكم الشرع الشريف بارتفاعه عند الأداء.
ولازم هذا الوجه; أنه لو تلفت العين; فالعهدة باقية إلى يوم القيامة
ولا تسقط بشئ لانحصار الغاية المجعولة في الأداء وإن قلنا بلزوم أداء المثل
والقيمة لو قام عليه دليل، إذ الرواية حينئذ ساكتة عن حكم صورة التلف.
لكن الإنصاف: أن اللوازم المذكورة مما لا يلتزم به الفقيه، لوضوح إمكان
تفريغ العهدة عند الفقهاء، وأنه لا مستند لهم في تضمين المثل والقيمة في كثير من
الموارد إلا الحديث المذكور بل ترى منهم أنهم استفادوا منه خصوص صورة
التلف، فتدبر.
ويحتمل أن تكون مخصوص العين بمرتبتها الشخصية، بل تعمها بجميع
مراتبها، الأقرب فالأقرب، والأمثل فالأمثل، فتكون الرواية بمدلولها المطابقي دالة
على ثبوت المراتب في العهدة، وهذا هو المناسب لكلمات الأصحاب، والاعتماد
21

عليها لحكم صورة التلف في أغلب الأبواب ولباب التضمين; ويشهد له أن
العرف لا يعدون مالية المال أمرا مباينا عنه، بل النظر الأصلي في مهم الأموال على
ماليتها، وإن كانت لشخصيتها أيضا مدخلية في أغراضهم الخاصة، فيكون
توضيح معناها; أن العين بجميع مراتبها ثابتة في العهدة حتى يؤديها إلى ربها، فإذا
أداها إليه فرغت العهدة بمقداره، فإن كان المؤدى عينا حصل الفراغ التام، وإن
كان المثل أو القيمة فقد فرغت عن المالية وبقيت مشغولة لشخصية المال، لأنها
أيضا كانت مثبوتة فيه ولها دخل في الأغراض.
ثم إن الفراغ عن المالية أيضا يختلف بحسب أداء الفرد من النوع أو الجنس
أو المساوي في القيمة; وعليه فلا حاجة في الحكم بوجوب أداء المثل والقيمة، بل
ولا في تقديم المثل على القيمة: إلى التماس دليل من خارج، وهذا هو فارق بين
هذا الوجه والوجه السابق.
فإن قلت: فعلى هذا صح أداء المثل والقيمة بحكم الرواية مع وجود العين
ويحصل معه الخروج عن عهدة المالية ولا ينبغي أن يتفوه به أحد.
قلت: ليس ثبوت مراتب العين على نحو واحد، بل ولا عن سبب واحد، بل
المقصود أن المفهوم من الرواية; كون العين بواسطة الأخذ بإذنه بجميع مراتبها في
العهدة على نحو التعدد المطلوبي. فنفس الأخذ سبب لثبوت العين ويترتب عليه
وجوب أدائها، وهو مع التلف سبب لثبوت المثل فيها، وهما مع تعذر أداء المثل
سبب لثبوت القيمة فيها.
إلا أن الإنصاف، أن الالتزام بتعدد السبب مشكل، إذ الرواية غير متعرضة
إلا لإثبات ما تسبب عن الأخذ دون ما تسبب عنه شئ آخر.
22

فالوجه أن يقال: إن السبب واحد وهو نفس الأخذ، وإنما يتسبب عنه أمور
مترتبة في الوجود، نظير الملكية الحاصلة لمراتب الموقوف عليهم على الترتيب
بالجعل الأولي من المالك، بل وأمر المقام أوجه منها; لأن المراتب حاصلة بنفس
الحصول الأولي على نحو من الحصول. غاية الأمر أن اختصاص الأداء إنما يحصل
بعد تعذر المراتب الفوقانية وهذا كله واضح للمتدبر العارف بوجوه المعاني أو
صروف الكلام.
فإن قلت: إن التي تشتمل عليها العين من الحصة أو المالية فهي مقيدة بها
متعذر أداؤها بتعذر أدائها، وأما الحصة الأخرى والمالية المطلقة الموجودة في فرد
آخر، فثبوتها ووجوب أدائها يحتاج إلى دليل آخر لمغايرتها لما هي الثابتة بثبوت
العين.
قلت: لو سلمنا المغايرة عند التدقيق العقلي، فلا يخفى عدمها عند العرف
كما عرفت، ومن أن نظرهم الأصلي إلى المالية المطلقة، لا خصوص ما هي القائمة
منها بالعين، والرواية مسوقة لإثبات العين مع مراتبها المحكومة في العرف أنها من
مراتبها في العهدة، هذا كله.
ولكن الإنصاف أن هذا الوجه أيضا لا يخلو عن تعسف.
ويحتمل أن تكون مخصوصة بحسب الدلالة المطابقية بعهدة العين، ودلت
على وجوب أداء المثل والقيمة بالالتزام العرفي، إذ عهدة الشئ يلازم عندهم
لوجوب أداء العين مع بقائه، والمثل عند تلفه. فالغاية إنما سيقت لعهدة
العين فقط.
لا يقال: لو عمت العهدة صورة التلف فلا يعقل أن يكون الأداء غاية لها، إذ
23

يعتبر فيها إمكان حصولها ويمتنع الأداء مع التلف: لأنا نقول: الغاية إنما تصح في
ما بقي فيه الموضوع، وأما مع ارتفاعه فلا تختص بدلالة الاقتضاء بصورة بقاء
العين. ثم مع أن فرض التلف قد عرفت أنه ليس في حقيقة العهدة، بل إنما هو من
لوازم العهدة.
هذا، ولكن يرد على هذا الوجه لو سلمنا الملازمة العرفية أن مقتضاه ثبوت
وجوب أداء المثل والقيمة من دليل خارج، وهذا خلاف ما عليه طريقة الأصحاب
من الاعتماد بالحديث لوجوب أداء المثل والقيمة.
إلا أن يقال: إنه بعد ما ثبت أن الحكم من لوازم الموضوع عرفا، فإثبات
الموضوع جعلا أو إمضاء إثبات لحكمه كذلك، فتدبر.
هذا كله في الوجوه المحتملة وقد عرفت أن خيرها أخيرها ثم أوسطها.
ثم إنه ينبغي التنبيه على أمور راجعة إلى حال الأخذ والآخذ والمأخوذ، وأما
المأخوذ منه فلا تتفاوت فيه الحالات والصفات إلا من جهة الإسلام والكفر، فإن
المعتبر فيه أن يكون مسلما أو من بحكمه من أولي الذمة، وأما مال الحربي بشروطه
فهو مما ينتقل إلى صاحب اليد بالأخذ على الوجه المقرر في محله.
أما ما يرجع إلى الأخذ فأمور.
الأول: قد يتوهم اختصاص الأخذ بالعدوان والقهر بحسب الاستعمالات
العرفية كما يدعى ظهوره فيه بالتتبع في مواردها وعليه; فيختص مورد التضمين
بالغصب وهو فاسد لعموم الوضع وعدم حصول النقل العرفي ولا الانصراف
المعتد به.
24

نعم في بعض المقامات لخصوصية المقام يستفاد العدوان والقهر، وعليه;
فتكون قاعدة اليد أعم من الغصب، بل وهو كذلك قطعا لأن مدار رحى (1) باب
الضمانات يدور غالبا عليها فيدخل المقبوض بالسوم (2) والمقبوض بالعقود
الفاسدة مجانية كانت أو معوضة، بل وجميع الأيدي المأذونة بالإذن الشرعي، بل
والمالكي في وجه كما سيجئ إن شاء الله. ومنه يد الغاصب بعد إذن المالك
وغيرها، وهذا واضح للمتدبر والمتتبع في باب الضمانات.
الثاني: قد عرفت عدم اعتبار عنوان القهر على المالك، وهل يعتبر القصد أم
لا؟ فنقول: أما القصد إلى عنوان أنه مال الغير فغير معتبر قطعا، لصدق أخذ مال
الغير بدونه، وعدم مدخلية القصد والعلم في الحكم الوضعي، فيعم الأخذ
السهوي والنسياني والخطائي.
نعم قد يقال: يعتبر القصد إلى عنوان الأخذ، فلو لم يكن قاصدا عنوانه لم
يحكم بالعهدة لظهور إرشاد العقل في كونه مقصودا، بل وكونه اختياريا، فلو كان
على وجه الاضطرار لم يؤثر، وضعفه واضح لمنع اعتبار القصد والاختيار في نسبة
العقل، نعم لو كان الاضطرار بحيث لا يصدق الاستيلاء العرفي أمكن منع
التضمين - كما سيأتي إن شاء الله من أن المفهوم هو الاستيلاء العرفي، وعلى هذا
فيشمل القاعدة بحكم عموم الخبر لأخذ المجنون والصغير والمضطر ما لم يبلغ إلى
ذلك الحد المشار إليه، بل وربما يمكن دعوى شمولها لمثل يد النائم ولكن لم أجد
في كتب الأصحاب في مسألة ضمان النائم من حيث التلف السماوي تصريحا بل

1 - " الرحى " بفتح الراء والألف المقصورة، الدائرة التي تطحن الحب.
2 - سام - سوما وسواما - السلعة: عرضها وذكر ثمنها.
25

ولا تلويحا إلا من بعض الطبقة الثالثة (1) في مطاوي كلمات عناوينه، حيث يستفاد
منه القبول; ومن الشيخ في بعض أبواب جواهره حيث يستشم منه المنع.
وربما يقرب القبول بعد ما عرفت من عدم اعتبار القصد والاختيار في صدق
الأخذ، أن الظاهر عدم الريب عندهم في ضمان ما أتلفه النائم، وليس المدرك فيه
إلا عموم قوله: من أتلف، فإذا صدق الاتلاف منه فليصدق الأخذ، هذا مع أنه
يمكن دعوى القصد منه ولو من وجه فتدبر، والمسألة محل إشكال.
الثالث: وهل تختص الرواية بالأخذ الحدوثي أو تعمه والاستمراري، فلو
كان على غير وجه الضمان من أول الأمر، كما لو كان مالا لذي اليد، ثم إنه انتقل
بالأسباب القهرية كحلول الحول في الزكاة، أو الاختيارية، أو كان مال الغير ولم
يكن مضمونا بأن يكون وديعة أو غيرها; فيحكم بالعهدة وجهان.
والذي يقتضيه النظر هو الأخير.
وتوضيح ذلك; أنه لا ريب أن الأخذ بخصوص الجارحة المخصوصة وهي
اليد ليس له خصوصية، بل نقطع بعدم اعتباره، بل وكذلك الأخذ بمطلق
الجوارح، فلا بد من الخروج عن الظاهر البدوي; إما بالتزام أو مجاز مرسل، وحينئذ
فقد يتوهم أنه كناية عن الاستيلاء المطلق وهو ضعيف، لأنه مع عدم كونه أقرب
إلى المعنى الحقيقي; مستلزم لأن يكون كل على التصرف ضامنا كالسلطان القادر
على التصرف في ما بأيدي رعاياه، وكالقوي القادر على ما في أيدي الضعفاء وهو
بديهي البطلان، مخالف للإجماع بل الضرورة، بل التحقيق أنه كناية عن التسلط
الفعلي الصادق عليه الأخذ عرفا، وهو يختلف باختلاف المقامات، فقد يحتاج إلى

1 - المراد هو متأخري المتأخرين.
26

التقليب والتحريك وقد لا يحتاج إليه نظير القبض المختلف في المنقولات وغيرها،
وهذا ليس اختلافا في معنى الأخذ والقبض، بل لهما حقيقتان وجدانيتان، وإنما
الاختلاف بحسب خصوصيات المقام، فالمال المطروح في صندوقه الذي بيده
مفتاحه; مقبوض ومأخوذ بلا تحريك، بل ولا قصد مثل المطروح في جيبه، وأما
المطروح في الصحراء مثلا فيحتاج في صدق الأخذ عليه غالبا إلى نحو من
التقليب والتحريك، ولا يكفي فيه القصد فضلا عن عدمهما، وقد يكفي فيه
القصد ولا يحتاج إلى تحريك وتقليب، فالأوجه إحالة المصاديق إلى العرف، فإن
ضبطها على الوجه الكلي متعسر بل متعذر. والميزان هو ما عرفت من صدق
الاستيلاء الفعلي.
إذا عرفت هذا، فنقول: قد يتوهم ظهور الأخذ في الحدوثي من جهة أن
الماضي بهيئته ظاهر فيه، وهو ممنوع، ولو سلمناه فهو ظهور بدوي لا اعتداد به بعد
ما يستفاد من الحديث ومن سائر الأخبار المتفرقة في الأبواب; في أن المناط في
التضمين هو الاستيلاء على مال الغير.
والإنصاف; أن هذا الظهور كظهور كون الأخذ على وجه العدوان لو
سلمناه في بعض المقامات، فإنما هو لخصوصيات فيها. فالمرجع في المقام هو
العموم يعني الحكم بتضمين مطلق الأخذ، عدوانيا كان أو غيره، حدوثيا أو
استمراريا بمقتضى الظهور الوضعي بعد منع الانصراف، نعم قد يقال: إن في
الاستيلاء الاستمراري يعتبر القصد إلى الاستمرار لعدم صدق الأخذ مع عدمه،
إذ يعتبر فيه بحسب تفاهم العرف جهة اتصال إلى المالك وفيه تأمل، لاختلاف
الاستمرار بحسب المقامات، فما كان في حدوثه لا يحتاج إلى القصد كالمقبوض
27

باليد; لا يحتاج إليه في الاستمرار، إذ الأخذ أمر مستمر على الفرض، وإنما المعتبر هو
عنوان كونه ماله أو مال الغير وهو غير محتاج إلى القصد حاصل في نفسه، وأما
انتساب الأخذ إليه كما هو ظاهر الخبر فهو أيضا حاصل بدون القصد، وإن قلنا
بأن نسبة الفعل ظاهر في الاختيار، إذ الاستمرار تابع للحدوث فتأمل.
والحاصل أن حال الأخذ في الحدوث والاستمرار واحد، وإن اختلف
بحسب موارد صدقه. ثم إن ما ذكرناه من شمول اليد للاستمرار والحدوث مما
اتفقت عليه كلمة الأصحاب في مطاوي الأبواب، فإن بناءهم في أبواب الأمانات
كلية على أن الأمين إذا تعدى أو فرط يضمن وإن لم يكن التلف مستندا إلى فعله،
بل إلى الآفة السماوية، بل ويضمنون الودعي بمجرد قصد الخيانة لزوال أمانته به.
إلا أن يقال: إن الأخذ كما سيأتي يقتضي الضمان حتى في الأمناء، وإنما خرجت
بالدليل، فإذا زال المانع وهو الأمانة فلا مانع من تأثير الأخذ الأولي، وهذا بخلاف
ما إذا كان المال أولا مال الآخذ به فإن أخذ مال الغير يقتضي الضمان لا مال
نفسه، وفيه مع ما يجئ من منع الاقتضاء على وجه العموم أولا، وعدم معنى لتأثير
الأخذ الأولي ثانيا كما لا يخفى، إن حكمهم بضمان قيمة يوم الخيانة أو يوم التلف
ينافي أن يكون المؤثر هو الأخذ الحدوثي فتدبر، ومن هنا يمكن تطبيق حكمهم بأن
تلف المبيع، بل وكل مقبوض قبل القبض من مال بائعه على القاعدة من وجه،
وإن كان ينافيه التضمين بخصوص الثمن فتأمل.
هذا في حال الأخذ، وأما ما رجع إلى الآخذ فأمور:
الأول: لا إشكال في شمول الخبر لأخذ من لم يكن مأذونا من المالك، ولم يقع
الأخذ برضاه، وإنما الكلام والإشكال في مقامين: الأول: أنه هل يعم المأذون أيضا
28

فيكون خروج ما خرج من الأيدي المأذونة من باب التخصيص أو لا يعمه؟
والثاني: أن الخارج تخصيصا أو تخصصا مطلق اليد المأذونة، بل وما كانت برضا
المالك كالأخذ بشاهد الحال ونحوه أو خصوص الأمين.
أما المقام الأول; فمقتضى ظاهر قالب ألفاظ الخبر في نفسه كما عرفت هو
الشمول لجميع الأيادي. لكن يمكن أن يقال: إنه لا يشمل مثل يد الأمين،
وتوضيح ذلك يحتاج إلى بسط في الكلام فنقول:
قد يدعي أن أيدي الأمناء منزلة منزلة يد المالك، فإن حقيقة الاستيمان
استنابة عن المالك ومعه فخروج الأمناء يساوق خروج المالك في أنه خروج
موضوعي، إلا أن الدعوى المذكورة لا شاهد لها الفقد الدليل العام الدال على
التنزيل وما ثبت من الاستنابة، فإنما هي في خصوص الحفظ وما عنه من التقليب
والتحريك، مع أنها لو سلمناها فإنما هي مختصة بمثل يد الوكيل والودعي، وأما
سائر الأمناء كالمستأجر والمستعير وغيرهما فدعوى الاستنابة فيها ساقطة جدا،
والحاصل أن في أغلب الموارد ليست حقيقة الاستيمان استنابة، ولم يدل دليل
شرعي أو عقلي من خارج أيضا على التنزيل.
فالأوجه، أن يقال: إن إطلاق الرواية منصرف إلى غير الأمين. والسر فيه أن
أسباب الانصراف كثيرة ومن جملتها المناسبات الحكمية، فإن مناط الحكم وإن
كان ظنيا; قد يوجب الانصراف كما عليه بنائهم في كثير من الموارد ومنها: اعتبار
الملاقاة، ونجاسة الماء القليل مع إطلاق مفهوم قوله - عليه السلام - " إذا بلغ الماء قدر
كر لم ينجسه شئ " (1) وعلى هذا فيمكن دعوى أن المناط في تضمين الآخذ لمال

1 - الوسائل: ج 1، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث: 1 وغيره.
29

الغير، ولو بالتلف السماوي، إما مراعاة عدم وقوع الضرر على المالكين من جهة أنه
لو انحصر المضمن في الاتلاف والتعدي لكان طريق إثبات الاتلاف والتعدي
مسدودا غالبا، لصعوبة إثباتهما، وإما من جهة مال المسلم وأن وقوع اليد عليه
يوجب الغرامة صيانة لماله وكلا الوجهين لا يأتيان في أيدي الأمناء إذ بعد تسليط
المالك الغير على ماله على وجه الاطمينان به كما هو مفاد الاستيمان لا وجه
للملاحظتين لأنه المسلط غيره على ماله. وإن شئت توضيح ذلك بوجه أمتن،
فنقول: إذا فرض تسليط المالك غيره على ماله على عنوان الاطمينان به كما عليه
بناء العقود الاستيمانية فإن القبض فيها على هذا العنوان وإن كان للتغير محل
لا يثق به المالك فالاطمئنان المذكور وإن كان لا يقتضي إلا الفراغ عن جهة
التعدي والتفريط إلا أن إعطاءه على هذا الوجه يلازم عرفا لرفع اليد عن نفس
تلفه أي عن جهة احترام ماله من حيث التلف السماوي إذ لا معنى لرفع التعدي
والتفريط بملاحظة الاطمينان مع كون التلف ولو بدونهما مضمنا إذ عليه فهو
ضامن على كل تقدير، فلا ثمرة في الملاحظة المذكورة، فهي إنما تنفع بعد رفع اليد
عن الجهات الأخر. وربما يشهد لهذا المعنى الأخبار الواردة في أبواب الاستيمان
وتعليلاتها، مثل ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: سأته عن
الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق أعلى صاحبه ضمان؟ فقال: ليس عليه غرم
بعد أن يكون الرجل أمينا (1) فإن نفي الغرم عن المستبضع على الإطلاق وتعليله
بأنه أمين إما أن يشمل التغريم مطلقا ولو من جهة التلف السماوي كما هو فرض
السؤال، أو يختص بدعوى التعدي والتفريط، كما هو المناسب للتعليل فيكون

1 - الوسائل: ج 13، الباب 1 من أبواب أحكام العارية، الحديث: 8.
30

عدم الضمان من جهة التلف السماوي مفروغا عنه بين السائل والمسؤول عنه - عليه
السلام - من حيث إن من المركوزات عند العقلاء أن الاستبضاع ونحوه من
الاستيمانات، ليس فيها اقتضاء من جهة التلف.
ومثل قوله - عليه السلام -: ليس لك أن تتهم من قد ائتمنته. (1)
فإن النهي عن الاتهام لا يناسب مع كون التلف مضمنا، فدل على أن عدم
الضمان بالتلف أمر لا حاجة إلى بيانه لفراغ العقلاء عنه بعد الاستيمان.
ومثل قوله - عليه السلام -: في مكاتبة القاساني بعد السؤال عن رجل أمر رجلا أن
يشتري له متاعا أو غير ذلك، فاشتراه فسرق أو قطع عليه الطريق من مال من
ذهب المتاع من مال الآمر أو من مال المأمور؟ فكتب - عليه السلام -: من مال الآمر. (2)
فإن الظاهر منه أن الأمر والتسليط ينافي التطمين.
ومثل قوله - عليه السلام -: صاحب الوديعة والعارية مؤتمن. (3)
بالتقريب المتقدم.
إلى غير ذلك من الأخبار التي تشهد له بالتقريبات المتقدمة مما قدمناها.
هذا تمام ما يمكن في توجيه دعوى الانصراف في الحديث الشريف للمناسبة
الحكمية، تارة بالرجوع إلى الوجدان، وأخرى باستكشافها من كلمات من علمهم
الله جل جلاله الحكمة والبيان ونزل عليهم القرآن والفرقان، عليهم صلوات الله
الملك المنان.

1 - الوسائل: ج 13، الباب 4 من أبواب أحكام الوديعة، الحديث: 10.
2 - المصدر نفسه: الباب 30 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث: 15.
3 - المصدر نفسه: الباب 1 من أبواب أحكام العارية، الحديث: 6.
31

ولكن الإنصاف، أن النفس بعد في تزلزل من ذلك إذ نعلم مناط اقتضاء
اليد على مال الغير، أن يكون عليه تلفه حتى يدعي انتفاؤه في الأمين، إذ من
الممكن، أن يكون الوجه أمرا ساريا في جميع الأيادي، ومجرد استنباط مناط لم يعلم
كونه مظنونا فضلا عن كونه معلوما لا يوجب صرف الإطلاق بعد إحراز كونه في
مقام البيان، لأن الانصراف في قوة التقييد بل هو تقييد لبي لا يصار إليه إلا بعد
ثبوت المقيد على الوجه المعتب ولا يكفي الاحتمال فيه.
وأما الأخبار الواردة، فممنوعة، بشهادتها على التقييد اللبي، سواء كان نفي
الضمان المسبب عن التلف السماوي مدلوله التضمني أو الالتزامي، أو لعله من
جهة مفروغيته من جهة الشرع، هذا ولكن مع هذا ليس دعوى الانصراف بذلك
البعيد، فتدبر.
المقام الثاني: قد يتوهم أن الخارج من قاعدة اليد مطلق الأيادي المأذونة،
من المالك أو من قام مقامه، بل وما كان برضاه وإن لم يكشف عنه فعل، ولا لفظ
كالأخذ بشاهد الحال، وربما يؤيده تعليل كثير من الأصحاب في كثير من الأبواب
لعدم الضمان، بأنها مأذونة، بل ربما يدعي أن الأمين الذي علل به عدم الضمان في
الأخبار وفي كلمات الأخيار هو مطلق المأذون إذ ليس المعتبر، الوثاقة الواقعية، بل
كونه أمينا، من جهة تسليط المالك إياه على وجه الاطمينان وهذا موجود في موارد
الإذن كلها، إذ العاقل لا يسلط على ماله أحدا إلا على وجه الاطمينان ببقائه، وعدم
إتلافه وعليه، فالخارج من القاعدة، بمقتضى استيناس الحكم وأخبار الأمين
ومعاقد الإجماعات، هو المأذون من المالك المساوي في الصدق مع الأمين.
وأورد عليه، بانتقاض ذلك بموارد كثيرة، حكموا بالضمان، مع وجود الإذن
32

كالمقبوض بالسوم والمقبوض بالعقد الفاسد والغاصب الذي أذن له المالك ومع
عدم التوكيل في القبض، والطبيب والصائغ، والملاح والمكاري والأجير وغير
ذلك.
أقول: ولا يخفى عدم ورود أكثر موارد النقض كالمقبوض بالعقد الفاسد
الذي أذن المالك فيه على وجه الضمان وكالطبيب والصائغ وغيرهما إذ الحاكم
بالضمان فيها لو قلنا به، فإنما هو للأخبار الواردة فيها ولا غرو في ثبوت المخصص
في اليد المأذونة إذ ليس مما يدعي عدم قابليته للتخصيص، نعم يبقى مثل
المقبوض بالسوم والغاصب المأذون لو قلنا فيها بالضمان.
فالتحقيق في المقام، بحيث يرتفع عنه غواشي الأوهام أن يقال: إن الثابت
من الأدلة وهي الإجماعات المحكية البالغة حدا يمكن تحصيل الإجماع منها،
والأخبار المعللة المستفيضة والمتفرقة في أبواب الاستيمانات التي سنتلوا عليك
طائفة منها، هو خروج الأمين، ولم يدل دليل على خروج المأذون بهذا العنوان إلا
دعوى الانصراف للمناسبة الحكمية التي لو سلمناها فهي مقصورة على الأمين.
ودعوى أن مطلق المأذون أمين مدفوعة، بوضوح الفرق بين الاستيمان
والإذن، فإن الإذن ليس إلا إعلام الرضا ورفع المنع، والاستيمان تسليط الغير على
المال على وجه الإبانة أي المعاملة معه معاملة الأمين، ومن المعلوم أن الثاني أخص
من الأول إذ لم يؤخذ في الأول تسليط فضلا عن كونه على وجه الاطمينان.
توضيح ذلك، أن معنى كون العقود الاستيمانية مثل الإجارة والوكالة
والرهن والمضاربة والمساقات ونحوها استيمانات، أنها بحقائقها تقتضي تسليط
الغير على المال، إذ به تتحقق الانتفاعات المقصودة بالأصالة، وهذا معاملة مع
33

الغير معاملة الأمين، لأنه سلطه على أن ينتفع ويثقه، وإلا فليس المعتبر فيها أن
يكون الغير أمينا موثوقا به قطعا، وأما مطلق الإذن فهو عبارة عن رفع المنع عن
التصرف، نظير الأمانة الشرعية، ومن المعلوم أن هذا المقدار ليس تسلطا فضلا عن
كونه على الوجه الخاص، ولا منافاة بينه وبين القسمين، وإنما المسلم، لو تنزلنا
منافاته مع تسليطه.
والحاصل، أنه لا ينبغي الريب في أن المالك لو صرح " بأبي لا أمنعك عن
التصرف " وقد ارتفع من جانبه المنع من التصرف، فلا يقتضي ذلك لرفع اليد عما
تقتضيه اليد من الضمان، عند التلف وليس هذا استيمانا حتى يتمسك بذيل أدلة
الأمين، نعم لو سلطه ببعثه على الأخذ، أمكن القول بالمنافاة، نظرا إلى ما عرفت
من أن من لوازمه عرفا رفع اليد عما تقتضيه اليد مراعاة للمالك وأنه استيمان، وقد
اطلعت على كلمات كثيرة من الأصحاب تشهد بما ادعيناه من مغايرة الإذن
والاستيمان وإن كانت كثيرة منها تشهد بخلافه، حيث صرحوا في باب العارية بأن
حقيقته الإذن وأنه لا يعتبر فيها لفظ خاص ولا مطلق اللفظ، قال في
التذكرة: " ويكفي قرينة الإذن بالانتفاع من غير لفظ دال على الإعارة أو
الاستعارة " (1) وإن كان ربما يستشكلون في مثل الفراش المبسوطة للانتفاع، إلا أنه
من جهة اعتبارهم الإذن لشخص خاص، لا لعدم كفاية الإذن فتسالمهم على أن
العارية إذن وأنها لا ضمان فيها لأنها استيمان يكشف عن أن الاستيمان عندهم
مساوق للآذن.
ومما يشهد لما ادعيناه ما صرح به في التذكرة أيضا في باب الوكالة " إذا تعدى

1 - التذكرة: ج 2، كتاب العارية، ص 210.
34

الوكيل أو فرط مثل أن يلبس الثوب الذي دفعه الموكل ليبيعه، ضمن إجماعا لأن
الوكالة تضمنت شيئين الأمانة والإذن في التصرف فإذا تعدى زالت الأمانة وبقي
الإذن بحاله " (1).
وهذا صريح في أن الإذن بنفسه لا يقتضي سقوط الضمان، فلا بد من تأويل
في ظاهر كلامه السابق من إرادة الإذن الخاص، فتأمل، وإن أبيت عن ذلك
فكلماتهم تسبب التشويش ولا يصح الاعتماد عليها، ولا يحسب ما هو المتيقن منها
من التسليطات الخاصة الحاصلة في العقود الاستيمانية، ولو تنزلنا فمطلق
التسليط، وأما مطلق الإذن فلا دليل عليه لما عرفت من تشويش كلمات الأصحاب
ومعاقد الإجماع، ولقد اطلعت على كلام شيخنا الأستاذ الأكبر في مطاوي كلامه،
في قاعدة " ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده " ينطبق على بعض ما قررناه
" قال: فإن قلت: إن الفاسد وإن لم يكن له دخل في الضمان إلا أن مقتضى عموم
" على اليد " هو الضمان خرج منه المقبوض بصحاح العقود التي تكون مواردها غير
مضمونه وبقي الباقي، قلت: ما خرج به المقبوض بصحاح تلك العقود يخرج به
المقبوض بفاسدها وهي عموم ما دل " أن من لم يضمنه المالك سواء ملكه إياه بغير
عوض أو سلطه على الانتفاع به، أو استأمنه عليه لحفظه أو دفعه إليه لاستيفاء
حقه أو تصرفه بلا أجرة أو معها، إلى غير ذلك فهو غير ضامن " أما في غير
التمليك بلا عوض، أعني: الهبة فإنه مثل المخصص لقاعدة الضمان، عموم ما دل
على أن من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن بل ليس لك أن تتهمه، وأما في
الهبة الفاسدة، فيمكن الاستدلال على خروجها بفحوى ما ذكر - إلى أن قال -

1 - التذكرة: ج 2، كتاب الوكالة، ص 129.
35

فحاصل أدلة عدم ضمان المتأمن، أن في دفع المالك إليه ملكه على وجه لا يضمنه
بعوض واقعي، أعني: المثل والقيمة ولا جعلي، فليس عليه نماؤه، انتهى كلامه ".
وفيه مواقع للتأمل.
فبالحري ذكر الأخبار التي عثرت عليها في الأبواب المتفرقة مما يدل على عدم
ضمان الأمين لأنه أمين، تيمنا بها ولعله يستفاد منها ما يغنينا عن هذه الكلمات
بالمرة فإن كلامهم - عليهم السلام - نور للقلب وضياء للباصرة.
فمنها: ما رواه القاساني: كتبت إليه - يعني: أبا الحسن - عليه السلام - - وأنا
بالمدينة سنة إحدى وثلاثين ومائتين: جعلت فداك رجل أمر رجلا أن يشتري له
متاعا أو غير ذلك فاشتراه فسرق منه أو قطع عليه الطريق من مال من ذهب
المتاع؟ من مال الآمر أو من مال المأمور؟ فكتبت - عليه السلام -: من مال الآمر. (1)
ويمكن أن يستفاد من هذا الخبر أن مطلق التسليط والبعث، موجب
لصرف الضمان.
ومنها: ما رواه يعقوب بن شعيب، قال: سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن
الرجل يبيع للقوم بالآجر وعليه ضمان مالهم؟ قال: إنما كره ذلك من أجل أني
أخشى أن يغرموه أكثر مما يصيب عليهم فإذا طابت نفسه فلا بأس. (2)
أقول: تعلق الضمان على طيب النفس مما لا يصح إلا بأن يراد السؤال عن
اشتراط الضمان فليس هذا بذلك البعيد خصوصا بعد ما عرفت وعليه فلا دخل
للرواية بالمقام إلا من جهة مفروغية عدم ضمان الأجير للتلف.

1 - الوسائل: ج 13، الباب 30 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث: 15.
2 - المصدر نفسه: الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث: 15.
36

ومنها: ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: سألته عن
الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال: ليس عليه
غرم بعد أن يكون الرجل أمينا. (1)
أقول: قوله - عليه السلام - " بعد أن يكون الرجل أمينا " يحتمل أن يكون شرطا
للحكم في قوة القول، بأنه ليس عليه غرم إذا كان أمينا، ويحتمل أن يكون علة
للحكم في قوة القول، بأنه كذا لأنه أمين أي من جهة استبضاعه الذي وضع على
الاستيمان، فيدل على أن الأمين لا يدخله التغريم، لكن غير بعيد ظهوره في الوجه
الأول كما يشهد له جملة من الأخبار في أبواب الاستيمانات، مثل قوله - عليه السلام -:
إذا كان عدلا مسلما فليس عليه ضمان. (2)
وقوله - عليه السلام -: لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت، إذا كان مأمونا. (3)
وقوله - عليه السلام -: العامل إن كان مأمونا فليس عليه شئ وإن كان غير
مأمون فهو ضامن. (4) إلى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع في الأبواب، ولكن يبعده،
أن الظاهر نفي الضمان بحسب الواقع وهذا لا يدخل للأمانة والعدالة فيه إلا إذا
كان المراد الضمان من جهة التعدي والتفريط، مع أن الضمان من جهتهما أيضا
تابع لواقعهما فلا بد أن يراد بالنفي نفي التغريم بلا بينة من مدعيهما فيكون معنى
النفي تقديم قوله في مقام الدعوى، ويؤيده، العدول في التعبير عن الضمان إلى
الغرم، ولكن مع هذا لا ينفع لاستفادة كلية عدم ضمان الأمين بالتلف السماوي

1 - الوسائل: ج 13، الباب 1 من أبواب أحكام العارية، الحديث 8.
2 - المصدر نفسه: الحديث: 2.
3 - المصدر نفسه: الحديث: 3.
4 - المصدر نفسه: الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث 11.
37

منه إلا من جهة المفروغية التي تطابق عليها الأخبار عند الإنصاف، وإلا فالأخبار
المتقدمة مع شهادة ما عرفت منها في التصريح باشتراط الأمانة ظاهرة في دعوى
التفريط والتعدي فحمل على الكراهة، وإلا فدعوى التعدي والتفريط، مسموعة
حتى على الأمين العادل.
ومنها: قول الصادق - عليه السلام - في رواية الحلبي: صاحب الوديعة والبضاعة
مؤتمنان. (1)
أقول: وهذا أحسن روايات الباب من جهة دلالتها على أن الايتمان أمر
مفروغ عنه بحسب الحكم بحيث يغني ذكر موضوعه عن حكمه، ولكن فيها ما
عرفت فيما تقدم من أنها لا تدل على أزيد من أن الأمين يقدم قوله في دعوى
التعدي والتفريط، فإنها ناظرة إلى المرسلة المشهورة: ليس على الأمين إلا اليمين.
نعم هي كسوابقها تدل على عدم الضمان بالتلف السماوي من جهة المفروغية وأنه
لا وجه لنفي توجه شئ عليه إلا اليمين، مع كون تلفه مضمنا مطلقا، والحاصل،
أن القدر المتيقن من آثار الأمانة هي ما عرفت وهو المناسب لعنوان الأمانة.
ومنها: ما رواه السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي - عليه السلام - في رهن
اختلف فيه الراهن والمرتهن فقال الراهن: هو بكذا وكذا، وقال المرتهن: هو بأكثر،
قال علي - عليه السلام -: يصدق المرتهن حتى يحيط بالثمن لأنه أمينه. (2)
أقول: مع ضعف سندها وإعراض الأصحاب غير الإسكافي عنها لبنائهم
على تقديم قول الراهن الموافق للأصل في وجه للأخبار المدعى في محكي جامع

1 - الوسائل: ج 13، الباب 4 من أبواب أحكام الوديعة، الحديث: 1.
2 - المصدر نفسه: الباب 17 من أبواب أحكام الرهن، الحديث: 4.
38

المقاصد تواترها وموافقتها للتقية أنه لا يلائم التعليل لعدم اقتضاء الأمانة
لتصديق المرتهن فيما على الرهن لعدم رجوع الدعوى إلى أمر ينافي الأمانة، فلذا
يحتمل قويا أن يكون المراد الأمانة والوثاقة لا الاستيمان العقدي، فتأمل، وعلى كل
حال فلا يستفاد منها ما ينفع للمقام كما لا يخفى.
ومنها: قوله - عليه السلام -: وصاحب العارية والوديعة مؤتمن (1) وقد تقدم الكلام
في نظيرها.
ومنها: قوله - عليه السلام -: ليس لك أن تتهم من قد ائتمنته ولا تأمن الخائن. (2)
وفيها أيضا ما عرفت مرارا.
ومنها: قوله - عليه السلام - كان أمير المؤمنين - عليه السلام - يضمن القصار والصائغ
احتياطا للناس كان أبي يتطول عليه إذا كان مأمونا. (3)
ومنها: الأخبار الكثيرة الواردة في باب القصار والحمال والجمال والملاح، من
أنه كان مأمونا فلا يضمنه وأنه ضامن إلا أن يكون ثقة مأمونا، وفيها ما عرفت من
أنها لا تنفع في المقام بوجه.
أقول: والإنصاف أن الأخبار المذكورة بحسب الدلالة المطابقية غير واردة
إلا في مقام دعوى التعدي والتفريط، نعم بحسب الالتزام تدل على في الضمان
عن الأمين بسبب التلف السماوي إذ لولاه لكان نفي الضمان على الوجه المذكور
لغوا.

1 - الوسائل: ج 13، الباب 1 من أبواب أحكام العارية، الحديث: 6.
2 - المصدر نفسه: الباب 9 من أبواب أحكام العارية، الحديث: 1.
3 - المصدر نفسه: الباب 29 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث: 4.
39

ثم إن الظاهر منها أن المفروغية المذكورة، نظرا إلى منافاة الاستيمان مع
التضمين، ليست من جهة وضوح الحكم بحسب الشرع، وإلا لكان في تلك
الأخبار بكثرتها سؤالا عنه بل من جهة وضوحه عند العقلاء، على نحو ما عرفت
فتكون نفس تلك الأخبار قرينة على ما تقدم من دعوى الانصراف في حديث إلى
غير الأمين، ومما قررناه في تضاعيف ذكر الأخبار وما بعده ظهر ما في كلام شيخنا
الأستاذ الأكبر، من التمسك بعموم أدلة الاستيمان لقاعدة " ما لا يضمن " في غير
التمليك بلا عوض وبفحواه فيه، فتأمل، ثم إن المستخرج منها إما بالمطابقة أو
الالتزام، ليس إلا الأمين الذي قد عرفت أنه أخص من عنوان المأذون.
ولو فرضنا التمسك في الخارج، وأنه خصوص الأمين أو الأعم منه ومن
المأذون فإن اعتمدنا في الخروج على الأدلة اللفظية، وقلنا بأن عنوان الأمين مجمل
فالمرجع هو إطلاق دليل " اليد " لدوران التقييد المنفصل بين الأقل والأكثر
فيقتصر على الأقل، وإن اعتمدنا على الدليل اللبي، أعني: حكم العقل من جهة
الاستيناس بالحكم، فالأقوى سريان الإجمال إلى الإطلاق ووجوب الرجوع إلى
الأصول العملية.
ودعوى أن القضايا العقلية كما علم في محله معلومة الموضوع، فكيف يفرض
فيها الإجمال الساري، مع أنه لو فرض الإجمال فيها فهي في حكم التقييد المنفصل
لاستقلاله في الحكم فلا وجه للحكم بالسريان، مدفوعة بأن المقصود من الحكم
العقلي في المقام ما عرفت مرارا هو إدراكه الظني لمناط الحكم الموجب لانصراف
المطلق، وهذا قابل لأن يدخل فيه الشك والتردد في الموضوع، كما لا يخفى.
وأما حديث الانفصال، فهو حق في العقل المستقل، وأما في مثل المقام
40

الراجع إلى سبب الانصراف - كما عرفت - فهو في حكم التقييد المتصل، إذ المدار
فيه على عدم انعقاد الظهور مع وجوده. والحاصل، أنه لا فرق في أسباب
الانصراف بين الإدراكات الظنية من العقل وغيره من غلبة الاستعمال والوجود في
أنه إذا ترددت بين أميرين متباينين، أو الأقل والأكثر لم يصح الاعتماد على المطلق
كما لا يصح في المقيد المتصل المجمل، نعم هنا كلام لا اختصاص له بالمقام وهو
أنه كيف يتصور سريان الإجمال بمجرد وجود ما يصلح للصرف مع تردده وإجماله،
لفظيا أو لبيا إذ الظهور ما لم يقم صارف كامل يصرفه، معتبر، ومجرد الصلوح
والشأنية لا يكفي فيه، وهذا إشكال ينبغي التصدي لجوابه في محله، وحاصله:
إمكان تصوير وجود قرينة صالحة للصرف ولاعتماد المتكلم عليها لكن لم نعلم
اعتماده عليها، إما لغفلته أو لأمر آخر، مثل الشهرة البالغة إلى حد يصح الاعتماد
عليها، فتارة يتكل المتكلم عليه في المحاورات فيريد الأفراد الشائعة من دون
نصب قرينة عليه، وأخرى لا يتكل فيريد المهية من غير حاجة إلى نصب قرينة
وحينئذ فيحتاج الاعتماد إلى قرينة أخرى ومع عدمه فلا يمكن الحكم بالعدم لما
عرفت، وتمام الكلام في محله، هذا تمام الكلام في مقتضى القواعد على تقدير إجمال
المقيد على طريقة شيخنا الأستاذ الأكبر - طاب ثراه -.
ولنا فيه تأمل وإشكال لا يليق المقام للبسط فيه، ونشير إليه إجمالا، وهو أن
التفصيل بين المتصل والمنفصل في المجمل إنما يصح في باب العموم حيث إنه
ظهور لفظي لا ينعقد مع وجود المخصص المتصل المجمل، فيسري إليه الإجمال
حينئذ بل ومع الانفصال مع تردده بين المتبائنين لحصول العلم إجمالا بعدم إرادة
أحدهما، وأما مع تردده بين الأقل والأكثر فينحل المشكوك إلى معلوم تفصيلي
وشك بدوي، فيرجع في الثاني إلى العموم وأصالة عدم الصارف.
41

وأما الإطلاق، فحيث إنه على المختار تبعا للسلطان وجماعة من محققي
الطبقة الثالثة (1) ظهور لبي حاصل من كون المتكلم في مقام البيان وعدم البيان،
وبعبارة أخرى من كونه في مقام البيان بهذه القضية الإطلاقية لا بها وبقضية أخرى
فمع وجود أثر مجمل مردد بين أمرين سواء كانا متباينين، أو الأقل والأكثر، وسواء
كان متصلا أو منفصلا، وسواء كان لبيا، أو لفظيا، لم يبق ما يحكم به بالشيوع
لانعدام المقتضي بوجود ذلك الأمر المجمل، إذ معه لا يصح الحكم بعدم البيان.
ودعوى أنه مع الانفصال وتردده بين الأقل والأكثر فالمقدار الثابت من
البيان هو الأقل والزائد مشكوك ومدفوع بالشك كالشك في إجمال التقيد، مدفوعة
بأن الشك في كون هذا الأمر بيانا ولا ينفع في ذلك أصالة عدم التقيد، وتفصيل
الكلام فيه وبيان الفرق بينه وبين المخصص خارج عن وضع الكلام في المقام،
فليطلب في محله، أو من المراجعة إلى الوجدان بمساعدة منها عليه.
تنبيه: وحيث انجر كلامنا إلى التكلم في الشبهة المفهومية في المقام،
فالمناسب أن نتبعه بالتكلم في الشبهة المصداقية، فنقول: حيث عرفت أن الأخذ
على قسمين، قسم يضمن وقسم ليس بمضمن، فلو اشتبها في الخارج ولم يعلم أنه
من الأول أو الثاني، كما لو لم يعلم أنه على وجه الأمانة، أو لا، فعلى ما نختاره، من
عدم جواز الرجوع إلى العموم والإطلاق في الشبهات المصداقية، لا وجه للرجوع إلى
إطلاق دليل " اليد " في المقام، فنحكم بالتضمين، خلافا لجماعة من المتأخرين تبعا
للعلامة، حيث يظهر منهم الاعتماد عليه في كثير من جزئيات المقام، كما يظهر
للمتتبع.

1 - المراد منهم متأخري المتأخرين.
42

قال في التذكرة: في مطاوي فروع ما لو اختلف المالك والمتصرف في المال،
فقال الأول: هو عارية، وقال الثاني: بل هو إجارة، والأصل فيما يقبضه الإنسان
من مال غيره الضمان لقوله صلى الله عليه وآله: على اليد ما أخذت حتى تؤديه. (1)
وقال في مسألة اختلافهما: فقال صاحب اليد وديعة عنده، وادعى المالك
الاقتراض، قدم قول المالك مع اليمين، لأن المتشبث يزيل بدعواه ما ثبت عليه
من وجوب الضمان بالاستيلاء على مال الغير. (2)
ويمكن أن يوجه بأنه وإن لم يجز التمسك بالإطلاق والعموم في الشبهات
المصداقية على وجه الإطلاق، لكن قررنا أنه يجوز التمسك فيها فيما إذا كان
المخصص لبيا، ولعل نظرهم أن المقام منه نظرا إلى ما قدمناه، من الاستيناس
الحكمي، وأما الأدلة اللفظية من الأخبار ومعاقد الإجماعات، فهي ناظرة إلى ذلك
الأمر اللبي، إذ مجرد وجوب اللفظ ما لم يفهم منه العنوان غير مثمر، كما لا يخفى.
وفيه: أن مقايسة المقام بما ثبت فيه التخصيص باللب في جواز الرجوع إلى
العموم في رفع شك المصداق، بين الفساد، لوضوح أن الحكم إنما هو فيما إذا كان
اللب قضية مستقلة يخصص بها العموم ويقيد بها الإطلاق كما في المثال السائر،
وهو قول المولى " أكرم جيراني " مع حكم العقل بتا بعدم وجوب إكرام الجيران
العدو، وأما في مثل المقام الذي قد عرفت، أن المقصود من حكم العقل فيها أنه
يحكم بالانصراف بواسطة درك مناطه فلا وجه للرجوع إلى العموم لأنه في حكم
التخصص والتقيد وهذا بعد الشبيه واضح، لا نطيل فيه الكلام، مضافا إلى أن

1 - التذكرة ج 2، كتاب العارية، ص 217.
2 - المصدر نفسه: كتاب الوديعة، ص 208.
43

المقرر الرجوع في الشبهة المصداقية إلى العموم، وأما الإطلاق فيأتي فيه التأمل
السابق حتى في مثل القضية اللبية المستقلة، فتدبر.
والأولى عدم احتياج كلمات المستدلين بالإطلاق في المقام إلى التوجيه، إذ
هو على أصلهم من جوازه مطلقا، كما يظهر للمراجع إلى كتبهم في أبواب العقود.
ثم إنه قد يستدل على ذلك بعد تسليم عدم صحة الاعتماد على العموم
والإطلاق بقاعدة " المقتضي والمانع " لأن العموم والإطلاق يكشفان عن المقتضي
كما أن المقيد والمخصص يكشفان عن المانع وحينئذ فيدعى أن بناء العقلاء بعد
إحراز المقتضي على العمل به ما لم يثبت المانع وله وجه، ولتمام الكلام محل آخر.
وقد يستدل على ذلك، بما رواه إسحاق بن عمار، عن الكاظم - عليه السلام - قال
سألته عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعف فقال الرجل: كانت عندي
وديعة، وقال الآخر: إنما كانت عليك قرضا، قال: المال لازم له إلا أن يقيم بينة أنها
كانت وديعة. (1)
وتقريب الاستدلال به أن الوجه في تقديم قول المالك والحكم بلزوم المال
إنما هو لأن الأصل أن يكون المال المقبوض مضمونا فعلى مدعي الأمانة البينة
عليها، وفيه ما لا يخفى.
أما أولا: فلأن المفروض فيه دوران المال بين أن يكون ملكا لصاحب اليد،
أو أمانة عنده فلا يمكن أن يكون الوجه فيه أصالة الضمان في ملك الغير، إذ هي
فرع ثبوت ملك الغير كما لا يخفى.

1 - الوسائل: ج 13، الباب 7 من أبواب أحكام الوديعة، الحديث: 1.
44

وأما ثانيا: فلأن الظاهر أن الوجه في التقديم أن صاحب المال أولى في ماله
بأنحاء تقليباته وتحرياته، ويشهد له الاستدلال بها في مسألة الاختلاف في الرهن
والوديعة فادعى المالك الأولى، وصاحب اليد الثاني كما في الجواهر، بالتقريب
المتقدم أي من حيث دلالتها على تقدم قول المالك في المال وإن احتمل الوجه
الأول لكنه أعرض عنه (1)، فراجع.
ويشهد لذلك أيضا، ما رواه في الوسائل: عن إسحاق بن عمار في مفروض
المسألة إلا أنه قال الصادق - عليه السلام - في الجواب: " القول قول صاحب المال مع
يمينه " (2) فإن التعبير بصاحب المال ربما يشير إلى أنه الوجه في التقديم مع إمكان
دعوى اتحاد الروايتين.
وأما ثالثا: فلأنا لو لم نجزم بما قدمناه فلا أقل من الاحتمال المسقط
للاستدلال، مع أنه ليس في الرواية ما يدل على القاعدة الكلية إلا بعد معلومية
المناط وتنقيحه، قطعا ودعواه مجازفة، فحصل من جميع ما ذكرنا أنه لو تم الرجوع
إلى المقتضي بعد كشف العموم عنه في أمثال المقام صح الحكم بأن الأصل في اليد
هو الضمان وإلا فلا وجاهة للأدلة المتقدمة فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي
أي البراءة عن وجوب رد المثل والقيمة، هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالاستيمان
المالكي.
الثاني: من الأمور المتعلقة بالأخذ، أنه قد اشتهر أنه لا ضمان في الأخذ إذا
كان على وجه الأمانة الشرعية، والكلام فيها من حيث إنها تحصل بمطلق الإذن

1 - الجواهر: 25 / 262.
2 - الوسائل: ج 13، الباب 18 من أبواب أحكام الرهن، الحديث: 1.
45

الشرعي إلا أن يشترط الضمان، أو يعتبر فيها تسليط وبعث لأنه من مطلق الإذن
كالكلام في الأمانة المالكية التي تقدمت، وإنما الغرض فيها بيان المدرك خرج به
عن عموم حديث " اليد " وأنهم كيف يضمنون مصدق مجهول المالك مع أنه
مأذون فيها وكيف يضمنون المأذون في أكل المال عند المخمصة وكذا غيرهما من
الفروع التي يقف عليها المتتبع مع منافاته لما يدعونه من قاعدة الأمانات
المشروعية.
فنقول: قد يقال إن الوجه فيها ما دل على نفي السبيل على المحسن بعد
دعوى أن الاستيمان عبارة عن إذن الشارع لا المالك في قبض المال أو التصرف
لمصلحة المالك لا لمصلحة القابض نفسه ولا للمركب منهما.
قال في التذكرة (1): " اللقطة أمانة في يد الملتقط ما لم ينو التملك أو يفرط فيها
أو يتعدى فإذا أخذها بقصد الحفظ لصاحبها دائما فهي أمانة في يده وإن بقيت
أحوالا - إلى أن قال -: لأنه بذلك محسن في حق المالك بحفظ ماله وحراسته
فلا يتعلق به ضمان لقوله تعالى: * (وما على المحسنين من سبيل) * (2) انتهى.
أقول: أما دعوى انحصار الاستيمان في ما يرجع المصلحة إلى المالك فقط
فمع عدم شاهد عليها، فمدفوعة، بما لا يخفى فإن حقيقة الاستيمان لا دخل له
برجوع المصلحة وعدمه أصلا، نعم يكون كذلك في بعض المقامات ولذا أطبقت
على قسيميه مثل العارية والإجارة والمضاربة وغيرها عقودا استيمانية مع أن
مصلحة القبض في غالبها يرجع إلى القابض فقط، أو إليه وإلى المالك.

1 - الذكرة: ج 2، كتاب اللقطة، ص 256.
2 - التوبة / 92.
46

وأما الاستدلال عليه، بنفي السبيل ففيه - بعد عرفت - أخص من المدعي و
كذا ما استدل به المستدل المذكور، من أن تضمين الأمناء يوجب سد باب
الاستيمانات فيلزم التعطيل والحرج إذ فيه، أن الأغراض والدواعي كثيرة فكثيرا ما
يقدمون العقلاء على ضررهم للأغراض لهم راجحة على جهة المالية، ألا ترى أن
الغصب مع تضمنه عندهم وعند الشارع يقدمون عليه فمجرد التضمين لا يوجب
الانسداد والحرج، وكذا استدلاله بأن التضمين إضرار على القابض بلا سبب، إذ
فيه أن السبب هو الأخذ الذي وقع باختياره، وقاعدة نفي الضرر لا يضر بتأثير
الأسباب. فتدبر.
وبالجملة: فقد أطال القائل المذكور في تطبيق الفروع على ما ادعاه في
حقيقة الاستيمان وفي الاستدلال ولم يأت بشئ أمكنت إليه النفس، فالحق ما
عرفت من مطاوي كلامنا المتقدمة، من أن الاستيمان إنما يحصل بدفع المال على
وجه الوثوق في الحفظ ولو لأن ينتفع المدفوع إليه وهذا يستلزم التسليط من
المستأمن - بالكسر - وأما مجرد الإذن في القبض مثل الإباحة الشرعية فليس
استيمانا ومنه يظهر، أن مثل الإذن في الأكل في المخمصة ليس استيمانا، بل ومثل
الإذن في الالتقاط إذ هو إباحة محضة، نعم ما دام الملتقط يقصد الحفظ لا ضمان
عليه لا من جهة الاستيمان بل من جهة الإحسان فإذا قصد التملك أو تعدى أو
فرط فقد خرج عن الإحسان ولزمه الضمان، وكذا مثل الإذن في تأخير أداء الزكاة
فإنه لا يقتضي أزيد من إباحته للتأخير.
وأما الوجه في عدم الضمان في الاستيمانات الشرعية، فلأن تسليط الشرع
كتسليط المالك يستلزم عرفا رفع اليد عن ماليته عند تلفه غير المستند إلى قابضه،
فتدبر وتأمل، فإن المسألة في كمال الغموض والإشكال، فإني لم أجد ما يدل على أن
47

استيمان الشارع كاستيمان المالك إلا أن مذاق الشرع يقضي بذلك.
ثم إن حال الأمانة الشرعية حال الأمانة المالكية في الشبهات المفهومية
والمصداقية حسب ما مرت إليه الإشارة.
الثالث: لا فرق في ما ذكرنا من اقتضاء الأخذ للضمان بين أن لا يسبق الأخذ به
آخذ آخر أو يسبقه، للإطلاق، ومن ذلك باب تعاقب الأيدي، نعم هنا إشكال في
تصوير ضمان أشخاص عديدة لشخص واحد، إذ كيف يتصور ثبوت مال واحد
في العهدات المتعددة وكيف يتصور مالكية المالك للذمم، وهل يملك الجميع أو
واحدا بنفسه أو لا بعينه وأنه بعد استقرار الضمان على من وقع في يده التلف، كيف
حال رجوع بعضهم إلى بعض وكيف يملكون ذمائمهم.
لكنا لما ذكرناه ودفعه، في محل آخر، أغنانا عن التعرض في هذا المقام.
وأما ما يرجع إلى المأخوذ، فأمور:
الأول: أنه لا ريب في شمول الموصول للأعيان وهل يشمل المنافع؟ فيحكم
بضمانها مطلقا، أو يفصل بين المستوفاة منها وغيرها أو لا يحكم به مطلقا وجوه،
بل وأقوال، فعن السرائر في باب المقبوض بالبيع الفاسد " أنه يجري مجرى الغصب
في الضمان " (1)
وعن موضع منه " نسبته إلى أصحابنا " وهذا مع ما هو المحكي عنه في آخر
باب الإجارة " من دعوى الاتفاق على ضمان منافع المغصوب حتى الفائتة منها " (2)
يدل على دعوى الإجماع على ضمان منافع المقبوض بالبيع الفاسد التي هي من

1 - لم نجد من مظانه.
2 - السرائر: آخر كتاب الإجارة، ص 275، الطبعة السابقة.
48

أفراد قاعدة اليد، والظاهر أن مدركه نفس القاعدة، إذ لا مدرك له غيرها إلا ما دل
على احترام مال المسلم وهو لا يقضي إلا عدم حل التصرف لا ضمان المنافع
خصوصا غير المستوفاة.
فقال في التذكرة في كتاب " الغصب ": " منافع الأموال من العبيد والثياب
والعقار وغيرها، مضمونة بالتفويت والفوات تحت اليد العادية عند علمائنا أجمع
لأن المنافع مضمونة بالعقد الفاسد فتضمن بالغصب كالأعيان ولأنها متقومة فإن
المال يبذل لتحصيلها، لو استأجر عينا لمنفعة فاستعملها في غيرها ضمنها
فأشبهت الأعيان ولأن كل مضمون بالإتلاف في العقد جاز أن يضمنه بمجرد
التلف كالأعيان، انتهى ملخصا ". (1)
وقال في مسألة البضع: " إنها لا تضمن بالفوات تحت اليد، بل بالإتلاف
بالوطي " ثم فرق بينها وبين سائر المنافع " بأن اليد لا تثبت على منافع البضع "
واستشهد عليه بشواهد:
منها: أنه لو تداعى اثنان نكاح امرأة يدعيان عليها ولا يدعي أحدهما على
الآخر وإن كانت عنده ولو أقرت لأحدهما حكم بأنها منكوحته فإنه يدل على أن
اليد لها لا له، انتهى ملخصا. (2)
وقال في منافع الحر مستدلا لما اختاره، من أن منافعه غير المستوفاة غير
مضمونة: " بأن منافعه في يده لأن الحر لا يدخل تحت اليد، فمنافعه تفوت تحت
يده فلم يجب ضمانها بخلاف الأموال. انتهى ملخصا ". (3)

1 - التذكرة ج 2، كتاب الغصب، ص 381.
2 - المصدر نفسه: ص 382.
3 - المصدر نفسه.
49

ولا يخفى على المتأمل في عبائره يقطع ببنائهم على كون المنافع مضمونة
لدخولها تحت اليد فيشملها ما يدل على ضمان اليد.
وقد استشكل فيه شيخنا الأستاذ الأكبر - وإن اختار إضرار الضمان من جهة
إجماعي السرائر والتذكرة - " قال لا إشكال في عدم شمول الموصول للمنافع
وحصولها بقبض العين لا يوجب صدق الأخذ ودعوى - أنه كناية عن مطلق
الاستيلاء الحاصل في المنافع بقبض الأعيان - مشكلة، انتهى.
أقول: إن أراد عدم صدق الأخذ مستقلا فهو واضح، إذ ليس حال المنافع
مع العين مثل الأعيان المنضمة بعضها مع بعض المأخوذ بأخذ واحد لتحليلها إلى
أخذ متعدد إلا أنه لا حاجة إليه، إذ الخبر الشريف يدل على أن ما يستند إليه
الأخذ فيكون مأخوذا ولو بالواسطة في عهدة الآخذ، ولا إشكال في أن المنافع كما
أنها مقبوضة بقبض العين فهي مأخوذة بأخذها، فهو أخذ واحد يستند إلى العين
بالأصالة وإلى المنافع بالتبع ولا يضر في عدم تعدد الأخذ بعد صدق الأخذ إلا أن
يدعي عدم ظهوره في كونه مأخوذا بلا واسطة وهي ممنوعة جدا.
فالإنصاف، أن المنافع مضمونة بقاعدة اليد، سواء كانت مستوفاة أو غير
مستوفاة وسواء كانت لمالك العين أو لغيره كما لو أخذ العين المستأجرة فيضمن
العين للمالك والمنفعة للمستأجر لصدق أنه مما أخذت اليد، ويشهد له تسالم
الأصحاب بالضمان مع عدم مدرك لهم خصوصا في غير المستوفاة إلا قاعدة اليد،
إذ قد عرفت أن دليل الاحترام لا ينفع في المقام.
ثم إن قوله - رحمه الله - ودعوى إلى قوله " مشكلة " لم نتحصل مراده إذ قد
عرفت فيما تقدم أن الأخذ كناية عن الاستيلاء الفعلي وهو حاصل في المنافع أيضا
50

بتبع العين فلا حاجة إلى دعوى أنه كناية عن مطلق الاستيلاء حتى يستشكل فيه،
فتدبر.
الثاني: بعد ما عرفت من دخول المنافع في قاعدة الضمان فهل تدخل فيها
الحقوق المالية فيحكم بضمان الحقوق في الأيادي الضمانية كما لو أخذ العين
المرهونة فيضمن العين لمالكه والحق لصاحبه بقاعدة اليد، أم لا، لم أجد
للأصحاب نصا في ذلك والظاهر هو الأول لأن الحقوق المالية من مراتب الأموال
فكما يصح استناد التفويت والاتلاف إليه فكذا يصح استناد الأخذ والقبض
إليه على التقريب المتقدم في المنافع، والحاصل: أن الحقوق كالمنافع اعتباران
عقلائيان لا عيان الأموال مأخوذان بأخذها ومدفوعان بدفعها، ولو سلمنا
انصراف الأخذ والدفع إلى الأعيان فهو انصراف بدوي لا اعتداد بها، وربما يشهد
لذلك ما يذكرونه الأصحاب في مطاوي ما لو أتلف الرهن متلف كلا أو بعضا
ألزم قيمته ويكون رهنا، فراجع.
الثالث: يعتبر في المأخوذ، أن يكون ملكا للمأخوذ منه فلو كان خمرا للمسلم
فلا ضمان فيه ولو أخذه الذمي، ولا يعتبر أن يكون قابلا لتملك الآخذ فلو تلف في
يد المسلم خمر الذمي متستر به ضمنه دون ما إذا لم يكن مستترا.
والحاصل، أن الآخذ والمأخوذ منه لمثل الخمر والخنزير إما أن يكونا مسلمين
أو ذميين أو مختلفين فعلى الأول لا ضمان إلا أن يكون خمرة محترمة اتخذها للتخليل،
وعلى الثاني، يأتي الضمان على شرط الاستتار، وعلى الثالث فإن أخذ المسلم من
الذمي ضمن على الشرط، وإن انعكس فلا ضمان، وفي موارد الضمان يحكم بضمان
القيمة وإن كانت الخمر مثليا.
51

ثم إن الوجه فيما ذكرناه من التفصيل ظاهر وشمول دليل اليد لموارد الضمان
مما لا إشكال فيه، والميزان فيه تلف عين لشخص محكومة بأنها ملكه، فتدبر.
تتميم: يظهر من جماعة من الأصحاب تضمين الأولياء فيما ثبتت عليه يد
المولى عليه وتلفت بالآفة السماوية إن علموا به معللين ذلك بأنه يجب على الولي
حفظها بانتزاعها من يد من لا أمانة له.
قال في التذكرة، في التقاط الصبي والمجنون والسفيه، بعد الحكم بصحة
التقاطهم في غير الحرم لأنهم من أهل الاكتساب، ويصح منهم الاحتشاش
والاصطياد والاحتطاب إن لم يعرف الولي بالتقاطه وأتلفه الصبي ضمن، وإن تلف
في يده بغير تفريط منه لم يضمن لأنه أخذ ماله أخذه فلا يكون عليه ضمان، كما
لو أودع مالا فتلف عنده وإن علم الولي لزم أخذها منه لأنه ليس من أهل الحفظ
والأمانة فإن تركها في يد الصبي ضمنها الولي لأنه يجب عليه حفظ ما يتعلق
بالصبي من أمواله وتعلقاته وحقوقه وهذا قد تعلق به حقه فإذا تركها في يده
صار مضيعا لها فضمنها، انتهى ". (1)
وقال في جامع المقاصد: " يجب على الولي انتزاع اللقطة من يد الصبي
والمجنون لأنهما ليسا من أهل الأمانة ولا من أهل حفظ ملكها واللقطة في معنى
المملوك فكما يجب على المولى أخذ ما لهما من أيديهما ويحرم تمكينهما منه خوف
إتلافه فكذا يجب انتزاع اللقطة، ومع التقصير والتلف يضمن كما سيأتي قريبا
إن شاء الله تعالى، انتهى ". (2)
وقال فيما بعد عند قول الماتن: ولو قصر الولي فلم ينتزعه حتى أتلفه الصبي

1 - التذكرة: ج 2، كتاب اللقطة، ص 255.
2 - جامع المقاصد: ج 2، كتاب اللقطة.
52

أو تلف، فالأقرب تضمين الولي، وجه القرب، إن حفظ أموال الصبي واجب على
الولي فإذا تركها في يده فقد عرضها للتلف فيكون مفرطا، وكلما تلف من الأمانة
في حال تفريط الأمين في حفظها فهو مضمون عليه، لا محالة، ويحتمل ضعيفا
العدم لأنه لم يدخل في يده وهو ليس بشئ، انتهى. (1)
أقول: ظاهر كلامهم بل صريحه، أن الولي يضمن بمجرد التقصير في الانتزاع
وإن لم يصدق أن المال تحت يده وتستفاد منهم قاعدة كلية، وهي أن كل من كان
مأمورا بحفظ مال وإن لم يكن تحت يده يضمن إذ فرط في الحفظ، والظاهر
إرسالهم هنا إرسال المسلمات مع فقد المدرك الواضح لها فالشأن في بيان مدركها،
فإن تحقق فهي قاعدة كقاعدة " اليد " وإلا فهي على خلافها لا يصار إليها إلا في
مورد وقع الإجماع منهم عليه.
فنقول: يمكن أن يستدل عليها بما رواه ابن هاشم في حسنته، قال: قلت
لأبي عبد الله - عليه السلام رجل بعث بزكاة ماله لتقسم فضاعت هل عليه ضمانها
حتى تقسم؟ قال: إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها إليه فهو لها ضامن حتى
يدفعها وإن لم يجد من يدفعها إليه فبعث بها إلى أهلها فليس عليه ضمان لأنها قد
خرجت عن يده وكذا الوصي الذي يوصى إليه يكون ضامنا لما دفع إليه إذا وجد
ربه الذي أمر بدفعه إليه وإن لم يجد فليس عليه ضمان. (2)
وتقريب الاستدلال، أن ذكره - عليه السلام - الوصي مع عدم وقوع السؤال عنه،
يشهد بأن حكم صاحب الزكاة ليس مخصوصا به، بل ويأتي في كل من كان وليا

1 - جامع المقاصد: ج 2، كتاب اللقطة.
2 - الوسائل: ج 13، الباب 36 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث: 1.
53

على أمر ففرط فيه يضمن ومنهم الوصي.
لكن فيه، أنه لا دلالة لها على ضمان الوصي ولو لم يكن المال تحت يده، بل
وظاهر قوله - عليه السلام -: " ضامنا لما دفع إليه " أنه وضع يده عليه فيكون منطبقا على
قاعدة اليد مع خيانة الأمين، ودعوى - أن المراد بالدفع إليه دفع أمره إليه - غير
ممنوعة، إذ هي دعوى لخلاف الظاهر، بلا شاهد عليها.
ويمكن الاستدلال لها بما رواه أبان، عن رجل، قال: سألت أبا عبد الله - عليه
السلام - عن رجل أوصى إلى رجل، أن عليه دينا، فقال: يقضي الرجل ما عليه من
دينه ويقسم ما بقي بين الورثة، وقلت: فسرق ما أوصى به من الدين ممن يؤخذ
الدين أمن الورثة أم من الوصي؟ قال: لا يؤخذ من الورثة ولكن الوصي
ضامن لها. (1)
وهذه الرواية أحسن من الأولى من وجه لعدم تقييدها بكون التركة تحت يد
الورثة فهي بإطلاقها تدل على الضمان بعد تقييدها بالتفريط إذ لا ضمان بدونه
ضرورة إلا أن الإنصاف ظهورها في دخول المال تحت يد الوصي إذ الظاهر أن
فرض السرقة بعد التقسيم غير المنفك غالبا عن التصرف فيكون سبيل هذه كسبيل
سائر الروايات الواردة في هذا الباب، مثل ما رواه الحلبي عن الصادق - عليه السلام - إنه
قال: في رجل توفي فأوصى إلى رجل وعلى الرجل المستوفى دين فعمد الذي أوصى
إليه فعزل الذي للغرماء فرفعه في بيته وقسم الذي بقي بين الورثة فسرق الذي
للغرماء من الليل ممن يؤخذ؟ قال: هو ضامن حين عزله في بيته تؤدى من ماله. (2)

1 - الوسائل: ج 13، الباب 36 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 4.
2 - المصدر نفسه: الحديث: 2.
54

هذا كله، مع أنها لا دلالة لها إلا على ضمان الوصي وأين هذا من كلية ضمان
الأولياء والمأمورين بالحفظ.
وربما يستأنس لها بما ورد في عدم ضمان الحمامي، مثل ما رواه في قرب الإسناد بإسناده إلى علي - عليه السلام - إنه كان لا يضمن صاحب الحمام وقال إنما يأخذ
أجرا على الدخول إلى الحمام. (1)
وما رواه إسحاق بن عمار، عن جعفر عن آبائه، عن علي - عليه السلام - كان يقول
لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب لأنه إنما أخذ الجعل على
الحمام ولم يأخذه على الثياب. (2)
وجه الاستيناس، أنها تشير إلى أن صاحب الحمام لو يأخذ الجعل على
حفظ الثياب يضمنه بالتفريط فيه لكن الموضوع عند الحمامي أي في محل معد
للوضع فيه يصدق عليه أنه تحت يده فيكون الضمان على القاعدة إلا إذا ثبتت
أمانته كما يشهد به التعليل في رواية لعدم ضمانه " بأنه أمين " فتأمل.
وبالجملة: فالاعتماد في أمر مخالف للقواعد المقررة على هذه الظواهر
والاستيناسات في كمال الإشكال، والإغماض عما أرسله مثل العلامة والمحقق
الثاني إرسال المسلمات أشكل.
فلنختم الكلام فيما أردناه من التكلم في قاعدة " اليد " وأرجو من الله تعالى
أن ينتفع به الناظر الخبير ببركة أهل البيت - عليهم السلام - خصوصا من جور مرقدهم
ومشهدهم بسامراء - عليهم السلام - ما دامت الأرض والسماء.
والحمد لله أولا وآخرا

1 - الوسائل: ج 13، الباب 28 من أبواب أحكام الإجارة، الحديث: 2.
2 - المصدر نفسه: الحديث: 3.
55