الكتاب: تقريرات آية الله المجدد الشيرازي
المؤلف: المولى علي الروزدري
الجزء: ٢
الوفاة: ١٣١٢
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

76
تقريرات
آية الله المجدد الشيرازي
للعلامة المحقق
المولى علي الروزدري
المتوفى حدود سنة 1290 ه‍
الجزء الثاني
تحقيق
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث
1

BP المجدد الشيرازي، محمد حسن بن محمود، 1230 - 1312 ق.
159 تقريرات آية الله المجدد الشيرازي / لعلي الروزدري؛ تحقيق مؤسسة آل
8 / البيت عليهم السلام لاحياء التراث. - قم: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث، 1409
9 م / - 1415 ق = 1367 - 1373 ش.
7 ت
1415 ق ج.
الجزء الثاني.
1. أصول الفقه الشيعي. ألف. الروزدري، علي، المؤلف. ب.
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث. ج. العنوان.
شابك (ردمك) 5 - 51 - 5503 - 694 دورة 1 - 4
ISBN 5 - 51 - 5503 - 964 / 4 VOLS.
شابك (ردمك) × - 53 - 5503 - 694 / ج 2.
ISBN X - 53 - 5503 - 964 / VOL 2.
الكتاب: تقريرات آية الله المجدد الشيرازي - الجزء الثاني
المؤلف: المولى علي الروزدري
تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث - قم
الطبعة: الأولى -
ليتوگرافي:
المطبعة:
التجليد: صحافي صنعتي - قم
الكمية: 2000 نسخة
السعر: ريال
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
لمؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
مؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
قم - دور شهر - خيابان شهيد فاطمي - كوچه 9 - پلاك 5
ص. ب. 996 / 37158 - هاتف 2 - 730001
4

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
[في دلالة الأمر على الوجوب]
فوائد:
الأولى:
لا ينبغي الإشكال في إمكان استعمال صيغة الأمر في القدر المشترك بين الوجوب والندب - وهو الطلب المطلق مطلقا حقيقة بناء على وضعها له، أو مجازا بناء على وضعها لخصوص أحد الفردين، أو لكل منهما على سبيل الاشتراك - ولا في إمكان إنشاء القدر المشترك وحده مجردا عن كلتا الخصوصيتين.
نعم ربما يتوهم المنع من الأمرين من وجوه: بين مختص بأحدهما، ومشترك بينهما:
5

أما الأول: فهو للثاني: وتقريره: أن القدر المشترك المذكور كسائر الكليات ما لم يتشخص يمتنع وجوده في الخارج، وتشخصه إنما هو بإحدى الخصوصيتين المذكورتين على سبيل منع الخلو، لانحصار فرده فيهما، فيمتنع إيجاده بدون شيء منهما.
وأما الثاني: فالمتصور منه وجهان:
أحدهما - ما ذكره صاحب المعالم - فيما حكي عنه من حاشيته على قوله:
(لأن الاستعمال في القدر المشترك إن وقع فعلى غاية الندرة والشذوذ) - من علة الندرة والشذوذ قال: (وذلك لبعد وقوعه نظرا إلى أن الطالب إذا لم يكن غافلا عن الترك، فإما أن يريد المنع منه، أو لا يريده، فلا يخلو الحال عن إرادة الوجوب أو الندب، فلا يتصور إرادة الطلب المجرد عن القيدين إلا عند الغفلة عن ملاحظة الترك، وهو في غاية الندرة، بل لا يمكن حصوله في أوامر الشرع، ففرض استعماله في القدر المشترك غير معقول، فتأمل) (). انتهى.
ولا يخفى أنه اعتراف بإمكان استعمال الأمر في القدر المشترك، وبإمكان إيجاده في الجملة، إلا أنه يلزمهما بالنسبة إلى الملتفت إلى الترك، وسيجئ الجواب عنه.
ثانيهما - أن الصيغة لم توضع لنفس القدر المشترك بعنوان الكلية، بل إنما هي آلة لملاحظة جزئياتها الحقيقية ومرآة لها، والموضوع له إنما هي بعنوان عام، ولا ريب أنه لا شيء من تلك الجزئيات إلا وهو متقوم بإحدى الخصوصيتين بحيث لم يوجد بدون شيء منهما، فاستعمال الصيغة في كل واحد منهما لا يمكن إلا مع إحدى الخصوصيتين، كما أن إيجاد شيء من تلك الجزئيات لا يمكن بدون
6

إحداهما.
أقول: هذا على فرض تماميته لا ينهض على المنع من استعمال الصيغة في القدر المشترك مجازا. نعم ينهض على منع إمكان إيجاده بدون شيء من الخصوصيتين، إذ بعد فرض أنه لا شيء من أفراده إلا وهو متقوم
بإحداهما وامتناع تحقق شيء منها في الخارج بدون شيء منهما لذلك يمتنع إيجاد القدر المشترك بدون شيء منهما، ضرورة توقف حصوله على تشخصه وصيرورته فردا، والمفروض أنه لا فرد منه إلا وهو متقوم بإحداهما، ويمتنع وجوده بدون شيء منهما، فيمتنع حصول القدر المشترك بدون شيء منهما، ضرورة توقف ما يتوقف على شيء متوقف على شيء آخر على ذلك الشيء الآخر.
ويمكن تقرير المنع على وجه يقتضي امتناع استعمال الصيغة في القدر المشترك مجازا أيضا بأن يقال: إن القدر المشترك المذكور في المقام لم يعتبر في الوضع، أو الاستعمال مطلقا - حقيقة، أو مجازا - بعنوان الاستقلال في المفهومية - كما هو الحال في مفاهيم أسماء الأجناس - بل إنما اعتبر بعنوان الآلية لتعرف حال الموارد الشخصية، فهو إذن من المعاني الحرفية التي لا يمكن تصورها في الذهن وتعقلها إلا بضميمة شيء من خصوصيات الموارد، وخصوصيته منحصرة في إحدى الخصوصيتين المذكورتين، فلا يمكن استعمال الصيغة فيه بدون شيء منهما مطلقا، إذ إرادة معنى من اللفظ فرع تعقله وتصوره قبل الإرادة، وهو لا يعقل بدون شيء منهما.
ويظهر من ذلك عدم إمكان إيجاده بدون شيء منهما بتقريب ما مر بعد فرض انحصار فرده فيهما.
هذا غاية ما قيل أو يقال في وجه المنع.
لكن لا يخفى ضعف تلك الوجوه بأسرها على من له أدنى تأمل وتدبر، فإن منشأها عدم الفرق بين إرادة المعنى في الضمير وإرادته من اللفظ، فإن
7

امتناع انفكاك القدر المشترك عن إحدى الخصوصيتين المذكورتين إنما هو بالنسبة إلى الأول، لكن لا مطلقا أيضا، بل بالنسبة إلى الملتفت إلى الترك، وإلا فيمكن الانفكاك حينئذ بالنسبة إلى الغافل عنه، وأما الثاني فيمكن فيه التفكيك مطلقا، بأن يراد بالصيغة إفادة القدر المشترك وحده، فإن امتناع انفكاك شيء عن شيء في الذهن لا يقضي بامتناع التعبير عن ذلك الشيء وإفادته باللفظ وحده، كما أن امتناع انفكاكه في الوجود الخارجي عن أمر لا يقضي بذلك بأن يعبر باللفظ عنه وحده.
ألا ترى أن الأجناس يمتنع تصورها في الذهن بدون شيء من الفصول، وكذا الموجودات الخارجية يمتنع وجودها في الخارج بدون شيء من الأعراض، مع أنه يمكن التعبير [عن ذلك] () ويصح إفادة كل من تينك بدون ما يلزمهما في الذهن أو الخارج، كما في قولك: (جئني بحيوان، أو جسم، أو رأيت رجلا) مريدا به إفادة الشخص الخارجي بعنوان كونه فردا من أفراد الرجل مع أن الشخص لا يخلو في الخارج عن كونه بأحد الألوان من السواد والبياض وغيرهما، وعن كونه متحيزا، وغير ذلك من العناوين الصادقة عليه، وكما في وضع أسماء الإشارة، حيث إنها موضوعة للذوات الخارجية بأحد عناوينها، وهو كونها ذكورا مشارا إليها، أو إناثا كذلك، وهكذا الحال في الضمائر والموصولات، إذ الأولى موضوعة لها بعنوان كونها ذكورا أو إناثا، وحاكية عنها من هذا الوجه، والثانية موضوعة لها بعنوان كونها متعينة بصلاتها.
وقد حكي عن المدقق الشيرواني () في وجه الأمر بالتأمل في الحاشية المحكية عن صاحب المعالم المتقدمة ما ذكرنا، قال: ووجهه أنه فرق بين بين إرادة
8

المعنى في الضمير وإرادته من اللفظ، واللازم لغير الغافل هو الأول، والمعتبر في الاستعمال هو الثاني، وهو غير لازم من البيان المذكور، والاشتباه إنما نشأ من الخلط بين الأمرين (). انتهى.
وكيف كان، فبهذا ظهر دفع غير الوجه الأول من جهة دعوى امتناع الاستعمال في القدر المشترك، حيث إن مبنى ما ذكره صاحب المعالم - قدس سره - إنما هو امتناع الانفكاك في الذهن، ومبنى الوجه الثاني إنما هو امتناعه في الخارج، وقد ظهر أنه لا يقضي شيء منهما بالامتناع، وأنه يجوز إفادة القدر المشترك وحده بالصيغة، غاية الأمر أنه إذا تعلق الغرض بإفادة إحدى الخصوصيتين أيضا - بأن يكون غرض الآمر الطلب على وجه الوجوب أو الندب، لا القدر المشترك وحده - يفيد الخصوصية بقرينة خارجية من لفظ آخر أو غير اللفظ، فيكون إفادة الطلب الخاص بدالين، فكذا لو سلمنا امتناع إيجاد القدر المشترك وحده، إذ غاية الأمر حينئذ أنه يوجد الطلب الشخصي المتفصل بإحدى الخصوصيتين بلفظين، إذ لا يلزم من ذلك امتناع إيجاده بهما.
وأما الجواب عما قررنا من وجه المنع.
فأولا - بأنه خلط بين المقامين فإن عدم الانفكاك في النفس غير إرادة الملزوم وحده من اللفظ، وقد عرفت منع الملازمة بينهما، غاية الأمر أنه يفاد الخصوصية من دال آخر، كما يفاد خصوصية الابتداء بذكر البصرة، وخصوصية الانتهاء بذكر الكوفة في قولك: (سرت من البصرة إلى الكوفة)، ولو لزم إفادة المراد بجميع خصوصياته من لفظ واحد لزم التجوز في جميع موارد إطلاق ألفاظ الكلي الموضوعة للكليات على أفرادها، وفساد التالي غني عن البيان.
9

وثانيا - بأن اللازم في مقام إرادة معنى من لفظ إنما هو تصور ذلك المعنى بوجهه، فيكفي في إرادة الطلب المطلق من الصيغة تصوره بوجه الآلية، ولا ريب أن تصوره على هذا الوجه لا يتوقف على تصور خصوص ما يقصد كونه آلة لتعرف حاله، بل يكفي تصور متعلقه بوجه ما، فلنوضح ذلك بقياس ما نحن فيه بالحروف، فنقول:
إن كلمة (من) مثلا موضوعة للابتداء على وجه الآلية، وهو ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (از)، وكذا كلمة (إلى) موضوعة للانتهاء كذلك، وهو ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (تا)، وكلمة (في) موضوعة للظرفية كذلك، وهو ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (در) كما أن لفظ (الابتداء والانتهاء والظرف) موضوعة للمعاني الاسمية، وهي ما يعبر عنها ب‍ (نخستين وسامان وآغاز وأنجام - على اختلاف موارد الاستعمال - وجاء)، فإذا أردت استعمال تلك الحروف، فهل تستعملها في أزيد من معنى (أز، وتا، ودر)؟ وإنما تفيد خصوصية متعلقاتها بذكر الألفاظ الدالة على تلك المتعلقات من البصرة والكوفة والدار في قولك: سرت من البصرة إلى الكوفة أو رأيت زيدا في الدار.
وأيضا لا ريب أنه قد يتفق أنه قد يستعمل الشخص تلك الحروف مع عدم تعين شيء من خصوصيات متعلقاتها بعد، كما تقول: (اضرب زيدا في السوق) مع عدم تصور السوق وتعينه عند ذكر (في)، وإنما تصوره وتعينه بعده فتذكر السوق، فهل يلتزم أحد بأن (في) في هذه الصورة مهملة لم يرد بها المعنى؟ فإذا عرفت ذلك فقس عليه ما نحن فيه، فإن الصيغة موضوعة للطلب على وجه الآلية، وهو ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (بكن) كما أن لفظ الطلب موضوع للمعنى الاسمي المعبر عنه بالفارسية ب‍ (خواستن)، ولا ريب في إمكان استعمال الصيغة في هذا المعنى وحده، غاية الأمر أنه يفاد خصوصيته من الخارج
10

لو تعلق الغرض بإفادتها أيضا، أو قلنا بامتناع وجوده بدونها.
هذا، ثم إنه () بما حققنا - من إمكان إيجاد الخصوصية بالصيغة وبأمر آخر دال على الخصوصية لو لم يمكن تحقق القدر المشترك بدونها - ظهر ضعف ما أورد بعض المحققين من المتأخرين () على المدقق المتقدم ():
ب‍ (أن المنشئ إنما ينشئ الطلب الخاص الواقع منه بالصيغة الخاصة، فإنشاء الوجوب أو الندب إنما يكون بالصيغة المذكورة، إذ مجرد الإرادة النفسية لا يقضي بإنشاء المعنى في الخارج، كيف؟ ومن البين أن الطالب للشيء إنما يوقع طلبه () على أحد الوجهين المذكورين، إلا أن يكون غافلا حسب ما قرره - يعني صاحب المعالم - فالطلب () الخاص مراد من اللفظ قطعا، فما ذكره في الجواب غير مفيد في المقام).
انتهى.
ثم إنه أجاب عن الإشكال: بما حاصله راجع إلى إرادة الخصوصية من باب إطلاق الكلي على الفرد باستعمال الصيغة في القدر المشترك وإرادة الخصوصية من الخارج.
وفيه: أن الصيغة لم توضع للطلب الكلي، بل لجزئياته الحقيقية، وهي الحصص الموجودة منه في الخارج المتشخصة بخصوصية الآمر والمأمور والمأمور به بطريق عموم الوضع وخصوص المعنى، كما اعترف به - قدس سره - واختاره
11

فالمستعمل فيه الصيغة إنما هو حصة شخصية من حصصه الجزئية، ولا ريب أن كل واحدة من خصوصيتي المنع من الترك أو الإذن فيه من الأحوال اللاحقة لكل واحدة من الحصص المذكورة إلا أنهما ليستا مما لا يمكن انفكاكه عن الحصص المذكورة بل يجوز إيجادها بدونهما، كما سيجيء بيانه، لا أنهما من أفرادها حتى يطلق عليهما الصيغة بطريق إطلاق الكلي على الفرد مع إفادة الخصوصية من الخارج.
وبالجملة: الموضوع له الصيغة إنما هو كل واحدة من الحصص الجزئية الموجودة في الخارج من غير اعتبار شيء من أحوال تلك الحصص في مفهوم الصيغة، بل الموضوع له إنما هي ذوات تلك الحصص مع قطع النظر عن ملاحظة شيء من أحوالها اللاحقة لها في الخارج في مقام الوضع، فحال الصيغة بالنسبة إلى تلك الأحوال نظير حال الأعلام الشخصية بالنسبة إلى أحوال الذوات الخارجية التي هي مسمياتها، فكما أنه لا دخل لشيء من الأحوال هناك في مفهوم اللفظ - وإن كانت الحالة من الأحوال اللازمة للمسمى ككونه متحيزا، فكيف بما لا يكون كذلك - فكذا الحال هنا، وكما أن زيدا - مثلا - لا يقال: إنه كلي بالنسبة إلى أحواله، فكذلك لا يصح أن يقال: إن كل واحدة من الحصص المذكورة كلي بالنسبة إلى حالاتها التي منها المنع من الترك، أو الإذن فيه.
نعم يصح أن يقال: إن كل واحدة من الحصص المذكورة مطلقة بالنسبة إلى أحوالها، كما يصح أن يقال: ذلك في الأعلام الشخصية، فعلى هذا فلا بد أن يقرر دفع الأشكال بأن الصيغة يطلق ويراد بها نفس الحصة الشخصية الموجودة بها في هذا الإطلاق التي هي معناها، ويراد الخصوصية اللاحقة لها من الخارج، كما عرفت بيانه، فيندفع الأشكال، فتأمل [1].

[1] وجه التأمل: أن مراده (قده) أيضا ذلك، إلا أنه سماه بإطلاق الكلي على الفرد، فيصير النزاع معه لفظيا. لمحرره عفا الله عنه.
12

وكيف كان، فلو لا كون الصيغة من جهة المعنى مطلقة بالنسبة إلى خصوصية الوجوب والندب لما صح تعلقها في إطلاق واحد بأمور بعضها واجب، وبعضها مندوب، كقوله - مثلا -: صل الظهر ونافلتها، إلا بطريق استعمالها في معنيين، واللازم باطل، فالملزوم مثله، مع أنه لا شبهة في ورود الصيغة في خطابات الشارع على هذا النحو إلى حد لا يحصى فذلك يكشف عن أنها مستعملة في تلك الإطلاقات في نفس الحصة الموجودة من الطلب في الإطلاق الخاص المجردة عن شيء من الخصوصيتين، وإنما استفيد كيفية تعلقها بكل واحد من الأمور من الخارج.
لا يقال: إن المتعلق بالنافلة في المثال المذكور ليس هذه الصيغة الملفوظة، بل هي المقدرة بقرينة الواو.
لأنا نقول: إنه مع أن واو العطف لا يقتضي أزيد من التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه إلا في الحكم المذكور، لا ينحصر المثال فيما ذكر، لورود ما ذكرنا بدون ذكر واو العطف، وإطلاقه في العرف كثيرا كقولك: (زيد وعمر وأكرمهما) إذا كان الغرض وجوب إكرام زيد واستحباب إكرام عمرو، فإنه بمنزلة أكرمهما، فلا يتمشى - حينئذ - التوهم المذكور.
وبهذا ظهر أنه يصح إطلاق الصيغة وإرادة الطلب منها مع تعلقها بأمور:
بعضها واجب، وبعضها مندوب، وبعضها يكون طلبه لمجرد الإرشاد.
وظهر - أيضا - إمكان إرادة الرخصة منها، مع تعلقها بأمور: بعضها واجب، وبعضها مندوب، وبعضها مباح، مع إفادة كيفية تعلق الإذن بكل منها من الخارج.
ثم الجواب عن توهم امتناع إرادة القدر المشترك وحده - بتوهم امتناع
13

تحققه بدون الخصوصيتين لانحصار فرده فيهما -: أنك قد عرفت أن الممتنع هو تحقق إرادة شيء في نفس الشخص الملتفت إلى الترك، بدون الرضا بالترك، أو بعدمه مع إمكان تحققه بدونهما بالنسبة إلى الغافل عنه، كما اعترف به صاحب المعالم - قدس سره -، وأما الطلب فهو ليس من مقولة الإرادة، بل من مقولة الأفعال [1]، فإنه ليس إلا تحريك المأمور بآلية هذه الصيغة إلى المأمور به، وقد يتأكد هذا التحريك بحيث يفهم منه الحتم والإلزام، فيكون وجوبا، وقد يقام القرينة على الإذن في الترك، فيكون ندبا، وقد يخلو عن كلا الأمرين بحيث ليس الموجود بالصيغة إلا مجرد التحريك من دون شيء من الأمرين.
وتوهم أن قوام القدر المشترك إنما هو بإحدى الخصوصيتين بحيث يمتنع تحققه في الخارج بدونهما.
مدفوع: بأن كل كلي يتحقق في الخارج بوجود فرده لا محالة، وإنما الممتنع وجوده من غير وجود فرد أصلا، كما هو مبنى دليل المنع، وأفراد ذلك القدر المشترك فيما نحن فيه إنما هي الحصص الموجودة منه في الخارج، المتشخصة بخصوصيات الآمرين والمأمورين والأفعال المأمور بها.
وبعبارة أخرى: إنها كل طلب خاص صادر من آمر كذلك إلى مأمور كذلك بالنسبة إلى فعل كذلك، فهو ما لم يتشخص بهذا التشخص يمتنع وجوده في الخارج، فالمقوم له إنما هو التشخص من حيث الآمر والمأمور والمأمور به.
وأما تشخصه من حيث التأكد والضعف فليس من مقوماته، لجواز انفكاكه عنه في الخارج [كما إذا] () كان أمر من غير الدلالة على الحتم، أو الإذن في الترك، وإن كان الظاهر عند الإطلاق هو الأول.

[1] وبعبارة أخرى: إنه إرادة لفظية لا قلبية. لمحرره عفا الله عنه.
14

وكيف كان، فأفراد هذا القدر المشترك ليست منحصرة في الوجوب والندب، بل له فرد ثالث، وهو العاري عن اعتبار كلا الأمرين، والقدر المشترك إنما يمتنع وجوده في الخارج بدون وجود شيء من أفراده أصلا لا بدون فرد خاص منه.
هذا، مع أنك قد عرفت أن المراد بالقدر المشترك هنا ليس هو المفهوم العام، بل إنما هو حصة من حصص ذلك المفهوم المشخصة بخصوصية الآمرين والمأمورين والأفعال المأمور بها، وعرفت أن الوجوب والندب - أعني فصلهما، وهو الحتم والإلزام، أو الإذن في الترك - من أحوال تلك الحصص، لا من أفراده، فينعكس الأمر، فإن وجود عوارض الشيء يتوقف على وجود ذلك الشيء المعروض بحيث يمتنع تحقق العارض بدونه، وأما نفس المعروض فلا يتوقف وجوده على وجود العارض أصلا.
نعم لو كان العارض والمعروض متساويين في الصدق يمتنع انفكاك المعروض عنه في الخارج، وهو غير التوقف وكونه متقوما به، وما نحن فيه ليس كذلك - أيضا - لكون المعروض - وهو كل حصة من حصص الطلب - أعم من العارض في الصدق لجواز تحققها بدون كلا الأمرين، فثبت إمكان تحقق الطلب بدون أحد الأمرين، فتدبر.
15

الثانية ():
عدوا من معاني صيغة الأمر الإرشاد، ومن المعلوم أنه قد يقع بطريق الحتم، وقد يقع على غير وجه الحتم.
وكيف كان فهل هو من مقولة الإخبار - أعني الإخبار بأن الأمر الفلاني الذي أرشد إليه بالصيغة فيه المصلحة، فيكون قول الطبيب للمريض: اشرب السقمونيا بمنزلة قوله: السقمونيا نافع ومصلح - أو أنه من مقولة الإنشاء؟ وعلى الثاني - فهل هو من مقولة الإيقاع، أو الطلب؟ وعلى ثانيهما - فهل هو مغاير للوجوب ومباين له بحسب الحقيقة فيما إذا كان بطريق الحتم، وللندب كذلك إذا لم يكن بطريق الحتم والإلزام، أو أنه متحد في الصورة الأولى للأول، بحسب الحقيقة، وفي الثانية للثاني كذلك، وإنما يغايرهما بالأمور الخارجية، ويكون هو والوجوب والندب من الأفراد المتماثلة المتحدة بحسب الحقيقة، المختلفة بالخصوصيات الخارجية كأفراد إنسان وفرس وغير ذلك وأصنافها؟ الظاهر الأخير، أعني كونه طلبا ومتحدا [مع] الوجوب () والندب في الحقيقة.
أما الأول: فلظهور أنك إذا سئلت عن طريق بغداد - مثلا - فقلت:
(اذهب من هذا الطريق) ليس قصدك الإخبار بهذا اللفظ عن قيام مصلحة
16

الإيصال في هذا الطريق، بل إنما طلبت منه الذهاب من هذا الطريق، فإن المراد بقولك: (اذهب) ليس إلا ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ (برو) وليس هذا إلا طلبا.
نعم لما علم أن هذا الطلب إنما هو من جهة اقتضاء المصلحة - أي مصلحة المأمور به - فيفهم أن الأمر المرشد إليه مما فيه المصلحة لذلك، نظير الأوامر الشرعية الوجوبية أو الندبية، حيث إنه لا ريب أن المراد بها الطلب لا غير، لكنا لما علمنا من الخارج أنه لا يأمر إلا عن مصلحة كامنة في المأمور به، فنعلم أن هناك مصالح، فكما أن ذلك الانفهام [1] لا يوجب كون الأوامر المذكورة إخبارات فكذلك الكلام فيما نحن فيه.
وأيضا لا يتوقف تحقق الطلب على ثبوت اقتضاء في نفس الطالب بالنسبة إلى الفعل المطلوب، إذ ليس حقيقة الطلب إلا حمل المأمور على المأمور به، إلا أن منشأه قد يكون الاقتضاء في نفس الآمر، فيكون لخصوصية الآمر مدخلية في الأمر، فيكون حينئذ وجوبا أو ندبا، وقد يكون مجرد مصلحة الشيء المأمور به من دون اقتضاء له، بحيث يمكن اجتماعه مع بغضه إلى وقوع الفعل في الخارج، فيكون طلبه حينئذ من لسان المصلحة بحيث لا يدخل خصوصية نفسه في هذا الأمر، فيكون إرشادا.

[1] ذكر علماء النحو والتصريف - كالزنجاني في تصريفه والسعد في شرحه على ما جاء في (تدريج الأداني إلى قراءة شرح السعد على تصريف الزنجاني: 29)، وابن الحاجب في شافيته، والرضي (ره) في شرحها 1 - 108 -: أن (انفعل) مطاوع (فعل)، ولا يبني إلا من فعل فيه علاج - أي إيجاد الفعل بالجوارح الظاهرة - وتأثير - أي إيجاد الأثر الظاهر للحواس الظاهرة كالقطع - مثل: قطعته فانقطع وكسرته فانكسر، وعليه فلا يقال: انكرم وانعلم وانفهم وانعدم، إذ لا علاج في الجميع ولا تأثير. قال ابن الحاجب في شافيته، (ومن ثم قيل:
انعدم خطأ). ومع هذا فقد تسامح علماؤنا (رض) في هذا البناء، عناية منهم بإيصال المقصود من أقرب طريق.
17

وبعبارة أخرى: إن المرشد ينزل نفسه منزلة عقل المسترشد، ولما كان عقله [1] - إذا علم بمصلحة للمسترشد - يحركه نحو الفعل، فيحركه المرشد حينئذ نحوه لذلك، أي لعلمه بالمصلحة، هذا بخلاف الحال في الوجوب والندب، فإن الطالب فيهما إنما يطلب الفعل من قبل نفسه لا غير، وهذا هو الوجه في إمكان اجتماع الإرشاد مع البغض بوقوع الفعل في الخارج.
وبهذا ظهر دفع ما اختاره بعض المحققين من المتأخرين من كون الإرشاد من مقولة الإخبار محتجا: بأن الظاهر أن المقصود من الإرشاد هو بيان المصلحة المترتبة من دون حصول اقتضاء هناك على سبيل الحقيقة، فهو إبراز للمصلحة المترتبة على الفعل بصورة الاقتضاء، ثم استشهد باجتماعه مع البغض إلى وقوع الفعل في الخارج ().
وتوضيح الاندفاع: أنك قد عرفت أن المقصود باللفظ ليس إلا الطلب لا غير، وإن كان الغرض تعلق ببيان المصلحة، وهذا لا يستلزم استعمال الصيغة في الإخبار، بل غاية الأمر أن يكون هذا الإطلاق من مقولة الكناية - مثلا - بأن يراد من اللفظ الطلب للانتقال من الطلب إلى المصلحة، فلا منافاة إذن بين إرادة الطلب من الصيغة وبين أن يكون الغرض بيان المصلحة، لإمكان حصوله تبعا على هذا النحو، فلا يصلح جعل ثبوت الثاني دليلا على انتفاء الأول، وعرفت - أيضا - أن حقيقة الطلب ليس إلا تحريك الشخص نحو الفعل بآلية اللفظ، وأن هذا لا يتوقف حصوله على كون الصيغة صادرة من اقتضاء نفس الطالب، بل

[1] لا يخفى أن أمر العقل أيضا إرشادي كأمر الشخص المرشد، فالأولى أن يجعل المناط في الإرشاد كون الطلب مسببا عن شيء آخر غير الاقتضاء في نفس الطالب وشوقه إلى وقوع الفعل، بخلاف الوجوب والندب، فإنهما من اقتضاء نفس الطالب، وسيجئ لذلك مزيد توضيح، فانتظر. لمحرره عفا الله عنه.
18

قد يكون مسببا عنه، وقد يكون مسببا عن اقتضاء المصلحة عند العقل، فينزل الطالب نفسه مقامه، فيطلب.
هذا، وبهذا ظهر أن الإرشاد ليس من مقولة الإيقاعات - أيضا - فإنها عبارة عن الألفاظ الموجدة لأثر غير حاصل قبلها، كالملكية والزوجية ونحوهما، كما أن الطلب عبارة عن الحمل والتحريك بآلية اللفظ، وعرفت أنه من الثاني لا الأول، مع أنه لم يحتمله أحد.
وكيف كان، فلا ينبغي الإشكال في كون الإرشاد من مقولة الطلب وحمل الغير على الفعل، إلا أن الفرق بينه وبين الطلب المتحقق في الوجوب والندب أن الطلب هناك من قبل نفس الآمر، بمعنى أنه ينشئه من نفسه ومن اقتضائه وميله إلى وقوع الفعل، إما لمصلحة عائدة إليه نفسه، كما هو الغالب في الأوامر العرفية، أو لمصلحة عائدة إلى المأمور، لكنه مائل إلى وصول المأمور بتلك المصلحة، ويشتاق إلى إيجاد المأمور - الفعل الذي يتضمن تلك المصلحة - لذلك، وذلك كما في كافة الأوامر الشرعية.
وبالجملة: فالمناط في الوجوب والندب إنما هو كون الطالب طالبا للفعل من قبل نفسه لأجل اقتضاء نفسه وشوقها إلى وقوع الفعل من المكلف، سواء كان منشأ الشوق والاقتضاء هو عود المصلحة إلى نفس الطالب، أو حبه واشتياقه إلى وصول المأمور بتلك المصلحة، وهنا ليس كذلك، بمعنى أنه يطلب ويحمل الغير على الفعل، لكن ذلك الحمل والتحريك ليس من قبل نفسه، بأن يدخل نفسه في هذا الطلب، بل هو إما من لسان المصلحة الكامنة في الفعل العائدة إلى المأمور، أو من جهة تبان بينهما، أي بين الآمر والمأمور، بأن تبانيا على كون الطلب أمارة على أمر، كأن قال الغير للآمر: إذا علمت بفاكهة حلوة من بين تلك الفواكه فمرني بأكلها، أو إذا علمت بمجيء الذي هو عدو لي فمرني بالاختفاء، أو إذا علمت بمجيء حبيب لي فمرني بالاستقبال، وأمثال ذلك،
19

فيطلب منه ما تباينا عليه، إلا أن الغرض من هذا الطلب إنما هو إعلام الغير بوقوع ما تبانيا على كون الطلب أمارة عليه، وهذا لا يوجب خروج الطلب عن كونه طلبا وتحريكا، بل تحريك حقيقة إلا أنه ليس مسببا من اقتضاء نفس الآمر وميله إلى وقوع المطلوب، بل قد يبغض وقوعه، لكنه من كثرة إنصافه وكمال رجوليته - مثلا - لا يقدم على خيانة من استشاره واسترشده، بل يحكم بما فيه المصلحة للمستشير مع كونه يبغض في النفس وصوله () بتلك المصلحة [1].
وبعبارة أخرى فارسية: فرق ميانهء ارشاد ومقابلش از وجوب وندب، اين است كه در ارشاد پاى آمر در ميان نيست أصلا، بمعنى اينكه از روى ميل خود نميخواهد وخصوصيت خود را دخليت نميدهد در اين طلب،
باينكه مقصودش از قولش كه ميگويد (بكن) اين نيست كه من ميخواهم بكنى، بلكه غرضش واداشتن غير است از روى مصلحتى كه در فعل است از براي غير، يا از روي تبانيي كه با هم كردهاند واز اين جهت است نيز كه فاعل مستحق ثواب نميشود بفعل مأمور به، زيرا كه استحقاق ثواب لازم امتثال است، يعنى فرمان بردارى آمر، ومفروض است كه اين آمر از خود امرى ندارد كه اتيان باو امتثال أو باشد، فلذا - أيضا - عقابي از اين آمر بر تارك همچه امرى نيست، واما در وجوب وندب پاى خود آمر در ميان است وفعل را از قبل نفس خود طلب ميكند واز اين جهت است كه اتيان بمأمور به موجب استحقاق ثواب از أو ميشود، وتارك أو در وجوب مستحق عقاب بجهت آنكه هر گاه اتيان كند، فرمان أو را برده است وهر گاه ترك كند، نا فرماني أو را كرده.

[1] أي مع كونه - في نفسه - مبغضا للوصول إلى المطلوب مع ما فيه من المصلحة.
20

من أن الفرق بينهما: هو أن الطلب في الوجوب والندب لمصلحة أخروية وفي الإرشاد لمصلحة دنيوية، إذ لا ريب أن أوامر الإطاعة كلها إرشادية، مع أنها ليست إلا للمصالح الأخروية، وكذا أوامر بعض المندوبات إنما هي لمصلحة دنيوية كالأمر بغسل الجمعة لحكمة إزالة الرائحة الكريهة، وكالأمر بالسواك لمنافع عديدة دنيوية، مع أن الوجوب والندب لا ينحصران في الأوامر الشرعية، بل يجريان في العرفية أيضا، إذ لا ريب أن بعضها - أيضا - وجوبي، وبعضها ندبي، وبعضها إرشادي، ولا ريب أن الوجوبية والندبية منها ليست إلا لمصالح دنيوية، فبطل الفرق المذكور.
ويتلوه في البطلان ما ربما يتوهم من أن الفرق أن الطلب في الوجوب والندب إنما هو لمصلحة عائدة إلى الآمر، وفي الإرشاد إنما هو لمصلحة عائدة إلى المأمور فإن الحال في الإرشاد وإن كان كذلك، إلا أن الوجوب والندب لا يلزمهما أن يكون الطلب فيهما لما ذكر، بل قد يكون لمصلحة راجعة إلى المأمور، كما إذا كان الآمر يحب وصولها إلى المأمور، فيأمره لذلك، مع أنه لو بنى على ذلك لزم كون أوامر الشارع بأسرها إرشادية، كما لا يخفى، وفساده أظهر من أن يذكر، فافهم.
هذا كله في إثبات أن مفاد الأوامر الإرشادية هو الطلب لا غير.
وأما اتحاده مع الوجوب والندب بحسب الحقيقة فأوضح من أن يذكر، ضرورة أنه ليس حقيقتهما إلا الطلب، فإن كونهما من اقتضاء نفس الآمر أمر خارج، لأنه داع لهما، وداعي الشيء خارج عن حقيقة ذلك الشيء، فيكونان متحدين مع الإرشاد بحسب الحقيقة - حيث إن حقيقته أيضا هو الطلب - ومغايرين معه من حيث الدواعي الخارجية.
21

ثم إنه هل يمكن اجتماع جهتي الإرشاد والتكليف في طلب واحد، أو لا؟ الحق التفصيل: بأنه إن كان متعلق ذلك الطلب أمرا واحدا يمتنع () الاجتماع لأدائه إلى التناقض في نفس الآمر، فإن حيثية الإرشاد - كما عرفت - إنما هي أن لا يدخل الآمر نفسه في ذلك الطلب، ولا يكون هو باقتضائه وميله، وحيثية التكليف إنما هي أن يدخل نفسه فيه، ويطلب من اقتضاء نفسه، فلا يعقل أن يكون طالبا لشيء واحد من هاتين الجهتين المتناقضتين، وإن كان أمورا متعددة بحيث تعلق بكل منها على سبيل الاستقلال، كما إذا تعلق بعام، فيجوز الاجتماع حينئذ، لأن هذا الطلب الواحد إنما ينحل حينئذ إلى طلبات متعددة، كل واحد منها متعلق بشيء من حيثية، لأنه حينئذ أوجد طلبات متعددة بالصيغة بإطلاق واحد، فهي موجودات بوجود واحد.
ثم إنه بعد ما بنينا على اتحاد حقيقة الإرشاد مع الوجوب والندب، وأنها ليس إلا الطلب، فهل الصيغة إذا أطلقت مجردة عن القرينة ظاهرة في القدر المشترك بينها - وهو مطلق الطلب - أو في الإرشاد، أو في غير الإرشاد، أو مجملة؟ الحق هو الثالث، لكن هذا الظهور ليس مستندا إلى نفس اللفظ، فإنه موضوع لمطلق الطلب، ويكون إطلاق اللفظ في كل من الإرشاد وغيره حقيقة لذلك، بل مستند إلى حال الطالب، فإن الظاهر من حاله أنه إنما يطلب من اقتضاء نفسه، وهذا الظهور ليس مستنده الغلبة، لأنا لو فرضنا انه لم يخلق بعد إلا واحد - ولم يطلب هذا بعد، فأمر حينئذ بشيء وكان هذا الطلب أول طلب صادر منه - يظهر من حاله ذلك، نعم الغلبة أيضا موجودة فهي مؤكدة للظهور
22

المذكور.
ويؤيد الأخذ بهذا الظهور أصالة عدم تنزيل الطالب نفسه منزلة الغير، كما هو الحال في الطلب الإرشادي، فإن طلبه من اقتضاء ما متيقن على التقديرين، إلا أنه على تقدير الإرشاد يحتاج إلى التنزيل [1] المذكور أيضا، وهو أمر زائد مشكوك الحدوث، فيبنى على عدمه [2].
ويعين الحمل - أي حمل الصيغة على الطلب الناشئ من اقتضاء نفس الطالب - بناء العقلاء طرا عليه، فإن بناءهم على أنه إذا أمر مولى عبده بشيء من غير قرينة على أن هذا الطلب من قبل نفسه، فيجعلون هذا حجة على العبد ومصححا لعقابه لو خالفه معتذرا: بأني احتملت أن يكون المولى قد طلب مني على أنه رأى صلاحي في هذا الفعل، فطلب من اقتضاء المصلحة لا من اقتضاء نفسه، ولا يسمعون منه هذا العذر، بل يذمونه حينئذ، بل يسفهونه ويجوزون عقابه من المولى، وهو الحجة على تعيين الحمل المذكور.
نعم يبقى أن بناءهم هل هو من باب الأصل المذكور، أو من باب ظهور الحال، أو الغلبة؟ كل محتمل، والأظهر الثاني.
وكيف كان، فتعيين منشأ عملهم ليس بمهم لنا، وإنما الحجة عملهم، وهو ثابت، وظهور الحال هنا نظير ظهور الحال في سائر الأفعال القابلة للنيابة، فإن

[1] وحاصل التنزيل: أنه لما كان الشخص طالبا لنفع نفسه فمتى علم به طلبه، فهذا الشخص الآمر إرشادا ينزل نفسه منزلة ذلك الشخص، فيطلب منه فعل ما فيه مصلحة له. لمحرره عفا الله عنه.
[2] اعلم أن كل ما ذكرنا في الأمر - بالنسبة إلى الإرشاد والوجوب والندب - جار في النهي أيضا بعينه بالنسبة إلى إرادة الإرشاد منه والحرمة والكراهة، فإن حقيقة النهي أيضا هو المنع لا غير، وهو موجود في الإرشاد أيضا، فيتحد حقيقة مع الحرمة والكراهة إلا أنه أيضا كالأمر عند الإطلاق ظاهر في كون المنع من كراهة نفس الناهي والحال في الموارد الدالة على المنع نظير الحال في الدلالة على الطلب بعينها، فتدبر. لمحرره عفا الله عنه.
23

الظاهر فيها أيضا أنها واقعة من قبل نفس الفاعل لا الغير، بل لو وقعت منه من غير التفات إلى أنها منه أو من غيره تحمل على الأول وتتعين فيه، وهذا أيضا قد قامت الحجة من العقلاء على العمل به.
ثم إنه يظهر الثمرة فيما قلنا فيما إذا كان الطلب صالحا لوقوعه على الوجهين ومحتملا لهما، فيخرج ما لم يكن صالحا أصلا - كأوامر الإطاعة، فإنها لا تصلح إلا للإرشاد - وما كان صالحا لكن المقام يكشف بقرينة معينة لأحد الأمرين.
هذا كله في الطلب الصادر بصيغة الأمر.
وأما الصادر منه بمادة الطلب مريدا بها الإنشاء، كأن يقول: (طلبت منك هذا) قاصدا به حمل المأمور وبعثه نحو الفعل، لا الإخبار عن كونه طالبا قبل، فلا خلاف في كونه ظاهرا في كونه من اقتضاء نفسه لظهور المادة في ذلك بلا خلاف.
الثالثة ():
الألفاظ الدالة على الطلب - كمادة الأمر والإرادة والطلب إذا أريد بها الطلب الإنشائي، أعني البعث والتحريك لا الإخبار، وصيغة الأمر، وكذا الجمل الإخبارية المراد بها الطلب - ظاهرة في الوجوب، أعني الطلب الحتمي الذي يلزمه المنع من الترك عند الإطلاق، سواء كان دلالتها على الطلب مجازا بمعونة القرينة - أي القرينة المفيدة لإرادة الطلب من اللفظ المقرون بها، مع عدم قرينة على أن المراد أي فرد منه كما في غير
صيغة الأمر من المواد المذكورة [1]، والجمل الإخبارية إذا استعملت في الطلب الإنشائي بمعونة القرينة

[1] قولنا: (من المواد المذكورة): اعلم أن التجوز فيها إنما هو في الهيئة لا المادة - كما سيجيء بيانه كما في الجمل الإخبارية من غير تلك المواد أيضا، وهذا إذا أريد بها إيقاع الطلب فعلا، وأما إذا أريد الإخبار عنه فلا تجوز فيها أصلا. لمحرره عفا الله عنه.
24

مع إطلاقها من جهة أنه أي فرد منه - أو حقيقة كما في الصيغة على المختار من أنها لا تفيد بنفسها إلا الطلب المطلق الصالح لتقيده بأحد الأمرين من الوجوب والندب، وأن استفادة خصوصية أحدهما إنما هو من الخارج عن الصيغة - ولو كان هو الانصراف - بل يجري الظهور المذكور في المواد المذكورة على تقدير استعمالها في الإخبار أيضا، فإن الفرق حينئذ بينها وبين الصيغة: أنها استعملت حينئذ في الإخبار عن البعث والتحريك المتحقق بها فعلا، فهي ظاهرة عند الإطلاق في الطلب والتحريك الفعلي الحتمي، وتلك ظاهرة عند الإطلاق في الإخبار عن البعث والتحريك الحتمي، وإرادة الطلب منها على هذا الوجه - أي بعنوان الإخبار - على وجه الحقيقة، فإن تلك المواد ظاهرة في الطلب وحقيقة فيه، إلا أنها إذا حولت إلى هيئة الماضي والمضارع لا تفيد فعلية الطلب، وإنما تفيد الإخبار عنه، فيكون حقيقة حينئذ من جهة المادة والهيئة، فإن هيئة الماضي والمضارع لإفادة الإخبار، وقد استعملت فيه، والمفروض حقيقية المادة أيضا في الطلب، فيكون الإخبار بها عن الطلب حينئذ حقيقة مطلقا.
نعم، إذا أريد بها فعلية الطلب في ضمن إحدى الهيئتين، فهذا يوجب التجوز في الهيئة فقط، كما يلزم ذلك، أعني التجوز في الهيئة في الجمل الإخبارية التي ليست موادها ظاهرة في الطلب.
وكيف كان، فعلى هذا، فالأحسن أن يقرر المقال: بأن الألفاظ الدالة على الطلب مطلقا - سواء كانت دالة عليه على نحو الإنشاء والإيقاع بها حال الإطلاق كما في صيغة الأمر والجمل الإخبارية المراد بها إنشاء الطلب، وكما في المواد المذكورة إذا تجردت عن المعنى الإخباري وأريد بها الإنشاء والإيقاع،
25

سواء كانت بصيغة الماضي، كقولك: (أردت، وطلبت، وأمرت) أو بصيغة المضارع، كقولك: (آمر، أو أطلب، أو أريد)، أو بصيغة اسمي الفاعل والمفعول، كقولك:
(أنا آمر بكذا، أو طالب كذا، أو مريد له، أو هذا مطلوب منك، أو مراد منك، أو أنت مأمور به)، أو على وجه الإخبار كما في المواد المذكورة بالصيغ المذكورة إذا أريد بها الإخبار عن الطلب - ظاهرة في إرادة الوجوب إيقاعا أو إخبارا على حسب اختلافها في الدلالة على الطلب، وهذا الظهور مما لا ينبغي الإشكال فيه جدا، وهو متفق عليه بين القائلين بوضع صيغة الأمر لخصوص الوجوب وبين القائلين بوضعها للأعم، كما هو الظاهر.
نعم القائل باشتراكها بينهما لفظا لعله يمنع هذا الظهور، مع احتمال أن يلتزم به لإمكان ظهور اللفظ المشترك في بعض الموارد في أحد معانيه عند الإطلاق بواسطة بعض الأمور الخارجية الموجبة للانصراف.
ثم إنه لو قلنا بأن هذا الظهور مستند إلى نفس اللفظ - كما يدعيه القائل بوضع الصيغة للوجوب فقط - فلا إشكال.
وإن قلنا: إنه مستند إلى غيره من الأمور الموجبة للانصراف، وإن اللفظ بنفسه لا يفيد أزيد من الطلب المطلق، كما هو المختار إلا أنه بواسطة بعض تلك الأمور يظهر في إرادة القدر المشترك باعتبار هذا الفرد - أعني الوجوب - أي إرادته مقيدا به، فيبقى تحقيق أن هذا الانصراف من أي أمر من الأمور الموجبة للانصراف، فنقول:
قد يقال: إنه بسبب الكمال، فإن الطلب الحتمي أكمل من غيره وأشد، كما في سائر الأعراض القوية بالنسبة إلى ضعيفها.
وهذا ليس بجيد، لأن المراد بالكمال هنا، إن كان ما يقابل النقصان في نوع الطلب وحقيقته، بمعنى أن الوجوب كامل من حيث حقيقة الطلب، بمعنى أنه لا نقص فيه من تلك الجهة، بخلاف الندب، فإنه ناقص من تلك الجهة.
26

وأما الثاني: فلأنه على تقدير تسليم الصغرى نمنع استناد الظهور إلى مجرد الكمال بهذا المعنى بأن يكون هو نفسه منشأ له، بل هو حينئذ مستند إلى انحصار الفرد في الوجوب، بل هذا التزام بأن حقيقة اللفظ ليس إلا الوجوب وانه عين مفهوم اللفظ، فلا معنى لجعل اللفظ مفيدا بنفسه للقدر المشترك إذ بعد فرض أن أحد الأمين ناقص فهو خارج عن فرديته لذلك، فحينئذ فلا اشتراك في المفهوم، بل هو عين الفرد الآخر.
وإن كان المراد به الكمال الإضافي، بمعنى الأكملية في نوع الطلب وحقيقته، كما هو الظاهر، فيكون المراد أن الوجوب أكمل من الندب من حيث تحقق القدر المشترك في ضمنه، ويكون حاله حال الأعراض القوية.
ففيه منع الكبرى: فإن الكمال بهذا المعنى لا يوجب بنفسه الانصراف جدا، وانصراف أسماء الأعراض إلى قويها ممنوع.
نعم لو بلغ الكمال إلى حد بحيث يصير غير الكامل في جنبه بمنزلة المعدوم - بحيث كأن الكلي منحصر فيه - فلا يضايق حينئذ الانصراف، لكن ليس هذا الانصراف ناشئا عن هذا الكمال ابتداء وبلا واسطة، بل إنما هو ناشئ عن مقهورية هذا للفرد الكامل () في الأنظار بسبب الكمال.
ولو كان مراد القائل هذا فيتوجه عليه منع الصغرى في المقام، فإن كون الوجوب بهذه المثابة من الكمال ممنوع، هذا.
وربما يتوهم: إلزام القائل المذكور بمقتضى ما اعترف به: من كون الوجوب أكمل وأشد من الندب كما في سائر الأعراض، على أن مقتضى ذلك حمل اللفظ على الندب وانصرافه إليه، لأنه بعد فرض أنهما فردان من الطلب، مع اشتمال أحدهما [على] مزية () زائدة، فالأصل عدم اعتبار تلك المزية، والأصل
27

إطلاق اللفظ بالنسبة إليها، فيحكم بمقتضى إطلاق اللفظ على إرادة الندب، لأنه نفس الصيغة من دون اعتبار شيء زائد.
لكنه مدفوع: بأن كلا من الوجوب والندب موجود بإيجاد واحد، فلا يلزم على تقدير الوجوب إيجاد آخر - وهو إيجاد قوة الطلب - حتى يكون هذا حادثا آخر، فيندفع بالأصل للشك في حدوثه، فيتعين به الفرد الآخر، وكذا لا يتعلق في الوجوب إرادة بالطلب وأخرى بتأكده، حتى يقال: القدر المتيقن إنما هو إرادة الطلب المطلق، وإرادة شيء آخر معه وتقيده به خلاف الأصل، فيندفع بالإطلاق، بل هنا إرادة واحدة على كل حال إلا أن متعلقها على تقدير إرادة الوجوب مرتبة من الطلب، وعند إرادة الندب مرتبة أخرى أضعف من السابقة، وكل واحدة من المرتبتين أمر بسيط لا جزء له في القصد أصلا.
ثم إنهم ذكروا من أسباب انصراف المطلق: غلبة الإرادة، وغلبة الوجود، فالأولى توجب ظهور تعين القدر المشترك في الفرد الذي أريد غالبا.
وبعبارة أخرى: إنها توجب ظهور كون القدر المشترك مرادا باعتبار هذا الفرد.
والثانية توجب ظهور كونه مرادا باعتبار الأفراد الغالبة.
ونحن نقول: إن سببية الأولى للانصراف مسلمة حيث إنها توجب معهودية ذلك الفرد من اللفظ، فيكون تلك
المعهودية المسببة عنها قرينة على إرادة الفرد المذكور.
وأما الثانية ففيها تأمل، نظرا إلى أنه يشكل كونها بمجردها سببا للانصراف، ولا يلزم منها أيضا معهودية الأفراد الغالبة من اللفظ حتى تكون هي القرينة.
نعم لو بلغت الأفراد الغالبة في الكثرة والشيوع إلى حيث صار غيرها من الأفراد لقلتها بالنسبة إليها بحيث كأنها لم تكن، وكأن فرد المطلق منحصر
28

في الأفراد الغالبة بأن تكون تلك الأفراد بحيث تملأ العيون بحيث كأنها لا ترى من أفراد المطلق إلا إياها، فلا تضايق حينئذ كونها منشأ للانصراف.
ثم إن هاتين على تسليم كليتهما لا يجري شيء منهما فيما نحن فيه، لعدم ثبوت كون الوجوب غالب الإرادة أو الوجود، بل يمكن دعواهما بالنسبة إلى الندب في الأوامر الشرعية.
ثم إنه - دام ظله - عد من أسباب الانصراف أمرين آخرين:
أحدهما: شدة الحاجة إلى بعض الأفراد، فهي توجب انصراف المطلق إلى هذا البعض ولو لم يكن هناك غلبة إرادة أو وجود - بحيث لو فرض بدو الخلق وابتداء تكلمهم - فهذه توجب هذا الانصراف جدا.
وثانيهما: كثرة الحاجة إلى بعض الأفراد، فهي أيضا توجب انصرافه إلى هذا البعض من غير توقف على غلبتي الإرادة والوجود بحيث توجبه في الفرض المذكور أيضا.
ثم إن هذين - أيضا - لا مساس لهما بما نحن فيه، فإن الوجوب ليس شديد الحاجة أو كثيرها بالنسبة إلى الندب قطعا، فافهم.
قال دام ظله: على تقدير كون ظهور الأمر عند الإطلاق في الوجوب من جهة الانصراف فغاية ما يمكن أن يوجه به أن يقال: إن حقيقة الوجوب إنما هي الطلب الخالص عن شوب الرجوع، وحقيقة الندب إنما هي الطلب المشوب بالرجوع والإذن في الترك، إذ لا ريب أن الإذن فيه بعد الطلب رجوع عن الطلب حقيقة، إذ ليس الطلب إلا البعث والحمل، وهو ينافي الإذن، إذ معه لم يبق الطلب بحاله وإنما الباقي هو مجرد الميل إلى الفعل.
وتوضيح ذلك أنك إذا أمرت عبدك ندبا فقد قصدت من الصيغة بعثه وحمله لا غير، فلذا يكون الصيغة مستعملة في معناها الحقيقي، لكن في قصدك
29

أيضا مع القصد المذكور أن تأذن له في الترك أيضا، فيؤل إلى أن قصدك أيضا الرجوع عن هذا الطلب وعدم إبقائه على حاله، فيكون هذا الطلب مشوبا بقصد الرجوع والإذن، وفائدة الطلب حينئذ تنبيهه على ميلك إلى الفعل المأمور به، فإن الطلب كاشف عنه جدا، لكن لا يكون ارتفاعه مستلزما لارتفاعه قطعا، فيكون حاصل الأمر الندبي بعد الإذن هو مجرد الميل إليه من دون تحريك.
وكيف كان فهنا أمران: الطلب والإذن في الترك، ولا ريب أن الصيغة بنفسها لا تنهض على إفادة الثاني، بل لا بد في ذلك من إيراد دال آخر من القرائن البتة.
هذا بخلاف ما لو أمرته بالأمر الوجوبي، فإن قصدك حينئذ إنما هو الطلب مع عدم قصد الرجوع عنه، فيكون مفاد الصيغة حينئذ هو الطلب الخالص عن شوب الإذن في الترك، ولا ريب أنه يكفي في إفادته الصيغة بنفسها من دون حاجة إلى إيراد دال آخر، فإذا أطلقت الصيغة فهي تفيد الطلب، ومع عدم اقترانها بالإذن في الترك يكون مفادها هو الطلب الخالص، وهو الوجوب.
فإذا عرفت فنقول: إن وجه انصراف الطلب المستفاد من الصيغة عند إطلاقها وتجريدها عن القرينة إنما هو تجريدها وإطلاقها من القيد.
وبعبارة أخرى: إنا بعد ما فرضنا أن الصيغة بمجردها تكفي - إذا لم تنضم إليها قرينة - تكفي في إفادة الوجوب حيث إنها دالة على الطلب، وإذا لم يلحقه الإذن في الترك فيكون خالصا عن شوبه، فيتعين في الوجوب، لأنه الطلب الخالص عنه، هذا بخلاف الندب، فإن فصله وهو الإذن في الترك لا بد في تفهيمه من قرينة خارجية غير الصيغة، فحينئذ إذا ورد أمر مطلق مع إحراز أن الآمر قاصد به التفهيم، وأنه في صدد تفهيم غرضه المقصود، فيقال: إنه لو كان مراده الندب لأقام القرينة على الإذن، وإلا لزم إخلاله بغرضه، فإذا لم يقم - كما هو المفروض - فلا بد أن يكون مراده هو الطلب مع عدم الإذن في الترك، فيتعين هذا
30

في الوجوب، فيكون منشأ الانصراف وسببه هو إطلاق اللفظ وتجريده عن قيد زائد، والحال في انصراف الطلب إلى الوجوب نظير الحال في انصرافه إلى الوجوب العيني لا التخييري، فكما أن إرادة كل منهما من الصيغة لا توجب التجوز في الصيغة أصلا، حيث إن كلا منهما نوع من الطلب الذي وضعت هي بإزائه، فكذلك الحال في المقام، وكما أن منشأ انصراف الطلب إلى العيني هناك إنما هو إطلاق اللفظ وتجريده عن قيد زائد، حيث إن طلب شيء إذا لم يشبه الإذن في تركه إلى بدل معين في العيني، إذ هو هو الطلب الخالص عن هذا الشوب، ويكفي في إفادته نفس الصيغة من دون حاجة إلى أمر آخر، إذ المفروض أنها دالة على طلب هذا الفعل، وطلبه إذا خلص عن الشوب المذكور يكون طلبا لهذا الشيء بعينه، هذا بخلاف الوجوب التخييري [1] حيث إن الطلب فيه مشوب بالإذن في ترك ذلك الفعل إلى بدل، ولا يكفي في إفادة ذلك نفس الصيغة، بل [لا بد] () من إيراد قرينة أخرى، فيقال بعد قولك: (افعل هذا): أو ذاك، إذ لو لم تأت بالثاني فالأول ظاهر في العيني، فكذلك منشأ الانصراف فيما نحن [فيه] هو تجريد اللفظ وإطلاقه، كما عرفت، وسيجئ مزيد تحقيق لذلك في مسألة الوجوب التعيني والتخييري إن شاء الله تعالى، فافهم.
ثم إنه قال دام ظله: وللنفس تأمل في كل من دعوى كون الأمر حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب ودعوى كون الانصراف إلى الوجوب - على تسليم الأولى - مسببا من الوجه المذكور، أو من أحد الوجوه المتقدمة.
نعم المتيقن ظهور الأمر عند الإطلاق في الوجوب، ولم يتحقق بعد أنه

[1] الفرق بين الندب والوجوب التخييري: أن الأول هو الطلب المقرون بالإذن في الترك لا إلى بدل أصلا، والثاني هو الطلب المقرون به إلى بدل، لا مطلقا. لمحرره عفا الله عنه.
31

من نفس اللفظ أو من الخارج، وأن سببية الانصراف على الثاني ما ذا؟ أقول: الظاهر صدق الدعوى الأولى، فإنا لو خلصنا أنفسنا عن ملاحظة التجريد والتقييد لا يفهم ولا يتبادر من الصيغة حينئذ إلا الطلب المطلق، وهو الحجة.
وأما الدعوى الثانية فالظاهر صدقها بالنسبة إلى الوجه الأخير إلا أنه يوجب تخريب ما بينا آنفا من إمكان إيجاد القدر المشترك وحده، فإن الطلب إذا وجد فهو إما مع الإذن في الترك أو مجرد عنه، لامتناع ارتفاع النقيضين، فالأول ندب، والثاني وجوب، فافهم.
ثم إنه يمكن أن يكون هذا الانصراف بسبب الكمال فإنه وإن لم يوجبه مطلقا إلا أنه قد يوجبه كما إذا كان الفرد الغير الكامل بمثابة كأنه ليس بشيء، وأن فرد الكلي منحصر في الكامل - كما عرفت - والحال هنا كذلك، فإن الطلب المتعقب بالإذن في الترك كأنه ليس بطلب حقيقة، فينصرف اللفظ لذلك إلى الوجوب، فتدبر.
إيقاظ: الحال في النهي من جهة الوضع للقدر المشترك وانصرافه عند الإطلاق إلى الحرمة هو الحال في الأمر - كما عرفت - والوجه الوجه، فإن المنع الخالص يتعين في الحرمة ومع الإذن في الفعل لم يبق حقيقة المنع على حاله.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
الرابعة ():
اختلفوا في أن الجمل الخبرية إذا قامت قرينة على استعمالها في الطلب والإنشاء مع عدم القرينة معها على أن المراد أي نحو من الإنشاء،
32

فهل هي حينئذ ظاهرة في الوجوب، أو لا ()؟ وعن جماعة الأول، وعن آخرين الثاني.
احتج المانعون بأنها موضوعة للإخبار، فإذا تعذر حملها عليه تعين () حملها على الإنشاء مجازا، وكما يصح استعمالها في إنشاء الوجوب كذا يصح استعمالها في إنشاء الندب، أو مطلق الطلب، فإذا تعذرت الحقيقة وتعددت المجازات لزم الوقف بينها، وقضية ذلك ثبوت المعنى المشترك، وهو مطلق الرجحان، والثابت به هو الاستحباب بعد ضم أصل البراءة إليه إن كان المورد من مواردها، وإن كان المورد من موارد الاحتياط فيثبت به الوجوب، وكيف كان فهي ليست ظاهرة في الوجوب أصلا.
والحق هو الأول لوجوه:
[الأول] () التبادر عرفا: فإنهم لا يفرقون بين صيغة الأمر وبين الجمل الخبرية إذا علموا أن المراد بها الإنشاء مجازا في فهم الوجوب واستفادته من اللفظ بشيء أصلا، فكما يتبادر عندهم من الصيغة عند الإطلاق الوجوب، فكذا يتبادر منها ذلك عندهم مع قيام القرينة الصارفة عن استعمالها في الإخبار مع عدم القرينة على تعيين أن المراد أي نحو من الإنشاء، وكما يثبت بالأول ظهور الصيغة وضعا أو انصرافا - على تفصيل ما مر في الوجوب - فكذا يثبت بالثاني ظهور الجمل حينئذ في الوجوب ظهورا عرفيا مستندا إلى قرينة عامة لازمة للفظ في جميع الموارد على أن المراد الوجوب إما باستعمال الجمل فيه بخصوصه، أو أنها مستعملة في مطلق الطلب، وهو منصرف
33

إليه عند الإطلاق بأحد أسباب انصراف المطلق إلى بعض أفراده كما مر في الصيغة.
ولا يهمنا التفتيش عن أن هذا الظهور هل من نفس اللفظ حينئذ بأن تكون القرينة العامة قائمة على استعمال الجمل في خصوص الوجوب، أو أنه من جهة انصراف الطلب المطلق إليه بأحد أسباب الانصراف مع استعمالها في الطلب المطلق، فإن الغرض من تشخيص الظهور حمل اللفظ عند الإطلاق على المعنى الظاهر، ولا فرق فيه بين أن يكون الظهور ناشئا من نفس اللفظ، أو من إطلاق المعنى وانصرافه إلى الفرد الظاهر، فإن كلا منهما يوجب حمل اللفظ - عند الإطلاق وعدم القرينة على إرادة المعنى المخالف للظاهر - على ذلك المعنى الظاهر، فلذا لم نفتش كملا في الأصل - أعني صيغة الأمر - عن أن ظهورها في الوجوب هل من نفس اللفظ، أو من جهة الانصراف؟ ولو طالبنا الخصم بتعيين: أن تلك القرينة ما ذا؟ قلنا: ليس علينا تعيينها، فإن تبادر الوجوب من الجمل حينئذ مطلقا - من غير اختصاص له ببعض الأمثلة دون بعض، وببعض الموارد دون آخر - يكشف عن وجود تلك القرينة العامة قطعا ويلزمه البتة، فمن عدم اقتدارنا على أنها ما ذا لا يلزم عدمها [1]، ولا ينبغي الارتياب في تحققها بعد إحراز الملزوم، وهو تبادر الوجوب عرفا عند الإطلاق والتجرد عن القرينة الخاصة مطلقا، ونحن قد أحرزناه على سبيل القطع.
ولو قيل: إنه لا بد لمن يدعي ظهور الجمل حينئذ في الوجوب من إحراز أمرين البتة: أحدهما ما استعمل في الوجوب، وثانيهما إحراز قرينة عامة لازمة

[1] أي لا يلزم من عدم اقتدارنا على تعيينها انتفاؤها.
34

للمستعمل - بالفتح - في جميع الموارد، ومع إمكان الثاني - كما مر - نمنع من إمكان الأول، إذ على تقدير استعمال الجمل حينئذ في الوجوب فالمستعمل إما خصوصيات المواد بأن يكون في كل مورد عبارة عن مادة غير المادة المستعملة في المورد الآخر، وإما خصوصيات الهيئات، أو القدر المشترك بين الأولى، أو الثانية، والكل باطل.
أما الأولان: فللاتفاق على أن المستعمل على تقديره أمر واحد في جميع الموارد، بمعنى أنه في كل مورد عينه في مورد الآخر، فلا بد أن يكون أمرا كليا مشتركا بين خصوصيات الموارد.
وأيضا يرد الأول منهما الاتفاق على أن المستعمل ليس مادة الجمل أصلا، بل لو كان فهو هيئاتها، بمعنى أن الهيئات الجزئية مستعملة في الإنشاء.
هذا مضافا إلى أنه لا يعقل قيام القرينة العامة على تقدير كون المستعمل خصوصيات المواد أو الهيئات على إرادة الوجوب في جميع الموارد، إذ لا بد فيها من تحقق أمر عام سار في جميع الموارد تكون تلك القرينة لازمة لهذا الأمر العام.
وإن شئت قلت: إن القرينة العامة ما لم يلحظ معها خصوصية شيء من الموارد الخاصة، بل الملحوظ معها أمر عام فأينما تحقق هذا الأمر العام يتحقق لها تلك القرينة، وتفيد إرادة مدلولها منه.
ومن هنا يتولد إشكال آخر: وهو أن المستعمل لو كان الخصوصيات لامتنع () ظهوره في الوجوب، إذ المفروض أنها لم توضع له، والمفروض أيضا عدم القرينة الخاصة، وأما العامة فلا يعقل قيامها على الخصوصيات بخصوصياتها، لما عرفت من أن الملحوظ معها ليست الخصوصيات بوجه، فيلزم الإجمال.
35

وأما الأخيران: فلأنه لا يعقل ولا يتصور قدر مشترك بين خصوصيات المواد أو الهيئات، لتباينها واختلافها غاية الاختلاف: أما في المواد فواضح، مع أنه يرده الاتفاق المتقدم على أن المستعمل ليست المواد أصلا، وأما الهيئات فلأن الجملة الخبرية بصيغة الماضي لها هيئة مباينة لها بصيغة المضارع، وهيئتها في كل منهما مباينة لهيئتها في الجمل الاسمية.
هذا، مع أن هيئتها بصيغة الماضي أو المضارع أو الجملة الاسمية أيضا غير منظمة، ضرورة اختلاف هيئات الأفعال الدالة على الماضي باختلاف التجرد والزيادة على ثلاثة أحرف، وباختلاف المجهول والمعلوم، وكذا الحال في الأفعال المضارعة، وهكذا في الجمل الاسمية.
فهو مدفوع:
أولا - فبأن هذا لا يخصنا ()، بل على تقدير تماميته يجري على القول الآخر أيضا، فإنهم أيضا يقولون باستعمال الجمل في شيء غير الإخبار، وهو الإنشاء، اللهم إنهم يمنعون من ظهور الوجوب [1].
وثانيا أن المستعمل في معنى الإنشاء ليس مطلق الجمل الخبرية، بل الفعلية منها، وهي ما تكون بصيغة الماضي أو المضارع.
فنقول: إن المستعمل هو الهيئة لا المادة، لكن لا الهيئة الخاصة، بل مطلق هيئتي الماضي والمضارع، وكلتاهما أمر عام.
وما قيل - من منع القدر المشترك بين هيئات أفعال الماضي أو المضارع - مدفوع باتفاقهم على أن الموضوع في الأفعال هي الهيئة العامة بين هيئات

[1] كذا في الأصل، والأسلم في العبارة هكذا: (اللهم إلا أنهم يمنعون من ظهورها في الوجوب).
36

الماضي في أفعال الماضي مجردة أو مزيدا فيها، وكذا في أفعال المضارع، فكلما يتصوره المستشكل لكونه موضوعا في الأفعال فليفرضه مستعملا في الوجوب في المقام.
هذا، وكيف كان، فلا ينبغي التأمل والارتياب في ظهور الجمل الفعلية الإخبارية حينئذ في الوجوب عرفا من غير قرينة خاصة موجودة في خصوص المقام، ويكشف عن ذلك أنه لو أمر مولى عبده بصيغة الإخبار - بأن يقول له:
(تأتيني بالماء) - وعلم العبد أن مراده ليس الإخبار، بل الإنشاء، فترك الإتيان بالماء - معتذرا: بأني احتملت أن يكون مراده الندب الغير اللازم علي - لذمه العقلاء وأهل العرف، وجوزوا () عقابه من المولى، فجعلهم الجملة المجردة - عن قرينة تعين إرادة الوجوب أو الندب - حجة على العبد دليل على ظهورها في الوجوب، وإلا لزم السفه والعبث، فافهم.
الثاني [1]: تتبع الآثار والأخبار المأثورة من المعصومين الأطهار - صلوات الله عليهم، وجعلنا معهم في دار القرار - فإن من تتبع الكتب المدونة فيها يرى أن غالب ما كان المراد بيان وجوب شيء فهو إنما يبين بالجملة الخبرية الخالية عن القرينة اللاحقة لخصوص المورد على تعيينه، كما في موارد الأمر بالإعادة في العبادات عند عروض الخلل لها، وكما في موارد الأمر بالوضوء والغسل، فإنه أقيم فيها لفظ الجملة الخبرية مقام الأمر، فجعل في مقام (أعد) (تعيد)، وفي مقام (توضأ) (تتوضأ)، وفي مقام (اغتسل) (تغتسل)، وهكذا في غير تلك الموارد من العبادات وغيرها، حيث أقيمت الجملة الخبرية الفعلية - من المضارع والماضي - مقام صيغة الأمر، واكتفى بها - مجردة عن قرينة تعين أن المراد أي نحو من

[1] أي (الوجه الثاني) من الوجوه المستدل بها على القول بظهور الجملة الخبرية في الوجوب.
37

الطلب - عند بيان الوجوب، فيكشف ذلك عن كون الجملة حينئذ ظاهرة عرفا فيه بحيث لا حاجة لها في إفادته إلى ضم قرينة من المتكلم إليها، وهو المطلوب.
الثالث: استدلال العلماء والصحابة خلفا عن سلف بالأخبار الواردة بلفظ الخبر - المعلوم إرادة الإنشاء منها - على إثبات الوجوب من غير نكير عليهم، كما استدلوا عليه بصيغة الأمر المجردة.
هذا كله مضافا إلى ما نرى من بناء بعض من أنكر ذلك - لفظا - عليه في مصنفاته، فراجع كتب من أنكر، فإنك تراه أنه استعمل لفظ الجملة الخبرية في معنى الوجوب في عناوين الفقه من غير قرينة على تعيين الوجوب.
وكيف كان، فظهور الجمل في الوجوب حينئذ كظهور الأمر في الوجوب بديهي لنا وللعرف، وعمل الناس طرا عليه من العرف والعلماء حتى المنكرين إذا غفلوا [1] عما بنوا عليه من جهة بعض الشبهات، كما وقع عن بعض فإنه كالجبلي لجميع الناس.
وقد نسب الفاضل النراقي - بعد ما استقرب القول بالإنكار على ما حكي عنه في كتاب (المناهج) [2] - هذا القول إلى جماعة منهم العلامة [3] في

[1] هذا هو الأظهر، ويحتمل أن العبارة هكذا: (إذ أغفلوا).
[2] مناهج الأحكام والأصول: 41، عند قوله: (منهاج: قد وردت في الآيات والأخبار ألفاظ خبرية).
[3] تذكرة الفقهاء: 1 - 25، والظاهر أن الفاضل النراقي (ره) استفاد قول العلامة (قده) بظهور الجمل الخبرية في الوجوب من مفهوم قوله (قده): (وقول الكاظم () عليه السلام: «المصحف لا تمسه () على غير طهر... إن الله تعالى يقول: (- لا يمسه إلا المطهرون -) () محمول على الكراهة.).، فلو لا ظهور الجملة الخبرية في التحريم عنده لما التجأ إلى حملها على الكراهة.
38

(التذكرة) [1] في مسألة جواز مس كتابة القرآن بغير طهارة.
وقد نقل بعض أقراننا أن الموجود فيها خلاف ما نسب - قدس سره - بل هو قائل بعدم جواز المس [2] مستدلا بقوله تعالى: (- لا يمسه إلا المطهرون -) ()، فعلى هذا [هو] موافق لما اخترناه، فإن الآية من الجمل المستعملة في الإنشاء، ونسبته - قدس سره - الخلاف إلى غير العلامة [3] - على

[1] قال دام ظله: الظاهر غلطية النسخة، وأن الأصل (الذخيرة) () مكان (التذكرة)، فإن في الذخيرة ما يدل بظاهره على المنع، فراجع. لمحرره عفا الله عنه.
[2] قال - دام ظله - العلامة في (المنتهى) () في مسألة الحائض استشكل في حديث: «أنها تلبس درعها، وتضطجع () معه» () - أي مع زوجها -: بأنه جملة خبرية، وهي غير ظاهرة في الوجوب، بل تفيد الندب.
قال: وهذا النوع من المناقشات كثيرة منه، مع ما عرفت من استدلاله بالآية على عدم جواز مس كتابة القرآن.
وكيف كان، فمخالفته - سيما في بعض كتبه - لا تضرنا بعد قيام الدليل على خلافه. لمحرره عفا الله عنه.
[3] قال دام ظله: قال المحقق الثاني () قدس سره -: (الجملة الخبرية غير صريحة في الوجوب).
قال دام ظله: ولا يبعد ذلك منه، إذ بناؤه على أنه ليس كثير اعتناء بالظواهر اللفظية، فلذا يرفع اليد عنها بالظنون الخارجية كالشهرة وأمثالها، بل يرفع اليد عنها بسبب الأصول العملية، لكن بعد قيام الدليل القطعي لا نبالي بخلاف هؤلاء، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
39

تقدير صدقها - لا تضرنا بعد قيام الأدلة القطعية على المختار، مع أنه إنما استظهر الإنكار ممن نسب إليهم في بعض الموارد الخاصة كالمسألة المذكورة، ولا ريب أنه لعل إنكارهم لحرمة المس من جهة إجمال الآية من حيث إنه فسرت أيضا بأن المراد () هو اللوح المحفوظ، يعني: لا يمسه - اللوح المحفوظ - إلا المطهرون. فعلى هذا يراد بها الإخبار عن ذلك لا غير، فيخرج عن محل الكلام، إذ هو بعد فرض إرادة الإنشاء من الجملة الخبرية، ولا ربط لها حينئذ بجواز مس كتابة القرآن.
وعلى تقدير أنهم استشكلوا في الآية من جهة كونها جملة خبرية، وأنها ليست ظاهرة في الوجوب، فيمكن حمل ذلك على أنهم اعتقدوا حكم المسألة - أعني جواز المس - بدليل آخر.
ثم أشكلوا في الآية من باب الشبهة في مقابلة البديهة التي يعلمون خلافها من أنفسهم، فإن الخروج عن ظاهر الآية وإن كان لا بأس به مع العثور على دليل قاهر عليها أظهر منها أو نص في الجواز، إلا أن تعليل عدم جواز التمسك بكونها من الجمل الخبرية وأنها ليست ظاهرة في الوجوب شبهة في مقابلة البديهة، وكيف كان، فيظهر [أن] تلك الشبهات غير عزيزة في كلماتهم، فراجع.
ثم إنا بعد ما حققنا من ظهور الوجوب من الجمل يندفع استدلال المانعين، فإن لزوم الوقف إنما فيما إذا لم يكن أحد المجازات أظهر من غيره، وليس المقام كذلك كما عرفت.
ثم إنه احتج بعض من وافقنا في المذهب: بأن الوجوب أقرب إلى الثبوت والوقوع الذي هو مدلول الأخبار، وإذا تعذرت الحقيقة قدم أقرب
40

المجازات، بل ربما يقال [1] بدلالتها على الاهتمام بالطلب آكد من دلالة الأمر عليه.
وفيه: أن الأقربية الاعتبارية لا عبرة بها، فإن المدار في تقديم بعض المجازات على الآخر إنما هو ظهوره من اللفظ بعد قيام القرينة الصارفة دونه، وهي لا توجب ذلك، فإن آكدية معنى في العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي لا يوجب رجحان إرادة ذلك المعنى عند المتكلم ظهوره عند المخاطب، كما هو في الأقربية الاستعمالية كذلك.
نعم قد يبلغ تأكد العلاقة والمناسبة بين المعنى المجازي والحقيقي إلى حد يوجب كونه كأنه المعنى الحقيقي، فحينئذ لو لم يعارضه جهة أخرى فلا يبعد كونه موجبا لتعهد هذا المعنى بعد قيام القرينة الصارفة وظهوره من اللفظ حينئذ، وما نحن فيه ليس كذلك.
ثم إن هذا مبني على دعوى استعمال الجمل في خصوص الوجوب، لكنا مستريحون عن ذلك، فان الذي نحن بصدده ظهور الوجوب منها في المقام مع احتمال أن تكون الجملة مستعملة في الطلب المطلق ويكون منصرفا إليه لإطلاقه، كما مر في الصيغة.
ثم إن العلاقة بين معنى الإخبار والإنشاء من الوجوب والندب وإن كانت موجودة قطعا لكنا لم نقدر بعد على أنها أي قسم من العلائق، ودعوى الأقربية المذكورة متوقفة على إحراز ذلك، ثم ملاحظة أن تلك العلاقة في

[1] قال دام ظله: إنما تدل على آكدية الطلب إذا ظهر منها إرادة الوجوب، فمن منع ظهوره فيها يمنع () من ذلك - أيضا -، نعم هو سلم أنه لو علم إرادة الوجوب منها فهو آكد من الوجوب المستفاد من الأمر.
لمحرره عفا الله عنه.
41

الوجوب آكد منها في غيره، بل لا ريب في تحقق العلاقة أيضا بين الإذن الذي هو أيضا من مقولة الإنشاء وبين مفاد الجملة وتستعمل الجملة الخبرية أيضا فيه، كاستعمالها في الوجوب والندب، كما أن الصيغة أيضا تستعمل فيه، فإنه كما إذا سئلت عن فعل شيء، فيقال لك: أفعل؟ فتقول: (افعل) مريدا به الترخيص، فكذلك تقول حينئذ: (تفعل) مريدا به ذلك.
وكيف كان، فلما كانت العلائق غير محصورة فالإنسان لا يقدر في بعض المقامات على أن يجد اسما لتلك العلاقة، مع أنه قاطع بوجودها وتحققها واعتبارها في تصحيح الاستعمال المجازي.
قال دام ظله: التدبر في تشخيص العلائق وإمعان النظر فيها - ليعرف أنها داخلة في أي اسم - من قبيل صيد الخنزير، حيث إنه لا بد فيها من مشقة كثيرة مع عدم الفائدة فيه لعدم الانتفاع بلحمه.
هذا، ثم إن الكلام يجري في الجمل الخبرية المنفية المستعملة في معنى النهي، فإنها أيضا كالنهي ظاهرة في التحريم، كما أن المثبتة كانت كالأمر ظاهرة في الوجوب، والوجه الوجه، فتدبر.
الخامسة ():
اختلف القائلون بدلالة الأمر على الوجوب في أن وقوعه عقيب الحظر هل يصلح لأن يكون قرينة صارفة له عن الوجوب إلى غيره، أو لا، بل وروده عقيبه كوقوعه في سائر الموارد في ظهوره في الوجوب أيضا؟ وعن جماعة - منهم الشيخ () والمحقق () والعلامة () والشهيد الثاني () وجماعة من العامة
42

منهم الرازي () والبيضاوي () الثاني، وعن الإحكام () نسبته إلى المعتزلة.
ثم القائلون بالأول [1] اختلفوا على أقوال:
أحدها: انه حينئذ يفيد الإباحة، وهذا هو المحكي عن الأكثر، وعن ظاهر الإحكام أن المراد بالإباحة في المقام هو رفع الحجر، دون الإباحة الخاصة، وعن بعض الأفاضل انه صرح بتفسير الإباحة هنا بمعنى الرخصة في الفعل ().
وثانيها: التفصيل بين ما إذا علق الأمر بارتفاع علة عروض النهي وما لم يعلق عليه، فيفيد الإباحة في الأول دون الثاني بمعنى أن وقوعه عقيب الحظر حينئذ لا يصلح للصرف، بل محمول على الوجوب.
ثالثها: أنه وقوعه عقيبه صارف عن ظاهره إذا لم يكن حكم ما قبل النهي هو الوجوب، وإلا فهو ظاهر في الوجوب أيضا، كسائر الموارد، ثم إنه إن كان حكم ما قبل النهي غير الوجوب والندب والكراهة فيفيد الأمر حينئذ هذا الحكم.
ورابعها: أنه صارف مطلقا وهو حينئذ يفيد الندب.
وخامسها: الوقف بمعنى إجمال اللفظ حكي نسبته عن الأحكام () إلى إمام الحرمين.
وقبل الخوض في المرام لا بد من تحرير محل النزاع، كي يندفع به بعض

[1] قولنا: (ثم القائلون بالأول) نعني: القائلين به في الجملة، فلا ينافي ما سيأتي من التفصيل.
لمحرره [عفا الله عنه].
43

المغالطات الصادرة عن بعض في مقام الاستدلال، فنقول: إن النزاع في المقام إنما هو في الأمر الواقع عقيب الحظر - كما يشهد به عنوان كلامهم كما عرفت - لا الحاصل قبله الشامل بعمومه أو إطلاقه لما بعد الحظر بأن يكون النهي من قبيل المخصص أو المقيد له بالنسبة إلى زمان النهي.
وبعبارة أخرى: النزاع من جهة وقوع الأمر بعد الحظر وعقيبه لا من جهة كون المنهي عنه مأمورا به بعد النهي، فيدخل فيه ما إذا كان ثبوت الأمر له بعده من جهة الأمر السابق على النهي بعمومه أو إطلاقه.
فعلى هذا فيخرج أمر الحائض والنفساء بالصلاة بعد كونهما منهيتين عنها حال الحيض والنفاس عن محل النزاع، فإن كونهما مأمورتين بها بعد القرء إنما هو بالأمر السابق على النهي لإطلاقه بالنسبة إلى جميع حالاتهما، وإنما ورد التقييد بسبب النهي بالنسبة إلى حال القرء فقط، فتبقى حالاتهما الاخر داخلة في إطلاق الأمر السابق، فالحكم بوجوب الصلاة عليهما بعد القرء لذلك، لا لأن هذا المورد من وقوع الأمر عقيب الحظر، ومع ذلك حكموا بوجوبها عليهما بعده، لمنع صلاحية وقوعه بعده للصرف.
هذا، وأيضا النزاع في صلاحيته للصرف وعدمها إنما هو فيما إذا كان المخاطب عالما بالنهي السابق، وملتفتا إليه أيضا حال الأمر، وكذلك المتكلم الآمر يكون عالما به وملتفتا إليه حينئذ، وكيف كان فلا بد أن يكون كلاهما عالمين به وملتفتين إليه حينئذ.
ثم المراد بالأمر في المقام إنما هو الأمر اللفظي - لا اللبي [1] - فإن هذا النزاع - كما عرفت - إنما هو بين القائلين بظهور صيغة الأمر في الوجوب، ويكون غرضهم تحقق أنه إذا وقع عقيب الحظر، فهو هل يصلح لصرفها عن

[1] الأمر اللبي لا يكون له ظاهر وخلاف ظاهر، حتى يجري فيه ذلك. لمحرره عفا الله عنه.
44

ظاهرها أو لا؟ وتعرضهم لذلك دون سائر القرائن إنما لضبطه وكليته - كما في المجاز المشهور - دون سائر القرائن الشخصية اللاحقة لخصوصيات الموارد، لكن المراد بالنهي في المقام أعم من اللفظي وغيره، فإن النظر في القرينة والصرف إنما هو إلى مجرد وقوع الأمر عقيب النهي، لا إلى ما دل على النهي والحظر.
وهل المراد به الأعم من الشرعي والعقلي أو خصوص الأول؟ الظاهر الثاني، كما يشهد به احتجاج القائل () بأن الأمر حينئذ للوجوب بأنه إذا وقع عقيب الحظر العقلي يكون للوجوب اتفاقا، فكذلك ما نحن فيه، فإن القياس لا يتم إلا بعد الفراغ عن حكم المقيس عليه، وكونه مسلما بين الفريقين.
وكيف كان، فالظاهر اختصاص النزاع بالنهي الشرعي، لا العقلي، أو الأعم، لشهرة ما عرفت به وإن كان في نفس الاستدلال ما لا يخفى على المتأمل من منع المقيس عليه صغرى وكبرى، كما سيأتي بيانه عن قريب إن شاء الله.
ثم إن النظر في المقام فيما إذا كان متعلق الأمر عين ما تعلق به النهي، كما يدل عليه اعتبارهم وقوعه عقيبه، فإن معناه وقوعه في محل عقيب النهي، وبالفارسية: (امرى كه پاى در جاى پاى نهى گذارد، وأين كناية است از ورود أو بموضوعى كه نهى متعلق باو است.
فعلى هذا يخرج ما إذا ورد الأمر بعد النهي، لكن على موضوع مغاير لمتعلق النهي بحسب المفهوم وإن كان الموضوعان متلازمين في الوجود، أو متحدين في المصداق في بعض الأحوال، فبذلك يتجه المنع على قياس المستدل - على إفادة الأمر الواقع عقيب الحظر - المقام بالأوامر الشرعية الواردة بعد النهي
45

العقلي، فإنه على تسليم حكم العقل بالحظر قبل العثور على الأمر الشرعي، فلا ريب أن موضوع حكمه إنما هو عنوان المجهول كونه مأمورا به، وموضوع الأوامر الشرعية إنما هو ذوات الأفعال من حيث هي، إذ لا يعقل ورود الأمر الشرعي على موضوع حكم العقل بحرمته مطلقا، سواء كان من أحكامه الواقعية كحكمه بحرمة الظلم وقبحه، أو من أحكامه الظاهرية كحكمه بحرمة فعل ما لم يعلم بكونه مأمورا به، وقبحه، لامتناع توجه الأمر شرعا إلى ما حكم العقل بقبحه، وكيف كان، فهما مفهومان متغايران. نعم اتفق اتحادهما في المصداق، وهو غير مجد، فبطل القياس، لخروج المقيس عليه عن عنوان الكلام.
ومن هنا يتجه الإشكال على المستدل المذكور أيضا في استدلاله على ما صار إليه بظهور الأمر بالذهاب إلى المكتب بعد النهي عن الخروج عن المحبس، إذ لا ريب أن متعلق النهي إنما هو الخروج عن المحبس، ومتعلق الأمر إنما هو الذهاب إلى المكتب، وهما مفهومان متغايران، فيخرج ذلك عن محل الكلام.
لا يقال: إن المثال الذي ذكره المستدل هو قولنا: (اخرج من المحبس إلى المكتب) بعد النهي عن الخروج عنه، فمتعلق الأمر فرد من الخروج المطلق الذي هو متعلق النهي، فيدخل في محل الكلام، فعلى تقدير تسليم
ظهور الأمر حينئذ في الوجوب يتم استدلاله.
لأنا نقول: إن قولنا: اخرج منه إلى مكان كذا إنما هو عبارة أخرى عن قولنا: اذهب إلى المكان المذكور بقرينة كلمة (إلى)، فإنها دالة على أن المراد من الخروج الذهاب، فتأمل [1].

[1] وجه التأمل: أنه يمكن أن يكون ذلك على وجه التضمين. لمحرره عفا الله عنه.
46

ثم إن المعتبر في اتحاد موضوعي الأمر والنهي إنما هو كونهما من سنخ واحد، سواء اتحدا في الإطلاق والتقييد أيضا، أو لا، لإطلاق كلامهم في محل النزاع، مضافا إلى عدم الفرق بين الصورتين من جهة جريان دليلي المنع والإثبات، كما سيأتي.
ثم الظاهر عموم النزاع بالنسبة إلى النهي الغيري أيضا، لإطلاق كلامهم، ولاتحاد المناط، وجريان دليل المنع والإثبات في كل من النفسي والغيري من غير فرق.
وهل يعم النهي التنزيهي؟ الظاهر لا، لأنه ليس بحظر، مع أنه لا معنى لإيراد الأمر عقيبه لإفادة الرخصة، فإنها حاصلة قبلها، إذ معنى التنزيه ذلك، فلا وجه للخروج عن ظاهر الأمر بمجرد وقوعه عقيبه.
وليس الغرض في المقام دعوى كون الأمر حينئذ ظاهرا في الإباحة الخاصة حتى يقال: إنها غير حاصلة قبلها، بل إنما هو إثبات ظهوره في الإباحة بالمعنى الأعم، وهي موجودة في الكراهة، فافهم.
ثم إنه لا يشترط في المقام ورود الأمر عقيب الحظر بلا فصل زمان، بل المعتبر وروده عقيبه بحيث لولاه لكان الفعل محظورا عنه، وإن كان زمان ورود الحظر والنهي قبله بألف سنة.
والحاصل: أن المعتبر ورود الأمر بعد ثبوت النهي لمورده.
فإذا عرفت ذلك كله فنقول:
الحق أن وقوع الأمر عقيب الحظر بنفسه موجب لظهور الأمر في توجهه إلى ارتفاع النهي السابق، وأن المراد منه الرخصة في الفعل، ظهورا نوعيا غير مختص بمقام دون آخر، أو بمتكلم دون آخر، بحيث يكون بمثابة الوضع في أنه
47

لو كان المراد به حينئذ غير ما ذكر لكان خلاف ظاهر اللفظ، ومحتاجا إلى قرينة صارفة عن هذا الظهور النوعي العرفي، وكأن السر في كون الوقوع المذكور موجبا لذلك: أنه لما كان المفروض في المقام التفات كل من الآمر والمأمور [إلى] النهي () السابق، وعلم الآمر والتفاته إلى التفات المأمور [إلى] النهي () السابق، وأن حالته حالة انتظار الرخصة، فحينئذ لو كان المراد بالأمر غير الرخصة لبعد وروده في تلك الحال.
وهذا نظير ما إذا استأذن ذلك الشخص المنهي من الناهي ارتكاب ما نهى عنه بقوله: أفعله؟ فقال: افعل، فإنه يمكن إعراضه عن جوابه وإرادة حكم آخر، إلا أنه بعيد عن ظاهر المقام، فكما أن ذلك يوجب ظهور الأمر في مجرد الرخصة وصرفه عن الوجوب إليه بلا خلاف أجده، فكذلك حالة انتظاره للإذن والرخصة مع علم الآمر والتفاته إليها توجب ذلك، من غير فرق أصلا، فيكون دلالة الأمر على الرخصة من قبيل دلالة التنبيه والإيماء.
ومنشأ ظهور المقام في ذلك ليس هو الغلبة، بل إنما هو ظهور حال الآمر، فإن الظاهر من حاله حينئذ أن غرضه إنما هو رفع الحظر السابق، فلذا يتحقق ذلك فيمن كان أمره ذلك أول أمره الصادر منه بعد الحظر.
وإنما قلنا بإفادة الأمر حينئذ مجرد الرخصة، - أعني الرخصة النوعية التي [هي] جنس للأحكام الأربعة غير الحرمة - مع أن ارتفاع النهي يمكن بإرادة أحد الأربعة بالخصوص، من الوجوب، والندب، والكراهة، والإباحة الخاصة، لظهور المقام في أن المراد بهذا الأمر إنما هو مجرد رفع النهي السابق، فحينئذ لو كان المراد منه أحد الأربعة بالخصوص، فليس النظر فيه أصالة إلى رفع النهي
48

السابق وإن كان يرتفع حينئذ تبعا، بل [النظر] () إنما هو إلى إثبات حكم جديد مستقل مقابل للحرمة يلزمه تبعا ارتفاع الحظر السابق.
والحاصل: أنه لما كان المقام ظاهرا في توجه هذا الأمر إلى النهي السابق، وأن الداعي إليه إنما هو رفعه، فيكون هو بنفسه حينئذ ظاهرا في مجرد الرخصة النوعية، فلو كان المراد به حينئذ أحد الأربعة بالخصوص، لم يكن هو متوجها إلى النهي السابق بأن يكون الغرض منه رفعه، بل يكون الغرض حكما مقابلا للحرمة يلزم من إرادته ارتفاعه تبعا، فيكون إرادة أحدها بالخصوص مخالفا لظاهر الأمر في المقام.
نعم يمكن إرادة خصوصية أحد الأربعة من الخارج، بمعنى الدلالة عليها بقرينة خارجية، لعدم المنافاة بين إثبات مجرد الرخصة في مورد بسبب الأمر، وبين تعينها بعد ذلك في ضمن أحد الأربعة.
وكيف كان، فالذي نجد من أنفسنا، ومن العرف في المقام إنما هو ظهور الأمر حينئذ في مجرد الرخصة النوعية المتوجهة إلى النهي السابق، بحيث لو كان المراد به أحد الأربعة بالخصوص لكان مخالفا لهذا الظهور العرفي للتبادر، فإنه كما يثبت به الوضع، فكذلك يثبت به الظهورات النوعية العرفية [1] وإن كان مجازيا، ولا ينبغي أن يشك فيه من له أدنى تأمل وتدبر، وكفى به حجة ودليلا.
حجة القول بأن الأمر حينئذ للوجوب وجوه:
أحدها: أن الصيغة موضوعة له، فلا بد من حملها عليه إلى أن يتبين

[1] فإن تبادر معنى خاص من اللفظ بواسطة اقترانه بشيء مع قطع النظر عن سائر خصوصيات الموارد دليل على أن الشيء المذكور قرينة على ذلك المعنى وموجب لظهوره من اللفظ إلا أن تقوم قرينة على خلاف ذلك الشيء. لمحرره عفا الله عنه.
49

المخرج عنه، ومجرد وقوعها عقيب الحظر لا يصلح لذلك، لجواز الانتقال من الحرمة إلى الوجوب، بأن يكون شيء محرما إلى زمان، فيصير واجبا بعد ذلك الزمان، كما يجوز الانتقال منه إلى الإباحة.
وكيف كان، فجواز كل من الانتقالين على حد سواء في نظر العقل، وليس النهي السابق منافيا للوجوب بعده، حتى يصلح وقوع الصيغة للصرف، كما هو شأن القرينة في المجاز.
والحاصل: أن صلوحه للصرف مبني على امتناع الانتقال من أحد الضدين إلى الآخر، وهو باطل، مع أنه يجري بالنسبة إلى الإباحة أيضا، فإنها ضد للحرمة أيضا.
ثانيها: أنه لا كلام عند القائل بكون الصيغة للوجوب أن ورودها عقيب الحظر العقلي لا ينافي حملها على الوجوب، بل يحمل أوامر العبادات الواقعة بعده - حيث ان العقل كان يحكم بالحظر، نظرا إلى قبح التشريع - على الوجوب إلى أن يعلم المخرج عنه.
ثالثها: أنه أمرت الحائض والنفساء بالصلاة بعد حظرها عليهما، ولم يتوقف أحد في حمل هذا الأمر على الوجوب، وكذا الحال في قوله تعالى: (- فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين -) () وكذا قول المولى لعبده: (اخرج من المحبس إلى المكتب)، بل لا يستفاد منها سيما المثال الأخير إلا الوجوب كالأوامر الابتدائية.
هذا، ولا يخفى ما في الكل من التأمل بل المنع، كما يظهر للمتأمل.
أما الأول: فلأن مبنى القرينة الصارفة ليس على تنافي إرادة الحقيقة معها، حتى يدفع ما نحن فيه بأنه لا منافاة، بل المدار فيها على كونها بحيث
50

تكون إرادة الحقيقة منافية لظاهر القرينة [1]، وما نحن فيه كذلك بشهادة التبادر عرفا حينئذ بظهور الصيغة بواسطة المقام في رفع الحظر، فتكون إرادة الوجوب منافية لهذا الظهور.
وأما الثاني: فلما أشرنا إليه آنفا من خروجه عن موضوع البحث في المقام، نظرا إلى تغاير متعلقي الحظر والأمر، لامتناع تعلق الأمر الشرعي بما هو موضوع عند العقل في حكمه بالحرمة والقبح، فإن القبيح عنده كيف يجوز كونه مأمورا به عند الشارع؟ هذا على تسليم حكم العقل بالحظر في العبادات قبل الأمر الشرعي، وإلا فيمكن منع هذا الصغرى بأن حكمه بذلك مسلم فيما إذا علم بعدم الأمر، وأما إذا احتمله في الواقع فلا يحكم بقبحه وحرمته من باب التشريع لعدم إحراز موضوعه بعد. اللهم إلا أن يدعى أن التشريع هو فعل ما لم يعلم كونه من الدين، وأن العقل يحكم بقبح هذا العنوان، وكلاهما محل نظر.
وكيف كان، فالجواب ما عرفت من خروج ما ذكر عن موضوع البحث [2].

[1] وبعبارة أخرى: ليس المدار على التنافي بين إرادة الحقيقة ووجود القرينة، بل على التنافي بينها وبين ظاهر القرينة، وهذا موجود في المقام كما عرفت. لمحرره عفا الله عنه.
[2] المثال المطابق للمقام قوله صلى الله عليه وآله: «كنت نهيتكم عن ادخار الأضاحي، ألا فادخروها» ()، فهل يجد المصنف من نفسه من هذا الكلام مع قطع النظر عن الأمور الخارجية إلا الرخصة فيما نهى صلى الله عليه وآله عنه أولا؟ لمحرره عفا الله عنه.
51

وأما الثالث: فلما عرفت من خروج أمر الحائض والنفساء، وكذا أمر المولى بالخروج إلى المكتب عن موضوع البحث لسبق الأمر على الحظر في الأول، وأن الحظر في زمان خاص كان مقيدا له بذلك، فيكون ثبوت الوجوب لما بعده بإطلاق ذلك الأمر، ولاختلاف موضوعهما في الثاني.
وأما الأمر بقتل المشركين بعد الأشهر الحرم فكونه للإيجاب إنما هو لقيام الإجماع عليه، فيكون هو مخرجا للأمر عن هذا الظهور العرفي وصارفا عنه، وكلامنا إنما هو في الأمر الواقع عقيبه الحظر بالنظر إلى وقوعه بعده مع قطع النظر عن سائر القرائن.
ومن هنا نقول: إن أمر الحائض والنفساء، وكذا الأمر بالخروج إلى المكتب على تسليم دخولهما في موضوع النزاع إنما حملا على الوجوب بسبب القرينة، وهي الإجماع في الأول، والعلم بمطلوبية الذهاب إلى المكتب في الثاني.
ومن هنا يندفع القول بظهور الأمر حينئذ في الحكم السابق على الحظر، فإنه على تقدير تسليمه إنما هو لأجل القرينة الخاصة وهي ثبوت الوجوب أو الإباحة قبله، مع أن كون الحكم السابق قرينة على ظهور الأمر حينئذ فيه محل نظر.
ثم إن الظاهر أن حجج الأقوال الأخر إنما هي دعوى ظهور الأمر حينئذ عرفا فيما صاروا إليه فكل يدعيه على طبق مدعاه.
وأما القائل بالوقف والإجمال: فحجته أنه يرى التعادل بين ما يقتضي الحمل على الحقيقة، وبين ما يقتضي حمله على المجاز فتوقف.
وجوابه قد علم مما سبق، فإن المنصف يجد ظهوره فيما اخترنا دون ما صاروا إليه، وبهذا الظهور يندفع القول بالوقف، فإن ما يقتضي حمله على الحقيقة مقهور بالنسبة إلى ما يقتضي حمله على المجاز، فيؤخذ بالثاني، فلا وجه للتوقف.
52

ثم إن الذي اخترنا بالنسبة إلى ما يكون النهي السابق غير مغيا بزمان ورود الأمر لا إشكال فيه، وأما بالنسبة إليه فالإنصاف أنه لا يتمشى فيه الوجه المتقدم، لكونه منشأ للظهور، فإن المكلف عالم حينئذ بعدم النهي بعد ذلك الزمان بمقتضى مفهوم الغاية، فليس له حالة منتظرة إلى الرخصة حتى يكون الأمر حينئذ ظاهرا فيها لذلك.
والحق أن يقال في وجهه: أن ظهوره فيها حينئذ إنما هو بقرينة المقابلة بمعنى أن ذكر الأمر في قبال النهي المغيا قرينة عرفا على أن المراد به رفع ذلك النهي وأنه تأكيد لمفهوم الغاية، وهذا ظاهر لا إشكال فيه، إلا أنه فيما إذا كان الأمر متصلا بالنهي أظهر، فتدبر.
لا يقال: إن هذا القسم خارج عن موضوع البحث، فإن متعلق النهي وموضوعه هو الفعل المقيد بقطعة من الزمان، وموضوع الأمر هو مقيدا بقطعة أخرى منه، فاختلف موضوعاهما.
لأنا نقول: إن الغاية قيد للحكم، والموضوع هو الفعل المطلق، وكذا موضوع الأمر، ولو لا ذلك لدخل مفهوم الغاية في مفهوم اللقب المختلف فيه، وهو باطل بالضرورة.
ثم إن هذا الذي ذكرنا - من كون التقابل قرينة على ظهور الأمر في رفع النهي - يجري في غير النهي التحريمي والأمر أيضا، كما إذا كان تنزيهيا، فإنه حينئذ وإن لم يكن موجبا لظهوره في الرخصة - كما مر - إلا أنه يوجب الظهور في رفع الكراهة النفسية، فافهم، بل يجري فيه الوجه المتقدم أيضا، فإن المكلف حينئذ وإن لم يكن له حالة منتظرة إلى الرخصة إلا أن له حالة انتظار رفع الكراهة، فتدبر جيدا.
53

تنبيهات:
الأول: هل الحال في النهي الواقع عقيب الأمر كحال الأمر الواقع عقيبه أو لا؟ الظاهر الثاني.
ووجهه: أن الرخصة في ترك المأمور به إنما يقع غالبا بغير صيغة النهي من لفظ (لا بأس، ولا حرج) وأمثالهما، ووقوعها بها نادر جدا، فهذا يوهن إرادة الرخصة من النهي، ألا ترى أنه إذا استأذنك أحد في ترك شيء، فأردت ترخيصه، فإنما ترخصه غالبا بقولك: (لا بأس، ولا حرج، وليس عليك) وأمثالها، وقل أن تقول: لا تفعل.
بل الإنصاف أنا لم نظفر باستعمال () النهي فيها، والنواهي التنزيهية إنما استعملت في المنع، ودل معها على الرخصة من الخارج، كما في الأوامر الندبية، حيث إنها مستعملة في الطلب ودل معها على الرخصة من الخارج، هذا بخلاف الرخصة في فعل المنهي عنه، فإن الغالب مجيئها بلفظ الأمر، فأنصف وتأمل، لئلا يختلط عليك الأمر.
ونحو ذلك النهي التنزيهي الواقع عقيب الأمر الندبي، والوجه الوجه.
الثاني: أنهم وإن حرروا الكلام في الأمر الواقع عقيب الحظر المحقق، إلا أن الظاهر جريانه في الواقع بعد ظنه أو توهمه، والمختار فيه أيضا المختار، والوجه الوجه، فإن من ظن أو توهم النهي فله حالة انتظار الرخصة جدا.
الثالث: أن الذي مر كان على القول بكون صيغة الأمر للوجوب، لكن
54

الإنصاف جريان الكلام على كونها لمطلق الطلب أو الندب، والمختار حينئذ أيضا المختار، والوجه الوجه، والله الهادي إلى سواء الطريق.
السادسة ():
قال صاحب المعالم - قدس سره - بعد اختياره أن صيغة الأمر للوجوب.
فائدة: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة - عليهم [الصلاة و] () السلام - أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر به منهم - عليهم السلام () -.
قال - دام ظله - ووافقه في ذلك صاحب الذخيرة () والمشارق ()، ثم قال:
لا يخفى أنه جمع في كلامه بين وصفين متضادين، وهما التساوي والرجحان، فلا بد أن يكون متعلقاهما متغايرين، ومن المعلوم بمقتضى صريح العبارة أن متعلق الأول هو احتمال الإرادة من اللفظ، فحينئذ يحتمل أن يكون متعلق [1] الثاني هو الحقيقة بحسب الاستعمال، فيكون قوله: (المساوي احتمالها) صفة بعد صفة للمجازات، ويحتمل أن يكون سائر المجازات، يعني الراجحة على سائر

[1] أي الملحوظ فيه، فإنه أمر إضافي لا بد من ملاحظته بين أمرين: فأحد طرفيه إما هو المجاز، وطرفه الآخر المعبر عنه بالمرجوح: إما الحقيقة من حيث الاستعمال، أو سائر المجازات من حيث الاستعمال، أو الاحتمال، أو مطلقا. لمحرره عفا الله عنه.
55

المجازات، فيكون غرضه أنه صار مجازا مشهورا، وحينئذ يحتمل أن يكون قوله:
(المساوي) صفة بعد صفة حقيقة احترازا عن بعض أقسام المجاز المشهور.
وعلى هذا فيكون ذلك تنبيها ضمنا على أنه ليس مطلق المجاز المشهور مما يتوقف بينه وبين الحقيقة، بل هذا مختص بما إذا كان احتماله مساويا لاحتمال الحقيقة، فعلى هذا يستفاد أن مذهبه في المجاز المشهور ليس التوقف مطلقا، ويحتمل أن يكون حكما للمجاز المشهور، لا قيدا احترازيا وإن كان قد أتي به بصورة الوصف، فيكون غرضه التنبيه ضمنا على أن حكم المجاز المشهور مطلقا ذلك، ويكون غرضه الأصلي من أخذ هذا الوصف في كلامه جعله برهانا على مطلبه، وهو قوله: (فيشكل إلى آخره)، فيكون ذلك قياسا، وهذا نتيجة له، فتصير الاحتمالات ثلاثة، ولا يبعد أن يكون المراد الأخير.
أقول: بل أربعة، إذ على الشق الأول، وهو ملاحظة الرجحان بالنسبة إلى الحقيقة يمكن أن يكون قوله: (المساوي) وصفا حقيقة، كما هو مقتضى ظاهره، وأن يكون حكما جيء به بصورة الوصف أخذا له قياسا لمطلبه، وأيضا المجاز الراجح على الحقيقة من حيث الاستعمال قسم من المجاز المشهور، لا قسيم له، فيكون غرضه دعوى كون الصيغة مجازا مشهورا في الندب، ولازم المجاز المشهور أيضا بجميع أقسامه كونه راجحا على سائر المجازات من حيث الاستعمال، وإلا لم يسم به اصطلاحا:
أما على تقدير عدم رجحانه عليها أصلا فواضح.
وأما على تقدير رجحانه عليها من حيث الاحتمال إذا لم يكن مسببا عن أكثرية الاستعمال فلأنه حينئذ يسمى بأظهر المجازات لا مشهورها، فافهم.
وقد أجاد بعض المحققين من المتأخرين () فيما علقه على المعالم حيث
56

فسر قول المصنف: بأن مقصوده كون الصيغة مجازا مشهورا في الندب.
وكيف كان فعلى جميع التقادير غرضه دعوى كثرة استعمال الصيغة في الندب مجازا إلى حد أوجب تساوي احتماله منها مجردة عن القرينة لاحتمال الوجوب، ومقتضاه التوقف.
ثم إن أول من ورد على تلك العبارة وأورد عليها هو سلطان العلماء - قدس سره - فيما علقه على المعالم، قال:
(أقول: شيوع الاستعمال في الندب مع القرينة [1] لا يستلزم تساوي الاحتمالين في المجرد عن القرينة.
نعم إن ثبت شيوع الاستعمال بدون القرينة الصارفة، بان يكون استعمالهم فيه مطلقا، ويعلم بدليل منفصل أن مرادهم الندب، فلا يبعد ما ذكر، وكان () هذا مراد المصنف، لكن إثبات مثل هذا الشيوع لا يخلو عن إشكال، فتدبر) (). انتهى كلامه رفع مقامه.
قال - دام ظله -: وكأن وجه الفرق عنده بين كثرة الاستعمال مع القرينة المتصلة وبينها مع المنفصلة زعم أن المستعمل في الأول هو اللفظ مع القرينة لا اللفظ وحده، بخلاف الثاني، فإنه فيه اللفظ وحده، فعلى هذا يتم الفرق، فإن تساوي الاحتمالين إنما يتسبب من حصول استئناس بين اللفظ والمعنى المجازي بسبب شيوع استعماله فيه في نظر المخاطب، فيعادل استئناسه الحاصل بينه وبين المعنى الحقيقي من جهة الوضع، وهذا إنما يتم في المقام على تقدير كون المستعمل اللفظ وحده ليحصل الاستئناس بين نفس هذا اللفظ وبين المعنى المجازي،

[1] يعني القرينة المتصلة. [لمحرره عفا الله عنه].
57

حتى يكون ذلك منشأ لتساوي الاحتمالين عند فقد الأمور الخارجية المعينة للمراد منه إذا ورد مطلقا.
هذا بخلاف ما إذا كان المستعمل اللفظ مع القرينة، بأن تكون هي جزء منه، فإن شيوع استعمال المركب في معنى لا يوجب حصول الاستئناس بين أحد جزئيه وبين ذلك المعنى.
ألا ترى أنه لو شاع استعمال قولك: (ضارب زيد) مثلا في (عمرو) غاية الشيوع، بل إلى حيث بلغ مرتبة النقل، فذلك لا يستلزم تساوي إرادة (عمرو) من (الضارب) وحده، أو من (زيد) كذلك لإرادة كلي الضارب، أو الشخص المخصوص المسمى بزيد.
وكيف كان، فالنسبة بين المركب وجزئه كالنسبة بين المفردين هي التباين، فلا يلزم من حصول وصف للمركب حصوله لجزئه.
والحاصل: أن شيوع الاستعمال إنما يوجب الاستئناس [بين] () المستعمل وبين المعنى المستعمل فيه، فإن كان هو المركب فهو حاصل بين مجموع الأجزاء وبين المعنى المستعمل فيه اللفظ لا غير، فإذا فرضنا أن المستعمل في الندب ليست الصيغة وحدها، بل هي مع القرينة فلا استئناس بينها وبين الندب حتى يوجب تساوي احتماله [مع] احتمال () الوجوب عند تجردها عن القرينة.
ثم قال دام ظله: وهذا الفرق على تقدير كون القرينة جزء من المستعمل في غاية المتانة، إلا أن الظاهر خلافه، فإن الظاهر أنها شرط دلالة اللفظ على المعنى المجازي، لا جزء من المستعمل، فالمستعمل هو اللفظ وحده.
ثم الظاهر إمكان بلوغ كثرة الاستعمال مع القرينة المتصلة إلى حد
58

أوجب الاستئناس بين اللفظ والمعنى المجازي بحيث يمكن معه اعتماد المتكلم في تفهيم المعنى المجازي على نفس مثل هذه الشهرة، إلا أن الفرق بينها وبين المنفصلة أن الثانية أقرب من الأولى من حيث السببية للاستئناس بين اللفظ والمعنى المجازي، حيث إنه يحصل معها الاستئناس المذكور بعدة استعمالات كذلك، بخلاف الأولى لاحتياجها إلى البلوغ في الكثرة غايتها.
لا يقال: كيف يمكن كون الأولى سببا لذلك مع أنه ليس في الألفاظ المجازية أكثر استعمالا من لفظ الأسد في الرجل الشجاع، فإنه قد بلغ استعماله فيه مع القرينة المتصلة في كل عصر إلى حد لا مزيد عليه، ومع ذلك لو أطلق مجردا عنها لا نرى أحدا يتوقف بين إرادة المعنى المجازي أو الحقيقي، بل يحملونه حينئذ على حقيقته بلا تأمل وتوقف؟ لأنا نقول: إن استعمال اللفظ في المعنى المجازي كثيرا - سواء كان بالقرينة المتصلة أو المنفصلة - إنما يوجب تساوي الاحتمالين إذا تحقق من مستعمل واحد، ونحن نمنع بلوغه في لفظ الأسد بالنسبة إلى كل المستعملين أو بعضهم إلى هذا الحد، بل لو تأملت استعماله بالنسبة إلى آحاد الناس تجده قليلا غاية القلة، فتدبر.
ثم إنه ربما يتوهم دفع ما ذكره السلطان - من منع بلوغ استعمال الأمر مع القرينة المنفصلة في الندب إلى حيث يوجب تساوي الاحتمالين في اللفظ المجرد -: بأنه لا شبهة ولا ريب أنا بعد ما لاحظنا الأوامر المطلقة المجردة عن القرينة نجد أكثرها أن المراد بها الندب بقرينة الإجماع، أو بدليل آخر، بحيث يكون ما كان المراد به
الندب ضعف ما كان المراد به الوجوب، بل أضعافه، فثبت شيوع استعمال صيغة الأمر مجردة عن القرينة المتصلة في الندب.
لكنه مدفوع أولا: بأن العلم بكون المراد بأكثرها هو الندب لا يستلزم استعمالها فيه بلا قرينة متصلة، بل يحتمل أن يكون معها قرائن متصلة بها تفهم
59

المخاطبين، واختفت علينا، مع أن الاجتماع إنما هو قرينة بالنسبة إلينا لا إليهم، فلا بد أن تكون شيئا آخر غيره بخطاب آخر متأخر عن ذلك الأمر مقرون بوقت الحاجة.
وثانيا: بأن العلم بكون المراد بأكثرها الندب ممنوع، فإن المسلم أن المندوبات أكثر من الواجبات، لكن لا ريب أن أكثر المندوبات إنما ثبتت بقاعدة التسامح، ولا ريب أن الحكم بالندب فيما إذا ورد أمر من جهة تلك القاعدة ليس راجعا إلى حمل اللفظ عليه، بل إنما هو حينئذ حكم على طبق الندب، لا على أن المراد بالأمر ذلك، فلذا تجري تلك القاعدة فيما إذا علمنا أن ذلك الأمر على تقدير صدوره لم يكن معه قرينة أصلا، وكيف كان فمهما ضعف خبر سندا أو من حيث وجه الصدور - وبعبارة أخرى: لم يكن جامعا لشرائط الدليلية - فحكمهم حينئذ بالندب من باب التسامح، لا من باب حمل الأمر حينئذ على الندب، وشتان ما بينهما.
وكيف كان، فالإنصاف عدم تحقق شيوع استعمال صيغة الأمر في الندب بكلا قسميه [1]، لما عرفت من الجواب عن التوهم المذكور.
ولو سلمنا تحققه في الجملة فهو إنما بالنسبة إلى استعمالات مجموع الأئمة عليهم السلام وهو لا يجدي.
فإن قيل: إن مجموعهم عليهم السلام في حكم متكلم واحد، فيكون الشيوع من المتكلم الواحد.
قلنا: كونهم عليهم السلام في حكم شخص واحد إنما هو من جهة أن بعضهم لا يخالف قوله قول الباقين، بل أقوالهم وآراؤهم متحدة، وأما من جهة أن ما استعمله بعضهم استعمله الآخرون فممنوع.

[1] أي سواء كان مع القرينة المتصلة أو المنفصلة. لمحرره [عفا الله عنه].
60

فإن قلت: إنه لا ريب أن كل واحد من المعصومين من النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده من الأوصياء عليهم السلام كان مبينا للأحكام، ومنها المندوبات، وإثباتها إنما هو بصيغة الأمر، فثبت بذلك تحقق شيوع استعمالها في الندب بالنسبة إلى مجموع استعمالات عدة منهم كالنبي صلى الله عليه وآله وعلي، والحسن، والحسين عليهم السلام إن سلم عدم ثبوته بمجموع استعمالات واحد منهم.
قلنا: أولا - إن كون كل واحد منهم عليهم السلام مبينا لجميع الأحكام ممنوع، بل بعضهم لم يبينها للناس أصلا لخوف التقية [1] بحيث لم يقدر على إظهار إمامته كالسجاد عليه السلام، والآخرون لم يبين كل واحد جميعها، بل بعضها.
وثانيا - لو سلمنا كون كل واحد مبينا للأحكام التي منها المندوبات نمنع بيان المندوبات بأسرها بصيغة الأمر، بل بعضها بها، وبعضها بلفظ (ينبغي، ويستحب، ويندب إليه) وأمثالها، كما يظهر للمتتبع في الأخبار، فراجع وتدبر.
وكيف كان، فلا ينبغي الارتياب في عدم تحقق الشيوع الموجب للإجمال بكلا قسميه.
ومما يكشف عن ذلك أنه لم يتوقف أحد من الصحابة - على ما يظهر من حالهم، وكذا العلماء خلفا عن سلف - في التمسك على وجوب شيء بأمر مطلق مجرد عن القرينة ورد على ذلك الشيء.
ويشهد لذلك () دعوى السيد المرتضى () - قدس سره - اتفاق الإمامية

[1] أي الخوف الموجب للتقية أو لخوف فوات التقية.
61

على ذلك، حيث احتج على كون الأمر حقيقة في الوجوب في عرف الشرع: بأن (أصحابنا الإمامية لم يختلفوا في هذا الحكم الذي ذكرناه، وإن اختلفوا في أحكام هذه الألفاظ في موضوع اللغة، ولم يحملوا ظواهر هذه الألفاظ إلا على ما بينا، ولم يتوقفوا على الأدلة، وقد بينا في مواضع من كتبنا أن إجماع أصحابنا حجة).
انتهى.
وهذا الإجماع الذي ذكره السيد يكفي جوابا عن صاحب المعالم ومن وافقه، وصاحب المعالم - أيضا - لم ينكر على السيد هذا الإجماع، وإنما أجاب عن الاستدلال به: بأنه لكون الأمر للوجوب لغة (). والله الهادي.
السابعة ():
قال في القوانين () في مقدمات مسألة مقدمة الواجب: إن دلالة صيغة (افعل) على الحتم والإلزام التزامية بالمعنى الأخص، وعلى المنع من الترك هي بالمعنى الأعم، حيث قال: (دلالة الالتزام: إما لفظية وإما عقلية، واللفظية على قسمين: إما بين بالمعنى الأخص كدلالة صيغة (افعل) على الحتم والإلزام عند من يدعي التبادر فيه، كما هو الحق، والمراد به دلالة اللفظ عليه وكونه مقصودا للافظ أيضا.
وإما بين بالمعنى الأعم كدلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضد العام بمعنى الترك، فبعد التأمل في الطرفين والنسبة بينهما يعرف كون ذلك مقصودا للمتكلم) انتهى موضع الحاجة.
قال دام ظله: لا يخفى [ما] فيما ذكره - قدس سره - من إهمال وإجمال () وغموض واعتلال، فإذا جعل الحتم والإلزام معنى التزاميا للصيغة فحينئذ فما
62

معناها المطابقي؟ فلا يبقى شيء آخر يكون معنى مطابقيا لها.
قال: ويمكن حمل كلامه على أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون مراده - قدس سره - أن هيئة الصيغة موضوعة لمجموع نسبتين:
إحداهما: نسبة قيام الحدث - المدلول عليه بالمادة - بالمخاطب على وجه كونه مطلوبا منه.
والأخرى: نسبة المتكلم [إلى] ذلك () الحدث والمخاطب، وهي طلبه الحدث من المخاطب.
ومعنى الحتم والإلزام هي الثانية، وهي الطلب، وهو جزء لمعنى الهيئة، فهو لازم لها بالمعنى الأخص.
لكنه يبعده أن إطلاق دلالة الالتزام على ذلك خلاف الاصطلاح، بل هو دلالة تضمنية اصطلاحا.
وثانيهما: أن يكون مراده بالحتم والإلزام الوجوب الاصطلاحي، أعني استحقاق الذم والعقاب على الترك، بمعنى أن الصيغة تدل على الطلب الحتمي الصادر من شخص عال وجبت على المأمور إطاعته، فتدل على استحقاق الذم التزاما.
ويبعده: أنه - قدس سره - لم يجعل النزاع في الصيغة في أنها هل تدل على ذلك، أو لا؟ فإنه وإن صور محل النزاع بوجوه ثلاثة أحدها هذا، لكنه لم يرتضه، بل جعل النزاع في مطلق الصيغة، وفي أنها هل تفيد الوجوب اللغوي - أي الحتم والإلزام - أو لا؟ وجعل دلالتها على استحقاق الذم والعقاب من الواضع [في] ()
63

خصوص المقام، وهو ما إذا صدرت عن العالي، فافهم.
أقول: الظاهر أن مراده أنه بعد ما كانت الصيغة مفيدة للوجوب اللغوي - وهو الطلب على وجه الحتم والإلزام - فيكون الحتم والإلزام قيدا خارجا عن معناها لازما له، فتدل عليه التزاما بالمعنى الأخص، فمدلولها المطابقي هو الطلب المقيد بهذا القيد، ومدلولها الالتزامي هو نفس القيد، فلا إغلاق في كلامه - قدس سره - بوجه.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
64

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
في المرة والتكرار
قاعدة: اختلفوا في أن صيغة الأمر هل هي للمرة، أو التكرار، أو الطبيعة؟ على أقوال:
رابعها الوقف: وهو محتمل لأن يكون من جهة عدم تعيين الموضوع له والجهل به، كما صرح به () صاحب المعالم - قدس سره -، ويشهد له () ما حكى - قدس سره - من حجة هذا القول، ولأن يكون من جهة التوقف في المراد من جهة الاشتراك دون الوضع، ويمكن أن يكون كل من الاحتمالين قولا في المسألة، كما صرح به بعض المتأخرين.
وكيف كان، فتحقيق المقام يتوقف على تقديم أمور:
الأول: الظاهر أن النزاع هنا - كما في مسألة إفادة الصيغة للوجوب - إنما هو من جهة الوضع،
كما يشهد به كلماتهم في عنوان المسألة، فإن قولهم: (إن صيغة الأمر للمرة، أو للتكرار) ظاهر في أنها موضوعة لما ذا.
ويدل عليه - أيضا - جعل بعضهم من أقوال المسألة الاشتراك، فإنه لا يكون إلا بالنسبة إلى الوضع، بل يكفي في الدلالة عليه وجود القول بالوقف
65

من جهة الجهل بالوضع، فإنه صريح في أن النزاع فيه.
نعم يمكن جريان النزاع - أيضا - فيما يستفاد من الصيغة عند الإطلاق سواء كان من جهة الوضع بخصوصه، أو من جهة انصراف الإطلاق إليه، كما يمكن جريانه هناك.
ثم النزاع إنما هو في مجرد الصيغة، أي هيئة الأمر مع قطع النظر عن الخصوصيات الخارجية حتى الخصوصيات اللاحقة لها من جهة بعض المواد.
فعلى هذا، فإخراج بعض خصوصيات الصيغة، كما إذا كان معروضها بمعنى الترك، كاجتنب واترك - كما فعله بعض المتأخرين - غير جيد، فإن النزاع ليس في الخصوصيات حتى يكون اتفاقهم على كون المثال المذكور للتكرار تخصيصا لمحل النزاع، بل هو في الهيئة الكلية، فالتزام القائل بكونها للمرة - بأن المراد بالمثال المذكور التكرار - إنما هو من جهة وجود المخرج عن القاعدة الكلية والأصل الذي أسسه، فتدبر.
الثاني: النزاع هنا في أن الصيغة هل تدل على كمية الفعل المأمور به الذي هو مفروض الصيغة؟
وبعبارة أخرى: أنها هل لها تعرض لبيان كمية معروضها الذي هو الفعل المأمور به، أو لا، بل إنما تدل على طلب الفعل ساكتة عن إفادة كميته بأحد الوجهين من المرة، أو التكرار؟ والحاصل: أن النزاع في دلالة الصيغة على كمية ما تعلقت به وعدمها مع قطع النظر عن كون متعلقها الطبيعة أو الفرد، فإذن لا منافاة بين القول بالمرة أو التكرار، وبين القول بتعلق الأوامر بالطبائع، فإن النزاع [1] هناك في

[1] وبعبارة أخرى: إن النزاع هناك في أن الأمر هل يتعلق بوجود الطبيعة، أو بنفسها؟ فمن قال بالأول وكان من القائلين بالمرة هنا يقول بأن المطلوب بالأمر وجود واحد، وإن كان من القائلين بالتكرار يقول: إن المطلوب بالأمر الوجودات المتكررة إلى ما أمكن شرعا وعقلا. لمحرره عفا الله عنه.
66

تعيين نفس المأمور به من أنه هو الفرد أو الطبيعة، وهنا في دلالة الصيغة على كميته فإذن يجتمع كل من القولين هناك مع كل من الأقوال هنا.
فالقائل بالمرة أو التكرار - بناء على كون متعلق الأوامر هو الأفراد - يقولان بدلالة الصيغة على طلب إيجاد فرد من الطبيعة مرة أو مكررا، فإنه كما تتصف الطبيعة بالمرة والتكرار، كذلك يتصف الفرد بهما، وهذا واضح لا غبار عليه.
لا يقال: إن قولهم: (إن الصيغة للمرة، أو التكرار، أو الطبيعة) ظاهر في أن مراد من قال بالأولين هو أن متعلق الأوامر هي الأفراد، بقرينة جعل القول بإفادتها للطبيعة مقابلا لهما.
لأنا نقول: إن المراد بالطبيعة هنا ليس ما هو المراد بها في تلك المسألة، وهو ما يقابل الفرد، بل المراد بها في المقام إنما [هو] () نفس المأمور به الصالح لتقييده بأحد القيدين - سواء كان هو الطبيعة المقابلة للفرد، أو نفس الفرد - فإنه - كما عرفت - صالح لتقييده بأحد القيدين، فيقال: أوجد الفرد دفعة أو مكررا، فالقائل بإفادة الأمر لها في المقام يقول: إنه لا يفيد إلا طلب ما تعلق به مع السكوت عن إفادة كميته مطلقا.
ومن هنا يظهر: ضعف ما عن الفاضل الشيرازي من رده على الحاجبي - حيث إنه اختار في تلك المسألة أن متعلق الأوامر الفرد، ونفى هنا دلالة الصيغة على المرة والتكرار - بأنهما لا يتوافقان.
وضعف كلامه - على أن يكون المراد بالمرة والتكرار الدفعة والدفعات - ظاهر.
67

وأما على أن يكون المراد بهما الفرد والأفراد - كما فهمه الفاضل المذكور - فتوضيحه:
أن المراد بالمرة حينئذ الفرد الواحد، وبالتكرار الأفراد المتعددة، ولا ريب أن هذين القيدين - أي الوحدة والتعدد - لم يلاحظ شيء منهما في تلك المسألة على القول بكون متعلق الأوامر هو الفرد، بل النظر هناك مقصور في هذا الفرد، أو الطبيعة المقابلة له مع قطع النظر عن ملاحظة كميته مطلقا، سواء كان فردا أو طبيعة، فافهم جيدا.
الثالث [1]: الظاهر أن المراد بالمرة هي الدفعة، نظرا إلى ظهور لفظ المرة فيها عند الإطلاق،
فعلى هذا فالمتصف بها إنما هو نفس الأفعال المأمور بها بمعانيها المصدرية، أي إيجاد الحركات والسكنات، فإن الدفعة إنما هي صفة للإيجاد [2]، لا للأثر الحاصل منه، فيكون المتصف بها المبادي المعروضة للصيغة بمعانيها المصدرية، لكونها بهذا الاعتبار من مقولة الإيجاد، لا الآثار الحاصلة من تلك المبادي، وهي ما يقال لها: الحاصل من المصدر.

[1] أي (الأمر الثالث) من الأمور التي يتوقف عليها تحقيق المقام.
[2] اعلم أن حصر الوصف بالدفعة في الإيجاد إنما [هو] بالإضافة إلى الآثار - أي الموجودات - وإلا فيصح اتصاف الوجود والحصول بها أيضا.
وكيف كان فالذي لا يصح اتصافه بها إنما هو الموصوف بالوجود والحصول، وأما الإيجاد والوجود والحصول فالكل سواء في صحة اتصافها بها، وإن كان الفرق بين الإيجاد والوجود اعتباريا كما لا يخفى، وكذا بين التحصيل والحصول، فإن الأول بمعنى الإيجاد، والثاني بمعنى الوجود.
وبالجملة: الظاهر من المرة هي الدفعة، أي إيجاد المأمور به أو وجوده في زمان واحد مع قطع النظر عن كمية الوجود، ومن التكرار الإيجادات أو الوجودات المتكررة، المتحقق كل منهما في زمان مقارن لزمان الآخر، فإنه ظاهر في الدفعات، فالزمان مأخوذ في مفهومهما على هذا الوجه. لمحرره عفا الله عنه.
68

وكذلك التكرار ظاهر في الدفعات، فإنه من الكر بمعنى الرجوع، وهو إنما يتصور بالنسبة إلى الأفعال التي [هي] من مقولة الإيجاد، دون الآثار، فلا يتصف به أيضا إلا المبادئ بمعانيها المصدرية.
وربما يتراءى من بعض: أن المراد بالمرة الفرد الواحد، وبالتكرار الأفراد المتعددة بحسب المقدور عقلا وشرعا ولم يتبين من كلامه: أن المراد الفرد والأفراد من الإيجاد أو من الآثار، ويحتمل كلامه لكل منهما لصحة اتصاف كل من الإيجاد والأثر الحاصل منه بالفردية، إذ الإيجاد الواحد فرد من الإيجاد المطلق، فضرب واحد فرد من مطلق الضرب، كما أن الأثر الواحد فرد من مطلق الأثر، فالأثر الحاصل من الضرب فرد من مطلق الأثر الحاصل به.
فإن كان مراده الاحتمال الأول، فيتصادق المرة والتكرار بهذا المعنى لهما - بمعنى الدفعة والدفعات غالبا - فيتصادق التكرار بهذا المعنى له - بمعنى الدفعات - فيما إذا أوجد الفعل إيجادا متعددا في أزمنة متعاقبة، بأن يكون كل إيجاد عقيب آخر، فهنا يصدق أنه أتى به دفعات، وأنه أتى بأفراد من إيجاد هذا الفعل، وتتصادق المرة بهذا المعنى لها بمعنى الدفعة الواحدة فيما إذا أوجده إيجادا واحدا بحيث لم يكن معه إيجاد آخر حاصل معه، فإنه حينئذ فرد واحد من الإيجاد ودفعة واحدة، ويفترق التكرار بهذا المعنى عنه بمعنى الدفعات فيما إذا أوجده
متعددا - أي بإيجادات متعددة في زمان واحد، كما إذا ضرب بكلتا يديه، فأوجد بكل واحدة ضربا، أو أخذ بكل واحدة سيفا، فأوجد بكل منهما قتلا مثلا - فهنا يصدق التكرار بهذا المعنى، دونه بمعنى الدفعات، فإن تعدد الأزمنة وتعاقبها مأخوذة في مفهوم الدفعات، فهي لا تصدق إلا على الإيجادات المتعددة المتعاقبة.
وبعبارة أخرى: إن الدفعة عبارة عن إيجاد الشيء في آن واحد، فالدفعات إيجاداته في أزمنة متعددة متعاقبة.
هذا، لكن المرة بهذا المعنى لا تنفك عنها بمعنى الدفعة، وكذا العكس،
69

فيكون النسبة بين معنييهما التساوي، فكلما تحقق إيجاد واحد يصدق عليه الإيجاد دفعة واحدة، وكذا العكس.
وأما النسبة بين معنيي التكرار فهي العموم والخصوص المطلقان، فإنه بمعنى الدفعات أخص منه بهذا المعنى مطلقا.
وإن كان مراده الاحتمال الثاني فلا تصادق بين معنى المرة والتكرار إذن بحسب المصداق مطلقا.
نعم قد يتحقق التصادق بحسب المورد، والنسبة بحسبه بين معنيي المرة إذن هي العموم والخصوص المطلقان، بمعنى أنها بمعنى الأثر الواحد أخص منها بمعنى الدفعة الواحدة مطلقا - كما لا يخفى - وكذلك النسبة بين معنيي التكرار هي العموم والخصوص المطلقان - أيضا - ويفترق هو بهذا المعنى عنه بمعنى الدفعات فيما إذا أوجد بإيجاد واحد موجودات متعددة، كأن قتل بضربة واحدة متعددا، فهذا يصدق هو بهذا المعنى دونه بمعنى الدفعات، بل الصادق عليه إنما هي الدفعة الواحدة لا غير.
هذا، لكن الظاهر - بل المقطوع به - أنه لم يرد المعنى الثاني، فإنهم جعلوا عتق المأمور بالعتق إذا أعتق رقابا بصيغة واحدة من الثمرات بين القول بالمرة والقدر المشترك، ولو احتملوا ذلك لجعلوه من ثمرات القول بالتكرار أيضا، فإن الموجود حينئذ آثار متعددة بإيجاد واحد.
ويتلوه في ظهور عدم الإرادة - بل في القطع به - الاحتمال الأول، وذلك لأنهم جعلوا صورة إيجاد أفعال متعددة في آن واحد من موارد الثمرة بين القول بالمرة والقول بالقدر المشترك، فلو كان هذا لاحتمال قائما لذكروا أن تحصيل الامتثال بالجميع على القول بالتكرار بهذا المعنى، أو على هذا الاحتمال، مع أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك أصلا.
هذا، ويكفي في القطع بعدم الاحتمالين على إطلاقهما أن القائلين بالتكرار
70

نزلوا (افعل) منزلة (افعل دائما)، إذ لا ريب أن الدوام لا يصدق على شيء من الصورتين المذكورتين، أي صورة إيجاد آثار عديدة بإيجاد واحد، وصورة حصول إيجادات كذلك في آن واحد.
نعم الإيجاد الواحد بجميع آثاره -، وكذلك الإيجادات العديدة الحاصلة في آن واحد - من أجزاء الدوام، فيكونان من أجزاء التكرار، والقائل به لا يقول بتحقق امتثال الأمر ببعض أجزائه، سواء جعله تكاليف عديدة مستقلة، أو تكليفا واحدا متعلقا بالمجموع.
أما على الأول فلأن المفروض أن عليه تكاليف عديدة فالإتيان بفعل واحد لا يكون امتثالا لجميعها حتى يكون امتثالا للأمر على وجه التكرار.
وأما على الثاني فواضح، فتدبر.
فيظهر من ذلك: أن الذي عبر عن المرة والتكرار بالفرد والأفراد أنه أراد بالمرة الإيجاد الواحد، وبالتكرار الإيجادات المتعددة المتعاقبة لا مطلقا، فعبر عن مراد القوم بعبارة أخرى، ولعل الداعي إلى تفسيره إياهما بذلك أنه ممن يقول بتعلق الأوامر بالفرد، فافهم.
ثم إن مقتضى ما قرره صدق المرة على أفعال متحققة في آن واحد، بأن يكون المجموع مصداقا لها حيث إنها وقعت دفعة.
لكن قال - دام ظله -: يشكل حمل المرة في كلام القوم هنا على ظاهره - وهو الدفعة مطلقا - حتى يدخل فيها الصورة المذكورة، فإنهم - حتى المفسرين للمرة بالدفعة لا الفرد - قالوا في الصورة المذكورة: إنه على القول بالمرة يحصل الامتثال بواحد من الأفعال المذكورة، وأما على القول بالقدر المشترك فالجميع امتثال.
فيظهر من ذلك: أن مرادهم بالدفعة المفسرة بها المرة إنما هو الإيجاد
71

الواحد [1]، سواء كان مقارنا للإيجاد الآخر، أو كان هو وحده. نعم مرادهم بالتكرار إنما هو الدفعات، أي الإيجادات المتعاقبة في الأزمنة المتعددة - كما ذكرنا - فعلى هذا ينتفي التقابل التام بين معنى المرة والتكرار.
أقول: اللهم إلا أن يجعل أجزاء التكرار - أيضا - عبارة عن المرة بهذا المعنى، بأن يكون مراد القائل به أن المتصف بالوجوب - ولو تبعا [2] - في كل زمان من الأزمنة المتعاقبة إنما هو إيجاد واحد فالواجب - فيما إذا تحقق منه أفعال متعددة في آن واحد - أحدها، لا الجميع، وليس ببعيد، فافهم.
وكيف [كان] فظهر مما حققنا: أن مراد القائل بالمرة إنما هو الإتيان بالمأمور به مرة واحدة، وبعبارة فارسية: يكبار، ومراد القائل بالتكرار الإتيان به دائما ما أمكن عقلا وشرعا، وبعبارة فارسية يعني: آوردن أو هميشه، فيكون المرة عبارة عن الإيجاد الواحد، والتكرار عبارة عن الإيجادات المتعاقبة إلى حد الوسع.
وإن شئت قلت: إن المراد بالمرة إنما هو حصول ووجود واحد للمأمور به،

[1] قولنا: - (فيظهر من ذلك أن مرادهم بالدفعة المفسرة بها المرة هو الإيجاد الواحد... إلخ) - حاصله:
أنه يظهر مما ذكر أن مرادهم بالمرة هو الوجود الواحد للمأمور به، لا حصوله في آن واحد، كما هو معنى الدفعة، فإن المأخوذ فيها إنما اتحاد زمان الحصول والوجود سواء تعدد الوجود أو اتحد، وفيما استظهرنا إنما هو اتحاد الوجود مع قطع النظر عن الزمان.
وكيف كان، فالزمان مأخوذ في حقيقة المرة التي هي الدفعة، وكذا في حقيقة التكرار التي هي الدفعات، وإنما خرجنا عن ظاهر المرة بقرينة ما ذكر، لكن التكرار في كلامهم على معناه، كما بينا في المتن. لمحرره عفا الله عنه.
[2] قولنا: (المتصف بالوجوب ولو تبعا.). إشارة إلى احتمال أن يكون المراد بالتكرار جعله قيدا للمأمور به، بحيث لا يحصل الامتثال أصلا إلا به، فيكون المأمور به على هذا هو الفعل المقيد. بهذا القيد، ويكون التكليف المتعلق به واحدا لا متعددا. لمحرره عفا الله عنه.
72

وبالتكرار حصولات ووجودات متعددة له متعاقبة إلى [ما] أمكن، فإن الذي أبطلنا إنما هو كون المراد بالأول مجرد الدفعة ولو بإيجادات متعددة متقارنة، وبالثاني مجرد تعدد الإيجاد من دون التعاقب، فلذلك قيدنا المراد بالأول بكون الدفعة باعتبار إيجاد واحد، بل حقيقة يخرج هذا عن حقيقة الدفعة في صورة حصول إيجادات متقارنة، فإن المتصف بها حينئذ حقيقة هو المجموع لا الواحد.
وكيف كان، فبنينا على أن المراد بالمرة هو الإيجاد الواحد، وأن المراد بالتكرار الإيجادات المتعاقبة، لكن لا يأبى كلماتهم عن جعل المرة عبارة عن وجود واحد للمأمور به ولو كان الإيجاد واحدا والوجود متعددا مقارنا.
بل يظهر من جعل الثمرة بين القول بالمرة والقول بالقدر المشترك فيما إذا قال المأمور بالعتق لعبيده: (أنتم أحرار لوجه الله) أن المراد بالمرة ذلك، إذ لا ريب أن الإيجاد حينئذ واحد، والمتعدد إنما هو العتق لا إيجاده، فإنه بالنسبة إلى كل واحد من العبيد له وجود، وكل واحد من تلك الأعتاق فرد من العتق.
ووجه ظهور ذلك فيما قلنا: أنهم قالوا: إنه على القول بالمرة فالمأمور به عتق واحد من العبيد، فيستخرج بالقرعة، فلو كان المرة عبارة عن إيجاد واحد لكان عتق الجميع مصداقا للمرة، فلم يتم الفرق بين القولين من هذه الجهة، فعلى هذا فيجعل التكرار - أيضا - عبارة عن وجودات متعددة متعاقبة على النحو المذكور، فعلى هذا فيكون جزء التكرار واحدا من وجودات متعددة متقارنة لو أوجدها في آن واحد لا جميعهم، فيكون هو المتصف بالوجوب ولو تبعا، لا الجميع، فافهم.
الرابع ():
الظاهر المصرح في كلام بعضهم - كما أشرنا إليه - هو أن مراد القائل بالتكرار ليس وجوب استيعاب جميع الأوقات بالاشتغال بالفعل
73

المأمور به، بل المراد وجوبه إلى ما أمكن عقلا بمعنى عدم بلوغه إلى حد التعذر، وشرعا بمعنى عدم بلوغه إلى حد التعسر المنفي في الشريعة - أيضا - وعدم مزاحمته لواجب آخر أهم منه.
لكن لا يخفى أنه ليس المراد أخذ هذا القيد في مفهوم الصيغة، بل الظاهر أن مراده، كما صرح صاحب المعالم () - قدس سره - هو دلالتها على الاشتغال بالفعل دائما، وهذا التقيد إنما يثبت من الخارج، فلا يستلزم استعمال الصيغة في المقيد، وهذا التقييد - أيضا - ثابت على القول بالمرة - أيضا - فإنه إذا وجب مرة فلا ريب أن تعذره أو تعسره أو مزاحمته لأهم منه موجبة لرفع التكليف عنه قطعا.
ثم على ما حققنا [به] المرة والتكرار - على القول بأحدهما - يكونان قيدين لمعروض الصيغة والهيئة، فيكون الهيئة مقيدة لمعروضها بأحد الأمرين في الجملة لا محالة، فلا يعقل جعلهما قيدين للطلب المستفاد من الصيغة:
أما على القول بالمرة: فلأن الطلب واحد لا محالة، فيلغى تقييده بالمرة.
وأما على القول بالتكرار: فلا ريب - أيضا - أن الطلب واحد شخصي، فلا يمكن اتصافه بالتكرار، فلا يحتمل ذلك في كلام القائل بالمرة والتكرار.
هذا مضافا إلى ما نقطع به - كما أشرنا إليه سابقا - من أن النزاع في المقام في دلالة الصيغة على كمية الفعل المأمور به وعدمها، فيكون المرة والتكرار من صفات المأمور به وقيوده، وهذا واضح.
ثم المرة على القول بها اعتبار تقييد المأمور به بها على وجه لوحظ مفهومها أيضا.
74

وبعبارة أخرى: هل المراد على هذا القول أن المطلوب هو الفعل بعنوان المرة بحيث لا يكون معها غيرها، فلا يحصل الامتثال لو فعله مرات متعاقبة، أو المراد تقييده بها من حيث اعتبار وجودها معه دون اعتبار عدم غيرها، فيكون المراد أن المطلوب هو الفعل مرة لا محالة مع سكوت الصيغة عن دلالتها على غير تلك المرة نفيا وإثباتا؟ الظاهر من مقالة القائلين بالمرة واستدلالهم هو الوجه الثاني.
هذا فيما إذا أوجد الفعل في الآن المتأخر عن زمان إيجاده أولا، وأما إذا أوجد فعلين في زمان واحد فقد عرفت أن الظاهر أنه ليس مراد القائل بالمرة تقييد كون الإيجاد بعدم اجتماع إيجاد آخر معه مقارن له.
ثم مراد القائلين بالتكرار - أيضا - يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون التكرار مأخوذا في المأمور به على وجه لا يحصل الامتثال أصلا إلا بالإتيان به مكررا على الوجه المتقدم.
وثانيهما: أن يكون مأخوذا - بلحاظ كونه عنوانا - عن الأفعال المتكررة، فيكون كل واحد من تلك الأفعال واجبا مستقلا يحصل بكل منها امتثال، وبترك كل منها مخالفة.
الظاهر هو الثاني، نظرا إلى قياسهم المقام بالنهي، فإن دلالة النهي على التكرار على هذا الوجه.
الخامس (): الثمرة بين القول بالتكرار وكل من القولين الآخرين واضحة،
وأما بينهما فهي في غاية الخفاء جدا، نظرا إلى كفاية المرة بالمعنى الذي عرفت في امتثال الأمر على كل من القولين وثبوت التخيير عقلا بين جميع أفراد المأمور به في مقام الامتثال على كل منهما، إذ القائلون بالمرة لا يقولون بتعيين
75

فرد خاص، بل يكتفون بأي فرد واحد من أفراد الماهية كالقائلين بالطبيعة.
وكيف كان، فقد يقرر الثمرة بينهما فيما إذا أتى المكلف بأزيد من فرد واحد دفعة، فالجميع امتثال ومتصف بالوجوب على القول بالطبيعة، وعلى المرة أحد الفردين أو الأفراد على البدل، لتساوي الأفراد من حيث ذاتها في كونها موجبة لحصول الامتثال، ومحققة للقدر المشترك بينها مع عدم مرجح خارجي لأحدها ومعين له، ولو احتج إلى التعيين استخرج بالقرعة إن قلنا بها في مثل المقام.
والوجه في ذلك: أنه على القول بالقدر المشترك فالمطلوب من المكلف حصول الطبيعة ووجودها - سواء قلنا بتعلق الأوامر بالطبائع أو بالفرد - إذ على الثاني المطلوب الابتدائي ابتداء هو الأمر المنطبق على الطبيعة المقابلة للفرد - أي ما تصدق هي عليه - وعلى الأول نفسها، فيكون المنطبق عليها واجبا مقدمة، وعلى التقديرين فالمطلوب هو حصول القدر المشترك بين الفرد الواحد والأفراد المتعددة المتقارنة أو المتدرجة في الوجود، إذ على الثاني - أيضا - يكون المأمور به كليا صادقا على ما ذكر، لعدم تعين المنطبق على الطبيعة المقابلة للفرد في فرد خاص، بل المراد به الأعم من كل ما ينطبق على الطبيعة فتصدق على كل ما ينطبق عليه الطبيعة باعتبار الوجود كما مر سابقا، وحاصله:
أن المطلوب وجود الطبيعة، وعلى الأول نفسها، فيكون وجودها مطلوبا من باب المقدمة.
وكيف كان، فعلى القول بالقدر المشترك فالمطلوب بقول مطلق هو وجود الطبيعة وحصولها، وحينئذ وإن كان لها وجودات وحصولات متقارنة متعددة بتعدد الأفراد، إلا أن جميع تلك الحصولات - أيضا - مصداق آخر لحصول الطبيعة، فيكون حصول الجميع - أيضا - منطبقا على المطلوب كانطباق كل من تلك الحصولات عليه، والمفروض أن حصول الجميع المنطبق على المأمور به في
76

حال الأمر وبداعيه فيتصف بالوجوب وبكونه امتثالا للأمر، إذ المعتبر في الامتثال أمران:
أحدهما: انطباق الفرد المأتي به على المأمور به، بمعنى صدقه عليها.
وثانيهما: وقوعه حال الأمر وبداعيه، والمفروض تحقق كليهما في المقام بالنسبة إلى حصول الجميع، فيكون امتثالا للمأمور به ومتصفا بالوجوب.
هذا بخلاف القول بالمرة، إذ المطلوب على هذا القول - كما عرفت - إنما هو الفرد الواحد من الطبيعة، فيكون المنطبق على المأمور به هو كل واحد من الأفراد الحاصلة دفعة دون الجميع - أيضا - لعدم صدقه عليه، فيكون المتصف بالوجوب والامتثال أحد تلك الأفراد على البدل، دون معين منها لتساوي الكل في الانطباق على المأمور به وفي وقوعها حال الأمر وبداعيه، لا الجميع لعدم انطباقه على المأمور به.
فإن قلت: مقتضى ما ذكرت أن للمأمور به - على القول بالقدر المشترك - فردا آخر منطبقا عليه، بخلاف القول بالمرة لانحصار أفراده حينئذ في الآحاد، وذلك لا يوجب تعين الجميع على الأول في كونه امتثالا وواجبا، بل نسبة المأمور به حينئذ إليه كنسبته إلى كل من الآحاد كما لا يتعين ذلك في واحد من الآحاد - على القول بالمرة - والوجه فيهما واحد، وهو تساوي صدق المأمور به على جميع الأفراد.
قلنا: ما عنينا باتصاف الجميع بالامتثال والوجوب تعين الامتثال فيه، بل المقصود أنه ككل واحد من الآحاد حينئذ صالح لاتصافه بهما، بمعنى أن للآمر حينئذ أن يحتسب من المكلف عن المأمور به مجموع الآحاد ويثيبه عليه لانطباقه عليه ووقوعه حال الأمر وبداعيه، كما له أن يحتسب واحدا من آحاد هذا المجموع، بخلاف القول بالمرة فإن مورد الاحتساب عليه منحصر في الآحاد،
77

لعدم انطباق المجموع حينئذ عليه وإن كان واقعا حال الأمر، فالمحتسب عن المأمور به عليه مردد بين الآحاد فقط، وعلى القول الآخر بينها والمجموع، فيظهر الثمرة بينهما فيما مست الحاجة إلى تعينه كاتصافه به عند
الإتيان به منفردا فيؤل الأمر حينئذ - على القول بالتخيير بينه وبين المجموع حقيقة - إلى التخيير بين فعل الزائد وتركه لا إلى بدل.
فمن هنا يظهر فساد توهم إمكان اتصاف الزائد بالوجوب، إذ لا معنى لوجوب ما يجوز تركه لا إلى بدل.
وكيف كان، فقد ظهر انتفاء الثمرة بين القولين على تقدير الإتيان بالأفراد متدرجة متعاقبة، لابتنائها على جواز التخيير العقلي بين الأقل والأكثر، كما في الشرعي على الأظهر، وقد عرفت ما فيه.
وأما على تقدير الإتيان بها دفعة فالظاهر ظهور الثمرة بينهما حينئذ، ويمكن تقريرها على وجهين:
أحدهما: أنه على القول بالمرة ينحصر مصاديق المأمور به المنطبقة عليه في آحاد الأفراد المتحققة دفعة - لما عرفت - من أن المطلوب - على هذا القول - الفرد الواحد أو [1] إيجاد واحد للطبيعة.
وكيف كان فالمنطبق على المأمور به - على هذا القول - إنما هو كل واحد من آحاد تلك الأفراد المتحققة دفعة، فإن كلا منها يصدق عليه أنه فرد واحد من الطبيعة الوارد عليها الأمر، وأنه وجود واحد للطبيعة دون المجموع منها - أيضا - لعدم صدق المأمور به عليه حينئذ، فإنه عين الأفراد المتعددة والوجودات كذلك، فلا يمكن صدق الفرد الواحد أو الوجود الواحد للطبيعة عليه.

[1] الترديد إشارة إلى أنه إن كان ممن يقول بتعلق الأوامر بالأفراد فيكون المطلوب بالأمر الفرد الواحد، وإن كان ممن يقول بتعلقها بالطبائع فهو إيجاد واحد للطبيعة. لمحرره عفا الله عنه.
78

وأما على القول بالقدر المشترك فالمجموع - أيضا - فرد آخر للمأمور به ومنطبق عليه، إذ عليه يكون المأمور به عبارة إما عن حصول الطبيعة، أو [1] حصول ما ينطبق عليها من دون تقييد بالوحدة، ولا ريب أنه يصدق كل من هذين على المجموع - أيضا - كصدقه على كل واحد من آحاد الحصولات والوجودات، فإن مجموعها - أيضا - نوع حصول للطبيعة أو لما انطبق عليها، وحينئذ فلما كان المفروض تحقق تلك المصاديق المتساوية في الانطباق على المأمور به دفعة، فكل منها صالح لاتصافه بالوجوب والامتثال لتحقق ما اعتبر في حصول الامتثال في كل منها، إذ المفروض صدق المأمور به على حد سواء ووقوع الجميع حال الأمر وبداعيه، فكل منها صالح لأن يحتسبه الآمر عما أمر به ويثيب عليه.
لكن لما كان المحسوب الفعلي عنه حينئذ أحد الأمور المنطبقة عليه فيتردد بين أحد تلك الأفراد المتحققة دفعة على القول بالمرة لانحصار فرده فيها - كما عرفت - وبينها والمجموع على القول بالقدر المشترك، فيظهر الثمرة بينهما عملا فيما إذا ترتب على المحسوب الواقعي حكم، فاحتيج إلى التعيين بالقرعة إن قلنا [2] بها في أمثال المقام، فأطرافها منحصرة في الآحاد على القول بالمرة،

[1] هذا الترديد - أيضا - إشارة إلى نفي الفرق بين كون هذا القائل ممن يقول بتعلق الأوامر بالطبائع أو بالأفراد فإن مراد من يقول بالثاني: أن المطلوب إما هو الأمر المنطبق على الطبيعة من دون اعتبار وحدة فيه، فيكون كل من تلك الأفراد منطبقا على المأمور به على القولين هذين، لأنه يصدق على كل منها أنه حصول للطبيعة ووجود لها، أو حصول لما ينطبق عليها، إلا أنه يزيد أفراد المأمور به على القول بدلالة الأمر على القدر المشترك بين المرة والتكرار بواحد وهو المجموع - أيضا - بخلاف القول بالمرة، فينحصر عليه في الآحاد دون المجتمع أيضا. لمحرره عفا الله عنه.
[2] قال دام ظله: وجه عدم جريان القرعة في المقام: أنه ليس حينئذ واقع مجهول ليتشخص بها.
قلت: على هذا القول - أي القول بالمرة - لما كان الامتثال بفرد واحد فالمحسوب عند الله حينئذ أحد الأفراد، وهو مجهول.
79

وتعم المجموع على القول الآخر. هذا، وتأمل.
وثانيهما: أنه بعد ما تقرر أنه - على القول بالقدر المشترك - يكون المجموع - من الآحاد المتحققة دفعة أيضا - فردا للمأمور به ومنطبقا عليه، فنقول:
إنه كلما كان المأمور به أفراده من قبيل الأقل والأكثر فالطريقة المقررة في العرف - في باب الإطاعة والامتثال في ذلك فيما إذا ثبت من قبل الآمر جواز فعل الزائد في نفسه مع قطع النظر عن هذا الأمر - أن المأمور له أن يقتصر [على] الأقل ()، فيحتسب منه ذلك حينئذ، ويقال: إنه أتى بما امر به وامتثله، فيقوم الوجوب به، وله أن يأتي بالأكثر وهو الأقل منضما إلى الزائد، فالمحتسب منه عن المأمور به حينئذ إنما هو هذا المجموع، لا مجرد مسمى المأمور به المتحقق بالأقل الموجود في ضمنه، بمعنى أن الآمر حينئذ يحتسب هذا المجموع عما أمره به ويقبله عنه من دون نظر إلى الأقل الموجود في ضمنه، مع أنه مصداق للمأمور به، فالوجوب حينئذ قائم بخصوص المجموع من حيث المجموع.
ألا ترى أنه لو أمر مولى عبده بإحضار الماء، فأتى بقدح مملوء منه بحيث يزيد عن أقل ما يؤدي به حاجة المولى فالعرف يحكمون بكون الإتيان به بهذا القدح الزائد على قدر الحاجة امتثالا وإطاعة للأمر ومن طبقا على المأمور به فيقولون: إن ما أمره مولاه فقد أتى به.
لا يقال: إن ذلك لعله لحصول الامتثال بالأقل الموجود في ضمن الكل.
لأنا نرى: أن المولى لو أراد التجزئة وأخذ الأقل ورد الزيادة معللا بأن المجموع ليس مما أمرت به لقبحه العقلاء، وينسبونه إلى الجنون، وهكذا لو أمره
80

بالمشي مثلا أو بمسح شيء فمشى أو مسح بأكثر مما يتحقق به مسمى المشي والمسح، وليس ذلك كله إلا لكون الأكثر امتثالا للمأمور به.
فتحقق من ذلك كله: أن كل ما أوجده المأمور وأتى به حال وجود الأمر من مصاديق المأمور به، فالامتثال قائم بما أتى به، فإن كان هو الأقل وحده فهو قائم به، وإن كان الأكثر فهو قائم بالمجموع، لا الأقل الموجود في ضمنه أو المردد بينهما.
والسر في ذلك: أن امتثال الأمر إنما هو بإيجاد المأمور به حال الأمر وفي زمانه،. فإن اقتصر على الأقل فإيجاده إنما هو به، فيقوم الوجوب به، وإن تعداه وضم إليه الزائد فلا يعد الأقل حينئذ عرفا إيجادا للمأمور به، بل المعدود إنما هو المجموع من حيث المجموع لا غير، فلذا يقوم به الامتثال والوجوب دون الأقل الموجود في ضمنه، وإن كان بحسب الدقة مصداقا للمأمور به حينئذ، فافهم جيدا.
وكيف كان، فقد ظهر أنه على القول بالقدر المشترك في الصورة المفروضة فالامتثال قائم بالجميع معينا من غير حاجة إلى معين من قرعة وغيرها، فهو المحسوب واقعا.
وأما على القول الآخر فلا يمكن قيامه به، بل بأحد الآحاد المجتمعة، ويحتاج التعيين إلى معين، وهذا هو الذي ينبغي التصديق به في مقام الثمرة.
وأما الوجه الأول، فقد ظهر ضعفه من ذلك.
ومما حققنا ظهر - أيضا - مجمل القول في التخيير الشرعي بين الأقل والأكثر وأنه جائز مطلقا.
بخلاف العقلي - كما في المقام -، فإن الحق - كما عرفت - التفصيل بين صورة الإتيان بالأكثر دفعة - بمعنى دفعية أجزائها - فيجوز إذا أحرزنا من الخارج جواز فعل أصل الزيادة، وصورة الإتيان به متدرج الأجزاء، فيمتنع
81

مطلقا.
ثم إنه قد يقرر الثمرة بين القولين في الصورة المذكورة، وهي الإتيان بأفراده مجتمعة دفعة: أنه على القول بالمرة - حيث إن المراد بها الفرد الواحد اللا بشرط - يقوم الوجوب والامتثال بأحدها من غير تعيين، ولو احتيج إليه استخرج بالقرعة إن قلنا باعتباره في مثل المقام، وأما على القول بالقدر المشترك فيتعين الامتثال في الجميع، ويكون المتصف بالوجوب المجموع دون أحدها، وذلك لأن القدر المشترك حيث يكون متعلقا للأمر، فهو إنما يعتبر على وجه لا يصدق على الأقل الموجود في ضمن الكل المتحقق دفعة، بل الذي يصدق عليه إنما هو الأقل منفردا ومجموع الأكثر المشتمل عليه وعلى غيره المتحقق دفعة.
وبعبارة أخرى: إنه اعتبر على وجه يكون أفراده متمايزة في الخارج بالافتراق عن الغير، بمعنى أن كل ما
حصل منه في الخارج دفعة مع عدم انضمام فرد آخر معه فهو فرد له، وإن انضم إلى غيره فيخرج عن كونه فردا، ويكون الفرد حينئذ هو المجموع منه ومن غيره المتحقق دفعة، فينحصر صدقه على الفرد الواحد فيما إذا وجد بدون انضمام فرد آخر أو أفراد إليه متحققة معه مجتمعة لا مطلقا، وكذا يكون فردا المجموع () من اثنين متحققين دفعة بشرط أن لا يكون معهما ثالث، وثلاثة إذا تحققت مجتمعة بشرط أن لا يكون معها رابع، وأربعة إذا لم يكن معها خامس، وهكذا.
فعلى هذا إذا أتى المكلف بأفراد مجتمعة دفعة فمصداقه المأمور به حينئذ هو المجموع لا غير، بحيث لا يصدق على شيء من الآحاد الموجودة في ضمنه، فإذا انحصر فرد حينئذ في المجموع فهو حينئذ متحقق بالمجموع، فيكون هو المتصف بالوجوب والمحقق للامتثال دون شيء من الآحاد الموجودة في ضمنه.
82

هذا، وفيه: أن الاعتبار على الوجه المذكور وإن [كان] ممكنا إلا أنه لا دليل عليه، بل الظاهر من الأمر المتعلق بطبيعة أن المطلوب هي الطبيعة لا بشرط، ولا ريب في صدقها على كل من الآحاد مطلقا لوجودها في ضمنها، والمجموع من الآحاد في صورة الإتيان بها مجتمعة ليس فردا آخر له مقابل الآحاد، بل هو نفس تلك الآحاد. نعم هو نوع من أنواع إيجاد الطبيعة، كما أشرنا إليه آنفا.
فإن شئت قلت: إنه فرد من إيجاد الطبيعة - كما ذكرنا سابقا - لا من الطبيعة، فإن إيجاد الطبيعة - أيضا - مفهوم كلي له أفراد منها إيجادها بأفراد مجتمعة.
وكيف كان، فالتحقيق - ما مر منا -، وحاصله:
أن امتثال الأمر عبارة عن إيجاد المأمور به بداعي الأمر في حال الأمر، ولإيجاده أنحاء:
الأول: إيجاده بإيجاد فرد واحد منه.
الثاني: إيجاده بإيجاد فردين منه.
الثالث: إيجاده بإيجاد ثلاثة أفراد منه.
والرابع: إيجاده بإيجاد أربعة، وهكذا، فإن كل واحد من تلك المراتب مصداق لإيجاد المأمور به ومنطبق عليه، مع أنه يصدق حقيقة على كل واحد من الفردين أو الأفراد - في غير القسم الأول - أيضا أنه فرد للمأمور به.
هذا، لكن لما كان لا يكفي في الامتثال مجرد إيجاد المأمور به كيف كان، بل إنما يتحقق إذا كان حال بقاء الأمر، فكل نحو من الإيجاد إذا حصل حال بقائه يكون () هو امتثالا للأمر، ويقوم به الوجوب، وما حكمنا به من عدم قيام
83

الامتثال بغير الفرد الأول في صور إيجاد أفراد متعدد متدرجا () ليس لأجل عدم كون الإتيان بأفراد منه متدرجا من أنحاء إيجاده ومنطبقا عليه، بل لأجل عدم وقوعه حال الأمر، لارتفاعه بالفرد الأول فلا يتصف المجموع أو الأفراد المتأخرة بالامتثال والوجوب لذلك، فلو فرض محالا وقوعها - أيضا - في حال الأمر لقام الامتثال بالمجموع بلا ريب.
وكيف كان، فوجه عدم قيام الامتثال بفرد واحد في صورة الإتيان بأفراد مجتمعة دفعة - مع أن كل واحد صالح للامتثال، بمعنى أنه لو كان حاصلا وحده لكفى في ارتفاع الأمر - أن استناد ارتفاع الأمر وحصول الامتثال إلى بعض معين ترجيح بلا مرجح، إذ المفروض وجود كل منها مقارنا لوجود الآخر، فلا معين لاستناد الأثر إلى إحدى العلتين - الواردتين في مورد دفعة معا - بخصوصها، وإلى بعض مردد لا معنى له، فإنه منتزع عن أحدها، فيكون عبارة عن أحدها، فيتعين استناده إلى الجميع.
والسر في ذلك: أن هذا من قبيل توارد علل متعددة دفعة على مورد واحد، فإن وجود كل فرد علة تامة للامتثال إذا حصل حال الأمر منفردا، لكن حينئذ لا يمكن استناد الأثر - وهو الامتثال - إلى بعض معين ولا مردد، بل يصير الجميع حينئذ بمنزلة علة واحدة فيكون الأثر مستندا إلى المجموع.
ولذا قال أهل المعقول: إن العلل المتعددة إذا تواردت على مورد واحد دفعة فهي علة واحدة، وكيف كان فصلاحية المجموع للامتثال إنما هي من جهة صلاحية أبعاضه، فإنه عين تلك الأبعاض وإنما استند الأثر في المفروض إلى المجموع من حيث المجموع لما ذكر.
فتحقق من ذلك: أن كل ما برز من أفراد المأمور به من المكلف حال
84

بقاء الأمر فالعلة إنما هو تمام ما برز منه حينئذ: إن فردا ففردا، أو فردين ففردين ()، أو ثلاثة فهي، دون بعضه وإن كان مصداقا له، ويصدق عليه أنه إيجاد المأمور به. وليعلم أن أفضلية أحد الأفراد المجتمعة في المفروض لا يمكن كونها مرجحة بحيث توجب تعيين استناد سقوط الأمر إلى ذلك الفرد، فإن الأفضل وغيره من تلك الجهة سواء.
نعم يمكن أن تكون مرجحة من حيث إعطاء الثواب بأن يختار الآمر ذلك الفرد ويعطي الثواب [عليه] () أكثر مما يعطي على غيره من الأفراد.
هذا كله بناء على القول بالمرة لا بشرط.
وأما على القول بها بشرط لا - كما احتمله بعضهم في كلام القائل بالمرة - فالثمرة واضحة بينه وبين القول بالقدر المشترك، إذ عليه لا يحصل الامتثال في الصورة المفروضة أصلا، وليس مبنيا على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي - كما زعمه بعضهم - بل على جوازه - أيضا - كذلك، إذ المفروض على هذا القول أن المطلوب مقيد بأن لا يكون معه غيره، وهو لم يحصل [1].
ثم إن المحقق القمي () - رحمه الله - نفى الفرق بين القول

[1] مع أنه لا معنى لدعوى دلالة الأمر على القول بالمرة بهذا المعنى على حرمة غير الفرد الواحد، لأن الأمر حينئذ في قوة قولك: أريد منك فردا واحدا لا يكون معه غيره.
فنقول: أولا - إنه لا مفهوم لذلك لرجوعه إما إلى اللقب أو الوصف، ولا يعتبر شيء من مفهوميهما.
وأما ثانيا - إنه على تسليم المفهوم فلا ريب أنه رفع المنطوق، فإذا فرض هو الوجوب يكون () مفهومه عدمه لا الحرمة، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
85

بالمرة بشرط وبين القول بالطبيعة من جهة الدلالة على أنه لا يجب الإتيان إلا بفرد واحد، قال: (فإن المراد من طلب الماهية هو إيجادها في الخارج، وهو لا يمكن إلا في ضمن الفرد، ولا ريب أنه يحصل بالإتيان بفرد واحد، فيفهم بدلالة الإشارة أنه لا يجب في صورة طلب الماهية إلا إتيان فرد واحد منها، فما زاد لا يتصف بالوجوب - إلى أن قال: - والظاهر عدم الفرق بين انفراد الأفراد () في الوجود وبين اجتماعها في عدم مدخلية انضمام كل منها [إلى] الآخر () في حصول فرد آخر إلا أن يحصل به تركب حقيقي يوجب التغاير). انتهى موضع الحاجة من كلامه، ولا يخفى ما فيه:
أما في دعواه لدلالة الإشارة المذكورة، فلأنا لا نفهم تلك الدلالة بعد فرض أن النظر في الأمر إلى نفس الماهية.
وأما في نفي الفرق بين الإتيان بالأفراد مجتمعة وبين الإتيان بها متدرجة فلما عرفت من أن عدم إسناد الامتثال والوجوب إلى غير الفرد الأول في الثاني لسقوط الأمر حين الإتيان بذلك الغير بخلاف الأول، وقد عرفت أنه إذا أتى بها محققة فعلى القول بالطبيعة فالامتثال بالجميع، وليس ذلك مبنيا على كون الجميع فردا آخر للماهية كما تخيله - قدس سره - بل نقول حينئذ: إن الموجود أفراد متعددة منها، ويصدق حينئذ على كل واحد أنه تلك
الماهية، لكن اتصاف المجموع من حيث المجموع دون بعض من جهة ما عرفت من كون ذلك من باب توارد علل متعددة على مورد واحد دفعة، فافهم.
تنبيه: قد عرفت أنه لا ثمرة بين المرة بكلا الاحتمالين فيها - من كون المراد بها هي لا بشرط أو بشرط لا - وبين القول بالقدر المشترك في صورة الإتيان بالأفراد المتعددة متدرجة من جهة حصول الامتثال بالفرد الأول
86

- بمعنى سقوط الأمر به - بمعنى أنه على القولين يرتفع العقاب عن المكلف بالفرد الأول، وأنه لا بعث ولا تحريك حينئذ من قبل الآمر بالنسبة إلى المكلف.
ثم إنه إذا فرض أن الفرد المتأخر أفضل من المأتي به أولا في نظر الآمر، بحيث لو كان آتيا به أولا لأعطى الثواب أكثر مما أعطى على المأتي به الذي هو أدون منه، فهل يتصور جواز الإتيان به [1] حينئذ بعنوان كونه هو المأمور به الواجب مع قيام دليل من الخارج على جواز ذلك ومشروعيته، مع أن المفروض عدم الأمر الأول حينئذ، بمعنى البعث والتحريك الأولي، أو لا؟ فلا بد حينئذ من التأويل في ذلك الدليل - إن أمكن - بحمله على كون الإتيان به مطلوبا مستقلا أو [على] غيره () من المحامل وإلا فيطرح لمخالفته للعقل، مثلا إذا صلى المكلف منفردا فلا ريب أنه يرتفع بها استحقاق العقاب على ترك الصلاة، ثم قامت جماعة، وفرضنا أن الدليل الخارجي دل على جواز فعل تلك الصلاة - أيضا بالجماعة على أنها تلك الصلاة، فهل يتصور جواز الإتيان بها حينئذ على أنها الواجبة عليه أو لا، بل لا بد من فعلها حينئذ بعنوان كونها فعلا مغايرا لها قد امر به نفسا، بمعنى عدم ملاحظة كونه هو الفعل السابق الواجب عليه قبل؟ الظاهر إمكانه، فإن استحقاق العقاب وإن كان يرتفع بالفرد الأدون المأتي به أولا يقينا إلا أنه يمكن توقف حصول الغرض به متوقفا على عدم إتيان المكلف بالفرد الأفضل بعده، بأن يكون بحيث لو اقتصر المكلف عليه لاكتفى الآمر به وإن لم يقتصر عليه - وأتى بالأفضل بعده - يقم () الغرض به، ويكن

[1] اعلم أن هذا على فرض تماميته ليس من الثمرات بين القول بالمرة بكلا معنييها وبين القول بالطبيعة، بل يجري على كل منهما، كما سيأتي الإشارة إليه في آخر التنبيه، فانتظر. لمحرره عفا الله عنه.
87

هو المحسوب عن المأمور به ويثب عليه دونه، فيكون المكلف حينئذ - أيضا - آتيا بذلك الواجب - أيضا - فإن فعله الأفضل حينئذ على أنه ذلك الواجب، فيتحقق به ذلك الواجب - أيضا - فيكون هذا امتثالا للأمر السابق، بمعنى موافقة الغرض المقصود منه وتحصيله.
وإن شئت قلت: إن امتثال كل أمر عبارة عن الإتيان بالمطلوب منه حال كونه مطلوبا.
وبعبارة أخرى فارسية: اينكه امتثال هر امرى عبارت است از آوردن آنچيزي كه خواهش مولى باشد در اين امر در حالت بقاء خواهش أو، ومفروض اينست كه در صورتيكه توقف داشته باشد اكتفاء مولى بفرد أدون بر اقتصار بر أو تا آخر وقت فعل بحيثيتى كه هر گاه بداند يا آنكه احتمال دهد اينكه مكلف اتيان بفرد أفضل ميكند نيز در وقت پس خواهش مولى مرتفع نشده است تا آخر وقت اگر چه بعث وتحريك أو مرتفع است ونميتواند عقاب كند عبد را بعد از اتيان بفرد أدون پس هر گاه فرض شد بقاء خواهش أو تا آخر وقت ومكلف اتيان بفرد أفضل نيز كرد پس اتيان كرده است بخواهش مولى در حالت بقاء خواهش ومنطبق مىشود اين فرد أفضل بآنچيزيكه مأمور به بود كه خود مكلف در اين هنگام همان چيزيرا آورد كه مولى امر باو كرده بود واز روى آن امر آورده بجهت اينكه آوردن أو فرد.
أفضل را در اين هنگام از روى خواهش است كه در امر اول بوده وهست وحقيقة امتثال نيست الا آوردن فعل از روى آن امر واز جهت أو در حال بقاء آن امر في الجملة اگر چه بجميع آثارش باقي نباشد، وشكى نيست اينكه آن امر در صورت مفروضة ببعض آثارش كه خواهش [است باقي] باشد ومرتفع بعضي از آثار اوست كه استحقاق عقاب باشد.
آيا نمىبينى هر گاه مولايى از عبدش آب طلب كند در وقت موسعى كه
88

سعهء آوردن دو فرد يا أزيد از افراد آب متدرجا داشته باشد وعبد اولا قدحى از آب دريا آورد ومولى احتمال بدهد يا يقين داشته باشد كه عبد بعد از اين تا آخر زمان مقرر قدحى ديگر از آب فرات مىآورد وخواهش أو به آب فرات بيشتر است از آب دريا پس از اين جهت تأخير انداخت آشاميدن آب را يا آنكه اين احتمال هم نميداد يا آنكه غفلت كرد لكن بسبب مانع خارجي آبرا نخورد تا عبد قدح آب فرات آورد از باب اينكه فهميد اينكه ميل مولى باو بيشتر است وهنوز ميلش وخواهشش باقي است، پس شكى نيست كه گفته ميشود كه عبد در اين هنگام باز أطاعت وامتثال مولى كرده است وخواسته أو را آورده است وصحيح نيست اينكه گفته شود در اين هنگام كه مولاي تو آب خواسته بود آوردى پس چرا ديگر بار اين آب را آوردى، بلكه استحقاق مدح وثواب را دارد [1] بجهت آنكه ثواب موقوف نيست بر بقاء بعث وتحريك حتمي، بلكه كفايت ميكند در أو بقاء بعض آثار أو كه خواهش باشد، بلكه بنظر عرفان بايد ثواب در اين هنگام بيشتر باشد از صورتيكه هر گاه ابتداء فرد أفضل را آورده بود بجهت آوردنش فرد أفضل را در اين هنگام بسبب مجرد وصرف تحصيل محبوب مولى است با قدرت أو بر ترك بجهت اينكه مفروض اينست كه استحقاق عقاب بفرد اول مرتفع است پس باكى ندارد عبد از ترك فرد أفضل، پس آوردنش أو را نيست) الا بجهت صرف تحصيل محبوب مولى، وأين كمال بندگى وأطاعت است (ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) ().

[1] اين بخلاف صورتي است كه آب بهتر را بعد از آشاميدن مولى آب أول را آورد پس در اين صورت آوردن أو لغو است بجهت تحصيل غرض بفرد أول. لمحرره عفا الله عنه.
89

وبالجملة: در وقتيكه فرض شده كه هنوز مولى فرد أول را كار نبرده است وفرد أفضل در اين هنگام حاصل شد پس با فرد أول در جهت تحصيل غرض در عرض واحد ميشود، بلكه باين بنحو أكمل است، پس أليق ميشود باحتساب از واجب واعطاء ثواب، واز اينجا ظاهر ميشود كه هر گاه فرد ثاني مساوي با أول لكن هنوز غرض بفرد أول حاصل نشده بجهت مانع خارجي پس أو با أول در عرض واحد ميشود در اين هنگام در تحصيل غرض وترجيحي نيست از براي أول بر أو در اين جهت واز براي آمر است كه هر كدام را كه خواهد احتساب كند از مأمور به لكن اين احتمال در شرعيات منفى است.
وكيف كان، فإذا تحقق أنه يمكن توقف الاكتفاء في الغرض بالفرد الأول الأدون على الاقتصار عليه - أي اقتصار المكلف المأمور عليه - وأنه مع احتمال إيجاده الأفضل يبقى حب المولى له () إلى آخر الوقت، وأنه يكون الإتيان الأفضل حينئذ إتيانا لذلك الواجب، ومن جهة الأمر المتعلق به يكون () امتثالا بالمعنى الذي عرفت.
وحل () ذلك: أنه بعد ثبوت إمكان بقاء طلب المولى - بالمعنى الذي عرفت المعبر عنه بالفارسية بال (خواهش) في الفعل المأمور به بالنسبة إلى فرده الأفضل - وانتظاره إلى آخر الوقت، فيكون الإتيان به إتيانا بذلك المأمور به وامتثالا لأمره بالمعنى الذي عرفت، فيجوز الامتثال بهذا المعنى عقيب الامتثال الأول، والممتنع إنما هو تحقق الامتثال عقيب ما يكون من سنخه بأن يكون كلاهما بمعنى سقوط الأمر أو حصول الغرض، وأما إذا اختلفا - كما في المفروض، حيث إن الأول منهما بالمعنى الأول والثاني منهما بالمعنى الثاني - فلا.
90

وكيف كان، فإذا جاز ذلك وأمكن فيجوز للمكلف الإتيان بالأفضل ثانيا بعنوان كونه هو الواجب إذا قام دليل شرعي عليه، وإنما قيدنا الجواز بقيام الدليل الشرعي عليه، إذ لولاه لم يعلم ببقاء الطلب بالمعنى المتقدم، ويحتمل حصول الغرض بالأول، إذ لا ملازمة بين الأفضلية وبين إيقاف الغرض عليه إلى الوقت، بل يمكن الاكتفاء بالأول، بل ربما يعلم حينئذ باكتفاء الشارع بالأول لعدم البيان، فلا يبقى عند الإتيان بالأفضل طلب بالمعنى المتقدم.
وكيف [كان] فلا بد للمكلف من إحراز ذلك الطلب، وأن الغرض بعد لم يحصل بالفرد الأول الأدون، حتى يجوز له الإتيان على الوجه المذكور، وإلا كان تشريعا، وإحرازه لا يكون إلا بدليل شرعي قائم عليه.
وتظهر الثمرة فيما إذا ورد دليل شرعي يدل عليه، فإن قلنا بالإمكان وجب الأخذ به والحكم بمقتضاه وإلا فيؤل إلى غير هذا المعنى إن أمكن، وإلا فيطرح لمخالفته للعقل.
ومن هذا الباب الأخبار الواردة في استحباب إعادة صلاة - صلاها منفردا - جماعة إذا أقيمت الجماعة بعد ما صلى منفردا:
منها: رواية عمار عن أبي عبد الله عليه السلام: «عن الرجل يصلي الفريضة ثم يجد قوما يصلون جماعة أيجوز له أن يعيد الصلاة معهم؟ قال - عليه السلام -: نعم بل هو أفضل» ()، فإنها ظاهرة بل صريحة في جواز الإتيان بالفرد الأفضل - وهو الصلاة جماعة - بعد إتيان الأدون على أنه هو الواجب المأمور به أولا، فإن الإعادة حقيقة في ذلك وظاهرة فيه أو صريحة.
ومنها: رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قلت لأبي
91

عبد الله عليه السلام: أصلي ثم أدخل المسجد، فتقام الصلاة وقد صليت، فقال عليه السلام: صل معهم، يختار الله تعالى أحبهما إليه» ()، وعن سهل ابن زياد مثلها ().
ومنها: رواية ابن أبي عمير عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام -: «في الرجل يصلي الصلاة وحده، ثم يجد جماعة. قال - عليه السلام يصلي معهم، ويجعلها الفريضة» ().
وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام مثلها (). فإن قوله عليه السلام: «في الرجل يصلي الصلاة وحده، ثم يجد جماعة. قال عليه السلام:
به ثانيا عن المأمور به، بل في تعين احتسابه، فالإتيان به إتيان بذلك المأمور به من جهة ذلك الأمر الأول المتعلق به، وكذا قوله: «ويجعلها الفريضة»، فإن المقصود أنه يجعلها تلك الفريضة التي فرضت عليه، ويأتي بها على أنها هي، واللام في (الفريضة) للعهد، لا أنه يجعل ذلك فريضة مستقلة، ضرورة عدم وجوبه، بل [هو] مستحب.
فإن قلت: إنه إذا كان مستحبا فكيف يجوز جعله تلك الفريضة؟ فإنه على تقديره مستلزم لاتصاف ذلك بالوجوب والندب.
قلنا: موضوع الاستحباب هنا إنما هو امتثال ذلك الأمر الأول والإتيان بالفعل من جهته والوجوب مأخوذ في متعلق الامتثال على وجه القيدية والوصفية.
وبعبارة أخرى: موضوع الأمر الثاني الندبي إنما هو امتثال الأمر الأولي الوجوبي بإيجاد الفرد الأفضل بوصف أنه هو الواجب، فاندفع التنافي من
92

وجهين:
أحدهما: اختلاف الوجوب والاستحباب بحسب الموضوع والمتعلق.
وثانيهما: أن الوجوب المأخوذ هنا هو الوصفي لا الغائي، والأول لا يستلزم بقاء الأمر فعلا، بخلاف الثاني.
وكل من الوجهين كاف في رفع التنافي المذكور. واعتبار الوجوب الوصفي هنا - بمعنى إتيان الفعل ثانيا على أنه هو الواجب مع سقوط الوجوب عنه بالفعل - نظير اعتباره في الصلاة المعادة استحبابا.
قال دام ظله: حكموا بأن من صلى يستحب [له] () إعادة [ما] () فعل أيضا.
قلت: لعله من باب الاحتياط لاحتمال خلل فيما فعله أولا قال: لا، بل قالوا به مطلقا حتى في صورة القطع بصحة ما فعله أولا، وقالوا باستحباب الإعادة بفعله ثانيا بعين فعله أولا، ولم يخصصوا بما إذا كان قد فعل الأول محرزا لبعض الأمور المعتبرة فيه بالأصل، بل في صورة القطع.
أقول: إن في هذا الباب - أيضا - طائفة من الأخبار () دالة عليه، والظاهر أنها دالة على استحباب الإعادة لكون الإتيان بأزيد من دفعة أفضل من الإتيان بالمأمور به مرة واحدة، فيكون من قبيل الأقل والأكثر الذي هو الأفضل من الأقل، فإن الأمر وإن كان يسقط بالأقل، لكن الامتثال بالمعنى المتقدم يقوم بالمجموع لكونه أفضل من الأقل وحده.
ثم إنه على تقدير عدم إمكان ما قدمنا قد ذكرنا أنه لا بد أولا من التأويل
93

في مثل هذه الأخبار إن أمكن، وإلا فالطرح، ومن جملة المحامل فيها - بل أظهرها بعد تعذر حملها على ظاهرها - أن يقال: المراد بها استحباب الفعل نفسا من دون النظر في إتيانه إلى أنه هو الواجب أولا.
وبعبارة أخرى: إن الفعل قبل إيجاد الفرد الأول كان واجبا، وبعده خرج عن كونه [واجبا]، وصار حكمه - واقعا - الاستحباب مستقلا، فهو في وقت له حكم في عرض حكمه في وقت آخر، لا في طوله، بأن يكون موضوع أحدهما ملحوظا فيه الآخر، وإنما أطلق لفظ الإعادة تعريفا وتشخيصا للمأمور به في الآن الثاني بالأمر الندبي، فإنه عين المأمور به أولا، ويحمل قوله عليه السلام:
«ويجعلها الفريضة» على معنى أنها تقع مثلها.
هذا، ثم إن هذا الذي ذكر ليس من الثمرات بين القول بالطبيعة وبين القول بالمرة بأي من معنييها لجريانه على كل تقدير وقول:
أما على القول بالطبيعة فواضح.
وأما على القول بالمرة لا بشرط فكذلك.
وأما عليها بشرط لا فيفرض الكلام فيما إذا أتى بالفرد الثاني منفردا عن غيره، فافهم وتأمل جيدا.
94

السادس: اختلفوا في دلالة النهي على التكرار على أقوال
معروفها قولان:
أحدهما: دلالته عليه مطلقا.
وثانيهما: عدمها مطلقا.
ومرادهم بالتكرار هو الدوام - كما هو المصرح به في كلام بعضهم - لا مجرد مسمى التكرار كما هو أبعد الاحتمالين في كلام القائلين به في الأمر.
ثم إنه يمكن النزاع هنا على حذو ما مر في الأمر، فيكون الكلام في وضع صيغة النهي، فالقائل بدلالته على
الدوام يدعي وضعها لخصوص ذلك، والنافي لها ينفي وضعها كذلك ويجعلها للأعم، أو مشتركا بين الدوام والمرة، أو لخصوص المرة.
ويمكن أن يكون في الدلالة الالتزامية، بمعنى أنهم بعد الاتفاق على وضع صيغة النهي لطلب ترك الطبيعة اختلفوا في أن ذلك هل يستلزم الدوام أو لا؟ فيكون النزاع حينئذ راجعا إلى أن الطبيعة المأخوذة في النهي هل هي أخذت على وجه لا يصدق تركها إلا بترك جميع أفرادها المتشخصة بغير الزمان والمتشخصة به - فيكون طلب تركها دالا بالدلالة الالتزامية العقلية على إرادة الدوام، حيث إن فعلها في كل آن وزمان فرد من أفرادها - وأنها أخذت على وجه يصدق تركها بترك بعض أفرادها، فعلى هذا لا يقتضي النهي العموم بالنسبة إلى جميع الأفراد في زمان - أي المتشخصة بغير الزمان - فضلا عن اقتضائه العموم بالنسبة إلى الأفراد المتشخصة به؟ وعلى الثاني: يمكن أن يكون النزاع في وضع المادة المعروضة للنهي بأن يكون الخلاف في أنها هل وضعت للطبيعة مع اعتبارها على الوجه الأول أو
95

الوجه الثاني.
وكيف كان، فعلى هذا لا يختص النزاع بصيغة النهي، بل يجري في كل طلب متعلق بترك الطبيعة، سواء كان بصيغة النهي أو بصيغة الأمر ك‍ (اترك الزنا)، أو بمادة النهي كقوله: (نهيتك، أو أنهاك عن الزنا، أو أنت منهي عنه)، أو بغير مادته كمادتي الإرادة والطلب المتعلقتين بترك الطبيعة ك‍ (أريد، أو أطلب منك ترك الزنا) أو بمادة الأمر ك‍ (آمرك بترك الزنا، وأنت مأمور بتركه)، وهكذا.
ويمكن أن يكون النزاع في النهي بصيغة النهي، لكن يكون النزاع في اقتضاء هذا النهي للدوام وعدمه في الأعم من اقتضاء الصيغة، فيصح للقائل بالدوام الاستناد إلى كل واحدة من جهتي المادة والهيئة، وعلى المانع إبطال الدلالة من كلتا الجهتين.
الظاهر من بعض المتأخرين، كالمحقق القمي () - قدس سره - ذلك، حيث إنه أجاب عن القائل بالدوام بإبطال الدلالة من كلتا الجهتين، ولم يقتصر على إحداهما.
وكيف كان، فتحرير محل النزاع بينهم ليس بمهم لنا، وإنما المهم تحقيق الحال واختيار ما ينبغي أن يقال علي كل من الجهتين، فنقول:
الحق عدم دلالة صيغة النهي إلا على مجرد طلب ترك الطبيعة - كما في صيغة الأمر - من دون التعرض لها لبيان الدوام أو المرة، وهذا لا ينبغي أن يشك فيه من له أدنى تأمل، فإذن انحصر المقال في تحقيق الحال في المادة المعروضة لها، فنقول:
ينبغي أن نفرض الكلام فيها أولا بالنسبة إلى أفراد الطبيعة الغير
96

المتشخصة بالزمان، فإن الحال فيها أظهر، فبعد ظهورها فيها تظهر في الأفراد المتشخصة بالزمان لعدم الفرق.
فاعلم أنه يمكن دعوى كون الطبيعة المأخوذة في متعلق النهي على وجه لا يصدق تركها إلا بترك جميع أفرادها، نظرا إلى ما نقطع به من أن وجه اعتبار الطبيعة في النهي متحد [مع] وجه () اعتباره في الأمر، فبأي وجه أخذت هناك فهي مأخوذة على ذلك الوجه هنا، ولا ريب أنها هناك إنما أخذت على وجه لا يصدق تركها إلا بترك جميع الأفراد، وذلك للاتفاق هناك على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد العام أي ترك المأمور به ويستلزمه، ولو لا اعتبار الطبيعة في متعلق الأمر على هذا الوجه لما تم الاستلزام، لتوقفه على فرض التناقض بين الفعل والترك بالنسبة إلى الطبيعة ليستلزم عقلا من الأمر بفعلها النهي عن تركها، وإلا فلو فرض كون الطبيعة هناك بحيث يصدق تركها بترك بعض الأفراد فلا تناقض بين وجودها وعدمها - حينئذ - ولا بين فعلها وتركها، فلا يستلزم طلب فعلها النهي عن تركها، فإذا ثبت بذلك كونها مأخوذة على ذلك الوجه ثبت () كونها كذلك في المقام، فيتم المطلوب.
وحاصل ذلك الوجه: أن الطبيعة إنما اعتبرت وحدانية غير ملحوظ فيها التكثر، ولا ريب أن الأمر الوحداني لا ينتفي إلا بانتفاء جميع مصاديقه من الآحاد، إذ بوجود واحد منها - ولو كان هو وحده مع انتفاء غيره من الأفراد - يصدق وجود ذلك الأمر الوحداني لوجوده في ضمنه، وعدم صدق انتفائه بانتفاء سائر الأفراد، لأنه () بانتفائها لم ينتف الأمر الوحداني، فإن المنفي حينئذ تكثر
97

أفراده، وهو غير ملحوظ فيه.
وحقيقة ذلك الوجه: أن تعتبر الماهية المدلول عليها بالمادة المعروضة للنهي متحدة ومتفردة في حد نفسها ومجردة عن ملاحظة الأفراد، فلذا لا يجوز فيها اجتماع النقيضين بأن يقال: هي موجودة ومعدومة، لاتحاد موضوع القضيتين، وهي نفس الطبيعة المتحدة، فلا يصدق انتفاؤها إلا بانتفاء جميع الأفراد، إذ مع وجود واحد منها فتلك الحقيقة المتحدة متحققة وموجودة يقينا، فلا يمكن أن يقال: إن تلك الطبيعة معدومة.
وأما الوجه الآخر: فحقيقته [1] هي أن تعتبر الطبيعة على وجه غير ملحوظ فيه الاتحاد والتكثر، بحيث تكون الطبيعة على هذا الوجه صالحة لطرو () كل من القيدين عليه، وكذا لتقيدها بالوجود والعدم معا، وذلك لعدم اقتضائها حينئذ لشيء منهما، بل هي صالحة لكل منهما، فيصدق وجودها بوجود فرد واحد، وعدمها بعدم بعض آخر، فيصدق عليها في آن واحد أنها موجودة ومعدومة إذا كان بعض أفرادها موجودا وبعضها معدوما.
وملخصه: أن تؤخذ الطبيعة المرادة بالمادة المتعلقة للنهي عبارة عن نفس حقيقة الشيء الغير المقتضية لشيء من الطوارئ واللواحق والقيود مطلقا - من حيث الحالات والأزمان والأفراد والقلة والكثرة، بل الوجود والعدم - بمعنى أنها غير ملحوظ وغير مأخوذ فيها شيء من الطوارئ مطلقا، الصالحة لاعتبار كل واحدة من تلك الطوارئ فيها، بمعنى أنها لا تنافي شيئا منها، بل بحيث بأي منها

[1] وبعبارة أخرى: يكون المراد حينئذ هي الطبيعة اللا بشرط المقسمية، وهي المقسم بين اللا بشرط القسمي وبشرط شيء وبشرط لا، ومرجع الوجه الأول إلى اعتبارها باللا بشرط القسمي، فإن حاصل المقصود منها اعتبارها مطلقة بحيث يكون الإطلاق قيدا لها، فلذا لا يصدق تركها حينئذ إلا بترك جميع الأفراد. لمحرره عفا الله عنه.
98

لوحظت واعتبرت فهي لا تخرج عما عليه، ومع أي منها يصدق حقيقة أنها هي، إذ حينئذ تكون تلك الطوارئ من حالاتها اللاحقة لها، واختلاف حالات الشيء لا يخرجه عن كونه هو ذلك الشيء، فهي صادقة على القليل والكثير، لكون كل منهما حقيقة منها، وعلى الموجود من أفرادها وعلى المعدوم منها لذلك، إذ بعد فرض كون شيء فردا منها فذلك الشيء هي بعينها، فبوجوده يصدق أنها موجودة حقيقة وبانعدامه يصدق أنها معدومة كذلك، إذ حينئذ يترتب قياس من الشكل الثالث، فيقال: إن هذا الشيء تلك الماهية وهذا الشيء موجود، فينتج أن تلك الماهية موجودة، أو يقال في الكبرى: وهذا الشيء معدوم، فينتج أن تلك الماهية معدومة، مثلا بعد فرض كون زيد إنسانا حقيقة فإذا كان موجودا يقال: إن زيدا إنسان، وزيد موجود، فينتج: أن الإنسان موجود، وإذا كان معدوما يقال: إنه إنسان، وهو معدوم، فينتج: أن الإنسان معدوم، وإذا فرض أن فردا من تلك الماهية موجود وفردا منها معدوم، فيحصل حينئذ قياسان من الشكل الثالث، فينتجان حينئذ: أنها الآن موجودة ومعدومة.
وكيف كان، فلا شبهة في أن كل حكم ثابت للمقيد ثابت للمطلق، لأنه عينه حقيقة.
وبالجملة: إذا اعتبرت الطبيعة المتعلقة للنهي بهذا المعنى فهو - لكونه غير مقتض [لشيء] () من الخصوصيات والطوارئ حتى الوجود والعدم، فكيف بخصوصية الأوصاف والأفراد والحالات والأزمان - يمكن فيه اجتماع النقيضين إذا كان بعض أفراده موجودا وبعضها معدوما - كما عرفت - فإن اجتماعهما إنما يمتنع إذا كان المورد مقتضيا لأحدهما، وكذا يجوز ارتفاعهما عنه إذا لم يوجد منه
99

نهي أصلا، [1] إذ المفروض عدم اعتبار شيء منهما فيه، بل هو أمر مشترك بينهما، فيقال: إنه ليس بموجود ولا بمعدوم لخروج الوجود والعدم عنه، هذا حال النقيضين.
وأما الضدان فحالهما بالنسبة إليه أظهر، فيجوز اجتماعهما () فيه، لما مر في وجه اجتماع النقيضين فيه، وكذا يجوز ارتفاعهما عنه بالأولى، ولك أن توجه ارتفاع النقيضين عنه بما مر في اجتماعهما فيه، وتقريره:
أنه بعد فرض أن كل فرد منه حقيقة هو ذلك الشيء، فإذا فرض وجود فرد منه وانعدام آخر، فيصدق عليه باعتبار الفرد الموجود أنه ليس بمعدوم وباعتبار المعدوم أنه ليس بموجود، لجريان القياس المتقدم بعينه هنا - أيضا - فلا حاجة إلى فرض عدم وجود شيء منه أصلا، وهذا هو الوجه الذي ينبغي الاستناد إليه، ولم أر أحدا التفت إليه. هذا، وافهمه واغتنم.
فلنرجع إلى ما كنا فيه، فنقول:
إن اتحاد وجه اعتبار الطبيعة في الأمر والنهي مسلم لكن اعتبارها في الأمر على الوجه الأول ممنوع، بل الظاهر اعتبارها فيه على الثاني، والتمسك بالاتفاق على استلزام الأمر بالشيء للنهي عن تركه مغالطة، لعدم إفادته لما ذكر، فإن متعلق النهي الضمني هناك إنما هو ترك الفعل المتعلق للأمر لا نفس الفعل، والترك المضاف إنما يتبع ما أضيف إليه في جانب الأمر، فإن اعتبر الفعل في الأمر

[1] أما ارتفاع الوجود عرضيا فظاهر ()، وأما العدم فلأنه حينئذ أزلي، والعدم الأزلي ليس عدمه، وإنما يصدق عدمه إذا اعتبر بالنسبة والإضافة إلى ما يكون من ذلك الشيء، فتأمل. لمحرره عفا الله عنه.
100

على وجه يعم جميع أفراده الأزمانية وغيرها يكون () الترك - أيضا - كذلك، فيكون المراد بالنهي المنع من ترك الفعل بجميع أفراده زمانية وغير زمانية، وإن اعتبر في جانب الأمر على وجه يتحقق امتثال الأمر المتعلق به بإيجاد فرد واحد منه فيكون الترك - أيضا - كذلك، والأمر بالشيء إنما يستلزم النهي عن تركه على وجه امر به لا مطلقا، فإن إيجادات شيء إنما تقتضي نفي نفي ذلك الشيء على وجه اعتبر في الإيجادات، وهذا معنى ما يقال - في دفع التمسك بأن النهي للدوام، فيكون الأمر كذلك - من أن النهي الذي للدوام هو النهي المستقل لا الضمني، فإنه تابع للأمر.
وكيف كان فالظاهر المتبادر عرفا من النهي إنما هو عموم الترك بالنسبة إلى أفراد الطبيعة المنهي عنها مطلقا زمانية وغير زمانية، وقد عرفت أن ذلك ليس من جهة اقتضاء الصيغة وظهورها في ذلك، فحينئذ هل هو من وضع المادة - بمعنى أنها موضوعة للطبيعة على الوجه الأول - أو من جهة شاهد خارجي وقرينة عامة لازمة للفظ في جميع الموارد على اعتبار الطبيعة على الوجه الأول - بمعنى أن معنى المادة ليس إلا نفس حقيقة الفعل بنحو ما عرفت - فلا يستلزم النهي عن الطبيعة على هذا الوجه العموم المذكور، وإنما قامت قرينة من الخارج على اعتبار زائد في معنى المادة واعتبارها على الوجه الأول، فيفهم الاستلزام حينئذ لذلك؟ الظاهر في بادي الرأي هو الثاني، فإن الظاهر أن مصادر الأفعال وضعت - مجردة عن اللواحق والطوارئ اللفظية - لحقائق الأفعال على الوجه الذي عرفت، كما أن الظاهر في جميع أسماء الأجناس ذلك، فإنها - أيضا - موضوعة كذلك لحقائق معاينها على الوجه المذكور، فهل اللفظ في المصادر وغيرها من
101

أسماء الأجناس في نظر الواضح كنفس المعنى، لم يلحظ فيه شيء من الطوارئ واللواحق، وإنما الملحوظ نفس اللفظ وذاته بحيث لا ينافي وضعه اعتبار قيد زائد فيه من القيود كنفس المعنى وبأي وجه اعتبر معناه من الإطلاق والتقييد بشيء أو بعدم شيء، فلا يتفاوت الحال فيه بالنظر إلى وضعه، بل على أي وجه وتقدير يكون استعماله على وجه الحقيقة لصدق معناه على كل من الوجوه كما عرفت، فلذا نقول - وفاقا لبعض المحققين () -:
إن استعمال المطلقات في المقيدات حقيقة، فإنها نفس المطلقات.
فعلى هذا فبالنظر إلى وضع المواد فالحق مع من يقول: إن النهي كالأمر في عدم دلالته إلا على طلب ترك الطبيعة من دون إفادة الدوام، لعدم استلزام توجه النفي إلى المواد - حينئذ - نفي جميع أفرادها، بل يصدق قولنا - حينئذ إذا تحقق بعض من أفراد الضرب مثلا مع انتفاء الآخر -: إن الضرب موجود ومعدوم بمقتضى القياس الذي عرفت، فطلب تركه لا يستلزم طلب ترك جميع أفراده الغير الزمانية، فضلا عن استلزامه لطلب ترك الزمانية منها الذي هو معنى الدوام والتكرار.
لا يقال: إن حقيقة الشيء في نفسها وحدانية وان لم تلحظ وحدانية، فما لم يلحظ التكثر فيها لا يصح جعلها موضوعة للقضيتين المتناقضتين.
لأنا نقول: إنها لو كانت وحدانية لكان اعتبار التكثر فيها منافيا لها، وهو باطل، لصدقها على الكثير بمثل صدقها على الواحد، فيكشف ذلك عن عدم اعتبار الوحدانية فيها - أيضا - وأنها كسائر الطوارئ تطرأ عليها، لا أنها مأخوذة فيها شطرا أو شرطا، فتأمل.
102

ثم إنه قال بعض المحققين عن المتأخرين () - بعد اختياره القول بعدم إفادة النهي التكرار -:
(ثم إن ما ذكرنا من حصول الامتثال بترك الطبيعة في الجملة إنما هو بالنسبة إلى الزمان والأفراد المتعاقبة بحسب تماديه، وأما الأفراد المتمايزة بسائر المشخصات فكلا، فمن () ترك الزنا بامرأة معينة وارتكب الزنا مع الأخرى فلا يحصل له الامتثال حينئذ لأجل ذلك الترك، فإن الطبيعة لم تترك حينئذ، مع أن الامتثال بالترك الآخر حينئذ محال لعدم المقدورية، لأن المقدور ما يتساوى طرفاه، فكما لا يمكن تحصيل زنائين في آن واحد لا يمكن ترك أحدهما في آن ارتكاب الآخر.
وبالجملة: فلا بد من ترك الطبيعة رأسا في آن من الأوان ليتحقق الامتثال، ولا يحصل إلا بترك جميع الأفراد). انتهى.
ولا يخفى ما فيه من الضعف لمن تأمل ما قدمنا، وتوضيحه:
أنه إما أن يجعل الطبيعة المتعلقة للنهي مأخوذة على الوجه الأول، وإما أن يجعلها مأخوذة على الوجه الثاني، فعلى الأول فهو وإن كان مستلزما للعموم بالنسبة إلى الأفراد الغير المتشخصة بالزمان، إلا أنه مستلزم للزمانية منها - أيضا - فيلزمه القول بالدوام مع أنه - قدس سره - لا يقول به ولا باعتبارها على ذلك الوجه - أيضا - كما هو الظاهر، وعلى الثاني - كما هو الظاهر من كلامه بل الصريح - فقد عرفت أنه لا يقتضي العموم بالنسبة إلى الأفراد مطلقا من غير فرق بين الزمانية منها وغيرها.
وكيف كان، فقد علمت أنه لا فرق بين الأفراد الزمانية وغيرها بوجه
103

من جهة العموم وعدمه، فإن يبني على الوجه الأول فالعموم ثابت مطلقا، أو على الثاني فهو منفي مطلقا من غير فرق أصلا، فظهر ضعف تعليله بقوله: (فإن الطبيعة لم تترك حينئذ)، لما عرفت من أنه إذا يبني على
الوجه الثاني فترك الطبيعة صادق بترك بعض أفرادها وإن كان مع وجود بعض آخر.
ثم إن قوله: (مع أن الامتثال بالترك الآخر - حينئذ - محال) أضعف من الوجه الأول:
أما أولا - فلأن الأفعال المنهي عنها لم تنحصر في الزنا الذي لا يمكن ارتكاب فردين منه في آن واحد، بل في غاية الكثرة، وأكثرها مما يمكن فيه ذلك، كأكل مال الغير، وقتل الغير، وسرقة مال الغير، وضرب الغير، وشتمه، ولعنه إلى غير ذلك مما يكاد أن لا يحصى، لإمكان قتل شخصين في آن واحد، فيتحقق قتلان، وأكل مال اثنين، وسرقته، فيتحقق تصرفان في مال الغير وسرقتان، فكأنه - قدس سره - قصر النظر في () مثل الزنا.
وأما ثانيا - فلأن الاشتغال بضد الشيء لا يخرج ذلك الشيء عن تحت القدرة، بل هي باقية عليه، نعم الاشتغال بالضد مانع فعلا عن الاشتغال بالشيء، وليس هذا من معنى انتفاء القدرة، فافهم.
فلنرجع إلى ما كنا في صدده فنقول: أما الشاهد على اعتبار الطبيعة المتعلقة للنهي على الوجه الأول فيقرر على وجهين:
أوجههما: أنه لو كان المعتبر في النهي الطبيعة بحيث يصدق تركها بترك بعض الأفراد يلزم عدم الفائدة في النهي لحصول تركها باعتبار بعض أفرادها لا محالة، فيكشف ذلك [عن] أن المعتبر هي بعنوان الإطلاق والوحدانية الذي يلزمه انتفاء جميع الأفراد.
104

ودفع اللغوية: بأن الترك - باعتبار ترك بعض الأفراد - إنما يقع لا على وجه التعبد، فيمكن اعتبار الطبيعة المنهي عنها على الوجه المذكور، ليكون تركها المتحقق بترك بعض الأفراد عبادة.
مدفوع: بأن الكلام في النهي المطلق، لا فيما علم كونه تعبديا.
نعم الذي ذكرنا من الوجه لا يتم في بعض الموارد، وهو ما إذا كان الفعل المنهي له استمرار وبقاء، فلا مدفع حينئذ عن التزام حصول الامتثال - نظرا إلى ظاهر المادة - بترك بعض الأفراد وبعض الأزمان.
وثانيهما: إثبات عموم النهي بدليل الحكمة.
وفيه: أنه على تقدير تماميته لا يجعل اللفظ ظاهرا فيه، فعلى هذا لو جاء دليل من الخارج دال على خروج بعض الأفراد لارتفع [1] به موضوع ذلك الدليل، ولا يعقل المعارضة بينه وبين ذلك العموم المستفاد من دليل الحكمة، مع أنا نعلم أن النهي ظاهر في العموم بحيث يعارض ما دل على التخصيص والتقييد.
هذا كله بالنظر إلى بادئ الرأي.
لكن التحقيق: أن تعليق النفي الذي منه النهي على الطبيعة من حيث هي - بمعنى عدم ملاحظة شيء معها - يدل التزاما عقلا على نفي جميع أفرادها، ولا حاجة إلى ملاحظة إطلاق الطبيعة ووحدتها، بل يكفي ملاحظة نفس الطبيعة () مع قطع النظر عن كل القيود الطارئة عليها، كما أن تعليق الإيجاب على النحو المذكور لا يستلزم إلا إيجاب فرد واحد بمعنى أن الذي يتوقف عليه صدق وجود الطبيعة عقلا ليس أزيد من ذلك.
وتوضيح ذلك: أن اعتبار الطبيعة وأخذها - سواء في مقام الوضع أو

[1] ويسمى الطبيعة بهذا الاعتبار باللا بشرط. لمحرره [عفا الله عنه].
105

الاستعمال - ينحصر عقلا في ثلاثة أقسام:
فإن المعتبر إياها يجعلها موضوعا لحكم ومحمول إيجابي أو سلبي، فهو إما أن يأخذ [ها] نفسها موضوعا لذلك الحكم مع قطع النظر عن كل القيود والطوارئ عليها حتى تقيدها بالإطلاق والوحدة - بمعنى أنه لا يلاحظ إلا نفس الطبيعة -، أولا، وعلى الثاني: إما ان يكون الملحوظ معها وجود أمر، وإما أن يكون عدمه، فيعبر عنها بالاعتبار الأول بالطبيعة اللا بشرط، وبالاعتبار الثاني بها بشرط شيء، وبالثالث بها بشرط لا.
واعتبارها بملاحظة كونها مطلقة ومتحدة داخل في الثاني، كما أن التحقيق: أن اعتبارها على وجه يصدق فيها السلب والإيجاب الجزئيان داخل فيه أيضا، إذ لا يخفى على المتأمل أنه لو لا اعتبار القيود وتقيدها بها [لم] يصح () صدق السالبة والموجبة الجزئيتين فيها عقلا، ويكون الحال فيها كالحال في الجزئي الحقيقي في القضايا الشخصية، إذ لو كان المأخوذ والملحوظ هي نفس الطبيعة لا بذلك الشرط فهي وحدانية يتوقف صدق الترك والانتفاء إذن عقلا على ترك وانتفاء جميع أفرادها - كما سيجيء توضيحه - فيناقض الموجبة الجزئية، وصفة الاتحاد قد تحصل لها بملاحظة تقيدها بها، وقد تحصل بعدم ملاحظة غيرها معه، وإذا كانت هي متحدة فالمصحح لصدق انتفائها عقلا إنما هو انتفاء جميع الأفراد، كما أن المصحح لصدق وجودها عقلا إنما هو وجود فرد واحد منها بحيث لا حاجة إلى أزيد منه.
هذا بخلاف ما إذا اعتبرت بملاحظة تقيدها بالقيود من حيث الأزمنة والأمكنة والحالات والأفراد، لصدق الانتفاء حينئذ بانتفائها بملاحظة بعض القيود وصدق وجودها بملاحظة وجود بعضها.
106

والسر فيه: اختلاف موضوع القضية الموجبة والسالبة الجزئيتين وتعدده بتعدد القيود، فيقال: إن الضرب موجود في يوم الجمعة ومعدوم في السبت، أو موجود باعتبار هذا الفرد منه وهو الضعيف ومعدوم باعتبار فرد آخر منه، وهو الضرب الشديد، وهكذا، فيكون الموضوع في كل واحدة من القضيتين غيره في الأخرى، فإن القيود الواردة على الطبيعة الواحدة مكثرة لها من حيث الموضوعية للحكم.
هذا، وأما [من] حيث كونها مقسما للاعتبارات الثلاثة - الذي يعبر بملاحظته عن الطبيعة بمطلق الطبيعة وباللابشرط المقسمي أيضا - فهو ليس من اعتباراتها، وإلا لزم أن يكون لاعتبارها قسم رابع. التالي باطل بضرورة العقل، لانحصاره عقلا في الثلاثة، فالمقدم مثله، بل إنما هو اعتبار مقسمي منتزع عند العقل عن الاعتبارات الثلاثة، وليس له وجود وتحقق بدونها، بل بأحدها، فإن المقسم عين الأقسام بالعنوان الإجمالي.
قال سيدنا الأستاذ - دام ظله - ونعم ما قال بالفارسية: اين اعتبار دروغى است كه عقل انتزاع ميكند از اعتبارات ثلاثة مذكورة كه واقع وحقيقتي از براي أو نيست تا اينكه اينهم يكى از اعتبارات ماهيت باشد. انتهى.
ثم إن المعتبر والملحوظ في حال الوضع في المصادر وغيرها - من أسماء الأجناس مطلقا من جهة اللفظ والمعنى كليهما - إنما هو اللفظ والطبيعة الموضوع لها بالاعتبار الأول قطعا، بل اتفاقا - أيضا - بمعنى أن الواضح لاحظ نفس اللفظ وذاته مع قطع النظر عن الطوارئ اللفظية من اللام والتنوين، وعن خصوصيات التراكيب، ولاحظ نفس المعنى مع قطع النظر عن القيود والطوارئ المعنوية من حيث الأفراد والأزمان والحالات والأمكنة، فوضع الأول على النحو
107

المذكور للثاني كذلك، فلذا [1] يكون استعمال اللفظ مع القيود اللفظية فيه مع كل واحد من القيود المعنوية - إذا لم يرد الخصوصية من اللفظ - على وجه الحقيقة، حيث إن عدم اعتبار الشرط لا يقضي بعدمه، بل يجتمع مع ألف شرط، فلا يقال: إن الموضوع هو اللفظ مجردا عن القيود، فاستعماله معها استعمال لغير اللفظ الموضوع بإزاء ذلك المعنى فيكون مجازا، أو يقال: إن الموضوع له هو ذات المعنى مجردة، فاستعمال اللفظ فيه مع كونه مقيدا بشيء من القيود استعمال له في خلاف ما وضع له، ف‍ [هو] مجاز.
فإذا عرفت ذلك كله فاعلم: أن الطبيعة في مقام الحكم والاستعمال إن أخذت على الوجه الأول من الثلاثة - سواء في المصادر مطلقا مجردة، أو في ضمن المشتقات وفي غيرها من أسماء الأجناس - فلا ريب أن الملحوظ حينئذ إنما هو أمر وحداني، وهو نفس الطبيعة، وليس نظر المتكلم إلى الأفراد - حينئذ - إلا من حيث كونها مرايا كاشفة وحاكية عن تلك الصورة الوحدانية وموجدة لها على حد سواء، بمعنى أن كل واحد منها إنما يحكي عما يحكي عنه الآخر، ويوجد ما يوجده الآخر، ولازم ذلك عقلا تحقق الأمر الملحوظ، وهو الطبيعة المعتبرة على الوجه المذكور بوجود واحد من الأفراد بحيث لا حاجة في صدق وجودها إلى وجود أزيد منه، بل المصحح لصدقه عند العقل يتحقق بتحقق فرد

[1] قال دام ظله: فرق بين اعتبار الطبيعة على الوجه الأول في مقام الحكم والاستعمال وبين اعتبارها على ذلك الوجه في مقام الوضع، فإن المستعمل إذا أخذها على ذلك الوجه فهو إنما يأخذها من دون نظر إلى وجود شيء منها أو عدمه - بمعنى أنه لا يلتفت إلى شيء منهما حينئذ - وأما الواضع فهو أولا يلتفت إلى اعتباراته الثلاثة في مقام الحكم والاستعمال، ثم يقطع النظر عن تلك الاعتبارات حتى اعتبارها لا بشرط، ويضع اللفظ لنفس الطبيعة وإن كانت الطبيعة لا تنفك عن أحد الاعتبارات المذكورة في مقام الحكم، لكنها غير منظور إليها في مقام الوضع، فعلى هذا فيرجع حاصل الفرق إلى اعتبارها على الوجه المذكور في مقام الوضع أوسع منه دائرة في مقام الحكم والاستعمال، فافهم واغتنم. لمحرره عفا الله عنه.
108

واحد من غير حاجة إلى أزيد منه، وانتفاؤه جميع الأفراد، إذ بوجود واحد منها - كما عرفت - يصدق وجوده البتة، والأفراد الاخر على تقدير وجودها لا تكون موجدة لغير ما أوجد ذلك الفرد، والمفروض وجوده به، ولا مؤثرة في عدم ذلك الموجود، فإن عدمها إنما هو عدم اقتضاء وجوده، لا اقتضاء عدمه، إذ المفروض كفاية وجود كل من الأفراد في وجوده وتساويها في ذلك وكونها موجدة لأمر واحد، وهو ذلك الموجود، فإذا صدق وجوده يمتنع () صدق عدمه.
نعم لو اعتبرت الطبيعة متقيدة بخصوصيات الأفراد فهي حينئذ لانحلالها إلى أمور متعددة يصدق تركه بترك بعض الأفراد مع وجود بعض آخر.
والفرق بين هذا وبين الاعتبار السابق أن الأفراد هنا حقيقة اعتبر كل منها موضوعا مستقلا للحكم ويكون النظر إلى خصوصياتها.
وبعبارة أوضح: إن الطبيعة إنما اعتبرت بملاحظة كل واحدة من خصوصيات الأفراد، فيكون كل فرد موجدا لما يغاير ما أوجده الآخر، وحاكيا عما يغاير المحكي بالآخر، فإن النظر في كل منها حينئذ إلى الحصة الخاصة من الطبيعة الموجودة في ضمنه، لا إلى القدر المشترك بين تلك الحصص - كما في القسم السابق - فيصدق السلب والإيجاب الجزئيين فيها - حينئذ - لاختلاف موضوعهما وتعددهما باعتبار التقيد، فإن انتفاء كل من الأفراد حينئذ مؤثر في انعدام الطبيعة المتقيدة به، كما أن وجوده مؤثر في وجودها كما في الاعتبار السابق فتظهر الثمرة بين الاعتبارين في جانب النفي.
وبالجملة: فقد ظهر من ذلك توقف صدق المتناقضين كالضدين في الطبيعة على اعتبار أمر زائد على أصلها، وأنها لو خليت ونفسها يمتنع فيها ذلك كما عرفت.
109

وكيف كان فقد عرفت سابقا دخول اعتبار الطبيعة على هذا الوجه في القسم الثاني من الأقسام الثلاثة لاعتبارها، والكلام الآن في اعتبارها على الوجه الأول منها، وقد عرفت أن المصحح لصدق انتفائها وتركها عقلا - حينئذ - إنما هو انتفاء وترك جميع الأفراد، كما أن المصحح لصدق وجودها - حينئذ - عقلا وجود فرد منها، فيدل اللفظ بالالتزام العقلي من جهة إطلاق معنى المادة الذي هي الطبيعة في صورة النفي على انتفاء وترك جميع الأفراد بحيث يكون ظاهرا في عموم النفي على وجه لو جاء دليل من الخارج على خروج بعض الأفراد لعارض ظهوره ذلك الدليل، فيلاحظ قاعدة التعارض بينهما من التعادل والترجيح، وفي صورة الإثبات على إرادة وجود أحد الأفراد على البدل دون الأزيد، فالظاهر منه حينئذ ليس أزيد من فرد واحد على البدل لا غير، فلذا يحتاج عموم الحكم لجميع الأفراد إلى ملاحظة شاهد خارجي من دليل لفظي أو إجماع إن وجد أحدهما، وإلا فيرجع إلى دليل الحكمة لو جرى في المورد، فيتوقف الحكم بالعموم حينئذ على إحراز مقدمتي دليل الحكمة من عدم فائدة ثبوت الحكم لبعض الأفراد، ومن كون المقام مقام البيان [1]، والمقدمة الثانية لا تحرز غالبا إذا كان اللفظ واردا في مقام الحاجة والعمل، فإن الواجب من البيان هو في مقام العمل، وإلا لجاز تأخيره إلى وقت الحاجة. نعم لو لم يأت البيان إلى وقتها فالحكم كما في صورة وروده وقتها.
وكيف كان، فلا بد من إحراز كون اللفظ المطلق في مقام البيان وإلا لما جاز الحكم بالعموم. هذا بخلاف صورة النفي، فإنه يحكم به من حين ورود اللفظ مطلقا.

[1] أي إحراز كون المتكلم في مقام بيان تمام مقصوده، وهذا يمكن إحرازه من قرينة خارجية، ومع فقدها فلا يحرز إلا إذا ورد حال العمل أو قبله مع عدم بيان الخلاف إلى ذلك الوقت. لمحرره عفا الله عنه.
110

والسر: أن اللفظ في تلك الصورة بمعونة العقل ظاهر في العموم، فهو بيان، فيتمسك بظهوره على العموم، بخلافه في الصورة الثانية، فان الذي يظهر منه التزاما بمعونة العقل إرادة وجود أحد الأفراد، وأما الزائد عليه فهو ساكت عنه، فيتوقف الحكم بالعموم على إحراز المقدمتين المذكورتين، ولذا يحكم بثبوت الحكم الثابت للطبيعة في تلك الصورة لكل واحد من أفرادها بعين ثبوته للطبيعة، فيحكم بثبوت الحرمة النفسية الثابتة للطبيعة لكل واحد من أفرادها كذلك، وكذلك في صورة ثبوت الحرمة الغيرية، فإنه يحكم بها كذلك لكل من الأفراد.
هذا بخلاف صورة الإثبات، كما إذا وجبت الطبيعة بالوجوب العيني، فإنه لا يسري ذلك الحكم إلى كل من أفرادها، بل الثابت حينئذ إنما هو الوجوب التخييري لا غير.
وأيضا اللفظ في الصورة الأولى ظاهر في العموم وبيان له، فلذا يعارض ما دل من الخارج على التخصيص، بخلافه في الصورة الثانية إذا الحكم بالعموم من جهة دليل الحكمة، فإن دليل الحكمة لا يجعله ظاهرا في العموم، فلذا لا تعارض بينه وبين ما دل على التخصيص، بل ذلك الدليل وارد على دليل الحكمة [1]، لكونه رافعا لموضوعه، وهو عدم البيان.
فإن قلت: إن الشك في إرادة العموم في صورة الإثبات إنما يكون من جهة الشك في تعليق الحكم على نفس الطبيعة، أو عليها باعتبار تقيدها ببعض الأفراد، فلو فرض إحراز أنه معلق عليها نفسها فالحال فيها كالحال في الصورة

[1] فإنه يقال - في تقرير دليل الحكمة إذا جرى في مورد بأن يكون الحكم معلقا على الطبيعة مع عدم إفادة لثبوته لبعض أفرادها -: إن المراد به إما ثبوته لجميع أفراد الطبيعة، أو ثبوته لبعضها، لا سبيل إلى الثاني، لعدم دلالة الخطاب عليه، فإن الحكم ثابت للطبيعة، فلا يصلح كونه بيانا للثاني، فاعتماد المتكلم عليه إذا كان مقصوده الثاني إخلال بغرضه، فتعين الأول. لمحرره عفا الله عنه.
111

الأولى من جهة سريان الحكم الثابت لها إلى جميع الأفراد.
قلنا: إحراز تعليق الحكم على الطبيعة نفسها مشترك الاعتبار في الصورتين إلا أنه يكفي في صورة النفي في ثبوت عموم النفي لجميع الأفراد مجرد إحراز هذه الصغرى من غير حاجة إلى ضميمة مقدمة أخرى - كما عرفت - بخلاف صورة الإثبات، ضرورة أنه يصحح ثبوت الحكم لبعض أفراد الطبيعة صدق ثبوته لنفس الطبيعة، فيقال - فيما إذا قام فرد من أفراد الرجل: إنه قام الرجل يعني طبيعة الرجل هذا بخلاف ما لو قام فرد منها ولم يقم آخر، فلا يصح أن يقال حقيقة: إنه ما قام الرجل أو لا رجل قائما، فإن ثبوت القيام بفرده الآخر له مانع عن صدق ذلك.
وهكذا الحال في صورة الإنشاء، فإنه يصح تعليق الحكم الإثباتي على نفس الطبيعة مع كونه ثابتا لبعض أفرادها، فيقال: (أعتق الرقبة) مع أن وجوب العتق ثابت للمؤمنة منها، بخلاف صورة النهي، فإن النهي عن فرد وطلب تركه لا يستلزم طلب ترك أصل الطبيعة لعدم الملازمة بين نفي فرد ونفي الطبيعة.
وكيف كان، فلما كان المصحح لصدق الثبوت على الطبيعة عقلا الثبوت بالنسبة إلى بعض أفرادها، فيجوز تعليق الإثبات على نفس الطبيعة، ويصدق الثبوت لها، فلذا لا يلزم من ثبوت الحكم لنفس الطبيعة سريانه إلى جميع أفرادها إلا بعد إحراز أن المتكلم في مقام بيان تمام مراده، وأنه لو كان المراد ثبوت الحكم لبعض أفراد
المطلق - والمفروض إطلاق اللفظ - يلزم كونه مخلا بغرضه، لعدم صلاحية تعليق الحكم على المطلق لكونه بيانا لبعض الأفراد، فيجب أن يكون المراد ثبوت الحكم للطبيعة مع قطع النظر عن خصوصية أفرادها، فيسري الحكم لجميع الأفراد لذلك.
هذا بخلاف صورة النفي، إذ بعد كون وجود فرد واحد مصححا عقلا
112

لصدق وجود الطبيعة يمتنع () صدق انتفائها بانتفاء بعض الأفراد الاخر، فلا يجوز تعليق النفي على الطبيعة من حيث هي باعتبار انتفاء بعض أفرادها مع وجود بعضها الآخر، فلذا لا حاجة حينئذ إلى إحراز كون المتكلم في مقام البيان، بل اللفظ بيان من أول الأمر، وظاهر في العموم، ويصلح للمعارضة لما دل من الخارج على التخصيص، كما أنه في صورة الإثبات كذلك من أول الأمر بالنسبة إلى فرد واحد، ويصلح للمعارضة لما دل من الخارج على نفي الحكم عن جميع الأفراد، وأما بالنسبة إلى ما يدل على نفيه عن بعضها فلا يصلح للمعارضة له، بل موضوع استفادة العموم منه مرتفع حينئذ بذلك الدليل، إذ هو عدم البيان، وذلك بيان.
وإن شئت توضيح الحال: فافرض القطع بتعليق النفي والإثبات على أصل الطبيعة، فانظر ما ذا ترى من الفرق بينهما، فهل تتوقف حينئذ عن الحكم بعموم النفي إلى إحراز مقام البيان أو تحكم بعموم الإثبات مع قطع النظر عن إحراز كون المطلق واردا في مقام البيان؟ حاشاك، ثم حاشاك.
ثم بعد إحرازه وكون المراد تعليق الحكم على نفس الطبيعة لا بشرط، وأن جميع الأفراد متساوية في تحصيل ما هو المقصود منها من دون خصوصية لبعض دون آخر، فهل تتوقف في صورة تعلق الأمر بها كذلك في تحقق الامتثال بإيجاد فرد واحد منها، أو تكتفي في تحققه في صورة تعلق النهي بها بترك فرد واحد؟ كلا، ثم كلا.
والحاصل: أنه إذا أحرز تعليق الحكم على الطبيعة ففي صورة النفي لا حاجة في إثبات عموم النفي إلى إحراز مقام البيان، بل اللفظ بملاحظة تعليقه عليها ظاهر فيه، بخلاف صورة الإثبات فإنه لا ظهور له في عموم الإثبات
113

أصلا، ولو أحرز كونه في مقام البيان فهو لا يجعل اللفظ ظاهرا فيه.
ثم إذا كان الإثبات من مقولة الطلب فمع إحراز مقام البيان يحكم بعموم الحكم بالنسبة إلى جميع الأفراد، لكن بدلا لا استغراقا [1]، لكفاية فرد واحد في وجود الطبيعة المحقق لامتثالها.
وإذا كان من مقولة الإنشاء الغير الطلبي كقوله تعالى: أحل الله البيع () فيحكم حينئذ بالعموم الاستغراقي، إذ لا امتثال حتى يتحقق بفرد واحد.
وأما إذا كان في مقام الإخبار كما إذا حملنا قوله تعالى: أحل الله البيع () على ذلك لا الإنشاء، فبعد إحراز كونه في مقام البيان، وأنه لا فائدة في الإعلام عن حلية بعض الأفراد، فيحكم بالعموم الاستغراقي أيضا، وأما إذا لم تتم المقدمة الثانية فالعموم احتمالي.
وكيف كان، فإحراز تعليق الحكم على الطبيعة مشترك الاعتبار بين الصورتين، إلا أن العموم في الثانية لا يكفيه مجرد ذلك.
ثم إحراز ذلك قد يكون بالقطع، وقد يكون بالأصل، وعلى الثاني قد يكفي أصل واحد، وهذا فيما إذا كنا نحن المخاطبين، فإنا - حينئذ - نحرز إطلاق اللفظ بالحس، فإذا شككنا في أن المراد نفس الطبيعة لا بشرط أو هي باعتبار تقيدها ببعض الأفراد فنتمسك - حينئذ - بأصالة عدم اعتبار المتكلم قيدا زائدا على أصل الطبيعة، فإن اعتباره وإن لم يكن مستلزما للمجاز، حيث لم يرد الخصوصية من نفس اللفظ إلا أنه مخالف لظاهر حال المتكلم بالكلام المطلق، والمراد بالأصل المذكور ذلك، أي ظهور حال هذا المتكلم - حينئذ - في ذلك، لا

[1] وهذا فرق آخر بين النفي والإثبات في تلك الصورة، فإن تعليق النفي على الطبيعة يقتضي عمومه استغراقا دائما، بخلاف تعليق الإثبات عليها فإنه يختلف. لمحرره عفا الله عنه.
114

الاستصحاب.
وقد يحتاج إلى أصلين، وذلك فيما إذا كان الخطاب من الخطابات الغيبية، أحدهما ما ذكر، وثانيهما أصالة عدم التقييد في اللفظ، فيحرز بذلك موضوع الأصل المذكور.
وهذان الأصلان يقابلان الأصلين الجاريين في تشخيص إرادة الحقيقة إذا شك في إرادتها، فالأول مقابل لأصالة عدم إرادة المجاز، والثاني مقابل لأصالة عدم القرينة في اللفظ.
وكما أنه قد يكفي في المقام الأول، كذلك ثمة أولهما في الصورة المذكورة، وهي صورة المشافهة.
وكما قد يحتاج إلى كليهما في المقام، كذلك قد يحتاج إلى ذينك ثمة، وذلك - أيضا - في الخطابات الغيبية.
وكما أن الأول من هذين معناه ظهور حال المتكلم، فكذلك أحد ذينك.
وكما أن الثاني من هذين محرز لموضوع الأول منهما، فكذلك ثاني ذينك، فإنه محرز لموضوع الأول منهما. هذا.
أقول: يمكن أن يقال: إن ظهور اللفظ في عموم النفي في صورة النفي إنما هو بعد ظهوره في إرادة أصل الطبيعة ونفسها، وأن الحكم معلق عليها من غير ملاحظة التقيد بالأفراد، وإلا فقد عرفت أنه مع ملاحظة التقيد لا يلزم من نفي الطبيعة باعتبار بعض القيود نفيها مطلقا، وظهوره في إرادة أصل الطبيعة وكونها هي الموضوع للحكم لا يكون إلا بعد ظهور كون المتكلم في مقام البيان إلا أن ذلك يحرز بظهور حال المتكلم، فإن الظاهر من كل متكلم بكلام أنه في مقام إرادة تمام مقصوده باللفظ، فإذا أحرز إطلاق اللفظ بالأصل أو بالقطع، فيكون اللفظ بملاحظة هذا الظهور الحالي وبملاحظة إطلاقه ظاهرا في أن تمام المطلوب وموضوع الحكم إنما هو نفس الطبيعة لا بشرط، المستفادة من
115

الإطلاق، ولما كان لازم تعليق النفي عليها عقلا نفي جميع أفرادها، فيكون ظاهرا في عموم النفي لذلك، فلا بد من إحراز مقام البيان في صورة النفي - أيضا - كصورة الإثبات.
لكنه مدفوع: بمنع توقف إحراز تعليق الحكم على نفس الطبيعة على إحراز مقام البيان، وكون المتكلم في مقام بيان تمام مقصوده، لإمكان كون الحكم واقعا ثابتا للطبيعة باعتبار خصوصية زائدة عليها مع كون المتكلم قاصدا لإفادة جزء موضوع الحكم - أعني نفس الطبيعة - بذلك الخطاب حين الخطاب إلى أن يأتي وقت الحاجة، فيبين تمامه حينئذ، ولا ريب - كما عرفت - أن تعليق الحكم على نفس الطبيعة مع قطع النظر عن مقام البيان يستلزم عقلا في صورة النفي عمومه لجميع الأفراد، لتوقف صدق نفي الطبيعة عقلا على انتفاء جميع الأفراد - كما عرفت - فلا يصح تعليق النفي عليها باعتبار انتفاء بعض الأفراد مع وجود بعض آخر، وفي صورة الإثبات يستلزم وجود فرد واحد في الجملة، لتوقف صدق الوجود على الطبيعة على وجود بعض أفرادها عقلا، فيكون اللفظ في الصورة الأولى ظاهرا في عموم النفي، وفي الثانية في إرادة فرد واحد في الجملة بمعونة العقل من غير حاجة إلى إحراز مقام البيان.
فلذا يراعى حكم التعارض فيما بين اللفظ وما دل من الخارج على وجود بعض الأفراد في الأولى أو على انتفاء جميعها في الثانية المستلزم لانتفاء فرد واحد في الجملة يتوقف عليه صدق وجود الطبيعة.
وأما عدم اقتضاء تعليق الحكم في صورة الإثبات لوجود جميع الأفراد بدلا كما في مقام الأمر، أو استغراقا كما
في مقام الإنشاءات الغير الطلبية، فلأنه لا يتوقف صدق وجود الطبيعة على كفاية كل واحد من الأفراد في إيجادها بحيث تكون منطبقة على غرض المتكلم، فلا يقتضي العموم البدلي لذلك، ولا على تحقق جميعها فعلا، فلا يقتضي الاستغراقي لذلك، فللمتكلم أن يعتبر في قصده
116

- في كفاية وجود الطبيعة في تحصيل غرضه المطلوب - إيجادها على وجه خاص وفي ضمن فرد خاص، فلذا يتوقف الحكم بالعموم بدلا أو استغراقا على جريان دليل الحكمة المتوقف على إحراز كونه في مقام بيان تمام مقصوده، فيقال - بعد إحرازه -: إن المفروض تعليق الحكم على نفس الطبيعة قطعا أو بمقتضى إطلاق اللفظ، والمفروض كونه في مقام بيان تمام مقصوده، فينتج أن تمامه هو نفس الطبيعة اللا بشرط من غير ملاحظة خصوصية فيها، وإلا فيلزم إخلاله بغرضه، لعدم صلاحية الخطاب المطلق لكونه بيانا للفرد الخاص، فإذا ثبت ذلك يحكم باستواء جميع الأفراد في الكفاية عن امتثال التكليف بدلا في مقام الأمر أو بإرادة الجميع استغراقا في صورة الإنشاء الغير الطلبي، فإنهما لا زمان لكون تمام المراد نفس الطبيعة لا بشرط، فافهم وتأمل جيدا.
فإذا عرفت ذلك كله فقد علمت إفادة النهي لطلب ترك جميع أفراد الطبيعة المنهي عنها في زمان واحد وجميع أفرادها المتحققة منها في الأزمنة المتأخرة:
أما الأول: فواضح، لتوقف ترك الطبيعة عقلا على ترك جميع أفرادها في زمان لا محالة.
وأما الثاني: فلأنه لا ريب أن كل فعل متحقق من الطبيعة بالنسبة إلى كل زمان فرد من الطبيعة غيره في الزمان الآخر وإن كان متحدا معه في غير الخصوصيات الزمانية، مثلا الزنا بامرأة خاصة في مكان خاص على كيفية خاصة في يوم الجمعة فرد من طبيعة الزنا المنهي عنه، وهو كذلك في يوم السبت فرد آخر منها غير ما حصل منها في الجمعة، ضرورة أنه ليس عينه بل غيره، فإذا ثبت مغايرته له فهو فرد آخر من الزنا، وهكذا في سائر الأزمنة، فإن الموجود في كل زمان مغاير للموجود في الزمان الآخر، فيكون فردا مغايرا له ولا يتوقف ذلك على كون الزمان مشخصا للأفعال الواقعية فيه بعد ثبوت التغاير بالضرورة، فإذا ثبت فردية الأفعال الواقعة في الأزمنة المتأخرة للطبيعة، فيتوقف تركها على ترك جميع
117

تلك الأفراد الزمانية - أيضا - بعين ما مر في الغير الزمانية.
وإن شئت قلت: إنه لا ريب أنه ترك المكلف الفعل في جميع الأزمنة بجميع أفرادها إلا في زمان واحد فأوجد فردا منه في ذلك الزمان لصدق تحقق الفعل المنهي عنه قطعا، فلا يمكن صدق تركه - حينئذ - إلا باعتبار تقيده بغير ذلك الزمان، والمفروض عدم اعتبار ذلك التقيد في المقام، فيتوقف ترك الفعل المنهي عنه على تركه بجميع أفراده وفي جميع الزمان، فيكون النهي عن الفعل مستلزما عقلا للنهي عن جميع أفراده الزمانية وغيره، فيكون مستلزما للدوام لذلك.
نعم حال النهي بالنسبة إلى الأزمنة من حيث هي حال المطلقات بالنسبة إلى أفرادها، فلا يعم الأزمنة من جهة الزمانية، وإنما يعمها تبعا وتطفلا للأفراد الموجودة فيها، وذلك لأن انتفاء كل شيء إنما هو بانتفاء جميع ما يكون موجدا ومحصلا له، ولا ريب أن الزمان من حيث هو ليس محصلا للفعل، بل ظرف لحصوله، وإنما المحصل له هو الفرد المتحقق فيه، فلا يتوقف انتفاء الشيء على انتفاء الزمان، نعم هو ملازم للمحصل له وهو الفرد الواقع فيه.
ثم إن دلالة النهي عن ذلك ليس من جهة اقتضاء وضع المادة المعروضة للهيئة، لما عرفت أنها موضوعة للماهية المهملة الصالحة لاعتبارها على كل من الوجوه الثلاثة، كما عرفت أنا قلنا: إنها موضوعة لذات الشيء وحقيقته بعنوان اللا بشرط، الأعم من اللا بشرط في مقام الحكم، بل من جهة اقتضاء أخذ الطبيعة المدلول عليها بالمادة على الوجه الأول وإرادتها كذلك.
فالحاصل: من ذلك كله أن النهي من جهة إطلاق المادة الظاهر في أخذ الطبيعة المدلول عليها بالمادة على الوجه الأول ظاهر في الدوام كظهوره في عموم ترك جميع الأفراد في زمان، ودال عليه بالدلالة الالتزامية العقلية المسببة عن أخذ الطبيعة لا بشرط، كما أن الأمر ظاهر من جهة إطلاقها الظاهر في أخذ الطبيعة
118

المأمور بها لا بشرط في إرادة فرد ما وفي زمان ما، ودال عليه بالدلالة الالتزامية العقلية، وأما الزائد عليه فلا، لما عرفت من صدق وجود الطبيعة بوجود فرد واحد. هذا، وافهم واغتنم.
ثم إن الظاهر - بل المقطوع به - أن حال الأمر والنهي بالنسبة إلى المكان - من [حيث] إنه المكان - حالهما بالنسبة إلى زمان كذلك، فحالهما بالنسبة إليه - أيضا - حال المطلقات بالنسبة إلى المقيدات والأفراد، فلا ظهور لشيء منهما في العموم بالنسبة إلى الأمكنة - أيضا - لكن لما كان الموجود من الفعل في كل مكان محصلا للطبيعة فالنهي عنها يقتضي النهي عن جميع الأفراد الواقعة في الأمكنة المتعددة المختلفة، فيفيد العموم بالنسبة إليها تبعا وتطفلا، كما في الزمان.
ثم إن دلالة النهي على الدوام لا تختص بما إذا كان للتحريم، بل تتم عند إرادة الكراهة منه - أيضا - كما لا يخفى، لأنها - أيضا - طلب الترك الطبيعة المتوقف على ترك جميع الأفراد الزمانية وغيرها.
ثم إنك قد عرفت أن دلالته عليه ليست من جهة الهيئة، بل إنما هي لازمة من اعتبار معنى المادة على الوجه المذكور، فعلى هذا لا تختص دلالته عليه بما إذا كان بصيغة النهي، بل تتم في غيرها أيضا.
وكيف كان، فالمدار في الدلالة عليه تعلق الطلب بترك الطبيعة على الوجه المذكور، فلا يتفاوت فيه. الحال بالنسبة إلى الصيغة وغيرها من الأمثلة المتقدمة في أول البحث، فراجع.
إيقاظ: حال المصادر الواقعة في حيز النفي المحض سواء كانت في ضمن المشتقات ك‍ (لا ضرب وما ضرب ولا يضرب أو لم يضرب)، أو مجردة ك‍ (لا ضرب) نظير الحال فيها عند وقوعها في حيز النهي من جهة كون تعلق النفي عليها مقتضيا لعموم النفي لعين ما مر، فإن الظاهر منها حينئذ - أيضا - اعتبار معانيها - وهي الأحداث - على الوجه المتقدم، وقد عرفت أن تعليق النفي عليها
119

كذلك مقتض لعموم النفي، وهكذا الحال في غير المصادر من أسماء الأجناس ك‍ (لا رجل وأمثاله.
تنبيه: قد ظهر - مما ذكر في تعليق النفي على الطبيعة اللا بشرط من إفادة العموم - الحال في الجنس المعرف والنكرات () المنفيين - أيضا - فإن نفيهما - أيضا - يدل التزاما عقليا على عموم النفي بالنسبة إلى جميع الأفراد بالأولى، وذلك لأنك عرفت أن اقتضاء نفي الطبيعة - لا بشرط - لانتفاء جميع ما ينطبق عليها من الأفراد إنما هو لأجل أن موضوع الحكم - حينئذ - أمر واحد، وهو لا ينتفي إلا بانتفاء جميع ما يصدق هو عليه، ولا ريب أن الوحدة - حينئذ - كانت عارضة للطبيعة من جهة عدم اعتبار تقيدها بالأفراد، ولا مرية أنها حاصلة في الجنس المعرف والنكرة بملاحظتها، فإن الأول هي الطبيعة باعتبار اتحادها في الذهن، والثاني باعتبار اتحادها في الوجود الخارجي، فإذا كان نفي الطبيعة لأجل وحدتها العرضية مقتضيا لعموم النفي يكون نفيها لأجل وحدتها الأصلية المقصودة مقتضيا له بطريق أولى.
ويمكن منع الأولوية ودعوى التساوي: بأن الاقتضاء المذكور إنما هو لأجل كون المأخوذ في موضوع النفي هي
نفس الطبيعة لا باعتبار تقيدها بالأفراد، وهذا المناط نسبته إلى الجميع متساوية، فافهم.
وكيف كان، فلا ينبغي الارتياب في أن إفادة نفي الطبيعة اللا بشرط أو الجنس المعرف أو النكرة لعموم النفي إنما هو لأجل كون موضوع النفي - حينئذ - أمرا وحدانيا، ويكون النظر إلى أفراده - حينئذ - لأجل كون جميعها مرايا حاكية عن أمر واحد وصورة واحدة، ولا ريب أن الصورة لا تنتفي إلا بانتفاء جميع تلك المرايا، إذ بوجود واحد منها تتحقق تلك الصورة وتوجد بضرورة
120

العقل، فتكون الدلالة على عموم النفي في الجميع من جهة الدلالة الالتزامية العقلية المسببة عن عدم اعتبار تقيد الطبيعة بالأفراد، وليست مسببة عن الوضع جدا.
فظهر من ذلك توهم ثبوت الوضع التركيبي فيها، وكيف يلتزم به فيها بكثرتها وكثرة مواردها، وكيف يحتمل ذلك من الواضع مع أن الغرض حاصل بدونه.
هذا تمام الكلام في الأمر السادس. فإذا عرفت ما قدمنا إلى هنا فاعلم أن الحق: أنه لا دلالة لصيغة الأمر على التكرار ولا المرة، بل إنما هي لإفادة طلب الطبيعة لا بشرط، وعرفت أنه لا يقتضي طلب الطبيعة كذلك طلب جميع أفرادها، بل الذي يدل عليه التزاما عقليا إنما هو الإتيان بفرد منها لصدق تحققها به المسقط للأمر المتعلق بها بحصول الامتثال.
ومما حققنا من الفرق بين النهي الأصلي والضمني ظهر فساد استدلال بعض على التكرار بأن الأمر يقتضي النهي عن ضده العام، والنهي يقتضي الدوام، فلا بد ان يكون الأمر للتكرار، وإلا لما تم الاستلزام.
وأما فساد قياس الأمر بالنهي لجامع بينهما - هو الطلب - فأوضح من أن بذكر.
ثم إن النزاع في دلالة الأمر على المرة والتكرار لا يختص بما إذا كان للوجوب، بل يجري فيه على تقدير إرادة الندب أو ظهوره فيه - أيضا - كما لا يخفى.
والحمد لله رب العالمين.
121

[في الفور والتراخي]
قاعدة: اختلفوا في دلالة الأمر على الفور أو على التراخي على أقوال:
ثالثها: عدم دلالته على خصوص شيء منهما، بل إنما يدل على مجرد طلب الطبيعة مع السكوت عن شيء من الأمرين.
وتحقيق الكلام فيها يقتضي رسم أمور:
الأول: ()
أن مرادهم بدلالة الأمر إنما هو اقتضاؤه ولو من غير جهة ظهوره وضعا أو انصرافا، فضلا عن كونه من جهة الوضع.
والشاهد ما يأتيك من حجج الطرفين من القائلين بالفور أو التراخي، حيث إنهم احتجوا على ما صاروا إليه بالأصول العملية كالبراءة والاستصحاب والاحتياط - أيضا - وليس ذلك إلا لأجل أن مدعاهم إثبات الاقتضاء في الجملة، ولو من غير جهة دلالة اللفظ وظهوره أيضا وإن احتجوا به أيضا، فغرض المثبتين لأحد الأمرين إثبات الاقتضاء لما صاروا إليه بأحد الوجوه من دلالة اللفظ وضعا أو انصرافا ومن الأصول العملية، ويكفيه واحد منها لو تم، وعلى النافي إبطال جميعها، إذ مع سلامة بعضها فهو كاف في غرض المستدل.
فعلى هذا فلا يختص النزاع بصيغة الأمر، بل يعم كل ما دل على الوجوب، بل الأمور اللبية أيضا كالإجماع، والعقل، والتواتر المعنوي، إلا أن بعض الوجوه المحتج بها في المقام لا يثمر في اللبيات، إذ لا لفظ فيها يتمسك بظهوره على المدعى.
122

ثم إن الفور والتراخي هل هما من قيود الطلب ومن كيفياته، فيكون الأول نظير تأكد الطلب، والثاني نظير رخصة الترك في الأمر الندبي، بمعنى أن الطلب الفوري هو مرتبة من الطلب، وهو ما لا يرضى الآمر معه بتأخير الفعل عن أول وقته، وكذلك الطلب مع التراخي مرتبة منه، وهو ما يكون الآمر معه راضيا بالتأخير، كما أن الوجوب والندب مرتبتان منه، فيكون للطلب مرتبتان من حيث الرضا بالترك وعدمه، ومرتبتان من حيث الرضا بالتأخير وعدمه، فيعبر عنه من الجهة الأولى بالوجوب والندب، ومن الجهة الثانية بالفور والتراخي، أو هما من قيود المادة المعروضة للطلب ومن كيفيتها، وإن كان الدال عليهما الصيغة، كما مر في مسألة المرة والتكرار، حيث جعلنا المرة والتكرار على القول بهما من مفاد اللفظ ومن قيود المادة.
وكيف كان فهما حينئذ لا بد أن يكونا بمعنى التعجيل والتأخير، فيكون المراد بالأمر - على القول بكونه مقتضيا للفور - أنه يجب الإتيان بالمأمور به عجلا، وعلى القول بكونه للتراخي أنه يجب موسعا ومتراخيا.
وكيف كان، فإن كان المراد بالفور هو عدم الرضا بالتأخير، وبالتراخي الرضاء به، فهما من قيود الطلب وكيفياته.
وإن كان المراد بالأول نفس التعجيل، وبالثاني نفس التأخير، فهما من قيود المادة.
الظاهر هو الأول.
ويظهر الثمرة بين الاحتمالين في الفور في جواز الاحتياط واستصحاب الوجوب في الآن الثاني على تقدير الترك في الآن الأول ():
123

فعلى الأول منهما يجوز كل منهما، فإن المطلوب حينئذ مطلق، وبقاء الطلب والوجوب محتمل، فيجوز الاحتياط والاستصحاب في الآن الثاني على تقدير الترك في الآن الأول.
وعلى الثاني منهما لا مجرى لشيء منهما، فإن المطلوب حينئذ هو الفعل مقيدا بإيقاعه في أول الأزمنة، والمفروض انتفاء القيد، فيرتفع الطلب عن المقيد يقينا، فلا يجري شيء منهما في المقام حينئذ.
ثم إن اتصاف الطلب الإيجابي بكل من صفتي الفور والتراخي واضح، فهل يتصف بهما الطلب الندبي أيضا؟ الظاهر نعم، فإن معنى الطلب الندبي إنما هو إظهار الشوق إلى الفعل مع الرخصة في تركه، ويمكن أن يكون ذلك الشوق مشتملا على الشوق إلى وقوعه في أول الأزمنة أيضا.
وبعبارة أخرى: إنه يكون الآمر مشتاقا إلى وقوعه مع اشتياقه إلى وقوعه في أول الأزمنة.
وبعبارة ثالثة: إن ترك الفعل رأسا في الطلب الندبي وإن كان جائزا إلا أن الآمر على تقدير كون طلبه ذلك فوريا يكون بحيث لا يرضى بتأخير الفعل على تقدير إيقاع المأمور إياه عن أول الأزمنة.
وبعبارة رابعة فارسية: اينكه آمر بر تقديري كه مأمور بخواهد اتيان كند بفعل راضى نيست بتأخير أو از أول أزمنة اگر چه تجويز كرده است از براي أو ترك فعل را كلية.
فثبت جواز اتصاف الطلب الندبي بالفور، فإذا ثبت ذلك ثبت جواز اتصافه بالتراخي أيضا، فإنه مقابل له.
فعلى هذا فيمكن تعميم النزاع بالنسبة إلى الأمر الندبي، لكن كلماتهم في المقام لا تساعد عليه، بل ظاهرة في اختصاص النزاع بالإيجابي منه، لكن بعد
124

ظهور الحال في الإيجابي يظهر الحال في الندبي أيضا، لفقد ما يوجب الفرق بينهما، فإن جهة الوجوب والندب غير جهة الفور والتراخي، فلا ملازمة بينهما، فافهم.
ثم المراد بالفور في كلام القائلين به يحتمل وجوها:
الأول: ثاني زمان الصيغة، أي عدم الرضا بتأخير الفعل عنه.
الثاني: أول أوقات الإمكان، بمعنى عدم الرضا بالتأخير عنه.
الثالث: الفورية العرفية.
الرابع: الفورية المختلفة في العرف باختلاف الأفعال.
الخامس: عدم الوصول إلى حد التهاون.
والمراد بالتراخي ما يقابله بكل من الاحتمالات.
لكن الظاهر - بل المقطوع - عدم قائل بجواز التأخير إلى حد التهاون، فيكون ذلك قرينة على حصر المراد في الاحتمالات الأربعة السابقة، فيظهر ضعف ما في تفسير بعضهم إياه بالخامس، فتدبر.
الثاني: ()
قد يقال أو قيل: إن مقتضى الأصول اللفظية كون صيغة الأمر موضوعة للقدر المشترك بين الفور والتراخي، نظرا إلى استعمالها في كل منهما، والمفروض وجود الجامع بينهما، والأصل حينئذ وضع اللفظ لذلك الجامع إذا أحرز استعماله فيه أيضا، أو بدونه [1].
وفيه: أنه لم يقم دليل على اعتبار مثل ذلك الأصل على تسليم الصغرى

[1] الترديد إشارة إلى القولين في ذلك الأصل. لمحرره عفا الله عنه.
125

في المقام.
هذا مضافا إلى إمكان منع الصغرى أيضا، فإن القدر المسلم أنا علمنا في بعض الموارد أن المراد هو الفور، وفي بعض آخر أنه هو التراخي، لكن لم نتيقن إرادتهما من خصوص اللفظ، بل نحتمل استعماله في القدر المشترك، وإطلاقه عليهما من باب إطلاق الكلي على الفرد.
هذا مع أن إحراز إرادة خصوص التراخي في مورد دونه خرط القتاد، فإن القدر الذي يمكن العلم به في بعض الموارد إنما هو ثبوت جواز التأخير وهو مشترك بين إرادة نفس الطبيعة اللا بشرط وبين إرادة التراخي، بأن يؤخذ الإذن في التأخير في مفهوم اللفظ حتى يكون مستعملا في التراخي.
أما الاشتراك بينهما، فلأنه لا ريب في ثبوت جواز التأخير على تقدير إرادة الطبيعة اللا بشرط، ولم نتيقن أيضا استعماله في القدر المشترك، فلا يثبت الصغرى على كلا القولين في الأصل المذكور.
وكيف كان، فالتمسك بالأصل المذكور في المقام مدفوع صغرى وكبرى، فلم يثبت به الوضع للقدر المشترك حتى يعمل بمقتضاه عند الشك، وهو الحمل على الطلب اللا بشرط.
هذا مجمل الكلام في مقتضى الأصول اللفظية.
وأما العملية: فالذي يمكن جريانه في المقام ثلاثة منها: البراءة، والاستصحاب، والاحتياط.
وأما التخيير فلا مجرى له هنا بوجه، لاختصاصه بدوران الأمر بين المحذورين، وما نحن فيه ليس منه.
فلنتكلم حينئذ في مقتضى كل من الثلاثة، وفي صحتها وسقمها، فنقول:
126

مقتضى الأول، وهي أصالة البراءة عند الدوران بين الفور - [الموجب] للتعدد التكليفي () - والتراخي أو القدر المشترك - حيث إنه في معنى التراخي - هو التراخي أو القدر المشترك الذي هو في معناه، لرجوع الشك حينئذ إلى تعدد العقاب واتحاده، والقدر المتيقن منه واحد، وهو استحقاق العقاب على مخالفة الأمر في جميع الأوقات، والزائد مشكوك، وهو استحقاقه على خصوص أول الوقت، فيبنى على عدمه، كما أن مقتضاه الفور المضيق عند دوران الأمر بينه وبين التعدد التكليفي، إذ القدر الثابت المعلوم حينئذ هو استحقاق العقاب على أول الوقت، فيجب التعجيل فيه، وأما استحقاق العقاب على خصوص الآن الثاني أيضا فمشكوك، فيبنى على عدمه ونفي التكليف فيه مع تأمل فيه.
وأما عند الدوران بين الفور المضيق وبين القدر المشترك، أي الطلب المطلق الذي يلزمه جواز التأخير، فيمكن أن يقال: إنه من قبيل الشبهة المحصورة الدائرة بين الأقل والأكثر في الأمور العقلية، فيكون من دوران الأمر بين المطلق والمقيد [1]، فيكون من قبيل الشك في شرطية شيء للمأمور به، أو جزئيته له في الأمور الخارجية، فعلى القول بجواز إجراء البراءة في الأقل والأكثر العقليين يجوز الحكم بنفي التكليف عن القيد المشكوك فيه اعتباره، وهو في المقام الفورية، وعدم العقاب عليه، فإن المقدار المتيقن من استحقاق العقاب هو

[1] فهو من قبيل الشك في التعيينية والتخييرية ()، فيدفع الكلفة الزائدة، وهي التضيق كالتعيينية () لكونها مشكوكة بأصالة البراءة عن العقاب عليه، فيؤخذ بالقدر المتيقن، وهو سببية ترك الفعل في مجموع الوقت للعقاب، ويعمل بمقتضاه. لمحرره عفا الله عنه.
127

استحقاقه على مخالفة الطلب المطلق رأسا، وأما على تلك الخصوصية فلا.
وبالجملة: إذا علم إجمالا بطلب من الشارع وشك في المكلف به [1]، فإما أن يكون الشك من قبيل الشبهة الدائرة بين المتباينين، وإما أن يكون من الشبهة الدائرة بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، أو من الشبهة الدائرة بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
وعلى الأخير: إما أن يكون الأقل والأكثر من الأمور الخارجية، بمعنى أن للأكثر في الخارج أجزاء خارجية أكثر من الأقل، بمعنى أنه مشتمل عليه وعلى غيره من الأمور الخارجية، وإما أن يكون من الأمور العقلية، بمعنى أن الأكثر ليس أجزاؤه في الخارج أكثر من الأقل، وهذا فيما إذا دار الشبهة بين المطلق والمقيد.
والأول منهما: كما في الشك في جزئية شيء للعبادات أو شرطيته إذا كان الجزء أو الشرط من الأمور والأفعال الخارجية كالسورة، والقنوت، وغيرهما، لا مثل الطهارة، حيث إنها ليست من الأمور الخارجية المحسوسة المتميزة في الوجود عن المشروط بها.
والثاني منهما: كما في الشك في أن المطلوب هو الرقبة المؤمنة أو مطلق الرقبة إذا علم بوجوب عتق الرقبة في الجملة، وكما في الشك في اشتراط صلاة الميت مثلا بالطهارة بعد العلم بوجوبها في الجملة.
فمنهم: من حكم بالبراءة عن الزائد مطلقا، واقتصر في الاحتياط على

[1] اعلم أن الشبهة المحصورة شاع استعمالها في الشبهات الموضوعية، لكن الحكمية أيضا - كما في تلك الأقسام أيضا () - أيضا شبهة محصورة. لمحرره عفا الله عنه.
128

المتباينين.
ومنهم: من حكم بالاحتياط في القسم الثاني من القسم الأخير أيضا وحكم بالبراءة في الأول منهما وفي الاستقلاليين.
ومنهم: من حكم بالاحتياط في القسم الأخير بكلا قسميه كما في المتباينين، واقتصر في البراءة على الاستقلاليين.
وجواز الرجوع إلى البراءة فيما نحن فيه - حيث إنه من القسم الثاني من القسم الأخير - إنما هو على القول الأول.
ويمكن الفرق بين ما نحن فيه وبين المطلق والمقيد، بأن المكلف يقطع هناك في زمان بترتب العقاب على ترك الفعل بما علم من أجزائه وشرائطه، بخلافه فيما نحن فيه.
وبعبارة أخرى: إنه قاطع هناك في زمان باستحقاق العقاب على ترك المطلق بما علم من قيوده وكونه سببا له ولو في آخر الوقت إذا كان الأمر به موسعا، بخلافه في المقام، فإنه لا يقطع بكون ترك المطلق بما علم من قيوده سببا لاستحقاق العقاب في زمان أصلا، لا في الزمان الأول، لاحتمال جواز التأخير، ولا في الآن المتأخر لاحتمال كون التكليف به فوريا موقتا بالأول يفوت بفوات وقته، فيخرج عن باب المطلق والمقيد، ومنشأ الفرق إنما هو كون الشك ناشئا عن غير جهة الزمان ثمة، وعنه هنا.
وبعبارة أخرى: إن المشكوك الاعتبار ثمة من غير الزمان، وهنا منه.
أقول: فرق آخر بين المقامين ينشأ مما ذكر وإن كان لا يوجب اختلاف الحكم، وهو أنه يمكن التفكيك بين المطلق والمقيد في زمان ثمة، بخلافه هنا حيث إنه نفس الزمان، وانفكاكه عن نفسه غير معقول.
هذا، لكن لا يخفى ما في الفرق المذكور، فإن الظاهر - بل المقطوع - دخول المقام في الطلق والمقيد، فإن الشك فيه في أن المطلوب نفس الفعل من
129

غير تقيده بإتيانه في الآن الأول، أو أنه هو مع تقيده به، ولا ريب أن المقيد قد يكون قيده من غير الزمانيات، وقد يكون منها، وعدم حصول القطع هنا باستحقاق العقاب في زمان إنما هو لازم كون القيد نفس الزمان، وليس المعتبر في المطلق والمقيد هذا القطع.
وكيف كان، فعلى القول المذكور يجوز نفي اعتبار الفورية والعقاب على تركها، إلا أن جريان أصالة البراءة في الزائد في مطلق الأقل والأكثر الارتباطيين بعد محل تأمل، فإنه إنما يجري فيما إذا كان الشك في الزائد راجعا إلى البدوي، وكان الأقل متيقنا في التكليف به نفسه كيف كان، فينحل المعلوم الإجمالي إلى المعلوم التفصيلي، وهو الأقل، ويكون الشك في الزائد بدويا يرجع فيه إلى البراءة لكون التكليف به من غير بيان، والالتزام بذلك فيهما مشكل مطلقا فإن الأقل حقيقة دائر بين ان يكون مطلوبا نفسا، أو جزء من المطلوب، ولا ريب أن الجزء مطلوبيته مقدمية، فليس هو مطلوبا حقيقة، فلا يتيقن كون الأقل مطلوبا كيف كان حتى ينحل المعلوم الإجمالي إليه ويرجع في الزائد إلى أصالة البراءة، فيكون الحال فيهما اذن كالحال بين المتباينين، فيجب الاحتياط بإتيان الزائد أيضا، فتدبر.
ثم على تقدير جواز إجراء البراءة في اعتبار الفورية، وتأخير المكلف الفعل عن أول [1] الأزمنة، فربما يتخيل أن الحكم حينئذ نظير الحكم في المطلق والمقيد [2] مع تعذر القيد في أول الوقت من الرجوع إلى أصالة البراءة في نفي

[1] أي أول زمان الفور، وهو الزمان المتأخر عن زمان الأمر، أو أول أزمنة الإمكان، أو الفور العرفي، إلى آخر الاحتمالات في المراد بالفور. لمحرره عفا الله عنه.
[2] اعلم أن كون المقام نظير ما ذكر على فرض تأخير المكلف الفعل عما هو المعتبر في الفورية، وهو أول الأزمنة بعد الأمر أو أول أزمنة الإمكان بعده إلى آخر الاحتمالات في المراد بالفور، فلو كان المراد به أول أزمنة الإمكان فالتأخير معتبر بالنسبة إليه، ولا عبرة بتعذر القيد قبله، بل العبرة بتعذره أول أزمنة إمكان المكلف من الإتيان بأصل الفعل، وكذا لو كان المراد به الفورية العرفية بكلا إحتماليها، فالتعذر معتبر عليهما، ولا عبرة به قبلهما، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
130

التكليف في ثاني الحال أيضا، فإنه كما يحكم ثمة بنفي التكليف وعدم العقاب رأسا بعد تعذر القيد في أول الوقت لاحتمال كون المكلف به هو المقيد لا المطلق، ولا ريب أنه على تقديره لا يمكن التكليف به حينئذ، لعدم القدرة عليه، فيكون التكليف مشكوكا لذلك رأسا، فيرجع إلى أصالة البراءة عن العقاب عليه، فكذلك في المقام، فإن التكليف بالفعل في المقام بالنسبة إلى الآن الأول كان مشكوكا، لاحتمال جواز التأخير، فيحكم بعدمه فيه لذلك، وكذلك الآن الثاني، فإنه فيه أيضا مشكوك فيه، لاحتمال كون المكلف [به] هو المقيد بالآن الأول، وقد تعذر ذلك القيد، لامتناع عود الزمان الأول الذي هو القيد، فيرجع حينئذ أيضا إلى أصالة البراءة، فيكون الحاصل الرجوع إليها في نفي التكليف رأسا.
نعم الفرق بين المقامين أن المكلف إن ترك الفعل في الآن الثاني يقطع بمخالفة التكليف إجمالا إما بهذا الترك، أو بتركه في الآن الأول، لكنه لا يقطع تفصيلا بكون خصوص واحد من التركين عصيانا، فإنه فرع العلم بكون ما يفعله أو يتركه بخصوصه منجزا عليه فعلا، ولا دليل على وجوب الموافقة الاحتمالية، أو التحرز عن حصول العلم بموافقة الواقع في واقعتين.
لكن الحق فساد هذا التخيل، وأن المقام من قبيل الشك في المكلف به المردد بين المطلق والمقيد مع تعذر القيد بعد التمكن منه، فإنه في الآن الأول كان متمكنا من الإتيان بالفعل فيه، فتعذر القيد، وهو الآن الأول بعد التمكن منه، ولا شبهة حينئذ في وجوب الإتيان بالفعل في الآن الثاني، فإن المكلف قطع بالتكليف بذات المطلق، وهو الأقل في الآن الأول، إلا أنه لما لم يتيقن بمدخلية الآن الأول وكان الشك فيه بدويا، فيرجع إلى الأصل في العقاب عليه والتكليف
131

به، وبعد ثبوت التكليف والقطع به لا بد من رفعه بالامتثال قطعا، أو احتمالا على تقدير تعذر القطعي، أو لتجويز الشارع - ولو بلسان العقل - ترك القطعي مع التمكن منه.
وإن شئت قلت: إنه في الآن الأول قطع بتكليف عليه مردد بين الآن الأول والمتأخر، فلا بد من رفعه بالامتثال القطعي أو الاحتمالي على نحو ما مر، ولما كان المفروض جريان أصالة البراءة في الآن الأول بحكم العقل، بل الشرع أيضا بمقتضى أخبار البراءة، وكان لازمه رفع اليد عن الامتثال القطعي، فترك الامتثال القطعي لذلك، وأما الاحتمالي ودفع المخالفة القطعية له، فلا يلزم منه، بل يجب بحكم العقل حينئذ الخروج عن المخالفة القطعية للتكليف المعلوم، دفعا لاحتمال العقاب.
وكيف كان، فما نحن فيه من قبيل الشبهة المحصورة التي تلف أحد أطرافها بعد العلم الإجمالي، فإن المكلف عالم في المقام إجمالا بتكليف عليه في مجموع الزمنين مردد كونه تكليفا بالفعل في خصوص الزمان أو مطلقا، فالزمان الأول من أطراف العلم الإجمالي، ولا ريب أن تعذره بعد كونه من أطرافه، فيجب الاحتياط بامتثال الطرف الآخر، كما في ثمة بحكم العقل.
وإن شئت قلت: إنه من قبيل الشبهة المحصورة التي جاز تناول أحد أطرافها لقيام أصل شرعي عليه، وتنظيره عليه أوفق، وإن كان حكمه لا يختلف ولا يخالف التي تلف بعض أطرافها بعد العلم الإجمالي، فإنه في المقام جاز مخالفة الفورية التي هي أحد طرفي الشبهة بحكم أصالة البراءة المحكوم بها عقلا وشرعا، لكنه جواز ارتكاب أحد الأطراف لا يوجب ارتفاع حكم العلم الإجمالي، بل يتعين الاحتياط في الطرف الآخر.
نعم لو قام أمارة معتبرة شرعا - على تعيين المعلوم الإجمالي وتخصيصه
132

بموردها - لجاز () تناول الطرف الآخر، لكون الشك فيه حينئذ بدويا بحكم الشارع.
هذا كله في الشبهة الحكمية، وهي الشك في مراد الشارع من الفورية أو جواز التأخير، إما لعدم نص أصلا - كما إذا ثبت وجوب الفعل بدليل لبي، ودار الأمر فيه بين الاحتمالين - أو لإجماله، أو لوقوع التعارض بينه وبين غيره.
ثم إنه قد يقال بوجوب المبادرة والإتيان بالفعل فورا على القول بإفادة الأمر القدر المشترك أو [1] إحراز كون المراد هو طلب الفعل من غير تقيد فيه بالفورية، وذلك أنا حينئذ وإن أحرزنا مراد الشارع ولم يكن الشبهة من جهة الحكم، بل هو معلوم، لكن لما كان الطلب المطلق المجوز تأخيره واقعا عن أول الأزمنة مغيا بآخر أزمنة التمكن من إتيان الفعل، بمعنى أنه لا يجوز واقعا تأخيره عن ذلك الوقت، بحيث لو تركه فيه يستحق العقاب عليه، لكون الترك حينئذ مستندا إلى المكلف، حيث إنه أخره عن أول الوقت مع تمكنه من إتيانه فيه، فيكون
الترك مستندا إلى فعله الاختياري، وهو التأخير مع تمكنه من التعجيل، فلا يكون معذورا فيه، وإطلاق الطلب لا يكون مستلزما للرخصة واقعا إلى زمان تعذر الإتيان، بل إنما هو مستلزم له إلى آخر أزمنة التمكن، فيكون تفويت المأمور به عند تعذره تفويتا له من غير مرخص شرعي، فلا يكون معذورا فيه، فيستحق العقاب عليه لو اتفق.
ولا ريب انه ليس للمكلف سبيل إلى إحراز آخر أزمنة التمكن الذي يجوز له التأخير إليه، فإن إطلاق اللفظ لا يمكن كونه معينا للمصداق الخارجي

[1] الترديد إشارة إلى صورة كون الدليل على الوجوب غير اللفظ. وكيف كان، فحاصل المقصود من العبارتين أن المكلف بعد ما أحرز كون الطلب غير مقيد بالفورية فيجب عليه المبادرة كما في صورة تقيده بها، لجريان قاعدة الاشتغال في المقام. لمحرره عفا الله عنه.
133

المشتبه كونه مصداقا له، فلو أخره عن أول الأوقات مع احتمال تعذره في المتأخر من الأزمنة، فاتفق تعذره حينئذ، فهو مؤخر له () عن وقته المستلزم لفوته من غير مرخص شرعي، فلا يكون معذورا حينئذ، فيستحق العقاب عليه، ولازم ذلك - بحكم العقل - لزوم المبادرة إليه مع احتمال التعذر فيما بعد مع اشتباه زمان التعذر فيما بين الأزمنة المتأخرة دفعا للعقاب المحتمل.
وكيف كان، ففي صورة الشبهة الحكمية وإن [كان] مقتضى حكم العقل جواز التأخير، وعدم وجوب المبادرة، إلا أن الشبهة الموضوعية - أعني اشتباه آخر أزمنة التمكن الذي يجوز التأخير إليه واقعا - مجرى للاشتغال بحكم العقل - كما عرفت - لما عرفت.
والفارق بين الصورتين: أنه لما كان بيان الحكم لازما على الشارع فمهما لم يعلم البيان يقبح العقاب بحكم العقل، فلذا يحكم بجواز التأخير في الشبهة الحكمية، حيث إن بيان الحكم من شأن الشارع، ويكون لازما عليه، هذا بخلاف الشبهة الموضوعية فإنه ليس على الشارع تعيين المصداق المشتبه، فعدم بيانه له لا يكون عذرا عند العقل ليكون التأخير لأجله تأخيرا لمرخص، فيكون العقاب محتملا لأجل التأخير، والاشتغال اليقيني بالتكليف يقتضي عقلا الخروج من عهدة العقاب عليه كذلك، ويقبح الاكتفاء بالموافقة الاحتمالية مع التمكن من العلمية، مع احتمال العقاب على الأول، فيجب المبادرة دفعا لضرر العقاب المحتمل.
ومن هنا ظهر ضعف ما ربما يتوهم من أن موضوع قاعدة الاشتغال إنما هو احتمال العقاب، فيحكم العقل حينئذ تحصيلا للأمن منه، لكن احتماله منفي في المقام بحكم العقل، فإن المكلف شاك في أول الوقت في تنجز التكليف
134

عليه وكون الترك حينئذ منشأ للعقاب، فيرجع إلى أصالة البراءة حينئذ، فينتفي احتمال العقاب، فلا يبقى لقاعدة الاشتغال حينئذ موضوع.
وتوضيح الضعف: أن العقل إنما يحكم بنفي العقاب من باب قبح صدوره من الشارع من غير بيان، وهذا لا يكون إلا فيما إذا كان البيان من شأنه، فيختص بالشبهة الحكمية، ولا يعم الموضوعية لعدم لزوم البيان عليه فيها، فلا يقبح العقاب، فإذا لم يقبح فلا يحكم العقل بانتفاء احتمال العقاب، لأن نفي الممكن بالذات إذا كان من مقولة العقاب لا يكون إلا بقبح صدوره منه، والمفروض عدم قبحه عليه في صورة المخالفة المسببة عن التأخير في الشبهة الموضوعية فلا ينتفي احتمال العقاب، فيتحقق موضوع قاعدة الاشتغال. هذا.
قال - دام ظله - ونعم ما قال: إن الذي ذكر في غاية المتانة والحسن، لو لا استصحاب بقاء التمكن من الفعل إلى الزمان المتأخر المشكوك فيه التمكن.
لكن الحق جريانه في المقام، فيحرز به موضوع التمكن في الآن المتأخر، فيكون التأخير حينئذ لمرخص شرعي هو الاستصحاب، ومعه لو اتفق التعذر، وترك المأمور به، فهو معذور فينتفي احتمال العقاب، فيرتفع موضوع الاشتغال.
هذا، مع أنه يمكن التمسك بأصل البراءة في إثبات جواز التأخير، نظرا إلى أخبار البراءة العامة للشبهات الموضوعية، بل غالبها واردة فيها، فإن المفروض الشك في كون الآن الأول هو زمان التمكن من الفعل لا غير، بمعنى انحصاره فيه، فلا يجوز التأخير عنه، فيحكم بعدم حرمة التأخير، كما في المائع المردد بين كونه خمرا أو خلا مثلا، إذ لا شبهة في جواز الرجوع إلى أصالة البراءة بمقتضى الأخبار العامة للشبهات الموضوعية أيضا.
نعم هي - من باب حكم العقل - تختص بالشبهات الحكمية، حيث
135

مبنية حينئذ على لزوم قبح العقاب المتوقف على ترك البيان اللازم، وأما من باب الأخبار فهي تعبد من الشارع ورخصة منه في الارتكاب فيتبع حينئذ ما ثبت فيه التعبد، إن في مورد ففيه، أو مطلقا فمطلقا، ولا شبهة في ثبوته مطلقا، فيكون التأخير عن أول الوقت حينئذ بترخيص الشارع المؤمن من العقاب، فلا مجرى للاشتغال.
وكيف كان، فقاعدة البراءة التعبدية مع الاستصحاب كذلك يقتضيان جواز التأخير، فينفيان احتمال العقاب، فلا مورد للاشتغال، فعلى هذا فالقاعدة الأولية جواز التأخير ما لم يقطع بكون الوقت آخر أزمنة الإمكان.
وهل ثبت دليل وارد على القاعدة الأولية، وعلى انقلابها في المقام مطلقا أو في الجملة؟ الحق: نعم في الجملة.
وبيانه: أن التمكن من الفعل فيما بعد من الأمور المستقبلة، ولا ريب أن باب العلم إليها منسد غالبا، فذلك أوجب اعتبار الظن فيها بحكم العقل والعقلاء.
ألا ترى أنهم يحكمون بلزوم دفع الضرر المظنون وقوعه فيما بعد [1]، وكذلك يكتفون في أفعالهم وتجاراتهم وأسفارهم إلى البلدان البعيدة بالظن بالسلامة.
وكيف كان، فاعتبار الظن في الأمور المستقبلة مما لا ريب فيه، وما نحن فيه منها، فيكون الظن حجة في إحراز آخر أزمنة التمكن، فيكون واردا على القاعدة الأولية في مورده، فلا يجوز التأخير حينئذ، فلا عذر في دفع العقاب على

[1] ولو لا اعتبار الظن للزم الوقوع في المضار الكثيرة، فإنه لا يعلم بها إلا بعد الوقوع فيها.
لمحرره عفا الله عنه.
136

تقدير المخالفة لو أخر حينئذ.
فالحال في الأوامر المطلقة بالنسبة إلى آخر [أزمنة] التمكن كالحال في الأوامر الموقتة بالوقت الموسع بالنسبة إلى ضيق الوقت الذي لا يجوز التأخير عنه، فإن الظن بالضيق هناك معتبر قائم مقام العلم به، ووارد على استصحاب بقاء الوقت، إلا أنه فرق بين المقامين من وجه، وهو أن الاستصحاب في المقام مما لا شبهة لنا في جريانه واعتباره، حيث إن المستصحب فيه - وهو التمكن - من غير الزمانيات، بخلافه ثمة، فإن جريانه فيه حيث إن المستصحب نفس الزمان بعد محل تأمل، فتأمل.
137

بسم الله الرحمن الرحيم
رب وفقني وجميع الطالبين، وزدني علما وعملا، وألحقني بالصالحين بمحمد صلى الله عليه [وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
القول في مسألة الإجزاء
وقبل الخوض فيها لا بد من تقديم أمور.
الأول:
قد عنون جماعة الخلاف فيها بأن الأمر هل يقتضي الإجزاء أو لا؟ وزاد بعض هؤلاء: (إذا أتى المأمور بالمأمور به على وجهه)، ولا بد منه كما سيتضح وجهه عن قريب.
وعنونه بعض: بأن الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أو لا؟ وظاهر الأول - نظرا إلى إسناد الاقتضاء إلى الأمر الظاهر في الطلب بالقول - رجوع النزاع إلى دلالة الأمر، كما أن الظاهر من الثاني - بالنظر إلى إسناده فيه إلى الفعل - رجوعه إلى علية الإتيان بالمأمور به للإجزاء عقلا، فإن الاقتضاء: تارة يطلق على الدلالة كما في قولهم: (الأمر يقتضي الوجوب) مثلا، وأخرى على التأثير والعلية، ومنه المقتضي في لسان أهل المعقول، حيث إنه في اصطلاحهم عبارة عما يقابل الشرط وهو المؤثر في المعلول، ومن المعلوم أنه
139

بالمعنى الثاني لا يعقل نسبته إلى الأمر [1]، كما أنه بالمعنى الأول لا يصح نسبته إلى الفعل، وصريح التحرير الثاني أن المسألة عقلية، كما أن ظاهر الأول أنها لفظية.
ويؤيده - بل يدل عليه - ما ادعاه بعضهم من انحصار محل النزاع فيها في اقتضاء الأمر الثاني [2] للإجزاء بالنسبة إلى الأمر الأول الواقعي، فإنه بعد الفراغ عن اقتضاء كل أمر للإجزاء بالنسبة إلى نفسه إذا أتى بمتعلقه الواقعي على وجهه يرجع النزاع - في اقتضاء الأمر الثاني للإجزاء بالنسبة إلى الأمر الأول الواقعي - إلى أنه هل يدل على انقلاب التكليف الواقعي - حال العذر أو الجهل - إلى متعلق ذلك الأمر الثاني، بمعنى دلالته على بدلية متعلقه عن المأمور به الواقعي حال العذر أو الجهل، حتى يكون هو المأمور به فعلا للأمر الواقعي، فيحصل الإجزاء بالنسبة إليه لكونه حينئذ داخلا في مورد الاتفاق، وهو إجزاء كل أمر بالنسبة إلى نفسه إذا أتى بمتعلقه والمأمور به بذلك الأمر فعلا على وجهه، أو لا؟ فلا يحصل الإجزاء بالنسبة إليه، فيرجع هذا النزاع إلى دلالة الأمر الثاني على بدلية متعلقه عن المأمور به الواقعي حال العذر أو الجهل وعدمها بعد الفراغ عن ثبوت الملازمة عقلا بين الإتيان بالفعل المأمور به بأمر على وجهه وبين الإجزاء بالنسبة إلى ذلك الأمر، فتكون المسألة حينئذ لفظية لا عقلية، كما أن النزاع فيها يكون صغرويا لا كبرويا، كما لا يخفى.

[1] نعم الأمر من شروطه، حيث إن الفعل المعنون بالعنوان المنتزع منه يؤثر في الإجزاء لا مطلقا، وأما التأثير فهو مستند إلى نفس الفعل لا إليه.
هذا مع أن في كون الأمر أيضا شرطا له نظرا، بل منعا، بل الشرط هو الطلب فإن المؤثر هو الفعل المطلوب، كما سيجيء توضيحه. لمحرره عفا الله عنه.
[2] المراد به هو الأعم من الأمر الظاهري الشامل للأمر الثانوي الواقعي، كالصلاة مع اليأس عن زوال المانع إلى آخره على القول بجوازها حينئذ. لمحرره عفا الله عنه.
140

والحاصل: أن إثبات اقتضاء الأمر الثاني للإجزاء بالنسبة إلى الأمر الأول الواقعي مبني على مقدمتين:
إحداهما: أن يدل هو على بدلية متعلقه عن المأمور به الواقعي وانقلاب الأمر الواقعي إلى متعلقه بالفعل.
وثانيتهما: أن يثبت الملازمة عقلا بين الإتيان بالمأمور به بأمر بالفعل على وجهه وبين الإجزاء بالنسبة إلى ذلك الأمر.
فإذا فرض الاتفاق على الثانية وخروجها عن محل الخلاف يكون () مورده منحصرا في الأولى، فيكون المسألة لفظية، ويشعر به إيرادهم لها في باب الأوامر.
هذا، لكن الإنصاف عدم ثبوت الاتفاق المذكور، بل حكي عن بعض من العامة [1] خلاف ما ادعي الاتفاق عليه [2]، فالظاهر ثبوت الخلاف في المقامين وإن كان في أحدهما هنا.
فيظهر من ذلك رجوع التحرير الأول في المعنى إلى الثاني وأن المراد باقتضاء الأمر ليس دلالته لفظا بإحدى الدلالات الثلاث، بل المراد دلالته على

[1] وهو أبو هاشم وعبد الجبار على ما حكي عنهما. لمحرره عفا الله عنه.
[2] نعم المخالف فيه شاذ لا يعبأ به، فلذا ترى الفقهاء يتعرضون لتلك القضية - وهي أن الأمر يقتضي الإجزاء، أو لا يقتضيه - في مقام نفي الإعادة والقضاء، أو () إثباتهما في الأمر الثاني عند انكشاف مخالفة متعلقه للواقع أو زوال العذر، فمنهم من يستدل بها على نفي الإعادة والقضاء، ومنهم من ينكرها، وأما فيما، إذا أتى بالمأمور به واقعا على وجهه فلم يقل أحد منهم حينئذ بعدم الإجزاء، وكذا إذا أتى بالمأمور به بالأمر الثانوي الواقعي أو الظاهري، فلم يقل أحد منهم بعدم الإجزاء بالنسبة إلى نفس ذلك الأمر، وسيأتي توضيح ذلك، فانتظر.
141

الإجزاء عقلا، فمدعي الدلالة نظره إلى ثبوت الملازمة بين الإتيان بالفعل المطلوب على وجهه والإجزاء عن التعبد به ثانيا بالنظر إلى هذا الطلب المتعلق به، فإنه إذا ثبت تلك الملازمة - بين الإتيان بالفعل المطلوب بعنوان كونه مطلوبا وبين الإجزاء - يكون () الطلب المتعلق به دالا بالدلالة الالتزامية العقلية على الإجزاء، فيكون ما دل على الطلب - وهو الأمر - دالا عليه كذلك، نظير دلالته على وجوب المقدمة وعلى النهي عن ضد الواجب على القول بهما.
ومدعي عدمها نظره إلى منع تلك الملازمة، إذ بدونها ينتفي الدلالة المذكورة.
والحاصل: أن محط النظر في كل من التحريرين إلى تلك الملازمة.
وأما إيرادهم للمسألة في باب الأوامر فإنما هو من باب مناسبة ما بينهما، نظرا إلى أن الغالب من الطلب ما يكون باللفظ نظير إيراد مسألتي مقدمة الواجب واقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضد فيها.
فظهر أنه يصح تحرير الخلاف بأي من التحريرين وإن كان الثاني منهما أطبق بالمقصود ()، لعدم مدخلية الأمر فيه أصلا.
نعم كون الإتيان بالفعل المطلوب مؤثرا في الإجزاء إنما هو بعد تعلق الطلب به، لأنه بهذا العنوان المنتزع منه يؤثر فيه لا مطلقا، كما في الصلاة قبل وجوبها، فإنها لا تقتضيه قطعا، فالطلب من شروط الاقتضاء، فافهم.
ثم إن تقييد بعض من عنوان الخلاف على التحرير الأول بقوله: (إذا أتى بالمأمور به على وجهه) لأجل أن الأمر لا يدل على الأجزاء على القول به مطلقا، بل تختص دلالته عليه بذلك التقدير كما هو واضح، وهذا القيد مطوي في نظر
142

المطلقين أيضا.
الثاني ():
قد عرفت أنه ليس الغرض قصر النزاع في خصوص الطلب بالقول، بل يعم كل طلب، لكن اقتصارهم على ذكر الأمر من جهة إغناء الكلام فيه عن سائر أقسام الطلب لاتحاد المناط في الكل.
فهل النزاع في المقام في الطلب الواحد وفي اقتضائه للإجزاء بالنسبة إلى نفسه، أو يعم الطلب الواقعي الثانوي بالنسبة إلى الطلب الأول الواقعي، وكذا الظاهري بالنسبة إليه، أو يختص بالطلب الثاني الشامل للواقعي الثانوي والظاهري بالنسبة إلى الواقعي الأولي؟ ظاهر استدلال بعض القائلين بالإجزاء - بأنه لولاه لزم طلب الحاصل - يفيد الأول، وظاهر الفقهاء في أبواب الفقه هو الأخير، حيث إنهم يتعرضون لتلك القضية، أعني قولهم: (الأمر يقتضي الإجزاء، أو لا يقتضيه) في موارد أوامر أولي الأعذار إذا فرض إتيان المكلف بما أمر به حال عذره في أول وقته مع اليأس عن زوال العذر إلى آخره على القول بجواز التقديم، وكذا في موارد الأوامر الظاهرية، فانكشف زوال العذر قبل مضي الوقت في الأول، ومخالفة المأتي به للمأمور به الواقعي في الثاني، وحينئذ فمنهم من استدل بتلك القاعدة على إجزاء المأتي به حال العذر أو الجهل بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأولي، ومنهم من أنكرها، وحكم بوجوب الإعادة فيهما لاقتضاء الأمر الأول لها حينئذ وبوجوب القضاء - في الأول إذا لم يعد إلى أن خرج الوقت، وفي الثاني إذا تبين المخالفة بعد الوقت أو قبله مع تأخير الفعل ثانيا إلى ما بعده - إما بمقتضى الأمر الأول، أو بأمر آخر على اختلاف القولين في دليل القضاء.
143

وأما كفاية الإتيان بالفعل المأمور به بأمر حال بقاء ذلك الأمر عن نفس ذلك الأمر فلم ينكرها أحد منهم قط، ولم يوجب أحد منهم الإعادة أو القضاء في ذلك قطعا، فيظهر من ذلك أن مورد الخلاف في ثبوت تلك القضية ونفيها إنما هو الأمر الثاني بالنسبة إلى الأمر الأول الواقعي لا غير.
لكن الإنصاف عموم الخلاف للمقامين، كما أشرنا إليه سابقا:
أما ثبوته في الثاني فظاهر للمتتبع في الفقه، حيث إنه يجد أنه ليس شيء من الإجزاء أو عدمه فيه متفقا عليه بينهم، بل ذهب إلى كل فريق.
مضافا إلى كفاية ملاحظة بعض أدلتهم المذكورة في الأصول المختص به، كما سيأتي إن شاء الله.
وأما ثبوته في الأول أيضا فلما حكي عن بعض العامة إنكار اقتضاء الإجزاء فيه - كما أشرنا إليه سابقا - وإن كان المشهور فيه ثبوت الاقتضاء.
وبالجملة: وضوح ثبوت الخلاف في الثاني يكفي في نفي اختصاصه بالأول مع أن الثاني أولى بالاختصاص لقلة المخالف في الأول وندرته إلى حيث () ادعى بعضهم الاتفاق عليه، فلا بد من صرف الدليل المذكور إلى أن المراد إقامته على بعض أفراد محل النزاع لا على تمامه، كما أن ثبوت خلاف في الأول أيضا ينفي اختصاصه بالثاني.
والحاصل: أن المتأمل في مجموع أدلة الطرفين مضافا إلى حكاية الخلاف في الأول ووضوحه في الثاني يجد ثبوته في المقامين، ونحن أيضا نتعرض لكل منهما بما فيه من الأدلة بما فيها، فانتظر.
ثم المراد بالاقتضاء: فقد عرفت أنه الدلالة على التحرير الأول، والتأثير على الثاني، وقد عرفت - أيضا - أن النزاع هنا في الالتزام العقلي،
144

فيناسب أن يكون المراد من اقتضاء الأمر للإجزاء في محل النزاع هو دلالته على امتناع وقوع التعبد ثانيا بالفعل المأمور به بأمر بعد الإتيان به على وجهه من جهة ذلك الأمر بأن يطلب التعبد به ثانيا لذلك الأمر ومن جهته بعد الإتيان به على الوجه الذي أمر به بذلك الأمر سواء كان ذلك التعبد ثابتا بذلك الأمر أو بدليل آخر.
وبعبارة أخرى: إن المراد به كما حكي عن بعض واختاره - دام ظله - أن الأمر يدل على امتناع ورود دليل على التعبد بالفعل المأمور به ثانيا من جهة هذا الأمر بعد الإتيان به على وجه سواء كان ذلك الدليل هو ذلك الأمر - بأن يراد حينئذ منه هذا - أو دليل آخر.
والعبارة الأولى أوفق بالمراد وأوضح دلالة عليه، فالقائل بعدم الإجزاء على هذا يقول: إنه لا يقتضي ذلك الامتناع، بل يمكن معه التعبد به ثانيا كذلك.
وقد يقال: إن المراد به هو أن الأمر لا يقتضي التعبد بالفعل ثانيا على الوجه المذكور، فعلى هذا فالقائل بعدم الإجزاء لا بد أن يقول بأنه يقتضي ذلك التعبد ثانيا، لا ما ذكره المحقق القمي - رحمه الله - () من أنه يقول: لا مانع من اقتضائه ذلك في الجملة، إذ محصله أن مراد هذا القائل: أنه يحتمل أن يدل الأمر على التعبد به ثانيا، ومنشأ هذا الاحتمال عدم المانع منه، وهو كما ترى.
وبالجملة: فمقابل أحد طرفي النقيض إنما هو الطرف الآخر، فالنافي لعدم الاقتضاء والدلالة لا بد أن يكون مثبتا له، لا محتملا له، فإنه ليس نقيضه كما لا يخفى هذا.
وكيف كان، فعلى هذا الاحتمال في المراد من الاقتضاء يكون القائل بالإجزاء عين القائل بعدمه على الاحتمال الأول كما لا يخفى، ولعل الظاهر منه
145

في المقام هو الاحتمال الأول، لكونه هو المناسب لكونه موردا للبحث.
هذا، مضافا - إلى ما سيأتي من الإشكال على الاحتمال من عدم الفرق معه بين هذه المسألة وبين مسألة أن القضاء بالأمر الأول، أو بأمر جديد.
هذا، لكن الإنصاف عدم انطباق جميع الأدلة على الاحتمال الأول، بل لا يجري بعضها إلا على الثاني - كما سيجيء إن شاء الله - فمحل النزاع غير محرز، فلا بد إذن من تشقيق صور المسألة بتحقيق الحال في كل منها، وأن أيتها يجري فيها الأول، وأيتها تختص بالثاني، وسيأتي ذلك عن قريب إن شاء الله.
ثم الإجزاء في اللغة: هي الكفاية، والظاهر عدم ثبوت النقل فيه في الاصطلاح، إذ من الظاهر أن تحرير هذه المسألة إنما هو لأجل تحقيق الحال في القضية المعروفة في لسان الفقهاء - في موارد الاستدلال على كفاية الفعل وكونه مسقطا للإعادة والقضاء - من قولهم: (الأمر يقتضي الإجزاء).
والظاهر أن مرادهم من الإجزاء هو المراد منه في أخبار الأئمة - عليهم السلام - الموافق لمعناه اللغوي، وأما التعبير عنه في المسألة بما يأتي فإنما هو من باب التعبير باللازم، كما لا يخفى على المتفطن.
ثم إنه قد يعبر عنه في المقام: تارة بكون الفعل المأمور به مسقطا للتعبد به، وأخرى بكونه مسقطا للقضاء.
وقد يفسر الأول بحصول الامتثال الذي ليس من محل النزاع في شيء، والثاني بسقوط التعبد بالفعل ثانيا إعادة وقضاء، وكلاهما خلاف الظاهر، بل الظاهر من الأول إنما هو ما فسر به الثاني من سقوط التعبد بالفعل ثانيا مطلقا، ومن الثاني خصوص القضاء المصطلح، وهو الفعل في خارج الوقت.
وكان الداعي إلى تفسيره بذلك أن ذلك المعبر به إنما هو في مقام التعبير عن الإجزاء المتنازع فيه في المسألة، فيكون مراده هو الذي فسره ذلك المفسر،
146

لكونه هو محل النزاع فيها، لا خصوص القضاء المصطلح وإن كان لا يساعد عليه ظاهر التعبير، فلذا حمل التعبير الأول على مورد الاتفاق.
والحاصل: أنه فهم أن إعراض ذلك المعبر عن الأول إلى الثاني إنما هو لأجل أن الأول ليس محلا للنزاع، فأراد أن يعبر عما هو مورد الخلاف من الإجزاء.
هذا، وكيف كان، فالظاهر من التعبير الأول هو ما ذكرنا، فلا وجه لعدول التعبير عنه إلى الثاني الموهم لخلاف مقصوده.
فإن قيل: لما كان إسقاط القضاء ملازما لإسقاط الإعادة، كما أن إسقاطها ملازم لإسقاطه، فيصح التعبير عن المقصود - وهو سقوط التعبد بالفعل ثانيا مطلقا - بما ذكره، فإنه دل حينئذ على أحد فردي ذلك القدر المشترك بالتنصيص والمطابقة، وعلى فرده الآخر بالالتزام، فدل على سقوط التعبد ثانيا مطلقا.
قلنا: على هذا التقدير يتجه عليه:
أولا - منع تلك الملازمة. نعم الملازمة في العكس موجودة، وهي لا تجديه.
وثانيا - أن الملازمة المذكورة على تقدير تسليمها غير مجوزة لذلك التكلف من دون داع إليه، لسهولة التعبير عن المقصود بلفظه الدال عليه صريحا، فيكون هذا أشبه شيء بالأكل من القفا.
هذا، لكن الإنصاف ثبوت الملازمة المذكورة، واندفاع ما قيل في منعها من أن صلاة الناسي للقصر إلى أن خرج الوقت مسقطة للقضاء فقط، دون الإعادة على القول بالتفصيل: بأن الناسي للقصر إن تذكر قبل خروج الوقت فلا شبهة في وجوب الإعادة عليه ووجوب القضاء أيضا إن لم يفعل إلى أن خرج الوقت على القول بالتفصيل أيضا، وإن لم يتذكر إلى أن خرج فلا شيء عليه مطلقا على القول المذكور.
147

وكيف كان، فمحل النزاع من الإجزاء إنما هو سقوط التعبد بالفعل ثانيا من غير خصوصية للقضاء أصلا.
وربما يستشهد لذلك: بأنه لو كان النزاع في خصوص القضاء لكان للقائل بعدم الإجزاء إذا أتى بالفعل في وقته
على وجهه إثبات القضاء عليه بنفس الأمر الأول من غير حاجة له إلى دليل آخر، ولكل من الفريقين إثباته بنفس الأمر إذا أخل به في وقته لاتفاقهما على عدم الإجزاء حينئذ، والتالي باطل، لما نشاهد من عملهم من أنهم ليسوا متفقين على ذلك، بل يبنون ذلك على مسألة أن القضاء بالأمر الأول، أو بأمر جديد:
فمن ذهب منهم إلى الأول يثبته بذلك الأمر إذا لم يكن الفعل مجزيا على حسب معتقده.
ومن ذهب إلى الثاني يثبته بأمر آخر، وليسوا متفقين على إثباته بالأمر الأول، فالمقدم مثله.
بيان الملازمة: أن الإجزاء إذا كان عبارة عن إسقاط القضاء فيكون عدمه عبارة عن إتيانه، فالقائل بعدمه لا بد أن يقول بأن الأمر يدل على ثبوته من غير حاجة إلى أمر آخر. انتهى.
ويدفعه: أن مقابل إسقاط القضاء ليس إتيانه بل عدم إسقاطه، فالقائل بعدم الإجزاء يقول بأن الأمر لا يقتضي إسقاطه، لا أنه يقتضي ثبوته، فافهم.
وأيضا على تقدير كون عدم الإجزاء بمعنى الاقتضاء للقضاء لكان ذلك مشترك الورود بين المعممين للنزاع بالنسبة إلى الإعادة وبين المخصصين له بخصوص القضاء كما لا يخفى، إذ لو يبنى على اقتضاء الأمر لإثبات القضاء فهو مقتض له مع القول بدخول الإعادة في محل النزاع.
ثم إن استلزام سقوط الإعادة لسقوط القضاء عقلي - كما هو ظاهر عند
148

المتأمل - ضرورة أن القضاء إنما هو تدارك لما فات من المصلحة في الوقت، لكنه ليس محصلا لجميع المصالح التي تحصل بفعل الأداء، فان منها ما لا يحصل إلا بالوقت المحدود به الفعل، وهي لا تحصل إلا بإيقاعه في الوقت، فيقبح حينئذ على الحكيم أن يرخص بترك تحصيل المصلحة التامة مع التمكن منها، ويوجب تحصيل الأنقص لها، فإن ذلك خلاف اللطف ونقض للغرض، ضرورة أن الغرض من الأمر بالقضاء إنما هو تدارك المصلحة الفائتة، فيقبح عليه إذا كان غرضه ذلك أن لا يأمر بتحصيلها في الوقت مع كونها أتم فيه منها في خارجه.
نعم يمكن أن يكون المصلحة في عدم الأمر بالقضاء في بعض الموارد، فتزيد هي على مصلحة الفعل، فلا يأمر به حينئذ.
وكيف كان فلا يعقل أن يقول الشارع للعبد: يجوز لك أن لا تعيد إذا أخللت بما أتيت به، لكن يجب عليك القضاء.
ومن هنا ظهر ضعف ما تخيل بعض المتأخرين () من أن الاستلزام ليس عقليا إلا أنه لم يقع الانفكاك بينهما شرعا، وأما استلزام سقوط القضاء لسقوط الإعادة فالظاهر أنه ليس عقليا، بل هو - على تقدير ثبوته - شرعي لا غير.
ثم المراد بالإتيان بالمأمور به على وجهه: هو الإتيان به كما امر به، كما فسره العضدي في شرح المختصر ().
لكن لا يخفى أن زيادة قيد «على وجهه» لا وجه لها لتضمن المأمور به لهذا القيد، فإنه إذا أتى به بعنوان كونه مأمورا [به] فقد أتى به كما أمر به، فيكون القيد مستدركا لا تأسيسا.
149

اللهم إلا أن يراد بالمأمور به ذات الفعل مع قطع النظر عن كيفياته المعتبرة فيه شرعا، وبالوجه تلك الكيفيات ليكون تأسيسا، وهو كما ترى، فإنه ارتكاب للتجوز في لفظ المأمور به لتصحيح كون القيد تأسيسا.
ثم إنه قد يفسر الوجه أيضا: تارة بالعنوان، فيكون المراد الإتيان بالمأمور به على العنوان الذي امر به بذلك العنوان.
وفيه - أيضا - ما مر من تضمن المأمور به لذلك، فإن المأمور به هو العنوان لا ذات الفعل، فإنه إذا أمر بالقيام لأجل التعظيم فالمأمور به حقيقة هو التعظيم لا القيام.
وأخرى بالوجه الذي قال المتكلمون بلزوم قصده في العبادة، وهو كيفية الطلب من الوجوب والندب.
وفيه: أن احتمال إرادة هذا المعنى منه في المقام مقطوع العدم، لأن الخلاف هنا إنما هو بعد الإغماض عن سائر الخلافات وفرض الإتيان بالمأمور به كما امر به على مقتضى اعتقاد المأمور، فان كان اعتقاده بلزوم قصد الوجه يكون () مفروض البحث إتيانه به معه، وإلا فلا.
هذا تمام الكلام في بيان المراد من المفردات الواقعة في تحرير الخلاف في المقام.
الثالث: ()
لا خفاء في الفرق بين هذه المسألة وبين كل من مسألتي المرة والتكرار، وأن القضاء بالأمر الأول أو بأمر جديد.
أما افتراقها عن أولى تينك المسألتين، فلأن الخلاف هناك في تشخيص المأمور به من أنه هو المرة أو التكرار أو الطبيعة المطلقة، وفي المقام بعد إحراز
150

المأمور به وتشخيصه بمقتضى إفادة الخطاب والإتيان به على الوجه الذي يستفاد منه.
نعم القائل بالتكرار هناك إن كان قائلا بعدم الإجزاء هنا ربما لا يتحقق له مورد الإعادة والقضاء، وذلك كما في الأوامر المجردة التي لم يقم قرينة على إرادة المرة أو الطبيعة منها، فإنه حينئذ يحمله بمقتضى أصالة الحقيقة على التكرار، فحينئذ يكون الفعل في كل جزء من أجزاء الزمان مأمورا به أصالة، فلا يبقى زمان للإعادة أو القضاء إذا قال بعدم الإجزاء، وهذا أيضا لازم القولين الآخرين هناك فيما إذا قام قرينة على إرادة التكرار، إذ يجب عليهما حينئذ حمل الأمر عليه، فلا يبقى للإعادة أو القضاء مجال إن قالا بعدم الإجزاء، بل لا يعقل الإعادة والقضاء في موارد ثبوت التكرار ولو مع الإخلال بالفعل في جزء من الزمان لذلك، كما لا يخفى.
وكيف كان، فلا اتحاد بين هذه المسألة وتلك بوجه ولا استلزام، بل يجري كل من الأقوال في كل منهما في كل واحد من الأقوال في الأخرى.
وأما افتراقها عن ثانيتهما، فلأن الكلام في المقام في إمكان التعبد بالفعل ثانيا إعادة أو قضاء إذا أتى بالمأمور به على وجهه، وفي تلك في أن دليل القضاء ما ذا؟ بعد الفراغ عن قابلية المورد لورود التعبد به ثانيا.
وإن شئت قلت: إن الكلام هنا في أن الإتيان بالمأمور به على وجهه مسقط للقضاء أو لا، وثمة في مثبت القضاء من أنه هو الأمر الأول أو أمر جديد.
وبالجملة: فلا خفاء في الفرق بين المسألتين بناء على تفسير الاقتضاء في المقام بالدلالة على امتناع التعبد بالفعل ثانيا.
نعم يشكل الفرق بينهما بناء على تفسيره بعدم الدلالة على التعبد به ثانيا، فإن القائل بعدم الإجزاء حينئذ لا بد أن يقول بأن الأمر دال على التعبد بالفعل ثانيا - كما عرفت سابقا - وهو عين القول بالتكرار، ومقابله هو القول
151

بالمرة أو الطبيعة، فتدبر فيه وفي دفعه.
الرابع: ()
ينقسم الأمر باعتبار حالات المكلف الملحوظة فيه إلى واقعي أولي، وواقعي ثانوي، وظاهري.
فالأول: ما لوحظ فيه خلو المأمور عن الموانع والأعذار.
والثاني: ما لوحظ فيه شيء من الأعذار مع كون متعلقه بدلا عما تعلق به الأمر الواقعي [1] - بمعنى تعلقه به بعنوان أنه بدل من ذلك ومربوط إليه - لا واجبا مغايرا له بالكلية، بأن يكون واجبا مشروطا بالعذر من الواقع الأولي، لا بدلا عنه، فإن هذا من الواقعيات الأولية لا غير، كما هو الحال في سائر الواجبات المشروطة.
وبعبارة أخرى: هو الأمر المتعلق بما هو بدل عن الواقع الأولي لمكان شيء من الأعذار من حيث إنه بدل عنه مع قيام المقتضي له فعلا إلا أن العذر منع من تأثيره فعلا.
ثم إنه ليس شيء من هذين القسمين ملحوظا فيه شيء من العلم والجهل ولا مقيدا بشيء منهما، كما لا يخفى.
وأما الثالث: فهو ما لوحظ فيه اعتقاد المكلف بالواقع الأولي أو الثانوي نفيا أو إثباتا:
أما الأول: فكما في الأصول العملية، حيث إن الملحوظ فيها إنما هو عدم اعتقاد المكلف وشكه في الواقعة.
وأما الثاني: فكما في الطرق والأمارات الشرعية الغير العلمية () - المعتبرة من حيث الطريقية - فإن الأمر بمؤدياتها إنما لوحظ فيه ظن المكلف بها

[1] وقد يطلق الواقعي الثانوي على الظاهري أيضا. لمحرره عفا الله عنه.
152

من تلك الطرق أو الأمارات - ولو نوعا - بالواقع مطلقا.
وبعبارة أخرى: الأمر الظاهري ما تعلق بالمظنون كونه واقعا أو مشكوكه على أنه هو الواقع في مرحلة الظاهر مع بقاء الأمر الواقعي على تقديره على حاله، سواء كان مصادفا لذلك المظنون أو المشكوك، أو لا، ولذلك يقال: إن الأوامر الظاهرية مرايا للواقعية.
ثم إن تحقق الأمر الظاهري - في موارد الأصول العملية الشرعية أو الطرق والأمارات كذلك - واضح.
وأما في موارد الأصول العقلية - كأصالة البراءة من جهة اعتبارها من باب العقل، وأصالة التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين، والطرق العقلية كالظن عند انسداد باب العلم بالواقع، وكذلك القطع أيضا إذا لم يصادف الواقع ففيه إشكال، بل الظاهر عدمه، فإن غاية ما في تلك الموارد إنما هي معذورية المكلف وقبح المؤاخذة عليه، وأما أمر الشارع بمؤداها فلا يدل عليه نقل ولا عقل، فلا تغفل.
ثم إنه ظهر: مما مر في بيان معنى الأمر الواقعي الثانوي والظاهري أنهما تنزيلان من الشارع لمتعلقهما منزلة متعلق الأمر الواقعي الأولي إما واقعا كما في أول ذينك، أو في مرحلة الظاهر كما في ثانيهما، فإن أمر الشارع بالصلاة مع التيمم عند العجز عن الوضوء - مثلا - وكذا أمره بها مع الطهارة المستصحبة أو الثابتة بالبينة - مثلا - ليس معناه إلا جعل هاتين بدلين عن الصلاة مع الطهارة الواقعية - حال العذر أو الجهل - واقعا كما في أولاهما، أو ظاهرا كما في ثانيتهما، مع بقاء الأمر الأول على حاله، وإنما أوجب اختلاف أحوال المكلف اختلاف مراتب امتثاله، وليس معناه ارتفاعه وكون الأمر الثاني أمرا حادثا متعلقا بشيء آخر بعد ارتفاعه، فلا أمر في شيء من تلك الأحوال المختلفة - التي عليها مدار الامتثال واختلاف مراتبه - إلا ذلك الأمر، فكأن المأمور به بذلك الأمر
153

اعتبر على وجه يعم الواقع الأولي وأبداله - التي هي متعلقات الأوامر الثانوية الواقعية - والمحكوم بكونه هو في مرحلة الظاهر - الذي هو متعلق الأوامر الظاهرية - فإن المقتضي للأخيرتين أيضا إنما هو الأمر الأول الواقعي، فلذا يؤتى بهما لأجل امتثاله.
والحاصل: أن الطالب للامتثال في كل من الحالات الثلاث الحاصلة للمكلف هو الأمر الأول، وأن الأمر بخصوص الأبدال عما تعلق هو به مع خلو المكلف عن العذر تفصيل عن إجمال ذلك الأمر، لا أمر آخر، وكذلك الأمر بما حكم بكونه هو في مرحلة الظاهر، فالأمر بالصلاة مع التيمم أو مع الطهارة المستصحبة أو الثابتة بالبينة تفصيل عن إجمال قوله: أقيموا الصلاة () لا أنهما أمران حادثان بعد ارتفاعه، ويكشف عن ذلك أن الإعادة والقضاء على تقدير الإخلال بالأخيرتين إنما هما لذلك الأمر.
نعم المدار فيهما - أيضا - على ما عليه مدار الأداء وامتثال ذلك الأمر من الأحوال المختلفة الموجبة لاختلاف مراتب الامتثال.
فعلى هذا يصح تحرير النزاع في المسألة: بأن الأمر هل يقتضي امتناع التعبد بمتعلقه ثانيا من جهته إذا أتى به بإحدى تلك المراتب أو لا؟ إلا أن الأولى الإغماض عن ذلك، وإفراد كل من أقسام الأمر بالمقال في مقام مع ملاحظة التعبد وعدمه بالنسبة إلى الواقع الأولي - الذي هو متعلق الأمر الأول الواقعي - فإنه أقرب إلى توضيح المرام.
ثم إنك بعد ما قدمنا لك إلى هنا فهاهنا مقامات:
الأول: () في الأمر الواقعي الأولي إذا أتي بمتعلقه على ما هو عليه،
154

فنقول:
لا ينبغي الارتياب في اقتضائه لامتناع التعبد به ثانيا من جهته، لأن امتثاله على الوجه المذكور علة تامة عقلا لسقوطه، فلا يعقل التعبد بمتعلقه ثانيا من جهته، لامتناع عود المعدوم، إذ المفروض انعدامه بالامتثال الأول بضرورة العقل، والتعبد بمتعلقه ثانيا من جهته لا موضوع له - حينئذ - فيمتنع لامتناع عوده ثانيا حتى يتحقق للتعبد من جهته موضوع، وهذا واضح غني [عن] الاحتجاج عليه.
نعم هنا شيء، وهو أن هذه العقلية () على تقديرها من الأحكام العقلية الغير القابلة للتخصيص، مع أنه ورد في مواضع من الشرع استحباب إعادة العبادة بعد الإتيان بها على الوجه المذكور:
منها: ما إذا صلى الفريضة منفردا، ثم أقيمت جماعة، فإنه ورد استحباب إعادتها جماعة - حينئذ - بأخبار كثيرة مأثورة عن أهل العصمة عليهم السلام:
منها: رواية عمار عن أبي عبد الله عليه السلام: «عن الرجل يصلي الفريضة، ثم يجد قوما يصلون جماعة، أيجوز له أن يعيد الصلاة معهم؟ قال عليه السلام: نعم، بل هو أفضل» ().
فإن ظاهر السؤال - بل صريحه - إعادة تلك الفريضة التي قد فعلها، لا إيجاد صلاة أخرى مستقلة، فإن اللام في قوله: (يعيد الصلاة) للعهد قطعا، فصريحها كظاهر لفظ (الإعادة) الإتيان بالفعل ثانيا على أنه هو الفريضة.
155

عبد الله عليه السلام: أصلي، ثم أدخل المسجد، فتقام الصلاة وقد صليت، فقال عليه السلام: صل معهم يختار الله تعالى أحبهما إليه»، وعن سهل ابن زياد مثلها ().
ومنها: رواية ابن أبي عمير، عن حفص البختري، عن أبي عبد الله عليه السلام: «في الرجل يصلي الصلاة وحده، ثم يجد جماعة؟ قال - عليه السلام -: يصلي معهم، ويجعلها الفريضة» ()، وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام مثلها ().
فإن قوله عليه السلام صريح في فعل الصلاة جماعة على أنها هي الفريضة التي فرضت عليه من قبل، فيكون
معناه إيقاعها من جهة الأمر الأول، وكذا قوله: «يختار الله تعالى أحبهما إليه» ظاهر أو صريح في احتساب تلك الصلاة عن الفريضة المأمور بها بالأمر الأول، بل في تعيين مورد الامتثال فيها، فظاهر تلك الأخبار - بل صريح بعضها - ينافي القاعدة المذكورة في بادئ النظر بالنظر إلى أن منشأ حكم العقل بها إنما هو سقوط الطلب بالمأتي به أولا الذي لا يبقى معه موضوع للتعبد به ثانيا من غير فرق بين أن يكون التعبد ثانيا على وجه الإيجاب أو الندب، فيدور الأمر بين منع هذه القاعدة أو طرح صريح تلك الأخبار وتأويل ظاهرها إلى ما لا ينافيها، كما فعله بعضهم حيث حمل الإعادة الواردة فيها على إيجاد ذات الفعل ثانيا الذي هو معنى الأمر بالمماثل الخارج عن محل النزاع في المسألة.
لكن مقتضى إمعان النظر والتدقيق إمكان التوفيق بينهما:
156

بأن الذي يقضي به العقل بعد امتثال الأمر على الوجه المذكور إنما هو امتناع التعبد بمتعلقه من جهته ثانيا بحيث يلزم به ثانيا، ويعاقب على تركه من جهته بأن لا يكون المأتي به أولا صحيحا من المكلف ومسقطا لذلك الأمر على تقدير اكتفائه به وعدم تعقبه بفعل آخر، فالقاعدة المستفادة منه إنما هي هذه. وأما التعبد بمتعلقه ثانيا من جهته على وجه يصح منه المأتي به أولا على تقدير الاكتفاء به، ويخرج به عن عهدة ذلك الأمر وعن تبعته مع بقاء ذمته مشغولة بالأمر الثاني، فلا يقضي العقل بامتناعه قطعا، فيمكن حمل تلك الأخبار على التعبد ثانيا على هذا الوجه، فإن هذا أيضا إعادة حقيقة، فلا ينافي ظاهر الإعادة، بل يتعين حملها عليه بعد انحصار محاملها فيه، وبطلان المصير إلى المجاز بعد التمكن من الحمل على الحقيقة، فترتفع المنافاة بينها وبين القاعدة المذكورة.
وتوضيح ذلك: أن ارتفاع الأمر بعد الإتيان بمتعلقه: تارة بارتفاع صفة الحتم والإلزام المستتبع لاستحقاق العقاب على الترك فقط مع بقاء آثاره ولوازمه التي منها محبوبية متعلقه عند الآمر في جميع أجزاء الوقت المضروب له بجميع أفراده، وذلك فيما إذا كان هي الطبيعة المطلقة من جميع تلك الجهات.
وأخرى بارتفاع تلك الآثار - أيضا - وذلك فيما إذا كان متعلقه مقيدا بفرد خاص، أو بإتيانه مرة، أو في زمان خاص، فإنه بعد إتيان المأمور بذلك المأمور به على ذلك الوجه لا تبقى محبوبية له فيما بعد أصلا.
ولا يخفى أن قضية قاعدة الإجزاء فيما إذا كان المأمور به هي الطبيعة المطلقة من تلك الجهات إنما هي ارتفاعه على الوجه الأول فحسب، فعلى هذا فالفعل باق بعد ارتفاعه هكذا على صفة المحبوبية المكشوف عنها به، فإن لازم تعلق الطلب بنفس الطبيعة المطلقة - الصادقة على جميع أفرادها على نحو سواء، المتساوية نسبتها إلى جميع أجزاء الوقت المضروب لها - محبوبيتها، للأمر بجميع أفرادها الواقعة في أي جزء من أجزاء ذلك الوقت، واتصاف كل فرد منها مطلقا
157

بالمحبوبية لانطباقه عليها، سواء وجد هو وحده أو مع مماثل له من سائر الأفراد، وسواء كان وجوده مع فرد آخر دفعة أو تدريجا، وسواء كان ذلك هو الفرد المتأخر في الوجود أو المتقدم فيه، وعلى فرض التأخر سواء كان هو أفضل مما تقدمه أو مساويا له.
نعم، الأمر فيما إذا كان أفضل أوضح، فإذا فرض أن المأمور به هو نفس الطبيعة المطلقة من تلك الجهات فلا يرتفع صفة المحبوبية عنها بعد الإتيان بفرد منها، بل كل متأخر عنه واقع في الوقت المضروب لها يتصف بالمحبوبية البتة، فعلى هذا التقدير يمكن وقوع الأفراد المتأخرة تعبدا وامتثالا من ذلك الأمر الساقط بصفة الحتم والإلزام جدا بالإتيان بها بعنوان انطباقها على تلك الطبيعة المأمور بها المحبوبة للآمر المكشوف عن محبوبيتها بالأمر، ولو لم يكن هناك أمر آخر - أيضا - إذا لم يكن منع من الآمر - من جهة من الجهات - من إيجادها، إذ معه يشكل صدق التعبد والامتثال، مع احتمال عدم اعتباره - أيضا - إذا كان المنع غيريا، فإذا أمكن ذلك - وأتى بها المكلف على أنها هو المأمور به بذلك الأمر الأول مع فرض عدم المنع من إيجادها - فتكون هي واقعة تعبدا وامتثالا للشارع من جهة ذلك الأمر جدا، لعدم توقف صدق التعبد والامتثال على وجود أمر فعلا بصفة الحتم والإلزام، بل يكفي فيه بقاء الطبيعة المأمور بها على صفة المحبوبية مع الإتيان بالفرد المتأخر على أنها هي.
وإن أبيت إلا عن توقف صدق الامتثال على بقاء صفة الحتم والإلزام - بزعم أنه عبارة عن الإطاعة المتوقفة على وجود الطلب فعلا - فلا مناص عن صدق التعبد عليه لا محالة، كما لا يخفى على المتأمل المراجع لطريقة () العقلاء.
ألا ترى أنه لو قال مولى لعبده: (عظم لي في هذا اليوم) مريدا به إيجاب
158

نفس طبيعة التعظيم المطلقة بالنسبة إلى أجزاء ذلك اليوم، وبالنسبة إلى أفرادها الواقعة فيه، فعظم له العبد دفعة، ثم عظم له أخرى بعد ساعة مع عدم المنع من المولى منه بعنوان تحصيل تلك الطبيعة المحبوبة لمولاه المكشوف عن محبوبيتها بالأمر، فلا يرتاب العقلاء في كون ذلك تعبدا للمولى، ولا يشكون في استحقاقه بذلك مزية الثواب عليه، ضرورة أنهم يستقلون بالفرق بينه في هذا الحال وبينه فيما إذا كان مكتفيا بالدفعة الأولى من جهة استحقاقه الثواب وعلو الرتبة عند المولى.
وبالجملة: وقوع فعل تعبدا من جهة أمر متقوم بأمور ثلاثة من غير حاجة له إلى شيء آخر أزيد منها:
أحدها: انطباقه على المأمور به بذلك الأمر - بمعنى صدق ذلك عليه - إذ الشيء الأجنبي عنه لا يعقل وقوعه تعبدا من الأمر المتعلق به.
وثانيها: بقاء ذلك المأمور به عند إيجاد هذا الفعل على صفة المحبوبية، إذ بدونها يكون هذا الفعل عبثا خارجا عن التعبد جدا.
وثالثها: عدم منع المولى من إيجاده لمنافاة طلب الترك لوقوعه تعبدا.
نعم لو كان المنافاة من جهة ارتفاع صفة المحبوبية فيختص ذلك بالمنع النفسي لا غير، كما احتملناه سابقا، إلا أنه يغني الشرط الثاني عنه، كما لا يخفى.
وكيف كان، فإذا كان ذلك الفعل مستجمعا لتلك الشروط فأتى به بعنوان انطباقه على محبوب المولى والذي أمر به من قبل، إما يجعل هذه () الجهة وصفا أو غاية، فيقع تعبدا من جهة ذلك الأمر جدا من غير حاجة إلى بقائه فعلا على صفة الحتم والإلزام، بل ولا على صفة الطلب - أيضا - ومن غير فرق فيه بين أن يكون هو أول المأتي به من المأمور به الواقع حال وجود الطلب أو ما بعده
159

الموجود بعد ارتفاعه، ومن غير فرق فيه في الصورتين بين أن يكون مجامعا مع مثله أو غير مجامع معه، فإنه مع وقوعه بعد إحراز تلك الشروط تعبد للمولى من جهة ذلك الأمر مطلقا وموجب لاستحقاقه الثواب عليه كذلك، لما عرفت من حكم العقلاء به.
هذا كله إذا كان الفرد المأتي به ثانيا مساويا للأول، وأما إذا كان أفضل منه باشتماله على صفة حسن مفقودة في الأول فالأمر فيه أظهر.
فإذا عرفت ذلك فنقول: لا إشكال في أن المأمور به في الأوامر الواردة بالصلوات اليومية الخمس الموقتة
بأوقاتها المخصوصة إنما هي الطبيعة من حيث هي، المطلقة من جهة خصوصيات الأفراد الواقعة في تلك الأوقات، ومن جهة خصوصيات أجزاء تلك الأوقات، ومن جهة إيقاعها مرة أو مرات، فيعلم من ذلك أن المأمور به في تلك الأوامر محبوب للشارع على الإطلاق بحيث كل ما وجد منه في الوقت المحدود له يكون محبوبا له البتة، فإن ذلك لازم تعلق الأمر بالطبيعة ()، كما عرفت.
فعلى هذا: فإذا أوجد المكلف بعد الإتيان بفرد منه فردا بلحاظ انطباقه على الطبيعة المأمور بها المحبوبة للشارع بأحد الوجهين المشار إليهما مع عدم المنع من إيجاد ذلك الفرد، فيقع ذلك تعبدا للمولى من جهة ذلك الأمر البتة، ويصدق عليه الإعادة - أيضا - على سبيل الحقيقة، فإنه ليس إلا التعبد بالفعل ثانيا في الوقت من جهة الأمر الأول، والمفروض حصوله في المقام، ولا شبهة أيضا - في عدم المنع من إعادة الصلاة جماعة، كما نطقت به الأخبار - أيضا - فحينئذ يحمل الأمر بالإعادة في تلك الأخبار على هذا المعنى، فيدفع إشكال المنافاة بينها وبين قاعدة الأجزاء، فتدبر.
160

ثم إنه ظهر مما حققنا إمكان التعبد بالفعل ثانيا على الوجه المذكور وجوبا - أيضا - لما عرفت من عدم توقفه على وجود أمر بالفعل أصلا، لا السابق ولا اللاحق، فيكون ذلك نظير سائر الأفعال والموضوعات الممكنة الوقوع قبل الأمر وبدونه أصلا، فيصح ورود أمر به مطلقا بأن يكون موضوع ذلك الأمر التعبد ثانيا بالفعل على الوجه المذكور.
هذا، ثم إن المنع إذا كان محققا في الفرد المتأخر فلا كلام، وإن كان محتملا فيمكن نفيه بالأصل فيه أو في سببه، فإن المعتبر في وقوع الفعل تعبدا ليس هو العلم بعدم المنع منه واقعا، بل يكفي إحرازه بالطرق والأمارات المعتبرة، أو الأصول كذلك. هذا.
إيقاظ: قد اعتبر - دام ظله - في مقام عدم المنع - الذي اعتبرناه - الإذن في الفعل، وليس بلازم كما لا يخفى، ثم إنه جعل دليل الإذن في إعادة الصلاة جماعة هو الأمر المتعلق بها في تلك الأخبار، وليس بجيد كما لا يخفى، فإنه إذا فرض توقف تحقق التعبد - الذي هو موضوع تلك الأخبار - على ثبوت الإذن مع فرض توقف ثبوته على نفس تلك الأخبار، فهذا مستلزم للدور كما لا يخفى.
الثاني: في الأوامر الواقعية الثانوية
- وهي الملحوظ فيها عذر المكلف - ومصاديقها إنما هي أوامر أولي الأعذار على أظهر الاحتمالات فيها.
فالأولى النظر في تلك الأوامر، وتحقيق الحال على كل من الوجوه المحتملة في اعتبار الأعذار فيها، فنقول:
إن اعتبارها فيها يمكن بأحد الوجوه:
الأول:
أن تكون هي معتبرة على وجه الموضوعية لتلك الأوامر التي يلزمها انحصار المصلحة واقعا في متعلقات تلك الأوامر المتوجهة لأولي الأعذار حال كونهم كذلك، بحيث لا مقتضي واقعا في حقهم في تلك الحال لأمرهم بما أمر به المتمكن، وهذا يتصور على وجهين:
161

أحدهما: أن لا يكون مقتض في حقهم في تلك الحال لذلك ولا مصلحة تقتضيه أصلا وأولا بالذات ().
وثانيهما: أن يكون عدم المصلحة المقتضية له في تلك الحال لمزاحمة مصلحة أقوى من مصلحة الإتيان بما امر به المتمكن غالبة عليها، بحيث اضمحلت هي في جنب تلك المصلحة الغالبة، فلا تكون موجودة فعلا في تلك الحال لذلك، وان كانت تلك المصلحة الغالبة هي مصلحة التسهيل على المكلف، كما هي الظاهرة في حكمة أمر المسافر بالقصر حال كونه مسافرا، وعلى أي من الوجهين تخرج تلك الأوامر عن كونها أوامر واقعية ثانوية، بل تكون على كل منها من الأوامر الواقعية الأولية، إذ المعتبر في الأوامر الواقعية الثانوية أن تكون متعلقاتها أبدالا عن الواقع الأولي في حال العذر مع بقاء المقتضي فعلا للأمر به، ومن المعلوم أن تعلق الطلب بمتعلقاتها - على أي من الوجهين - ليس بعنوان بدليتها عن واقع آخر وبعنوان كونها محصلة للغرض منه ولو بعضا، بل بعنوان أنها هي الواقع في حق أولي الأعذار، وعدم واقع لهم سواها.
الثاني:
أن تكون هي معتبرة من حيث العذر والمانعية الصرفة، بمعنى بقاء الواقع الأولي في حالها على ما كان عليه من المصلحة المقتضية للأمر به، إلا أن الشارع قد صرف التكليف عنه إلى متعلقات تلك الأوامر لعدم تمكن المكلف من تحصيله لمكان تلك الأعذار.
وبعبارة أخرى: إن الشارع لم يصرف الأمر عنه إلى متعلقات تلك الأوامر إلا لعدم تمكن المكلف من إيجاده في الوقت المضروب له، فجعل متعلقات تلك الأوامر أبدالا عنه حال تعذره، وأمر بها في تلك الحال بعنوان كونها أبدالا عنه وقائمة بالغرض المقصود منه ولو بعضا، ولازم اعتبارها على هذا الوجه عدم
162

صرف التكليف عن الواقع إلى تلك الأبدال إلا مع استيعابها لتمام الوقت المضروب للواقع، إذ بدونه يكون المكلف متمكنا منه في الوقت فينتفي في حقه علة صرف التكليف عنه إلى تلك الأبدال، كما أن لازم اعتبارها على الوجه الأول بكلا الوجهين فيه عدم اشتراط استيعابها لتمام الوقت، بل يكفي في توجه الأمر بمتعلقات تلك الأوامر نحو المكلف حصولها حال الأمر كما في أمر المسافر بالقصر.
الثالث:
أن يكون اعتبارها من حيث العذر مع عدم اعتبار استيعابها لتمام الوقت، وذلك إنما يكون إذا انضم إلى حيثية العذر جهة أخرى كما لا يخفى، إذ بدونها يكون الأمر بالبدل مع التمكن من المبدل منه تفويتا لمصلحة المبدل منه على المكلف إذا لم يأمره به بعد زوال العذر في الوقت، وهو قبيح، أو سفها وعبثا إذا أمر به بعد زوال العذر، وهو أقبح.
وحاصل تصوير هذا الوجه: أن يلاحظ الشارع في حال تلك الأعذار مصلحة محبوبة الحصول له بحيث لا تحصل هي إلا في هذا الجزء من الوقت المقرون بتلك الأعذار مع ملاحظة أن المكلف غير متمكن من تحصيلها بفعل المبدل منه لمكان تلك الأعذار، فيصرف الأمر عنه إلى البدل حينئذ تحصيلا لها، فتكون علة صرفه عنه إليه هنا مركبة من أمرين:
أحدهما: عدم حصول المصلحة المفروضة إلا بذلك الجزء من الوقت.
وثانيهما: تعذر تحصيلها حينئذ بفعل المبدل منه مع كونه محصلا لها على تقدير التمكن منه، ويمكن أن تكون تلك المصلحة هي فضيلة الفعل في أول الوقت. وكيف كان، فلا مرية أن أوامر أولي الأعذار على كل واحد من ذينك الوجهين الأخيرين في اعتبار الأعذار فيها من الأوامر الواقعية الثانوية، كما لا يخفى، لأن الأمر بمتعلقاتها على أي منهما ليس بالأصالة، بل بعنوان بدليتها عن
163

شيء آخر، وهو الواقع الأولي مع بقائه على ما كان من المصلحة المقتضية للأمر به.
نعم فرق بين ذينك الوجهين من وجه آخر: وهو أنه إن كان اعتبار تلك الأعذار في تلك الأوامر على الأول
منهما، فلا يصرف الأمر عن المبدل منه إلى البدل، وهو متعلقات تلك الأوامر إلا على تقدير استيعابها لتمام الوقت، كما عرفت.
هذا بخلاف اعتبارها على ثانيهما، إذ عليه يصرف الأمر عن المبدل منه إلى البدل بمجرد حصول تلك الأعذار للمكلف من غير توقف على الاستيعاب أصلا، فيوافق هذا من هذه الجهة الوجه الأول ويفارقه من جهة أخرى، وهي أنه إذا لم تستوعب الأعذار الوقت () - بل كانت حاصلة في بعضه خاصة - فلا تكون مصلحة فعلا في المبدل في حق أولي الأعذار حينئذ أصلا على الوجه الأول، بخلاف هذا الوجه، إذ عليه فيه مصلحة مقتضية للأمر به فعلا إلا أن العذر منع من اقتضائها فيه.
ثم إن لازم اعتبار تلك الأعذار على الوجه الأول والثالث جواز المبادرة إلى فعل البدل بمجرد حصولها للعلم حينئذ بكونه مأمورا به فعلا وعدم الأمر بغيره، كما أن لازم اعتبارها على الوجه الثاني عدم جوازها مع القطع بزوالها قبل مضي الوقت، أو مع الشك فيه أيضا، إلا بدعوى جوازها حينئذ، نظرا إلى أن انتظار الزوال إلى آخر الوقت حرج أكيد وعسر شديد، فتنفيه أدلة نفيه، أو بالنظر إلى إحراز بقائها إلى آخر الوقت - بمقتضى الاستصحاب - فحينئذ إن انكشف الخلاف فيكشف عن عدم الأمر بالبدل في هذا الوقت أصلا، وأن أمره به في أول الوقت إنما هو أمر ظاهري.
164

فإذا عرفت ذلك كله، فاعلم: أنه إذا أتى أولو الأعذار بمتعلقات تلك الأوامر في أول الوقت إذا كان لهم البدار: فإما أن يستوعب عليهم العذر () تمام الوقت، أو يزول عنهم قبل خروجه بمقدار فعل المبدل منه:
فعلى الأول لا شبهة في اقتضاء تلك الأوامر لامتناع التعبد ثانيا إعادة مطلقا، سواء كان التعبد ثانيا بمتعلقاتها أو بالمبدل، وسواء كان اعتبار تلك الأعذار على الوجه الأول من الوجوه الثلاثة المتقدمة، أو على أحد الأخيرين منها:
أما على الوجه الأول فظاهر، ضرورة أن المأتي به أولا حينئذ إنما هو واقعي أولي بالنسبة إليهم، وقد مر في المقام الأول امتناع التعبد به بعد الإتيان به على وجهه - كما هو المفروض فيما نحن فيه - وتعبدهم بالمبدل تعبد بما لا مصلحة فيه في حقهم أصلا، وهو غير معقول، مضافا إلى عدم تمكنهم منه - أيضا - لمكان العذر.
وأما على الوجه الثاني والثالث فلأن التعبد ثانيا حينئذ إما بالبدل المأتي به، وإما بالمبدل منه، والأول خلاف بديهة العقل من اقتضاء كل أمر لامتناع التعبد ثانيا بمتعلقه من جهته، والثاني لا مجال له بالضرورة لتعذر المبدل عليهم، ولو صح هذا لصح التعبد بالمبدل ابتداء من غير انتقال إلى البدل، والمفروض بطلان التالي، فكذلك المقدم.
وأما قضاء فلا شبهة في اقتضائها لامتناعه - أيضا - إذا كان اعتبار تلك الأعذار على الوجه الأول، لما مر من كون المأتي به أولا حينئذ هو الواقع الأولي في حقهم، فيمتنع التعبد به مطلقا كما مر.
وأما على الوجهين الأخيرين فالحق إمكانه، فإن فعل البدل في
165

الوقت وإن كان بدلا عن تمام المبدل منه فيه وقائما مقام امتثاله كذلك، إلا أنه يمكن تبعض الغرض المقصود من المبدل منه حال تلك الأعذار، بأن لا يكون البدل محصلا لتمام ذلك الغرض بل لبعضه، وإنما أمر الشارع به حال تلك الأعذار تحصيلا لبعضه الممكن الحصول بفعل البدل حينئذ، فإن ذلك وان لم يمكن حال التمكن من المبدل منه، ضرورة عدم حصول شيء من الغرض المقصود منه بفعل البدل في تلك الحال كما إذا صلى مع التيمم مع التمكن من الوضوء مثلا، إلا أنه لا يمتنع حال التعذر، فعلى هذا فيجوز للشارع الأمر بإتيان المبدل منه خارج الوقت تحصيلا لما فات من الغرض.
فظهر إمكان التعبد ثانيا قضاء على الوجهين الأخيرين.
وإنما قلنا: على تقدير التعبد بتحصيل ما فات من الغرض في خارج الوقت بالتعبد بالمبدل منه، لأن البدل لا يعقل كونه محصلا له في خارجه بعد فرض عدم صلاحيته لتحصيله فيه.
والمراد بالتعبد بالمبدل منه التعبد بتمامه لا بما تعذر منه في الوقت لمكان تلك الأعذار من جزء أو شرط، فإن تحصيل ما فات من الغرض لا يكون إلا بذلك، فإن تأثير الجزء أو الشرط المتعذرين فيه إنما هو متوقف على انضمامهما إلى غيرهما من أجزاء المبدل وشرائطه لثبوت الارتباط بين أجزائه وشرائطه.
فبهذا يندفع ما ربما يتوهم فيما إذا كان البدل بعضا من المبدل منه كما في صلاة المريض العاجز عن القيام مثلا، من أن المفروض إتيان المكلف ببعض المبدل، فلا يعقل تعبده ثانيا بذلك البعض.
نعم، الظاهر [1] كما ادعاه - دام ظله - أن إطلاق القضاء على ذلك

[1] هذا من الشواهد أيضا على أن الكتاب تحرير وتصنيف لا تقريره لبحث أستاذه (قده)، فهو - هنا - يستظهر صحة ما ذهب إليه أستاذه، ولا يجزم به.
166

مسامحة، فإن الظاهر أنه في الاصطلاح عبارة عما أمر به في خارج الوقت لخلل في فعل المأمور به في الوقت، والمفروض في المقام إتيان المكلف بما امر به في الوقت على الوجه التام من دون خلل فيه أصلا، إلا أن الغرض في مسألتنا هذه إنما هو تحقيق امتناع التعبد بالفعل ثانيا في الوقت أو في خارجه بعد الإتيان بالمأمور به على وجهه وعدمه من غير نظر إلى كون التعبد ثانيا قضاء مصطلحا أو إعادة كذلك، وقد حققنا فيما نحن فيه إمكانه في خارج الوقت، فإن شئت فسمه قضاء أو باسم آخر، إذ المناقشة اللفظية خارجة عن وظيفة المحصلين.
هذا كله على التقدير الأول.
وأما على الثاني - وهو تقدير زوال تلك الأعذار قبل خروج الوقت بمقدار فعل المبدل منه -:
فعلى الوجه الأول من الوجوه الثلاثة لا شبهة في اقتضاء تلك الأوامر امتناع التعبد بمتعلقاتها ثانيا مطلقا إعادة وقضاء، لما مر، ولا بما امر به المتمكن [1] - أيضا - الذي هو المبدل منه على الوجهين الأخيرين:
أما إعادة فلأن المأتي به أولا حينئذ إنما هو أحد فردي الواجب المخير في حق المكلف في ذلك الوقت واقعا، ولا مرية أن الطلب التخييري يقتضي امتناع التعبد بالفرد الآخر إذا أتى بالأول على وجهه.
مضافا إلى خلو الفرد الآخر - بعد الإتيان بالأول - عن المصلحة، لما مر سابقا من أن المصلحة في الواجبات المخيرة قائمة بأحدها على البدل، فإذا وقع أحدها تقوم هي به، ويخلو البواقي عنها، فيلغى () طلب البواقي حينئذ.

[1] أي ويمتنع التعبد ثانيا - بعد فعل البدل حال العذر - بفعل المبدل منه بعد ارتفاع العذر - إعادة أو قضاء - على الوجهين الأخيرين من جهة أن مصلحة الواقع الأولي - المبدأ منه - باقية، لكن يمتنع التعبد بفعله بعد فعل البدل حال العذر لأنه أحد فردي الواجب التخييري، ومصلحته في أحدهما، وبعد فعل أحدهما يخلو الثاني عنها، فيمتنع التعبد به.
167

وبالجملة: الحال في المقام على هذا التقدير إنما هي الحال في المسافر في أول الوقت الذي يصير حاضرا في جزء من آخره بمقدار فعل الصلاة تماما إذا صلى القصر في أول الوقت، لاتحاد المناط فيهما لقيام الإجماع - بل الضرورة - على عدم وجوب ظهرين أو عصرين - وهكذا إلى آخر الصلوات اليومية - في وقت واحد على شخص واحد عينا، بل إن وجبا - وذلك فيما إذا كان المكلف الواحد في الوقت الواحد صاحب عنوانين لكل منهما صلاة مغايرة لما للآخر كما في المثال - فإنما يجبان تخييرا بالضرورة، وقد عرفت مقتضاه.
وأما قضاء فلأنه على تقديره إما متفرع على الإخلال بالإعادة، أو على فوت شيء من المصلحة على المكلف في الوقت، وكلاهما ضروري البطلان:
أما الأول فلعدم وجوب الإعادة في الوقت من أصلها حتى يتحقق الإخلال بها.
وأما الثاني فلفرض عدم فوت شيء على المكلف من المصلحة في الوقت أصلا، إذ المفروض أن ما أتى به فيه كان محصلا لتمام المصلحة الواقعية في حقه، وهذا أوضح من أن يحتج عليه.
وعلى الوجه الثاني فلا شبهة في إمكان التعبد بالمبدل منه إعادة وقضاء أيضا - إذا أخل بإعادته في الوقت، بل لا ريب في وجوب الإعادة عليه حينئذ، ضرورة أن أمره بالبدل في أول الوقت حينئذ كان أمرا ظاهريا، حيث إنه مقتضى الأصول العملية، فيخرج عن الأوامر الواقعية الثانوية جدا، ويدخل في الأوامر الظاهرية، وستعرف عدم اقتضائها للإجزاء عن الواقع بعد انكشاف الخلاف - كما هو المفروض في المقام - فيجب الإعادة حينئذ بالإتيان بنفس الواقع.
وأما على الوجه الثالث فالحق - أيضا - إمكان التعبد بالمبدل مطلقا وصحته إعادة وقضاء، لما مر في تصحيح التعبد به قضاء في التقدير الأول على كلا الوجهين الأخيرين، فإنه بعينه جار هنا - أيضا - فإنه لا يقتضي صحة التعبد
168

به قضاء فقط.
ولا بأس بتوضيح انطباقه على ما نحن فيه وإن كان لا يحتاج إليه فنقول:
إنه إذا فرض إمكان تبعض مصلحة المبدل منه بحيث لا يكون البدل قائما بتمامها، فيجوز للشارع التعبد ثانيا في الوقت بفعل المبدل منه، تحصيلا لما لم يحصل منها بفعل البدل.
ويقرب هذا ما ورد في بعض نظائره شرعا، وهو ما ورد () فيمن منعه زحام الجمعة عن الخروج ليتوضأ من أنه يتيمم ويصلي الجمعة، ثم يتوضأ، ويعيدها ظهرا [1].
وقد حكي عن الشيخ - قدس سره - في بعض كتبه - ولعله الخلاف [2] - الإفتاء بمضمونه، فإن ذلك وإن لم يكن داخلا فيما نحن فيه - نظرا إلى أن فعل الجمعة مع التيمم ليس بدلا عن الظهر جدا، بل بدل إما عن فعلها مع الطهارة المائية بناء على كون الجمعة أحد فردي الواجب المخير، أو عن فعل الكلي معها بناء على كونها فردا من الكلي الواجب [3]، لا واجبة تخييرية شرعا لكن على هذا

[1] هذا لعله () بحسب المعنى دون اللفظ. لمحرره عفا الله عنه.
[2] لم نعثر عليه في كتاب «الخلاف»، وإنما عثرنا عليه في كتاب «النهاية»: 47، حيث قال قدس سره: (وإذا حصل الإنسان يوم الجمعة في المسجد الجامع، فأحدث ما ينقض الوضوء، ولم يتمكن من الخروج فليتيمم وليصل، فإذا انصرف توضأ وأعاد الصلاة).
[3] بناء على أن الواجب في يوم الجمعة إنما هو صلاة الظهر، وأنها كلي مشترك بين صلاة الظهر المقابل للجمعة وبين الجمعة، إلا أنه على كل من التقديرين تكون الجمعة مقدمة على الظهر.
لمحرره عفا الله عنه.
169

التقدير أيضا يرجع بدليتها إلى بدليتها عن الجمعة مع الطهارة المائية، إذ على فرض كونه كليا يكون بكون أفراده مترتبة كما في خصال الكفارة المرتبة لتقدم فعل الجمعة على الظهر على تقدير اجتماع شرائطها، كما أن الحال فيما إذا كانت أحد فردي الواجب التخييري كذلك - إلا أنه قريب منه، فإن الوجه المصحح للأمر بالجمعة مع التيمم على تقديره الظاهر أنه نظير ما مر في الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة، بمعنى أنه لما كان هناك مصلحة لا تحصل ولا تتدارك إلا بفعل الجمعة، والمفروض تعذره على المكلف مع الطهارة المائية، فأمر بها مع الترابية تحصيلا لتلك المصلحة، ولما كان هناك - أيضا - بعض المصالح والأغراض لم يحصل بذلك مع إمكان تداركها بفعل الظهر، فأمر به لذلك، فإذا كان المفروض فيما نحن فيه أن أمر الشارع بالبدل في أول الوقت نظير أمره بالجمعة مع التيمم، وأنه لم يحصل به تمام الغرض المقصود له من المبدل، فيصح له أن يأمر به بتمامه في الوقت تحصيلا لذلك البعض الذي لم يحصل بالبدل، كما صح له ذلك في خارجه لذلك، وفي داخله - أيضا - كما في أمره بإعادة الجمعة ظهرا.
والحاصل: أن صحة الأمر بإعادة الجمعة ظهرا مع الإتيان بها مع التيمم في أول الوقت مقربة لما نحن فيه.
نعم إطلاق الإعادة على مثل ذلك ينافي ظاهرها اصطلاحا، إذ الظاهر كما ادعاه - دام ظله - أنها في عبارة عن المأتي به ثانيا في الوقت لخلل في المأتي به أولا من المأمور به () في ذلك الوقت، والمفروض فيما نحن فيه الإتيان بالمأمور به حال العذر بجميع ما يعتبر فيه من الشرائط والكيفيات، فلعل هذا الإطلاق مبني على التجوز والتأويل.
لكنا - كما عرفت سابقا - لسنا في صدد إثبات إمكان التعبد بالقضاء
170

والإعادة المصطلحين، بل في صدد إثبات إمكان التعبد بالمبدل منه بعد الإتيان بالبدل في الوقت أو في خارجه، فبعد ما أثبتناه إمكانهما فمن شاء فليسمهما إعادة وقضاء، ومن لم يشأ لم يسم، وليعبر عنهما باسم آخر.
ثم إن ثبوت التعبد بالمبدل منه في الوقت بعد الإتيان بالبدل على تقديره فهل هو بالأمر المتعلق بالمبدل منه أو بأمر آخر كما في ثبوت التعبد به في خارجه على المختار فيه؟ الحق فيه التفصيل: بأنه إذا كان البدل مباينا للمبدل منه - بمعنى () أنه ليس بعضا منه - فدليل ثبوته إنما هو الأمر المتعلق بالمبدل منه إن كان الذي لم يحصل من مصلحة المبدل منه والغرض المقصود منه بفعل البدل، مما يلزم تحصيله، إذ من المعلوم أن فعل البدل حينئذ ليس امتثالا لبعض المبدل منه جدا، بل إنما هو من باب قيامه بالغرض المقصود منه حسبما أمكن، والمفروض عدم حصوله بتمامه مع فرض الغير الحاصل منه لازم التحصيل، والأمر بالمبدل منه - الذي كان يقتضي تحصيل تمام الغرض أولا وبالذات - الآن يقتضي تحصيل ذلك المقدار الغير الحاصل المتوقف حصوله على فعل المبدل منه بتمامه.
وأما إذا كان بعضا منه فوجهان مبنيان على أن فعل البعض حينئذ امتثال لبعض المبدل منه، فلا يعقل اقتضاء الأمر المتعلق به - حينئذ - الإتيان بتمامه، لأنه بالنسبة إلى ذلك البعض يكون طلبا للامتثال عقيب الامتثال، أو أنه من باب تحصيل الغرض المقصود من المبدل منه والقيام به، فيكون كالأول.
الظاهر هو الوجه الثاني، فإن الظاهر أن هذا هو معنى البدلية حقيقة [1].

[1] أقول: لا يخفى أنه إذا فرض أن ما بقي من الغرض من الأغراض اللازمة التحصيل بمقتضي الأمر الأول فلا يعقل خروجه عن كونه كذلك بعد حصول بعض تلك الأغراض، بل هو باق على ما كان من لزوم التحصيل، فإذا فرض عدم تحصيل تمام الأغراض بفعل البدل فالأمر الأول مقتض لتحصيل ما بقي في جميع الموارد لذلك. لمحرره عفا الله عنه.
171

إيقاظ: لا يتوهم: أنه إذا كان الأمر فيما نحن فيه مقتضيا لفعل البدل - الذي هو بعض المبدل منه في حال العذر - ولتمام المبدل منه أيضا بعد زواله في الوقت، فيلزم أن يكون المطلوب به متعددا، وهو خلاف الفرض.
لأنه مدفوع: أما أولا - فبأن المقتضي لفعل البدل حال العذر إنما هو أمر آخر غير ما يقتضي المبدل منه بعد زواله ففارق المقام - للأمر - المتعدد المطلوب ()، فتأمل [1].
وأما ثانيا - فلأن الأمر المتعدد المطلوب () ما كان مقتضيا لإيجاد الفعل مرة أو مرات على سبيل استقلال كل من الإيجادين أو الإيجادات في المطلوبية، بأن يكون كل منها واجبا أصالة، ولا يكون بعضها لأجل تحصيل الغرض من الآخر، وما نحن فيه ليس كذلك، فإن كلا من المطلوبين ليس مطلوبا أصالة، بل ليس شيء منهما كذلك، فإن كلا منهما مطلوب لتحصيل مجموع الغرض المطلوب، كما عرفت.
هذا، ثم بعد ما عرفت الحال على كل من الوجوه المتصورة في اعتبار

[1] وجه التأمل يظهر مما مر في بيان معنى الأمر الثانوي الواقعي.
وملخصه: أن الأمر بالبدل ليس أمرا آخر غير ما تعلق بالمبدل منه حال خلو المكلف عن الأعذار، بل إنما هو ذلك، وإنما وقع الاختلاف في موارد امتثاله على حسب اختلاف حالات المكلف، ضرورة أن المصلي مع التيمم أو بدون القراءة - مع العجز عنها - إنما يقصد بهما امتثال قوله تعالى: أقيموا الصلاة المتوجه إليه حال خلوه عن الأعذار حتى فيما إذا ورد خطاب بهما بالخصوص، مثل قوله: (صل مع التيمم أو بدون القراءة)، إذ هما حينئذ تفصيل عن إجمال الخطاب الأول، لا أمران جديدان بعد ارتفاعه، وقد مر تحقيق ذلك مستوفى، فراجع.
لمحرره عفا الله عنه.
172

الأعذار في أوامر أولي الأعذار فتعيين أحد تلك الوجوه موكول إلى الرجوع إلى الأخبار الواردة فيهم المتضمنة لأوامرهم بتلك الأبدال في تلك الحال، وملاحظة أن ظاهر تلك الأوامر أي منها، ولعلنا نتعرض له فيما بعد على وجه الإجمال - إن شاء الله - مع التعرض لما تقتضيه القاعدة على فرض تطرق الاحتمال في تلك الأخبار، فانتظر.
الثالث: في مؤدى الطرق والأصول العملية الشرعية منهما والعقلية،
فهاهنا موضعان:
الأول: في العمل بمؤدى الطرق والأصول العقليتين،
فنقول:
لا شبهة في عدم الإجزاء إذا عمل بمقتضاها بعد انكشاف الخلاف، ضرورة أن حكم العقل بالعمل على طبقها إنما هو إرشادي محض وإرادة لطريق الامتثال بعد انحصار المناص فيها وعدم طريق للامتثال سواها.
وبعبارة أخرى: إنه بعد ما انحصر طريق الامتثال فيها - بأن لا يكون طريق له سواها أصلا، أو كان لكنها أقرب منه - فالعقل يحكم بأنه لا بد للمكلف [من] جعل هذه طريقا في امتثال تكاليف الشارع، وأنه يقبح على الشارع المؤاخذة على العمل بمقتضاها إذا أدت إلى مخالفة الواقع، لا أنه يجب عليه الأمر بالعمل بها في تلك الحال حتى يكون هذا أمرا شرعيا واقعيا ثانويا أو ظاهريا، فلا يستلزم حكم العقل على هذا الوجه أمرا شرعيا بالعمل بها ولا يستكشف به عنه بوجه، بل لو أمر الشارع حينئذ بالعمل بها فإنما هو إرشادي محض مطابق لحكم العقل، كما لا يخفى، فيكون وجوده كعدمه لأنه لا يحصل به أزيد مما يحصل بدونه، فعلى هذا إذا عمل بها المكلف فغاية ما يترتب عليه إنما هو معذوريته ما لم ينكشف الخلاف ().
173

وأما إذا انكشف فيكون ما فعله كما لم يفعل أصلا، وحينئذ إذا كان ذلك في الوقت فيجب عليه الإعادة البتة لبقاء الأمر الواقعي على حاله المقتضي للزوم الإتيان بمتعلقه وتنجزه على المكلف لفرض علمه به حينئذ.
وإذا كان في خارجه فيجب عليه القضاء - أيضا - إن قلنا بأنه بالأمر الأول، وإن قلنا: إنه بأمر جديد فلا يزيد عمله في الوقت بمقتضاها على صورة عدمه فيه أصلا، لعدم تأثيره فيما هو المطلوب منه واقعا، ولا في تحصيل شيء من الأغراض المقصودة منه، فيكون موردا لدليل القضاء البتة لفوت المطلوب منه في الوقت بالمرة، فإن ذلك من الصور المتيقنة الدخول فيه.
وبالجملة: فعدم الإجزاء هنا أوضح من أن يحتج عليه.
الثاني: في العمل بمؤدى الطرق والأمارات والأصول الشرعية
والحق هنا - أيضا - عدم الإجزاء مطلقا، وإن لم يكن هو هنا في الوضوح مثله في الموضع الأول، نظرا إلى أمر الشارع فيها بالسلوك على مقتضاها دون الطرق والأصول العقليتين، فلذا توهم بعض ثبوت الإجزاء هنا.
وتوضيح ما اخترناه: أن الطرق التي عمل بها المكلف في مقام الامتثال: إما من الطرق المجعولة من الشارع في حال الانسداد فقط، أو مما يعم اعتبارها حال الانفتاح والتمكن من تحصيل الواقع علما.
فإن كانت من الأولى: فالحال فيها هي الحال في الطرق العقلية من حيث عدم معقولية الإجزاء معها، فإن أمر الشارع حينئذ بالعمل بمقتضاها ليس إلا لمجرد مصلحة الإيصال الغالبي أو الأغلبي في تلك الطرق، فليست هي حينئذ إلا الطرق الصرفة، ومن البديهيات الأولية أن ما ليس له إلا مجرد صفة الطريقية الصرفة لا يعقل أن يؤثر في ذي الطريق الذي هو المكلف به الواقعي في شيء، بل فائدته إنما هي الإيصال إليه، فإن أصول فهو، وإلا فيكون العمل الواقع على طبقه كعدمه من حيث تأثيره في الواقع، بمعنى كونه امتثالا عنه، أو
174

محصلا للأغراض المقصودة منه كلا أو بعضا، ولما كان المفروض اعتباره في حال الانسداد فلا يجب على الشارع تدارك ما فات على المكلف من المصلحة بسبب العمل به - أيضا - كما إذا أدى إلى خلاف الواقع، فإن ذلك إنما يكون إذا كان فوتها عليه مستندا إلى الشارع، وما نحن فيه ليس منه، فإن ما يعتبره الشارع في حال الانسداد إنما يعتبره ويأمر بالعمل به لأجل كونه غالب المصادفة للواقع بخلاف غيره، أو لكونه أغلب مصادفة من غيره.
ومن المعلوم: أنه لو لم يأمر الشارع بالعمل به في حال الانسداد وكان المكلف عاملا بغيره أو بهما معا لكان فوت المصلحة عليه حينئذ أكثر منه على تقدير أمره بالعمل به وعمل المكلف بمقتضاه، ففوت المصلحة عليه في الجملة لا بد منه، لكنه على تقدير العمل بذلك الطريق أقل منه على تقدير العمل بغيره، فلم يصر الشارع بأمره بالعمل سببا لفوت المصلحة عليه أزيد مما يفوته على تقدير عدمه، بل صار سببا لقلته، لأن أمره ذلك داع للمكلف إلى العمل بذلك الطريق الذي هو غالب المصادفة أو أغلبها، فذلك تفضل منه ورحمة، لا تفويت للمصلحة عليه.
نعم فوت المصلحة الخاصة الموجودة في مورد ذلك الطريق مستند إليه، لكنه معارض لفوت المصالح المتعددة عليه في سائر الموارد على تقدير عمله بغيره، وليست تلك المصلحة الخاصة مع وحدتها أولى من تلك المصالح، بل الأمر بالعكس.
فعلى هذا فيكون العمل الواقع على طبق ذلك الطريق إذا لم يوصل إلى الواقع كعدمه أصلا، فيكون حاله حال الطريق العقلي في عدم الإجزاء، بل في عدم معقوليته أيضا.
وأما إذا كانت من الثانية: فلما كان من الضروري حينئذ أنه يقبح على الشارع الترخيص في العمل بمقتضاها والأمر بذلك لمجرد
175

الطريقية والإيصال - مع تمكن المكلف من تحصيل الواقع علما، ضرورة وقوع التخلف فيها، ومعه يكون ترخيص العمل بها في مقام الامتثال وجعلها طريقا له مع التمكن من تحصيل الواقع نقضا للغرض وتفويتا للمصلحة الواقعية على المكلف، وهذا مناف للطف والحكمة بالضرورة - فلا بد من أن يكون أمره بالعمل بها مع التمكن من تحصيل الواقع على أحد الوجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك لقيام مصلحة قائمة بنفس العمل بها والسلوك على مقتضاها، بحيث لا يكون لمن قامت هي عنده واقع سوى العمل بها، وذلك وإن كان في نفسه أمرا ممكنا، وعلى تقديره يكون العمل بها مقتضيا للإجزاء جدا لكونه واقعا أولا () لمن قامت هي عنده، إلا أنه قد علم بالضرورة عندنا عدم وقوعه، فإنه عين التصويب الباطل عندنا.
هذا مضافا إلى ظهور أدلة اعتبارها في أن اعتبارها إنما هو من باب الطريقية، لا الموضوعية.
وثانيهما: أن يكون لأجل مصلحة في العمل بها لا تنافي اعتبارها () على وجه الطريقية، ولا تؤثر في مصلحة ذي الطريق أصلا، ولا في ارتفاع الخطاب عنه، بل تكون بحيث تكافئ مصلحته على تقدير فوته على المكلف بسبب العمل بتلك الطرق على وجه تجبرها حينئذ، بمعنى أن كل ما فات على المكلف من مصلحته بسبب العمل بتلك الطرق لا بد أن تكون هي جابرة لذلك المقدار الفائت من تلك المصلحة ومتداركة إياه، فإن هذا المقدار من المصلحة في العمل بتلك الطرق مصحح لتجويز العمل بها مع التمكن عن إدراك الواقع جدا، ولا يجب أزيد منه قطعا، وهذا هو المتعين في كيفية نصب هذه الطرق، لكونه هو الموافق لاعتبارها
176

على وجه الطريقية.
وهذا هو المتعين في كيفية نصب الأمارات - أيضا - إذ اعتبارها إنما هو من باب الطريقية لا غير.
وقس عليهما الحال في الأصول العملية الشرعية المجعولة من الشارع في مقام الشك مطلقا من غير اعتبار عدم
التمكن من تحصيل الواقع، كالاستصحاب - بناء على اعتباره من باب التعبد - فإن الأمر بمقتضى الحالة السابقة مع التمكن من تحصيل الواقع نظير الأمر بالطرق أو الأمارات مع التمكن من تحصيله، فلا بد فيه - أيضا - من اعتبار مصلحة مصححة للأمر به - حينئذ - لا تنافي هي طريقية مؤداه ومرآتيته للواقع، فإن أمره بالعمل بمقتضى الحالة السابقة إنما هو لأجل أنه حكم بكون المشكوك هو الذي كان في السابق، فإن أمره بالصلاة مع الطهارة المستصحبة إنما هو لأجل حكمه بأنها هي الصلاة مع الطهارة الواقعية الحاصلة سابقا.
هذا ما استفدته من السيد الأستاذ - دام ظله - [1].
لكن الأولى - بل المتعين ظاهرا - فرض المصلحة المتداركة لما يفوت من مصلحة الواقع بسبب العمل بتلك الطرق والأمارات والأصول في نفس الأمر بالسلوك على مقتضاها، كما صنعه شيخنا الأستاذ - قدس سره - لا في المأمور به - وهو السلوك - إذ معه يشكل الخروج عن شبهة التصويب غاية

[1] هذا من الشواهد القطعية على صحة ما ذهبنا إليه - خلافا للمحقق الحجة آغا بزرگ الطهراني (رحمه الله) في الذريعة - من كون هذه المخطوطة تصنيفا للمحرر (رحمه الله)، لا تقريرا لدرس أستاذه العظيم (قدس سره) حيث إنه (رحمه الله) يصرح في مواضع نقل آراء أستاذه (رحمه الله) بذلك كما صنع هنا، وقد لا يرتضيها، كما قد يرتضيها أحيانا، وهكذا دأبه (رحمه الله) مع آراء باقي الأعلام - رضي الله عنهم - كشيخه الأعظم (قدس سره).
177

الإشكال - كما بيناه في مسألة نصب الطرق في مسألة حجية المظنة () - إلا أنه يجب على الشارع - حينئذ - تدارك ما فات المكلف () من مصلحة الواقع بسبب العمل بها، ولو بإعطاء الثواب بمقدار ثواب ذلك المقدار الفائت.
وكيف كان، فيجب على الشارع تدارك ذلك المقدار إما بإعطاء الثواب، أو بمصلحة في نفس العمل والسلوك على مقتضاها إن تعقلنا اجتماعها مع الأمر بها على وجه الطريقية. فإذا عرفت ذلك فنقول: إذا عمل بها المكلف المتمكن من تحصيل الواقع، فإن انكشف مصادفتها للواقع، أو لم ينكشف شيء منها ولا من الخلاف إلى آخر عمره فلا إشكال في ثبوت الإجزاء.
وأما إذا انكشف الخلاف فهو إما في الوقت أو في خارجه:
فعلى الأول: لا ينبغي الإشكال في عدم الإجزاء، والوجه فيه بقاء الأمر الأول الواقعي - حينئذ - على حاله المقتضي للإتيان بمتعلقه، لما مر من أن الأوامر المتعلقة بالسلوك على مقتضى الطرق والأمارات والاستصحاب إنما هي أوامر ظاهرية طريقية، فهي غير قابلة للتصرف في دليل الواقع ولا في مصلحته أصلا، فيكون العمل بمقتضاها كالعمل بالطرق العقلية من هذه الحيثية، وإنما الواجب على الشارع تدارك ما فات على المكلف بسبب العمل بها، والمفروض عدم فوت الواقع عليه بسبب العمل بها في أول الوقت، لفرض بقاء وقته بمقدار تحصيله فيه، فيكون فوته - حينئذ - مستندا إلى سوء اختيار المكلف جدا، فإذا فرض بقاء وقته من غير تدارك له فالامر الأول الواقعي باق
178

على حاله، ومقتض لوجوب الإتيان به حينئذ، لأن ارتفاعه لا يكون إلا بمخالفته المتوقفة على مضي الوقت، أو بامتثاله، أو بحصول الغرض منه، ولا شيء من هذه الثلاثة في المقام:
أما الأول فبالفرض.
وكذلك الثاني، لفرض عدم الإتيان بمتعلقه.
وأما الأخير فلعدم صلاحية الطريق من حيث كونه طريقا في تأثير تحصيل الغرض من ذيه، كما مر بيانه.
وبالجملة: الطرق لا يعقل أن يكون لها حظ ونصيب من الواقع أصلا، بل فائدتها الإيصال، فإذا فرض عدمها فيكون العمل بها كعدمه أصلا، فيكون الواقع باقيا على حاله مقتضيا لما كان يقتضيه مع فرض عدم العمل بها، وهذا واضح لا غبار عليه بوجه.
نعم، لو كان هناك مصلحة زائدة متقومة بإتيان الواقع في أول الوقت - كمصلحة المبادرة إلى العبادة - فهي فائتة عليه بسبب العمل بها، فيجب على الشارع تدارك هذا المقدار.
وأما على الثاني فالحق - أيضا - عدم الإجزاء وإمكان التعبد بالفعل ثانيا في خارج الوقت، إذ لا مانع منه عدا ما ربما يتخيل: من أن المفروض فوت خصوصية إيقاع الفعل في الوقت على المكلف بسبب العمل بتلك الطرق والأمارات أو الأصول، فيجب على الشارع تداركها، ومن المعلوم أن تدارك الخصوصية إنما هو بتدارك الخاص، وهو هنا الفعل الواقع في الوقت، ضرورة أن الخصوصية من الأعراض الغير المتقومة إلا بالمحل، فلا يعقل استقلالها وانفرادها بحكم أو وصف، بل لا بد أن يكون ذانك جاريين على المحل باعتبار اشتغاله بها، فلا بد أن يكون تدارك خصوصية إيقاع الفعل في الوقت بتدارك الفعل في الوقت، ومعه لا يعقل التعبد به في خارجه، إذ المصلحة المتداركة في قوة
179

الحاصلة، فلم يكن هنا فوت شيء حتى يكون ذلك لأجل تحصيله في خارج الوقت.
لكنه مدفوع: بإمكان أن يكون للمحل آثار منها ما لا يتقوم إلا بالخصوصية، ومنها ما يحصل بدونها - أيضا - ومعه يمكن أن يكون الحكم المتعلق بالمحل باعتبار تلك الخصوصية متعلقا به بملاحظة ما لا يتقوم إلا بها من تلك الآثار، من غير ملاحظة جميعها، فيمكن بقاء ذلك البعض الغير المتقوم بها، ومعه يمكن تعلق حكم آخر بالمحل بملاحظة ذلك البعض.
فنقول فيما نحن فيه: إنه يمكن أن يكون للفعل المقيد بإيقاعه في الوقت آثار اخر غير متقومة بالوقت، بل تحصل بدونه - أيضا - ومن المعلوم أنه لا يجب على الشارع على تقدير تفويته للأثر المتقوم به على المكلف إلا تدارك ذلك الأثر فقط، وإن كان يمكن تداركه للجميع - أيضا - من باب التفضل، إلا أنه غير لازم، فيكون عدمه ممكنا، بل محتملا، فيمكن التعبد به في خارج الوقت لأجل تحصيل غير المتدارك من المصالح والآثار.
ثم إن هذا كله بناء على أن القضاء بأمر جديد، كما هو المختار.
وأما بناء على كونه بالأمر الأول فيجب القضاء بمجرد احتمال عدم تدارك جميع المصالح والأغراض من الفعل، لوجوب الخروج عن عهدة ذلك الأمر.
لكن هذا يخرج - حينئذ - عن القضاء المصطلح، بل يكون أداء حقيقة، فإن ذلك الأمر - حينئذ - يكون من الأوامر المتعددة المطلوب () المقتضية للإتيان بالفعل في كل وقت لم يؤت به إما عصيانا أو عذرا - كما فيما نحن فيه - فإن العامل بتلك الطرق - حينئذ - معذور في ترك الواقع في وقته المضروب له،
180

لاستمرار جهله بالواقع () إلى آخر الوقت.
والحاصل: أن القضاء حقيقة فيما يؤتى به في خارج الوقت لأجل تدارك مصلحة فائتة في الوقت، ومن المعلوم أنه إذا يبنى على تبعض المصلحة، وكون بعض منها يحصل بغير الوقت - أيضا - فلا يصدق الفوت بالنسبة إلى ذلك البعض قطعا، لإمكان تحصيله بعد الوقت، فالإتيان بالفعل لأجل تحصيله ليس لتدارك أمر فائت، بل لتحصيل أمر بقي زمان تحصيله ولم يحصل بعد، فيكون هذا إعادة اصطلاحا، كما في موارد الأوامر الفورية المتعددة المطلوب ()، إذ من المعلوم أن الفورية لها مدخلية في مصلحة لم تحصل إلا بها، ومصلحة أخرى في الفعل تحصل بغيرها - أيضا - فإذا أخل بالفورية فالإتيان به - حينئذ - لتحصيل تلك المصلحة لا يكون قضاء قطعا.
هذا كله بناء على توجيه صحة ورود التعبد بالفعل في خارج الوقت بإمكان تبعض المصلحة وأغراض الفعل.
ويمكن توجيهها بوجه آخر يكون الإتيان بالفعل - في خارج الوقت بناء عليه - قضاء مصطلحا حقيقة، وهو أن اللازم على الشارع - عند أمره بالعمل بتلك الطرق والأمارات والأصول مع تمكن المكلف من تحصيل الواقع وإدراك مصلحته - أن يكون مصلحة للمكلف في السلوك على مقتضاها بحيث لا تنافي طريقيتها [1] - أيضا - فيأمر الشارع بالسلوك على طبقها لأجل

[1] بمعنى أن تلك المصلحة مصححة لأمر الشارع بها على وجه الطريقية، كما أنه بدونها يقبح أمره بها كذلك، لا أنها موجبة لمطلوبية العمل بتلك الطرق والأمارات نفسا حتى يلزم التصويب.
لمحرره عفا الله عنه.
181

تلك المصلحة مع مراعاته لجانب الطريقية - أيضا - بمعنى أنه لم يرفع اليد عن الواقع، بل هو باق على ما كان، فالسالك بها إن أصاب الواقع فله مصلحتان وأجران - مصلحة الواقع ومصلحة السلوك على مقتضاها - وإن لم يصب فله مصلحة واحدة لا محالة وأجر واحد، فلا يلزم على تقدير عدم المصادفة خلو يد المكلف عن المصلحة رأسا حتى يلزم القبح في امره بالعمل بما ذكر، ومصلحة السلوك حاصلة للمكلف مطلقا إذا عمل على طبقها، لكنها على تقدير عدم الإصابة ليست متداركة لمصلحة الواقع، بل مصلحة الواقع فائتة عن المكلف - حينئذ - ولم يحصل منها شيء أصلا، فيمكن التعبد بالفعل في خارج الوقت مع انكشاف الخلاف لتدارك تلك المصلحة الفائتة حقيقة، فيكون الإتيان بالفعل في خارج الوقت قضاء مصطلحا حقيقة.
وهذا التوجيه أجود من سابقه، وعليه جماعة من الأعلام - أيضا - حيث قالوا: إن المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد.
وكيف كان، فمع اعتبار تلك الطرق والأمارات على وجه الطريقية والعمل بها على هذا الوجه - كما هو الظاهر من أدلة اعتبارها، وهو الحق الذي عليه أهله - لا يعقل كون العمل بها مع مخالفتها للواقع مجزيا عن الواقع بوجه، بل يكون العمل بها - حينئذ - كالعمل بالطرق العقلية.
وإنما الفرق بينهما: أن العامل بالطرق العقلية مع عدم المصادفة لم يحصل له شيء أصلا، بخلاف العامل بها، فإنه يحصل له مصلحة السلوك على طبقها لا محالة، وأما مصلحة الواقع فلا، بل يكون العمل بها بالنظر إلى الواقع كعدمه أصلا، لما مر غير مرة من أن الطريق () من حيث كونه طريقا لا يعقل كونه مؤثرا في ذيه بوجه، بل إذا عمل به فإن أوصل إليه فهو، وإلا فيكون وجوده
182

كعدمه بالنسبة إلى ذي الطريق.
نعم، لو كان في نفس العمل بالطريق مصلحة لحصلت () هي للمكلف كما عرفت، لكنها لا يمكن كونها مؤثرة في مصلحة الواقع.
وربما يتخيل أنه مع فرض تمكن المكلف من تحصيل الواقع لا بد من التزام التصويب في أمر الشارع بالعمل بتلك الطرق والأمارات والأصول الممكنة التخلف عنه، فإن الواقع على هذا الفرض إما باق على مصلحته الملزمة، أو لا:
لا سبيل إلى الأول: إذ معه يقبح تجويزه العمل بها مع إمكان تخلفها عن الواقع، لكونه نقضا للغرض، وتفويتا للمصلحة اللازمة التحصيل على المكلف، فتعين الثاني، ومعه يكون العمل بها في عرض الواقع، ويكون واجبا مخيرا بينه وبين الواقع أو معينا، فإن الواقع - حينئذ - إما فيه مصلحة في الجملة، أو لا، فعلى الأول إما أن يكون العمل بها مشتملا على مصلحة أيضا، أو لا:
لا سبيل إلى الثاني، لأن الأمر به مع كونه مؤديا إلى تفويت الواقع قبيح جدا، فتعين الأول، ومعه يكون الأمر به لأجل تلك المصلحة المساوية لمصلحة الواقع، فيكون واجبا تخييريا بينه وبين الإتيان بنفس الواقع.
وعلى الثاني [1] وإن كان لا يلزم محذور تفويت مصلحة الواقع على المكلف في الأمر بالعمل بها لفرض عدم المصلحة في الواقع أصلا، إلا أنه لا بد أن يكون العمل بها - حينئذ - مشتملا على مصلحة لا محالة، وإلا يلزم العبث، فيكون واجبا عينيا. هذا.
لكنه مدفوع: بأن معنى المصلحة الملزمة إنما هو ما يوجب تنجز

[1] أي على فرض خلو الواقع عن المصلحة. لمحرره عفا الله عنه.
183

التكليف على المكلف بمجرد اطلاعه عليه، لا ما يجب تحصيله مطلقا، بحيث يتنجز على المكلف على وجه يجب عليه تحصيل الاطلاع عليه من باب المقدمة، كما هو لازم التخيل المذكور، وما أبعد بين هذا والتصويب، فإنه إنما يكون إذا خلا الواقع عن ذلك المقدار من المصلحة، لا معه.
وعلى تقدير تسليم تسمية هذا تصويبا فيطالب مدعي بطلان هذا النحو من التصويب بدليل بطلانه، وأنى له ذلك؟ وكيف يمكن الالتزام به؟ فإن جميع الأحكام والتكاليف الشرعية من هذا القبيل، إذ ما من تكليف إلا ويجوز الاكتفاء في مورد احتماله بتلك الطرق والأمارات والأصول.
هذا خلاصة الكلام في تحقيق المرام في المقام.
وبما حققنا يظهر ضعف أدلة من خالفنا، بل فسادها.
ثم إن مورد النزاع بين القائلين بالإجزاء والقائلين بعدمه في الأوامر الظاهرية إنما هو صورة انكشاف الخلاف على سبيل القطع.
وأما الكلام في الإجزاء وعدمه فيما إذا انكشف بالظن فهو خارج في الحقيقة عن مسألة الإجزاء، فإن مرجع النزاع في الإجزاء وعدمه إلى أن الظن كالقطع بمقتضى دليل اعتباره في ترتيب آثار متعلقه عليه مطلقا حتى الماضية منها، أو لا، فيكون النزاع في كيفية نصب الطرق الغير العلمية.
هذا مضافا إلى أن هذا النزاع إنما هو بين القائلين بعدم الإجزاء في صورة انكشاف الخلاف بالقطع، وأما القائلون بالإجزاء في تلك الصورة فهم قائلون به هنا بطريق أولى، وليس لأحد منهم إنكاره، وسيجئ التعرض لحكم صورة انكشاف الخلاف بالظن، فانتظر.
ثم إن للمحقق القمي - قدس سره - في هذه المسألة كلمات لا يكاد يجمع بينها، وهي ما ذكره في تحرير موضع الخلاف فيها: من أنه (إن كان بالنسبة إلى كل واحد من الحالات فلا إشكال في الإجزاء بمعنييه، لحصول الامتثال وعدم
184

وجوب القضاء والإعادة) إلى أن قال: (وإن كان بالنسبة إلى مطلق الأمر، أعم من البدل والمبدل فلا أظن مدعي الدلالة على سقوط القضاء يدعي السقوط حتى بالنسبة إلى المبدل، ولعل النزاع في هذه المسألة لفظي، فإن الذي يقول بالإجزاء إنما يقول بالنظر إلى كل واحد من الأوامر بالنسبة إلى الحال التي وقع المأمور به عليها، ومن يقول بعدمه إنما يقول بالنسبة إلى مطلق الأمر الحاصل في ضمن البدل والمبدل) ().
ثم اختار بعد ذلك في موضع آخر من كلامه: كون الإتيان بالبدل مجزيا عن المبدل - أيضا - مع تعميمه للبدل بالنسبة إلى متعلق الأمر الظاهري، حيث قال: (إن المكلف بالصلاة مع الوضوء - مثلا - إنما هو مكلف بصلاة واحدة، كما هو مقتضى صيغة الأمر من حيث إن المطلوب بها الماهية لا بشرط، فإذا تعذر عليه ذلك فهو مكلف بهذه الصلاة مع التيمم، وهو - أيضا - لا يقتضي إلا فعلها مرة.
وظاهر الأمر الثاني إسقاط الأمر الأول، فعوده يحتاج إلى دليل، والاستصحاب وأصالة العدم وعدم الدليل كلها يقتضي ذلك، مضافا إلى فهم العرف واللغة.
وما ترى [من] أن الصلاة بظن الطهارة تقضى بعد انكشاف فساد الظن فإنما هو بأمر جديد ودليل خارجي.
نعم، لو ثبت من الخارج أن كل مبدل إنما يسقط عن المكلف بفعل البدل ما دام غير متمكن منه فلما ذكر وجه، وأنى لك بإثباته؟ بل الظاهر الإسقاط مطلقا، فيرجع النزاع في المسألة إلى إثبات هذه الدعوى، لا أن الأمر مطلقا يقتضي القضاء أو يفيد سقوطه، فالمسألة تصير
185

فقهية، لا أصولية) ().
وقال في المقدمة الثانية - من المقدمات التي رسمها لتحقيق المسألة بعد البناء على كون متعلق الأمر الظاهري بدلا عن الواقع -: (والإشكال في أن المكلف مكلف بالعمل بالظن ما دام غير متمكن عن اليقين، ومحكوم بإجزاء عمله كذلك، أو مطلقا) إلى أن قال: (وكذلك الكلام في المبدل والبدل، فمن تيمم لعذر ثم تمكن من الماء في الوقت، فإن قلنا: إن المكلف به هو الوضوء في الوقت إلا في حال عدم التمكن منه، وبعبارة أخرى: إنه مكلف بإبداله بالتيمم ما دام معذورا، فيجب عليه الإعادة في الوقت.
وإن قلنا: إن التكليف الأول انقطع، والتكليف الثاني - أيضا - مطلق، فلا.
والظاهر أن هذا لا يندرج تحت أصل، ويختلف باختلاف الموارد فلا بد من ملاحظة الخارج). انتهى ().
ما وجدنا من كلماته - قدس سره - يتهافت بعضها مع بعض، وتوضيح التهافت: أنك قد عرفت أنه - قدس سره - منع من أن يكون مراد القائل بالإجزاء كون الإتيان بالبدل مسقطا عن التعبد بقضاء المبدل، وجعل النزاع في المسألة لفظيا، مع أنه - قدس سره - اختار ذلك في مقام دفع الإيراد على نفسه بقوله: (وظاهر الأمر الثاني إسقاط الأمر الأول) إلى آخر ما ذكره من الوجوه [التي] أقامها على ذلك.
وأيضا دعوى ظهور الأمر الثاني في إسقاط الأمر الأول واقتضاء أصالة العدم والاستصحاب إسقاط الأمر الأول ينافي ما ذكره من أنه إذا ثبت بدلية
186

شيء وتردد بين كونه بدلا على الإطلاق أو في الجملة فلا أصل يقتضي شيئا منهما، إذ من المعلوم أن تقريب دلالة الأمر الثاني على سقوط الأمر الأول لا بد أن يكون بدعوى دلالته على بدلية متعلقه عن المبدل على الإطلاق وإلا لما دل على إسقاط الأمر الأول.
وهكذا الكلام في سائر الوجوه التي ذكرها، فإنه إذا كان بدلية البدل مقيدة ببقاء العذر أو الجهل إلى آخر الوقت مع فرض ارتفاعهما قبل مضيه فلم يرتفع الأول حتى يستصحب عدمه، وإنما يرتفع لو اكتفى الشارع في جعل البدل بدلا بتحقق ذينك في بعض من الوقت وإن لم يستمرا.
ثم إن ما يبنى عليه - من كون الصلاة مع الطهارة المستصحبة بدلا عن الصلاة مع الطهارة الواقعية كالصلاة مع التيمم مع العجز عن الوضوء - فيه ما لا يخفى على المتأمل، فإن الأمر بالصلاة مع الطهارة المستصحبة ظاهري محض وليس شأنه التصرف في الواقع، فإن لم يصادف الواقع يكن () العمل به كعدمه.
فدعوى - أن ظاهر الأمر الثاني بقول مطلق شامل للأمر الظاهري سقوط الأمر الأول - ظاهرة الفساد.
نعم، هو متجه في الأوامر الثانوية الواقعية وهي أوامر أولي الأعذار.
وبالجملة: فيتجه على قوله: (وظاهر الأمر الثاني إسقاط الأمر الأول) إلى قوله: (فتصير المسألة فقهية لا أصولية) ما ذكره صاحب الفصول، فراجع.
مضافا إلى ما ذكره - دام ظله - من أن موضوع الاستصحاب إنما هو عدم الأمر الأول، وإحرازه لا يكون إلا بظاهر الأمر الثاني، فلا يصلح هو لجعله وجها مستقلا.
مع أن في احتجاجه بأصالة العدم وعدم الدليل ما لا يخفى، لعدم ثبوت
187

حجية أصالة العدم لو لم يرجع إلى الاستصحاب، ومعه ليس وجها آخر، وعدم الدليل لا يصلح في المقام للاستناد إليه بعد إحراز تكليف محقق في ذلك الوقت لا بد من الخروج عن عهدته مع الشك في كون المأتي به مبرئا عنه، فافهم وتأمل، والله الهادي.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول:
قد عرفت أن محل الكلام في مسألة الإجزاء بالنسبة إلى الأوامر الظاهرية إنما هو ما إذا انكشف مخالفة متعلقاتها بعد الإتيان بها للواقع، وأن البحث عن حكم صورة انكشاف الخلاف ظنا خارج عنها.
لكن لا بأس بالتعرض لتحقيق الحال في حكم تلك الصورة على نحو الإجمال، والغرض منه هنا إنما هو توضيح المقال فيه مع قطع النظر عن انضمام حكم الحاكم [إلى] الفتوى () الأولى، وأما حكم صورة الانضمام فمعرفته موكولة إلى المباحث الآتية - إن شاء الله تعالى - من مباحث الاجتهاد والتقليد، فنقول:
إذا اجتهد الفقيه في مسألة فأفتى فيها بحكم معتمدا على أحد الطرق التعبدية الشرعية، أو العقلية كالقطع والظن عند انسداد باب العلم، فعمل هو أو أحد من مقلديه بذلك الذي أفتى به، ثم تبدل رأيه ذلك إلى نقيضه ظنا، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في وجوب بنائه وبناء مقلديه [عليه] إذا أرادوا تقليده حينئذ أيضا، أو تعين عليهم تقليده في العمل - من حين التبدل إلى ما بعده بالنسبة إلى الوقائع الحادثة المتأخرة عن ذلك الحين - على الذي أفتى به ثانيا، وإنما الخلاف في الأعمال الواقعة على مقتضى الفتوى الأولى إلى حين التبدل من جهة وجوب نقض آثارها وعدمه:
188

فمنهم () من قضى بعدم النقض في العبادات، وأما في غيرها فلم يعلم مذهبه لجفاف قلمه الشريف عند اختتام كلامه - قدس سره - في العبادات.
ومنهم () من فصل بين ما إذا كان الفتوى الأولى مقتضية للاستمرار والاستدامة ما لم يطرأ عليها مزيل بحكم وضعي، وبين ما إذا لم تكن كذلك، فحكم بعدم النقض في الأول، وبالنقض في الثاني، ومثل للأول بالفتوى في العقود والإيقاعات، وللثاني بالفتوى بنجاسة الماء القليل بالملاقاة وعدم نجاسة الكر وأمثال ذلك.
ومنهم () من فصل تفصيلا آخر فقال: (إن كانت الواقعة مما يتعين في وقوعها أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر بقاؤها على مقتضاها السابق، فيترتب عليها لوازمها بعد الرجوع)، وذكر هناك ما استدل به على عدم النقض في تلك الصورة.
ثم قال: (ولو كانت الواقعة مما لا يتعين أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر تغير الحكم بتغير الاجتهاد).
ومراده من قوله: (مما يتعين في وقوعها أخذها بمقتضى الفتوى) - بقرينة تمثيله لذلك بالعبادات والعقود والإيقاعات، وتمثيله للقسم الثاني، وهو ما [لا] يتعين فيه الأخذ بمقتضى الفتوى بسائر الأمور المعاملية غير العقود والإيقاعات، كطهارة شيء أو حلية حيوان - هو أن يكون الواقعة مما لا يتحقق موضوعها في الخارج إلا بأخذها بمقتضى الفتوى، فإن وقوع شيء شرطا للعبادة أو جزء لها
189

لا يكون إلا بإيجاده بمقتضى الفتوى بكونه جزءا أو شرطا، بحيث لو وجد بدون التدين بكونه جزء أو شرطا بمقتضى الفتوى لا يقع شيء منهما.
وكذلك زوجية الزوجة بالعقد الذي يراه المجتهد سببا لها لا تقع بذلك إلا مع التدين بمقتضى فتواه بسببيته لها.
هذا بخلاف طهارة الشيء أو حلية لحمه، فإنهما لا يدوران مدار الأخذ بالفتوى، بل يدوران مدار الواقع، فإن كان ذلك الشيء طاهرا أو حلالا بحكم الشارع في الواقع فهو طاهر وحلال واقعا، وإلا فلا يكون حلالا ولا طاهرا كذلك.
هذا حاصل مرامه - رفع مقامه - وسيأتي ما في تفصيله ذلك وما في تمثيله للقسم الأول بما عرفت.
حجة القول الأول:
- وهو عدم نقض الآثار في العبادات - وجوه:
الأول: ما ادعاه القائل به من ظاهر المذهب حيث قال: (وإن بلغ اجتهاده الثاني إلى حد الظن، أو تردد في المسألة وقضى أهل الفقاهة عنده بخلاف ما أتى به أولا، فظاهر المذهب عدم وجوب الإعادة والقضاء للعبادات الواقعة منه ومن مقلديه).
الثاني: لزوم العسر والحرج في القول بوجوب القضاء.
الثالث: إن غاية ما يفيده الدليل الدال على وجوب الأخذ بالظن الأخير هو بالنسبة إلى حال حصوله، وأما بالنظر إلى ما قبل حصوله فلا دليل على وجوب الأخذ به، وقد وقع الفعل المفروض على مقتضى حكم الشرع وما دل عليه الدليل الشرعي، فيكون مجزيا، والظن المذكور القاضي بفساده لم يقم دليل على وجوب الأخذ به بالنسبة إلى الفعل المتقدم، وحينئذ فلا داعي إلى الخروج عن مقتضى الظن الأول بعد وقوع الفعل حال حصوله، وكون إيقاعه على ذلك الوجه مطلوبا للشرع، ومنه يعلم الحال بالنسبة إلى من قلده.
190

هذا، لكن الإنصاف: أن الوجه الثاني من تلك الوجوه لا يخلو عن وجه، لكنه لا ينهض دليلا على تمام المدعى، لعدم اقتضائه لرفع الإعادة.
وأما الوجه الأول والثالث فلا يخفى على المتأمل ما فيهما من الضعف:
أما الأول: فلمنع أصله أولا، ثم منع حجيته وصيرورته دليلا على المدعى.
وأما الثالث: فلأن التحقيق أن مقتضى دليل اعتبار الطرق الظنية وجوب جعلها بمنزلة القطع، وترتيب جميع الآثار المرتبة على مداليلها حتى الالتزامية منها - كما حقق ذلك في محله - ومن المعلوم - كما اعترف به القائل المذكور أيضا - أن مؤدى الظن الثاني التزاما إنما هو فساد المأتي به أولا، فإنه يدل على أن المطلوب الواقعي إنما هو متعلقه، فيلزمه عدم كون المأتي به أولا مطلوبا من المكلف واقعا، ولازمه عدم كونه مجزيا، فيكون فاسدا، فيترتب عليه أحكام الفساد من وجوب الإعادة والقضاء.
وبعبارة أخرى: إنه يحرز بالظن الثاني فساد المأتي به أولا، فيجب عليه الإعادة بمقتضى الأمر الأول والقضاء بمقتضى دليله المعلق على الفوت، فإن الظن الثاني يكشف عن فوت الواقع من المكلف ويثبته، فإذا ثبت الصغرى به ثبت حكم كبراها، وهو وجوب القضاء بدليل القضاء المعلق على الفوت.
هذا، مع أنا لو جعلنا الفوت مجرد - الترك - لا أمرا وجوديا - فيمكن إحرازه بأصالة عدم الإتيان بالواقع، إلا أن هذا خلاف التحقيق.
هذا، مضافا إلى أنا لو أغمضنا عن الظن الثاني - القاضي بفساد المأتي به أولا، وفرض حصول التردد للفقيه بعد الظن الأول - فمقتضى القاعدة حينئذ عدم سقوط الإعادة من المكلف، لأن الظن المذكور طريق محكوم بإجراء العمل على طبقه ما دام باقيا، وأما مع زواله - كما هو المفروض - فاكتفاء الشارع بما وقع على طبقه غير معلوم، بل معلوم العدم، فإذا كان المفروض زواله في الوقت،
191

والمفروض علم المكلف باشتغال ذمته بتكليف في ذلك الوقت لا بد له من تحصيل البراءة منه، والإتيان بما يبرئ ذمته شرعا عنه، ويخرجها عن تبعته، والمفروض - أيضا - كونه شاكا في كون ما أتى به أولا على طبق الظن المذكور مبرئا عن ذلك التكليف، فيجب عليه بحكم العقل حينئذ الإتيان بما تيقن معه البراءة عن ذلك التكليف، وهو إيقاع الفعل بجميع ما يحتمل اعتباره فيه شرعا من باب الاحتياط، أو إيقاعه على مقتضى الظن الثاني على فرض حصوله بعد التردد، فإنه حجة فعلية له من الشارع.
ومن هنا تبين فساد دعوى أن عمله السابق قد وقع بحكم الشرع - وهو حكمه بالعمل بالظن الأول - فيجزي.
وتوضيح الفساد: أن المفروض اشتغال ذمة المكلف في ذلك الوقت بتكليف يجب عليه الخروج عن عهدته بالإتيان بما يبرئ ذمته عنه قطعا، وغاية ما هناك أنه اعتقد في حال الظن الأول بكون العمل على طبقه مبرئا، ومجرد تحقق ذلك الاعتقاد في جزء من وقت مع فرض زواله في الجزء الآخر من ذلك الوقت لا يكفي للاستناد إليه والاحتجاج في مقام المؤاخذة على المطلوب الواقعي.
وبالجملة: لا بد للمكلف من تحصيل المبرئ عن التكليف الثابت، ولا يكفيه ولا يجديه اعتقاد كون شيء مبرئا مع فرض زوال ذلك الاعتقاد، وحكم الشارع بالعمل بالظن الأول لا يقتضي أزيد من اكتفائه ظاهرا بما وقع على طبقه ما دام باقيا، والمفروض زواله.
هذا إذا كان الظن المذكور من الطرق الشرعية الصرفة.
وأما إذا كان من الطرق العقلائية - التي ليس حكم الشارع بالعمل بها إلا من باب الإمضاء - فالامر فيه أوضح، من حيث عدم ترتب شيء عليه إذا لم يطابق الواقع، وكون العمل به حينئذ كعدمه.
والحاصل: أنه لا ينبغي الشبهة في لزوم الإعادة بعد زوال الظن
192

المذكور وإن لم يحصل بعد ظن آخر بخلافه.
وأما القضاء فقد عرفت الكلام فيه على تقدير قيام الظن الثاني، وأما بدونه فالحكم بعدمه متجه، حيث إنه على المختار بأمر جديد، وهو غير معلوم، فينفيه استصحاب عدمه.
حجة القول الثاني وجوه:
الأول: أن رخصة الشارع - في بناء العمل على الفتوى السابقة فيما يقتضي الاستمرار والدوام - رخصة في إدامة أثره أيضا، فلا ترتفع بالفتوى الثانية، هذا بخلاف رخصته فيما لا يقتضي الاستمرار، فإنها غير مستلزمة للإدامة.
الثاني: أن الأمور المقتضية للاستمرار إذا وقعت فهي مقتضية لبقاء الأثر إلى أن يثبت الرافع له، وتبدل الرأي لم يثبت كونه رافعا له، هذا بخلاف الأمور الغير المقتضية للاستمرار لعدم اقتضائها للبناء على مقتضاها دائما.
الثالث: لزوم العسر والحرج لو لم يبن علي مقتضى الفتوى السابقة في الأمور المقتضية للاستمرار، وعدم لزومه على تقدير عدم البناء على مقتضى الفتوى السابقة في غيرها.
هذا خلاصة ما استدل به هذا القائل، وقد احتج بوجوه أخرى تخريجية لا يخفى على المتأمل ضعفها، فلا نطيل الكلام بذكرها والتعرض للجواب عنها.
ويتجه على أول الوجوه المذكورة: أن الرخصة فيما يقتضي الاستدامة إنما تقتضي الرخصة في الإدامة فيما إذا
كانت تلك الرخصة واقعية، لكنها في المقام ظاهرية محضة مغياة بعدم انكشاف الخلاف، لأن أمر الشارع
193

بالعمل بفتوى الفقيه إنما هو من باب الطريقية المحضة، ومن المعلوم أن الطريق ليس من شأنه تغيير الواقع، بل هو على حاله واقتضائه صادفه الطريق أو خالفه، ولما كان المفروض مخالفته له، فمقتضاه - حينئذ - عدم كفاية الواقع من العمل قبل الانكشاف في ترتيب الآثار عليه بعده، إذ المفروض أنها له واقعا، وليس لذلك الواقع المخالف له حظ منها.
هذا، مع أن في جعله العقود والإيقاعات مما يقتضي الاستدامة دون نجاسة الماء القليل بالملاقاة وعدم نجاسة الكر ما لا يخفى، إذ من المعلوم عند المتأمل عدم الفرق بين النجاسة والطهارة وبين النقل والانتقال الذي هو أثر المنع - مثلا - فكما أن الثاني على تقدير ثبوته يستدام إلى أن يجيء له رافع فكذلك الأولان.
وعلى ثانيها: أنه مسلم إذا ثبت كون تلك الأمور مقتضية للاستمرار واقعا.
وأما إذا كان اقتضاؤها لذلك بالنظر إلى مرحلة الظاهر فمع تبدل الرأي يشك في كونها مقتضية لتلك الآثار في أول الأمر، فالصغرى غير محرزة.
وعلى ثالثها: منع اختصاصه بخصوص العقود والإيقاعات، بل يلزم ذلك في العبادات - أيضا - بالنسبة إلى القضاء - كما عرفت من مطاوي كلماتنا المتقدمة في القول الأول - فيبطل تخصيصه الحكم بالأخص الذي هي العقود والإيقاعات، فافهم.
حجة القول الثالث:
أما على عدم نقض الآثار فيما يتعين أخذه بمقتضى [الفتوى] فوجوه:
منها: أن الواقعة الواحدة لا تحتمل اجتهادين لعدم الدليل عليه.
ومنها: أن البناء على نقضها يؤدي إلى العسر والحرج المنفيين في الشريعة، لعدم وقوف المجتهد غالبا على رأي واحد.
194

ومنها: أنه يؤدي إلى ارتفاع الوثوق عن قول المجتهد من حيث إن الرجوع في حقه محتمل، وهو مناف للحكمة الداعية إلى تشريع حكم الاجتهاد، ولا يعارض ذلك بصورة القطع لندرته.
ومنها: أصالة بقاء الآثار الواقعة، إذ لا ريب في ثبوتها قبل الرجوع بالاجتهاد الأول، ولا قطع على ارتفاعها بعده، إذ لا دليل على كون الاجتهاد المتأخر رافعا لها.
وأما على النقض فيما لا يتعين في وقوعه أخذه بمقتضى الفتوى: فهي أن رجوع المجتهد فيه عن الفتوى السابقة رجوع عن حكم الموضوع، وهو لا يثبت بالاجتهاد على الإطلاق، بل ما دام باقيا على اجتهاده فإذا رجع ارتفع.
ثم قال: (وأما الأفعال المتعلقة بالموضوع المتفرعة على الاجتهاد السابق فهي في الحقيقة إما من مشخصات عنوان الموضوع كالملاقاة، أو من المتفرعات على حكم الموضوع كالتذكية والعقد فلا أثر لها في بقاء حكم الموضوع).
ثم قال: (وربما أمكن التمسك في بقاء الحكم في هذه الصور () بلزوم الحرج وارتفاع الوثوق في العمل).
ثم قال: (إلا أن ذلك مع انتقاضه بصورة الجهل والنسيان والتعويل على الظواهر التي ينتقض حكمها عند ظهور الخلاف لا يصلح بمجرده دليلا.
أما الأول فلأن الحرج المقتضي لسقوط التكليف قد يكون شخصيا، فيدور سقوط التكليف به مدار ثبوته، وقد يكون نوعيا، وهذا وإن لم يكن سقوط التكليف به دائرا مدار ثبوته، لكن يعتبر تحققه في النوع غالبا، وإلا فما من تكليف إلا وقد يتحقق الحرج على بعض تقاديره، وانتفاء الغلبة في المقام معلوم.
وأما الثاني فوجه استحساني لا ينهض دليلا، وإنما تمسكنا بذلك في المقام
195

السابق على وجه التأييد، لا الاستدلال). انتهى موضع الحاجة من كلامه - رفع مقامه () -.
ويتجه عليه:
أولا - أنه إن كان المراد من توقف وقوع الواقعة على أخذها بمقتضى الفتوى هو توقفه عليه واقعا فلا يخفى فساده، لعدم توقف وقوع شيء من الوقائع واقعا على ذلك جدا حتى فيما مثل به لذلك من البناء على عدم جزئية شيء للعبادة، أو عدم شرطيته لها، أو على صحة الصلاة في شعر الأرانب والثعالب، أو على طهارة شيء، أو كونه طهورا، ضرورة أن الشيء المشكوك كونه شرطا أو جزء إن كان في الواقع أحدهما يمتنع () وقوع العبادة المأمور بها واقعا بدونه، وإن لم يكن شيئا منهما [كان] الفعل () الفاقد له هي العبادة المأمور بها واقعا من دون توقف على الأخذ بمقتضى الفتوى أصلا. وهكذا الكلام في سائر الأمثلة.
وإن كان المراد توقفه عليه في مرحلة الظاهر فجميع الوقائع النظرية الاجتهادية كذلك، حتى ما ذكره مثالا لما لا يتعين في وقوعه أخذه بمقتضى الفتوى، كما لا يخفى، فلم يبق وجه لهذا التفصيل أصلا.
وثانيا - أن الذي ذكره وجها للنقض في القسم الثاني بعينه جار في الأول أيضا، فإن الرجوع عن عدم جزئية شيء أو عدم شرطيته إلى شرطيته أو جزئيته رجوع عن حكم موضوع - وهو ذلك الشيء - إلى حكم آخر، وهكذا
196

الكلام في سائر أمثلة القسم الأول، فلم يعلم وجه لذلك التفصيل بوجه.
ثم إن الوجوه التي ذكرها لعدم النقض في القسم الأول فيها ما لا يخفى على المتأمل:
أما الأول منها: فلأنه بعد ثبوت اشتغال الذمة بتكليف ولزوم تحصيل الفراغ عنه لا بد لمن يقتصر على ما وقع منه على وفق الاجتهاد الأول من دليل مثبت لاكتفاء الشارع به عن الواقع، وعدم ذلك الدليل يكفي في لزوم الإعادة في الوقت من غير حاجة إلى ورود دليل على عدم كونه مجزيا. نعم بالنسبة إلى القضاء - بناء على كونه بفرض جديد - يتم لو لا ما قدمنا سابقا من أن أدلة اعتبار الظن الثاني مقتضية لطريقيته بالنسبة إلى جميع ما يؤدي إليه ولو التزاما، وأنه يقتضي فساد ما وقع أولا التزاما، فيحرز به موضوع دليل القضاء فيجب.
وكيف كان، فلا معنى لإطلاق القول بالاكتفاء في مقام الشك في شرطية شيء أو جزئيته في العبادة مستندا إلى ذلك الوجه، أو في صحة الصلاة مع شعر الأرانب والثعالب، أو في كون شيء طاهرا وطهورا، هذا بالنسبة إلى العبادات.
وأما بالنسبة إلى العقود والإيقاعات فلا مساس لذلك الوجه فيهما أصلا، إذ من المعلوم أن بقاء الآثار فيهما يحتاج إلى دليل، ويكفي في الحكم بانتفائها عدم ورود دليل على البقاء، كما لا يخفى على المتأمل.
وأما الثاني منها: فلمنع غلبة عدم وقوف المجتهد على رأي واحد إن لم نقل بثبوت غلبة الخلاف.
وأما الثالث منها: فلما ذكره هو في التمسك به في القسم الثاني.
وأما الرابع: فلأنه إن أراد من ثبوت الآثار حال الاجتهاد الأول ثبوتها في مرحلة الظاهر - بمقتضى أدلة اعتبار الظن الأول - فمن المعلوم ارتفاعها بارتفاع ذلك الظن، إذ الأحكام الظاهرية دائرة مدار بقاء ما يثبتها نفيا وإثباتا
.
وإن أراد ثبوتها حال الظن الأول بالنظر إلى الواقع: ففيه أن الأدلة
197

الظنية لا تفيد ثبوت مؤدياتها في الواقع ظنا، فلم تثبت تلك الآثار واقعا في تلك الحال إلا على سبيل الظن، ومن المعلوم المتفق عليه حتى منه - قدس سره - أنه يعتبر في الاستصحاب إحراز المستصحب في الزمان السابق على سبيل القطع، ودعواه في المقام دونها خرط القتاد، فإذا شك في ثبوتها في تلك الحال يكون () المورد مجرى لاستصحاب عدمها، لا لاستصحاب وجودها كما ذكره - قدس سره -.
وبالجملة: الذي يريد استصحابه مردد بين ما هو معلوم الارتفاع وبين ما هو مشكوك الحدوث، فلا وجه لاستصحابه بوجه من الوجوه، بل المتعين استصحاب عدمه، كما عرفت، هذا خلاصة الكلام في هذا المقام.
والتحقيق فيه ما أشرنا إليه في مطاوي الأجوبة عن القول الأول والثاني، والله الهادي إلى سواء السبيل.
الثاني:
قد عرفت عدم اقتضاء المأتي به - على مقتضى الطرق الظنية الشرعية، أو العقلية، أو الأصول العملية الشرعية، أو العقلية، والأمارات - للإجزاء عن الواقع إذا انكشف مخالفته له، فعلى هذا فيشكل الأمر [1] لو ورد

[1] قولنا: (فيشكل الأمر لو ورد دليل من الشارع على إجزائه): اعلم أن الإشكال المذكور مختص بما إذا ورد الدليل على الإجزاء في صورة انكشاف الخلاف في الوقت أو في صورة انكشافه في خارجه - على القول بأن القضاء بالأمر الأول - لاشتراكها [مع] () الصورة الأولى في إسقاط الأمر الفعلي مع عدم الإتيان بمتعلقه على وجهه، إذ على ذلك القول يكون الأمر من باب تعدد المطلوب ما لم يؤت بمتعلقه على وجهه، فيكون موجودا ما لم يؤت بمتعلقه على وجهه سواء كان في الوقت أو في خارجه.
وأما لو ورد الدليل المذكور في صورة انكشافه بعد خروج الوقت على القول بأن القضاء
بأمر جديد فلا إشكال ولا محذور أصلا، لما قد عرفت سابقا من أن إمكان التعبد بالقضاء بعد امتثال تلك الأوامر الظاهرية في الوقت كان محتاجا إلى التوجيه بإمكان تبعض مصلحة الفعل وحصول بعض منها في خارج الوقت أيضا، فلا يجب على الشارع تداركها جميعا في الوقت، فيمكن التعبد بالفعل ثانيا في خارج الوقت تحصيلا لذلك البعض الفائت من المصلحة، وأما إمكان الإجزاء - بمعنى كفاية المأتي به على ذلك الوجه عن الواقع ولو على وجه التدارك فلا غبار عليه بوجه - فإن غاية ما أثبتنا أن تلك الأوامر في تلك الحال لا تقتضي امتناع التعبد بالواقع في خارج الوقت، وأما اقتضاؤها لامتناع الاكتفاء بمتعلقاتها على الوجه المذكور - أعني على وجه التدارك بأن يكون الشارع قد تدارك جميع مصلحة الواقع في الوقت مع إمكان تحصيل بعضها في خارجه من باب التفضل، أو بأن يكون قد تداركها جميعا في الوقت من باب اللزوم بأن يكون المصلحة بتمامها متقومة بالوقت بحيث لا يحصل منها شيء في خارجه - فكلا، ثم كلا.
ومن المعلوم أن المصلحة المتداركة كالحاصلة، فمعها لا يكون الإجزاء مخالفا للقاعدة، لعدم استلزامه حينئذ التصرف في دليل الواقع أو في أدلة اعتبار الطرق والأمارات والأصول بوجه، بل يكون عدم الإجزاء حينئذ مخالفا للقاعدة كما لا يخفى، فإن الأمر بتحصيل المصلحة المتداركة - كالأمر بتحصيل المصلحة الحاصلة - طلب للحاصل، فافهم. لمحرره عفا الله عنه، وبدل سيئاته حسنات بجاه نبيه وخيرته من خلقه محمد وآله البررة الهداة صلواته عليه وعليهم إلى يوم الميقات.
198

دليل من الشارع على إجزائه واكتفائه به عن الواقع، لمنافاته لاعتبار تلك الطرق والأمارات من باب الطريقية المحضة، ولاعتبار تلك الأصول مجرد كونها أحكاما ظاهرية مغياة بعدم انكشاف الخلاف، ولدليل اعتبار ذلك الأمر المفروض عدم الإتيان به مع المأمور به على وجه الإطلاق، فلا يمكن الجمع بينه وبين بقاء أدلة اعتبار الطرق والأمارات والأصول على ظاهرها، وكذا بينه وبين بقاء دليل الواقع المثبت لجزئية ما لم يؤت به، أو شرطيته على إطلاقه فلا بد حينئذ - إن لم يمكن طرح ذلك الدليل - من الجمع بينه وبين سائر الأدلة بارتكاب خلاف ظاهر في بعضها.
199

وتوضيح المقال في الجمع: أن هاهنا مقامين:
أحدهما: ما إذا قامت تلك الطرق والأمارات والأصول على موضوع قد اعتبر تحققه في المأمور به بمقتضى دليل الواقع، ثم انكشف الخلاف، فورد دليل على الإجزاء، وهذا كما إذا ثبت الطهارة من الحدث أو الخبث بالبينة أو بالاستصحاب - مثلا - أو اعتقد المكلف أنه متطهر فصلى فيه، ثم انكشف الخلاف، فورد دليل على إجزاء الصلاة الواقعة بدون الطهارة واقعا عن الصلاة معها كذلك، التي هي المأمور بها الواقعي ()، أو ثبت تذكية جلد حيوان بالبينة، أو بأخذه من سوق المسلمين، ثم انكشف كونه من الميتة، كما ورد ذلك في الجاهل بالنجاسة من أنه تمت صلاته، وأنه لا يعيدها ().
وثانيهما: ما إذا قامت هي على الحكم دون الموضوع كما إذا ثبت عدم جزئية شيء أو شرطيته في المأمور به بالطرق أو الأصول، ثم انكشف بعد العمل على طبقها الخلاف، فورد دليل على الإجزاء حينئذ، كما ورد ذلك في الجاهل بالجهر في موضع الإخفات أو العكس.
والمتصور للجمع بين الأدلة في المقام الأول وجوه:
أحدها:
أن يخصص دليل الواقع - وهو الذي يثبت شرطية ما لم يؤت به حال الجهل أو جزئيته مطلقا - بغير صورة الجهل مثلا، وهو صورة العلم، كما قد يدعى ذلك في نجاسة النجاسات، من أن الأشياء النجسة لا تتصف بحكم النجاسة واقعا ما لم تعرف بعينها، فمثل البول ليس نجسا واقعا ما لم يعلم بكونه بولا، وهذا هو المعبر عنه عندهم بالتصويب في الموضوع، وكذا يخصص دليل مانعية جلد الميتة مثلا بغير الصورة المذكورة، فيرتفع المنافاة بينه وبين دليل
200

الإجزاء، وكذا بينه وبين أدلة اعتبار الطرق الشرعية - أيضا - إذا قامت هي على تحقق ذلك الذي لم يؤت به واقعا، وكذا بينه وبين الطرق والأصول العقلية، لعدم قضاء العقل - مع تخصيص ذلك الدليل - بعدم الإجزاء، بل يقضي معه به فيما فعله المكلف في حال الجهل من [أن] العمل الناقص هو المكلف به الواقعي في تلك الحالة، فإنه حينئذ بمنزلة الصلاة مع التيمم حال العذر، من حيث كونه فردا من أفراد المأمور به في تلك الحال، فيكون ذلك منه امتثالا واقعا في تلك الحال.
فعلى هذا، فالأصول والأمارات غير محتاج إليها في صحة ذلك العمل، لكفاية الشك في تلك الموضوعات التي قامت عليها تلك الأصول والأمارات في الصحة، فلا تختص الصحة بصورة قيامها عليها، بل تعم صورة فقدها أيضا.
وثانيها:
أن يخصص الأمر بالفعل الذي ذلك المشكوك جزء منه، أو شرط له، أو مانع منه بصورة العلم بذلك الشيء، بمعنى أنه لم يكن في حق الجاهل مثلا في حال الجهل خطاب في الواقع أصلا، فالجاهل بالنجاسة أو بكون الجلد الذي معه من الميتة - مثلا - لم يخاطب بخطاب أقيموا الصلاة في الواقع أصلا.
فعلى هذا، فالواقع منه حال الجهل لم يقع امتثالا أصلا، والأصول والأمارات على هذا - أيضا - غير محتاج إليها، إذ المفروض أنه ليس عليه شيء حتى يحرز شرطه أو جزؤه - مثلا - بها، إحرازا للصحة، وليست - أيضا - محتاجا إليها في انقطاع التكليف الواقعي عنه، لكفاية الجهل فيه.
وثالثها:
أن يتصرف في دليل اعتبار الشرطية والجزئية بحمله على الأعم من ذات ذلك الشيء الذي دل على شرطيته أو جزئيته الشامل لما ثبت كونه هو بأصل أو أمارة وإن لم يكن هو في الواقع.
وبعبارة أخرى: إن [كلا من] () الشرط والجزء - مثلا - إنما هو أحد
201

الأمرين من ذات ذلك الشيء أو إحرازه بأحد من الأصول العملية أو الأمارات - لا ذاته مطلقا - فالعمل الناقص الصادر منه حال الجهل مع قيام الأصول والأمارات من أفراد المأمور به واقعا وامتثال عنه كذلك والأصول والأمارات على هذا التقدير محتاج إليها، لأنها حينئذ جاعلة ومحصلة للشرط أو الجزء.
ورابعها:
أن يتصرف في ذلك الدليل بحمله على أن الشرط أو الجزء - مثلا - إنما هو ثبوت ذلك الشرط عند المكلف بالعلم أو بالأمارات أو بالأصول، لا نفسه ولا ذاته، والأصول والأمارات حينئذ - أيضا - محتاج إليها حال الجهل وعدم العلم به، كما لا يخفى.
لكن الأصل والأمارة القائمين عليه حينئذ يخرجان عن كونهما أصلا وأمارة حقيقة، ويكون إطلاقهما عليهما باعتبار وجود مناط التسمية فيهما في غير هذا لمورد، إذ الأصل العملي عبارة عن الحكم المجعول للشيء بعنوان كونه مجهول الحكم، ومن المعلوم أنه لا حكم لذات ذلك الشيء بالفرض حتى يكون مجهولا، بل
المفروض إحراز عدم حكم لذاته.
وأما الأمارة فهي عبارة عن الطريق القائم على موضوع قد اعتبره الشارع طريقا إليه، ومعنى جعله طريقا إليه أمره بترتيب أحكام متعلقه عليه، ومن المعلوم أنه لا حكم لمتعلقه في مورد الفرض.
وخامسها:
أن لا يتصرف في شيء من دليل شرطية ذلك الشيء أو جزئيته أو خطاب المشروط، والكل بمعنى إبقاء كل منهما على إطلاقه بالنسبة إلى حال الجهل، ويلتزم بخروج المأتي به من العمل الفاقد للجزء أو الشرط عن المأمور به، بمعنى عدم شمول الأمر له واقعا وبدخوله فيه موضوعا وكونه من أفراده وقائما بالغرض المقصود منه الداعي إلى الأمر على نحو قيام سائر الأفراد به، فيقال: إن الصلاة مع الجهل بالطهارة من الخبث - مثلا - فرد من أفراد الصلاة، قائمة بالمصلحة المقصودة منها الداعية إلى الأمر بها على نحو قيام
202

الصلاة مع الطهارة واقعا، وخارجة عنها بعنوان كونها مأمورا بها، فيكون ورود دليل الإجزاء حينئذ على طبق القاعدة، إذ الإجزاء لا يدور مدار الإتيان بالمأمور به، بل يحصل بتحصيل الغرض مطلقا، كما مر التنبيه عليه في مطاوي كلماتنا المتقدمة. هذه جملة الوجوه المتصورة في المقام.
لكن لا يخفى: أنه لا يمكن المصير إلى ثانيها، لقيام الضرورة على ثبوت تكليف في حق الجاهل في تلك الحال، وليس حينئذ كالبهائم لم يطلب منه شيء أصلا.
وأما البواقي فكل منها ممكن ويجوز حمل الخطاب عليه لو انحصر وجه الجميع فيه، ولا يبادر معه إلى طرح دليل الإجزاء جدا.
وأما مع عدم انحصار وجه الجمع في واحد - وفرض اجتماع الجمع، معنى إمكان حمل المورد على أي منها - فالأول أظهر من غير الأخير، لبعد أن يحدث قيام الأمارة أو الأصل مصلحة في نفس العمل وإن كان ممكنا.
وهل هو أظهر من الأخير - أيضا -، أو الأظهر الأخير أو أنهما متساويان؟ أظهر الاحتمالات أوسطها لسلامته عن جميع الأمور المخالفة للأصل بخلاف الأول.
نعم قد يشكل إمكان الوجه الأخير في حد نفسه، نظرا إلى أنه إذا فرض كون العمل الناقص من أفراد الفعل المأمور به - وصدقه عليه كصدقه على سائر أفراده وكونه مشتملا على المصلحة الحاصلة بغيره من الأفراد - فلا بد أن يكون مشمولا للأمر كسائر الأفراد إذا لم يكن هناك مانع من شموله له، ولا يعرف مانع في محل الفرض، فيبطل الوجه المذكور.
ويمكن دفعه بإبداء المانع منه في المقام، وتوضيحه:
203

أن المفروض فردية ذلك العمل الناقص للفعل المأمور به ومساواته لسائر الأفراد بملاحظة حال الجهل لا مطلقا، فحينئذ لو فرض ورود الأمر به لا بد أن يكون موضوعه متقيدا بالجهل، بأن يقال: أيها الجاهل بالنجاسة أو بكون الجلد من الميتة صل مع النجاسة أو مع جلد الميتة، ومن المعلوم أنه بمجرد ذلك الخطاب يصير عالما فيخرج عن موضوع الخطاب فيكون عبثا.
وهذا هو الوجه فيما حققنا في محله من عدم إمكان الأمر بالناقص في صورة نسيان المكلف لبعض الأجزاء والشرائط، ولو أخذ موضوع الخطاب مطلقا فهو ليس خطاب هذا الشخص، فلزوم العبث مانع من الأمر مع قيام المقتضي له.
هذا لو أريد وروده بخطاب مستقل بالنسبة إلى الجاهل.
وأما لو أريد دخوله في الأمر المطلق المتعلق بسائر الأفراد - أيضا - فيلزم منه استعمال الطلب في المعنيين التعييني والتخييري:
أما التعييني فهو بالنسبة إلى غير الجاهل لفرض إرادته منه وأن المتعين في حقه إنما هو العمل الكامل.
وأما التخييري فهو بالنسبة إلى الجاهل، حيث إنه مخير حينئذ بين العمل الناقص والتام، إذ المفروض عدم تعين الناقص في حقه، بل غاية الأمر مساواته له.
وأيضا ذلك الخطاب مطلق وهو مع إطلاقه ليس خطابا للجاهل ومع تقيده بالجهل ليس خطابا للعالم، فلا يمكن دخول كليهما فيه، بل لا بد من إطلاقه حتى يكون مختصا بالعالم، أو من تقييده حتى يكون مختصا بالجاهل.
وبالجملة: الأمر بشيء حال الجهل به إنما يصح ويجوز فيما لم يكن الجهل مأخوذا في موضوعه كما في جميع الخطابات الواقعية، وأما معه فلا.
لا يقال: إن الأوامر الظاهرية كلها من هذا القبيل، فإن المأخوذ في
204

موضوعها إنما هو الجهل.
لأنا نقول: أخذ الجهل في موضوعها مسلم لكن متعلق تلك الأوامر ليس نفس المجهول أو الناقص منه، بل إنما هو تطبيق العمل في الظاهر على طبق الأصول والطرق والأمارات فلا تصلح هي موردا للنقض على ما نحن فيه.
هذا، لكن الإنصاف - والذي يقتضيه التأمل - أن العبث المذكور إنما يلزم على تقدير توجيه الخطاب على نحو الخصوصية إلى شخص خاص، إذ هو حينئذ يوجب له العلم بأن معه نجاسة، أو بأن الجلد الذي معه من الميتة - مثلا -.
وأما توجيهه على نحو العموم بأن يقال: الجاهل بالنجاسة أو بكون الجلد من الميتة يصلي ولو كان معه النجاسة واقعا، أو كان الجلد الذي معه من الميتة كذلك، فإن ذلك لا يوجب له العلم المذكور.
وقياسه بتكليف الناسي على نحو العموم باطل، فإن الناسي حال النسيان غير ملتفت إلى كونه ناسيا، فهو غير ملتفت إلى دخوله تحت عنوان ذلك الخطاب العام، فلا يجدي ذلك في حقه، لعدم صلاحيته لتحريكه نحو العمل الناقص، فيكون عبثا، لانحصار فائدة الخطاب فيه، فلا يمكن توجيه الخطاب إليه بوجه.
هذا بخلاف الجاهل، فإنه ملتفت إلى دخوله تحت العنوان العام، فيفيد في حقه الخطاب العام، فيجوز.
نعم لو فرض كونه جاهلا بالجهل المركب قاطعا للخلاف فهو كالناسي.
والذي يقتضيه النظر بطلان قياس خطاب الجاهل على نحو الخصوصية بخطاب الناسي كذلك - أيضا -، فإن العلم بالنجاسة على تقديره - أيضا - لا يلزم من خطابه بعنوان الجاهل، إذ الجهل معناه عدم العلم، وهو لا يلازم وجود المجهول في الواقع، بل إنما يلزم من الأمر بالصلاة مع النجاسة، لكن لا يجب أن يكون صورة الخطاب على هذا الوجه، بل يمكن أن يكون على الوجه
205

مر في الخطاب على الوجه العام، بأن يقال: أيها الجاهل بالنجاسة صل في حالة الجهل بها.
ثم إنه قد اختلج بالبال وجه سادس لعله أولى من الوجوه المتقدمة: وهو أنه بعد ملاحظة إطلاق الخطاب الواقعي بالنسبة إلى حال الجهل، وإطلاق دليل الشرطية [بالنسبة] إلى تلك الحال، وملاحظة كون العمل الناقص مجزيا بمقتضى دليل الإجزاء يستكشف صدور خطاب عام بالنسبة إلى العمل الناقص - أيضا -، إذ لا محيص
عن ذلك بعد إحراز تلك المقدمات الثلاث مع عدم المانع من الأمر، لما مر من بطلان ما قد يتوهم كونه مانعا.
هذا خلاصة الكلام في المقام الأول.
وأما المقام الثاني: فالمتصور من وجوه الجمع فيه أربعة من الوجوه الستة المتقدمة بإسقاط الثالث والرابع منها،
لعدم تصورهما في مثل ما إذا ثبت عدم وجوب السورة فانكشف وجوبها، إذ لا معنى لأن يقال: إن المراد من دليل جزئية السورة أعم منها ومن عدمها الثابت بالأصول والطرق الشرعية، أو أن المراد أن الجزء للصلاة ليس نفس السورة، بل إحراز عدمها بالأصول والطرق الشرعية.
نعم إذا أدت الأصول والأمارات إلى جزئيته أو إلى شرطيته، فانكشف أن الشرط والجزء واقعا غير ذلك الذي أدت هي إليه، فيتصور فيه ذانك الوجهان أيضا.
ثم إنه لا يمكن المصير في المقام إلى أول الوجوه المتقدمة، لاستلزامه للدور هنا كما لا يخفى، فإن العلم الموجود هنا على ذلك الوجه إنما هو العلم بنفس الحكم - وهو وجوب السورة -، ومن المعلوم أنه لا يحصل إلا من نفس الخطاب المتضمن لوجوب السورة.
هذا بخلاف المقام الأول، فإن متعلقه هناك إنما هو الموضوع الخارجي،
206

لا الحكم، فيختلف فيه طرق التوقف، فلا يلزم فيه الدور، فعلى هذا لو انحصر وجه الجمع فيه هنا لا بد من طرح دليل الإجزاء.
نعم يمكن في صورة انحصار وجه الجمع فيه أن يقال: إنما نستكشف - حينئذ - صدور خطاب آخر متضمن لوجوب السورة في الجملة غير الخطاب الذي علمناه، فيكون ذلك الخطاب موضوعا لهذا، فيكون هذا لمجرد تخصيص وجوب السورة بصورة العلم بذلك الخطاب، ويكون دليل إثبات نفس الوجوب في الجملة هو ذلك الخطاب، فافهم.
ولا يمكن المصير هنا أيضا إلى ثاني الوجوه المتقدمة، لجريان معذور الدور فيه بالتقرير المذكور.
اللهم إلا أن يدفع بالتوجيه المذكور عند انحصار وجه الجمع، لكنه لا ينفع بعد قيام الضرورة على ثبوت التكليف في حق الجاهل بالحكم.
وأما الوجه الثالث والرابع: فيمكن المصير إلى كل واحد منهما فيما إذا لم تقم الطرق أو الأصول على عدم جزئية شيء أو شرطيته، لما قد عرفت من عدم تصورهما فيه، بل قامت على تشخيص الجزء أو الشرط الواقعيين.
وأما الخامس: فقد عرفت بطلانه في المقام الأول فلا يجري في المقام - أيضا -.
وأما السادس: فهو ممكن في هذا المقام - أيضا - بل لعله أجود من غيره مما له سبيل إلى المقام.
هذا كله على تقدير انكشاف الخلاف بطريق القطع، وأما انكشافه ظنا فسيأتي الكلام فيه ().
الثالث:
قد مر أن مقتضى القاعدة لزوم الإعادة في الوقت والقضاء في
207

خارجه إذا انكشف مخالفة المأتي [به] - على طبق الأصول والطرق الظنية الشرعية - ظنا كلزومهما عند انكشاف المخالفة المذكورة قطعا، فعلى هذا فإذا ورد دليل على إجزاء المأتي به على الوجه المذكور بعد انكشاف الخلاف ظنا فيأتي فيه الإشكال المتقدم في صورة وروده على تقدير انكشاف الخلاف قطعا، فلا بد من الجمع.
ومجمل الكلام فيه: أن الكلام فيه - أيضا - كما تقدم بعينه سواء في صورة الجهل بالموضوع أو الحكم، والمختار من وجوه الجمع هنا - أيضا - المختار منها ثمة، فلا نطيل الكلام بإعادة ما تقدم والله أعلم، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين إلى يوم الدين.
زيادة مرتبطة بالإشكال المتقدم: اعلم أن الوجوه المحتملة للجمع بين دليل الإجزاء وغيره من أدلة الواقع أو الطرق إنما تجري فيما لم يكن دليل الإجزاء هي قاعدة العسر والحرج، وأما فيما إذا كان هي تلك القاعدة فيتعين الأخذ بخصوص أحد تلك الوجوه المتقدمة، وهو تخصيص دليل الواقع فيما إذا لم يكن ذلك حصل بقاعدة () العسر والحرج، وأما إذا كان هي - بأن يفرض تعسر إعادة العبادة مثلا أو قضائها بعد انكشاف الخلاف - فلا، بل يتعين واحد منها، وهو تخصيص دليل الواقع، ضرورة حكومتها على جميع أدلة التكاليف الواقعية، وكونها مخصصة لها بغير موردها، مع ثبوت المقتضي لتلك التكاليف في مواردها - أيضا -، فإن تعسرت الإعادة حينئذ فهي حاكمة على الأمر الأول الواقعي ومخصصة له، أو القضاء () فعلى الأمر به من قوله: «اقض ما فات» () ومخصصة له.
208

وكيف كان فيتعين حينئذ التخصيص، ولا يصار إلى غيره من سائر الوجوه المتقدمة.
والله يهدي إلى سواء الطريق.
209

[في مقدمة الواجب]
أصل:
اختلفوا في وجوب مقدمة الواجب على أقوال يأتي تفصيلها، وقبل الخوض في المقام لا بد من تقديم أمور:
الأول:
أن المسألة هذه أهي من المسائل الأصولية أو الفقهية أو اللغوية أو من المبادي الأحكامية؟ وجوه مختلفة منشؤها اختلاف الاعتبارات الصالحة لوقوعها محلا للبحث، إذ المسألة باعتبار وقوع السؤال فيها عن إدراك العقل الربط بين وجوب شيء وبين وجوب مقدمته، والملازمة بينهما وعدمه ()، تدخل في المسائل الأصولية العقلية، كسائر المسائل المبحوث فيها عن الملازمات والإستلزامات العقلية، كمسألة الأمر بالشيء ومسألة اجتماع الأمر والنهي وغيرهما ()، فإن المسألة الأصولية لا تختص بما كان البحث فيها عن حجية أحد الأدلة المعروفة التي منها العقل، بل تعم ما كان البحث فيها صغرويا راجعا إلى وجود الدليل، كالمسائل المذكورة وغيرها كما في مسألة الحسن والقبح، وكما في مسألة الملازمة بين حكم العقل والشرع أيضا، لعموم تعريف علم الأصول، حيث إنهم عرفوه بالعلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية، فإن حاصل معناه أنه العلم بما يكون طريقا لاستنباط الحكم الشرعي الفرعي مع كونه ممهدا له، ومقتضى ذلك أن المسألة الأصولية ما يكون المطلوب والنتيجة
210

فيها من طرق استنباط الحكم الفرعي ومن مقدماته الممهدة له، فتعم كل ما كان المطلوب فيها من مقدماته، ولا ريب أن إحراز ذات الدليل أيضا من المقدمات، ضرورة أن العلم بحجية العقل لا يكفي في استنباط حكم الضد الموسع - مثلا - إلا بعد العلم بأنه يحكم بالملازمة بين الأمر بالشيء وبين النهي عن ضده وعدمه ()، وكذلك أن العلم بحجية الخبر - مثلا - لا يكفي في استنباط حكم الكر الملاقي للنجس أو القليل الملاقي له ما لم يعلم بوجود قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» ().
هذا مضافا إلى أن المسائل الأصولية العقلية المختلف فيها إنما يقع البحث فيها عن وجود حكم العقل لا عن حجيته، إذ لا خلاف لأحد فيها بعد إحراز الصغرى إلا عن بعض الأخباريين، وهو بمكان من الضعف لا يلتفت إليه لكونه مصادمة للضرورة، وشبهة في مقابلة البديهة.
والحاصل: أن المسائل الأصولية العقلية - الدائرة بين الأعلام الواقعة محال للنقض والإبرام - لا يرجع الكلام فيها إلا إلى الصغرى إلا أن البحث في بعضها إنما يقع عن حكم العقل المستقل، وفي بعضها عن حكمه التبعي، كما في المقام وفي أكثر المسائل المشار إليها.
وبالجملة: كلما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي من حيث
211

كونه طريقا إليه فهو من المسائل الأصولية [1]، ويقابلها الفرعية، وهي ما لم تكن واقعة في طريق الاستنباط بمعنى أن المطلوب فيها ليس ما يكون من مقدمات استنباط الحكم الفرعي، بل نفس الحكم الفرعي، بحيث لا يتوقف العمل بعده على استنباط حكم آخر، بل يترتب عليه العمل بلا واسطة استنباط حكم آخر، ولذا تعرف بما يتعلق بكيفية العمل بلا واسطة. فمن هنا اتضح الفرق بين المسألة الأصولية والفرعية.
وخلاصة الفرق: أن الأولى عبارة عن المسألة الممهدة لاستنباط طريق استنباط الحكم الفرعي بحيث يكون النتيجة والمطلوب فيها من مقدمات استنباط الحكم الفرعي، لا نفس الحكم الفرعي، فلذا لا تتعلق بكيفية العمل بلا واسطة، بل إنما تتعلق بها بعد استنباط حكم آخر، والثانية عبارة عن المسألة الممهدة لاستنباط نفس الحكم الفرعي الذي يتعلق بالعمل بلا واسطة استنباط حكم آخر.
لا يقال: مسألة وجوب الصلاة - مثلا - أو الصوم أو الحج أو الزكاة من المسائل الفرعية قطعا، ومع ذلك لا تتعلق بكيفية العمل بلا واسطة، بل إنما تتعلق

[1] إن قلت: هذا يقتضي أنه لو وقع البحث عن وجود الكتاب أو السنة أو الإجماع () فيكون المسألة أصولية.
قلنا: نعم، لكنه لا يقع البحث عنها صغرى لسهولة طريق إحرازها فيها - وهو الحس - بخلاف الأمور العقلية، فإن طريق إثبات صغرياتها أيضا إنما ينتهي إلى البراهين العقلية () والمقدمات النظرية، وهذا هو الوجه في تعرضه للبحث فيها صغرى دون المسألة المدونة. لمحرره عفا الله عنه.
212

بها بعد استنباط تلك الموضوعات الشرعية - وهي الصلاة وما بعدها - من الأدلة الشرعية، فإذن لا فرق بينها وبين مسألة مقدمة الواجب ومسألة الأمر بالشيء.
لأنا نقول: الذي نفيناه في الفرعية وأثبتناه في الأصولية من الواسطة إنما هو الاحتياج إلى استنباط حكم آخر لا مطلق الاستنباط، ولا ريب أن المحتاج إليه في المسائل المذكورة ليس استنباط حكم آخر، بل إنما هو استنباط موضوع الحكم الفرعي المستنبط، بخلاف مسألة الأمر بالشيء - مثلا - فإنها - مضافا إلى حاجتها إلى ذلك - محتاجة في تعلقها بعمل المكلف إلى استنباط حكم آخر، وهو وجوب المأمور به المضيق مثلا.
وكيف كان فالمسألة بالاعتبار المذكور داخلة في المسائل الأصولية العقلية، وباعتبار وقوع السؤال فيها عن لوازم الوجوب وأحكامه إذا قصد به توضيح معرفة الوجوب - الذي هو أحد الأحكام المبحوث عن حقيقتها في المبادئ الأحكامية - تدخل في المبادئ الأحكامية، فإن الغرض فيها لما كان معرفة الحكم والحاكم والمحكوم عليه وبه وأقسام الحكم من التكليفي والوضعي بأقسامهما، وقد يتوقف معرفة بعض الأقسام على معرفة بعض لوازمه وأحكامه، فلذا قد يقع البحث فيها عن لوازم بعض تلك الأقسام وأحكامه نظرا إلى توضيح الحال في الملزوم، ولا ريب أن وجوب المقدمة من لوازم وجوب ذيها ومن أحكامه فهو من أحكام الوجوب الذي هو أحد الأقسام المقصود معرفتها ثمة من الأحكام، ولأجل ذلك ذكر بعض المسألة في المبادئ الأحكامية.
وباعتبار وقوع السؤال فيها عن وجوب المقدمة التي هي من فعل المكلف تدخل في المسائل الفرعية.
وباعتبار وقوعه عن دلالة الأمر عليه لفظا تدخل في المبادئ اللغوية.
فإذا عرفت ذلك فهل النزاع في المقام إنما هو بالاعتبار الأول، أو الثاني،
213

أو بأحد الأخيرين [1]؟.
الظاهر أنه إنما هو بأحد الأولين، لا الثالث وان كان يوهمه ظاهر قولهم:
(مقدمة الواجب واجبة، أو ما لا يتم الواجب إلا به واجب، أو لا؟) إلا أن التأمل التام في كلامهم وأدلتهم يقضي بأن مرادهم إنما هو إثبات الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها، لا إثبات وجوب المقدمة ابتداء.
هذا، مضافا إلى أنه لو كان الغرض ذلك فلا ريب أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا للعقل لعدم ما يدل عليه من الكتاب والسنة أو الإجماع، فيتوقف ثبوته على حكم العقل بالملازمة، فحينئذ لو كان النزاع هنا مع قطع النظر عن حكم العقل بالملازمة فهو كما ترى، وإن كان معه فالبحث عنه يغني عن البحث في وجوب المقدمة.
ولا الرابع، ضرورة عدم اختصاص النزاع بالواجبات التي يكون الدال عليها الأوامر اللفظية وإن كان يوهمه ذكر بعضهم تلك المسألة في مباحث الأوامر كصاحب المعالم، لكنه يدفعه أنه - قدس سره - لما لم يذكر في كتابه المبادئ الأحكامية ولا الأدلة العقلية، وكانت مباحث الأوامر أنسب حينئذ لأن تذكر فيها هذه، حيث إن الغالب من الواجبات ما يثبت باللفظ، فذكرها في طيها لذلك كذكره مسألتي الأمر بالشيء واجتماع الأمر والنهي، وأما غيره ممن تأخر عنه من

[1] اعلم أن مرجع البحث في الأخيرين كليهما إلى وجه واحد، وهو ثبوت الملازمة عقلا بين وجوب شيء ووجوب مقدمته، والنزاع فيهما إنما هو في ذلك، إلا أن كون المقام من المبادئ الأحكامية أو الأصولية العقلية يدور مدار الغرض من البحث، فإن كان الغرض توضيح حال الحكم الوجوبي فيدخل في المبادئ الأحكامية لتمهيده حينئذ لمعرفة بعض أقسام الحكم، فهو متمهد لمعرفة الحكم في الجملة، وإن كان الغرض التوصل به إلى معرفة الحكم الفرعي - وهو وجوب المقدمة - فيدخل في المسائل الأصولية لصدقها عليه، لكونه ممهدا لاستنباط الحكم الشرعي الفرعي. لمحرره عفا الله عنه.
214

الذين ذكروها في مباحث الأوامر مع تعرضهم للدلالة العقلية فهو إنما لمجرد التبعية له - قدس سره -.
هذا، مضافا إلى أنه لم يستدل أحد من المثبتين على وجوب المقدمة بظهور الأمر فيه لفظا وإن وقع إنكار الدلالات الثلاث في كلام بعض المنكرين، لكنه بعد ظهور المراد لا بد من حمله على شدة النكير.
وكيف كان فالظاهر - بل المقطوع به - أن النزاع في ثبوت الملازمة عقلا بين وجوب شيء وبين وجوب مقدمته، فتكون المسألة عقلية.
وحينئذ إن تعلق الغرض بتوضيح الحكم الوجوبي بذكر بعض لوازمه فيناسب ذكرها في المبادئ الأحكامية، وإلا ففي الأدلة العقلية كما فعله بعضهم، فتكون من المسائل الأصولية العقلية.
ومن هنا ظهر ضعف ما يظهر من سلطان المدققين () - قدس سره - من كون النزاع في المقام لغويا، حيث قال - في رد استدلال المانعين من وجوب المقدمة، بأنه لو كان الأمر مقتضيا له لامتنع التصريح بنفيه () -:
(أقول: فيه نظر، إذ صحة التصريح بعدم وجوب المقدمة لا ينافي ظهور وجوبها عند عدم التصريح، إذ يجوز التصريح بخلاف ما هو الظاهر، كما في القرائن الصارفة في المجازات عن المعاني الحقيقية، إذ الخصم لا يدعي إلا ظهور وجوب المقدمة عند إيجاب ذي المقدمة مع عدم دليل وقرينة، إلا أن يدعي عدم الفرق بين التصريح وعدمه، وهو في مرتبة المدعى، فتأمل). انتهى كلامه رفع مقامه.
وتوضيح الضعف: أن مراد المستدل بالامتناع والجواز إنما هو الامتناع
215

والجواز العقليان بمعنى الحسن والقبح، يعني أنه لو كان الأمر مقتضيا عقلا لوجوب المقدمة - بمعنى ثبوت الملازمة بينه وبين وجوب ذيها - لقبح التصريح بخلافه، وليس مراده نفي الظهور اللفظي حتى يتجه عليه ما أورده - قدس سره - بل المراد نفي الملازمة عقلا، فيتجه الاستدلال، وينقلب الإشكال فافهم.
وكيف كان فالمتأمل المنصف يجد الاستدلال المذكور كالصريح - بل صريحا () - في كون المدعى نفي الملازمة عقلا وأن النزاع فيها.
نعم على تقدير القول بعدم الملازمة [1] يمكن عقد بحث آخر في دلالة الأمر لفظا على وجوب المقدمة إذا كان
المثبت لوجوب ذيها الأمر اللفظي، وأما على تقدير ثبوت الملازمة فلا فائدة في البحث عن الدلالة اللفظية أصلا.
ثم إنه قد ظهر مما حققنا اندفاع ما قد يتوهم من كون المسألة فرعية، نظرا إلى كون المطلوب والنتيجة فيها نفس الحكم الشرعي الفرعي، وهو وجوب المقدمة لا العقلية، حيث إنه لا بد فيها أن يكون المطلوب عبارة عن الدليل العقلي، وهو الحكم العقلي الذي ينتقل منه إلى الحكم الشرعي، فتخرج المسألة عن الأدلة العقلية.
وتوضيح الاندفاع: أن المطلوب في المقام - كما عرفت - ليس وجوب

[1] إذ حينئذ يمكن تحقق الوجوب في الخارج على وجهين:
أحدهما - ما يراد معه وجوب المقدمة أيضا.
وثانيهما - ما لا تعرض معه لذلك، فيكون الحال في المقام كما في المفاهيم، حيث إنه لا ريب أنه لا ملازمة عقلا بين تعليق وجود شيء على وجود أمر وبين انتفاء الشيء الأول بانتفاء الثاني، بل التعليق في الخارج يقع على وجهين: أحدهما ما يقصد به الانتفاء عند الانتفاء، والآخر ما لا تعرض له لذلك.
وكيف كان فالبحث اللفظي إنما هو بعد الفراغ عن إمكان وقوع الشيء المبحوث عنه على كلا الوجهين في محل البحث، وإلا فيلغى. لمحرره عفا الله عنه.
216

المقدمة وان كان يترتب عليه ذلك، بل إنما هو مجرد الملازمة عقلا بين وجوب شيء وبين وجوب مقدمته.
وبعبارة أخرى: إن النزاع في أن العقل يستقل بالملازمة بينهما، ويجزم بها، أو لا؟ ولا ريب أن الحكم بالملازمة حكم عقلي ينتقل منه إلى الحكم الشرعي، وهو وجوب المقدمة فبتعدد الحكم فدخلت المسألة في الأدلة العقلية. هذا لا إشكال فيه.
وإنما الإشكال كله في أنهم بعد ما عرفوا الدليل العقلي بما أشرنا إليه - أي الحكم العقلي الذي ينتقل منه إلى الحكم الشرعي - قسموا حكم العقل إلى المستقل وغير المستقل، وجعلوا مسألة الحسن والقبح من الأول، والالتزامات من الثاني، بل بعضهم لما رأى ذكر بعض الأصول العملية في الأدلة العقلية، ورأى أن مفادها ليس إلا الحكم الظاهري زاد () قسما ثالثا، فقال: حكم العقل: إما ظاهري، وإما واقعي، والثاني: إما أن يستقل به العقل، وإما أن يحتاج إلى أمر آخر كخطاب من الشارع.
بيان الإشكال: أنا لا نرى حكم العقل في هذه الموارد من جهة الاستقلال الا كحكمه في مسألة الحسن والقبح.
توضيحه: أن في الموارد والأمثلة المذكورة للعقل المستقل أمورا ثلاثة:
الصغرى: وهو قولك - مشيرا إلى الفعل الخاص -: هذا مقدمة للواجب.
والكبرى: وهي قولك: كل [1] مقدمة للواجب واجبة شرعا.
والنتيجة: وهي أن هذا الفعل واجب شرعا، ولا ريب أنه لا مدخل للعقل أصلا في بعض تلك الأمور كالأول، ضرورة أن كون شيء مقدمة للواجب حسي، فلا سبيل للعقل إلى إحراز صفة التوقف والمقدمية، وأما وجوب ذي المقدمة - الذي

[1] أي يلزم من وجوب كل واجب وجوب كل ما هو مقدمة له. لمحرره عفا الله عنه.
217

هو الواجب - فكذلك أيضا، بمعنى أنه لا مدخل له فيه أيضا، فإن وجوبه حكم شرعي موظف من الشارع، والحكم له مستقلا في بعضها كالثاني، حيث إن الحاكم بالملازمة بين وجوب الشيء وبين وجوب كل ما [هو] مقدمة له هو العقل لا غير، ولا مرية أن حكمه بها لا يتوقف على وجود واجب في الخارج شرعي أو غيره، بل هو مستقل فيه ولو فرض امتناع حصول واجب وصدور خطاب من الشارع في الخارج.
وأما الثالث - أعني النتيجة - فلا ريب أن الحاكم به إنما هو الحاكم بوجوب ذي المقدمة، فإنك بعد إحراز كون الفعل الخاص مقدمة لواجب، وبعد الالتفات إلى حكم العقل بالملازمة بين إيجاب شيء وبين إيجاب مقدمته - سواء كان الآمر هو الشارع أو غيره - تستنتج من هاتين المقدمتين أن هذا الفعل واجب من قبل من أوجب ذا المقدمة، فإذا فرض كونه هو الشارع فيكون الحاكم في النتيجة هو الشارع، أو غيره فهو، وكيف كان، فوجوب المقدمة إنما هو من قبل من أوجب ذاها، فإن كان وجوبه شرعيا فيكون وجوبها كذلك، أو غيره فغيره، ولا ريب أن الحاكم بوجوب ذي المقدمة - في محط النظر ومحل البحث - هو الشارع لا غير، فتكون النتيجة - وهي وجوب الفعل الخاص - شرعية أيضا، غاية الأمر أن استفادته تبعية، فإن شئت سمه بالوجوب الشرعي التبعي، وأما تسميته بالعقلي التبعي فلا وجه لها، فإنه وإن كان تبعيا إلا أنه شرعي - كما عرفت - لا عقلي، فيكون الحال في الأمر الثالث نظير الحال في الأول من جهة عدم مدخل للعقل في حكمه أصلا.
والحاصل: أن الحكم في الموارد الثلاثة كلها: إما شرعي مستقل، أو تبعي ()، وإما عقلي مستقل، وأما التبعي منه فقد عرفت انتفاءه.
218

هذا توضيح الإشكال في مقدمة الواجب، ومثله الكلام في سائر الاستلزامات والمفاهيم أيضا بناء على أن لا يكون التلازم فيها لفظيا - أي لا يكون بينا بالمعنى الأخص - إذ عليه فحكم العقل بانتفاء الحكم المعلق على شيء عند انتفاء ذلك الشيء حكم عقلي مستقل لا يحتاج إلى خطاب من الشارع، فظهر بطلان تقسيم حكم العقل إلى غير المستقل.
ويتلوه في الضعف تقسيمه إلى الواقعي والظاهري.
وتوضيحه: أن في موارد الأصول العملية كالبراءة مثلا أيضا أمورا ثلاثة:
الصغرى: وهي أن هذا الشيء مشكوك الحكم.
والكبرى: وهي أن كل مشكوك الحكم يقبح العقاب عليه، وأنه يلزم من كونه مشكوكا فيه كونه مباحا من قبل المكلف - بالكسر -.
والنتيجة: وهي أن هذا الشيء يقبح العقاب عليه، وأنه مباح من قبل المكلف.
ولا ريب أنه لا مدخل للعقل في الأول أصلا، فإنه إنما يحرز بالوجدان لا غير. وأما الثاني فلا ريب أن الحكم الذي من قبل العقل هو الملازمة وقبح العقاب، ولا ريب أن الملازمة أمر واقعي جدا، وأن العقاب قبيح واقعا قطعا.
وكيف كان فذلك حكم عقلي مستقل واقعي، وأما كونه مباحا فليس من حكم العقل في شيء أصلا، وإن كان مدركه العقل، بل هو حكم شرعي ظاهري يكشف عنه العقل، فما يكون ظاهريا ليس بعقلي، وما يكون عقليا لم يكن ظاهريا، كما أنه لم يكن تبعيا.
والحاصل: أن الذي هو حكم العقل واقعي مستقل، فإن إجراء البراءة في موارد جريانها إنما هو لحكم العقل القطعي بقبح العقاب من دون تمام الحجة، بل تسميته حكما أيضا لا يخلو عن مسامحة إلا أن يعمم الحكم إلى مطلق الإثبات والنفي، وكذا في الاحتياط في موارد جريانه، فإنه أيضا لحكم العقل
219

المستقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.
وأما أصالة الإباحة: فالمراد بها الإباحة الواقعية الشرعية - كما يظهر من بعض أدلة النافين - فإن محل النزاع ثمة في الأشياء المشتملة على المنفعة الخالية عن المفسدة، فيبحث عن أن العقل هل يحكم بالإباحة من قبل الشارع واقعا ويدركه، أو لا؟ فإدراك العقل واقعي وكذا مدركه.
ومن وجوه النافين وجود الحكم الشرعي على خلاف الإباحة في بعض أفراد محل النزاع، فمعه لا يستقل العقل بذلك الحكم.
هذا، ويمكن الذب عن الإشكال الأول - المتوجه إلى تقسيم حكم العقل إلى الغير المستقل -: بأن الظاهر أنه ليس المراد تقسيم حكم العقل نفسه - أي مدركه بالفتح - كما هو الظاهر من لفظ الحكم، بل المراد تقسيم استنباط العقل للحكم، وأنه تسامح في العبارة، إذ لا ريب أن طريق الاستنباط في حكم العقل قد يكون بتمامه - صغرى
وكبرى - عقليا، وقد يكون ملفقا منه ومن الشرعي بحيث لو لا ثبوت الصغرى أو الكبرى من الشرعي لم يكن العقل مدركا لما يدركه مع فرض الثبوت.
أو يقال: إن المراد تقسيم الحكم نفسه، لكن باعتبار الاستنباط، وهذا هو الأجود الذي ينبغي أن يحمل عليه كلماتهم.
وعن الإشكال الثاني - المتوجه إلى تقسيم بعضهم إياه إلى الظاهري -:
بأن المراد تقسيم حكم العقل باعتبار ما ينتقل منه إليه من الحكم الشرعي.
فافهم.
الثاني (): ينبغي التعرض لمفردات كلامهم الواقع محلا للخلاف في المقام - وهو قولهم: مقدمة الواجب واجبة أو لا؟ - كي يرتفع الإجمال، ويتضح الحال في مقالهم من جهة معرفة محل الخلاف،
فنقول:
220

المقدمة لغة: هي ما قدم أمام شيء، والمراد بها في المقام إنما هو ما يتوقف عليه فعل الواجب، والنسبة بينهما هي العموم المطلق، إذ ما يتوقف عليه الفعل له تقدم طبعي على حصول الفعل، وهو نوع من التقدم، فيكون من أفراد المقدمة لغة.
ثم المقدمة - أي ما يتوقف عليه حصول الواجب - تنقسم إلى داخلي وخارجي:
والأول: منحصر في الأجزاء، وينطبق عليها بحيث لا يتعداها.
والثاني: إلى السبب، والشرط، والمعد، وفقد المانع.
وهذه الأقسام كلها - حتى المقدمات الداخلية - مشتركة في كونها دخيلة في وجود ذي المقدمة، وفي أنها يلزم من عدم كل منها عدمه.
ثم السبب في اللغة: ما يمكن التوصل به إلى غرض، ومنه سمي الحبل سببا.
وفي اصطلاح أهل العلم عرفوه: بما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم. والظاهر أن ذلك من النقل من العام إلى الخاص، لأن السبب الاصطلاحي أيضا نوع منه وفرد له، لأنه مما يمكن التوصل به إلى غرض هو المسبب.
ثم إن قولهم: (ويلزم من عدمه العدم) يحتمل أن يكون جنسا لجميع أقسام المقدمة - كما أشرنا إليه - بحمل الموصولة على الأعم من الأمر الوجودي مع حمل العدم أيضا على الأعم مما يقابل الوجود، ليشمل عدم العدم الذي هو الملازم للوجود أو عينه، ليشمل عدم المانع، فيكون قولهم: (ما يلزم من وجوده الوجود) فصلا مخرجا لغير السبب من الشرط، إذ لا يلزم من وجوده الوجود، والمانع أيضا كذلك، فإنه يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه الوجود.
لكن هذا خلاف ما هو المتعارف في الحدود من تقديم الجنس وتأخير الفصل عنه، وإن كان يحتمل أن يكون العكس هنا لنكتة، ويحتمل أن يكون
221

نظرهم في الجزء الأول إلى إخراج الشرط وفي الثاني إلى إخراج المانع فقط لكن لا يخفى عدم الحاجة إلى القيد الثاني في إخراج شيء من المقدمات الغير السببية من الشرط وغيره، بل يكفي في إخراجها الجزء الأول من الحد.
أما الشرط: فواضح وان كان واقعا جزءا أخيرا للعلة التامة، لأن كلمة (من) في الحد للنشوء، ومقتضاها حينئذ كون السبب ما يكون منشأ لحصول المسبب، بحيث يستند الأمر - الذي هو حصول المسبب - إليه، والشرط في الفرض المذكور ليس كذلك، فإن التأثير ليس مستندا إليه وان كان تحققه في الخارج متوقفا عليه، بل إنما هو مستند إلى المجموع منه ومن المقتضي أو خصوص المقتضي، كما هو الحق، وستأتي البينة عليه.
وأما المانع: فإن جعل نفسه من المقدمات تسامحا - كما فعله بعضهم - فواضح خروجه، إذ لا يلزم من وجوده الوجود، بل يلزم العدم، وان جعل عدمه منها نظرا إلى الواقع فكذلك، إذ لا يلزم من وجوده الوجود وإن كان متوقفا عليه، ولو فرض كونه جزءا أخيرا للعلة التامة بتقريب ما مر في الشرط.
وكيف كان، فظاهر التعريف أن السبب مرادف للعلة التامة، كما هو كذلك عند أهل المعقول، لكن الظاهر - بل المقطوع به - مخالفته لها عند أهل المنقول، كما يظهر من تقسيمهم السبب إلى المجامع للمانع والخالي عنه - ولذا زاد بعضهم في حده قيد (لذاته) لإدخال القسم الأول وهو المجامع للمانع - ومن احتجاج السيد () - قدس سره - الآتي على وجوب السبب بأنه مع وجود السبب لا بد من وجود المسبب إلا أن يمنع مانع، فلو كان المراد بالسبب العلة التامة لناقض الأشياء المذكورة ما قبلها.
وأيضا من أقوال المسألة القول بوجوب المقدمة مطلقا، والقول بوجوب
222

السبب دون غيره، وكلاهما متفقان على وجوب السبب، بل ادعى بعضهم خروجه عن محل النزاع وجعله في غيره.
ولا ريب أن المراد بالوجوب في المقام ليس الوجوب العقلي أي اللابدية والتوقف، إذ لا يعقل بعد إحراز كون شيء مقدمة لشيء الخلاف في وجوبه العقلي، فإنه راجع إلى الخلاف في مقدميته لذلك الشيء، فيخالف الفرض، بل المراد به الوجوب الشرعي التكليفي.
ولا ريب أنه لا يعقل التكليف بغير المقدور محضا، أو ما يكون مركبا منه ومن المقدور، فإنه أيضا غير مقدور، ولا ريب أن كثيرا من أجزاء العلة التامة من الأمور الاضطرارية الخارجة عن قدرة المكلف كحياته وقدرته وصحته وغير ذلك من الأمور الاضطرارية المتوقف عليها فعل الواجب، فلو كان السبب في المقام عبارة عن العلة التامة [لم] يعقل () القول بوجوبه، لأن وجوب المركب عين وجوب أجزائه، لأنها عينه وإن كانت تغايره () اعتبارا، فإنها إن لم تجب باعتبار كونها مقدمة لتحصيل الكل فتجب باعتبار كونها علة لا محالة، والمفروض خروج بعض الأجزاء عن القدرة، فيمتنع التكليف به عقلا، فتبين مخالفته للعلة.
وظهر من ذلك: أن محل النزاع في مقدمة الواجب إنما هو فيما يكون من الأفعال الاختيارية للمكلف المتوقف عليها فعل الواجب لا مطلق المقدمة، وأن المراد بلفظ المقدمة أو ما يتوقف عليه الواجب - الواقعين في عنوان النزاع اللذين هما المقسم لأقسام المقدمة - ذلك لا الأعم.
فإن شئت توضيح الحال فراجع () موارد إطلاق السبب ومواضع تحديده،
223

فإنهم عرفوه في مواضع:
منها: مبحث الحكم الوضعي من مباحث المبادئ الأحكامية، حيث إنهم عرفوه بما ذكر، وجعلوا منه أسباب الأحكام الشرعية، كالوقت لوجوب الواجب الموقت به، وكالنذور، والعهود، والأيمان لوجوب ما التزم به وغير ذلك.
ومنها: مبحث تداخل الأسباب فإنهم أيضا أطلقوه على أسباب الحكم الشرعي.
ومنها: ما نحن فيه كما عرفت.
ولا ريب أن أسباب الحكم في الموضعين الأولين كأسباب الموضوع كما في المقام ليس شيء منها علة تامة للحكم الشرعي، بل يتوقف على فقد المانع لا محالة كتوقف وجوب الصلاة في الوقت مثلا على عدم الإغماء أو الجنون أو المرض البالغ حد العجز - مثلا - وهكذا في غيره من أمثلة الأحكام الشرعية المعلقة على الأسباب.
وبالجملة: معنى السبب في جميع تلك المواضع واحد جدا فإن معناه المفهوم الأعم الشامل لكل من سببي الحكم والموضوع، والتعريف المتقدم لا يختص بأحدهما وان كان قد اختص سبب الحكم بتعريف آخر، فعرفوه بالوصف الظاهر المنضبط الذي دل الدليل على كونه سببا للحكم ومقتضيا له أو معرفا على اختلاف التعبيرين، نظرا إلى الخلاف في أن أسباب الشرع مقتضيات أو معرفات.
نعم، الفرق بين السبب المتنازع فيه في المقام وبينه في المبادئ الأحكامية ومسألة تداخل الأسباب كما أومي إليه من وجهين:
أحدهما - أن المراد به في المقام إنما هو سبب الموضوعات المتعلق بها الحكم
224

الشرعي وهو الوجوب، وفي ذينك المقامين إنما هو سبب الحكم الشرعي [1]. فإن شئت قلت: المراد به في المقام ما يكون سببا لتحقق الواجب وحصوله في الخارج، وفي ذينك الموضعين ما يكون سببا لثبوت الوجوب وتوجهه نحو المكلف.
وثانيهما - أنه لا خلاف في كون السبب في المقام مقتضيا لوجود المسبب بخلافه في ذينك الموضعين، حيث إنه اختلف في كون أسباب الأحكام الشرعية مقتضيات، فذهب بعضهم إلى أنها معرفات، فتكون مقتضية بالنظر إلى ظاهر الأدلة الشرعية الدالة على سببيتها.
فإذا علم عدم ترادف السبب عندهم للعلة التامة وخروج فقد المانع عنه، فهل المراد به المركب من الشرط والمقتضي - وهو ما ينشأ منه الأثر ويستند إليه - أو خصوص المقتضي مطلقا، أو مقيدا بكونه مجامعا للشرط بأن يكون نفس القيد - وهو الشرط - خارجا؟ الظاهر - من تقسيم بعضهم السبب إلى المجامع للشرط والمفارق له، ومن القول بالتفصيل بين السبب والشرط بوجوب الأول دون الثاني - أن المراد به خصوص المقتضي، لا المركب منه ومن الشرط:
أما دلالة الأول - وهو تقسيم السبب إلى المجامع للشرط وإلى المفارق له - فواضحة ().
وأما الثاني () فلأنه لو كان الشرط جزء منه لما بقي معنى لذلك التفصيل

[1] اعلم أن النسبة بين سبب الحكم وسبب الموضوع إنما هي العموم من وجه لصدق الأول في مثل الدلوك ونحوه دون الثاني، وصدق الثاني في مقدمات الواجب المطلق دون الأول، واجتماعهما في صيغة العقود والإيقاعات، إذ لا ريب أن الصيغة سبب لتحقق موضوع العقد والإيقاع في الخارج وسبب توجه الأحكام الشرعية نحو المكلف من وجوب الوفاء وغيره من الأحكام. لمحرره عفا الله عنه.
225

أصلا، إذ لا يعقل وجوب المركب مع عدم وجوب جزء منه، بل وجوبه مستلزم لوجوب جميع الأجزاء لأنها إما عينه أو مقدمات له، فلو لم نقل بوجوبها من باب المقدمة فلا بد من القول بوجوبها باعتبار كونها عين المركب، فلا يمكن نسبة مثل ذلك إلى من دون السيد (قدس سره)، فكيف به (قدس سره)؟ ومقابلتهم السبب بالشرط أيضا مشعرة () بما ذكرنا، وإن كان يحتمل أن يكون التقابل اعتباريا من حيث الكلية والجزئية.
ويدل عليه أيضا إطلاقهم السبب على أسباب الحكم، كالوقت للصلاة بالنسبة إلى وجوبها، إذ لا ريب في اشتراط البلوغ والعقل وغيره من الشروط أيضا، فقد أطلق السبب على المقتضي فقط.
لا يقال: إن المراد بالسبب في باب تداخل الأسباب إنما هو المركب من المقتضي والشرط، بل ومن عدم المانع أيضا، إلا من جهة اجتماع السبب مع مثله، فإن كان محل النزاع ثمة في الأسباب التي لم يكن لها مانع من التأثير في مسبباتها إلا تعددها، فاختلف في أن كلا من تلك الأسباب حينئذ بالنظر إلى ظاهر أدلتها هل يؤثر في مسبب مستقل، ويترتب عليه حكم كذلك، كما في صورة الاتحاد، أو لا؟.
لأنا نقول: القدر المعلوم ثمة أن مفروض البحث في السبب إنما هو حال كونه مجامعا للشرط وفقد المانع من غير جهة التعدد.
وأما استعمال لفظ السبب في المركب من المقتضي وغيره فغير معلوم ولا مظنون، فلا شهادة لما ذكر على ذلك.
نعم يحتمل ذلك في كلام السيد - قدس سره - حيث احتج على إطلاق
226

الواجب بالنسبة إلى السبب: بأنه محال أن يوجب علينا المسبب بشرط اتفاق وجود السبب، إذ مع وجود السبب لا بد من وجود المسبب، إلا أن يمنع مانع ().
إلى آخر ما ذكره - قدس سره - فإنه لو كان مراده - قدس سره - من السبب المقتضي وحده لما تم ما ادعاه من المحال أصلا، لجواز فقد [بعض] من الشروط، بل وقوعه كثيرا غاية الكثرة.
لكن غاية ما يستفاد من ذلك اعتبار الشرط، أما اعتباره على نحو الجزئية وإطلاق لفظه على المجموع فلا، لإمكان اعتباره على نحو التقيد فيكون المراد به على هذا التقدير المقتضى وحده إلا أنه مقيد بكونه مجامعا للشرط.
والظاهر أن مراده (قدس سره) بالمانع أيضا هو المانع الخارق للعادة، لا مطلق الموانع كما فهم بعض المحققين من المتأخرين () أيضا، إذ لو كان المراد هو الثاني لاستهجن أخذ المدعي الامتناع والاحتجاج عليه بما يتخلف كثيرا عن المسبب، لأن الموانع المتعارفة كثيرة لا تحصى، فلا بد من حمل الامتناع في كلامه على العادي، وحمل المانع على الخارق للعادة، ليتجه الاستدلال، فيكون المراد بقوله:
(لا بد من وجود المسبب) أنه لا بد من وجوده عادة.
ومن هنا يظهر أنه - قدس سره - أراد بالسبب ما اعتبر فيه عدم الموانع العادية أيضا.
لكن ما قدمنا من تقسيمهم السبب إلى المجامع للشرط والمفارق له، وإلى المجامع للمانع والخالي عنه يكفي في نفي اعتبار الشرط وعدم المانع في السبب مطلقا عندهم وإن علم اعتبارهما في كلام السيد، لكنه بملاحظة ذلك محمول على التجوز أو التقييد في معنى السبب، فيلزمه المجاز أيضا على بعض الوجوه.
227

اما دلالة التقسيمين المذكورين على نفي اعتبارهما مطلقا فواضحة، لأنهما لو كانا معتبرين بأحد الوجهين لكان السبب منحصرا في المجامع لهما، فلا يصح تقسيمه إلى الخالي عنهما، لأنه من تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره المباين له، وهو كما ترى.
فظهر من ذلك أن المراد بالسبب في مصطلح أهل المنقول هو المقتضي لا غير وان كان لا يساعد عليه التعريف المتقدم: أما بدون زيادة قيد (لذاته) فواضح، حيث إنه منطبق على العلة التامة، وأما معه فلعدم انطباقه على المقتضي المقرون بعدم الشرط، فإن المراد بقيد (لذاته) هو كون المقتضي مخلى ونفسه، وهذا يصدق على ذلك، وإنما لا يصدق على المقرون بالمانع، ولا على المقتضي المقارن لمثله مع كون كل منهما جامعا للشرط وفاقدا للمانع عدا جهة الاجتماع، لأن () كلا منهما سبب قطعا، ولا يصدق عليه حده، فانه لا يلزم حينئذ من وجود كل واحد منهما الوجود وإن صدق الخلو مع نفيه. اللهم إلا أن يتعسف بجعل السبب حينئذ أحد الأمرين لا خصوص كل واحد منهما أو المجموع، فتأمل، ولا على السبب الذي يخلفه سبب آخر، فإنه لا يلزم من عدمه
العدم. اللهم إلا أن يقال: بأن السبب حينئذ أحد الأمرين.
وقد يورد عليه بوجوه أخرى:
منها - النقض بالجزء الأخير من العلة التامة فإنه يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، فلم يطرد الحد، لكنه بمعزل عن التحقيق، لأن الجزء الأخير إن كان هو المقتضي فهو ليس خارجا عن السبب، وإن كان شرطا أو فقد المانع فقد عرفت خروجهما بكلمة (من) لكونها نشوية، ضرورة أن الشرط وعدم المانع ليسا منشأين لوجود بحيث يقال: هذا من ذاك، بل من المقتضي، فإنه الذي يقال
228

فيه ذلك.
وكيف كان، فالمتجه من الإشكال ما ذكره، أما غيره فهو بالإعراض عنه حري، فيكفي الاقتصار على ذلك الذي سمعت حذرا من الإطناب الممل.
ثم الأولى أن يعرف: بما يستند إليه المسبب والأثر على تقدير حصوله وإن لم يحصر المسبب بعد - أعني ما يكون منشأ له على تقدير حصوله في الخارج، بحيث يقال: هذا من ذاك - فيشمل جميع أقسام السبب. فلاحظ وتدبر. هذا تمام الكلام في السبب.
وأما الشرط: فهو في اللغة التعليق، وفي الاصطلاح: ما يتوقف عليه عليه تأثير المؤثر، ومن لوازمه أنه يلزم من عدمه عدم المشروط، لكنه لا يلزم من وجوده وجوده.
والفرق بينه وبين الجزء واضح - مع اشتراكهما في الصفات من التوقف، ومن لزوم العدم بعدمهما، وعدم لزوم الوجود بوجودهما - فإن الشرط خارج عن المشروط، والجزء داخل فيه.
ثم الشرط قد يكون شرطا في اقتضاء التأثير، وقد يكون شرطا في فعليته، والأول معتبر في الفاعل، وهو المؤثر، والثاني في القابل، وهو محل التأثير.
وأيضا الشرط كالسبب ينقسم إلى شرط الحكم، وشرط الموضوع:
كالطهارة من الحيض والنفاس، حيث إنها شرط في وجوب الصلاة وجوازها، ويلزم من عدمها نقيض الوجوب والجواز، وهو الحرمة.
وقد يكون الشيء مصداقا للأمرين كالطهارة من الحدث أكبره وأصغره، حيث إنه شرط في صحة الصلاة وتحققها على نحو المطلوبية في الخارج، وشرط في جواز الدخول فيها أيضا بحيث يحرم الدخول فيها بدونها، بل وكذلك الطهارة من الحيض والنفاس أيضا، فإنهما أيضا من شروط الصحة.
229

وكيف كان، فالظاهر أن النسبة بين الأمرين هي العموم من وجه كما في السبب، فتدبر. ومحل النزاع في المقام إنما هو شرط الموضوع.
وأما المانع: فهو من المنع، وهو في اللغة - كما في القاموس - ضد الإعطاء، فالمانع ضد المعطي.
وفي اصطلاح أهل العلم [1]: ما يلزم من وجوده العدم، ولا أثر لعدمه في الوجود، وإن كان مما يتوقف عليه الوجود.
وكيف كان، فهو ينقسم: إلى مانع السبب، ومانع الحكم، والأول إلى مانع سبب الموضوع، ومانع سبب الحكم:
وعرفوا مانع الحكم: بما اشتمل على حكمة تقتضي نقيض الحكم مع بقاء السبب وحكمته، وذلك كالأبوة المانعة من القصاص لاشتمالها على كون الوالد سببا لوجود الولد، وذلك يقتضي نفي القصاص، لئلا يصير الولد سببا لعدمه مع ثبوت القتل الذي هو السبب في القصاص، وبقاء حكمته التي هي الحياة المشار إليها في قوله عز من قائل: ولكم في القصاص حياة ().
وقد يعرف أيضا بأنه الوصف الوجودي الظاهر المنضبط الذي يخل وجوده بحكم السبب مع وجوده وبقاء حكمته.
وعرفوا القسم الثاني من مانع السبب - وهو مانع سبب الحكم -: بأنه ما يشتمل على حكمة تخل بحكمة السبب حتى تفضي إلى زوال السبب، وذلك كالدين المانع من وجوب الخمس في المكاسب لاقتضائه زوال السبب في وجوبه، وهو وجود الفضل - أعني ما يزيد على المئونة - وزوال حكمته التي هي مواساة أهل البيت عليهم السلام بما لا يعود على المالك بالمفسدة، لوقوعه في

[1] بل في العرف العام أيضا، بل لا يبعد كونه كذلك لغة أيضا. لمحرره عفا الله عنه.
230

الفضل، وإغناؤهم بذلك عن أوساخ الناس، إذ لا فضل مع الدين ليواسي به.
ومثله اللعان المانع من توارث الزوجين، لاقتضائه زوال سبب التوارث الذي هو الزوجية، وزوال الحكمة في الميراث التي هي تمام المواصلة، وكذا منعه من التوارث بين الوالد وولده إذا كان اللعان في نفي الولد.
وقد يعرف: بأنه الوصف الوجودي الظاهر المنضبط المستلزم لحكمة تقتضي نقيض حكمة السبب حتى تزيله.
وكيف كان، فمحل الكلام في المقام إنما هو مانع سبب الموضوع، وأما غيره فيقع الكلام فيه في المبادئ الأحكامية. وهو - أي مانع سبب الموضوع - أمر وجودي يخل وجوده بفعلية تأثير السبب في إيجاد الموضوع مع وجود السبب، وبقاء حكم الموضوع، وبقاء حكمة ذلك الحكم، وذلك كنجاسة محل الوضوء أو الغسل، وكرد المالك في البيع الفضولي بناء على كون الإجازة كاشفة لا ناقلة.
وأما المعد: فهو من الإعداد، وهو: لغة - التهيؤ، فهو فيها بمعنى المهيئ - بالكسر - وفي الاصطلاح عرفوه - بما يلزم من مجموع وجوده وعدمه الوجود.
وأما الجزء فواضح، وهو قد يكون جزء للسبب، وقد يكون جزء للمسبب الذي هو الواجب فيما نحن فيه.
وقد يقال: بخروج الثاني عن محل النزاع في المقام معللا بأن الأمر المتعلق بالمركب - الذي هو الواجب - متضمن للأمر بالنسبة إلى كل جزء.
ويتجه عليه: أن الطلب المتعلق بالكل طلب بسيط، وليس له جزء أصلا - لا خارجا ولا ذهنا - حتى ينحل إلى أوامر متعددة، وهذا الطلب البسيط إنما تعلق بالكل - الذي هو عبارة عن تمام الأجزاء - فله تعلق بكل جزء.
وبعبارة أخرى فارسية: اين طلب بسيط روى همه أجزاء رفته است كه هر گوشه از أو تعلق بجزئي گرفته است نه آنكه منحل ميشود بطلبات عديدة [كه] هو يك متعلق بجزئي بأشد زيرا كه انحلال فرع تركب عقلي است وشكى
231

نيست در بساطت طلب مذكور ونه آنكه تعلق دارد بهر يك مستقلا بطور لا بشرط كه هر يك از أجزاء مطلوب بأشد لا بشرط زيرا كه لا بشرطيت در أجزاء خارجية معنا ندارد بجهت اينكه معناى لا بشرط اينست كه صدق داشته بأشد با انضمام شرط نيز، وشكى نيست كه خل صدق ندارد مثلا بر خل ممزوج به أنگبين، بمعنى اينكه صدق بر مجموع كند.
وبالجملة: معنى اللا بشرط أن يكون المركب من ذلك الشيء وغيره أيضا من مصاديق ذلك الشيء، كما يقال - للحيوان المركب مع أحد الفصول المنوعة له -: إنه حيوان.
وبعبارة أخرى: إنه لا بد في الأمر اللا بشرط من صدقه على المجتمع منه مع الشرط أو عدم الشرط، بأن
يكون المركب منه ومن كل منهما من مصاديقه التي يصح حمله عليها، وهذا لا يصح في الأجزاء الخارجية لعدم [صدق] الجزء على الكل في المركبات الخارجية.
هذا، مضافا إلى أن كل جزء من الأجزاء - في الواجبات المتنازع في مقدماتها - إنما يكون مطلوبا بشرط الانضمام إلى سائر الأجزاء.
وكيف كان، فظهر بطلان التعليل بتضمن الأمر بالكل للأمر بالجزء، لما عرفت من عدم تركبه أصلا ومطلقا. نعم، التركب ثابت في متعلقه، لكنه لا يصير منشأ لذلك.
والتحقيق: أن للإجزاء اعتبارين:
أحدهما - أنها عين الكل الواجب، لأنه ليس إلا تلك الأجزاء.
ثانيهما - أنها مقدمة لحصول الكل، نظرا إلى كونه ملحوظا بلحاظ الوحدة، كأن يلاحظ الصلاة - التي هي مركبة من التكبير والقراءة والركوع والسجود إلى آخر الأجزاء - أمرا واحدا، فيكون أجزاؤها مقدمة لحصولها.
232

لا ريب في وجوبها على الأول، فإن الطلب المتعلق بالكل - كما عرفت - إنما يتعلق بجميع الأجزاء، ويأخذ كل طرف منه شيئا منها.
وأما على الثاني فهي قابلة لوقوعها محلا للبحث، فإنها بهذا الاعتبار من أفراد محل النزاع - أعني مقدمة الواجب - لكن الأول لما لم يكن منفكا عنها - فإنه ليس مجرد الاعتبار، بل وصف واقعي للأجزاء - فالوجوب ثابت من هذه الجهة، فتنتفي ثمرة النزاع في وجوبها على الثاني، فيلغى () البحث عن وجوبها.
وكيف كان فكلما اتحدت المقدمة مع ذيها في الوجود فهي لا تليق بالبحث عن وجوبها، لما مر، وما نحن فيه منها.
ومن هنا يظهر انتفاء الثمرة في الخلاف في أجزاء السبب من حيث إنها أجزاء السبب: أما على القول بعدم وجوب السبب، فيلزم عدم وجوبها بالأولى، وأما على وجوبه فيلزم وجوبها من الاعتبار المذكور، وهو اعتبار كونها عين السبب.
ثم المراد بالأجزاء أعم من الأجزاء المادية بحيث تشتمل الهيئة أيضا.
ومرادنا بقولنا: الكل عين تمام الأجزاء جميع أجزائه من المادية والهيئة، وإلا فواضح أن الكل - مطلقا - ليس عين أجزائها المادية كيف كان، بل الهيئة من الأجزاء أيضا في المركبات الخارجية، ضرورة أن السرير ليس عبارة عن أجزائه مطلقا حتى مع تفرقها وانهدام هيئتها السريرية، بل هو هي مع الهيئة المخصوص.
نعم، هو عين الأجزاء المادية في المركبات العقلية، فإن الإنسان - مثلا - عين الحيوان والناطق من دون مدخلية للهيئة المخصوصة للإنسان، فافهم.
إيقاظ: قد حصر بعض المحققين () المقدمة في السبب والشرط، وقد
233

عرفت انقسامها إلى الجزء وعدم المانع والمعد أيضا، فبطل ما ذكره من الحصر.
نعم يمكن أن يقال: المعد ليس قسما مباينا للسبب والشرط، بل قد يكون من الأول، وقد يكون من الثاني، فلا يبطل الحصر من جهته، لكنه يبقى الإشكال بالنسبة إلى الجزء والشرط لعدم تمشي ذلك فيهما.
ويمكن دفعه: بأن الظاهر بل المقطوع به أنه - قدس سره - أراد بالشرط الأعم منه ومن الجزء وعدم المانع.
لكن يتجه عليه أن ذلك جري على خلاف الاصطلاح فإنهم يقابلون الشرط بالجزء وعدم المانع، ويقسمون المقدمة إليه وإليهما أيضا. فتأمل [1].

[1] وجه التأمل: منع اختصاص إطلاق الشرط بما يقابل غير السبب من الجزء وعدم المانع في الاصطلاح بل يمكن دعوى اشتراكه فيه بين ما ذكر وبين الأعم الشامل لجميعها.
نعم، ظهور ما ذكرته عن الإطلاق لا يقدر المنصف على إنكاره، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
234

[في المقدمات العقلية والعادية والشرعية]
ثم إنهم قسموا المقدمة أيضا إلى عقلية وعادية وشرعية، ومرادهم بالشرعية ما يكون جاعلها الشارع، بمعنى أنه لا يتوقف عليها الواجب عقلا ولا عادة.
وبعبارة أخرى: أنه لا ربط ولا ملازمة بينها وبين ذيها بالنظر إلى العقل والعادة إلا أن الشارع قد جعل الملازمة والربط بينهما، لكن على هذا لا يحسن تقابلها بالعقلية والعادية كما لا يخفى، إذ قضية ذلك أن يكون التقسيم باعتبار جعل التوقف، ولا ريب أن العقل والعادة ليس شيء منهما جاعلا للتوقف.
أقول: هذا مضافا إلى عدم استقامة الكلام في الشرعية أيضا، لما حققنا في محله: أن الأحكام الوضعية مما لا يقبل الجعل، بل إنما هي أمور واقعية قد كشف عنها المطلع عليها، فمرجع اشتراط الصلاة بالطهارة إلى أن الشارع قد كشف عن توقف وجود الصلاة بحسب الواقع على الطهارة.
لا الجعل، فالشرعية ما يكون الحاكم بمقدمته الشارع، والعقلية ما يكون الحاكم فيها العقل، وكذلك العادية ما يكون الحاكم فيها العادة.
العادية ما يكون الحاكم فيها العادة.
قلنا: فلا يصح مقابلة العقلية للشرعية، إذ حينئذ تكون الثانية قسما من الأولى.
بيان ذلك: أن المقدمات الشرعية لا تكون مقدمات للواجبات المتوقفة عليها إلا إذا كان الشارع قد اعتبر تلك الواجبات على وجه لا تحصل هي على ذلك الوجه إلا بهاتيك المقدمات، وإلا فلا تكون مقدمات، ولا ريب أن العقل مع ذلك الاعتبار قاض بالتوقف والمقدمية.
235

وإن قيل: إن التقسيم باعتبار الإدراك، بمعنى أن المدرك للتوقف إن كان هو العقل فالمقدمة عقلية، وإن كان هو الشارع فهي شرعية، فلا تدخل الشرعية في العقلية، ضرورة أنه لا سبيل للعقل إلى إدراك التوقف فيها وكشفه عن مقدميتها، وإنما الكاشف عنها هو الشارع لا غير.
قلنا: فلا يصح حينئذ مقابلة العادية للعقلية والشرعية لعدم تمشي الاعتبار المذكور فيها، ضرورة أن العادة ليست مدركة للتوقف، بل إنما هي من القيود المأخوذة في موصوفها، بمعنى أنها من قيود التوقف الثابت في المقدمات العادية لا من الكواشف عنه.
وبعبارة ثالثة: فارسية: مقدمه عاديه آنست كه هر گاه قطع نظر شود از عادت توقف وربطى بين أو وبين ذي المقدمه نباشد أصلا، پس مقدميت أو بملاحظهء عادت خواهد بود، پس بنا بر اين عادت از اعتبارات مقدمه عاديه خواهد بود كه واقع مقدميتش نسبت بملاحظهء أو است نه آنكه در واقع صفت مقدميت را از براي وثابت باشد وعادة از كواشف اين وصف باشد همچنانكه در عقلية وشرعية است [1].
هذا، وكيف كان، فلم يكن التقسيم المذكور باعتبار جامع بين الأقسام، فالأجود إيراد التقسيم على هذا الوجه:
المقدمة: إما يتوقف عليها ذوها في نفس الأمر مع قطع النظر عن ملاحظة شيء آخر، أو يكون توقفه عليها بملاحظة شيء، الثانية هي العادية كما عرفت.

[1] اما در عقليه واضح است واما در شرعيه پس بجهت اين است كه شارع ايجاد وصف توقف در مقدمه نمىكند بلكه چيزى كه از اوست اعتبار تقيد مطلوبش ميباشد بمقدمات شرعيه وبدليل دال بر اين اعتبار كشف از ثبوت توقف مطلوبش بر اين مقدمات مينمايد كه با قطع نظر از اين دليل توقف در واقع ثابت است.
لمحرره عفا الله عنه.
236

والأولى أيضا: إما أن يكون العقل مدركا لمقدميتها مع قطع النظر عن بيان الشارع، أو لا، بل يكون المدرك والكاشف عنها هو الشارع لا غير، فالأولى منهما عقلية، وثانيتهما شرعية.
ومرجع هذا التقسيم إلى اثنين: أولهما باعتبار ثبوت التوقف في الواقع وعدمه، وثانيهما باعتبار الإدراك والكشف، ولا بد من ذلك، وإلا لا يستقيم لو اقتصر على واحد كما عرفت.
237

[في مقدمة الوجود والوجوب والصحة والعلم]
وقد ينقسم المقدمة: إلى مقدمة الوجوب، ومقدمة الوجود، ومقدمة الصحة، ومقدمة العلم:
والمراد بمقدمة الوجود هو مقدمة وجود الفعل المقابل للوجوب والصحة والعلم، وإلا فالكل مقدمات الوجود بالمعنى الأعم كما لا يخفى، والنسبة بينها وبين مقدمة الصحة هي العموم المطلق كما لا يخفى، لأن كل ما هو مقدمة الوجود مقدمة للصحة لا محالة، ولا عكس كليا، لصدق مقدمة الصحة بدون مقدمة الوجود في بعض الموارد، كما في غير الأركان المتوقف عليها صدق أسماء العبادات في العبادات على القول بوضعها للأعم، وكما في شروط الصحة في المعاملات كإجازة المالك في البيع الفضولي ونحوه من شروط الصحة.
نعم، على القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيحة فلا يتصور الانفكاك بينهما حينئذ في العبادات، بل يتساويان في الصدق حينئذ بالنسبة إلى العبادات فينحصر مورد انفكاكهما في المعاملات، لكن على القول بوضعها للأعم كما لا يخفى.
ثم إنه لا إشكال في خروج المقدمة الوجوبية عن محل النزاع في المقام كما يشهد تحريرهم له بمقدمة الواجب، ضرورة أن الواجب إنما هو عنوان للأفعال المتصفة بالوجوب، فلا صدق له على الوجوب أصلا.
هذا، مضافا إلى أنه لم يقع الخلاف من أحد في عدم وجوب مقدمة الوجوب، كما أنه لا إشكال في دخول مقدمتي الوجود والصحة فيه، ضرورة كونهما مقدمتين للواجب الواقع في عنوان الخلاف في المسألة.
238

وأما المقدمة العلمية فقد يقال بخروجها عن محل الخلاف معللا بأن النزاع في وجوب المقدمة إنما هو في وجوبها الشرعي، لا الأعم منه والعقلي، إذ الوجوب العقلي مفروغ عنه في مقدمات الواجبات الشرعية كيف؟ وإنكاره راجع إلى نفي مقدميتها، إذ لا معنى للوجوب العقلي إلا للزوم الإتيان بالمقدمة في تحصيل ذيها وكونها لا بد منها عند العقل، وليس هذا إلا معنى المقدمة، وبعد فرض شيء مقدمة وتوقف ذلك الشيء عليها لا يعقل النزاع فيها من تلك الجهة لأدائه إلى التناقض.
ومن الواضح أنه لا يعقل الوجوب الشرعي في المقدمة العلمية، ضرورة أن وجوب كل مقدمة إنما يتبع وجوب ذيها في الوجود والكيفية، ومن المعلوم عدم وجوب تحصيل العلم بالمكلف به شرعا، وإنما هو بحكم العقل والبراءة من باب الإرشاد، نظرا إلى لزوم تحصيل الأمن من تبعة العقاب بعد العلم باشتغال الذمة بتكليف من المولى.
وأخبار الاحتياط أيضا واردة على طبق حكم العقل، فإذا لم يكن لذي المقدمة - وهو تحصيل العلم - وجوب شرعا فلا يعقل كون مقدمته واجبة شرعا، فلا يعقل النزاع فيها من تلك الجهة فهي على وجوبها العقلي الذي لا نزاع فيه مطلقا حتى في مقدمات الواجبات الشرعية.
فحاصل الكلام بالأخرة مرجعه إلى دعوى اختصاص محل النزاع بمقدمات الواجبات الشرعية وبوجوبها الشرعي، ومقتضى ذلك خروج المقدمة العلمية عن موضوع محل البحث وعدم كونها من مصاديقه.
اللهم إلا أن يلتزم بأحد الأمرين:
أحدهما - دعوى وجوب تحصيل العلم الذي هو ذو المقدمة شرعا، نظرا إلى أخبار الاحتياط، أو إلى خصوص ما ورد في مطاوي أخبار الاستصحاب من الأمر بتحصيل اليقين، بأن يدعى استفادة الوجوب شرعا من أحدهما أو كليهما
239

حتى تدخل مقدمته في موضوع محل النزاع.
وثانيهما - دعوى عموم النزاع بالنسبة إلى مقدمات الواجبات العقلية أيضا بتقريب: أن النزاع إنما هو في أنه هل يلزم من وجوب شيء وجوب مقدمته - إن شرعا فشرعا، وإن عقلا فعقلا. تبعا لوجوب ذلك الشيء - أو لا؟ بمعنى أنه هل يجب عند العقل أن يتوجه من الأمر بذي المقدمة أمر آخر بالنسبة إلى المقدمة من جهة كونها مقدمة لما أمر به، أو لا؟.
وبعبارة أخرى فارسية:
چيزى وبين إيجاب مقدمهء أو، بمعنى اينكه بايد [با] أمر بذي المقدمة أمر ديگري بمقدمه كرده بأشد از روي أمرش بذي المقدمة يا نه؟ فإذا كان وجوب ذي المقدمة شرعيا فيقال: إنه هل يحكم العقل بلزوم صدور طلب آخر من الشارع بالمقدمة من جهة أمره بذيها، أو لا؟ وإذا كان عقليا فيقال: إنه كما يحكم العقل بوجوب ذي المقدمة فهل يحكم من جهته بوجوب المقدمة أيضا - بمعنى أنه كما يلزم بذيها فهل يلزم بها أيضا من جهة إلزامه بذيها - أو لا؟ وهذا ليس من معنى المقدمة في شيء حتى يقال: إنه لا يقبل بوقوعه محلا للنزاع، إذ معنى حكمه بالمقدمية إنما هو جزمه بالتوقف من غير اعتبار إلزام منه، ومعنى إيجابه المقدمة إلزامه بإيجادها كما يلزم بتحصيل ذيها.
هذا، لكن لا يخفى بعد الأول عن الإنصاف، وأما الثاني فليس ببعيد كل البعد، لكن عليه يشكل دعوى دخول المقدمة العلمية [1] بجميع أقسامها في محل

[1] المقدمة العلمية على قسمين:
أحدهما - ما عرفت.
وثانيهما - ما تكون مغايرة لذيها ذاتا واعتبارا، كما في غسل جزء من غير موضع الوضوء - مثلا - متصل بالجزء الأخير منه لتحصيل اليقين بغسل موضع الوضوء. لمحرره عفا الله عنه.
240

الخلاف، إذ لا يخفى أنها قد تكون متحدة مع ذيها بالذات ومغايرة له بالاعتبار، كما في الصلوات إلى أربع جهات، وكالجمع بين القصر والإتمام أو الظهر والجمعة عند إجمال المكلف به.
ولقد قدمنا لك سابقا في الكلام في دخول المقدمات الداخلية في محل النزاع أو خروجها عنه: أنه إذا صارت المقدمة حالها كذلك - كما في الأجزاء، وكما في هذا القسم من المقدمة العلمية - فلا ثمرة في البحث فيها، فلا تليق هي للنزاع.
ولذا ادعى بعض الأساطين كالفاضل التوني () خروج القسم المذكور - من المقدمة العلمية - عن محل الخلاف معللا: بأن الإتيان بها عين الإتيان بالواجب، فلا يعقل النزاع في وجوبها، وعلل أيضا: بكون وجوب ذلك القسم منصوصا عليه في بعض الأخبار.
لكن الظاهر منه - قدس سره - بقرينة تعليله الثاني دعوى وجوبها الشرعي، وقد عرفت ما فيه [1] من أنه يتوقف على كون وجوب ذيها شرعيا، وقد مر خلافه. وأيضا لا يخفى أن تعليله الثاني يخرجها عن محل النزاع، إذ النزاع إنما هو في الوجوب التبعي الحاصل من الأمر بذي المقدمة، وعلى ما ذكره من كونه منصوصا عليه يكون وجوبها أصليا، فيدخل في الواجبات الشرعية، ويخرج

[1] وأورد عليه بذلك الإيراد السيد صدر الدين الشارح للوافية () على ما حكي عنه. لمحرره عفا الله عنه.
241

عن مقدمة الواجب، إذ حينئذ هي نفس الواجب. هذا تمام الكلام في لفظ المقدمة الواقع في عنوان البحث. واما الواجب فتعريفه لا حاجة لنا [1] إليه، وإنما المهم التعرض لأقسامه، فنقول:
قد ينقسم الواجب إلى مطلق ومشروط ويعبر عن الثاني بالمقيد أيضا،
ولا ريب أنه لم يثبت اصطلاح خاص منهم في خصوص الواجب المطلق والمقيد، بل الحال فيهما كسائر
المطلقات والمقيدات، ولا مرية أن الإطلاق والتقييد أمران إضافيان. فقد يلاحظان بالنسبة إلى كل شيء بطريق الإيجاب الكلي فيهما، لكن لا شبهة في عدم تحقق مصداق لهما على هذا التقدير في الخارج: أما المشروط بهذا المعنى فواضح، وأما المطلق فكذلك أيضا، ضرورة أنه ما من واجب إلا وهو مشروط بالشرائط العامة كالبلوغ والقدرة والعقل.
وقد يلاحظان أيضا بطريق عموم المتعلق، لكن بعد إخراج الشرائط العامة، فالمطلق ما لم يقيد وجوبه بشيء سواها، والمقيد بخلافه.
وقد يلاحظان بالنسبة إلى كل مقدمة، فيكون الواجب مطلقا بالنسبة إلى بعض المقدمات ومقيدا بالنسبة إلى الأخرى، ولعل الأخير أجود.
وإلى الثاني ينظر من فسر المطلق بما يجب في كل وقت وعلى كل حال في كل وقت قدره الشارع إلا لمانع على ما يظهر منه كما لا يخفى.

[1] وإن شئت إجماله فنقول:
إنه ما يكون تركه منشأ لاستحقاق العقاب في الجملة، فيشمل الواجب التخييري والغيري أيضا، لأن ترك الأول في صورة اجتماعه مع ترك الفرد الآخر موجب لاستحقاقه بلا شبهة، والثاني موجب له مطلقا، فإن تركه مستلزم لترك ذي المقدمة الموجب له.
وكيف كان، فيصدق على كل واحد منهما أنه ما يكون تركه منشأ لما ذكر في الجملة، وهذا أجود ما يعرف به الواجب. لمحرره عفا الله عنه.
242

قال التفتازاني في شرح الشرح (): (قد فسر الواجب المطلق بما يجب في كل وقت وعلى كل حال، فنوقض بالصلاة، فزيد: (في كل وقت قدره الشارع)، فنوقض بصلاة الحائض، فزيد: (إلا بمانع). انتهى كلامه.
لكن الفاضل المذكور تبعا للعضدي حمله على الوجه الأخير، فراجع كلامهما.
ثم إن الإطلاق والتقييد من الأوصاف - القائمة بالطلب الكامن في نفس الآمر - التي يعتبرها الآمر في طلبه، وتسمية الواجب بالمطلق أو المقيد باعتبار اتصاف الطلب المتعلق به بأحد هذين الاعتبارين في نفس الآمر فما لم يزل أحد هذين لم يختلف الاسم الذي سمي به الواجب بذلك الاعتبار.
فمن هنا ظهر فساد ما قد قيل: من أن الواجب المشروط يصير مطلقا عند حصول شرطه، إذ بحصوله لا يزول ذلك الاعتبار الذي حصل للطلب في نفس الآمر، فهو الآن يصدق عليه أنه ما علق وجوبه على أمر، وليس المشروط إلا هذا.
ثم إن الواجب هل هو حقيقة في المطلق خاصة، أو في الأعم منه ومن المشروط؟ الحق هو الثاني، نظرا إلى أنه من المشتقات، وقد حققنا في محله أنها حقيقة فيما تلبس بالمبدأ حال النسبة، وسواء كان المبدأ مطلقا أو مقيدا، ولا ريب أن وجوب الحج المقيد بقيد الاستطاعة ثابت فعلا لمن لم يستطع بعد، فيكون الحج واجبا بهذا الوجوب المقيد بذلك القيد. نعم، لا يطلق عليه الآن أنه حقيقة واجب بقول مطلق، لعدم اتصافه حينئذ بالمبدأ كذلك، فيكون مجازا كما في سائر المشتقات المطلقة على من لم يتلبس بعد بمبادئها.
243

ثم إن الوجوب المطلق والمشروط هل هما من أفراد المطلق والمقيد المعروفين، بأن يكون الأول كليا والثاني فردا منه، أو لا؟ الحق هو الثاني، لأن الظاهر أن هيئة الأمر ليست موضوعة للطلب بطريق عموم الموضوع له كما في المصادر وسائر أسماء الأجناس بل كان بطريق عموم الوضع وخصوص الموضوع له كما في المبهمات، فيكون وضعها حرفيا، فيكون معناه هي الطلبات الجزئية الموجودة في الخارج من الطالبين، غاية الأمر أنه لم يعتبر في وضعها خصوصية الطالبين وان كان المعنى الموجود لا ينفك عنها، فيكون معنى الطلب المطلق هي الطلبات الجزئية الحقيقية الغير المقيدة، ومعنى الطلب المشروط هي الطلبات الجزئية الحقيقية المقيدة بقيد الاشتراط، أي الموجودة بتلك الخصوصية، فيكون معناهما حقيقة من قبيل المتباينين. نعم، هما نظير المطلق والمقيد، حيث إن الأمر المطلق يفيد جزء من معنى الأمر المشروط، وهو يفيد ذلك الجزء مع خصوصية زائدة بضميمة قيد الاشتراط، فيكون إفادة الطلب المشروط بدالين: أحدهما نفس الأمر الدال على نفس الطلب، والآخر هو قيد الاشتراط، فيستفاد من مجموعهما الطلب المقيد كما في موارد التقييد في المقيدات. وإذا عرفت ذلك كله فاعلم: أن النزاع في المقام - كما عرفت سابقا - في المقدمات الوجودية دون الوجوبية، لكن الكلام في أنه يعم جميع المقدمات الوجودية حتى التي يتوقف عليها وجود الواجب المشروط وجوبه بأمر آخر مع عدم حصول ذلك الأمر المعلق عليه بعد، أو يختص بالتي تنجز وجوب ذيها إما لعدم اشتراطه بشيء أصلا، أو معه مع حصول ذلك الشيء المعلق عليه:
ذهب بعضهم إلى الثاني محتجا: بأنه لا يعقل وجوب المقدمة قبل وجوب
244

ذيها، لأنه إنما يجيء من جهته، ويكون تابعا له، وما لم يحصل المتبوع يستحيل وجود التابع له، فلا يعقل النزاع في المقدمات التي لم يجب ذوها بعد. هذا حاصل استدلاله.
وبشهادة عنوان البحث لذلك، فإن لفظ الواجب ظاهر في المطلق إما بالوضع أو الانصراف، مضافا إلى تصريح بعضهم بتقيده بالمطلق وإن كان القيد غير محتاج إليه لكفاية ظهور لفظ الواجب في المطلق عند الإطلاق.
هذا، لكن الحق إمكان جريان النزاع في ذلك القسم أيضا، ويتجه على ذلك البعض أن المستحيل إنما هو فعلية وجوب المقدمة قبل فعلية وجوب ذيها وأما وجوبها على نحو وجوب ذيها - إن مطلقا فمطلقا، وإن مشروطا فمشروطا - فلا، بل هذا هو الحق كما لا يخفى على المتأمل.
هذا ما في الوجه الأول.
وأما الثاني ففيه: أن الظاهر أن إيراد لفظ الواجب المضاف إليه لفظ المقدمة المتنازع فيها إنما هو لإخراج المقدمات الوجوبية - كما مرت الإشارة إليه - وأما تقييد بعض إياه بالمطلق ففي الاستشهاد به أيضا نظر، لاحتمال أن يراد به المطلق بالمعنى الأخير من المعاني الثلاثة، فيكون مراده أن النزاع في مقدمة الواجب المطلق، أي في مقدمة وجودية للواجب لا يتوقف وجوبه عليها، ولعله الظاهر.
هذا، ثم إنه يرد على هذا البعض أن تقييده إياه بالمطلق - مع أنه غير محتاج إليه - إن كان لإخراج المقدمات الوجوبية فهي غير متوهمة الدخول، وإن جيء به لإخراج المقدمات الوجودية للواجب المشروط ففيه ما عرفت من لزوم وجوبها في محل النزاع.
245

الثالث ()
- قد ذكرنا أن الواجب حقيقة في المشروط أيضا بمعنى أنه للأعم منه والمطلق ()، لا للأخير فقط، فاعلم أن صيغة الأمر أيضا بحسب الوضع حقيقة في ذلك القدر المشترك، وهو مطلق الطلب، وكذا ما يفيد معناها من المواد كمادة الوجوب والأمر.
لكن الأمر عند الإطلاق ظاهر في الوجوب المطلق، ولم يظهر في ذلك مخالف عدا السيد () - قدس سره - على ما يظهر من كلامه - في بادئ الرأي - من تعليله عدم الحكم بوجوب الشرط لورود الأمر في الشريعة على ضربين، ولم يعلم كون الأمر الوارد المجرد عن القرينة أنه أيهما بالنسبة إلى الشرط، فيجب التوقف لاحتمال كونه مشروطا بالنسبة إليه. هذا حاصل استدلاله.
وجه دلالته على ما قلنا: أنه لو كان قائلا بظهور الأمر في الإطلاق لما بقي لما ذكره وجه، بل كان عليه أن يبني ويحكم على الإطلاق عند الشك - فيما إذا كان الوجوب بأمر لفظي - آخذا بأصالة الإطلاق كما فعل
المشهور.
لكن الإنصاف: ما فهمه بعض المحققين من المتأخرين () من عبارته - قدس سره - من أن مراده - قدس سره - إنما هو التوقف في وجوب الشرط فيما إذا ثبت شرطيته وتقيد الأمر به في الجملة وشك في أنه قيد وشرط للوجوب أو لذات الواجب وشرط لصحته، لا فيما إذا كان أصل الاشتراط مشكوكا حتى يخالف المشهور، فحينئذ يوافق المشهور من جهة الحكم بالإطلاق في تلك الصورة سواء كان الشك في كون الشيء شرطا للوجوب أو
246

للوجود وذات الواجب أخذا بأصالة الإطلاق، والتوقف في هذه الصورة المذكورة، وهي ما علم فيها أصل الاشتراط في الجملة، حيث أنه لا أصل لفظيا سليما عن المعارض يقتضي إطلاق الأمر حينئذ له، فان أصالة الإطلاق في هيئة الأمر وإن كانت تقتضي ذلك إلا أنها معارضة بأصالة الإطلاق في المادة المعروضة لها، ضرورة أن الأمر المشكوك في كونه شرطا وقيدا للهيئة أو للمادة لو لم يكن قيدا للهيئة لزم كونه قيدا للمادة، إذ المفروض دوران الأمر بين كونه قيدا لهذه أو لتلك، ولم يعلم كونه قيدا للمادة، كما لم يعلم كونه قيدا للهيئة، فتجري أصالة الإطلاق من جهة المادة كما تجري من جهة الهيئة، فتتعارضان، ولا ترجيح لإحداهما على الأخرى.
نعم، قد يتخيل الترجيح لأصالة الإطلاق في الهيئة من وجهين:
أحدهما - أنه لو قلنا بتقييد الهيئة لا تفيدنا حينئذ أصالة الإطلاق في المادة في شيء أصلا، ضرورة أن إطلاق المادة لا يثبت وجوب الفعل في صورة فقد الشرط، بل ولا جوازه أيضا، حيث إن الجواز أيضا لا بد له من دليل، ومجرد إطلاق المادة لا ينهض عليه، والمفروض انحصار الدليل في الأمر، والمفروض تقيده بصورة تحقق الشرط، فلا دلالة له على شيء عند فقده، فتعرى أصالة الإطلاق في المادة عن الفائدة حينئذ بالمرة.
هذا بخلاف ما لو قلنا بالعكس، أي الحكم بتقييد المادة وكون الشرط شرطا لها، فإن إطلاق الهيئة حينئذ يثبت وجوب ما يتوقف عليه الواجب فعلا لكونه حينئذ مقدمة للواجب المطلق، فيحكم بأصالة الإطلاق فيها على وجوب كل ما يتوقف عليه الواجب فعلا على سبيل التنجيز، فيكون العكس المذكور أولى.
وثانيهما - أن مفاد الهيئة إنما هو العموم الاستغراقي بالنسبة إلى صورتي حصول الشرط وعدمه بمعنى أنها تقتضي وجوب الإتيان بالفعل
247

الواجب على كل من تقديري حصوله وفقده، ومفاد المادة إنما هو العموم البدلي، حيث إن مقتضى تعليق الوجوب على الطبيعة المطلقة إنما هو وجوب أي فرد على سبيل التخيير، لا كل فرد، وإذا دار الأمر بين هذين العمومين الأول أولى بالترجيح، لكونه أقوى.
هذا، وفي كل من الوجهين نظر بل منع:
أما الأول - فلعدم صلاحية أمثاله للاعتماد عليها فيما إذا كانت مباني الأحكام الشرعية، لكونها مجرد استحسان.
وأما الثاني - فلتوجه المنع على الكبرى [1] فيما إذا كان العمومان المذكوران كلاهما لفظيين كلفظي (كل وأي)، فكيف بما إذا كانا من جهة الحكمة وعدم البيان كما في المقام كما لا يخفى؟ وكيف كان، فالتوجيه المذكور لكلام السيد المتقدم غير بعيد بل ظاهر، وذلك لأنه - قدس سره - إنما صار إلى ما حكينا عنه من التوقف في وجوب الشرط بعد إحراز كون الشيء شرطا في الجملة، ضرورة أنه توقف في الشرط، وهو لا يكون إلا بعد إحراز شرطيته في الجملة، وإلا لما بقي وجه للتعبير عنه بلفظ الشرط.
هذا، مضافا إلى أنه يبعد التزام السيد بعدم اعتبار أصالة الإطلاق في صورة الشك في أصل الشرطية غاية البعد، بحيث كاد أن يقطع بعدمه لعدم حكاية أحد هذا القول من أحد، فكيف يمكن نسبته إلى مثل السيد - قدس سره -؟.
ثم إنه لا بد من حمل كلامه - قدس سره - على الشروط الشرعية دون الأعم منها و [من] العقلية، فإن العقلية إن علم تقيد وجود الواجب بها ويكون

[1] أي أولوية العموم الاستغراقي من البدلي بالترجيح. لمحرره عفا الله عنه.
248

الشك في تقيد الوجوب بها أيضا شكا بدويا، فلا بد من الأخذ بإطلاق الأمر لا التوقف، والشاهد على ذلك هو الاستبعاد المذكور.
هذا، لكن يتجه على السيد - قدس سره - حينئذ أنه لا وجه إذن لرده على القوم بأنهم حكموا بوجوب مقدمة الواجب المطلق مطلقا، فإن مراد القوم - كما مرت الإشارة إليه - من الحكم بما ذكر إنما هو في غير الصورة المشار إليها التي حملنا كلام السيد عليها، وأما فيها فهم أيضا متوقفون كالسيد، فلا مخالفة لهم للسيد في المذهب، حيث إن السيد - قدس سره - أيضا يحكم بوجوب الشرط في غير الصورة المذكورة، كما يحكم به القوم فكأنه - قدس سره - غفل عن مرادهم، وفهم إطلاق كلامهم من الحكم بوجوب الشرط بالنسبة إلى الصورة المذكورة أيضا.
وكيف كان فعلى هذا يصير النزاع بينه وبين القوم لفظيا، فافهم.
تنبيهات:
الأول:
قد ذكرنا: أن الأمر حقيقة في المشروط كما أنه حقيقة في المطلق بمعنى أنه للقدر المشترك بينهما، فيطلق على كل منهما من جهة أنه فرد منه.
وبعبارة أخرى: إن صيغة الأمر لما كان وضعها حرفيا فالموضوع له إنما هي الجزئيات الخارجية الحقيقية لا محالة، لكن نقول: إن الجزئيات الخارجية وإن كانت لا تنفك عن إحدى الخصوصيتين - أعني الإطلاق والتقييد - لكنها لم توضع لها بهاتين الخصوصيتين، بل للحصة الموجودة من مطلق الطلب المتحدة مع إحدى تينك الخصوصيتين، فيطلق على كل جزئي من جزئيات الطلب الموجود بإحدى تينك حقيقة من باب اتحاده [مع] الحصة () الموجودة في ضمنه التي هي
249

الموضوع [له] ()، فيكون ذلك الإطلاق نظير إطلاق الكلي على الفرد [1]، كما لا يخفى.
ثم إنا وإن قلنا بكون الأمر حقيقة في المشروط أيضا إلا أنه عند الإطلاق ظاهر حينئذ كما مر [في] الوجوب المطلق جدا، فهل هذا من جهة عدم البيان، فيحتاج إلى إحراز كون الخطاب في مقام بيان تمام المقصود، أو أنه من جهة عدم ذكر القيد، فيكون ظاهرا في الإطلاق من أول الأمر؟ وجهان: أولهما للثاني، وثانيهما للأول:
أما الوجه الأول فبيانه: أنه لا مرية أن الإطلاق والاشتراط إنما هما من صفات الطلب، والطلب ليس إلا البعث والتحريك، وهو ليس إلا بلفظ الأمر، فيكون الطلب هو لفظ الأمر المطلق بعنوان التحريك، فيكون الإطلاق والاشتراط من صفات اللفظ. ولا ريب أن اللفظ الموجود في الخارج إما يذكر معه قيد فهو المشروط، وإلا فهو المطلق، فعلى هذا لا يعقل تحقق طلب في الخارج يكون غير هذين، فينحصر مصداق الطلب فيهما جدا.
فعلى هذا إذا ورد أمر غير مقيد لفظه بشيء فهو متعين في المطلق، فلا حاجة في حمله عليه إلى إحراز مقدمات دليل الحكمة التي منها كون الخطاب واردا في مقام البيان كما هو الحال في المطلقات، بل الخطاب ظاهر أول الأمر في المطلق من جهة عدم ذكر القيد.

[1] وإنما قلنا: نظير إطلاق الكلي على الفرد، ولم نقل منه، لأن المستعمل فيه ثمة إنما هو المفهوم الكلي، مع إفادة الخصوصية بدليل آخر، بخلاف ما نحن فيه، فإنه فيه جزئي حقيقي. نعم، يشتركان من جهة تعدد الدال والمدلول فيهما، حيث إن الخصوصية في كلا المقامين تستفاد من الخارج، وهذا وجه كونه نظير إطلاق الكلي على الفرد. فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
250

والحاصل: أن الطلب من مقولة الإيجاد، ولا ريب أن إيجاد البعث والتحريك: إما مقيد بشيء، أو مجرد: الأول هو المشروط، والثاني هو المطلق، وإنما يتصور الشق الثالث - وهو القدر المشترك المجرد عن الخصوصيتين - في مقام الإخبار كما في المطلقات لجواز إظهار نفس الماهية المطلقة.
وأما في الإنشاء - الذي هو من مقولة الإيجاد - فلا يعقل فيه ذلك، لأن القدر المشترك لا يمكن حصوله في الخارج بدون إحدى الخصوصيتين.
ثم لما كانت هاتان الخصوصيتان من قبيل الأقل والأكثر وأن فصل إحداهما عدم فصل الأخرى، فبعدم التقييد يتعين الطلب في المطلق، فيكون حمله عليه من جهة ظهوره فيه من باب عدم ذكر القيد. هذا حاصل الوجه الأول.
وأما الوجه الثاني فبيانه: أنا نمنع انحصار فرد الطلب في الوجود الخارجي في المطلق والمشروط، بل يمكن أن يوجد المتكلم بالصيغة الأمر المبهم المردد بينهما، ويقصد به ذلك.
نعم، الترديد لا يعقل في ضميره، فإن الطلب الكامن فيه أحد الأمرين لا محالة، وورود الأمر على هذا النحو فوق حد الإحصاء كما يظهر للمتتبع في الأخبار، فإن أوامر الشروط والأجزاء أكثرها مطلقة من حيث اللفظ مع القطع باشتراط تلك الأجزاء أو الشرائط بوجوب المركب أو المشروط.
وكيف كان فالغرض في تلك الأوامر ليس إلا إبراز الطلب وإيجاده في الجملة. فعلى هذا فلا يمكن حمل كل أمر مطلق بمجرد إطلاقه اللفظي على الوجوب المطلق من أول الأمر، بل لا بد من إحراز كون الخطاب واردا في مقام البيان حتى يحمل إطلاقه على الإطلاق حقيقة، وإلا فيمكن أن يكون من قبيل تلك الأوامر المشار إليها.
هذا، ويمكن إدخال الأوامر المشار إليها في أحد الأمرين من المطلق والمشروط بالتزام إضمار فيها وجعل المضمر: إما قيدا للهيئة، فتدخل تلك في
251

الأوامر المشروطة، أو للمادة فتدخل في المطلقة، فإن الإضمار في قوة الذكر كما لا يخفى. فيقال في مثل قوله عليه السلام: (إن بلت فتوضأ، وإن نمت فتوضأ ()، وإن صليت فاقرأ الفاتحة) () مثلا: إن التقدير: إن بلت مع دخول وقت الصلاة واجتماع شرائط وجوبها فتوضأ، وهكذا في نظائره، فتدخل في المشروط لكون القيد المقدر حينئذ قيدا للهيئة كما لا يخفى.
أو أن التقدير: إن بلت فتوضأ حال دخول الوقت ووجوب الصلاة، وهكذا إلى آخر الشرائط، فتدخل في المطلقة، فإن الأمر حينئذ مطلق، ويكون القيد المقدر من قيود المادة المأمور بها، ومن ظروف امتثال الأمر.
هذا، لكن يشكل التزام الإضمار بكلا وجهيه: بأنه إنما يصح إذا كان الأمر واردا في مقام البيان من جهة الإطلاق والاشتراط، وإلا لما [كان] وجه للتقدير الذي هو في قوة الذكر، ونحن نقطع بأن أمثال تلك الأوامر ليس المقصود منها إلا مجرد بيان شرطية تلك الأمور أو جزئيتها في الجملة وليست في مقام بيان الإطلاق والاشتراط قطعا.
وبعبارة أخرى: إنها في مقام بيان اعتبار تلك الأمور نفسها في الواجبات مع قطع النظر عن الأمور الأخرى، وبيان الإطلاق والاشتراط راجع إلى تعرض حال الأمور الأخرى أيضا.
وكيف كان فالوجه غير بعيد، وعليه يكون الحال في المقام كالحال في المطلقات من جهة توقف الحكم بالإطلاق على إحراز كون الخطاب واردا في مقام البيان.
252

نعم، الفرق بين المقام وبين المطلقات أن الأمر المطلق إذا كان في مقام البيان إنما يحمل على أحد فردي طبيعة الطلب خاصة بخلاف المطلقات، حيث إنها تحمل حينئذ على العموم بالنسبة إلى جميع أفراد الطبيعة إما بدلا أو استغراقا على حسب اختلاف المقامات. فافهم.
الثاني ()
- قد أشرنا سابقا إلى أنه يمتنع وجوب المقدمة على سبيل التنجز والفعلية قبل وجوب ذيها كذلك، فنقول:
إن الدليل على ذلك - كما مرت الإشارة إليه - أن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها ذاتا وصفة، بمعنى أنه إن لم يجب مطلقا لم يجب هي كذلك، وإن وجب على وجه مخصوص فتجب هي حينئذ كذلك، لأن وجوبها معلول من وجوبه ذاتا وصفة، فلا يعقل وجوبها - ولو في الجملة - بدون وجوبه أصلا، لأنه ينافي توقف وجوبها على وجوبه ذاتا، وكذا لا يعقل وجوبها على صفة مخصوصة مخالفة لصفة وجوبه، لأنه ينافي توقف صفة وجوبها على صفة وجوبه، فلا يعقل وجوبها على سبيل الإطلاق والتنجز، مع كون وجوبه مشروطا لم يتنجز بعد، كما أنه لا يعقل وجوبها على نحو الاشتراط مع وجوبه على سبيل الإطلاق والتنجز.
هذا بناء على القول بوجوب المقدمة عقلا.
وأما على القول بعدمه فالحق - أيضا - امتناع وجوبها قبل وجوب ذيها ولو بخطاب أصلي مستقل، فإن أصالة الخطاب لا تجدي في شيء أصلا، ضرورة أن الأمر بالمقدمة سواء كان من العقل أو بخطاب أصلي من الشارع انما هو غيري البتة، ولا يعقل الأمر الغيري بشيء قبل وجوب ذلك الغير، ضرورة أن الداعي إلى الأمر الغيري إنما هو الحب الحتمي بحصول ذلك الغير وعدم الرضا بتركه، فإذ ليس فليس.
253

وكيف كان فبعد إحراز كون شيء مقدمة لآخر لا يعقل الطلب التنجيزي من الآمر بالنسبة إليه قبل طلبه لذيه كذلك ولو بخطاب أصلي.
فعلى هذا فما يرى في بعض الموارد مما يكون كذلك على الظاهر لا بد () من تأويله إلى غير ذلك الوجه جدا.
وكيف كان فلم أظن بأحد القول بجواز ذلك بطريق الإيجاب الكلي وان كان الوجه فيه وفي الجزئي واحدا ولا يقبل التخصيص والتفصيل.
نعم، حكي عن جماعة - منهم صاحب الذخيرة () والمحقق الخوانساري () - الجواز فيما إذا علم المكلف أو ظن بوجوب ذي المقدمة في وقته، حيث زعموا أنه لا مانع منه حينئذ.
ويدفعه: أن الواجب الغيري إنما يجب لأجل وجوب نفس ذلك الغير، لا لأجل العلم أو الظن بوجوبه في وقته، والجواز المدعى إنما يتم على الثاني، وهم لا يقولون به، فكيف بغيرهم؟ وأما على الأول فقد عرفت امتناعه، فبطل كون العلم أو الظن فارقا.
[المقدمات المفوتة]
ثم إنه على ما حققنا يشكل الأمر في موارد [1] وقعت في الشرع مما وجب فيها المقدمة على سبيل الفعلية والتنجز قبل وجوب ذيها كذلك على الظاهر:

[1] ثم إن من تلك الموارد وجوب حفظ الماء للطهارة قبل مجيء وقت العبادة على المشهور ظاهرا.
لمحرره عفا الله عنه.
254

منها: وجوب تعلم المسائل العملية قبل دخول وقت العبادات.
ومنها: وجوب إبقاء القدرة على إتيان الواجب إلى وقته.
ومنها: وجوب الغسل قبل الصبح على الصائم، فإن الظاهر من الأدلة [1] كون الوقت شرطا لوجوب العبادة في مثل الصلاة والصوم أيضا [2].
ومنها: وجوب حفظ الماء للغسل أو الوضوء أو لإزالة الخبث قبل الوقت إذا علم بفقده بعده.
ولا ريب أن العلم بالمسألة والقدرة على العبادة والغسل من مقدمات تلك العبادات، فكيف التوفيق بين وجوبها قبل وجوب ذيها وبين ما حققنا؟ فقد وقع جمع من الأعلام في توجيه المرام والتوفيق في المقام في حيص وبيص.
ولقد تفصى بعضهم عن الإشكال بدعوى كون وجوب تلك الأمور نفسيا لا غيريا.
ويتجه عليه: أن الوجوب النفسي لا يمكن ثبوته لتلك بالأوامر المتعلقة بنفس العبادات كما لا يخفى، بل لا بد له من أمر آخر ولا يخفى عدمه.
اللهم إلا أن يدعي الإجماع على وجوبها كما هو الظاهر.
لكن يتجه عليه حينئذ: أنا نقطع أن مناط حكم المجمعين بوجوبها إنما هو كونها مقدمات لتلك الواجبات.
سلمنا، لكن يتجه عليه على تقدير الوجوب النفسي: أنه يلزم أن يكون

[1] كقوله عليه السلام: «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة» () لمحرره عفا الله عنه.
[2] قولنا: (أيضا) إشارة إلى أن المستفاد من الأدلة كون الوقت شرطا للوجوب والصحة معا، لكن الغرض في المقام التعرض للأول. لمحرره عفا الله عنه.
255

العقاب على ترك تلك الأمور لنفسها ولأجلها، كما هو الشأن في سائر الواجبات النفسية، وهو خلاف الاتفاق في المقام ظاهرا.
اللهم إلا أن يمنع الاتفاق على ذلك، ويقال: إن الواجب النفسي هو ما يعاقب على مخالفة الأمر المتعلق به سواء كان الحكمة في تعلق الأمر به هو المصلحة الكامنة في نفسه أو مصلحة أخرى، ككون المكلف أهلا وقابلا للتكليف بتلك الواجبات، ضرورة أنه لو لم يحصل تلك الأمور إلى وقت تلك الواجبات لا يقدر على تلك الواجبات على ما هي عليه عند الشارع لتوقفها على تلك الأمور المتعذرة عليه.
ويفترق الثاني عن الواجب الغيري بكون العقاب على نفس ذلك، بخلاف الواجب الغيري فإن العقاب فيه إنما هو لأجل مخالفة الأمر المتعلق بذلك الغير، فيقال حينئذ: إن ما نحن فيه وإن لم يكن من القسم الأول من ذينك، إلا أنه من القسم الثاني، فيدخل في الواجب النفسي، فتأمل.
ومن هنا يندفع ما ربما يقال: من أنه على تقدير كونها واجبات نفسية يلزم ان يكون تلك العبادات صحيحة بدونها لخروجها حينئذ عن المقدمة وهو خلاف الضرورة.
وتوضيح الدفع: أنه لا منافاة بين المقدمية والوجوب النفسي، فإن الوجوب النفسي ليس لأجل الأمر بذيها، بل هو لأمر آخر.
هذا، وقد تفصى بعضهم () عن الإشكال بدعوى إطلاق وجوب تلك الواجبات التي تلك الأمور مقدمات لها بالنسبة إلى وقت الفعل، فيكون وجوب تلك الأمور قبل الوقت على طبق القاعدة لكونها حينئذ مقدمات للواجب المطلق بتقريب:
256

أن الواجب: إما يكون وجوبه مشروطا بحصول () شيء آخر، أو لا: الأول هو المشروط الذي لا يجب مقدماته على سبيل التنجز إلا بعد حصول شرط الوجوب، والثاني هو المطلق، وهو على قسمين:
أحدهما - ما يكون وقت فعله متحدا مع زمان الأمر به، وهو المطلق بالمعنى الأخص.
وثانيهما - ما يكون وقت فعله متأخرا عن زمان الأمر، بحيث يكون الطلب حاصلا الآن بالنسبة إليه إلا أن الوقت الخاص المتأخر ظرف لأدائه وشرط لصحته، ويقال له المعلق.
وكيف كان، فالمعلق قسم من المطلق الذي يجب فيه تحصيل المقدمات بمجرد ورود الأمر به، وما نحن فيه من هذا الباب فإن الوقت المعتبر فيه إنما هو قيد للواجب لا الوجوب. هذا حاصل مراد ذلك البعض.
ووجه إحداثه هذا القسم: إنما هو دعوى الفرق بين قول القائل: صم غدا، وصم إن جاء الغد، حيث يفهم من الأول كون الغد قيدا للصوم المأمور به دون الهيئة، ومن الثاني عكس ذلك، فيدخل الأول في المطلق، والثاني هو المشروط، ويعبر عن الأول بالمعلق.
ويمكن دفع ما ذكره: بأن اختلاف معنيي العبارتين إنما يجدي إذا كان راجعا إلى اللب، بأن يكون للمتكلم عند التعبير بإحداهما حالة نفسانية مغايرة في الواقع للتي له عند التعبير بالأخرى، وأما إذا كان الاختلاف راجعا إلى الوجوه والاعتبار مع اتحاد المعنيين بحسب اللب فلا.
ونحن ندعي الثاني لوجوه:
257

الأول: أنا إذا راجعنا وجداننا لا نجد فرقا بحسب اللب بين تينك العبارتين، وهما قولنا: (صم غدا)، أو (صم إن جاء الغد)، فإنا لا ننكر أن لكل منهما مفهوما مغايرا لمفهوم الآخر، إلا أنا نجد أن تغايرهما إنما هو راجع إلى مجرد الاعتبار واللحاظ، بمعنى أنه لم يكن كل منهما منتزعا عن لب غير ما ينتزع عنه الآخر بأن يكون للمتكلم عند التعبير بإحداهما حالة كامنة في نفسه غير الحالة التي تكون في نفسه عند التعبير بالأخرى، بل نجد من أنفسنا اتحاد الحالة فيها () جدا إلا أن التعبير بكل واحدة منهما مبني على اعتبار مغاير لما ابتنى عليه التعبير بالأخرى، فيرجع الأمر بالأخرة إلى كونهما عبارتين عن مطلب واحد، نظير لفظ الراكب - مثلا - حيث إنه قد يجعل حالا، كما في قولك: جاء زيد راكبا، وقد يجعل صفة، كما في قولك: جاء زيد الراكب، وقد يجعل خبرا، كما في قولك: زيد راكب، وقد يجعل مبتدأ، كما في قولك: الراكب زيد، حيث إنه لا ريب أن هيئة الركوب الواقعة في الخارج الثابتة لزيد إنما هي حالة وحدانية وقعت على نهج خاص بحيث لا يختلف باختلاف العبارات المعبر بها عنها، بل إنما هي عبارات عن مطلب واحد، إلا أن كلا منها مبني على اعتبار خاص فإن الملحوظ فيه - في المثال الأول - إنما هو بيان هيئة الفاعل، وفي الثاني إنما هو توضيحه، وهكذا.
وكيف كان، فإذا اتحد اللب فلا يجدي اختلاف العبارات والاعتبارات في شيء، فإن وجوب المقدمة إنما هو حكم عقلي تابع للمعنى الواقعي، وهو وجوب ذيها، وكونه مطلوبا في نفس المتكلم، وليس يدور مدار العبارات، فيكون تابعا لإحداها دون الأخرى.
وبالجملة: فإن شئت توضيح ما ذكرنا فافرض مقاما ثبت الطلب فيه من دون كاشف لفظي، بل باللب، فانظر حينئذ، فهل تجد ثبوت وجوب شيء في
258

زمان بهذين الطريقين؟ حاشا.
فإن قلت: المتبع هو عنوان الأدلة، إذ به يحصل الإفادة والاستفادة، واختلاف العناوين في المقام كاف في اختلاف الحكمين كما في المطلق والمشروط.
قلت: قد عرفت أن وجوب المقدمة تابع لما هو واقع الطلب بحسب اللب، لكونه حكما عقليا، لا لما يظهر من اللفظ في بادي النظر، وبعد تسليم اتحاده لا وجه لاختلاف لوازمه.
وقياس ذلك بالمطلق والمشروط يبطله الفارق بين المقامين، وهو تحقق الاثنينية في المعنى بحسب اللب والواقع ثمة، بخلاف المقام.
وبعد ثبوت التعدد نحن نستكشف المعنيين من اللفظ المناسب لهما، لا أنا نحمل اختلاف اللفظ دليلا على اختلاف المعنى.
الثاني - أن الطالب إذا تصور الفعل المطلوب والتفت إليه فإما أن تكون المصلحة الداعية إلى طلبه موجودة فيه على تقدير وجوده في زمان خاص فقط، بحيث لا تحصل هي على تقدير خلافه، أو تكون المصلحة تحصل فيه في خلاف ذلك الزمان أيضا.
فعلى الأول لا بد من أن يتعلق الأمر بذلك الفعل على الوجه الذي يشتمل على المصلحة، بأن يكون المأمور به هو الفعل المقيد بحصوله في ذلك الزمان.
وعلى الثاني لا بد من تعلق الأمر بالفعل على سبيل الإطلاق من غير تقييده بزمان خاص، ولا يعقل هناك قسم ثالث يكون القيد الزماني [فيه] راجعا إلى نفس الطلب دون المطلوب.
هذا بناء على مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.
ويمكن إتمام الجواب على المذهب الآخر أيضا: بأن العاقل إذا توجه إلى أمر والتفت إليه فإما أن يتعلق طلبه بذلك الشيء، أو لا، لا كلام على الثاني.
259

وعلى الأول: فإما أن يكون ذلك الأمر موردا لأمره وطلبه مطلقا، أو على تقدير خاص، وذلك التقدير الخاص قد يكون من الأمور الاختيارية للمكلف كما في قولك: إن دخلت الدار فافعل كذا، وقد يكون من الأمور الاضطرارية كالزمان ونحوه. لا إشكال فيما إذا كان مطلوبا مطلقا.
وأما إذا كان مقيدا بتقدير خاص: فإن كان ذلك التقدير من الأمور الاختيارية للمكلف فيعقل فيه الوجهان من رجوع القيد تارة إلى المطلوب، وأخرى إلى الطلب، حيث إن الطلب قد يتعلق بالفعل والقيد كليهما معا بحيث يكون متعلقه هو المجموع منهما، فحينئذ يصير الواجب مطلقا، فيجب تحصيل الخصوصية، وهي القيد، وقد يتعلق بالفعل على تقدير حصول القيد وصدوره من المكلف، فيكون مشروطا، فلا يجب فيه تحصيل الخصوصية، فيكون مرجع القيد في الأول إلى المطلوب وفي الثاني إلى الطلب.
وأما إن كان من الأمور الاضطرارية فلا يعقل فيه الوجهان، ضرورة أنه لا يمكن تعلق الطلب بتلك الخصوصية أيضا حتى يتصور فيه القسم الأول من الفرض، بل يتوقف تعلقه على حصول تلك الخصوصية، فيكون مشروطا لا غير.
وما نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى.
وكيف كان، فرجوع القيد تارة إلى الفعل، وأخرى إلى الطلب، والحكم بحسب القواعد العربية مما لا يجدي نفعا بعد اتحاد المناط في هذه المسألة العقلية.
وحاصل هذا الوجه: إنكار الواجب المشروط بالنسبة إلى الأمور الاضطرارية التي منها الزمان.
الثالث - أنه لا يتعقل رجوع القيد إلى الطلب لأنه ليس إلا البعث والتحريك باللفظ، وهو حاصل في المطلق والمشروط كليهما من أول الأمر، ولا يعقل التعليق فيه، لأنه من تعليق الشيء بعد وجوده، فلا بد من إرجاعه إلى المطلوب فيما يكون الظاهر من الدليل اللفظي رجوعه إلى الطلب.
260

وحاصل هذا الوجه إنكار الواجب المشروط، فينحصر الأمر المقيد بحسب اللب والواقع في قسم واحد، فيبقى القسمان.
هذا عمدة ما قيل أو يقال في دفع التوجيه المتقدم.
لكن الإنصاف اندفاع تلك الوجوه الثلاثة:
أما الأول فبأنه إن كان المراد - من عدم وجدان الحالة الكامنة في النفس في الأمر المقيد على قسمين - دعوى امتناع تصورهما فيها في الأمر المقيد فنحن ندعي خلافه [1].
الثالث ():
قد مر أن المقدمات الوجوبية للواجب خارجة عن محل النزاع، لكن يشكل الأمر بناء على ما ذكره جمع من وجوب إبقاء القدرة على المأمور به إلى وقت وجوب الإتيان به، بل الحكم به في الجملة متفق عليه بين الأصحاب، ولا ريب أن القدرة على الفعل المأمور به من شرائط الوجوب، فينافي هذا ما مر من عدم الخلاف في عدم وجوب تحصيل المقدمات الوجوبية، فيشكل التوفيق بين هذين.
لكن الإنصاف إمكان دفعه: بأنه إن كان المراد وجوب إبقاء القدرة وعدم جواز سلبها () عن النفس مطلقا حتى قبل حصول الشرائط الوجوبية الشرعية التي هي المحققة لعنوان الأمر كما مرت الإشارة إليه فممنوع.
وإن كان المراد وجوبه في الجملة وهو - فيما إذا حصلت الشروط الوجوبية الشرعية مع عدم مجيء وقت الفعل - مسلم لكنه ليس لأجل وجوب

[1] لا يخفى النقص في المطلب، فإنه قد بقي بيان اندفاع الوجهين الآخرين، وقد كتب في هامش المخطوطة هكذا: (سلب منه ورق)، والظاهر أن الورق الناقص كان مشتملا على بقية الأجوبة.
261

تحصيل الشرط الوجوبي كما قد يتوهم، بل لأنه إذا كان الأمر مطلقا - بحسب اللفظ بالنسبة إلى القدرة على المأمور به - فالاشتراط بالنسبة إليها حينئذ إنما هو ثابت بحكم العقل، والحاكم به هو، وهو يكتفي في الاشتراط بحصولها للمكلف في الجملة ولو قبل مجيء وقت الواجب مع استمرارها إلى ذلك الوقت لو لم يسلبها المكلف عن نفسه بسوء اختياره، فإذا كان التقدير تقدير حصول القدرة قبل الوقت وحصول الشروط الشرعية المحققة لعنوان الأمر مع القدرة بمعنى حصولها مع حصول القدرة، فالتكليف الآن منجز على المكلف لحصول شرائطه الشرعية والعقلية، وعدم توقف الوجوب على حصول شيء آخر، فإن الوقت ليس من شرائط الوجوب، بل هو قيد للواجب وظرف لامتثاله، فسلب المكلف القدرة حينئذ عن نفسه مخالفة وعصيان لذلك التكليف المنجز، فيكون حراما لذلك، لا لأجل ترك تحصيل المقدمة الوجوبية، بل لا ربط لذلك بتحصيل المقدمة الوجوبية، بل إنما هو تفويت لها بعد حصولها كتفويت الاستطاعة بعد حصولها، فيرجع حاصل الإشكال إلى المغالطة والخلط، فافهم.
الرابع ():
لا ريب أنه بعد فرض كون شيء مقدمة لآخر لا يعقل حصول ذلك الشيء الآخر قبله، وإلا يلزم عدم كون الأول مقدمة له، بل لا بد من مقارنة المقدمة لذيها في الوجود لا محالة.
لكن يشكل الأمر في التكاليف مطلقا - إلهية أو عرفية - بالنسبة إلى القدرة على المأمور به والسلامة إلى زمان يسع الإتيان به، فإنه لا ريب أن التكليف مشروط بالقدرة والسلامة إلى آخر زمان يسع الفعل ()، فيكون القدرة والسلامة الحاصلتان في الجزء الأخير أيضا شرطين للتكليف بمعنى تنجز الأمر
262

واستحقاق العقاب على التأخير الموجب للترك، مع أن التكليف تنجز على المكلف في الجزء الأول من ذلك الزمان إذا علم ببقاء قدرته وسلامته إلى الجزء الأخير، فيلزم تقدم المشروط على الشرط، وقد عرفت امتناعه.
ولا يمكن أن يقال: إن الشرط ليس نفس القدرة والسلامة المذكورتين، بل إنما هو علم المكلف بهما، وهو مقارن للتنجز، لأنه لا ريب أن الحاكم بالاشتراط إنما هو العقل لا غير، والذي نجد من عقولنا إنما هو الترتب
والربط بين تنجز التكليف - بمعنى استحقاق العقاب على التأخير الموجب لترك المأمور به - وبين نفس القدرة والسلامة إلى آخر زمان يسع الفعل ()، لا بينه وبين علم المكلف بهما.
نعم، لا يبعد كون العلم بهما شرطا لصحة الأمر والإلزام إذا كان الآمر عالما بالعواقب بمعنى أنه إن علم ببقاء المكلف وقدرته على الفعل إلى زمان يسعه () يحسن منه الأمر، وإلا يقبح.
مع أنه يمكن أن يقال ثمة أيضا بأن الشرط هو نفس القدرة والسلامة، وأن العلم طريق لإحراز الشرط كما في المقام.
وبالجملة: كلامنا الآن إنما هو في التنجز الذي يحكم به العقل بالمعنى الذي عرفت، وأن شرطه في نظر العقل ما ذا؟ ولا ينبغي الارتياب في أن العلة الموجبة للتنجز إنما هو نفس البقاء والسلامة والقدرة على الفعل إلى آخر زمان يسعه ()، لا علم المكلف - بالفتح - بهما.
وكيف كان فلا ريب أن العقل يحكم بالتنجز وحصول استحقاق العقاب على التأخير الموجب للترك من أول الأمر بمجرد ملاحظة قدرة المكلف وسلامته إلى
263

آخر زمان يسع الفعل ()، فلا بد إذن من التوفيق بينه وبين ما ذكرنا.
وما ذكرنا من الإشكال وارد بالنسبة إلى بعض الشروط الشرعية أيضا كخلو المرأة عن النفاس والحيض غدا بالنسبة إلى وجوب الصوم عليها، حيث إن شرط وجوبه عليها إنما هو خلوها عنهما في تمام الغد، مع أن التكليف بالصوم منجز عليها في الليل اتفاقا، فيلزم تقدم المشروط على الشرط.
والذي قيل في دفع الإشكال أو يمكن أن يقال وجوه [1]:
الأول: ما ذكره بعض متأخري المتأخرين () من جعل الشرط في تلك الموارد هو العنوان المنتزع من تلك الأمور - أعني القدرة والسلامة إلى آخر الزمان والخلو من الحيض والنفاس - وهو كون المكلف ممن يقدر على الفعل ويسلم إلى

[1] إيقاظ: لا يتوهم أنه قد مر في التنبيه الثاني في الفرق بين الواجب المعلق والمشروط ما يغني عن التعرض لدفع هذا الإشكال في ما نحن فيه، إذ بعد البناء على أن من الواجبات المتوقفة على أمر آخر ما يكون معلقا قبال المشروط، وأن من لوازمه تنجزه على المكلف قبل وجود المعلق عليه، فلذا يجب تحصيل مقدماته الوجودية قبله، بخلافه في المشروط كما مر مفصلا، فيقال في دفع الإشكال فيما نحن فيه: إن موارد النقض المذكورة من قبل الواجبات المعلقة بالنسبة إلى الأمور المتأخرة المعلقة عليها.
لأنه مدفوع: بأن الكلام ثمة في تحقيق أن الواجبات المتوقفة على أمر آخر على قسمين، وإثبات وجود كلا القسمين، وكان دفع الإشكال هناك مبنيا على ذلك، والكلام في المقام في تعقل تعليق الوجود السابق على الأمر المتأخر، والتوفيق بينه وبين القاعدة العقلية، وهي امتناع تقدم المعلول على علته، وبعبارة أخرى: أن الكلام ثمة في إثبات الوجوب المعلق قبال المشروط، وفي هنا في تعقله وتصويره على وجه لا ينافي القاعدة المذكورة بعد الفراغ عن وجوده، بمعنى أنه يقع البحث عن أن الواجبات المعلقة على الأمور المتأخرة عن زمان وجوبها، هل هي معلقة حقيقة على نفس تلك الأمور، أو على الوصف المنتزع منها وعلى أمر آخر مقارن لها يكشف عنه تلك الأمور؟ لمحرره عفا الله عنه.
264

آخر زمان يسعه ()، وممن يخلو عن الحيض والنفاس، وهذا الوصف المنتزع حاصل حال التنجز ومقارن له، فلا يلزم تقدم المشروط على الشرط.
ويرده: أنه لا ريب في عدم حصول تلك الأمور بعد عند التنجز، فيكون العنوان المأخوذ شرطا أمرا عدميا، لأن المنتزع من المعدوم معدوم، وليس له واقع، بل ينعدم بانعدام الاعتبار.
وبالجملة فما يكون حصوله باعتبار المعتبر وملاحظته فهو معدوم بدون ذلك الاعتبار، فليس له واقع بدونه، فيرجع الأمر بالأخرة إلى جعل الشرط أمرا عدميا، وهو غير معقول [1]، فإن العدم لا يؤثر في الوجود جدا ببديهة العقل.
الثاني: ما خطر ببالي الفاتر من جعل الشرط هو الاستعداد للفعل، وهو كون المكلف بحيث يقدر ويسلم ويخلو من الحيض والنفاس، ولا ريب أن الاستعداد أمر واقعي موجود فيه حال التنجز ومقارن له، فلا يلزم المحذور المذكور، ولا يرد عليه الإيراد المزبور، فتأمل.
الثالث: ما ربما يتخيل من جعل الشرط أمرا واقعيا موجودا حال وجود المشروط - وهو التنجز - يكشف عنه تلك الأمور، وحاصله جعل تلك الأمور معرفات للعلة لا نفسها.
لكن فيه أنه لا يجري في الشروط العقلية، لأن الحاكم بالاشتراط فيها إنما هو العقل، ولا يعقل خفاء ما يحكم هو بشرطيته، فلو كان الشرط غير تلك الأمور لما حكم بكون تلك الأمور شروطا.
نعم، يمكن دعوى ذلك في الشروط الشرعية كما في الخلو عن الحيض

[1] وكيف كان فإذا فرض عدم جواز تأثير الوجود المتأخر في الوجود السابق فكيف يعقل [أن] يؤثر ما لا حقيقة له ولا واقع، بل إنما هو صرف الاعتبار؟ لمحرره عفا الله عنه.
265

والنفاس، وكما في الإجازة في العقد الفضولي أيضا، فإنهم دفعوا الإشكال الوارد عليه بناء على كون الإجازة كاشفة لا ناقلة بوجهين:
أحدهما - ما مر من بعض متأخري المتأخرين () من جعل الشرط هو الوصف المنتزع، وهو كون العقد متعقبا بالإجازة.
وثانيهما - جعل الإجازة معرفة للعلة - لا نفسها - بمعنى أنها على تقدير حصولها يكشف عن أمر واقع موجود حال وقوع العقد، وليست علة حقيقة لتأثير العقد، فإن علل الشرع معرفات للعلل الواقعية.
وأوجه هذين الوجهين لدفع الإشكال - ثمة - الثاني، فإن الأول منهما خلاف ظاهر الأدلة، لأن المستفاد منها كون الشرط نفس الإجازة، لا المفهوم المنتزع.
فإن قيل: هذا وارد على تقدير جعل الشرط نفس الإجازة بناء على كونه معرفا للشرط، فإن الأمر المكشوف عنه بها مغاير لها.
قلنا: إنه بناء على كون علل الشرع معرفات، فلا بد من التصرف في شرطية ما ثبت شرطيته مطلقا - سواء كان هو نفس الإجازة أو الوصف المنتزع منها - ولا يمكن معه جعل الشرط حقيقة هو نفس المفهوم المنتزع بناء على عدم كون الإجازة شرطا، بل لا بد أيضا من جعله كاشفا عن الشرط ومعرفا له، فيكون القاعدة المذكورة قرينة عامة على أن المراد بالسببية والشرطية في الأدلة الشرعية إنما هو المعرفية فيحمل قوله عليه السلام: (يشترط) على ذلك، وظاهر الأدلة ثبوت المعرفية للإجازة، لا للوصف المنتزع.
وبالجملة: فظاهرها أولا كون الإجازة نفسها شرطا، ثم بعد صرفها عنه
266

فيكون الظاهر منها كون المعرف هي نفسها لا شيئا آخر.
وكيف كان فهذا الوجه أحسن ما يقال في دفع الإشكال الوارد على الإجازة.
وأما ما سيأتي من الشيخ الأستاذ - قدس سره - من دفع الإشكال المذكور فيما نحن فيه الآن فلا ممشى له [مع] مسألة () الإجازة، إذ لا يمكن فيها التزام كون الإجازة شرطا بصفة التأخر، ضرورة عدم مدخلية تلك الصفة في تأثير العقد، وإنما الدخيل فيه هو نفس الرضا والإذن، وإلا لزم عدم تأثيره إذا كان الإذن مقارنا للعقد، وهو خلاف البديهة.
نعم يمكن أن يجعل الشرط في تأثير العقد في الحلية الرضا في الجملة سواء كان مقارنا للعقد أو متأخرا عنه، فيكون المتأخر أحد فردي الرضا الذي هو شرط فيه، فالعقد الفضولي وان كان فاقدا للفرد الأول إلا أنه واجد للثاني، فحينئذ ينفعه الوجه الآتي منه - قدس سره - في دفع الإشكال وحله.
وكيف كان، فالتحقيق في الجواب: ما ذكره شيخنا الأستاذ - قدس سره -:
وهو النقض أولا - بالأحكام المعلقة على الشروط الماضية المتقدمة زمانا على ما علق عليها كما في قولك: أكرم زيدا إن جاءك أمس، وغير ذلك من الأمثلة، إذ ليس المأخوذ في الشرطية صفة التقدم حتى يقال بانتفائها في الشروط المستقبلة، بل المعتبر مقارنته لوجود المشروط، فالمحذور هو انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه، وهذا المعنى موجود في الشروط الماضية أيضا لصدق عدمها عند تنجز الخطاب، فما هو الجواب عنها فهو الجواب عن هذه.
أقول: لا يخفى على المتأمل ما في هذا النقض، لما عرفت من أن الإشكال
267

المتقدم لم يكن هو عدم اجتماع المشروط مع الشرط المتأخر وعدم تقارنهما، بل إنما هو لزوم حصول المعلول قبل حصول العلة المؤدي إلى التناقض.
نعم هنا إشكال آخر وارد على كل من الشروط الماضية والمستقبلة: وهو أن تلك الشروط - ماضية كانت أو مستقبلة - إنما هي من قبيل العلل التامة، ولذا يقال: إن الجملة الشرطية تفيد علية الشرط للجزاء وان كان ظاهر إطلاق لفظ الشرط عليها يفيد كونها بحيث لها دخل في الوجود في الجملة كما هو مصطلح الأصوليين، لكنهم جروا في إطلاق لفظ الشرط على الجمل التالية لأدوات الشرط - من لفظ إن وأخواته - على اصطلاح النحويين، حيث إنه في مصطلحهم عبارة عن ذلك، فأطلقوا لفظ الشرط تبعا لهم على ما هو علة تامة، فإذا كانت تلك الأمور من قبيل العلل التامة بالنسبة إلى ما علق عليها فكيف يعقل تقدمها أو تأخرها بالنسبة إلى ما علق عليها؟ لكونه مؤديا إلى انفكاك المعلول عن العلة.
اللهم إلا أن يلتجأ في دفعه إلى ما يأتي من الحل.
نعم يمكن إرجاع الإشكال فيما نحن فيه إلى ما ذكر، نظرا إلى أن امتناع تقديم المعلول على العلة راجع إلى وجوب تقارنهما في الوجود الخارجي، فيصح حينئذ جعل منشأ الإشكال لزوم عدم التقارن، فافهم.
والحل ثانيا - بحيث يرتفع به كلتا الشبهتين بأن الشرط: قد يكون الوجود المطلق - أي الغير المقيد بحالة خاصة - كاشتراط الحج بالاستطاعة الحاصلة في أي زمان من غير اختصاص الشرطية بالتي تحصل وقت الموسم، فحينئذ فلا إشكال في وجوب مقارنته وجودا للمشروط.
وقد يكون الوجود المقيد بوصف خاص كطهارة يوم الخميس - مثلا - لوجوب الصوم على المرأة، فلا يجب حينئذ وجوده قبل ذلك الوقت، بل لا يعقل إذ الوجود المقيد بكونه في الغد يمتنع حصوله في غيره وإلا خرج عن كونه
268

الوجود في الغد كما لا يخفى.
وهذا لا يختص بالشروط الزمانية، بل يجري في غيرها أيضا، فإن بقاء الاستطاعة إلى آخر () اليوم الثالث عشر من ذي الحجة بناء على عدم اعتبار مئونة ما بعد الحج، مع أن وجوب الحج حاصل قبل ذلك اليوم إذا كان التقدير تقدير بقائها إلى ذلك اليوم، بل ولا يعقل أن يكون ابتداء الوجوب في ذلك اليوم بمضي الوقت وتمام العمل.
وبالجملة: إذا علم بحصول الشرط فالوجوب متحقق، وإن علم بعدمه فلا وجوب أصلا، لقبح إيجاب شيء على من يعلم الآمر بعدم تمكنه منه، فجميع التكاليف في الواقع مطلوبات منجزات، لأن من تعلق به الخطابات المشروطة هو ممن كان واجدا للشرط دون غيره، إذ موضوع الحكم في الحج هو الشخص المستطيع، وهو بالنسبة إليه مطلق، فلو علق الوجوب بالنسبة إليه على الاستطاعة لكان لغوا كما لا يخفى.
وأما الشخص الغير المستطيع فلا توجه للخطاب إليه أصلا، وهذا التعليق الذي وقع في الخطابات الشرعية إنما () هو لتوجهها إلى عامة المكلفين من الواجد والفاقد، وإلا لم يحتج إلى التقييد بوجه.
فإذا عرفت ذلك فنحن لا نقول بجواز تأخير الشرط عن المشروط، ولا بجواز تقدمه عليه، ولا بعدم فاعلية الشرط في تأثير السبب، ولا بغير ذلك من لوازم الشرط، إذ لا يعقل القول بشيء من ذلك، وبان بذلك قوام معنى الشرطية، بل نقول: إن الوجود المتأخر شرط، لا الشرط متأخر، وكذلك في الماضي، فإن الشرط فيه أيضا هو الأمر المنقضي، لا أن الشرط قد انقضى.
269

وبعبارة أخرى: إن الوجود المتصف بالتأخر أو الانقضاء شرط، لا الوجود المطلق حتى يصدق عدمه الآن.
وبالجملة: صفة التأخر والانقضاء جزء من الشروط، ولها دخل في وجوده، ولا ريب أن هذا الوجود المقيد بإحدى هاتين الصفتين موجود في محله الآن، ويصدق حقيقة أن الشخص الآن واجد للوجود المتأخر أو المتقدم، ولو لا ذلك لزم رفع اليد عن أغلب الشروط، فإن أغلبها من الأمور المقيدة بالتأخر أو الانقضاء، كاستمرار الاستطاعة الذي هو شرط لوجوب الحج، فإنه مأخوذ في معنى الاستمرار الوجود المتأخر.
وكيف كان، فلا شبهة في جواز كون وجود شيء في المستقبل منشأ لوجود سابق عليه بأن يكون موجبا لحصول مصلحة في الآن تقتضي هي الحكم المعلق على ذلك الشيء، كما لو قال: اقتل من يقتلك غدا، وأنت تعلم أن عمرا لو بقي إلى الغد لقتلك فإن القتل الصادر منه غدا يقتضي مصلحة داعية إلى قتلك إياه الآن، وإنما وقع الإشكال في التوقف بينه وبين ما برهن عليه في محله من امتناع تأخر الشرط عن المشروط والتفكيك بين العلة والمعلول. وأحسن الأجوبة عنه ما عرفت.
فإن شئت قلت: إن الشرط والمشروط فيما نحن فيه مجتمعان في الوجود الدهري ومتقارنان فيه، والذي يمنع منه العقل إنما هو الانفكاك حتى في الوجود الدهري لا مطلقا.
والحاصل: أنه إذا كان الشرط من الأمور الزمانية - أي المتقيدة بالزمان - فيكفي تقارنه مع المشروط في عالم الدهر، وأما في عالم الزمان فلا يجب، بل لا يعقل، فإنه إذا كان الشرط هو الأمر المتقيد بالزمان الماضي أو المستقبل فكيف يعقل تأخره مع ذلك القيد أو تقدمه معه؟ وبالجملة: إذا اعتبر الشرط على نهج خاص وصفة خاصة - من التقدم
270

أو التأخر أو التقارن من حيث الزمان - يمتنع () وجوده بدون تلك الصفة، ويكفي وجودها معها في محلها في تنجز الواجب إذا كان متقيدا بصفة التقدم أو التأخر، بل ربما يكون حصوله في الآن المقارن مضرا مانعا عن تحقق الوجوب، فتدبر.
فعلى هذا فإذا حصل العلم بوجود الشرط في المستقبل ينجز () عليه الوجوب، وإذا علم بعدمه فيه فلا وجوب عليه أصلا، لا في الواقع ولا في الظاهر، ومع الشك المرجع الأصول العملية: فإن أوجبت هي عليه شيئا يقوم بامتثاله، فإن بقي على شرائط التكليف إلى أن فرغ عن العمل، وإلا فيكشف عن عدم الوجوب عليه في الواقع، وإلا () فلا شيء عليه.
فالمرأة الحائض إذا علمت بنقائها قبل الفجر تنجز عليها الليل وجوب صوم الغد، وإن شكت فمقتضى الأصل عدم خلوها عن الحيض، فلا شيء عليها حينئذ، والمرأة الخالية عن الحيض إذا احتملت تحيضها قبل الفجر أو في جزء من الغد فمقتضى الاستصحاب عدم تحيضها، فيجب عليها في الظاهر صوم الغد، فيجب عليها الإقدام [على] مقدماته () السابقة على الفجر.
هذا كله في غير الشرط المقارن، أي الذي اعتبر تقارنه للمشروط () من حيث الزمان.
وأما فيه فيعتبر تحققه ووجوده مقارنا لزمان تنجز الوجوب كالعقل والبلوغ بالنسبة إلى جميع الواجبات، وإلا فلا وجوب أصلا.
وكيف كان، فلا ينبغي الإشكال في جواز جعل الشرط الوجود المقيد
271

بالزمان الماضي أو المستقبل كجواز جعله الوجود المطلق.
ثم إنه إذا كان الشرط هو الأمر المتأخر لا يفرق بين ما إذا كان من الأمور الاضطرارية كما في تعلق تنجز الصوم على السلامة إلى آخر اليوم أو على الخلو من الحيض كذلك، وبين ما إذا كان من الأمور الاختيارية للمكلف، بأن يقال: لو فعلت غدا كذا يجب عليك كذا، فإنه يجري فيه حينئذ ما يجري فيه إذا كان من الأمور الاضطرارية، بمعنى أنه إذا علم الآن بتحقق ذلك الأمر الاختياري وصدوره منه فيما بعد يتنجز عليه التكليف الآن، وإن علم بعدمه فلا تكليف أصلا، وإن شك فالمرجع هي الأصول العملية حسبما يقتضيه المقام.
نعم فرق بين المقامين من حيث مقدار التنجيز وكيفيته يأتي بيانه في دفع الإشكال الآتي الوارد على الشرط المحرم، فانتظر.
وإجماله: أنه إذا كان الأمر المتأخر من الأمور الاضطرارية وأحرز المكلف تحققه فيما بعد بالقطع أو بالأصل فالتكليف منجز عليه الآن، [و] يجب عليه الآن الإتيان والإقدام بجميع مقدمات الواجب الوجودية التي محلها قبل مجيء ذلك الأمر المتأخر بحيث لو أخل بواحدة منها استحق العقاب.
هذا، بخلاف ما إذا كان من الأمور الاختيارية له، فإنه حينئذ إذا أحرز تحققه بأحد الوجهين فيما بعد فلا ينجز عليه الواجب الآن حتى بالنسبة إلى ذلك الأمر المتأخر الذي هو أيضا من المقدمات الوجودية، بل يختص تنجزه الآن بغيره من المقدمات الوجودية، بمعنى أنه لو ترك الواجب بترك واحدة من المقدمات الوجودية غير ذلك الأمر المعلق عليه الوجوب استحق العقاب، وأما بالنسبة إليه فله الآن تركه بترك ذلك الأمر المتأخر، وتفصيل الكلام فيه يأتي عن قريب - إن شاء الله تعالى - فانتظر.
272

[المقدمة المحرمة]
ثم إنه [1] بعد البناء على جواز تعليق الوجوب السابق على الشرط المتأخر وتعقله بأحد الوجوه المتقدمة بحيث لا يلزم محذور من جهة تأخر شرط الوجوب، فهل يعقل كون ذلك الأمر المتأخر المعلق عليه الوجوب من المحرمات إذا كان من المقدمات الوجودية للواجب أيضا مع عدم بدل له - بمعنى انحصار المقدمة الوجودية فيه، بمعنى أنه لا يلزم محذور من جهة كون المعلق عليه المتأخر حراما -، أو لا؟ المنسوب إلى المشهور هو الثاني.
لكن الحق - وفاقا لجمع من المحققين منهم الكركي () - قدس سره - في باب الدين من جامع المقاصد في شرح كلام العلامة - قدس سره - في بيان اشتغال المديون المتمكن من أداء الدين بالصلاة مع مطالبة ذي الدين، ومنهم الشيخ الأجل الشيخ جعفر - قدس سره - في مقدمات كشف الغطاء في مسألة اقتضاء الأمر النهي عن الضد ()، وبعض من تأخر عنهما من الأعلام - الأول.

[1] اعلم أن محل الكلام هنا إنما هو المقدمة الوجودية التي تكون من جملة أفعال المكلفين، كما يدل عليه قولنا: (من المحرمات)، فإن المقدمات الوجودية الاضطرارية كالقدرة والسلامة والزمان لا تكون موردا للتكليف أصلا، وإنما قيدنا محل النزاع بذلك لأنه لا محذور في تعليق الوجوب على المقدمة الوجودية المتأخرة إذا لم تكن اختيارية، إذ لا يعقل تعلق تكليف بها - من الأمر والنهي - حتى يلزم محذور، وإنما قيدنا المقدمة بالوجودية، إذ لا يلزم المحذور الآتي على تقدير كون الأمر المتأخر المحرم مقدمة للوجوب فقط كما لا يخفى.
ثم الكلام في المقام إنما هو في المقدمة المحرمة المنحصرة، وأما في غيرها فلا يلزم المحذور الآتي أصلا. لمحرره عفا الله عنه.
273

لنا: أنه لا مانع عقلا من ذلك عدا ما ربما يتخيل من استلزامه التكليف بما لا يطاق واجتماع الأمر والنهي، لكن النظر الدقيق يشهد بفساد ذلك التخيل، فثبت الإمكان، فلا بد إذن من بيان ذلك التخيل ثم توضيح فساده، فنقول:
أما بيانه: فهو أنه لا ريب أنه إذا علق وجوب الحج - المتوقف وجوده على ركوب الدابة المغصوبة مثلا، بمعنى أنه لا يمكن إيقاعه بدون الركوب عليها - على ركوبها ()، أو علق وجوب الوضوء - المتوقف وجوده على الاغتراف من الآنية المغصوبة - على الاغتراف منها بالنسبة إلى من يركب الدابة المغصوبة فيما بعد يقينا أو يغترف من الآنية المغصوبة فيما بعد كذلك سواء كان مأمورا بالحج والوضوء، أولا، كما هو مفروض البحث في الشرط المتأخر، حيث إن الكلام فيه في الشرط المتأخر الذي يحصل بعد يقينا وعلى كل تقدير، وقلنا بتنجز التكليف بالحج والوضوء وفعليته على المكلف قبل زمان الركوب والاغتراف المذكورين - كما هو مقتضى البناء على ما مر من جواز تعلق الوجوب السابق على الشرط المتأخر - فلا ريب () في تنجز النهي عن الركوب والاغتراف وفعليته على المكلف حينئذ أيضا، إذ المفروض أنه لم يأت وقت الركوب والاغتراف ولم يصدر عنه شيء من هذين، فالنهي عنهما الآن موجود على سبيل التنجز غير ساقط عن المكلف، ضرورة أن سقوط التكليف عن المكلف - أمرا كان أو نهيا - إما بالامتثال، وإما بالمخالفة، والمفروض أنه لم يتحقق شيء منهما من المكلف بعد حال تنجز الأمر بالحج والوضوء:
أما الامتثال فواضح، ضرورة أن امتثال النهي المطلق إنما هو بترك المنهي عنه بجميع أفراده في جميع الأزمنة والمفروض عدم مجيء الزمان اللاحق، فكيف
274

بتركه إياه فيه؟ مع أن المفروض كونه مرتكبا له فيما بعد لا تاركا.
وأما المخالفة فالمفروض عدم حصولها منه بعد.
وأما كون التقدير تقدير المخالفة أو كونه عازما عليها، فلا يعقل كون شيء منهما مسقطا للتكليف كما لا يخفى، فإذا فرض توجه تكليفي الأمر والنهي إلى المكلف في الآن وتنجزهما عليه، والمفروض توقف امتثال الأمر على مخالفة النهي، إذ المفروض كما مر انحصار المقدمة في المحرم، فيلزم التكليف والأمر بما لا يطاق، فإن المقدمة إذا كانت غير مقدورة يكون () ذوها أيضا كذلك، فيكون التكليف بذيها تكليفا بغير المقدور، وهو مما يستقل العقل بقبحه سواء كان عدم القدرة على المقدمة عقليا أو شرعيا كما فيما نحن فيه، فإن المنهي عنه غير مقدور شرعا للمكلف، وأيضا يلزم اجتماع الأمر والنهي في تلك المقدمة المحرمة، فإن وجوب ذيها وإن لم يكن مطلقا على سبيل الإطلاق، لكنه مطلق على تقديرها، أي على تقدير تلك المقدمة المحرمة.
وبعبارة أخرى: إن وجوب ذيها وإن كان مشروطا بتلك المقدمة، لكنه بعد تقدير حصولها يكون مطلقا، ولما كان التقدير تقدير حصولها يكون () وجوب ذيها مطلقا، ولما كان المفروض كونها من المقدمات الوجودية للواجب أيضا تعلق () بها الوجوب المقدمي من تلك الجهة، مع كونها محرمة في أنفسها، فيجتمع فيها الوجوب والحرمة.
لا يقال: إن المفروض كونها من المقدمات الوجوبية، وقد مر أنه لا خلاف في عدم وجوبها.
لأنا نقول: إن عدم الوجوب مسلم إذا كان المقدمة مقدمة
275

للواجب فقط، كالاستطاعة الشرعية بالنسبة إلى الحج، وأما إذا كانت وجودية أيضا - كما في المقام - فلم يقم إجماع على عدم وجوبها من تلك الجهة، بل لا يعقل الفرق بينها وبين سائر المقدمات الوجودية الصرفة، فإن الحاكم بالوجوب إنما هو العقل، ومناط حكمه به ليس إلا حكمه بالتلازم بين طلب شيء وبين طلب ما يتوقف وجود ذلك الشيء عليه، فإذا فرض توقف وجود الواجب على شيء فقد تحقق ما هو المناط في حكم العقل بالوجوب في سائر الموارد، فالعقل قاض به من تلك الجهة.
والذي مر - من عدم الخلاف في عدم وجوب المقدمة الوجوبية - معناه عدم الخلاف في عدم وجوبها من جهة كونها مقدمة للوجوب لا مطلقا.
وكيف كان، فقد ظهر لزوم اجتماع الأمر والنهي في المقدمة المحرمة، واللازم باطل ببديهة العقل لرجوعه بالأخرة إلى التكليف بما لا يطاق الإتيان به، ضرورة عدم إمكان امتثال التكليفين المتناقضين المتعلقين بأمر واحد
فالملزوم مثله.
هذا غاية ما قيل أو يقال في توجيه الإشكال.
وأما توضيح فساده بكلا وجهيه:
فهو أن الوجه الأول - وهو لزوم التكليف بغير المقدور من جهة انحصار المقدمة في المحرمة مسلم لو قلنا بتنجز الأمر على المكلف - قبل ارتكاب تلك المقدمة المحرمة المعلق عليها الوجوب على وجه لا يجوز له مخالفة ذلك الأمر مطلقا ولو بترك تلك المقدمة المحرمة.
لكنا لا نقول بتنجزه بهذا المعنى، لأنه راجع إلى كون الواجب واجبا على الإطلاق حتى على تقدير عدم ارتكاب تلك المقدمة المحرمة، وهذا خلاف الفرض، إذ المفروض تعلق الوجوب على تقدير ارتكاب المقدمة كما هو المفروض في
276

المقدمات المباحة المعلق عليها الوجوب أيضا، والتقدير وإن كان تقدير ارتكابه لها فيما بعد يقينيا، لكن المفروض ارتكابه لها فيما بعد عن اختياره، فيكون التقدير تقدير ارتكابه لها فيما بعد اختيارا، إذ لا ريب أن القطع بوقوع الأمر الاختياري فيما بعد لا يوجب كون ذلك الأمر واجبا [1] بحيث يضطر الإنسان إلى فعله، بل الفعل معه أيضا في اختيار المكلف بحيث إن شاء فعل وإن شاء ترك.
ولا ريب أن تعليق التكليف على حصول أمر اختياري - يمكن حصوله وعدمه فيما بعد، نظرا إلى إناطة كل منهما إلى اختيار المكلف - إنما يقتضي تنجزه على المكلف بحيث لا يجوز له مخالفته على تقدير ارتكابه لذلك الأمر، بمعنى أنه لو ارتكبه وترك الواجب بترك سائر المقدمات الوجودية يستحق العقاب عليه، لا أنه لا يجوز له مخالفته حتى بترك ذلك الأمر، بل له ترك ذلك الواجب بترك ذلك الأمر، فيكون حاصل مثل هذا التعليق كون الواجب منجزا على المكلف قبل صدور ذلك الأمر عنه بالنسبة إلى سائر المقدمات الوجودية - بمعنى أنه إذا كان بانيا على ارتكاب تلك المقدمة المحرمة، ويعلم أنه معاقب على ترك الواجب على تقدير ارتكابها - فيجب عليه تحصيل سائر المقدمات الوجودية للواجب فرارا عن العقاب الزائد على عقاب ارتكاب تلك المقدمة المحرمة، فتلك المقدمة المحرمة وإن كانت غير مقدورة له شرعا قبل ارتكابها، لكن التكليف بالنسبة إليها قبل ارتكابها لم يكن منجزا بحيث يعاقب على ترك الواجب المستند إلى تركها، حتى يلزم التكليف بما لا يطاق وبغير المقدور، وبعد ارتكابها وإن كان منجزا بحيث يعاقب على ترك الواجب حينئذ، لكن الواجب حينئذ ليس غير مقدور له شرعا حتى يلزم التكليف بغير المقدور، لأنه حينئذ لا يتوقف على

[1] المراد بهذا الوجوب التكويني - لا التشريعي - والقرينة عليه قولنا: (بحيث يضطر إلى فعله).
لمحرره عفا الله عنه.
277

ارتكاب المقدمة المحرمة ثانيا، فلا توقف له حينئذ بالنسبة إليها أصلا، وإنما يتوقف على سائر المقدمات الوجودية.
ثم إن هذا الذي ذكرنا - في كيفية تنجز التكليف بالنسبة إلى المقدمة الوجودية المحرمة المتأخرة المعلق عليها الوجوب - لا يختص بها، بل يجري في غيرها أيضا من المقدمات الوجودية المباحة المتأخرة المعلق عليها الوجوب لعين ما سمعت في المقدمة المحرمة من أنه لو لا ذلك يلزم خلاف الفرض وأن تعليق التكليف على أمر اختياري لا يقتضي أزيد من ذلك، فافهم، وتأمل، حتى لا يختلط عليك الأمر.
هذا حاصل الجواب وملخصه عن الوجه الأول من المحذورين.
وأما الوجه الثاني - وهو لزوم اجتماع الأمر والنهي في تلك المقدمة - فيدفعه أنه لا شبهة أن وجوب المقدمة إنما هو ناش عن وجوب ذيها، وتابع له في الكيفية من الإطلاق والتقييد وسائر الكيفيات، والمفروض فيم نحن فيه كون وجوب ذيها معلقا على حصولها، لكن هذا الوجوب لا يعقل تعلقه بتلك المقدمة لرجوعه إلى وجوبها على تقدير وجودها، وتعليق طلب الشيء على حصولها مما ينادي البداهة ببطلانه، فإنه تحصيل للحاصل.
وبالجملة: لما كان [1] المفروض في وجوب ذيها تقدير وجودها فلا تقبل هي إذن تعلق هذا الوجوب بها أيضا، فلم يلزم اجتماع الأمر والنهي فيها.
ثم إن هذا الذي ذكرنا - من عدم تعقل تعلق الوجوب بالمقدمة المتأخرة

[1] اعلم أن عدم جواز تعلق الوجوب المقدمي بالأمور المتأخرة المعلق عليها الوجوب لا يفرق فيه بين ما إذا كانت محرمة كما هو مفروض الكلام، أو مباحة لوجود المناط المذكور في كلا الموردين بلا تفاوت، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
278

المعلق عليها الوجوب - لا يفرق فيه بين ما لو قلنا بأن الشروط في الواجبات المشروطة بالأمور المتأخرة هي نفس تلك الشروط، أو الأمر المنتزع عنها كما لا يخفى، إذ على الثاني يستلزم تعلق الوجوب المقدمي بتلك الأمور تعليق وجوبها على الأمر المنتزع من وجودها، وهو أيضا يرجع بالأخرة إلى تعليقه على وجودها كما في الأول، فافهم.
ثم إن ما اخترناه - من جواز تعليق الوجوب السابق على المقدمة المحرمة المتأخرة - لا يفرق فيه بين ما إذا كان تلك المقدمة متقدمة على امتثال الواجب كما في الركوب على الدابة المغصوبة للذهاب إلى الحج لو علق عليها وجوب الحج، أو مقارنة لامتثاله كما في الاغتراف من الآنية المغصوبة للوضوء لو علق عليه وجوب الوضوء، فإن الثاني لا يزيد على الأول شيئا من المحذور، بل الذي يتوهم من المانع في الأول هو الذي يتوهم في الثاني من غير زيادة، وقد عرفت اندفاعه.
هذا، وكيف كان فإذا ثبت جواز ما اخترناه [1] وعدم المانع منه بوجه، وفرض ورود دليل يدل - بنصوصيته أو ظهوره من جهة الإطلاق أو العموم - على وجوب الواجب على من انحصر المقدمة في حقه في الحرام لا يجوز لنا طرح ذلك الدليل أو تأويله بحمله على غير هذا الشخص لإمكان تعلق الوجوب به على الوجه الذي قررناه، فلا داعي إلى ارتكاب الطرح أو التأويل اللذين لا

[1] ثم إنه لا يفرق فيما اخترناه من جواز اشتراط الوجوب بالشرط المتأخر المحرم بين ما إذا كان ذلك الأمر المحرم من المقدمات المتقدمة على زمان إيقاع الفعل المأمور به كالركوب على الدابة المغصوبة في الحج، وبين ما إذا كان [من] المقدمات المقارنة للفعل المأمور به كالاغتراف من الآنية المغصوبة للوضوء لعدم المانع من الاشتراط بالقسم الثاني بأحد الوجهين المتقدمين أيضا، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
279

يصار إليهما إلا لمانع، فإذا ورد أنه يجب على المستطيع الحج يمكن () إثبات حكمه في حق من انحصر مركوبة في المغصوبة على الوجه المتقدم، فلا داعي إلى تقييده بغيره، فتأمل [1]. ثم إنه يتفرع على ما مر - من جواز اشتراط الوجوب وتعليقه على الشرط المتأخر - أنه لو دل دليل على عدم وجوب مقدمة وجودية للواجب متقدمة عليه أو مقارنة له يمكن الجمع بينه وبين ما دل على وجوب ذلك الواجب على وجه الإطلاق بالنسبة إلى تلك المقدمة بصرف ذلك الدليل الدال على وجوب ذلك الواجب عن ظاهره - وهو الإطلاق بالنسبة إلى تلك المقدمة - وحمله على الوجوب المشروط بالنسبة إليها على نحو ما مر بيانه، فيكون ذلك أحد الوجوه للجمع بين ذينك الدليلين من حيث الدلالة المتقدمة على الترجيح أو الطرح.
ولا فرق في ذلك بين ما لو كان ذلك الدليل الدال على عدم وجوب تلك المقدمة دالا على إباحتها أو كان دالا على كراهتها أو استحبابها. نعم لو كان دالا على حرمتها فيفرع الجمع بينه وبين الدليل الآخر على الوجه المذكور على ما اخترناه من جواز الاشتراط بالمقدمة المحرمة المتأخرة بعد البناء على جواز الاشتراط بالمباحة المتأخرة.
ثم إنه ذكر لما اخترناه - من جواز اشتراط الوجوب بالمقدمة المحرمة المتأخرة - فروع، ونحن نذكر جملة منها:
منها: الحكم بصحة وضوء من توضأ بالاغتراف من الآنية المغصوبة كما

[1] وجه التأمل: أن مثل الخطاب المذكور متوجه إلى من لم ينحصر مركوبة في المغصوبة، وإلى من انحصر مركوبة فيها، فإذا فرض كون مؤداه مطلقا بالنسبة إلى الأول، ومشروطا بالنسبة [إلى الثاني] يلزم استعمال اللفظ في المعنيين، إلا أنه يمكن دفعه بالتزام استعمال الوجوب في القدر المشترك، وبيان الاشتراط والإطلاق من دليل آخر، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
280

مر مثاله.
ومنها: ما ذكره المحقق الثاني () - على ما حكي عنه - في مناسك منى - أعني الحلق والذبح والرمي - من أن من عصى وخالف الترتيب صح نسكه المتأخر الذي قد قدمه، ثم قاس عليه صحة صلاة المديون المطالب بالدين المتمكن من أدائه إذا عصى ولم يقضه، واشتغل بالصلاة في سعة الوقت.
قال سيدنا الأستاذ - دام ظله -: وهذا يجري في كل عبادة موسعة مزاحمة بواجب مضيق - كالصلاة بالنسبة إلى إزالة النجاسة - إذا تركه واشتغل بها في سعة الوقت، وغير ذلك من الأمثلة للواجب المضيق والضد الموسع.
ومنها: ما ذكره المشهور من صحة صلاة المأموم إذا خالف الإمام فيما يجب عليه متابعته، حيث قالوا: إنه أثم حينئذ، لكن صحت صلاته.
وجميع تلك الأمثلة لا وجه للقول بالصحة فيها إلا البناء على ما اخترناه، كما لا وجه للقول بالفساد فيها إلا البناء على مخالفه.
نعم يمكن توجيه الفساد في الأخير - كما قيل - من جهة تعلق النهي بالجزء الذي يأتي به بعد عصيان المتابعة، فيفسد الكل، لأن النهي عن الجزء مستلزم للنهي عن الكل، فتأمل.
إيقاظ: اعلم أن تعليق الحكم على الشرط المتأخر على القول بجوازه لا يختص بالوجوبي، بل يجري في سائر الأحكام التكليفية كما لا يخفى، بل في الوضعية بأسرها أيضا. ومن هذا الباب تعليق سببية العقد الفضولي على الإجازة المتأخرة على القول بكونها كاشفة كما أشرنا إليه سابقا.
ثم إن لازم التعليق على هذا الوجه كون وجود المعلق عليه فيما بعد كاشفا عن حصول المعلق من قبل، ولازم ذلك ترتب جميع الأحكام المترتبة عليه شرعا
281

- بعد وجود المعلق عليه - عليه قبل وجوده إذا علم بحصول المعلق عليه فيما بعد، كما علمت من مطاوي كلماتنا المتقدمة.
لكن لا يخفى أن التزام كون الإجازة من هذا القبيل لا يخلو عن إشكال فإن لها على هذا التقدير لوازم يشكل الالتزام بها:
منها: جواز تصرف الأصيل فيما انتقل إليه مع علمه بأن المالك سيجيز، فإنه كاد أن يكون مخالفا للإجماع، مع مخالفته للأدلة العقلية والنقلية منها قوله عليه السلام: «لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه» ()، فإنه يدل على عدم جواز التصرف قبل تحقق الإجازة لعدم حصول الطيب بعد، وهكذا نظائره من الأخبار.
ومنها: عدم جواز بيع ما باعه الشخص فضولا، فإنه أيضا كاد أن يكون مخالفا للإجماع إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة، فتدبر.
وقد ذهب بعض من المحققين من متأخري المتأخرين () في فقهه - على ما حكي عنه - إلى كون الإجازة كاشفة، والتزم باللازم الأول، وهو جواز تصرف الأصيل، وظهر ما فيه مما بينا. وقد يتفصى عن الإشكال المتقدم بوجوه أخرى غير ما تقدم:
منها: التزام كون تلك الواجبات مشروطة، كما هو ظاهر أدلة بعضها وصريح أدلة البعض الآخر، لكن وجوب تلك المقدمات قبل وجوب ذواتها [1]

[1] المراد بذواتها هنا الواجبات النفسية التي وجبت مقدماتها لأجلها، ومفردها: (ذو المقدمة)، والقياس في جمعه: (ذوو المقدمة) أما (ذوات) فجمع (ذات).
282

ليس من جهة اقتضاء وجوب ذواتها الذي لم يحصل بعد، بل لأجل أن تلك المقدمات من شؤون القدرة على الفعل في وقت وجوبه، بمعنى أن المكلف لو فعلها يصير متمكنا من ذواتها في وقت وجوبها، ولو تركها يتعذر عليه الإتيان بذواتها في ذلك الوقت، فيفوت عليه التكليف لذلك، فيكون تركها قبل وقت وجوب ذواتها تفويتا للتكليف بذواتها في وقت وجوبها، وتفويت التكليف مما يستقل العقل بقبحه.
لا يقال: إن مقتضى ذلك وجوب تحصيل الشرائط الوجوبية الصرفة للواجب أيضا كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج، إذ لا فرق بينها وبين القدرة لكون كل واحدة منهما من شرائط الوجوب، ويكون ترك كل منهما تفويتا موجبا لاستحقاق العقاب، ووجوب تحصيل الشرائط الوجوبية مطلقا خلاف الضرورة، فإن كان فرق بينهما فبينه [1].
لأنا نقول: نحن لا ندعي قبح التفويت كلية بل جزئية، وهي فيما إذا كان الفعل في نفسه تاما من حيث المصلحة، بحيث لا مانع من التكليف به إلا عجز المكلف من أدائه، بحيث يكون مع العجز أيضا ذا تلك المصلحة إلا أن عجزه منعه عن الإتيان به، والشرائط الوجوبية ليست كلها من هذا القبيل، بل بعضها راجع إلى شرط تحقق تلك المصلحة الداعية للأمر في المأمور به، بمعنى أن الطبيعة المأمور بها لا مصلحة ملزمة فيها بدونه، بل معه بحيث يكون موضوع

[1] وأيضا لقائل أن يقول: إنه قد مر أنه لا خلاف في عدم وجوب المقدمات الوجوبية، وإنما هو في الوجودية فقط.
ولكن الجواب عنه: بأن هذا ليس من جهة كون القدرة شرطا للوجوب، بل لأجل أن سلبها تفويت للتكليف.
وبعبارة أخرى: نحن لا نقول بوجوب تحصيل القدرة، بل نقول بعدم جواز سلب الحاصلة منها، والسؤال إنما يتجه على الأول لا الثاني، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
283

الخطاب هو الجامع لهذا الشرط، والاستطاعة من هذا القبيل، حيث إنه لا مصلحة ملزمة في طبيعة الحج بدونها، ويكون موضوع الأمر ثمة هو المستطيع، وبعضها راجع إلى شرط حسن الأمر والإلزام كالقدرة، فإنها من شرائط حسن الأمر والإلزام، لا من شرائط حسن الفعل المأمور به، بل هو حسن مع العجز أيضا، ونحن ندعي قبح التفويت المتحقق في ضمن القسم الثاني خاصة لا الأول أيضا.
وبعبارة أخرى: إنا ندعي قبح تعجيز النفس [1] عن امتثال التكليف سواء كان متحدا مع عنوان المخالفة والعصيان في الخارج - كما إذا عجز نفسه بعد دخول وقت الواجب، حيث إن سلب القدرة عن نفسه حينئذ مخالفة وعصيان لذلك الواجب المطلق - أو لا - كما في الواجبات المشروطة قبل مجيء وقت وجوبها - والتعجيز يتحقق بالقسم الثاني لا الأول.
هذا حاصل مراد الموجه بتوضيح من الأستاذ - دام ظله العالي -.
وقد يستشهد لما ادعاه من قبح تعجيز النفس واستحقاق العقاب عليه بفروع:
منها: أنهم اتفقوا ظاهرا على العقاب على المرتد () الفطري على الفروع

[1] أقول: ويدل على قبح التعجيز: أنه لو وصل طومار من مولى إلى عبده، وعلم العبد أن لمولاه فيه أوامر مطلقة أو مشروطة، فضيع العبد ذلك الطومار، ومحاه قبل أن يرى ما فيه، ولم يتمكن بعد ذلك من العلم بما فيه أيضا، ولم يقدر على الاحتياط الكلي أيضا، فلا يرتابون () العقلاء - في ذمه وتقبيحه على هذا الفعل الموجب لعجزه عن امتثال تلك الأوامر، ولا يفرقون في الذم والتقبيح بين الأوامر المشروطة والمطلقة، وإن كانوا يفرقون بينهما بالحكم لتحقق المخالفة والعصيان بذلك، لا بالنسبة إلى الثانية من أول الأمر دون الأولى. لمحرره عفا الله عنه.
284

مطلقا - من الواجبات المطلقة المنجزة عليه عند الارتداد أو المشروطة التي تحصل شروطها بعده - بناء على عدم قبول توبته، حيث إنه من أفراد المقام، إذ الارتداد سلب القدرة على المأمور به، إذ من شرط العبادة الإسلام، وهو الآن متعذر عليه.
ومنها: ما اتفقوا عليه من وجوب قضاء العبادات على الكفار وعقابهم عليه، فإنه أيضا من أفراد المقام، حيث إنهم بالكفر سلبوا قدرتهم عن الامتثال والقضاء: أما في حال الكفر فظاهر، وأما لو أسلموا فهو () يجب ما قبله، فلا يبقى تكليف بالقضاء. وكيف [كان]، فالمقصود الاستشهاد بكونهم معاقبين على القضاء لو ماتوا على الكفر مع عدم قدرتهم عليه.
هذا، ولكن الإنصاف أن الوجه المذكور محل تأمل، بل لا يبعد منعه، فإن المراد من قبح التفويت والتعجيز: إن كان إثبات الوجوب النفسي () لتلك المقدمات ولو بأن يقال: إن الوجوب النفسي لا ينحصر فيما كان
المصلحة الداعية إلى الأمر حاصلة في نفسه، بل يمكن أن يكون مما تكون المصلحة الداعية إلى الأمر به هي المصلحة الحاصلة في غيره، وهي في المقام التأهل للتكليف بشيء آخر، فهذا راجع إلى الوجه الأول من وجوه دفع الإشكال، مع أن الموجه في مقام إبداء وجه آخر غير الأول والثاني، بل حكي - عن ظاهر بعض عباراته أيضا - الطعن منه على من اختار الوجه الأول.
وإن كان المراد إثبات الوجوب الغيري لها فهذا ليس توجيها للإشكال ودفعا له، بل إنما هو قول بموجبة، وموافقة لمن قال باتصاف المقدمة بالوجوب قبل وجوب ذيها، كصاحب الذخيرة والخوانساري - قدس سرهما - مع أنه في
285

مقام التوجيه.
نعم يمكن أن يقال: إن مراده أن القدرة على الفعل الواجب ولو في زمان موجبة لتنجز التكليف بذلك الواجب في وقت وجوبه ولو كان ذلك الوقت متأخرا عن زمان القدرة، بمعنى أنها مجوزة عند العقل للعقاب على ترك ذلك الواجب لا محالة ولو فاتت وانقطعت قبل وقته إذا كان الفوات باختيار المكلف وإنما المسلم إنما هو عدم إيجابها للأمر بذلك الواجب والتكليف به في وقته إذا كانت قد فاتت قبله.
والحاصل: أن الامتناع بالاختيار - سواء كان في وقت وجوب الواجب أو قبله - لا ينافي العقاب، ولو نافى فهو ينافي الأمر، فإن القدرة على الفعل في زمان موجبة لحسن العقاب عليه - سواء بقيت إلى وقته أو فوتها المكلف قبله، وإذا قدر المكلف على المقدمات في زمان قبل وقت الواجب فهو قادر الآن على الإتيان بذلك الواجب في وقته، بأن يوجد تلك المقدمات الآن، فيفعل الواجب بعدها في وقته، فيتنجز عليه ذلك الواجب، بمعنى حسن العقاب على تركه إذا كان مسببا عن تقصيره، فلزوم الإتيان بتلك المقدمات حينئذ إنما هو للتحرز عن ذلك العقاب، إذ لو فوتها فقد فوت القدرة، ومعه يستحقه.
ففارق هذا الوجه الوجه الأول، حيث إن وجوبها على هذا الوجه ليس نفسيا، وليس العقاب المذكور على نفس تلك المقدمات، بل وجوبها غيري، بمعنى أنه لأجل الغير، والعقاب إنما هو على الغير، إلا أنه يجوز تقديمه على وقت ذلك الغير، لتحقق ترك ذلك الغير الواجب الآن لعدم تمكنه منه بعد تفويت تلك المقدمات.
وكذا فارق الوجه الثاني، لأن الكلام على هذا الوجه على تقدير عدم حصول وجوب ذي المقدمة بعد.
ولا يرد أيضا ما ذكر من الالتزام بموجب الإشكال، فإن وجوب تلك
286

المقدمات ناشئ عن عقاب ذواتها، لا عن وجوب ذواتها، فافهم.
نعم يمكن أن يكون مراده إثبات العقاب - عند ترك المقدمات - على ذواتها، لا إثبات وجوب تلك قبل وجوب ذواتها، بل الحال فيها هي الحال في سائر المقدمات عند حصول وجوب ذواتها، فإنه ليس الكلام الآن في وجوب المقدمة.
ولكن الإنصاف أن الظاهر أن مراده ليس دعوى وجوب تلك المقدمات، بل إنما هو أوكل الأمر فيها إلى سائر المقدمات، بمعنى أن حالها إنما هي حال سائر المقدمات عند وجوب ذواتها، فيثبت لها حينئذ ما ثبت لغيرها على اختلاف الآراء.
بل مراده: أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار: بمعنى الأمر كما هو مقالة المشهور، أو بمعنى العقاب كما هو مقالة آخرين، وعليه المذهب في الجملة، وأنه يكفي في تنجز التكليف على المكلف - بحيث يصح عقابه على تركه - قدرته على المكلف به في الجملة، ولا يشترط بقاؤها إلى وقت وجوب الواجب إذا لم تفت عليه بسبب غير اختياري له، ولا ريب أنه إذا علم الآن بتوجه خطاب إليه فيما بعد، وكان الآن متمكنا من الإتيان بمقدمات المأمور به التي لو فعلها الآن يقدر على الإتيان به في وقته، ولو تركها يتعذر عليه حينئذ، فهو الآن قادر على الإتيان بالمأمور به في وقته لقدرته الآن [على] ما يتوقف () عليه. وهذا القدر من القدرة كاف في تنجز التكليف عليه فيما بعد بحكم العقل وبناء العقلاء.
ولما كان المفروض فيما نحن فيه علم المكلف بتوجه أمر إليه فيما بعد، وقدرته على مقدماته التي لو فعلها يتمكن من فعل المأمور به في وقته، فهو قادر قبل الوقت على المأمور به في وقته، فيوجب ذلك تنجز ذلك الأمر عليه في ذلك
287

الوقت، فحينئذ لو ترك تلك المقدمات فهو قد فوت المأمور به عليه بسوء اختياره، وهو لا ينافي العقاب على المكلف به لا محالة، ولو كان بتفويت القدرة قبل مجيء وقت الواجب، فالعقل يحكم حينئذ بلزوم التحرز عن ذلك العقاب وقبح إيقاع النفس فيه، ولا ريب أن ترك المقدمات حينئذ إيقاع للنفس في مهلكة العذاب، فوجوب تلك المقدمات ليس من جهة المقدمية للواجب ومن حيثيته، إذ المفروض عدم وجوبه بعد، وليس نفسيا - أيضا - كما لا يخفى، لأن التزام العقلاء بذلك إنما لأجل الفرار عن العقاب، فيكون وجوبها عقليا إرشاديا غيريا، ففارق هذا الوجه الوجه الأول للثاني، والثاني للأول ()، فمن هنا علم أن مراده من التكليف المدعى قبح تفويته هو المكلف به، لا الأمر، إذ المفروض توجه الأمر إليه فيما بعد ولو عجز عن المكلف [به] بسوء اختياره، كما مر.
مع أنه لا يعقل جعل المدار في القبح على تفويت الأمر، إذ لو كان المدار عليه لسرى إلى جميع الموارد، مع أن بعضها عدم العقاب فيه بديهي في الدين، كما لو كان أحد قادرا على تحصيل الشرعية فلم يحصلها، إذ لا شبهة في عدم العقاب عليه في ذلك وعدم القبح أيضا، مع أنه فوت الأمر، مع أنه لا معنى لقبح تفويت الأمر، إذ لا مطلوبية ومحبوبية في الأمر نفسه، وإنما المصلحة في الفعل المأمور به.
هذا، ثم إن القائل [قد] () يقول: إنه لا يمكن البناء على كفاية القدرة الحاصلة قبل وقت الوجوب في تنجز الواجب على المكلف في ذلك الوقت بطريق الإيجاب الكلي بالنسبة إلى الموارد، والالتزام به في مورد دون آخر ترجيح بلا مرجح:
أما عدم إمكان البناء عليه كلية فلأنه لا ريب في أن من قدر على
288

تحصيل الاستطاعة المشروط بها وجوب الحج الآن فهو قادر الآن على () الحج في وقته بتقريب ما مر، مع أن عدم العقاب عليه لو لم يحصلها ضروري الدين.
وأما الثاني - أعني عدم الترجيح لبعض الموارد وعدم خصوصية له بالنسبة إلى ما عداه - فواضح، وإن كان فبينه ().
هذا، لكن الإنصاف عدم ورود هذا السؤال، فإن عدم إمكان الكلية المذكور - وإن كان مسلما - إلا أن منع خصوصية لبعض الموارد على الآخر ممنوع.
بيانه: أن مراد الموجه: أن هذه قاعدة عقلية ثابتة بالعقل وبناء العقلاء فيما إذا كان الأمر مطلقا بالنسبة إلى القدرة، لكن للآمر أن يعتبر في أمره تقييده بقدرة خاصة - وهي الحاصلة في وقت الواجب كما في الحج - فيخرج بذلك عن موضوع حكم العقل، فلا يرد أيضا أن هذا تخصيص لحكم العقل، فثبت الخصوصية لبعض
الموارد بالنسبة إلى الآخر.
هذا، لكن الإنصاف - بعد ذلك كله - عدم جواز تصديق الموجه في ذلك.
نعم، المذمة ثابتة من العقلاء لو عجز العبد نفسه عن الإتيان بالواجب في وقته، لكن الظاهر أنه على الفاعل لا الفعل.
ثم إن الفرق بين ما نحن فيه وبين المسألة المتقدمة سابقا، وهي ثبوت العقاب على من علم إجمالا بأحكام الله تعالى عليه، فلم يتعلمها حتى وصل وقت الواجب وهو غافل عن وجوبه: أن الكلام هنا - كما عرفت - في أن المعتبر في تنجز التكليف بالواجب في وقته هو بقاء القدرة للمكلف في ذلك الوقت أو في
289

الجملة بعد علم المكلف قبل الوقت بتوجه أمر إليه فيما بعد لو بقي على شرائط التكليف، وثمة في أن احتمال التكليف بالنسبة إلى شيء مانع عن الرجوع إلى أصالة البراءة قبل الفحص، إذ لا بد من الفحص.
ثم إنه ليس الكلام في هاتين المسألتين من جهة وجوب المقدمة كما لا يخفى.
ثم إنه بعد ما صدقنا الوجه المذكور يشكل الأمر في الأمثلة المتقدمة، حيث إنه لا [مجال] () لإنكار الوجوب فيها، ولا يمكن القول بالوجوب النفسي كما هو الوجه الأول لا سيما في مثل تعلم المسائل والقراءة قبل الوقت، فينحصر العلاج في التزام أحد أمور:
الأول: إنكار العقاب عند ترك تلك المقدمات، وهو مشكل.
الثاني: نفي الواجب المشروط وإرجاع جميع الواجبات المشروطة بظاهر الأدلة إلى المعلق، وهو أشكل للقطع بوجود واجبات مشروطة.
الثالث - التزام الوجه الثالث ودفع الإشكال بعدم إمكان القول به كلية بالتزام الجزئية، وإبداء الفرق بأحد وجهين - على سبيل منع الخلو:
أحدهما: ما مر من اختصاصه بالأوامر المطلقة بالنسبة إلى القدرة.
والثاني: أن يقال: إن شرائط الوجوب في الواجب المشروط على ضربين:
أحدهما: ما يكون محققا لعنوان الآخر بحيث لا يتعلق هو إلا به، كالاستطاعة للحج، حيث إن الأمر به يتعلق بالمستطيع.
والآخر: ما ليس كذلك، بل الأمر يتعلق مطلقا بالنسبة إليه كالقدرة، فيقال بقبح التفويت في الثاني دون الأول.
290

ويمكن أن يقال: إن شرائط الوجوب في الواجب المشروط () - كما أشير إليها - على ضربين: الشرعية والعقلية:
الأولى: كالبلوغ والاستطاعة في الحج، والخلو من الحيض والنفاس في العبادات بالنسبة إلى المرأة.
الثانية - هي القدرة بأنحائها، وأما العلم بالمأمور به فليس من شرائط الوجوب ولا الوجود، لكفاية الاحتمال.
وإن الأولى من محققات عنوان الأمر بحيث لا يكون للأمر تعلق بالمكلف أصلا بدونها، ويكون فاقدها خارجا عن موضوع الخطاب.
وأما الثانية فمن شرائط تعلق الأمر، لا محققة لعنوانه، فمن هنا يقال:
إن الواجب المشروط ينحل إلى قضيتين: إحداهما سلبية، والأخرى إيجابية، فإن وجوب الحج بملاحظة اشتراطه بالاستطاعة ينحل إلى قولنا: المستطيع يحج، وغيره لا يحج، وكذا في غيرها من شرائط الوجوب، وأما الوقت فليس من شرائط الوجوب، بل للوجود.
فحينئذ نقول: إنه إذا تحقق في المكلف الشرائط الشرعية للوجوب - مع علمه ببقاء قدرته إلى وقت الفعل لو لا مانع سوء اختياره - يتعلق () الآن التكليف بالواجب به ويتنجز عليه لحصول شرائطه، فلا يجوز تفويت القدرة بعده بسوء اختياره، لأنه راجع إلى مخالفة الأمر عمدا، ولا يكون مشروطا بالنسبة إلى الوقت، بل [من] المعلق - الذي هو قسم من المطلق -، فحينئذ لو لم يتعلم المسائل والقراءة، أو لم تغتسل بعد دورة الشهر التي هي كالشرط ()
291

في وجوب الصوم شرعا، مع كونه بالغا، أو عجز نفسه عن الإتيان بالمكلف به في وقته، فهو معاقب لكونه مفوتا له بعد تنجز التكليف، فهو عاص.
وأما لو انتفى عنه فعلا أحد الأمور الشرعية التي هي شروط الوجوب مع علمه بحصوله بعد، ولو كان الآن قادرا على نفس الفعل عقلا، أو انتفى الآن عنه القدرة حال كونه جامعا فلا دليل على كونه معاقبا على تفويت التكليف بتفويت القدرة الآن عن نفسه بحيث لا يبقى له قدرة حين حصول الشروط الشرعية في الصورة الأولى، أو بتفويت الشروط الشرعية في الثانية، وأما الثاني فواضح، وأما الأول فلعدم العلم به، فنقول حينئذ:
إن تعلم المسائل والقراءة والغسل للصوم وعدم تفويت القدرة إنما يسلم وجوبها في صورة كون المكلف جامعا للشروط الشرعية وعالما بأنه لو لا مانع سوء اختياره لقدر على المكلف [به] في حينه، فيكون وجوب تعلم المسائل أو الغسل في الليل بعد الرؤية على طبق [القاعدة] لكونهما حينئذ من مقدمات الواجب المشروط بعد وجود شرطه.
وأما عدم جواز تفويت القدرة فهو من باب أنه راجع إلى مخالفة هذا التكليف المنجز عليه الآن، لا من جهة كونه مقدمة وجودية وإن جعلتها مقدمة وجودية أيضا وقلت بوجوبها، لأنه حينئذ على طبق القاعدة.
وأما في غير صورة اجتماع تلك الشرائط فلا إجماع دل على وجوبها وعلى مدعيه الإثبات.
وكيف كان، فالأجوبة الثلاثة عن الإشكال المتقدم ما لا يخفى في كل منها:
أما الأول - وهو التزام كون تلك المقدمات واجبة نفسا - فلعدم إمكان الالتزام به، لا سيما في مثل تعلم المسائل والقراءة.
وأما الثاني - وهو التزام كون الواجبات التي هي ذوات تلك المقدمات
292

معلقة - فهو أيضا غير مطرد، إذ ليس يمكن إرجاع كل أمر مقيد إلى الواجب المعلق بجعل القيد متعلقا للواجب لا الوجوب إذ لنا في الشريعة واجبات مشروطة بالضرورة، فتتوقف تمامية الوجه - بحيث ينفع في كل مورد - على إنكار الواجب المشروط، وهو كما ترى.
وأما الثالث - وهو التزام كونها مشروطة والقول بوجوب تلك المقدمات من باب عدم جواز تفويت القدرة - فقد عرفت ما فيه من أن المسلم من حكم العقل بقبح التفويت إنما هو فيما إذا كان توجه التكليف إلى المكلف فعلا بحيث يكون داخلا في موضوع الخطاب لرجوع سلب القدرة حينئذ إلى مخالفة الأمر وعصيانه، وأما قبله فلا.
نعم يذم العبد من باب أنه يكشف عن سوء سريرته، فالقبح فاعلي، لا فعلي يترتب عليه العقاب.
فالأجود أن يقال: بأنه إن أمكن حمل الأمر المقيد بتقدير خاص على المعلق - بأن يستفاد من الدليل كون القيد راجعا إلى المطلوب لا الطلب - نلتزم () حينئذ بوجوب تلك المقدمات قبل حصول التقدير الخاص بكونها حينئذ مقدمات للواجب المطلق، وهو على طبق القاعدة، وإلا فنمنع وجوبها إلا في صورة حصول القيد، فنحن لسنا
ملتزمين بوجوبها في كل مورد حتى يرد علينا الإشكال، فنقع في كلفة الجواب.
تنبيه:
اعلم أنه قد خص بعضهم وجوب الغسل في ليلة رمضان بالجزء الأخير منها الذي يسع الغسل () معللا: بأن الحاكم بوجوب المقدمة هو العقل، وهو
293

لا يحكم ولا يلزم به إلا في تلك الحال.
وفيه: أن حكم العقل به إنما هو من جهة ملاحظة الأمر بذيها، فحينئذ إن فرض أمر قبل الصبح فلا فرق حينئذ بين الجزء الأول من الليل وآخره.
نعم في الجزء الأول - لما يرى تعدد أفراد الغسل بحسب إمكان إيقاعه في الليل - لا يحكم به مضيقا، بل موسعا ومخيرا، وحكمه بالضيق في آخر الوقت لانحصار الفرد فيه، وان لم يكن امر فلا يحكم بالوجوب.
والظاهر أن المشهور بناؤهم على جواز نية الوجوب في الغسل في أي جزء من الليل.
لكن يرد عليهم: أنهم إذا لم يخصوا الوجوب بالجزء الأخير، فلم ما عمموه إلى [ما] قبل رمضان أيضا.
لكنه مدفوع: بأن الخطاب لم يتوجه بعد إلى المكلف، وإنما يتوجه إليه بعد الرؤية بمقتضى قوله تعالى: من شهد منكم الشهر فليصمه ()، فإذا رأى الهلال يجب () عليه صوم الشهر، ويكون مجيء كل يوم من ظروف الامتثال () لا من شروط الوجوب، فيكون الوجوب معلقا بالنسبة إليه، فيجب من أول الليلة.
ينقسم الواجب باعتبار آخر إلى النفسي والغيري:
والذي ينبغي أن يعرف به الغيري - بحيث يسلم عما يرد على ما عرفه به بعضهم - هو أن يقال: إنه ما يكون وجوبه لأجل واجب آخر، أي لكونه
294

مقدمة لامتثال واجب آخر، فعلى هذا لا يحتاج لزوم إيجاده إلى خطاب من الشرع لكونه معنونا بعنوان المقدمة الذي يحرك معه العقل إلى إيجاده، ولو فرض ورود خطاب به من الشارع فهو لا يكون إلا إرشاديا أو بيانا لكون الشيء مقدمة، كما في المقدمات الشرعية التي لا سبيل للعقل إلى توقف الواجبات عليها مثل:
قوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا () الآية، وأمثاله.
والواجب النفسي بخلافه، فعلى هذا ينطبق () الحد على مقدمات الواجبات كلها، ولا يشمل غيرها أصلا، ولا بد أن يكون كذلك، فإن الظاهر بل المقطوع به أن مرادهم بالواجب الغيري - اصطلاحا - ذلك لا غير، وان كان يصح إطلاقه أيضا على ما كان الغرض من وجوبه التوصل إلى مصلحة حاصلة في غيره لغة، لكنه خارج عن محل الكلام.
وبالجملة: فخرج بقولنا: (لأجل واجب آخر) ما كان الداعي إلى وجوبه حصول غاية وغرض من الأغراض ولو كان ذلك الغرض والغاية هو التأهل لتكليف آخر، كما قيل في وجوب الغسل على الجنب والحائض والنفساء في ليلة رمضان فرارا عن لزوم تقدم وجوب المقدمة على وجوب ذيها، كما عرفت سابقا مع ما فيه.
ومن عرف الواجب الغيري: بأنه ما يكون وجوبه لأجل الغير يرد عليه النقض بجميع الواجبات النفسية، لأنها إنما وجبت لأجل الغير، وهو غايتها المترتبة عليها كالتقرب ونحوه.
ثم إن لازم الواجب الغيري سقوط الوجوب عنه إذا وجد في الخارج بأي وجه اتفق، إلا أنه إذا كان عبادة ليس هو بذاته مقدمة، بل المقدمة هو متقيدا
295

بكونه واقعا على وجه الطاعة، فلا يوجد بدون قصد الامتثال، ضرورة انتفاء المقيد بانتفاء قيده.
ولازمه - أيضا - أنه لو أوجده المكلف قبل زمان وجوب الواجب - الذي هو مقدمة لذلك، وكان واجدا له إلى أن دخل وقت ذلك الواجب - يسقط وجوبه، ولا يلزم إعادته ثانيا، فمن توضأ قبل الوقت استحبابا، وقلنا بكونه رافعا، فلا حاجة إلى إعادته بعد دخول وقتها، فإن ما يتوقف عليه إباحة الدخول في الصلاة إنما هو كون المصلي متطهرا عند الدخول، وهذا أمر حاصل من ذلك الوضوء، فيرجع الأمر بإعادته إلى طلب الحاصل.
ثم إنك قد علمت: أن الحكمة الباعثة على وجوب الواجب الغيري إنما هو كونه مقدمة لامتثال واجب آخر فمهما تحققت تلك الحكمة في شيء فيترتب عليه ذلك الوجوب عقلا ولو لم يكن هناك أمر من الشارع، كما أنها أينما انتفت لا يعقل الوجوب الغيري هناك.
ومن هنا ظهر فساد ما ذهب إليه بعضهم من منع وجوب مقدمة الواجب بالوجوب الغيري إلا ما دل دليل شرعي على وجوبها كذلك كالوضوء ونحوه.
وتوضيح فساده: أنه إن فرض خلو الوضوء ونحوه مما اعترف هو بوجوبه الغيري بمقتضى الأدلة النقلية عن تلك المصلحة فلا يعقل إيجاب الشارع إياه لأجل المقدمة للغير، وإن فرض حصولها فيه وأن الشارع أوجبه لتلك فلا يعقل الفرق بينه وبين سائر الموارد من المقدمات التي لم يرد من الشارع خطاب على وجوبها لوجود تلك في كل واحدة منها بعينها من غير نقصان فيها.
وبالجملة: الوجوب الغيري لشيء قد يثبت من الشارع كما في المقدمات الشرعية التي لا سبيل للعقل إلى معرفة كونها مقدمات، وقد يثبت بالعقل كما في المقدمات العقلية والعادية.
وكيف كان، فلا يعقل التفصيل فيه بين المقدمات بعد إحراز كونها
296

متساوية من حيث المقدمية، ولا ثبوته فيما خلا عن تلك الحيثية.
مقتضى الأصل اللفظي عند الشك في النفسية والغيرية
ثم إن مادة الوجوب أو الهيئة الموضوعة لها - وهي صيغة (افعل)، أو غيرهما وهي أسماء الأفعال الدالة على ما تدل عليه المادة والهيئة - هل هي حقيقة بحسب الوضع اللغوي أو العرفي في الوجوب النفسي أو أنها للأعم منه والغيري؟ الحق هو الثاني، فإنا إذا راجعنا العرف - وكذا وجداننا - في مقام التخاطب مع قطع النظر عما يوجب صرف اللفظ إلى النفسي يتبادر منه القدر المشترك بينهما - أي ما يقبل الانطباق [على] كل منهما - وهو دليل الوضع.
نعم يجب حمل تلك الألفاظ عند الإطلاق على الوجوب النفسي إذا كان المقام جامعا لشرائط صحة التمسك بالإطلاق من كونه في مقام بيان تمام مقصود المتكلم مع خلوه عن أمارة موهمة لإرادة المقيد، وهو الوجوب الغيري فيما نحن فيه، فيحكم حينئذ - بمقتضى قاعدة الحكمة من قبح تفويت الغرض ونقضه - أن المراد هو المطلق، وهو فيما نحن فيه الوجوب النفسي، فإن الوجوب النفسي والغيري كليهما وإن اشتركا في كون كل واحد منهما مقيدا بعلته كما هو الحال في سائر الموجودات من الممكنات، حيث أن كلا منها مقيد بعلته - بمعنى أن وجودها ليس على كل تقدير، بل إنما هو على تقدير وجود عللها الموجدة لها - إلا أن الوجوب الغيري إنما هو مقيد بعنوان غير مقيد به النفسي، وهو كونه لأجل واجب آخر - كما عرفت في حده - فتكون نسبته إلى النفسي من نسبة المقيد إلى المطلق، فيجري فيهما ما يجري في المطلقات والمقيدات.
ويكفيك شاهدا على ذلك: أنه لو تعلق غرض المتكلم ببيان الوجوب الغيري لا يكفيه إيراد اللفظ مجردا عن التقييد
بكونه لأجل واجب آخر بحيث لو عبر عن مقصوده ذلك باللفظ المطلق لكان مخلا بغرضه جدا، بخلاف ما لو كان مراده الوجوب النفسي وتعلق غرضه ببيانه، حيث إنه يكفيه التعبير عنه
297

باللفظ المطلق من دون حاجة إلى التقييد بكونه نفسيا.
وكيف [كان] فلا ينبغي الارتياب في وجوب حمل تلك الألفاظ عند الإطلاق على النفسي [1] لعدم ذكر القيد إذا كان المقام مقام بيان المراد من جهة النفسية والغيرية بأن يحرز من حال المتكلم كونه في هذا المقام وإن كان إحراز ذلك - لقلة [2] موارده - في غاية الإشكال.
ثم إنه يمكن دعوى ظهور تلك الألفاظ الدالة على الوجوب في النفسي منه عند الإطلاق من جهة الانصراف بسبب أكملية النفسي إلى حيث كأن

[1] اعلم أن ما اخترنا من ظهور الأمر في الوجوب النفسي نريد ظهوره في الوجوب المطلق، أي غير المقيد بواجب آخر قبال المقيد به، وهذا المفهوم ملازم للوجوب النفسي، ومساو له، فالأمر لا ظهور له - أولا وبالذات - في النفسي، بل هو ابتداء ظاهر - لأجل إطلاقه - في المطلق بالمعنى المذكور، فيكون ظاهرا في النفسي من جهة ملازمة ذلك المفهوم للوجوب النفسي وتساويه له، فيكون ظهوره فيه بالالتزام، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
[2] لأنه لا يترتب على بيان النفسية والغيرية فائدة غالبا، وإنما قيدنا بالغالب، لأنه قد يتوهم المخاطب فيما إذا كان الواجب غيريا في الواقع مع عدم تقييد الأمر بكونه غيريا في الظاهر، أي ذلك واجب عليه على تقدير عدم وجوب ذلك الغير أيضا، فيقع لأجل ذلك في كلفة الإتيان به في غير وقت وجوب ذلك الغير أيضا، فإذا كان الآمر المكلف - بالكسر - بانيا على تسهيل الأمر على عبده كما هو شأن الشارع، فذلك يقتضي أن يبين له كونه غيريا، لكن لا يخفى أن ذلك إنما يتصور فيما إذا كان وجوب ذي المقدمة المعبر عنه بالغير في وقت دون آخر، وأما إذا كان وجوبه دائميا فلا فائدة في البيان أصلا، لعدم تمشي التسهيل حينئذ، فإنه إذا كان ذو المقدمة واجبا دائما يكون () مقدمته واجبة كذلك، فلا يتصور له مقام بيان أصلا، فإن حال الخطاب الغيري حينئذ يكون حال الوجوب المشروط بحسب الواقع المتوجه إلى المكلف [حال كونه] () واجد الشرط، فكما أنه ليس المقام ثمة مقام البيان كذلك هنا، فلا يصح التمسك بالإطلاق المقامي.
اللهم إلا أن يتصور حينئذ أيضا حكم آخر مترتب على بيان الغيرية. لمحرره عفا الله عنه.
298

الوجوب منحصر فيه بحيث لا يرى في الأنظار ابتداء غيره.
بل ويمكن دعوى ظهور الطلب الوجوبي في النفسي أيضا من غير جهة الانصراف وهو جهة ظهور حال الطالب، فإن الظاهر من حال الطالب لشيء إنما هو كون محبوبه وغرضه نفس ذلك المطلوب، لا كونه مقدمة لحصول غرضه الحاصل في غير ذلك المطلوب، فهذا الظهور الحالي يوجب ظهور اللفظ في كون المراد هو النفسي ولو لم يكن في المقام شيء من أسباب الانصراف، ولا ريب أن الظهور المستند إليه أقوى مما استند إلى بعض المراتب من مراتب أسباب الانصراف، كما لا يخفى على المتأمل.
ثم لا يخفى أن قاعدة الحكمة الموجبة لحمل المطلقات على المعاني المطلقة لا توجب ظهور اللفظ المطلق في إرادة المعنى المطلق، ولذا لو دل خطاب آخر على إرادة المقيد ولو بأضعف الظهورات اللفظية لا تعارض بينه وبين تلك المطلقات، بل هو وارد على إطلاقها نظرا إلى أن موضوعه إنما هو عدم البيان، ومع ذلك الخطاب يرتفع هذا الموضوع الذي هو المناط للقاعدة المذكورة، وهذا واضح، بخلاف ما لو حملناها على المعاني المطلقة عند الإطلاق من جهة الانصراف أو الظهور الحالي المذكور، فإنه حينئذ لأجل ظهور اللفظ في كون المراد هو المطلق ويكون السبب للانصراف أو الظهور الحالي قرينة عليه ومنشأ لهذا الظهور، ولذا لا يتوقف حمل المطلق حينئذ على المعنى المطلق على إحراز كونه واردا في مقام البيان، بل إنما هو ظاهر في إرادته من أول الأمر.
فعلى هذا لو دل خطاب آخر منفصل على إرادة المقيد يقع التعارض بينه وبين ذلك الظهور، فتلاحظ قاعدة التعارض.
وإن شئت قلت: إن بملاحظة قاعدة الحكمة بعد إحراز مقام البيان يظهر أن مراد المتكلم هو المعنى المطلق، لكن ليس هذا الظهور حينئذ ناشئا من اللفظ ولو بسبب القاعدة، بل إنما هو ظهور خارجي ناش عن أمر خارجي كظهور
299

أن المراد هو المعنى الفلاني من الخبر بملاحظة شهرة الفتوى مثلا.
هذا بخلاف الظهور من جهة الانصراف أو الظهور الحالي، إذ لا ريب أنهما يوجبان ظهور () اللفظ في إرادة المعنى المطلق من أول الأمر فيكون ذلك الظهور من الظهورات اللفظية المعتبرة.
ثم إن المحققين على أن المطلقات إنما هي موضوعة لنفس الطبائع المهملة الصالحة لجميع الاعتبارات والطواري من القيود بحيث لم يلحظ فيها اعتبار كونها مطلقة أيضا، مضافا إلى عدم ملاحظة اعتبار سائر القيود، فإرادة المقيدات من تلك الطبائع منها لا توجب صيرورتها مجازا حينئذ، لاستعمالها حينئذ أيضا فيما وضعت له، فإن وجوده في ضمن المقيد لا يقدح في كون استعمال اللفظ فيه حقيقة، إذ المفروض أنه معنى لا بشرط يصلح لألف شرط.
نعم لو أريدت الخصوصية من حاق اللفظ فيكون مجازا، لأنه لم يوضع لذلك المعنى بتلك الخصوصية، بل مع قطع النظر عنها.
لكن الظاهر أن إرادة الخصوصيات فيما إذا كان المراد هو المقيدات ليس من حاق اللفظ، بل إنما هي بدال آخر، كأحد أسباب الانصراف أو قرينة أخرى، فيكون إفادة المقيدات بدالين لا بواحد.
أقول: وهذا هو الحق الذي ينبغي أن يعتمد عليه وفاقا لشيخنا الأستاذ - قدس سره - ولسيدنا الأستاذ [1] - دام ظله -، فعلى هذا يكون الحال في المطلقات المحمولة على المعاني المطلقة - التي هي فرد من تلك الطبائع المهملة كالمطلقات المحمولة على الأفراد الشائعة أو الكاملة من جهة الانصراف - هي

[1] هذا الكلام صريح في أن هذا الكتاب تصنيف للمحرر، لا تقرير لدرس أستاذه (قده)، كما مر نظائره في الإشارة إلى ذلك.
300

الحال فيها فيما إذا حملت عليها من جهة قاعدة الحكمة بالنظر إلى الثمرة الآتية بين كون الوجوب موضوعا للنفسي أو كونه للأعم، وأنه محمول على النفسي من باب قاعدة الحكمة إذا جرت في مورد.
نعم قد قيل: إن الانصرافات من قبيل المجاز بمعنى أن اللفظ مستعمل في خصوص معنى المنصرف إليه.
وقد يقال: إنها من جهة الوضع في العرف بمعنى أن المطلقات في الأصل وإن كانت موضوعة للطبائع المهملة، لكنها في العرف نقلت إلى ما ينصرف إليه [1].
وعلى هذين القولين - أي على أي منهما - يخالف حكم المطلقات المنصرفة - بأحد أسباب الانصراف إلى المعاني المطلقة أو الأفراد الشائعة أو غيرها - حكمها إذا حملت على المعاني المطلقة من جهة قاعدة الحكمة المذكورة بالنظر إلى الثمرة الآتية.
لكن لا يخفى على المتأمل فساد هذين القولين كليهما.
ثم إنه يسري () - من الخلاف في أن الانصرافات من قبيل تعدد الدال ووحدة المطلوب كما هو المختار عندنا، أو أنها من قبيل المجاز كما هو قول بعض، أو من باب الوضع العرفي كما هو مذهب آخرين - الخلاف في أن ظهور الأمر وغيره - مما يدل على الوجوب - في الوجوب النفسي العرفي هل هو من باب تعدد الدال ووحدة المطلوب أو من باب المجاز أو الوضع العرفي [2] لكون المقام

[1] بمعنى أن المطلقات بوصف إطلاقها، أي حال كونها مطلقة نقلت إلى ما ينصرف إليه عند الإطلاق. لمحرره عفا الله عنه.
[2] اعلم أنه إذا قام قرينة على عدم إرادة الوجوب النفسي يحمل () على الوجوب الغيري، لأنه أقرب من الاستحباب، وإن علم عدم إرادة الوجوب الغيري أيضا فعلى الاستحباب النفسي، فإنه أقرب من
الغيري حينئذ، وإن علم عدم إرادة ذلك أيضا فعلى الاستحباب الغيري.
وأما الوجوب الإرشادي فهو ليس في هذه السلسلة لاجتماعه مع النفسي والغيري كليهما، والفرق بينه وبين الوجوب الغيري بعد اشتراكهما في أصل المطلوبية أنه لمحض اللطف، بخلاف الغيري، فإنه إنما هو لأجل التوصل به إلى المطلوب النفسي من دون النظر فيه إلى الإرشاد واللطف والهداية أصلا، وإن كان يترتب عليه اللطف والهداية أيضا. لمحرره عفا الله عنه.
301

من أفراد موضوع ذلك الخلاف؟ والمختار هنا هو المختار ثمة.
ويتفرع على هذا الخلاف اختلاف المراد في المفهوم فيما إذا وقع الأمر وما يحذو حذوه مما يدل على الوجوب - في حيز ما يفيد الانتفاء عند الانتفاء من الشرط والغاية والوصف على القول بالمفهوم له:
فعلى ما اخترنا - من كون المراد من اللفظ هي نفس الطبيعة المهملة، وأن إفادة الخصوصية إنما هي بدال آخر - يكون () المفهوم في المقام هو انتفاء مطلق الوجوب الأعم من كل من النفسي والغيري.
وأما على القولين الآخرين فيكون هو انتفاء الوجوب النفسي بالخصوص، والسر في ذلك أن قاعدة أخذ المفهوم هي نفي الحكم المراد من اللفظ في المنطوق عن غير مورد القيد، ولما كان المراد منه على المختار هو مطلق الوجوب فيكون المنفي حينئذ هو لا غير، وعلى القولين الآخرين هو خصوص النفسي، فيكون المنفي هو بالخصوص.
فهذه الثمرة ثابتة بين ما اخترنا وبين كلا القولين الأخيرين، وأما بين هذين فهي منتفية جدا كانتفائها بين ما اخترنا
من ظهور الأمر في النفسي عند الإطلاق من غير جهة قاعدة الحكمة وبين ظهوره فيه من جهة تلك القاعدة [1].
ثم إن من ذهب إلى ظهور الأمر لغة في الوجوب النفسي موافق للقائلين بذينك القولين من حيث تلك الثمرة المذكورة، فافهم.

[1] إذ على كل منهما يكون اللفظ مستعملا في نفس الطبيعة. لمحرره عفا الله عنه.
302

في محقق القربية في الواجب الغيري
تنبيه: اختلفوا في أن امتثال الواجب الغيري وإيقاعه على وجه الطاعة من جهة وجوبه الغيري هل يتوقف على قصد ترتب ذلك الغير عليه - بأن يفعله لأجل التوصل به إليه، فلا بد من العزم الجزمي على إيجاد ذي المقدمة أيضا - أولا، بل يكفي إيجاده بأي وجه اتفق ولو كان شاكا في إيجاده لذي المقدمة بعده، بل ولو كان عازما على عدمه أيضا؟ ذهب جماعة [1] - على ما حكي عنهم - إلى الثاني، وآخرون إلى الأول، وهو الحق.
والذي يمكن كونه سندا للأولين أن الأمر الغيري الناشئ عن الأمر بذي المقدمة إنما تعلق بذات المقدمة، لا بها بعنوان كونها مقدمة، فإذا كان المطلوب منه هي الذات، وأتى بها لداعي ذلك الأمر، فقد حصل الامتثال والطاعة، ولا يعتبر في امتثال ذلك الأمر قصد ما دعي إليه بأن يفعل الواجب الغيري بداعي ذلك الأمر الغيري بوصف كونه أمرا غيريا وإلا يجري مثله في الواجبات النفسية أيضا، حيث إن كل واجب له داع لا محالة، وهو قد يكون واجبا آخر كما في المقام، وقد يكون أمرا آخر غير الواجب كسائر المصالح الداعية إلى الأمر، فلو لزم قصد داعي الأمر أيضا وجب قصد إيقاع الواجبات النفسية أيضا بداعي الأمر النفسي بوصف كونه نفسيا أو بوصف كونه ناشئا عن المصلحة الفلانية، ككون الفعل مقربا مثلا.
اللازم باطل بالبديهة، فالملزوم مثله، والملازمة واضحة.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في الاستدلال لذلك القول، لكن ستعرف ضعفه مما سيأتي منا.

[1] منهم فخر الدين (قده)، حيث قال: (أن من كان بالعراق يوم النحر يجوز له الوضوء لطواف الحج، ويصح منه ذلك، مع أنه غير عازم على الحج، فإنه غير متمكن منه في ذلك اليوم). لمحرره عفا الله عنه.
303

لنا على ما اخترناه وجهان:
الأول - أن الذي يستفيد وجوبه العقل من وجوب ذي المقدمة إنما هو عنوان المقدمة لا غير، فإنه لما رأى أن ذا المقدمة لا يحصل إلا بإيجاد ما يتوقف عليه، فيحكم لذلك بالملازمة بين وجوبه ووجوب ما يتوقف عليه من حيث إنه المتوقف عليه الواجب، لا وجوب ذات المقدمة وإن كانت هي لا تنفك في الخارج عن ذلك العنوان، ويسقط بها الوجوب الغيري كيف ما اتفقت إذا لم تكن من العبادات، أو كانت منها لكن يمكن إيقاعها على وجه الطاعة المحققة للعبادية إذا تعلق بها أمر آخر نفسي وجوبي أو ندبي بأن يؤتى بها لداعي ذلك الأمر.
لكن الكلام ليس في السقوط ولا في تحقق الامتثال مطلقا [1]، بل في تحقق الامتثال من جهة وجوبها الغيري كما أشرنا إليه سابقا، فإذا كان عنوان الوجوب الغيري هو المقدمة - لا الذوات التي هي مصاديقها - يتوقف () صيرورة الإتيان بتلك الذوات امتثالا وإطاعة لذلك الأمر على إيجادها بعنوان المقدمية، فإن الامتثال لا يحصل إلا بإتيان الفعل بالعنوان الذي تعلق الأمر به بذلك العنوان، إذ لو قصد غير ذلك العنوان من سائر العناوين الصادقة على هذا الفعل لم يكن آتيا بالفعل لداعي ذلك الأمر، إذ المفروض تعلقه بالعنوان الذي لم يقصد حصوله، فلا يعقل كون ذلك الأمر داعيا لإيجاد الفعل بغير هذا العنوان، بل إنما هو داع لإيجاده بالعنوان الذي تعلقت به لا غير، فإذا لم يقع الفعل بداعي ذلك الأمر فلا يقع امتثالا له جدا، فإذا لزم قصد ذلك العنوان - أي عنوان المقدمة

[1] ويؤكد عدم إمكان تحقق الامتثال والطاعة بمجرد الإتيان بالمقدمة - مع عدم العزم على ترتيب ذيها عليها فيما إذا كان عازما على ترك ذي المقدمة بالمرة أو شاكا في الإتيان به بعدها - أنه متجر في الإتيان بها في تينك الصورتين بالنسبة إلى ذي المقدمة، ولا يعقل اجتماع التجري مع الامتثال والطاعة بالضرورة. لمحرره عفا الله عنه.
304

فلا ريب أن قصده عبارة عن إيجاد الفعل بقصد التوصل به إلى ذلك الغير، وإلا لم يكن قاصدا له البتة.
لا يقال: إن الذي ذكرت من لزوم قصد التوصل راجع إلى ما سيأتي من التفصيل بين وجوب المقدمة الموصلة وبين غيرها، لأن المراد بالمقدمة الموصلة في التفصيل الآتي هي ما يترتب عليها ذوها في الخارج سواء كان إيجادها بقصد التوصل إلى ذيها، أولا.
والذي نقوله في المقام إنما هو لزوم قصد التوصل في تحصيل الامتثال سواء ترتب عليها ذوها في الخارج أيضا، أو لم يترتب لمانع من الموانع بحيث لو أتى بالمقدمة بقصد الترتب والتوصل بها إليه لوقع ذلك امتثالا وإطاعة، ولو لم يترتب عليها ذوها بعد في الخارج لمانع، فأين هذا من التفصيل الآتي؟ فإن قيل: إن الذي ذكرت إنما يتم في المقدمات التي هي من العبادات، ولم يأت المكلف بها لداعي أوامره النفسية إذا كانت هي مأمورا بها بالأمر النفسي، أو لم يكن لها أمر آخر أصلا فإن سبيل وقوعها عبادة منحصر في إيجادها بقصد الترتب والتوصل به إلى الغير، فيجب إتيانها بهذا القصد، وإلا لم يأت بالمقدمات، حيث إن وقوعها على جهة الطاعة والعبادة مأخوذ في مطلوبيتها الغيرية ومقدميتها.
وأما في المقدمات التوصلية الموجب فعلها كيف ما اتفق لسقوط الأمر الغيري عنها فلا يلزم فيها ذلك فان المطلوب فيها إنما هو ذوات تلك المقدمات، وإلا لم يكن معنى لكونها مسقطة، إذ لا يعقل كون غير المطلوب مسقطا للطلب، فسقوط الطلب بذواتها كاشف عن أن المطلوب هي، فيحصل الامتثال والطاعة بإيجادها كيف ما اتفقت، إذ الامتثال ليس إلا إيجاد المأمور به على وجهه.
305

قلنا: إن المقدمات التوصلية وإن كان إيجادها كيف ما اتفقت مسقطا للأمر الغيري بها، إلا أن السقوط أعم من حصول الامتثال، إذ الأول يتوقف على إيجاد المأمور به على وجه يحصل به الغرض الداعي إلى الأمر به في نظر الآمر، ويحصل بمجرد وقوع العمل على هذا الوجه، بخلاف الثاني، فإنه يتوقف مضافا إلى توقفه على ما ذكر على شيء آخر.
ألا ترى أنه لو أمر مولى عبده بإتيان الماء، وكان غرضه رفع العطش عن نفسه، فأتى به العبد بتشهي نفسه، لا لداعي أمر المولى، لا يبقى بعده وجوب لإتيان الماء، بل يسقط بحصول غرض المولى بذلك الإتيان، مع أنه لم يمتثل ولم يطع قطعا.
فنقول: المقدمات التوصلية نمنع كون المطلوب فيها نفس الذوات أولا، بل المطلوب إنما هو عنوان المقدمة الصادق عليها كما في المقدمات التعبدية أيضا، فحينئذ يتوقف وقوعها على وجه الامتثال على قصد ترتب ذيها بتقريب ما مر.
وأما سقوط الأمر عنها بعد إتيانها بدونه فهو لحصول الغرض، وهو التوصل، لا الامتثال.
ونسلم كون المطلوب فيها هي الذوات ثانيا، لكن بمجرد الإتيان بها كيف كان لا يحصل الامتثال وإن كان يسقط الأمر لحصول الغرض.
وبالجملة: سقوط الأمر أعم من حصول الامتثال، فإن الأول - كما عرفت - يحصل بحصول الغرض، والغرض قد يكون أعم من الامتثال، كما أنه قد يكون أعم من المطلوب أيضا كأعمية المطلوب من الامتثال كذلك، بمعنى أنه قد يكون المطلوب أعم مما يتحقق به الامتثال بحيث لا يلزم من وجوده تحققه.
أما أعمية الغرض من المطلوب فهو كما في الواجبات التوصلية التي تحصل بإيجادها بأي وجه اتفقت كغسل الثوب - مثلا - حيث إنه يحصل بدون
306

قصد القربة، بل بلا قصد وشعور كالنائم، بل يحصل بفعل الغير بحيث يسقط الأمر، فإنه لا ريب أنه لا يعقل أن يكون المطلوب هو غسل الثوب من المكلف حتى في حال الغفلة والذهول والنوم، إذ لا يعقل تكليف الغافل، بل الطلب متعلق به حال الذكر والالتفات، لكن الغرض ليس غسل الثوب في حال الذكر بل أعم، فلذا يسقط الأمر بإيجاده كيف ما اتفق.
وكيف كان، فتحقيق الكلام في الوجه المذكور لتوقف الامتثال على قصد الغير في الواجبات الغيرية: أن الفعل الذي يصدق عليه عناوين متعددة إذا تعلق به الأمر بأحد تلك العناوين، فلا يخلو الحال من أنه إما أن يتوقف [1] تحقق ذلك العنوان على قصده كما في القيام، حيث إنه مشترك بين عنواني التعظيم

[1] اعلم أن الوجه الأول من دليل المختار إنما هو مبني على أخذ الغيرية والمقدمية في عنوان الأمر الغيري كما عرفت، بمعنى أن المأمور به هو هذا العنوان، وهو كان يقتضي قصد الغير في مقام الامتثال كما علمت.
ويمكن أن يجعل الغيرية من خصوصيات الأمر الغيري، بأن يقال: إن المأمور به هي ذات المقدمة لكن الأمر بها إنما تعلق بعنوان الغيرية، بمعنى أن الآمر طلبها لأجل التوصل بها إلى الغير، وغرضه من ذلك الأمر هذا، فعلى هذا لا يصدق الامتثال إلا بالإتيان بها على طبق غرضه، فإن معنى الامتثال بالفارسية حقيقت: (خواهش مولا را بعمل آوردن است)، وهذا إنما يصدق إذا أتى بالمأمور به بعنوان تحصيل غرض المولى، فيتوقف صدق الامتثال في المقام على الإتيان بالمقدمة لأجل التوصل بها إلى الغير، فإنه هو الغرض الداعي للأمر بها، وهذا القصد لا يمكن إلا بقيد الإتيان بذلك الغير.
فظهر أن وجوب القصد إلى الغير في تحقق الامتثال لا يتوقف على كون عنوان الأمر الغيري هو عنوان المقدمة، بل يجب مع تجريده عن ذلك العنوان أيضا لما عرفت الآن، فذلك وجه ثالث لما اخترناه.
ثم إن الوجه الثاني المذكور في المتن غير متفرع على خصوص شيء من التقديرين المذكورين، بل يجري على كل واحد منهما، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
307

والاستهزاء - مثلا - ولا يتحقق شيء من ذينك العنوانين إلا بقصده، أو لا يتوقف.
لا شبهة في وجوب قصد ذلك العنوان على الأول سواء كان الأمر به تعبديا أو توصليا، إذ على الثاني لا بد من إيجاد نفس المأمور به لا محالة، والمفروض أنه لا يحصل إلا بقصده.
وأما على الثاني فإذا كان الفعل من العبادات أو من المعاملات لكن أراد المكلف الإتيان به على وجه العبادة والطاعة، فلا ينبغي الإشكال أيضا على توقف حصول الامتثال والطاعة على قصد ذلك العنوان الذي تعلق الأمر بالفعل من جهة ذلك العنوان () بحيث يكون الداعي والمحرك له إلى إيجاد ذلك تحصيل ذلك العنوان.
وذلك لأن الإتيان بالفعل لداعي أمر المولى معتبر في تحقق الامتثال والطاعة بالضرورة، فلا يحصل الفعل في الخارج على وجه الطاعة إلا بأن يكون الداعي إلى الإتيان به هو أمر المولى، ولا ريب أنه لا يعقل كون الأمر داعيا ومحركا للمكلف إلى إيجاد وتحصيل غير العنوان الذي تعلق هو به، بل إنما هو محرك له إلى إيجاد وتحصيل العنوان المتعلق هو به لا غير.
ألا ترى أنه لو أمر مولى عبده بالقيام بعنوان التعظيم لزيد عند مجيئه، فإذا جاء زيد قام العبد لا لأجل تحصيل ذلك العنوان، بل لرفع التعب عن نفسه أو للاستهزاء أو لغير ذلك من العناوين الصادقة على القيام لا يعد ممتثلا ومطيعا أصلا، وكذا لو أمره بقتل عدوه، فقتله لا لكونه عدوا لمولاه، بل لأجل كونه عدوا لنفسه، فإذا ثبت توقف الامتثال على قصد عنوان الأمر فلا بد من قصده.
ثم إن ذلك العنوان قد يكون من المفاهيم المستقلة الغير المتوقفة على
308

ملاحظة أمر آخر فلا حاجة إذن إلى أزيد من قصد نفس ذلك العنوان، كما هو الشأن في الواجبات النفسية، وقد يكون من المفاهيم الغير المستقلة الحاصلة في غيرها كالمعاني الحرفية، فيتوقف قصد ذلك العنوان على قصد ذلك الغير أيضا، فإن التبعية - والتطفل - مأخوذة في ذلك العنوان حينئذ، ومن المعلوم أنه لا يمكن قصد التابع بما هو تابع إلا بقصد متبوعه، فيجب حينئذ - زائدا على قصد الإتيان بذات ذلك العنوان - القصد إلى ذلك الغير الذي أخذت التبعية بالنسبة إليه.
وبعبارة أخرى: إنه إذا كان ذلك من الأمور التبعية فالتبعية مأخوذة في حقيقته وواقعه، فيجب قصد الغير الذي لوحظت التبعية بالنسبة إليه، وإلا لم يكن قاصدا لذلك العنوان، إذ المفروض اعتبار التبعية في حقيقته، وقد مر وجوب القصد إلى عنوان المأمور به في مقام الامتثال.
فإذا علم ذلك فنقول: إنه لا ريب أن الواجبات الغيرية بأسرها إنما يكون العنوان للأمر الغيري فيها هو عنوان المقدمية والتوصل بها إلى الغير، فتكون هي بأسرها من الأمور التبعية بالنسبة إلى الواجبات النفسية التي هي مقدمات لها، فيتوقف الإتيان بها على وجه الطاعة على قصد تلك الواجبات النفسية أيضا بالتقريب المتقدم [1].

[1] اعلم أن الإتيان بالمقدمة وإيجادها: تارة يكون على وجه أخذ المقدمة عنوانا مستقلا ومعنى اسميا، وهو بأن يكون الغرض ذات المقدمة، ويكون المحرك لإيجادها هي - لا عنوان المقدمة، وإن كانت هي صفة لازمة لها لا تنفك عنها - وحاصل ذلك: أنه يأتي بما يعلم أن من خواصه التوصل إلى واجب آخر، لا أنه يأتي به لأجل التوصل به إليه.
وأخرى يكون على وجه أخذها بعنوان الآلية والتبعية التي هي من قبيل المعنى الحرفي، وهذا إنما يكون بأن يأتي بالشيء لأجل التوصل إلى الغير، بأن يكون الداعي إلى إيجاده ذلك لا غير، وهذا هو معنى كون الداعي هو عنوان المقدمة الذي قلنا بلزومه في مقام الامتثال.
لمحرره عفا الله عنه.
309

الثاني () - أنه لا شبهة أن الأمر الغيري المتعلق بالمقدمات إنما هو شأن من شؤون الأمر بذي المقدمة وشعبة من شعبه، فإن العقل إنما يأخذه منه، فيكون حقيقة امتثاله امتثال ذلك الأمر المتعلق بذي المقدمة، فيجب حينئذ قصد ذلك الأمر.
هذا ما يحضرنا من الوجه لما صرنا إليه، والمعتمد هو الوجه الأول، وبعده الثاني، فافهم.
ثم إنه يشكل الأمر على ما اخترناه في الحكم بصحة وضوء من توضأ بعد دخول وقت العبادة الواجبة المشروطة بالطهارة إذا لم يكن عازما على فعل تلك العبادة في ذلك الوقت أصلا، أو كان لكن [لا] بهذا الوضوء، بل قصد بذلك الوضوء غاية أخرى غير الإتيان بتلك العبادة، حيث إن صحته متوقفة على وقوعه على وجه الامتثال والطاعة، والمفروض أنه لم يأت به بعزم التوصل به إلى ما هو مقدمة له، فلم يقع بداعي ذلك الأمر المقدمي الناشئ من الأمر بتلك العبادة فلم يقع طاعة من تلك الجهة بمقتضى ما اخترناه [1].
وأما إيقاعه بداعي أمره الاستحبابي ليقع صحيحا من هذه الجهة فهو غير ممكن، إذ بعد تعلق الأمر الوجوبي به - وهو الأمر المقدمي الناشئ من الأمر

[1] ثم إنه تظهر الثمرة بين القولين في الواجبات التي هي من العبادات، وكان جهة الامتثال فيها منحصرة في الأمر الغيري، بأن لم يكن لها أمر من جهة أخرى أصلا - لا وجوبا ولا ندبا - بل أمرها منحصر في المقدمي، فعلى ما اخترناه لا تقع هي صحيحة إلا بقصد الإتيان بما تكون هي مقدمات له، وعلى القول الآخر تصح بدون ذلك القصد أيضا.
وكذلك تظهر الثمرة المذكورة في الواجبات التي هي من العبادات إذا كان لها أمر من غير جهة المقدمية أيضا، لكن المكلف لم يأت بها لداعي ذلك الأمر، بل لداعي أمرها المقدمي. وقد أشير إلى تلك الثمرة في طي كلماتنا المتقدمة، وإنما أردنا بذلك توضيحا لما أشير إليه. لمحرره عفا الله عنه.
310

بتلك العبادة - لا يعقل بقاء ذلك الأمر الندبي لأدائه إلى التناقض لاستلزامه اجتماع حكمين متناقضين في موضوع واحد في آن واحد، نظرا إلى أن الوضوء حقيقة واحدة على المختار، وليس كالغسل ليكون بالنظر إلى كل واحدة من الغايات حقيقة على حدة، حتى يمكن بقاء أمره الاستحبابي إذا أراد به غاية أخرى، فلا يكون إذن أمر ندبي حتى يمكن إيقاعه بداعيه ليقع صحيحا من جهته، فلم يبق جهة صحة لذلك الوضوء أصلا.
لكن التحقيق اندفاعه: بأن ارتفاع الأمر الندبي قد يكون بانتفاء المصلحة والجهة المقتضية له بالمرة، وقد يكون لمزاحمة الأمر الوجوبي له من حيث منافاة () فصله لفصله مع بقاء المصلحة والجهة المقتضية له على ما كانت عليه أولا، كما هو الحال فيما نحن فيه، ضرورة أنه لا منافاة بين المصلحة المقتضية للوجوب وبين المصلحة المقتضية للاستحباب [1]، بل الأولى مؤكدة للثانية جدا، ولا بين الثانية وبين الأمر الوجوبي قطعا.
وإنما المنافاة بين نفس الأمرين من جهة تنافي فصلهما وعدم إمكان تحقق الامتثال من جهة الاستحباب إنما هو في الصورة الأولى، وأما في الثانية فهو يحصل بالإتيان بالفعل لداعي المصلحة والجهة الاستحبابية، بأن يفعله لأجل تحصيل تلك المصلحة، فإنه إذا كان ارتفاع الأمر من جهة مانع خارجي مع بقاء المصلحة المقتضية له لم يكن المحبوبية ساقطة عن ذلك الشيء، بل هو في تلك

[1] وذلك لأن المصلحة الاستحبابية إنما هي بحيث تقتضي رجحان الفعل، لكن ليست بمثابة تقتضي المنع من الترك، فعدم المنع من الترك في المستحب لعدم المقتضي للمنع، والمصلحة الوجوبية هي بمثابة تقتضي كلا الأمرين، فتغاير المصلحتين بالنسبة إلى المنع من الترك من باب اقتضاء أحد الأمرين لشيء وعدم اقتضاء الآخر له، ولا شبهة في عدم التنافي بينهما. لمحرره عفا الله عنه.
311

الحال أيضا محبوب للآمر، والإتيان به مطابق لغرضه، فيعد ذلك لذلك إطاعة وامتثالا.
وبالجملة: الإطاعة لا تنحصر في صورة وجود الأمر فعلا، بل تعم صورة وجوده الشأني.
وبعبارة أخرى: الإطاعة - والامتثال - تدور مدار صدق التعبد الذي معناه بالفارسية: (بندگى كردن)، وهذا إنما يكون بالإتيان بغرض المولى [1].
والإتيان بالفعل في صورة وجود الأمر فعلا إنما يعد إطاعة لكونه إتيانا لغرضه وتحصيلا له، وهذا موجود في صورة عدم الأمر مع بقاء المصلحة والمحبوبية، فافهم.
بقي هنا شيئان ينبغي التنبيه عليهما:
الأول
- أنه إذا علم وجوب شيء من العبادات وتردد بين كونه نفسيا أو غيريا فمقتضى قاعدة الشغل الإتيان به على وجه جامع للامتثال الغيري أيضا، وهو إنما يكون بالقصد إلى إيجاد ما يحتمل كونه مقدمة له أيضا، فإنه لو اقتصر على امتثال الغيري أو النفسي لا يقطع بوقوع الفعل على وجه الطاعة والامتثال، لاحتمال عدم ذلك الوجوب الذي يأتي بالفعل لأجله، ومعه لا يقع الامتثال من جهته، إذ هو يتقوم بأمرين: وجود الأمر واقعا، وإيقاع الفعل بداعيه، فإذا لم يقطع بوقوعه على وجه الطاعة على فرض الاقتصار، فيجب عليه الجمع بين وجهي الامتثال تحصيلا للبراءة اليقينية.

[1] وبعبارة أخرى: (اينكه امتثال حقيقة عمل بميل واشتهاى مولا است وماداميكه مصلحت استحبابيه باقي است اشتهاى مولا باقي است بحيثى كه هر گاه ممكن بود امر أو بمقتضاى اين مصلحت از جهت اجتماعش با جهت امر وجوبي امر ميكرد لكن عدم امر بجهت عدم امكان دو امر است). لمحرره عفا الله عنه.
312

ومن هنا تبين الفرق بين صورة الشك والتردد في كون الشيء واجبا نفسيا أو غيريا وبين صورة العلم بكونه واجبا من جهتين، فإن الأمر من كل واحد منهما محرز، فيكون الاقتصار على الامتثال من تلك الجهة محققا لوقوع الفعل على وجه الطاعة قطعا.
فإن قيل: إنه كما يجب مراعاة جهة الغيرية وامتثالها كذلك يجب مراعاة جهة النفسية وامتثالها، وهاتان الجهتان متضادتان لا يمكن اجتماعهما في القصد، فلا يمكن الجمع بين الامتثالين في إيجاد واحد للفعل، بل يجب تارة إيجاده بعنوان كونه واجبا نفسيا، وأخرى بعنوان كونه غيريا.
قلنا: إن المطلوبية نفسا ليست بشرط عدم الغير، بل إنما هي لا بشرط، فلا ينافي قصد الغير أيضا، وإلا لما جاز القصد إلى فعل واجب نفسي آخر فيما بعد حين الاشتغال بواجب نفسي، وهو باطل بالضرورة.
فإن قيل: إن مجرد القصد إلى فعل الغير ليس محققا للامتثال الغيري، بل إنما يحققه إذا كان على وجه يكون هو المحرك لإيجاد هذا الفعل، وإلا لم يكن إيجاده إتيانا بعنوان المقدمة من حيث المقدمية، وقد مر لزوم الإتيان به بهذا العنوان في مقام الامتثال، فلا بد حينئذ أيضا من تكرار العمل كما مر.
قلنا: إن ما ذكر إنما هو مسلم في صورة العلم بكون ذلك مقدمة لذلك الغير، وأما في مقام الشك فيكفي مجرد قصد الإتيان به أيضا.
أقول: وللنفس في ذلك الأمر تأمل وتزلزل، فالأحوط هو التكرار على الوجه المذكور.
ثم إنه يشكل الأمر في العبادات المرددة بين الأقل والأكثر الارتباطيين من الأجزاء على القول بالتمسك بأصالة البراءة في الزائد المشكوك فيه، فإن الأجزاء الباقية المتيقنة مرددة بين كونها واجبة نفسا وبين كونها واجبة مقدمة
313

للكل المؤلف منها ومن الأجزاء الباقية المنفية بأصالة البراءة، ضرورة أن أصالة البراءة إنما تنفي التكليف والعقاب عن الزائد المشكوك فيه، ولا تصلح لتعيين المأمور به حتى يثبت بها كون المأمور به هي الأجزاء والشرائط الباقية، فيثبت بذلك كون تلك الباقية واجبة نفسا.
وحاصل الإشكال وخلاصته: أنه بعد البناء على عدم الإتيان بالأجزاء المشكوك فيها اعتمادا على أصالة البراءة لا يعقل تحقق الامتثال الغيري وإن بني على الإتيان بها أيضا فهو راجع بالأخرة إلى الالتزام بمقتضى الاحتياط لا أصالة البراءة.
لكن التحقيق: أن هذا الإشكال إنما يرد على من تمسك بالبراءة في الزائد مع التزامه بكون الأقل منجزا [1] على كل تقدير حتى على تقدير كون الواجب في الواقع هو الأكثر، لكن على المختار - من أن التكليف به إنما يكون منجزا موجبا لاستحقاق العقاب على الترك لو كان الواجب في الواقع هو لا الزائد، ولزوم الإتيان به إنما هو لأجل تمامية الحجة بالنسبة إليه وتمامه لو كان الواجب هو في الواقع، وعدم معذورية المكلف على تركه لو صادف كونه هو الواجب لذلك - فلا مجال لهذا الإشكال أصلا، فإنا مأمونون بحكم العقل من العقاب على الأكثر لو كان هو المكلف به في الواقع مع عدم بيانه لنا، والتكليف بالباقي واستحقاق العقاب عليه - من جهة كونه جزء من ذلك الأكثر - غير معقول بعد ارتفاع التكليف والعقاب عن الأكثر، فلا يجب علينا مراعاة الجهة الغيرية في تلك الأجزاء المتيقنة الباقية - وهي الأقل - حتى يجب علينا قصد ما يحتمل كون ذلك مقدمة له ليرد الإشكال، وإنما الواجب علينا بحكم العقل

[1] بمعنى استحقاق العقاب على تركه على كل تقدير. لمحرره عفا الله عنه.
314

مراعاة جهة وجوبه النفسي، فيأتي به حينئذ لداعي وجوبه النفسي الاحتمالي [1]، فافهم.
الثاني () - أنه هل الحال في مستحبات الغيرية - من جهة توقف تحقق الامتثال على قصد الغير وعدمه - هي الحال في الواجبات الغيرية، أو لا؟.
لا شبهة في عدم حصول الامتثال إذا أتى بها مع العزم على ترك ذلك الغير بالمرة، أو على عدم إيجاده بها، وأما إذا أتى بها لأجل احتمال فعل ذلك الغير به فيما بعد فقال سيدنا الأستاذ - دام ظله -: (لا يبعد صدق الامتثال بذلك). ولا يرد عليه ما يرد على الواجب الغيري في هذه الصورة من عدم إمكان اجتماع التجري مع الإطاعة، فإنه لا يجري في المندوبات أصلا، للإذن في تركها، فلا مانع من تلك الجهة.
لكن للنفس في ما اختاره - دام ظله - تأمل وتزلزل. ثم إنه لا بأس بالتنبيه على أمرين - قد علما إيماء من مطاوي كلماتنا السابقة () مع زيادة على بعض منهما -:
الأول - أن الثمرة بين القولين - في قصد الغير في الواجب الغيري في مقام الامتثال - تظهر في العبادات التي كان جهة امتثالها منحصرة في الغيري

[1] ثم إنه قد يكون الشيء واجبا نفسا ولأجل الغير كما في الاعتقاد بأصول الدين، فحينئذ إذا كان من العبادات أو أراد إيقاعه على وجه الطاعة إذا كان من التوصليات، فيكفي فيه إيقاعه بداعي أمره النفسي أو الغيري على الوجه المتقدم على سبيل منع الخلو، وليس كصورة التردد والشك بين كونه نفسيا أو غيريا حتى يجب الجمع بين الامتثالين لما قد مر سابقا، فراجع. لمحرره عفا الله عنه.
315

بمعنى انه ليس لها أمر سوى الغيري - أو غير منحصرة فيه، لكن المكلف لم يرد إيقاعها وامتثالها من غير جهة الوجوب الغيري:
فعلى ما اخترناه من لزوم قصد الغير حينئذ لا يقع الفعل إطاعة أصلا إذا لم يكن مع ذلك القصد.
وعلى القول الآخر يقع طاعة حينئذ، فيكون مبرئا للذمة ومحققا لشرط تلك العبادة المشروطة بذلك الفعل.
ومن أمثلة ذلك - التي ذكرها بعضهم، بل جمع على ما نسب إليهم - وضوء من عليه قضاء الصلوات مع عدم إرادته لفعلها بذلك الوضوء، بل إرادته غاية أخرى غير الإتيان بها كأن فعله للزيارة أو لقراءة القرآن ونحوهما، وهذا مما انحصر جهة الامتثال فيه في الوجوب الغيري، فإن الظاهر ان الوضوء حقيقة واحدة مع تعدد غاياتها، وليس هو لغاية معينة مخصوصة حقيقة غيره مع غاية أخرى [1]، كما ان الحال في الغسل كذلك، حيث إنه بالنسبة إلى كل غاية حقيقة مغايرة له بالنسبة إلى غاية أخرى، فغسل الجنابة غير غسل الزيارة، وهو لمس الميت غيره للحيض أو النفاس أو الاستحاضة، بخلاف الوضوء، حيث إنه مع كل غاية حقيقة متحدة معه مع غاية أخرى [2]، ولا ريب أنه إذا كان حقيقة

[1] ولذا قال ثاني الشهيدين (قدهما) - في الروضة في مبحث الوضوء بعد ذكر لزوم نية القربة فيه كما في أمثاله -: (وكذا تميز العبادة عن غيرها حيث يكون الفعل مشتركا، إلا أنه لا اشتراك في الوضوء حتى في الوجوب والندب، لأنه في وقت العبادة الواجبة المشروطة، به لا يكون إلا واجبا، وبدونه ينتفي). انتهى كلامه.
وأشار بقوله: (إلا أنه لا اشتراك في الوضوء.). إلى آخر ما ذكره: إلى رد الشهيد الأول (قده) حيث إنه عبر بنية الوجوب أو الندب في الوضوء. لمحرره عفا الله عنه.
[2] لا تخلو العبارة من تشويش، وسليمها هكذا: حيث إنه مع كل غاية حقيقة واحدة متحدة مع غاية أخرى.
316

واحدة فلا يعقل بعد تعلق الوجوب الغيري به ثبوت حكم آخر ندبي كما مر سابقا، بل الأمر الفعلي به إنما هو الغيري لا غير، فيكون جهة الامتثال فيه إذن منحصرة في الغيري.
نعم يجري فيه التوجيه المتقدم لصحة وضوء من توضأ بعد دخول وقت العبادة الحاضرة مع عدم إرادته لفعل تلك العبادة بذلك الوضوء، فلا تغفل.
الثاني - أنه لا يختص الإشكال المتقدم في الوضوء بعد دخول وقت العبادة الحاضرة المشروطة به إذا لم يرد به
إيقاع وإيجاد تلك العبادة بالوضوء فقط، بل يجري في كل غسل من الأغسال المشروطة بها العبادات الواجبة بعد دخول وقتها إذا وقعت تلك الأغسال لا لإتيان تلك العبادات، فإن كل واحد من تلك الأغسال حقيقة واحدة بالنسبة إلى [ما] قبل دخول وقت العبادة المشروطة به و [ما] بعده، ويكون مستحبا في الأول وواجبا في الثاني من باب كونه مقدمة للواجب، ففي الثاني لا يعقل بقاء الأمر الاستحبابي فيه، لما مر في الوضوء بعد دخول الوقت، فغسل الجنابة - مثلا - قبل دخول العبادة المشروطة به مستحب، وبعده واجب مقدمة لها لا غير، فيجري فيه الإشكال المتقدم في الوضوء إذا لم يقصد به الإتيان بتلك العبادة المشروطة به، لكنه مدفوع بما مر في دفعه عن الوضوء، فتدبر.
317

[المقدمة الموصلة]
ثم إن مما يتعلق بالوجوب الغيري أنه ذهب بعض متأخري المتأخرين () إلى أن مقدمة الواجب لا تتصف بالوجوب والمطلوبية - من حيث كونها مقدمة - إلا إذا ترتب عليها وجود ذي المقدمة، لا بمعنى أن وجوبها مشروط بوجوده، بل بمعنى أن وقوعها على الوجه المطلوب منوط بحصول الواجب، حتى أنها إذا وقعت مجردة عنه تجردت عن وصف الوجوب والمطلوبية لعدم وجودها على الوجه المعتبر، فالتوصل بها إلى الواجب من قبيل شرط الوجود لها، لا شرط الوجوب.
وحاصل مرامه: أن الواجب بالوجوب الغيري ليس مطلق المقدمة - أي ما يتوقف عليه وجود الغير - بل فرد خاص منه، وهو ما يتعقبه ذو المقدمة، ويوصل به إليه ولو بضميمة ومعونة أمور أخرى [1].
وبرهانه على ذلك حقيقة هو الذي اختاره في تعريف الواجب الغيري.
والفرق بينه وبين النفسي أن التوصل بالواجب الغيري إلى ما يكون مقدمة له مأخوذ فيه على وجه التقييد، بمعنى أن موضوع الوجوب الغيري

[1] قولنا: (ولو بضميمة ومعونة أمور أخرى) يعني أن مراده ليس وجوب ما يكون علة تامة لوجود ذي المقدمة حتى ينحصر الوجوب الغيري - على هذا () - فيها، بل مراده ما يوجد بعده ذو المقدمة ولو بمعونة أمور أخرى. لمحرره عفا الله عنه.
318

إنما هو ما يتوصل به إلى الغير من حيث كونه كذلك، ويكون الداعي والحامل على الوجوب الغيري أيضا هو التوصل إلى الغير، وبذلك يفرق بين الواجب الغيري والنفسي، حيث إن الحامل في كل منهما إنما هو التوصل إلى شيء آخر وتحصيله، وهو في الواجب الغيري هو وجود ذي المقدمة، وفي النفسي الغايات الداعية إلى الأمر به، إلا أن الحامل - وهو التوصل - مطلوب أيضا ومأخوذ في موضوع الطلب في الوجوب الغيري دون النفسي، فإنه فيه خارج عن المطلوب وموضوع الأمر، بل الموضوع فيه إنما هو الفعل بدون تقييده بذلك.
والوجوه الثلاثة التي ذكرها المستدل في هذا المقام كلها راجعة إلى ذلك وشواهد عليه:
وحاصل أولها - أن الحاكم بوجوب المقدمة إنما هو العقل لا غير، والذي يحكم هو بوجوبها ليس مطلق المقدمة، بل ذلك المقدار - أي ما يوصل بها إلى الغير - فموضوع الوجوب الغيري هو ذلك لا غير.
وحاصل ثانيها - بتوضيح منا: أنه يجوز عند العقل تصريح الآمر الحكيم بعدم وجوب غير ما يتوصل به إلى الغير، ولا يعلم التناقض بينه وبين أمره بذي المقدمة، بخلاف تصريحه بعدم وجوب ما يتوصل به إليه، فإنه مناقض لأمره بذي المقدمة.
وأيضا لو كان الموضوع في الوجوب الغيري هو مطلق المقدمة، ولم يلحظ فيه غير جهة المقدمية لقبح ذلك التفصيل، إذ لا اختصاص للموصلة من المقدمات على غيرها حينئذ فيما يكون المناط في موضوع الوجوب الغيري، والموجود من المزية فيها غير ملحوظة فيه أصلا بالفرض.
وحاصل ثالثها - دعوى شهادة الوجدان على أن الموضوع لذلك الوجوب إنما هي الموصلة لا غير.
والوجهان الأخيران دليلان إجماليان ومن الشواهد والمؤيدات للوجه
319

الأول حقيقة، وهو دليل تفصيلي على المدعى.
هذا، لكن الإنصاف فساد هذا التفصيل كفساد مبناه، وهو كون الموضوع في الوجوب الغيري هو ما يترتب عليه ذو المقدمة، فإن موضوعه - على ما نجد من أنفسنا بعد المراجعة إلى عقلنا الذي هو المرجع في محل النزاع كما رجع إليه ذلك المستدل أيضا - هو عنوان المقدمة - أي ما يتوقف عليه الواجب - كما ذكرنا في التنبيه المتقدم من غير تقييد العقل إياه بالتوصلي الفعلي إلى ذي المقدمة.
نعم هو غرض العقل في ذلك الأمر الغيري المقدمي، بمعنى أن العقل - بعد ملاحظة الواجب وملاحظة أنه لا يحصل إلا بأمور - يحكم بلزوم الإتيان بتلك الأمور بعنوان كونها مقدمات للواجب لغرض التوصل بها إلى الواجب، فحيثية التوصل الفعلي وإن كانت ملحوظة عند العقل، إلا أنها تعليلية، لا تقييدية كما زعمها المستدل، فحينئذ إذا وجدت المقدمة فهي متصفة بالوجوب سواء تعقبها ذوها، أو لا، فإن الاتصاف يدور مدار انطباق الفرد الموجود على المأمور به، والمفروض - على ما حققنا - أنه هو الشيء بعنوان كونه مقدمة، والمفروض الإتيان به على هذا الوجه، فيكون منطبقا عليه ومتصفا بالوجوب جدا.
وكان منشأ اشتباه الحال على المستدل أنه رأى أنه لو أتى بالمقدمة ولم يتعقبها ذوها لكانت () هي خالية عن الفائدة، فزعم أن العقل لا يطلب ما يكون كذلك، ولم يتفطن أن الغرض غير المأمور به، وأن كل واحدة من المقدمات لما لم تكن علة تامة لحصوله فلو تحققت واحدة منها وحدها لتجردت عن تلك الفائدة.
وبالجملة: منشأ اشتباه الأمر زعم كون الغرض من قيود المأمور به، وقد عرفت فساده.
320

والحاصل: أن هنا حيثيتين: حيثية المقدمة، وحيثية التوصل إلى ذي المقدمة، والتقييدية التي أخذت قيدا في المأمور به بالأمر الغيري هي الأولى، وأما الثانية فهي تعليلية فحسب.
وإن شئت قلت: إن الأمر يتعلق بكل واحدة من آحاد المقدمات بعنوان كونها مقدمة لغرض التمكن من الوصول إلى ذي المقدمة بمقدار ما يحصل من تلك المقدمة من التمكن، لا لغرض التوصل الفعلي بها، فإنه لا يحصل بها وحدها، وإنما هو يحصل بمجموع المقدمات، وذلك الغرض حاصل مع كل واحدة من المقدمات على تقدير وجودها، فيكون المأمور به حاصلا مع ما يكون الغرض منه أيضا، فإن شاء المستدل فليسم ذلك الغرض حيثية تقييدية [1].
ومما حققنا ظهر فساد تعريفه للواجب الغيري أيضا [2]، فتدبر.
ثم إنه قد يورد على ذلك المستدل بأن ذلك التفصيل - باعتبار أخذ قيد التوصل في موضوع الأمر الغيري - مستلزم للالتزام بعدم التفصيل وإلغاء ذلك القيد، ويلزم منه الالتزام بأحد أمرين: إما القول بوجوب المقدمة مطلقا، وإما القول بعدم وجوبها كذلك.
بيان ذلك: أن المقدمة الموصلة مركبة من جزءين: أحدهما نفس طبيعة المقدمة، وثانيهما القيد كما في سائر المقيدات، فيكون كل من الجزءين مقدمة لذلك المركب الذي هو مقدمة الواجب، وداخلا في محل النزاع لرجوعه إلى كونه مقدمة للواجب، لأن مقدمة الشيء مقدمة لذلك الشيء بالضرورة.

[1] وبالجملة: صريح الوجدان شاهد بأن العقل إنما يحكم بوجوب المقدمة بصفة المقدمية الموجودة فيها الموجبة لتمكن المكلف من ذيها، لا لأجل الإيصال إليه. لمحرره عفا الله عنه.
[2] ولذا عدلنا نحن عنه أيضا، وعرفناه بما عرفت. لمحرره عفا الله عنه.
321

ونحن ننقل الكلام في الجزء الأول - وهو () الحصة الموجودة من طبيعة المقدمة في ضمن ذلك المركب - ونقول:
إن المفصل: إما أن يقول بوجوب تلك الحصة من باب كونها مقدمة لذلك المركب الذي هو مقدمة للواجب، أو من باب كونها مقدمة للواجب بالأخرة، أو لا.
وعلى الأول: إما أن يقول بوجوبها بوصف كونها موصلة إلى ما هي مقدمة [له]، وهو ذلك المركب أو الواجب [1] الذي هو () مقدمة له، أو بدون اعتبار ذلك الوصف.
لا سبيل إلى أول هذين الشقين، وهو القول بوجوبها باعتبار ذلك الوصف، نظرا إلى أنها حينئذ أيضا مركبة من الجزءين كالمركب الأول، ويكون كل جزء مقدمة له، وننقل الكلام في الحصة الموجودة في ضمن هذا المركب الثاني، فإن قال حينئذ أيضا بوجوبها باعتبار ذلك الوصف فننقل الكلام إلى المركب الثالث، وهكذا، فإن قال في كل من المقدمات تلك المركبات بوجوبها باعتبار ذلك الوصف يلزم التسلسل، وأن وقف في مرتبة وقال في تلك المرتبة إما بعدم وجوبها

[1] لا يقال: لا يمكن القول بوجوبها باعتبار كونها موصلة إلى الواجب، وإنما هي موصلة إلى مقدمته، لا إليه.
لأنا نقول: قد مر أن المراد بالموصلة ليس العلة التامة للإيصال، مع أنه نقول بوجوبها حينئذ باعتبار الإيصال إلى مقدمته أيضا، ضرورة أنها أحد الجزءين وهو غير كاف في وجود المركب، بل المراد فعلية الإيصال، وهي تابعة لها بالنسبة إلى الواجب أيضا، وليست حاصلة لها ولو بضميمة أمور أخرى، فلا تغفل. لمحرره عفا الله عنه.
322

أصلا، أو بوجوبها مطلقا بالنسبة إلى هذا الوصف، فهو - مع ما يرد عليه [1]: من أنه لا معنى للترقي إلى تلك المرتبة الخاصة مع اعتبار ذلك الوصف في كل مرتبة متقدمة عليها وإلغاء اعتباره في تلك المرتبة، لعدم خصوصية في نظر العقل لبعض المراتب ومزية له على غيره فيما هو مناط حكمه بالوجوب المقدمي - راجع إلى أحد الوجهين الآخرين، وستعرف بطلانهما أيضا.
وأما ثانيهما (): فهو مستلزم لوجوب القول بوجوب المقدمة مطلقا إذ لا خصوصية لبعض المقدمات - كما عرفت - على بعض من حيث تقدم بعضها على بعض طبعا أو وصفا، أو من حيث كون بعضها مقدمة للواجب وكون البعض الآخر مقدمة للمقدمة، فإذا وجب هذه لزم وجوب مطلق المقدمات للواجب.
وأما الوجه الآخر وهو عدم وجوبه مطلقا فهو مستلزم لعدم وجوب المقدمة مطلقا، لما ذكر من عدم خصوصية في نظر العقل بالنسبة إلى بعض المقدمات.
هذا، [و] قال - دام ظله -: لكن الإنصاف عدم ورود ذلك على المفصل، فإن غرضه ليس وجوب المقدمة الموصلة بقيد الإيصال، بأن يكون ذلك الوصف معتبرا في موضوع الوجوب، بل غرضه وجوب ذات تلك المقدمة الخاصة الممتازة عن غيرها بوجودها الخارجي، كما هو الحال في سائر الموجودات الخارجية، واعتبار ذلك الوصف إنما هو من باب تعريف المقدمة الواجبة، وهي تلك المقدمة الخاصة به، فيكون ذلك الوصف معرفا لا قيدا مأخوذا في موضوع الوجوب المقدمي [2].

[1] قولنا: (هو) في قولنا: (فهو مع ما يرد عليه) مبتدأ، وخبره قولنا: (راجع). [لمحرره عفا الله عنه].
[2] بمعنى أن الواجب من المقدمة عنده هو فرد خاص من المقدمة ممتاز بوجوده الخارجي عما عداه
من الأفراد، لكن لما أراد المستدل إراءته لنا وتعيينه، ولا شبهة أن تعيين الشيء إما بالإشارة الحسية إليه، وإما بالتعبير عنه بوصف خاص به مساو له، والأول غير ممكن هنا، فعينه بالثاني وعرفه به، فإنه لا وصف له خاص به إلا وصف الإيصال وتعقب ذي المقدمة معه. لمحرره عفا الله عنه.
323

مع أنه في نفسه غير معقول أيضا، فإن وصف الإيصال ليس كسائر الأوصاف الصالحة لاعتبارها في موضوع الحكم كما هو الحال في الرقبة المؤمنة، ضرورة أنه وصف منتزع عن تعقب ذي المقدمة ووجوده بعد تلك المقدمة، فلو اعتبر في موضوع الوجوب المقدمي لكان مستلزما لتعلق الأمر المقدمي الغيري بنفس الواجب النفسي أيضا، مع كون ذلك الوجوب الغيري ناشئا من الأمر النفسي المتعلق بذلك الواجب، فيكون الواجب النفسي واجبا من باب المقدمة لنفسه أيضا، وهو غير معقول.
بيان الملازمة: أن الأمر بالمقيد أمر بكل واحد من جزأيه، حيث إنه مركب منهما، ولا يحصل إلا بهما، فيجب تحصيل القيد أيضا من باب المقدمة، كوجوب تحصيل ذات المقيد كذلك، وذلك القيد إذا كان من الأمور المتأصلة فلا إشكال، وإن كان من الأمور المنتزعة فيرجع وجوب إيجاده إلى وجوب إيجاد منشأ الانتزاع في الحقيقة، إذ لا حقيقة للأمر الانتزاعي حتى يكون الواجب هو في الحقيقة، فإذا بنينا على اعتبار وصف الإيصال في موضوع الوجوب المقدمي مع أنه وصف منتزع من وجود ذي المقدمة الذي هو الواجب النفسي، فيرجع الأمر بالأخرة إلى وجوب ذلك الواجب النفسي بالوجوب الغيري من باب المقدمة لنفسه.
هذا مضافا إلى أن الأمر المقدمي لا يتعلق بالأجزاء العقلية، بل إنما هو متعلق بالأجزاء الخارجية، وذلك لأن المقدمة حقيقة إنما هي الأشخاص، لأنها مما يتوقف عليه وجود الواجب لا المفاهيم الكلية، إذ لا توقف له عليها أصلا، إذ
324

ليس هي من حيث هي مؤثرة في وجوده أصلا، ولا ريب أن المقيدات وإن كانت مركبة عقلا وفي ظرف الذهن إلا أنها في الخارج بسيطة البتة، وليس لها فيه جزء حتى يكون الأمر بها أمرا به من باب المقدمة، فالمقدمة الموصلة ليس لها جزءان في الخارج حتى ينقل الكلام إليهما، بل هي أمر بسيط في الخارج، فعلى هذا فلا وجه للإيراد المذكور على تقدير اعتبار صفة الإيصال في موضوع الأمر المقدمي أيضا، فافهم.
أقول: لا يخفى أن الجواب عن الإيراد بجعل الوصف معرفا غير مجد للمفصل، فإنه جعله قيدا في موضوع الأمر المقدمي الغيري، كما ينادي به تعريفه الواجب الغيري: بأنه ما يكون الحامل على إيجابه التوصل إلى الغير، ويكون التوصل مأخوذا في موضوعه، بمعنى أن الواجب هو المقدمة بهذا الوصف، وبهذا فرق بينه وبين الواجب النفسي، وقال: إن الواجب النفسي ما لا يكون الحامل على الإيجاب - وهو التوصل إلى الغير - مأخوذا في موضوع الأمر.
وكذا كلامه الآخر في طي احتجاجه على ما صار إليه: وهو أن وجود ذي المقدمة بعدها شرط الوجود للمقدمة، لا شرط الوجوب، إذ لا ريب أن الوصف المعرف لا دخل له في وجود شيء أصلا وإن كان لا ينفك عنه، فحينئذ يتجه عليه أيضا ما ذكرنا من عدم معقولية اعتبار ذلك الوصف لكونه منتزعا من وجود ذي المقدمة، ولا مدفع عنه أصلا على فرض دفع الإيراد المتقدم بالوجه الثاني من الدفع، فتدبر [1].

[1] اعلم أن ثمرة النزاع في أن الواجب من المقدمة هي الموصلة منها أو الأعم تظهر في مواضع
تعرض لها المفصل المذكور () بعد تعريف الواجب الغيري والنفسي ()، وذكر هذا النزاع عنده، فإنه تعرض له في موضعين: أحدهما ما عرفت، وثانيهما أواخر البحث في مقدمة الواجب وفي تنبيهاته ()، وذكر الثمرات في الموضع الأول، فراجع. لمحرره عفا الله عنه.
325

[التوصلي والتعبدي]
وقد ينقسم باعتبار آخر إلى التوصلي والتعبدي:
والأول - ما يكون الغرض منه حصول نفسه على أي وجه كان، وبعبارة أخرى: ما يكون الغرض منه الوصلة إلى نفسه - كما يشعر به اسمه - بحيث لو فرض تحققه ووجوده بأي نحو كان لكان مطابقا للغرض.
والثاني - ما يكون الغرض منه وجوده على وجه التعبد والامتثال، لا مطلقا، بمعنى أنه لا يكفي وجود المأمور به الواجب في حصول الغرض، بل إنما يحصل هو به إذا وقع على وجه التعبد والامتثال، وذلك أحسن ما عرفوهما به.
ثم إن الواجب التوصلي قد يكون من المعاملات، وهي ما لا يتوقف صحتها على نية القربة، وقد يكون من العبادات، وهي ما يتوقف صحتها عليها، وذلك بأن يكون المأمور به نفس العبادة، كما [في] أوامر السجود لله أو الخضوع له أو الركوع له، وهكذا، بأن يكون وقوع تلك الأفعال لله قيدا للمأمور به، ومعتبرا فيه، لا غرضا خارجا عن المأمور به كما في الواجب التعبدي، فيكون الفرق بين هذا القسم من التوصلي وبين التعبدي: أن هذا القسم بنفسه عبادة،
326

بخلاف الواجب التعبدي، فإنه إنما يقع عبادة إذا وقع بداعي الغرض المقصود منه، وهو الامتثال، وذلك أن العبادة إنما تتقوم بقصد الامتثال، وكلما وقع الفعل بداعيه يصير عبادة، والقسم المذكور لما كان قصد الامتثال مأخوذا في حقيقته وموضوعه للأمر فتوقفه على قصد الامتثال لأجل توقف موضوعه عليه، وهو من قبيل توقف
المركب على جزئه، وبعد قصد الامتثال يتحقق موضوعه، ويكون عبادة بمجرد تحقق موضوعه، ضرورة أنه لا حاجة فيه إلى قصد امتثال آخر، هذا بخلاف الواجب التعبدي، حيث إن قصد الامتثال خارج عن موضوعه، وليس محققا له، بل يكون غرضا من الأمر به، فلا يكفي وجوده بنفسه في صيرورته عبادة.
وإن شئت قلت: إن الفرق بينهما: أن هذا القسم من التوصلي يكون قصد الامتثال معتبرا فيه على وجه القيدية لموضوعه، وأما في التعبدي فهو معتبر على وجه الغرضية بحيث يكون خارجا عن المأمور به، وليس من القيود المعتبرة فيه، بل من القيود المعتبرة في الغرض من الأمر به.
فإن قلت: إن الفرق الأول - وهو أن هذا القسم من التوصلي يقع عبادة بمجرد وجوده، بخلاف التعبدي، حيث إنه لا يقع عبادة إلا بقصد الامتثال - إنما يستقيم بناء على وضع ألفاظ العبادات للأعم، وأما بناء على كونها أسامي للصحيحة - كما هو المختار - فلا، نظرا إلى أنها لا تقع صحيحة إلا بقصد الامتثال، ومع وقوعها معه تكون هي بمجرد وجودها عبادة.
قلنا: قد حققنا - في محله - أنها على فرض وضعها للصحيحة - كما هو المختار - يكون معناها هو ما يكون موضوعا للأمر، وأنه لا بد أن يكون المراد بالصحيح هذا المعنى، لا الموافق للأمر، أو الواقع - على وجه التعبد والامتثال الذي مرجعه إلى الموافق للأمر -، إذ لا يعقل ذلك في الأمر لأدائه إلى وقوع الشيء موضوعا لنفسه المستلزم للدور، والذي يعقل إنما هو اعتبار ذلك من حيث
327

كونه غرضا خارجا عن المأمور به، مع إفادته بخطاب آخر لعدم صلاحية ذلك الأمر لذلك، فالموضوع له لتلك - حينئذ أيضا - أعم مما يقع على وجه التعبد والامتثال، فلا يكفي وجوده بمجرده لصيرورته عبادة، بل إنما يكفي إذا تحقق على وجه خاص.
ومن هنا ظهر: أن المأمور به في التعبديات أعم من الغرض مطلقا، سواء قلنا بوضع ألفاظ العبادات للصحيحة أو للأعم، وفي التوصليات إما أخص أو مساو كما في القسم المذكور من التوصلي، وهو ما يكون نفسه من العبادات.
ثم إنك قد عرفت الفرق بين الواجب التوصلي وبين التعبدي مما عرفناهما به من أن الفرق بينهما: أن الأول ما يكون الغرض منه الوصلة إلى نفسه كيف ما اتفق، وأن الثاني ما يكون الغرض منه إيقاعه على وجه التعبد والامتثال.
وقد يفرق [1] بينهما من حيث اللازم: بأن الأول يجوز اجتماعه مع الحرام دون الثاني، وظاهر ذلك أن من آثار التوصلي جواز وقوعه موردا للأمر والنهي بحيث يجتمعان فيه، ومن آثار الثاني امتناع ذلك فيه.
لكن لا يخفى فساد ذلك على من له أدنى تأمل، ضرورة أن مناط امتناع اجتماع الأمر والنهي عند العقل - على القول به - إنما هو التناقض بين نفس الأمر والنهي، لا كونها أمرا تعبديا، وذلك لا يفرق فيه بين ما إذا كان متعلقهما من التوصليات أو التعبديات، فإن امتنع امتنع مطلقا، وإن جاز جاز كذلك،

[1] (هذا الفرق من صاحب المعالم (أ) (قده)، على ما في هامش الأصل.
(أ) معالم الدين - الطبعة الحجرية -: 99 عند قوله: (والجواب عن الأول).، لكنه (ره) ترقى في الجواب بعد ذلك، فمنع كونه مطيعا في خياطته الثوب في المكان المخصوص المنهي عن الكون فيه، فتأمل).
328

فالتفصيل غير معقول.
وكون الغرض من التوصلي الوصلة إلى نفسه كيف ما اتفق، ومن التعبدي إيقاعه على وجه التعبد، لا يصلح لكونه منشأ للفرق في حكم العقل بامتناع الاجتماع لوجود ما هو المناط في حكمه في المقامين من غير فرق أصلا.
هذا، لكن الظاهر أن مراد القائل بالاجتماع إنما هو سقوط الأمر بمعنى أن الأمر في الواجب التوصلي وإن تعلق بالمباح، لكن الإتيان بالفرد المحرم من مصاديق الفعل المأمور به يوجب سقوط ذلك الأمر عن الأفراد المباحة. هذا بخلاف التعبدي فإن الفرد المحرم لا يصلح لسقوط الأمر عن المباح منه. وهذا المطلب حق لا غبار عليه.
والوجه في ذلك: أن الغرض في الواجبات التوصلية أعم من المأمور به، فإن الغرض فيها - كما عرفت - إنما هو حصول الفعل من المكلف لا مقيدا بوقوعه منه على وجه الامتثال، فيكفي في تحصيل الغرض منها إيجادها في ضمن الفرد المحرم أيضا وإن لم يكف ذلك في امتثال الأمر، حيث إنه لا يصلح لتعلقه بالفعل بهذا الإطلاق، فإن النهي عن الفرد المحرم يمنع عن تعلقه بالفعل على وجه الإطلاق بالنسبة إلى هذا الفرد، كما أن غفلة المكلف - فيما إذا كان غافلا بالنوم أو الإغماء أو غير ذلك - مانعة عن تعلقه به بالنسبة إلى حال الغفلة، مع أنه لو أتى بالفعل لكان منطبقا على غرض الآمر، وموجبا لسقوط الأمر عن الفعل بعده.
وبالجملة: الغرض في الواجب التوصلي إنما يكون على وجه يحصل بالإتيان بالفعل على أي وجه اتفق، بحيث لو لم يكن مانع خارجي عن الأمر به بهذا الإطلاق لكان مأمورا به كذلك، لتساوي جميع أفراد الفعل - من الأفراد الصالحة للأمر بها وغيرها - في تحقق المصلحة الداعية للأمر بتلك الأفراد الصالحة له التي يكون الغرض من الأمر حصولها، فيكون الإتيان بغير الفرد
329

المأمور به محصلا لما يحصل من الفرد المأمور به من الغرض، فيكون مسقطا للأمر عن ذلك الفرد لذلك، لأنه لا يبقى الأمر بعد حصول الغرض.
هذا بخلاف الواجب التعبدي، فإن الفرد الغير المأمور به فيه ليس مساويا للفرد المأمور به في تحصيل الغرض منه، حتى يكون حصوله مسقطا للأمر عنه، لأن الغرض منه إنما هو الامتثال، وهو لا يحصل إلا بإيقاع الفعل بداعي الأمر، والفرد الغير المأمور به لا أمر فيه، حتى يوقع بداعيه، فيكون منطبقا على الغرض، فعدم الأمر بالفرد المحرم من الفعل حينئذ من جهة عدم المقتضي في ذلك الفرد، لا من جهة وجود المانع عن تعلق الأمر كما في التوصلي، فالغرض في التعبدي لا يحصل إلا بالإتيان بالفرد المأمور به لا غير، فهو فيه إما مساو للمأمور به، أو أخص كما مر اختياره منا.
هذا، لكن الإنصاف: أن كون الفرد المحرم مسقطا للأمر عن المباح في الواجب التوصلي لا يصح القول به مطلقا، إذ ليس لازمه كون الغرض منه أعم من المأمور به المتحقق بالفرد المحرم، بأن كان عدم تعلق الأمر بالفرد المحرم مطلقا من جهة مزاحمة النهي عن ذلك مع بقائه على المصلحة الموجودة في الفرد المباح وتساويه له في تحصيلها، بل قد يكون الغرض فيه مساويا للمأمور به، ويكون عدم تعلقه بالمحرم من جهة كونه فاقدا لتلك المصلحة، لا من جهة مزاحمة النهي وإن كان المفروض كونه كذلك.
وبعبارة أخرى: يكون ذلك الفرد مشتملا على جهة المبغوضية الموجبة للنهي عنه فحسب، وليس كالقسم الأول من حيث كونه مشتملا على جهتي المحبوبية والمبغوضية من المصلحة والمفسدة، وروعي فيه جانب المفسدة، فنهي عنه لحصول تلك المصلحة المقصودة بغير ذلك الفرد من الأفراد المباحة، فحينئذ لا يعقل كونه مسقطا للأمر عن الفرد المباح.
هذا مضافا إلى أن المأمور به في بعض الواجبات التوصلية - كالسجود
330

لله والركوع وغيرهما مما يكون من العبادات - لا يمكن حصوله بالمحرم كما لا يخفى، والغرض فيه مساو للمأمور به لا محالة.
ثم إنه إذا كانت المادة المعروضة للأمر مقيدة بالأفراد المباحة - بأن ثبت تقيدها بها: إما من دليل خارجي غير النهي عن الفرد المحرم، بأن دل على أن المقصود والغرض إنما هو إيجادها في ضمن الأفراد المباحة، أو من ذلك النهي ولو بضميمة بعض القرائن - فلا إشكال حينئذ في كون الغرض مساويا للمأمور به، فلا يحصل بالفرد المحرم.
وأما إذا لم تكن المادة مقيدة، بل إنما هي مطلقة فهل يجوز التمسك بإطلاقها - فيما إذا كان المقام مقام البيان الذي هو شرط التمسك بالإطلاق - على أعمية الغرض، وكون الغرض هو حصول المادة كيف كان وإن كان في ضمن فرد محرم، أو لا؟.
قد يتخيل الثاني بتوهم أن التمسك بالإطلاق إنما يصح فيما لو كان المراد من المطلق المقيد لتوهم إرادة الإطلاق، نظرا إلى إطلاق اللفظ، وما نحن فيه ليس كذلك، فإنه لا يتوهم فيه إرادة الإطلاق مطلقا حتى في صورة إطلاق المادة.
لكن الظاهر هو الأول لفساد التخيل المذكور بأن عدم تعلق الأمر بشيء مع تعلقه بغيره قد يكون من باب قصره على ذلك الغير وتخصيصه به مع صلاحيته لتعلقه بذلك الشيء لو لا التخصيص، كما إذا قيل: أكرم زيدا إن جاءك، فإن الأمر المذكور صالح لتعلقه بإكرام زيد مطلقا - لو لا تخصيصه بالشرط المذكور - بأن يقول: أكرم زيدا جاءك أو لم يجئ، وقد يكون من جهة قصور ذلك الأمر وعدم صلاحيته لشموله له، بحيث لا يجوز للآمر تعليقه بذلك الغير أيضا، وعدم تعلق الأمر بشيء إنما يكون كاشفا عن خروجه عن المقصود والغرض إذا كان على الوجه الأول، وأما على الثاني - كما هو الحال فيما نحن فيه - فلا يجوز القطع بكون المقصود مقصورا على مورد الأمر حينئذ، بل يحتمل
331

كونه أعم بحيث يشمل الفرد المحرم، فيوهم إرادة كون المادة غرضا مطلقا، فيصح التمسك بإطلاقها على إطلاق كونها غرضا فيما إذا كان المقام جامعا لشرائط التمسك بالإطلاق.
توضيح المقال: أن القيود الطارئة على المأمور به على ثلاثة أقسام:
الأول - ما يلحقه قبل تعلق الأمر به بمعنى أنه من الأمور التي يلاحظها الآمر ويجعلها قيودا للمأمور به، فيورد الأمر على ذلك المقيد.
والثاني - ما يلحقه بعد تعلق الأمر به، بحيث لا يمكن تقييد المأمور به قبل الأمر وإيراد الأمر على الفعل المقيد به، بل لا بد في إفادة اعتباره فيه من أمر آخر، وهذا كالامتثال المعتبر في العبادات، فإنه لا يمكن جعل المأمور به مقيدا بكونه على وجه الامتثال في الأمر الأول، بل لا بد من آخر دل على اعتباره فيه.
والثالث - ما يلحقه بعد تعلق الأمر به، ولا يمكن لحوقه قبله لكونه من الأوصاف المنتزعة عن الأمر ككون الشيء مطلوبا ومأمورا به.
لا إشكال في جواز التمسك بإطلاق المادة على نفي القسم الأول عند الشك في صورة اجتماع شرائط التمسك، وعلى كون الغرض أعم من المقيد بذلك القيد المشكوك في اعتباره، فإنه مما يصلح لتقييد المادة به، ويتوهم الإطلاق من إطلاق المادة بالنسبة إليه.
وأما القسم الثاني: فلا يجوز التمسك به على نفيه، لأنه ليس من شأنه تقييد المادة به.
وأما الثالث: فهو كالثاني، فإنه مما لا يمكن اعتباره في المأمور به قبل الأمر، بل وصف منتزع منه، فليس من شأنه تقييد المادة به، بل لا بد في تقييده من دليل آخر.
والقيد المحتمل - فيما نحن فيه - اعتباره في المادة من جهة كونها غرضا
332

إنما هو من القسم الأول، فإن الشك في المقام: أن المادة - من جهة كونها غرضا - هل هي مقيدة في نظر الآمر بكونها في ضمن الأفراد المباحة، أو مطلقة؟ ولا ريب أن هذا التقييد مما يلاحظه الآمر قبل الأمر، فلا مانع من التمسك بإطلاقها من هذه الجهة، وأما المانع من جهة عدم تعلق الأمر بها بالنسبة إلى الفرد المحرم فقد عرفت الكلام فيه، فافهم.
ثم إنه قد يفرق بين الواجب التوصلي وبين التعبدي بكون الأول بحيث يسقط بفعل الغير وبالفعل الغير الاختياري الصادر من المأمور، بخلاف التعبدي، فإنه بحيث لا يسقط إلا بفعل المأمور نفسه مع صدوره منه عن اختياره وشعوره به.
لكن لا يخفى على المتفطن فساد ذلك الفرق بإطلاقه، فإن ما ذكر بالنسبة إلى التعبدي وإن كان صحيحا على وجه الإطلاق، لكن بالنسبة إلى التوصلي لا يصح كذلك، فإنه إنما يتم بالنسبة إلى التوصليات التي يكون غرض الشارع حصولها في الخارج من غير مدخلية لمباشرة المأمور أو لاختياره، وإنما يكون أمره للمكلف () من جهة أن غرضه يتوقف على سبب موجد له، وهو من الأسباب الموجدة له، بحيث يكون هو وغيره من جهة السببية سواء.
وأما بالنسبة إلى التوصليات التي لمباشرة المأمور أو لاختياره دخل في تحقق الغرض منها فلا، ولا يمكن القول بانحصار التوصلي في الخارج في القسم الأول، فإن المضاجعة مع الزوجة ووطأها من الواجبات التوصلية بلا شبهة مع أنهما لا يسقطان بفعل الغير، ونظير ذلك في الواجبات التوصلية فوق حد الإحصاء.
ثم إنه هل يمكن التمسك هنا أيضا في مقام الشك بإطلاق المادة على
333

أعمية الغرض بالنسبة إلى صدورها من الغير أو من غير اختيار المكلف كما مر في المقدمة المحرمة، أو لا؟.
لا شبهة في عدم جواز التمسك بإطلاقها على أعمية كونها غرضا بالنسبة إلى فعل الغير، فإنها وإن كانت صادقة على فعل الغير أيضا إلا أن ظاهر الأمر كون الغرض صدورها من خصوص المأمور، فإن ظاهره هو الطلب منه نفسه، بحيث يرجع عند العقل إلى تقييد المادة.
وبعبارة أخرى: إنه بحسب القواعد اللفظية وإن كان المأمور به مطلقا إلا أنه بعد ملاحظة طلبه من هذا المكلف الخاص على ما هو ظاهر الأمر يكون () المطلوب والمقصود بالدقة العقلية هو الفعل المقيد بصدوره من ذلك المكلف الخاص.
وأما بالنسبة إلى فعل نفس المأمور إذا صدر من غير اختياره فالأولى التفصيل بين مراتب الصدور من غير اختيار بجواز التمسك في بعضها دون أخرى.
بيان ذلك: أن الفعل الغير الاختياري قد يصدر منه على وجه يكون هو بمنزلة الآلة، كما إذا كان نائما - مثلا - فأخذ بيده () أحد فضرب بها آخر، وقد يصدر منه على وجه المباشرة، لكنه غير ملتفت إلى عنوان الفعل ولا إلى أصله ولا إلى مورده، كما إذا كان نائما أو مغمى عليه، فحرك يده فضرب بها آخر، وقد يصدر منه على وجه المباشرة مع قصده والتفاته إلى أصل الفعل وعنوانه، مع عدم قصده إلى مورده كأن قصد المأمور بضرب زيد ضرب شخص خاص معتقدا بأنه عمرو، فضربه وبان كونه زيدا.
334

لا إشكال في صدق المادة على هذه الأفعال الغير الاختيارية في جميع تلك المراتب، لكن الظاهر انصرافها في ضمن هيئات الأفعال إلى غير الصادر منها في المرتبة الأولى، فإنه يصدق فيها أنه لم يضرب، وإنما ضرب الذي أخذ يده () وضرب بها آخر، فحينئذ إذا كان مأمورا بضرب ذلك المضروب لم يكن ذلك مسقطا للأمر عنه، فإن ظاهر (اضرب) - مثلا - هو طلب الضرب منه على وجه المباشرة، فيكون الحكم في تلك المرتبة كما في فعل الغير.
وبالجملة: المادة في ضمن هيئة الأمر منصرفة إلى ما ينصرف إليه في ضمن هيئتي الماضي والمضارع، فيكون المطلوب والمقصود هو هذا المعنى المنصرفة إليه المادة، فلا بد في سقوط الغرض من إحراز صدق انتساب المادة إلى هذا الشخص المأمور بصيغة الماضي - مثلا -، بأن يصدق على الفعل الصادر منه أنه فعله حتى يكون آتيا بالغرض من امر (افعل)، ولا ريب أنه لا يصدق في الصورة المذكورة أنه ضرب فلانا، وإنما يصدق ذلك بالنسبة إلى الآخذ بيده الضارب بها ذلك الشخص الثالث.
وبعبارة أخرى: إن ظاهر الأمر طلب الفعل من المأمور نفسه على وجه يكون هو الموقع إياه والموجد له، فيكون الغرض بظاهر الأمر هو الفعل الصادر من نفسه على وجه يصدق عليه أنه أوقعه وأوجده، وهذا المعنى لا يصدق في الصورة المذكورة على فعل النائم المذكور.
هذا في المرتبة الأولى.
وأما في سائر المراتب فلا يبعد دعوى هذا الانصراف في غير الأخيرتين منها، وأما فيهما فلا يبعد دعوى صدق الانتساب على الوجه المذكور، فيمكن التمسك بإطلاق المادة فيهما على إطلاق الغرض بالنسبة إليهما لصلاحية تقيدها
335

بهما، وتوهم الإطلاق لو كان المراد المقيد مع عدم تقيد اللفظ وإن لم تكونا صالحتين لتعلق الأمر بهما إلا أنه لقصور الأمر - كما مر في الفرد المحرم - فيكون الفعل الصادر فيهما مبرئا للذمة عن التكليف، فإن العقل لا يلزم المكلف بأزيد () من إطاعة الأمر بمعناها الأعم، وهو تحصيل غرض المولى حذرا من تبعة المؤاخذة والعقاب، فإنه المدار في المؤاخذة واستحقاق العقاب، إلا أن مصاديق الغرض مختلفة، فإنها في التوصليات على وجه لم يعتبر في حصوله قصد الامتثال، فيكتفي العقل بإيجاد الفعل ولو على غير جهة الامتثال، وفي التعبديات على وجه اعتبر في حصوله قصد الامتثال، فيلزم العقل بإيجاده مقرونا بقصد الامتثال، لتوقف حصول الغرض عليه الذي هو المدار في استحقاق العقاب.
336

في تأسيس الأصل المعول عليه عند الشك في التعبدية والتوصلية
ثم إنه إذا ثبت وجوب شيء وتردد بين كونه تعبديا متوقفا حصوله على قصد الامتثال وبين كونه توصليا غير متوقف حصوله عليه، فهل هنا أصل يشخص أحد الأمرين من جهة الأمر أو من الخارج - من الأصول العقلية العملية أو اللفظية من العموم والإطلاق - أو لا؟.
فلا بد من إيراد الكلام في مقامات ثلاثة: الأول في اقتضاء الأمر لأحد الأمرين وعدمه، والثاني في الأصول العقلية، والثالث في العموم أو الإطلاق المستفادين من الأدلة الشرعية، فنقول:
أما المقام الأول:
فالحق فيه عدم ما يقتضي تعيين أحد الأمرين: أما عدم ما يقتضي التعبدية فواضح لا يحتاج إلى البيان، وأما عدم ما يقتضي التوصلية فلأن الدال عليها لو كان فهو إما إطلاق الهيئة، أو إطلاق المادة، ولا شبهة في بطلان التمسك بواحد منهما عليها:
أما الأول - فهو لأن قصد الامتثال على تقدير اعتباره ليس من القيود الراجعة إلى الهيئة كما في الواجب المشروط، حيث إن التقييد فيه راجع إلى مفاد الهيئة، بل إنما هو من قيود المادة كما لا يخفى، فلا يلزم من اعتباره تقيدها، حتى يمكن التمسك بإطلاقها على نفيه عند الشك.
وأما الثاني - فهو وإن كان ربما يتوهم، نظرا إلى أن قصد الامتثال على تقدير اعتباره من قيود المادة إلا أنه فاسد أيضا، بأن صحة التمسك بإطلاق مطلق إنما هي فيما إذا كان من شأنه تقيده بالقيد المشكوك في اعتباره، وما نحن فيه ليس منه، ضرورة أنه لا يعقل اعتبار قصد امتثال أمر في ذلك الأمر، لرجوعه
337

إلى كون الشيء موضوعا لنفسه المستلزم لتقدمه على نفسه طبعا، ضرورة تقدم الموضوع على الحكم كذلك، بل لا بد في اعتباره من أمرين: أولهما [الأمر] بذات الفعل، وثانيهما [الأمر] به مقيدا بقصد امتثال الأمر.
نعم هنا شيء آخر: يقوم مقام الإطلاق في إثبات التوصلية، بل أقوى منه، وهو أن اعتبار قصد الامتثال وإن لم يتعقل في الأمر الابتدائي، إلا أنه ممكن بأمر آخر - كما مر - فحينئذ إذا أحرزنا مقام البيان - أعني كون المتكلم في مقام بيان مقصوده من جهة التوصلية والتعبدية، كما هو المعتبر في المطلقات مع عدم بيان اعتبار ذلك القيد بأمر آخر - فنقول:
إن سكوته حينئذ عن الأمر الآخر وعدم تعقيب الأمر الأول به يفيد كون ذات الفعل تمام المقصود، لأن السكوت في مقام البيان يفيد الحصر - أعني حصر المقصود في المذكور - فثبت به كون الواجب توصليا.
ووجه كون ذلك أقوى من الإطلاق اللفظي: أن هذا الحصر المستفاد منه إنما هو من الظهورات الحالية التي هي أقوى الظهورات حتى الظهورات الناشئة عن الوضع كما لا يخفى، فهو من الأدلة الاجتهادية، بخلاف إطلاق المطلق، فإن مفاده ليس من الظهورات أصلا، فكيف بكونه مساويا لما ذكر أو أقوى، بل الأخذ به إنما هو من باب التعبد العقلي المبني على قبح التكليف بلا بيان.
هذا....
وأما المقام الثاني:
ففيه وجهان:
أحدهما - يقتضي البناء على التعبد به ولزوم الإتيان بالفعل بقصد الامتثال.
وثانيهما - يقتضي التوصلية وعدم لزوم قصد الامتثال.
أما الوجه الأول: فغاية ما يمكن أن يقرر به هو أن يقال:
338

إن الشك في اعتبار قصد الامتثال حقيقة راجع إلى الشك في كيفية الإطاعة، ولا دخل له بالشك في المكلف به، فإذا ثبت التكليف بفعل، فشك في كيفية إطاعته من جهة قصد الامتثال وعدمه، فهذا الشك لا يوجب إجمال المكلف به، لأنه ليس من القيود المعتبرة فيه كما في الشرائط والأجزاء للمأمور به، بل خارج عنه، فحينئذ يكون المأمور به مبينا، والشك فيما يتحقق به، وحينئذ يحكم العقل بتحصيل القطع بالخروج عن عهدة التكليف به، وهو لا يحصل إلا بقصد الامتثال، فيحكم العقل بوجوبه لذلك.
ويمكن أن يقرر بوجه آخر، ولعله أحسن: وهو أنه إذا ثبت التكليف بشيء فالعقل يحكم بلزوم الإتيان به على وجه يطابق غرض الآمر، فإذا تردد الغرض بين أمرين: ذات الفعل كيف كان، أو التعبد به، فالعقل يحكم
بلزوم الإتيان بالفعل على وجه يحصل القطع بتحصيل الغرض، وهو لا يكون إلا بالإتيان به بقصد الامتثال.
وهذا التقرير ناظر إلى جعل الغرض دائرا بين المتباينين، فلذا يجب الاحتياط بكلا الأمرين اللذين هما طرفا الشبهة له.
هذا، ولكن لا يخفى [ما] فيه من الضعف، وسيظهر ضعفه من الوجه الثاني، فانتظر.
واما الوجه الثاني: فيقرر على وجهين:
أحدهما: أن الشك فيما نحن فيه أيضا من الشك في اعتبار شيء في المكلف به شطرا أو شرطا، فيكون الحال في المقام هي الحال في صورة الشك في شرطية شيء أو جزئيته للمأمور به، فعلى القول بالبراءة هناك - كما هو المختار - نقول بها هنا أيضا.
توضيح رجوع الشك هنا إلى الشك في اعتبار شيء في المكلف به: أن المكلف به قد يكون بحيث يمكن إرادته بأمر واحد بجميع ما يعتبر فيه من
339

القيود، وقد يكون بحيث لا يمكن إرادته بأمر واحد بجميع قيوده المعتبرة فيه، نظرا إلى عدم إمكان ذلك بالنسبة إلى بعض قيوده، ولا يختص الشك في اعتبار شيء في المكلف به بالقسم الأول، بل يجري في الثاني أيضا، وما نحن فيه منه، فيكون الشك في اعتبار قصد الامتثال راجعا إلى الشك في اعتباره في المكلف به، فعلى المختار فالمرجع فيه هي أصالة البراءة، فإنه إذا كان المكلف به هو المقيد بقصد الامتثال، والمفروض عدم بيانه، فالعقل قاض بالبراءة عنه لقبح العقاب عليه حينئذ، والمنجز على المكلف فعلا لا يكون إلا المقدار المعلوم، لأنه على تقدير كونه هو المكلف به تمت الحجة فيه لبيانه.
ثانيهما: أنه لو سلم خروج ما نحن فيه عن مقولة الشك في اعتبار شيء في المكلف به، وكون قصد الامتثال من مقولة الأغراض، فالعقل قاض أيضا بالبراءة عن وجوبه، فإن ما هو المناط عند العقل في حكمه بالبراءة - عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به - موجود هنا بنفسه، وهو قبح العقاب بلا بيان، فالإتيان بالغرض إنما يكون لازما مع بيانه، وأما مع عدم البيان فلا يلزم العقل بتحصيله بالاحتياط، ولا ريب أن بيان الغرض في التكاليف الشرعية من شأن الشارع وعليه بيانه، فإذا شك في كون شيء غرضا له مع عدم بيان منه فالعقل قاض بالبراءة عنه لقبح العقاب عليه من غير بيان، ودخول ما نحن فيه في دوران الأمر بين المتباينين أيضا لا يقدح بالحكم بالبراءة عن المشكوك فيه، وهو لزوم قصد الامتثال، فإنه على تسليمه من باب الشبهة المحصورة التي قام الدليل على بعض أطرافها، إذ المفروض قيام الدليل على وجوب ذات الفعل التي هي أحد طرفي المعلوم الإجمالي من الغرض، فلا يجري فيها الأصل، فيبقى الأصل في الطرف الآخر سليما عن المعارض، فيثبت جواز ترك ذلك الطرف الآخر المحتمل وجوبه ظاهرا إن كان ذلك الأصل الاستصحاب، لكونه مخرجا مورده عن تحت موضوع لزوم تحصيل الغرض، أو عدم العقاب عليه إن كان
340

أصالة البراءة العقلية، بل تثبت هي أيضا الجواز في مرحلة الظاهر كالاستصحاب.
وبالجملة: العلم الإجمالي إنما يوجب تنجز الواقع على المكلف على سبيل لزوم موافقته القطعية إذا لم يكن في بعض أطرافه مرخص شرعي أو عقلي، وأما معه - كما هو الحال في المقام - فلا يقتضي أزيد من عدم جواز مخالفته القطعية، فيختص إيجابه للموافقة القطعية بما إذا كانت الأصول متعارضة في أطرافه، فافهم.
والحاصل: أن التكليف بتحصيل غرض الامتثال لا يتنجز على المكلف لعدم بيانه، فإن كان الغرض الواقعي هو ذلك فلا تكليف على المكلف أصلا لعدم بيانه.
نعم لو كان هو نفس الفعل فهو منجز عليه لبيانه بالفرض، فلزوم الإتيان به حينئذ لأجل كونه منجزا على المكلف وموجبا لاستحقاق العقاب عليه على تقدير كونه هو الغرض الواقعي، فيلزم العقل بلزوم الإتيان به لذلك.
وكيف كان، فالحق في مقام الشك في تعبدية وجوب شيء أو توصليته بالنظر إلى الأصول العملية هو الحكم بالتوصلية، لما عرفت.
وأما المقام الثالث:
فقد ذهب فيه جماعة إلى أن الحاصل - المستفاد من عمومات الكتاب والسنة - هي التعبدية، زاعمين دلالة بعض الآيات والأخبار على ذلك:
فمن الآيات قوله تعالى - حكاية عن تكليف أهل الكتاب -: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين () الآية، أي ما امر أهل الكتاب في كتبهم إلا ليعبدوا الله الآية.
341

وقد نسب الاستدلال إلى العلامة - قدس سره - في النهاية () لكن المحكي من كلامه عن المنتهى مخالف لذلك فإنه - (قدس سره) على ما حكي عنه في المنتهى () - استدل () بها على اشتراط العبادة بنية القربة قبالا لأبي حنيفة - خذله الله تعالى - القائل بعدم اشتراط الوضوء بها، وليس في مقام إثبات أصل كلي يعول عليه عند الشك.
وكيف كان، فيمكن الاستدلال بها من وجهين - على إثبات أصالة التعبدية في أوامر أهل الكتاب، ثم إثبات هذا الحكم في شريعتنا: إما بالاستصحاب بناء على اعتباره في الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة، وإما بمقتضى قوله تعالى في آخر الآية: وذلك دين القيمة ()، فإن المشار إليه بقوله: وذلك هو ما استفيد من صدر الآية من الحكم، ومعنى (القيمة) - كما فسرها المفسرون - (المستقرة) التي لا تنسخ وهي صفة لمحذوف، أي وذلك دين الملة القيمة -:
الوجه الأول: بالنظر إلى قوله تعالى: ليعبدوا، وتقريب الاستدلال على ذلك:
أن العبادة هي الإتيان بالفعل على وجه الإخلاص المرادف للامتثال، واللام في (ليعبدوا) للغاية، كما يظهر عن بعض في مقام الاستدلال بالآية على خلاف الأشعري القائل بالجزاف في أفعال الله - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - فيكون المعنى: أنه ما أمر أهل الكتاب بشيء لغاية وغرض من الأغراض إلا
342

لغرض الامتثال والإخلاص، فتدل الآية على انحصار الغرض فيما أمروا به في الامتثال عموما بالنسبة إلى جميع ما أمروا به، نظرا إلى وقوع الجنس - وهو اللام - في حيز النفي المفيد للعموم فإذا ثبت ذلك الحكم العام في حقهم ثبت في حقنا بأحد الأمرين المتقدمين، فيكون الأصل في واجباتنا أيضا هو التعبدية إلا ما أخرجه الدليل.
وكيف كان، ففي هذا الوجه يكون قوله تعالى: مخلصين له الدين حالا مؤكدة لقوله: ليعبدوا لتضمن العبادة على هذا الوجه للإخلاص.
الوجه الثاني: بالنظر إلى قوله: مخلصين له الدين، وتقريب الاستدلال به:
أن المراد بالدين هنا إما القصد، وإما نفس الأعمال والأفعال بعلاقة السببية والمسببية بينها وبين الجزاء الذي هو أحد معانيه، وعلى التقديرين يتم به المطلوب، فإنه حال من قوله تعالى: ليعبدوا.
وعلى تسليم عدم تضمنه للإخلاص - بأن يكون المراد بالعبادة مطلق الإتيان بالفعل المأمور به - فيكون مقيدا
بالإخلاص المستفاد من هذا القيد لا محالة.
وعلى تقدير كون المراد بالدين القصد يكون المعنى: وما أمروا إلا لأن يأتوا بما أمروا به على وجه إخلاص القصد فيه، وعلى تقدير كون المراد به الأعمال يكون المراد: وما أمروا إلا لأن يأتوا بما أمروا به على وجه الإخلاص في العمل، ولا ريب أن إخلاص القصد في العمل أو إخلاص نفس العمل لا يكون إلا بالإتيان بالمأمور به على وجه التقرب والامتثال لأمر الآمر.
وكيف كان فالآية تدل على لزوم الإتيان بالمأمور به على وجه الإخلاص إما باستفادته من قوله: ليعبدوا بناء على تضمنه له، وإما باستفادته من
343

القيد وحده، والإخلاص لا يكون إلا بالإتيان بالمأمور به بداعي الامتثال لأمر الآمر.
هذا غاية ما قيل أو يقال في توجيه الاستدلال بالآية، لكن لا يخفى على المتفطن ضعفه:
أما على الوجه الأول: فلأن الظاهر بملاحظة نظائر الآية كون اللام في ليعبدوا من اللام الداخلة على مفعولي الأمر والإرادة كقوله تعالى: يريد الله ليذهب عنكم الرجس ()، ويهديكم [1] ()، وقوله تعالى: أمرنا لنسلم لرب العالمين ()، وأمرت لأن أكون أول المسلمين ()، وأمرت لأعدل بينكم ()، وأمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ()، حيث إن اللام فيه مقدرة قبل (أن)، فيكون مدخولها هو المفعول به للفعل السابق عليها، فتكون العبادة نفس المأمور به لا غايته.
هذا مضافا إلى شهادة عطف يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة () عليه، كما يؤذن به حذف النون منهما، فإنه لو جعل اللام في (ليعبدوا) للغاية لما صح عطف هذين عليه، فإنهما نفس المأمور به، لا الغاية له الخارجة عنه.

[1] في الأصل: (وليهديكم).، ولم نعثر على آية بهذا النص، ولكن يوجد ما هو قريب منها، وهو قوله تعالى: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم
344

وبالجملة: اللام هنا غاية للأمر، فيكون مدخولها نفس المأمور به كما في نظائره من الآيات ومن الأمثلة العرفية، كما يقال: أؤمر عبدك ليفعل كذا، أو أمرتك لتفعل كذا، ونظيره في الفارسية قولهم: بفرما تا آب بياورند، حيث إن الإتيان بالماء نفس المأمور به.
لا يقال: إن الاستدلال ليس مبنيا على جعل اللام غاية للمأمور به بل يتم على تقدير كونها غاية للأمر أيضا، فإن معنى الآية على هذا التقدير: أنه ما امر أهل الكتاب إلا بالعبادة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فتدل الآية على أنه لم يتوجه إليهم من الله تعالى أمر إلا بالعبادة، فيكون كل ما أمروا به مأمورا به بعنوان كونه عبادة، ويكون عطف يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة عليه من عطف الخاص على العام، ويكون النكتة في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر من أفراد العام التنبيه على أنهما عمدتها، كما ورد بذلك الأخبار أيضا، فيتم المطلوب.
لأنا نقول: إن كون ذلك من عطف الخاص على العام إنما يصح بعد التنبيه على اعتبار قصد الامتثال في المعطوف أيضا ليعلم فرديته للعام، ومن المعلوم أنه لا دلالة في الآية على كيفية الصلاة والزكاة من جهة قصد الامتثال، وإنما المستفاد منها وجوب الإتيان بأنفسهما مع السكوت عن كيفيتهما، فيكونان مع ذلك أجنبيين عن المعطوف عليه، فتأمل.
هذا كله مضافا إلى منع دلالة الآية على اعتبار التعبد والامتثال على وجه القيدية فيما امر به أهل الكتاب على تسليم كون اللام لغاية المأمور به، فإن غاية ما يدل عليه حينئذ: أن كل ما أمروا به يكون الغاية المقصودة منه هي العبادة والامتثال، ومن الواضح أن غائية شيء لشيء على وجهين:
أحدهما - أن يكون الغاية حقيقة نفس ذلك الشيء، ويكون المطلوب من الأمر بذي الغاية تحصيل نفس ذلك الشيء، كما في الطهارة بالنسبة إلى الوضوء والغسل.
345

وثانيهما - أن يكون الغاية كون ذي الغاية لطفا في ذلك الشيء، فيكون الغاية حقيقة كونه لطفا في ذلك الشيء، لا نفس ذلك الشيء، كما في التجنب عن الفحشاء والمنكر بالنسبة إلى الصلاة، فإن فعلها لطف في التجنب عنهما.
والاستدلال يتم على تقدير كون العبادة غاية لما أمروا به على الوجه الأول، وأما على الثاني بأن يكون الأمر بسائر الواجبات لأجل كونها ألطافا في العبادة ومقربة إليها، فلا.
ولا ظهور للآية في الأول إن لم نقل بظهورها في الثاني، نظرا إلى عطف يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة () على ليعبدوا، إذ حينئذ يجب أن يكون إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أيضا غايتين لما أمروا به، ولا ريب أنه لا يعقل كونهما غايتين لما أمروا به إلا على الوجه الثاني، ضرورة أن فعل الصلاة والزكاة لا يحصلان بفعل غيرهما من الواجبات، بل الممكن حصوله منها إنما هو حالة التقرب إليهما، وقد ذكر جماعة أن بعض الواجبات الشرعية لطف في بعضها الآخر كما أن كلها ألطاف في الواجبات العقلية، فيكون المراد أن واجباتهم - توصلية كانت أو تعبدية - ألطاف في العبادة، لا أن كل ما أمروا به عبادة.
ومع الإغماض عن ذلك كله نقول: إن الاستدلال مبني على أن يكون المراد بالعبادة في الآية هو فعل الجوارح بقصد الطاعة الذي يتعلق به التكليف الفرعي، ومع تسليم ظهورها في هذا المعنى في نفسها - كما هو ليس ببعيد، نظرا إلى أن معناه بالفارسية: (بندگى كردن، وفرمانبري)، وهذا من فعل الجوارح - يمنع من كون المراد منها ذلك في الآية، بل الظاهر أن المراد بها اتخاذ الله تعالى ربا، وتوحيده في المعبودية، ونفي الشريك عنه في مقابل عبادة الأوثان والأصنام، حيث إن المشركين عبدوها وجعلوها شفعاء عند الله، كما ينادي به قوله تعالى حكاية
346

عنهم: ليقربونا إلى الله زلفى ()، وذلك لكثرة إطلاقها على هذا المعنى في الكتاب العزيز، كما في الآيات المتقدمة الإشارة إليها المذكور فيها لفظ العبادة، وكما في قوله تعالى: فاعبد الله مخلصا له الدين ()، وقوله: ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ()، وقوله: فاعبدوا ما شئتم من دونه ()، وقوله: لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد ()، بل ولم نقف على موضع من الكتاب يراد بها غير هذا المعنى.
وبالجملة: فهذه الآية مساوقة لسائر الآيات المذكورة فيها لفظ العبادة جدا، فيكون المراد بها بملاحظة اتحاد السياق هو نفي الشرك وتخليص العبودية لله تعالى ليطاع وحده ()، لا أن كل ما أمرهم به طاعة، كما هو الحال في أخواتها أيضا، فالمراد بالعبادة في الآية هو التوحيد الذي هو أس أصول الدين، كما أن الصلاة والزكاة المعطوفتين عليها من أس فروعه [1].
وعلى هذا يصح جعل اللام في ليعبدوا لغاية المأمور به على الوجه الثاني من الوجهين المتقدمين، فيكون المراد: أنه لم يؤمر أهل الكتاب بشيء إلا لأجل كونه لطفا في التوحيد الذي هو من أصول الدين، وفي الصلاة والزكاة اللتين هما

[1] فالآية مشتملة على أم المسائل الإلهية والأحكام الشرعية الفرعية، وهي وجوب الصلاة والزكاة، كما أنه تعالى جمع بين التوحيد وبين حقوق الوالدين في قوله: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا. [الإسراء: 23] لمحرره عفا الله عنه
347

من فروعه، وعلى هذا لا حاجة إلى حمل الحصر على الإضافي، كما لا يخفى.
كما أنه جعلها () غاية للأمر - بأن يكون مدخولها نفس المأمور به، فيكون المراد أنهم لم يؤمروا بشيء من الأصول والفروع إلا بهذه الأمور، - فيكون الحصر إضافيا، ضرورة عدم انحصار ما أمروا به فيها، ويكون
النكتة في إيراد الكلام على الوجه المفيد للحصر التنبيه على كون تلك الأمور عمدة أصول الدين وفروعه، كما ورد في الصلاة: (أنها عمود الدين إن قبلت قبل () ما سواها، وإن ردت رد () ما سواها) ().
هذا تمام الكلام في بيان ضعف الاستدلال على الوجه الأول.
وأما ضعفه على الوجه الثاني فظاهر للمتأمل فيما تقدم منا في الأول.
وتوضيحه: أنه بعد قيام القرينة على كون المراد بالعبادة في ليعبدوا هو نفي الشرك واتخاذ الله وحده معبودا، لا مناص عن حمل لفظ الدين في قوله:
مخلصين له الدين () على الطريقة والملة، وذلك لأن الدين له ثلاثة معان:
أحدها - الجزاء، كما في قوله تعالى: مالك يوم الدين ().
وثانيها - القصد.
وثالثها - الطريقة والملة، كما في قوله تعالى: إن الدين عند الله
348

الإسلام ().
لا سبيل إلى حمله على الأول، لأن الجزاء من فعل الله تعالى ولا يمكن لأحد إخلاصه، مع أنه غير مجد للمستدل، ولا يقول هو به أيضا.
وكذا لا سبيل إلى الثاني إن حمل إخلاصه على معنى قصد القربة - كما هو المجدي للمستدل - لأن شأن الحال كونها مقيدة للعامل في ذيها، فيكون مقتضى حمله عليه أن يكون المراد - بعد كون المراد بالعبادة هو نفي الشرك واتخاذه تعالى معبودا وحده - أنه وما أمروا إلا ليوحدوا الله تعالى بالمعبودية () مخلصين له القصد في التوحيد، أي قاصدين القربة فيه، وهذا لا معنى له، إذ لا يمكن اعتبار قصد القربة في أصول العقائد كما لا يخفى [1].
فتعين حمله على الثالث، فيكون المراد: مخلصين له الملة، فيكون عبارة أخرى عن التوحيد، فيكون حالا مؤكدة لقوله: ليعبدوا، ولا دخل له بمرحلة اعتبار قصد القربة.
نعم يمكن أن يكون المراد به الأعمال وأفعال الجوارح بعلاقة السببية والمسببية بينها وبين الجزاء - كما مر - كما في قولهم: (كما تدين تدان) () أو الاتباع كما في قوله تعالى ولا يدينون دين الحق ()، حيث إن المراد بقوله يدينون

[1] نعم يمكن أن يكون المراد به القصد على معنى قصد العبودية لله تعالى، لكنه لا ينفع المستدل، لأنه عبارة أخرى عن العبادة بالمعنى الذي ذكرنا. لمحرره عفا الله عنه.
349

يتبعون، والمراد بدين الحق ملته، أي لا يتبعون ملة الحق، ولعله مجاز عن القصد، مع إمكان أن يراد به في المثال المذكور القصد نفسه، أي لا يقصدون دين الحق، لكن لا شاهد على حمله على الأول لكونه معنى مجازيا لا يصار إليه إلا لقرينة ظاهرة، وأما الثاني فهو عبارة أخرى عن العبودية، فيكون المراد على تقديره نفي الشريك عنه تعالى في مقام العبودية له، فيتحد مفاده [مع] صدر الآية ()، ويؤكده كتأكيده إياه على تقدير إرادة الملة منه، كما هو الظاهر من سياق الآية وملاحظة نظائرها المشتملة على لفظ الدين، كقوله تعالى: لكم دينكم ولي دين () بعد أمره تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بنفي الشريك وإخلاص العبودية له - [تعالى] - بقوله [تعالى]: قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون () إلى آخر السورة.
وبالجملة: فمن تأمل حق التأمل يرى أن لفظ (العبادة) الوارد في الكتاب العزيز يراد به ما ذكرنا، وأن المراد بلفظ الدين - الوارد في تلوه - معنى () الملة.
هذا كله مضافا إلى أنا لو سلمنا تمامية دلالة الآية وظهورها في اعتبار قصد القربة والامتثال في كل ما امر به أهل الكتاب بأحد الوجهين المتقدمين أو بكليهما، لا يمكن الأخذ بظهورها هذا، لأن إرادته مستلزمة لتخصيص الأكثر، كما لا يخفى، لأن أكثر الواجبات في كل شريعة توصلية جدا، بل التعبدية منها لقلتها مضمحلة في جنب التوصلية منها، فيستهجن إرادة اعتبار قصد التقرب
350

المختص بهذا المقدار القليل بطريق عموم اللفظ للجميع، ولا يتم الاستدلال بالآية لإثبات اعتبار قصد القربة في واجبات أهل الكتاب، فكيف بإثبات اعتباره في شريعتنا؟.
ومع الإغماض عن لزوم تخصيص الأكثر بالنسبة إلى واجباتهم وتسليم تمامية الآية في الدلالة على اعتبار قصد القربة في واجباتهم عموما لا يمكن إثبات هذا الحكم بعمومه بالنسبة إلى شريعتنا، لاضمحلال الواجبات التعبدية، في جنب التوصلية في واجباتنا جدا، وبدونه لا تثبت أصالة التعبد في شريعتنا، كما لا يخفى.
ثم إن شيخنا الأستاذ تعرض للآية في تنبيهات رسالته الاستصحابية ()، وأجاب عن الاستدلال بها: بأن المراد بها نفي الشريك.
ثم قال بعد تسليم تمامية دلالتها على المطلوب بالنسبة إلى الشرائع السابقة ما حاصله: أن الآية تدل على اعتبار قصد القربة في الأفعال الواجبة على أهل الكتاب، ومقتضى ثبوت هذا الحكم في شريعتنا - أيضا إما بالاستصحاب وإما بقوله: وذلك دين القيمة () - أنا لو كنا مأمورين بتلك الأفعال الخاصة الواجبة عليهم لوجب علينا قصد القربة والامتثال فيها أيضا، وأين هذا من وجوبه في كل ما يجب علينا حتى تثبت أصالة التعبد فيما وجب علينا كما هو المطلوب؟ انتهى.
قال - دام ظله -: لكن الإنصاف اندفاعه بأن الظاهر من المستدل بالآية جعل اللام في ليعبدوا لغاية المأمور به مع حذف نفس المأمور به عن الكلام، فيكون المراد على هذا - كما مر بيانه أيضا - أنه لم يتوجه إلى أهل الكتاب أمر
351

من الله تعالى بشيء لغرض وغاية من الغايات إلا لغاية العبادة، فحينئذ يكون النظر في الكلام بقرينة حذف المفعول به إلى جهة الصدور لا الوقوع، ويكون الغرض انحصار صدور الأمر منه تعالى إليهم فيما يكون الغاية منه العبادة من غير نظر إلى المفعول به حتى يرد ما ذكر، فحينئذ فمقتضى اشتراكنا معهم () في هذا الحكم عدم توجه أمر من الله تعالى إلينا إلا لغرض العبادة، فيتم المطلوب.
وبالجملة: قوله تعالى -: وما أمروا بملاحظة حذف المفعول به - وهو المأمور به - من قبيل قول القائل: (زيد يعطي أو يمنع) بحذف المفعول به فيهما من جهة كون النظر فيه كما في المثال إلى جهة الصدور هذا.
أقول: الإنصاف اندفاعه أيضا بناء على كون المفعول به أيضا مذكورا بجعله إياه مدخول اللام، فإن معنى الآية على هذا انحصار المأمور به في شريعتهم في العبادة، ومقتضى اشتراكنا معهم () انحصاره في شريعتنا أيضا فيها، فيتم المطلوب.
وكيف كان - وبعد الإغماض عن وجوه الإيراد على الاستدلال المتقدمة وتسليم دلالتها على اعتبار قصد القربة في المأمور به في شريعتهم - لا وجه لذلك الإيراد. هذا.
ومنها: قوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ().
وجه الدلالة: أنه تدل على وجوب إطاعة الله - سبحانه وتعالى - وهي لا تكون إلا بالإتيان بما أمر به بقصد القربة، فيكون المراد وجوب الإتيان بما أمر
352

به بقصد القربة، وليس هذا الأمر كسائر الأوامر التي تسقط عن المكلف بالإتيان بفرد واحد من المأمور به، كما في الأمر بالضرب الساقط بإيجاده في ضمن فرد منه بحيث لا يقتضي وجوب إيجاد جميع الأفراد، بل هذا الأمر - نظير قول القائل: أد الدين، أو أد الأمانة، ونظرائهما - ظاهر في إرادة الطبيعة بجميع أفرادها، ولعل القرينة على العموم في المقام الملازمة بين ترك الإطاعة - في بعض الأوامر وإن لم تترك كلية لمخالفة المولى - وعصيانه، وهو قبيح () جدا - فقبح ترك الإطاعة بطريق السلب الجزئي - لكونه ملازما للمخالفة والعصيان - قرينة على إرادة الإيجاب الكلي في الأمر بها، كما أن القرينة عليه في مثال الأمر بأداء الدين أن الغرض من أدائه إنما هو تخليص النفس عن مهانته، مضافا إلى الخروج عن تبعة العقاب عليه، وهو لا يحصل إلا بأدائه إلى مثقال ذرة منه، وفي مثال الأمر بأداء الأمانة هي التخلص عن قبح الخيانة، وهو لا يحصل إلا بردها إلى الدينار منها.
وبالجملة: فالآية دالة على وجوب الإتيان بجميع ما أمر به - سبحانه [و] تعالى - بقصد الطاعة، وهو المطلوب.
هذا، وقد أجيب عن الاستدلال بها بأن الإطاعة تطلق على معنيين:
أحدهما الإتيان بالفعل على وجه الامتثال، كما حملها عليه المستدل، والآخر مجرد عدم المعصية، والمتعين منهما هنا هو الأخير خاصة، إذ إرادة الأول مستلزمة لكون قصد الامتثال معتبرا في إطاعة الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام كما تقتضيه قاعدة العطف، وهو فاسد بالإجماع.
لا يقال: إن إطاعتهم عين إطاعة الله تعالى فلا ضير في اعتبار قصد الامتثال فيها من هذه الجهة.
353

لأن ذلك مدفوع: بتكرار الأمر، فإن الظاهر منه تكرار المأمور به أيضا، فيكون المراد بإطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة - عليهم السلام - إطاعة ما أمروهم عليهم السلام أنفسهم قبال ما أمر به الله تعالى.
وبالجملة: فالمتعين في المقام حمل الإطاعة على المعنى الثاني لما ذكر، مضافا إلى إطلاقها عليه في غير موضع من الكتاب والسنة كقوله - في مقام الأمر بإطاعة الوالدين -: وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ()، وقوله: ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ()، فإن تقابل الطاعة للتولي أقوى شاهد على ذلك.
ونظيره قوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ().
وفي موضع آخر بعد أمره تعالى بإطاعته وإطاعة الرسول قال: فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ().
ونظير هذه الآيات ما في بعض فقرات الزيارة الجامعة وغيرها من الزيارات: «من أطاعكم فقد أطاع الله، ومن عصاكم فقد عصى الله» () فجعل الإطاعة مقابلة للعصيان، فإذا كان المراد بها فيما نحن فيه عدم العصيان فالأمر بها لا يوجب تقييد الأوامر المطلقة، فإن عدم العصيان قد يحصل بدون قصد الامتثال، كما إذا أتى بالواجبات التوصلية لا بقصد القربة، فلم ينحصر عدم
354

العصيان في الامتثال حتى يكون الأمر به أمرا به. هذا.
أقول: لا يخفى فساد مبنى () هذا الجواب على المتفطن، وهو عطف الرسول وأولي الأمر مع تكرار الأمر، فإن تكرار الأمر مشعر بأن المراد بإطاعة الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة غير ما أريد من إطاعة الله تعالى وإلا لما كان وجه للتكرار، فهو مؤيد للمستدل لا مضر له، فالمراد بإطاعة الله تعالى هو الإتيان بما أمر به بقصد الامتثال، وبإطاعة الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة هو الإتيان بما أمروا به بعنوان كون إطاعتهم إطاعة الله تعالى ولو اكتفى المجيب في وجه حمل الإطاعة على عدم العصيان بكثرة إطلاقها عليه - كما في الأمثلة المذكورة - لكان له وجه.
وقد يجاب عن الاستدلال بالآية: بأنه لو حمل الإطاعة على ما زعمه المستدل لكان مستلزما لتخصيص الأكثر لخروج أكثر الواجبات عنها كما لا يخفى، فلا بد من حملها على عدم العصيان، ومعه لا دلالة لها على المطلوب.
لكن الإنصاف: عدم الحاجة إلى تكلف حمل الإطاعة على عدم العصيان، ولا داعي له بوجه، إذ مع حملها على المعنى الأول أيضا لا يتم مطلوب المستدل.
بيان ذلك: أن الأمر بالإطاعة في الآية إرشادي وارد على طبق حكم العقل بوجوبها مطلقا - حتى في الواجبات التوصلية - وموضوع الإطاعة إنما هو الأمر، فالآية تقتضي وجوب الإتيان بالفعل المأمور به بداعي الامتثال ما دام الأمر به باقيا، كما هو قضية حكم العقل أيضا، وأما مع سقوطه - كما إذا أتى المكلف بالفعل لا بداعي الامتثال، بل لاشتهاء نفسه - مثلا مع كونه توصليا - فلا تقتضي الآية وجوب الإتيان به ثانيا بقصد الامتثال والطاعة لذهاب
355

موضوعها وهو الأمر.
والحاصل: أنا نقطع بإرادة جميع الواجبات من الآية حتى التوصليات من غير استثناء، كما هو الحال في حكم العقل، ونقسم على ذلك جدا.
لكن نقول: إنها لا تصلح لتقييد الأوامر الخاصة بحيث تكشف عن جعل الشارع قصد الامتثال معتبرا في متعلقاتها كلا أو بعضا، بل موضوعها إنما هو أمر الله تعالى فإنها دالة على وجوب إطاعة أمر الله تعالى فلا تقتضي إذن أزيد من أنه لو لم يسقط المكلف الأمر عن رقبته - ولو بالإتيان بالمأمور به بتشهي نفسه - لوجب عليه الإتيان به بداعي أمر الشارع من غير فرق بين الواجبات التعبدية أو التوصلية، بحيث لو فرض سقوط التعبدية بها بغير قصد الامتثال لما تدل الآية على لزوم الإتيان بها ثانيا بقصده، كما هو الشأن في حكم العقل أيضا.
وبالجملة: الواجبات التعبدية والتوصلية سواء من حيث دخولهما تحت الآية وإرادتهما بها، وهي تدل على وجوب الإتيان بكل واحدة منهما بقصد الامتثال وبداعيه ما دام الأمر بها باقيا وإن كانت الأولى لا تسقط إلا به.
ومن هنا ظهر أنه لا يلزم من ذلك تخصيص في الآية أصلا، فضلا عن تخصيص الأكثر، كما زعمه المجيب المتقدم، فإنها شاملة لكل من الواجبات التوصلية والتعبدية ما دام الأمر بهما باقيا، ولا داعي إلى إخراج التوصلية منها على تقدير كون الأمر به باقيا، بل يجب دخولها كما لا يخفى، وساكتة عنهما جميعا إذا ارتفع الأمر عنهما. هذا.
ومن السنة قوله عليه السلام: «لا عمل إلا بنية» ().
تقريب الاستدلال به: أن المراد بالعمل هو المأمور به، والمراد بالنية هو
356

نية التقرب، فالمعنى لا عمل من الأعمال الواجبة إلا بنية القربة، ولما لم يمكن حمل كلمة (لا) على حقيقتها، وهي نفي الذات، فلا بد من حملها على نفي جميع الآثار المساوق لنفي الصحة لكونه أقرب إلى الحقيقة بعد تعذرها، فيكون المقصود أنه لا يصح شيء من الواجبات إلا بنية القربة، فيدل على اعتبارها في كل واجب إلا ما أخرجه الدليل، وهو المطلوب.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه الاستدلال به.
لكن يتجه عليه: أن حمل العمل في الحديث الشريف على خصوص الواجبات ينافي عمومه المستفاد من وقوعه نكرة في حيز النفي، فيتوقف على قرينة ظاهرة عليه، وهي ممنوعة.
فإن قيل: إن حمله على العموم موجب لتخصيص الأكثر لعدم توقف صحة الأكثر من غير الواجبات - وكثير منها - على نية القربة، فلا بد من الحمل على الواجبات.
قلنا: المحذور المذكور مشترك الورود بين التقديرين، ضرورة عدم توقف صحة أكثر الواجبات - وهي التوصليات منها - على نية القربة.
وبالجملة: كل الأعمال من الواجبات وغيرها عدا العبادات منهما - التي هي في جنب التوصليات منهما كالشعرة البيضاء في بقرة سوداء - إذا أتى بها الفاعل مع قصده عنوان العمل - حيث كان مشتركا بين عناوين - يترتب على ما فعله من الآثار المجعولة له شرعا من الوضعية والتكليفية من غير توقف على نية القربة أصلا، فالخبر على تسليم ظهوره بنفسه فيما ذكره المستدل لا بد من حمله على غيره، حذرا عن المحذور المذكور.
والأولى حينئذ حمل العمل على خصوص العبادة مطلقا - واجبة ومندوبة - كما يشهد له إطلاقه عليها كثيرا في الأخبار كقوله عليه السلام: «العالمون
357

كلهم هالكون إلا العاملون» ()، وقوله عليه السلام: «لا عمل لي أستحق به الجنة» ()، فعلى هذا لا ربط للخبر بمطلوب المستدل أصلا، إذ معناه حينئذ - والله أعلم - لا عبادة إلا بنية القربة، وهذا مما لا ينكره أحد.
ومنها: قوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات» ()، وقد ادعي تواتره لفظا، لكن المحكي عن شيخنا الأستاذ - قدس سره - أن إسناده متصل إلى رئيس الفاسقين ().
وكيف كان، فتقريب الاستدلال به: أن كلمة (إنما) بمنزلة كلمة (إلا) الواقعة بعد (لا)، فتفيد ما تفيده من الحصر، والمراد بالعمل الواجبات، وبالنية نية القربة - كما مر في الحديث السابق - فيتم به المطلوب.
لكن يتجه عليه - مضافا إلى ما مر من استلزامه لتخصيص الأكثر، ودعوى ظهور إرادة العبادة من العمل - أنه يحتمل أن يكون المراد بالنية في هذه الرواية نية التعين التي لا بد منها في الأفعال المشتركة، لا القربة، وهذا الاحتمال إن لم نقل بظهوره، فهو ليس بأبعد مما صار إليه المستدل.
358

ومنها: قوله عليه السلام: «لكل امرئ ما نوى» ()، ولا ريب أن حاله أظهر من سابقه لظهور أنه ليس من قبيل قولنا: المرء مجزي بعمله إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا ()، فلا دخل له بالمقام أصلا.
تنبيه: قد عرفت فقد ما يدل على أصالة التعبدية في الواجبات، فهل يدل دليل عام على أصالة اعتبار قصد العنوان في الواجبات، أو لا؟ قولان. لعل أولهما عن جماعة.. ()..
359

[الواجب الأصلي والتبعي]
وقد ينقسم الواجب باعتبار آخر إلى أصلي وتبعي، والظاهر عدم ثبوت اصطلاح فيهما، بل هما على معناهما الأصلي، فالأصالة والتبعية أمران إضافيان:
فقد يلاحظان بالنسبة إلى الاستفادة، فيسمى الواجب الذي استفيد وجوبه من خطاب آخر تبعيا، والذي استفيد وجوبه من خطاب مستقل أصليا بهذا الاعتبار وان كان نفس المستفاد تبعيا.
وقد يلاحظان بالنسبة إلى نفس المستفاد مع قطع النظر عن كيفية استفادته، فيسمى الواجب الذي يكون وجوبه تبعيا - أعني من باب المقدمة لواجب آخر - تبعيا وان كان وجوبه ثابتا بخطاب مستقل، والذي يكون وجوبه نفسيا أصليا ولو فرض ثبوت وجوبه بتبع خطاب آخر.
وقد يلاحظان بالنسبة إلى كلا الجهتين، فيسمى ما يكون مستقلا من كليهما أصليا، وما يكون تبعيا منهما جميعا تبعيا.
360

[استحقاق الثواب أو العقاب على الواجب الغيري]
اختلفوا في استحقاق الثواب والعقاب على فعل الواجب الغيري [1] أو تركه - على نحو ترتبهما على الواجب النفسي بمعنى كون فعله موجبا لاستحقاق الثواب زائدا على الثواب المترتب على ذلك الغير الذي هو ذو المقدمة الذي يكون وجوبه نفسيا، وكون تركه موجبا لاستحقاق العقاب زائدا على استحقاقه على ترك ذلك الغير - على أقوال يأتي تفصيلها.
وقبل الخوض في المرام ينبغي التعرض لتحقيق الحال على نحو الإجمال في الواجبات النفسية من حيث استحقاق الثواب [2] [أو] العقاب () على إطاعتها أو مخالفتها، نظرا إلى أن محل النزاع في الثواب والعقاب المتنازع في استحقاقهما في الواجب الغيري هو ما ثبت في الواجبات النفسية، فنقول:
الحق استحقاق العبد - على إطاعتها - تقريب المولى إياه ورفع منزلته عنده وتعظيمه، بحيث لا يكون هو والعبد العاصي للمولى في المنزلة عنده

[1] والواجب الغيري ينحصر في المقدمات فإنها - على تقدير وجوبها لأجل المقدمية - واجبة غيرية لا غير، فلفظ الواجب الغيري عبارة أخرى عن المقدمات، لكن بعد اعتبار وجوبها الغيري المراد أنه هل في مقدمات الواجب على القول بوجوبها ثواب وعقاب كنفس الواجب، أو لا؟ لمحرره عفا الله عنه.
[2] قال في مجمع البحرين: الثواب - لغة - الجزاء، ويكون في الخير والشر، والأول أكثر، وفي اصطلاح أهل الكلام: هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والإجلال.
أقول: فمعناه - لغة - هو العوض، لأن الجزاء عبارة عنه لمحرره عفا الله عنه.
361

سواء [1]، وأما استحقاقه لعوض ونفع [2]، أيضا زائدا على ذلك فلا يستقل به عقولنا جدا، وإن ذهب المتكلمون إلى استحقاقه إياه أيضا، حيث عرفوا الثواب [3]: بأنه النفع المستحق المقارن للتعظيم والإجلال، كتعريفهم العقاب:
بأنه الضرر المستحق المقارن للاستخفاف والإهانة، وادعوا استقلال العقل باستحقاقهما على الإطاعة أو المعصية، وأما بالنسبة إلى العقاب فهو مستقل باستحقاقه على مخالفة المولى الواجب عليه إطاعته بمعناه المصطلح عليه عند المتكلمين، بمعنى أنه يستقل باستحقاقه - حينئذ - أن يعذبه المولى زائدا على استحقاقه لحط منزلته عنده وتبعيده عن حضرته بحيث لو عذبه المولى حينئذ مع إهانته إياه وحط منزلته لم يفعل قبيحا عند العقل وإن كان له العفو أيضا، بل يستقل العقل بحسن العفو.
والحاصل: أن مسألة استحقاق الثواب والعقاب عقلية محضة لا سبيل للشرع فيها بوجه، فإن استحقاقهما ليس أمرا قابلا لجعل جاعل، بل من الأمور الواقعية الثابتة في نفس الأمر، والعقل يكشف عنه كما في الحسن والقبح في المستقلات العقلية، والذي نجد من عقولنا إنما هو هذا المقدار المذكور من استحقاقهما.
فإذا عرفت ذلك فاعلم: أن في محل النزاع المتقدم أقوالا:
أحدها: نفي استحقاق شيء منهما على فعل الواجب الغيري أو على تركه

[1] قال الله تعالى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم الجاثية: 21.
[2] والسر في ذلك: أن العبودية والمولوية ليستا من مقولة الاستئجار حتى يستحق العبد الأجرة على عمله أيضا، لوجوب العمل على العبد وإطاعته لمولاه من غير استحقاق أجرة: لمحرره عفا الله عنه.
[3] فبقيد الاستحقاق خرج التفضل، وبمقارنة التعظيم خرج العوض. لمحرره عفا الله عنه.
362

مطلقا.
وثانيها: إثباتهما كذلك.
وثالثها: التفصيل بين ما ورد عليه خطاب مستقل أصلي وبين ما لم يكن كذلك، فوافقوا في الأول القول الثاني، وفي الثاني الأول.
ورابعها: وهو المحكي عن الغزالي (): التفصيل بين الثواب والعقاب فنفى استحقاق الثاني وأثبت الأول.
ولعل التفصيل يزيد على هذا لكن لا فائدة في التعرض لها واستيفائها.
والحق من تلك الأقوال أولها:
لنا: أن استحقاق الثواب والعقاب يدور مدار الإطاعة والمعصية وجودا وعدما بحكم العقل وبناء العقلاء كافة، ولا ينبغي الارتياب في أن من أطاع تكليفا نفسيا لم يتحقق منه أزيد من إطاعة واحدة وإن كان للمكلف به مقدمات كثيرة بالغة إلى ما بلغت قد أتى هو بها لتحصيل ذلك المكلف به الذي هو ذوها، وكذا من عصى تكليفا نفسيا لم يتحقق منه أزيد من معصية واحدة وإن كان لما تركه من الفعل المكلف به ألف مقدمة قد تركها جميعا، وهذه المعصية وتلك الإطاعة إنما هما على ترك ذي المقدمة أو على فعلها لا غير، فلا عقاب ولا ثواب أزيد من الثواب والعقاب على ترك ذي المقدمة أو فعله، لعدم تحقق المخالفة والإطاعة أزيد مما تحقق منهما بالنسبة إلى ذي المقدمة.
فهنا كبرى: وهي وحدة الثواب والعقاب على تقدير وحدة الإطاعة والمعصية، وصغرى: وهي وحدة الإطاعة والمعصية في المقام، وأنهما بالنسبة إلى ذي المقدمة نفسه دون شيء من مقدماته أصلا.
363

لا نزاع لأحد في الكبرى بعد فرض ثبوت صغراها، وإنما النزاع في الصغرى، فالشأن في إثباتها، فنقول:
إن الإطاعة معناها ما يعبر بالفارسية عنه: ب‍ (فرمانبري وخدمت كردن مولا)، والمعصية معناها ما يعبر بها عنه: ب‍ (نافرماني)، والمثبت لاستحقاق الثواب والعقاب هو هذان المعنيان، ويدوران مدارهما وجودا وعدما وحدة وتعددا، ولا ينبغي الارتياب في أن الإتيان بالفعل بجميع مقدماته إنما هو إطاعة للتكليف النفسي المتعلق بنفس ذلك الفعل، لأن الإتيان بالمقدمات حقيقة راجع إلى إطاعته، فإن المطلوب إذا كان متوقفا على مقدمات لا يحصل إلا بإيجادها جميعا فنحو إطاعته أن يؤتى بجميع تلك المقدمات، كما أن تركه بترك جميع مقدماته أو بعضها إنما هو مخالفة لذلك التكليف النفسي، وأن ترك جميع المقدمات أو بعضها من أنحاء المعصية بالنسبة إلى ذلك التكليف.
والسر في ذلك: أن الإطاعة والمعصية إنما تتحققان بالنسبة إلى المطلوب الأولي للمولى لا غير، فإن مطلوباته الثانوية - وهي الواجبات الغيرية - ليست مطلوبة له في الحقيقة، فإن مطلوبيتها راجعة إلى مطلوبية ذيها، لأن الطلب المتعلق بها - سواء كان مستفادا بحكم العقل أو بخطاب أصلي - إنما ينبعث عن ذلك الطلب المتعلق بذيها، فروح هذا الطلب إنما هو ذاك، فهو شأن من شؤونه، ضرورة أنه لو أمكن حصول ذي المقدمة بدون مقدماته لما جاء طلب إلى شيء من تلك المقدمات من حيث المقدمية أصلا، فالمطلوب حقيقة للمولى ليس إلا ذات ذي المقدمة، فينحصر الامتثال في واحدة () كالمعصية أيضا، لأنهما عبارتان عن الإتيان بمطلوب المولى أو تركه.
والحاصل: أنه ليس للمولى هنا مطلوب من المكلف أزيد من نفس ذي
364

المقدمة حتى يتعدد الثواب والعقاب.
فإن قلت: ما الفرق بين الواجبات الغيرية وبين بعض الواجبات النفسية، كتعليم العالم الجاهل بأحكام دينه؟ ضرورة أن وجوب التعليم أيضا منبعث عن وجوب إتيان الجاهل بما وجب عليه من الواجبات، بحيث لولاه لما كان ذلك أصلا، بمعنى أنه وجب مقدمة لامتثال الجاهل لما وجب عليه، ولذا لو علم العالم بعدم قبول الجاهل لقوله لما وجب عليه التعليم، فلا بد إذن إما من إبداء الفرق بينهما، أو من التزام نفي استحقاق الثواب والعقاب عن ذلك القسم من النفسي، أو التزام استحقاقهما على الواجبات الغيرية أيضا لا سبيل إلى أول شقي الشق الثاني، فيدور الأمر بين الشق الأول وبين الشق الثاني من الثاني، ونحن لا نرى فرقا بينهما بوجه، فإذا انتفى الفرق تعين الشق الآخر.
قلنا: إنا نختار الشق الأول، وهو إبداء الفرق.
وبيانه: أن ذلك القسم من الواجب النفسي وإن كان شريكا مع الغيري في بعض الآثار [1] إلا أن بينهما فرقا من وجهين:
أحدهما: أن المكلف الموجه إليه الوجوب في المقام واحد، فإن المكلف بإتيان الواجب الغيري هو المكلف بإتيان ذلك الفرد الذي وجوبه نفسي، بخلاف ذلك المقام، حيث إن المكلف بالتعليم غير المكلف بذلك الواجب النفسي، الذي وجوب هذا لأجله، ضرورة أن المكلف بالأول هو العالم، وبالثاني هو الجاهل، فلا يعقل أن يكون تعليم العالم مما يدخل في إطاعة الجاهل لما وجب عليه وإن كان مقدمة له، فلأجل ذلك يتحقق هناك إطاعتان ومعصيتان، بخلاف المقام.

[1] فإن هذا القسم كما أنه لا يجب إلا لوجوب العمل على الجاهل، كذلك الواجب الغيري لا يجب إلا لوجوب ذلك الغير بحيث لو ارتفع الوجوب عنه لارتفع عنه أيضا. [لمحرره عفا الله عنه].
365

وثانيهما: أن وجوب التعليم على العالم ليس منبعثا عن وجوب الواجبات على الجاهل المتوقف امتثالها على التعلم. نعم هو منشأ لوجوبه، بمعنى أنه لما لم يمكن أن يأتي الجاهل بما وجب عليه على وجه الطاعة إلا بتعليم العالم إياه، فبمقتضى قاعدة اللطف يجب على الشارع إيجاب التعليم على العالم أيضا، ليكون محركا إياه عليه لئلا يفوت الغرض المقصود من الجاهل، فيكون هو حكمة لوجوبه، لا أن وجوبه منبعث عنه، وشأن من شؤونه.
هذا بخلاف الواجب الغيري، فإن وجوبه منبعث عن وجوب ذي المقدمة بحيث يكون هو شأنا من شؤونه على وجه يكون روحه هو ذلك الوجوب المتعلق بذي المقدمة كما مر، فهناك طلبان مستقلان نفسيان، بخلاف المقام.
ويدل على ما ذكرنا إطباق العقلاء كافة فيما إذا أتى العبد بفعل واجب أو تركه مع فرض ألف مقدمة له على عدم استحقاقه أزيد من الثواب والعقاب على نفس إتيان الفعل أو على تركه من غير نظر إلى شيء من مقدماته أصلا بحيث لو أتى بألف مقدمة مع عدم إتيانه بأصل الواجب لا يستحق شيئا من الثواب على شيء منها لعدم استحقاقه فيما إذا لم يأت بشيء أصلا حتى بشيء من المقدمات أزيد من العقاب على ترك نفس الواجب من غير فرق في ذلك بين أن يكون على مقدمته خطاب أصلي، أو لا، فمما حققنا ظهر فساد الأقوال الأخرى، فتدبر.
وأما القول الثاني فالذي ربما يتخيل الاستدلال به وجوه من العقل والنقل:
أما العقل: فتقريره: أنه إذا أتى بالمقدمة لأجل أدائها إلى ذيها تقع () طاعة، فيترتب عليها الثواب لذلك، وإذا تركها فهو معصية، فيترتب عليها
366

العقاب لذلك.
وأما النقل: فغاية ما يمكن الاستدلال به وجهان:
الأول: الأدلة على ترتب الثواب والعقاب على الإطاعة والعصيان الشاملة بعمومها لجميع المطلوبات الشرعية - نفسية كانت أو غيرية - كقوله تعالى: من يطع الله و رسوله و يخش الله و يتقه فأولئك هم الفائزون ()، وقوله تعالى: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا () إلى غير ذلك.
الثاني: الأدلة الدالة على ترتب الثواب على خصوص بعض المقدمات، كما ورد في زيارة مولانا الحسين عليه السلام من أنه لكل قدم ثواب كثواب عتق عبد من أولاد إسماعيل - عليه السلام () - وغيره من الأخبار الصريحة في ذلك، وما ورد أيضا في ثواب الوضوء والغسل. هذا غاية ما قيل أو يقال.
لكن يتجه على الدليل العقلي المذكور وعلى أول الوجهين من النقلي منع صدق الإطاعة والعصيان في الواجبات الغيرية كما عرفت.
مضافا إلى ما يتجه على الاستدلال بالنقلي أيضا من أن المسألة عقلية لا وجه فيها للاستدلال بالنقل، وعلى ثاني الوجهين من النقلي - مع الإغماض عن عدم استقامة الاستدلال بالنقل في المسألة العقلية - أن الكلام في الاستحقاق، فلعل ذلك من باب التفضل، مع انه يحتمل ان يكون الثواب المترتب على المقدمات هو ثواب ذيها، ويكون المراد أن ثواب ذيها بمقدار لو وزع على
367

مقدماته لكان لكل قدم ثواب كثواب عتق عبد من أولاد إسماعيل عليه السلام ثم إنه ذهب بعض المحققين من المتأخرين (): إلى استحقاق الثواب والعقاب على المقدمة لو كان وجوبها ثابتا بخطاب أصلي دون غيره، وحمل كلام القوم على هذا المعنى، بمعنى أن مرادهم من الوجوب المتنازع فيه هو الشرعي الموجب لاستحقاق العقاب على ترك نفس الواجب، لا على ما يؤدي إلى تركه.
واستشهد لذلك بتقسيمهم الوضوء إلى واجب ومندوب، نظرا إلى أنه لو كان المراد من الوجوب هناك الشرطي دون الشرعي لما استقام التقسيم المذكور، فإن الوضوء المندوب أيضا واجب شرطي بالنسبة إلى الغاية المشروطة، إذ بدونه لا تحصل هي، وادعى أن الوجوب الشرعي هو ما ثبت بخطاب أصلي لا غير.
وفيه: ما أشرنا إليه من أن الحاكم باستحقاق الثواب والعقاب هو العقل، وبعد فرض كون شيء واجبا غيريا لا يفرق العقل فيه بين ما يكون الدال على وجوبه خطاب أصلي مستقل وبين غيره.
ثم إنه ذهب بعض المحققين () من المتأخرين: إلى استحباب مقدمة الواجب نفسا، وكذا مقدمة المندوب إذا أتى بهما لأجل أدائهما إلى الواجب والمندوب محتجا عليه بأن كل فعل قصد به الطاعة فهو طاعة، والإتيان بمقدمتي الواجب والمندوب على النحو المذكور إتيان بهما بقصد الطاعة، فيكون طاعة، فيكون مقدمتا الواجب والمندوب مندوبتين نفسا من هذه الجهة، وهذا لا يتوقف على القول بوجوب مقدمة الواجب واستحباب مقدمة المندوب بالوجوب
368

والاستحباب الغيريين الناشئين عن الأمر بذي المقدمة، بل يجري على القول بعدمه أيضا.
هذا حاصل ما أفاده - قدس سره -.
ويتجه عليه: أن الواجب الغيري من جهة وجوبه الغيري - وهي جهة مقدميته للغير - لا يعقل أن يكون ذا حكمين - الوجوب والندب - بل تلك الجهة إنما هي جهة الوجوب لا غير، وهو أيضا معترف بذلك.
وأما من جهة أخرى غير تلك فلم يدل دليل على استحبابه شرعا، وما ادعى من أن الإتيان به لأجل أدائه إلى الواجب طاعة قد عرفت منعه من أن الواجب الغيري نفسه لا يقع طاعة، بل الإتيان به من مقدمات إطاعة ذلك الغير الذي هو ذو المقدمة، فالإتيان به إطاعة بالنسبة إلى ذلك الغير، لا بالنسبة إلى نفسه، فالمترتب من الثواب إنما يترتب على ذلك الغير، لا عليه.
نعم ما ذكر - من أن كل فعل قصد به الطاعة فهو طاعة - متجه في الواجبات النفسية المعاملية، فإنها إذا أتى بها لأجل امتثال أمر الشارع تكون () نفسها طاعة، ويترتب عليها الثواب.
هذا مع أن الأمر بالإطاعة على تقديره - وجوبيا أو ندبيا - لا يكون شرعيا، بل عقلي إرشادي محض، وبعد ما حققنا من أن الإتيان بالواجب على وجه الامتثال لا يترتب عليه ثواب، فلا يحكم العقل ولا يأمر بالإتيان به على هذا الوجه ليكون مندوبا عقليا بعد تسليم صدق الإطاعة عليه، فإنه إنما يأمر بالإطاعة لأجل اشتمالها على الثواب، وبعد فرض خلو إطاعته عنه لا أمر له بها أصلا.
فظهر أن الإتيان بالواجب الغيري على الوجه المذكور ليس مندوبا لا
369

شرعا ولا عقلا.
ثم إنه قال دام ظله: نعم إذا أتى بالمقدمات على الوجه المذكور فلا يبعد كون الإتيان بها على هذا الوجه موجبا لزيادة ثواب على الثواب المترتب على ذيها، نظرا إلى أن فعل ذيها على هذا الوجه أشق من فعله مع الإتيان بمقدماته بتشهي النفس.
وبعبارة أخرى: من أطاع واجبا مع إتيانه بمقدماته أيضا بداعي إطاعة ذلك الواجب فإطاعته له أشق من إطاعة من أطاعه مع عدم قصده في الإتيان بمقدماته إلى إطاعته، بل أتى بها بشهوة نفسه، ثم بدا له أن يأتي بنفس الواجب، فأتى به قاصدا للطاعة فيه وحده، ضرورة أن الإتيان بشيء غير مشتهى للنفس مشقة على النفس.
ولعل هذا أقرب المحامل لقوله تعالى - في أواخر سورة البراءة () -: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين () فإن ظاهره ثبوت الثواب على نفس تلك المشاق - وهي الظمأ والنصب والمخمصة وغيرها - وهو ينافي ما عرفت من عدم الثواب على نفس المقدمات، فأقرب محامله أن يكون المراد - والله أعلم - أنه إذا أصابهم في الجهاد في سبيل الله تلك المشاق يكون ثوابهم على الجهاد أكثر مما لو جاهدوا بدون إصابتها إياهم، بحيث لو وزع ذلك الثواب على تلك المشاق لكان لكل واحدة عمل صالح، كما أن أقرب المحامل
370

في الآية المتأخرة عنه - وهي قوله تعالى: ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة إلى قوله: إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون () - ذلك أيضا، فإن الإنفاق وقطع الأودية أيضا من المقدمات الشاقة على النفس.
ثم إن الحال في مقدمات الحرام هي الحال في مقدمة الواجب، فلا يترتب على أنفسها () عقاب، وإنما هو على نفس الحرام، إلا أنه يشكل الأمر بناء على ما ذكره الشهيد () - قدس سره - من حرمة نية المعصية، إلا أنه قال بثبوت العفو عن النية المجردة عن المعصية أو عما يراه الشخص معصية.
وكيف كان، فهو قائل باستحقاق العقاب على نية المعصية وإن تجردت عنها، إذ العفو لا ينفي الاستحقاق، بل يثبته.
لكن يمكن أن يقال: بأن العزم على الحرام حرام نفسي كنفس الحرام، فيكون العقاب عليه على طبق القاعدة، فافهم، ولعله سيجيء تتمة الكلام فيه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
إيقاظ: لا شبهة أن الأمر الغيري - وجوبيا كان أو ندبيا - لا يقضي بالتعبدية ورجحان الشيء في نفسه، وإنما يقضي بأن الغرض من الواجب الغيري أو الندب كذلك () هو التوصل به إلى ما هو مقدمة له، وأيضا مقتضى ما حققنا - من أن الواجب الغيري من جهة وجوبه الغيري لا يقع طاعة أصلا، وإنما هو من مقدمات إطاعة ما هو مقدمة له لا غير، وكذلك الندب الغيري - امتناع كون الواجب والندب الغيريين تعبديين من جهة الوجوب والندب الغيريين، إذ العبادة
371

- كما يدل عليه تعريفها بما يتوقف صحتها على نية القربة - لا بد أن تكون مقربة، والمقرب لا يكون إلا فعل
الطاعة، فما لا يكون طاعة لا يكون مقربا، فلا يكون عبادة، وحينئذ يشكل الأمر في بعض المقدمات الشرعية كالطهارات الثلاث للاتفاق على كونها من العبادات - فلذا اعتبروا فيها نية القربة، مع أن الأوامر المتعلقة بها منحصرة في الغيرية الغير القاضية بالتعبدية، ويكون ما تعلقت به راجحا في نفسه كما هو شأن العبادات - وعلى انعقادها عبادة مع الإتيان بها بداعي الأمر الغيري، مع أن الإتيان بالفعل بداعي امر الغيري لا يمكن أن يصيره طاعة حتى يكون عبادة مقربة.
ويمكن الذب عن الأول: بأنا نستكشف من الإجماع على اعتبار قصد القربة فيها أن فيها رجحانا ذاتيا، وأنها مطلوبة نفسا من تلك الجهة بالطلب الندبي، إلا أن ذلك الطلب الندبي قد يزول عنها لعروض جهة موجبة لها بالوجوب الغيري - كما إذا حضر وقت العبادة الواجبة المشروطة بها - أو بالوجوب النفسي، كما إذا نذر فعلها أو حلف مثلا، فإن المندوب النفسي حينئذ يصير بالعرض واجبا نفسيا، لكن جهة الاستحباب حينئذ باقية بل متأكدة بتلك الجهة، إذ المنافاة إنما هي بين نفس الطلبين اللذين أحدهما وجوبي والآخر ندبي، دون جهتيهما، وأما إذا لم يعرض لها جهة موجبة، بل الموجود فيها إنما هي الجهة النادبة الغيرية لأجل غاية مندوبة نفسا كالكون على الطهارة في الوضوء والغسل من غير قصد غاية مشروطة بالطهارة بأن تكون الغاية لفعل الوضوء والغسل هي نفسه مجردا عن ذلك القصد، فإن الطهارة كما تكون مقصودة للشارع مقدمة لشيء آخر من واجب أو مندوب، كذلك تكون مقصودة ومحبوبة له بالذات أيضا، أو مقدمة كما إذا أراد فعل مندوب مشروط بالطهارة فيتوضأ أو يغتسل لأجل الطهارة ليتوصل بها إلى ذلك المندوب، ولأجل مطلوبية الوضوء والغسل واستحبابهما في أنفسهما ذهب جماعة من
372

المحققين منهم شيخنا الأستاذ - قدس سره - إلى صحة فعلهما قبل حضور وقت العبادة الواجبة المشروطة بالطهارة بقصد القربة، وجعلوا رفع الحدث بهما من آثارهما القهرية المترتبة عليهما - إذا انعقدا على وجه الصحة، وهو وقوعهما على وجه العبادة - وإن لم يقصده الفاعل، ولو لا رجحانهما في أنفسهما واستحبابهما كذلك لما بقي وجه لحكمهم بصحتهما وبقصد القربة فيهما، فإن قصدها متوقف على إحراز كون الفعل راجحا في نفسه حتى يكون مقربا بتوجه القصد إليه، كما ذهب هؤلاء إلى صحتهما بعد دخول وقت العبادة الواجبة المشروطة بالطهارة إذا فعلهما بنية المطلوبية الذاتية، أعني بداعي جهة استحبابهما وان لم يكن الأمر الاستحبابي الآن موجودا لمنافاته للوجوب الغيري العارض لهما، كما مرت الإشارة إليه فيما سبق منا في مطاوي بعض الكلمات.
فإن قلت: إن هذا الذي ذكرت مسلم في الغسل والوضوء فإنهما مطلوبان من غير خصوصية زمان دون زمان، وأما التيمم فلا يمكن فيه ذلك، ضرورة أنه ليس مطلوبا إلا بعد حضور وقت العمل المشروط بالطهارة بعد تعذرها على المكلف، فليس فيه مطلوبية ذاتية ليكون مندوبا في جميع الأوقات والأحوال كما في الغسل والوضوء، فليس فيه إلا المطلوبية الغيرية العارضة في وقت خاص.
قلنا: العبادات لا يلزم أن تكون راجحة بالرجحان الذاتي الذي لا ينفك عن الشيء بل يمكن أن يكون رجحان بعضها بالوجوه والاعتبار، فنقول:
حينئذ إما يستكشف الرجحان الذاتي من ورود الأمر، ومن دليل اعتبار قصد القربة، ولا ريب أن الأمر بالتيمم لم يرد إلا في بعض الأحوال كما ذكر، والقدر المتيقن من الإجماع على اعتبار نية القربة أيضا إنما هو اعتباره في مقام ثبت مشروعيته، فالقدر المتيقن من رجحانه النفسي إنما هو رجحانه فيما ثبت
373

مشروعيته.
هذا، وحاصل الدفع: أنا لم نستكشف تعبدية الطهارات من الأوامر الغيرية المتعلقة بها، بل من دليل آخر - وهو الإجماع المتقدم - فلا إشكال في إلزام تعبديتها.
وقد يذب عن ذلك: بالمنع من كون الطهارات الثلاث عبادات بالمعنى المتقدم اللازم منه رجحان الشيء في نفسه، بل هي عبادات بالمعنى الأعم [1]، وهو ما اعتبر في صحته - وترتب الأمر المقصود منه عليه - إيقاعه بداعي الأمر، فالطهارات الثلاث ليست بذواتها مقدمات، وإنما هي مقدمات إذا وقعت بداعي الأمر، فغرض الإيصال إلى ذيها إنما يحصل بإيقاعها على هذا الوجه لا غير.
ويتجه عليه: أن نفي الرجحان النفسي والاستحباب الذاتي عنها مع اعتبار إيقاعها بداعي الأمر، - والمفروض حينئذ انحصار الأمر المتعلق بها في الواحد وهو الأمر الغيري المقدمي - مستلزم للدور، ضرورة أن الأمر بشيء إنما هو بعد تمامية مصلحة ذلك الشيء في نفسه وكونه موضوعا لذلك الأمر مع قطع النظر عن ذلك الأمر بمعنى عدم كون ذلك الأمر محققا لموضوعية ذلك الشيء لنفسه، ومتما لمصلحته الداعية إليه، فإذا فرض اعتبار الإتيان بداعي الأمر في موضوع أمر فتوجه ذلك الأمر متوقف على تحقق موضوعية ذلك الموضوع قبله ومع قطع النظر عنه، فإذا فرض عدم توجه أمر به قبل ذلك الأمر يتوقف () موضوعيته لذلك الأمر وتمامية مصلحته على ورود ذلك الأمر، فيكون نفس ذلك الأمر موضوعا لنفسه، فيتوقف توجهه على ذلك الشيء على توجهه عليه، فهذا دور ظاهر.

[1] فيقال: إن العبادة ما تعلق غرض الشارع فيه بعدم وقوعه إلا له. لمحرره [عفا الله عنه].
374

ويمكن دفعه: بما حققنا في محله من دفع إشكال ذلك الدور في الأوامر النفسية التعبدية المشروطة بإيقاعها بداعي الأمر من التزام تعدد الأمر، فيقال في المقام:
إن الأمر وإن كان منحصرا في الغيري إلا أنه غير منحصر في واحد، بل هنا أمران غيريان مرتبان: أحدهما متعلق بذات الفعل، وثانيهما بإيقاعه بداعي الأمر الأول، فالأمر الأول محقق لموضوع الثاني، فلا دور.
لكنه يشكل: بأن الأمر المقدمي الناشئ عن الأمر بذي المقدمة تعلقه بالنسبة إلى كل واحدة من المقدمات مطلقا - قريبة كانت أو بعيدة - في مرتبة واحدة، بمعنى أنه إنما ينبعث من وجوب ذي المقدمة دفعة واحدة بالنسبة إلى كل ما له دخل في وجود ذي المقدمة أمر غيري، فإذا فرض كون مقدمة مركبة من الأجزاء الخارجية أو الذهنية فالأمر الغيري المتعلق بكل جزء منها في مرتبة الأمر الغيري المتعلق بجزئها الآخر، بحيث لا ترتب بينهما في نفس الأمر أصلا، فحينئذ - حين تعلق الأمر المتعلق بإيقاعها بداعي الأمر - لا موضوع له أصلا، فيعود المحذور، فتدبر.
هذا كله في الذب عن الإشكال الأول.
وأما الثاني من الإشكالين - فبعد الفراغ عن ثبوت رجحان الطهارات الثلاث في أنفسها واستحبابها الذاتي يمكن () الذب عنه: بأنه لا شبهة في أن مقدميتها إنما هي بعنوانها الراجح الذي هو جهة استحبابها النفسي بمعنى أن الأمر الغيري المقدمي إنما تعلق بها بهذا العنوان، فالإتيان بها بداعي ذلك الأمر الغيري المتعلق بها ملازم للقصد الإجمالي إلى ذلك العنوان () وإن لم نكن نعرفه
375

تفصيلا، ضرورة ثبوت الملازمة بين كون أمر داعيا إلى فعل شيء وبين كونه داعيا إلى ذلك الشيء بالعنوان الذي تعلق هو بهذا العنوان، فيكون داعيا إلى ذلك العنوان أيضا، فيكون حال الوجوب الغيري المتعلق بها حال
الوجوب النفسي المتعلق بها بنذر وشبهه من جهة كون العنوان في كل منهما هو العنوان الراجح، وكما أن الإتيان بالواجب الغيري العبادي بداعي جهة استحبابه النفسي - على وجه يكون تلك الجهة غاية للفعل - محقق لعباديته ولانعقاده عبادة وإن لم يكن الأمر الاستحبابي موجودا فيه بالفعل - كما مرت الإشارة إليه في مطاوي ما تقدم - فكذلك الإتيان به بجهة استحبابه النفسي - بحيث تكون تلك الجهة صفة للمأتي به - موجب لانعقاده عبادة كما في نذر المندوب، فإنه إذا أتي به فإنما يؤتى به بداعي الأمر الوجوبي المسبب من النذر مع القصد إلى جهة الاستحباب بعنوان الوصفية لا الغائية، فينوي: أني أفعل ذلك الفعل المندوب لوجوبه، وعلى هذا فينوي في المقام: أني أتوضأ - مثلا - الوضوء المندوب لوجوبه الغيري، فإن الوجوب الغيري إنما تعلق به بعنوان استحبابه النفسي وإن لم يكن الأمر الاستحبابي موجودا فيه بالفعل، أو يقصد: أني أتوضأ لوجوبه الغيري قربة إلى الله - مثلا - فإنه أيضا وجه إجمالي إلى العنوان المذكور أيضا كما مر.
هذا، ثم إنه نسب المحقق القمي () - رحمه الله - المدح والثواب على فعل المقدمة دون العقاب على تركها بطريق النقل إلى الغزالي.
ثم قال: (ولا غائلة فيه ظاهرا ()، إلا أنه قول بالاستحباب، وفيه إشكال إلا أن يقال باندراجه تحت الخبر العام فيمن بلغه ثواب على عمل، ففعله التماس
376

ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه، فإنه يعم جميع أقسام البلوغ حتى فتوى الفقيه، فتأمل) ().
وقال أيضا بعد ذلك: (لكن لا مانع من التزامه إلا تسديس الحكم أو تسبيعه ()، إلا أن يقال: إن ذلك إنما هو في الأحكام الأصلية، فلا يضر حصول ذلك في التبعيات) [1] انتهى.
وينبغي أولا بيان مراده، ثم التعرض لما في كلامه من مواقع النظر، فنقول: قوله: (وفيه إشكال).
وجه الإشكال - على ما صرح [به] هو أيضا في الحاشية () -: خروجه عن الاستحباب المصطلح، والظاهر أن وجه الخروج إنما هو عدم الأمر الاستحبابي بالمقدمة أصلا، فإن المعتبر في المستحب المصطلح هو تعلق الأمر الاستحبابي به شرعا، والحال في المقدمة ليس كذلك، لأن الأمر بذي المقدمة لا يقتضي الأمر بها ندبا ضرورة، وإن اقتضى فإنما يقتضيه وجوبا لا غير، ولا دليل من الخارج أيضا يستفاد منه الأمر الاستحبابي لها.
قوله: (إلا تسديس الحكم () أو تسبيعه).
الظاهر أن وجهه أن هذا الحكم ليس وجوبا ولا ندبا أيضا لعدم ما يقضي

[1] لم ترد هذه العبارة في متن القوانين وإنما وردت في الحاشية المنسوبة إلى صاحب القوانين في بيان وجه تأمله المذكور في المتن بقوله: (.. حتى فتوى الفقيه، فتأمل)، وهذه الحاشية ذكرها السيد علي القزويني (ره) في حاشيته على القوانين عند بيانه الأصل المذكور في عبارة المتن التالية: (والأقرب عندي عدم الوجوب مطلقا. لنا: الأصل). القوانين: 104.
377

به، فيكون قسما سادسا من الأحكام التكليفية، فتكون الأحكام ستة، بل سبعة بجريان مثل ذلك في الموانع أيضا، فلا يكون حراما لعدم ترتب العقاب على فعلها وترتب الثواب على تركها، ولا مكروها لعدم ما يقضي به، فيكون قسما سابعا من الأحكام، وليس مراده أنه ندب ظاهري أو هو مستلزم لتعشير الأحكام مع أنه لا محذور كما لا يخفى.
هذا، ثم إن ما أفاده - من استناد الاستحباب إلى قاعدة التسامح - تسامح في تسامح، إذ بعد الغمض عن [شمول] () أخبار التسامح لمثل فتوى الفقيه أولا، ثم لمثل فتوى الغزالي - كما لعله تفطن له ()، وأشار إليه بقوله:
(فتأمل) - يتجه عليه أن الكلام مع الغزالي القائل بمثل هذا، فالنزاع إنما هو في أمر واقعي يدعيه الغزالي، ونحن ننفيه في الواقع، ولسنا في مقام إثبات الحكم المذكور المتنازع فيه بالتسامح.
نعم لو فرض البحث مع غيره فيمكن للمدعي للاستحباب الاستناد إلى قول الغزالي حيث إنه أفتى به من حيث إنه مقدمة.
وما ذكره () في الحاشية من عدم المانع من تسبيع الأحكام التبعية فغير سديد لعدم الفرق بين الأصلية والتبعية بعد ملاحظة الاستحقاق الواقعي، فلا يعقل قسم سادس أو سابع مطلقا، فافهم. هذا تمام الكلام في مقدمات المسألة مع ما يتعلق بها، فإذا عرفت ذلك كله فنقول:
[تحرير محل النزاع]
إن محل النزاع في الواجب المتنازع في مقدميته بالنظر إلى تقسيم الواجب
378

إلى المطلق والمشروط أعم كما لا يخفى على المتأمل، وقد أشرنا إليه سابقا أيضا، إلا أن وجوب المقدمة يختلف، فإذا كانت من مقدمات الواجب المشروط فوجوبها أيضا كذلك، وإذا كانت من مقدمات الواجب المطلق فوجوبها أيضا مطلق، ومحل النزاع () في وجوب المقدمة بالنظر إلى التقسيم المذكور أيضا.
وأما بالنظر إلى النفسي والغيري فلا يعقل النزاع إلا في الغيري وإن ادعى بعض المحققين () أن النزاع في الأول.
وأما بالنظر إلى التقسيم إلى الأصلي والتبعي فالظاهر أن النزاع أعم وإن ادعى بعض () أنه في الأول.
وهذه الدعوى أخفى فسادا من الأولى وإن كانت فاسدة في نفسها، لما قد مر مرارا: أن الحاكم بوجوب المقدمة - على القول به - هو العقل، وموضوع حكمه هو اللب، لا اللفظ، فإنه - على القول به - يحكم بالملازمة بين وجوب ذي المقدمة وبين وجوب مقدمته بالوجوب الغيري، ولا يوجب إفادته بخطاب أصلي.
ثم إن الوجوب له إطلاقات: فقد يطلق على مجرد صفة التوقف واللابدية التي هي معنى المقدمية، وقد يطلق على عدم انفكاك شيء عن آخر، وقد يطلق على الطلب الحتمي الإرشادي العقلي، وقد يطلق على الطلب الحتمي الأمري المولوي.
لا نزاع في وجوب المقدمة بالمعنى الأول، بل لا يعقل، إذ الكلام في وجوب المقدمة بعد الفراغ عن ثبوت مقدميتها، وهو ينافي النزاع في مقدميتها، ولا بالمعنى الثاني قطعا وبالضرورة، ولا بالثالث، إذ لا نزاع لأحد أن العقل يحكم حتما بأن من أراد ذا المقدمة فليأت بمقدمته لكي يحصل بها غرضه، فانحصر النزاع في
379

الرابع ولو بأقل مراتبه - وهو دلالة الإشارة - بأن يكون النزاع في أن الآمر بفعل هل في نفسه حالة اشتياق إلى مقدمته أيضا، بحيث لو التفت إلى توقف مطلوبه عليها أو سئل عنها لأمر بها، أو لا؟ وأعلى من تلك المرتبة أن يكون النزاع في كون الأمر بالمقدمة مقصودا من الأمر بذيها كما يدعيه بعض القائلين بوجوب المقدمة، فالنزاع في اقتضاء [1] الأمر بذي المقدمة للأمر بمقدمته الوجودية [2]: إما بدلالة الإشارة التي هي أقل مراتب الدلالات، أو بالالتزام البين بالمعنى الأعم الذي هو من الدلالات المقصودة وإن كانت الأولى أليق لأن يقال بها على القول بوجوب المقدمة كما لا يخفى على المتأمل.
ثم إنه قيد بعض المتأخرين () المقدمة المتنازع في وجوبها بالجائزة احترازا عن أمرين:
أحدهما: المقدمات الوجودية المحرمة.
وثانيهما: المقدمات الوجودية الاضطرارية الخارجة عن قدرة المكلف كالوقت في الواجبات المؤقتة، حيث إن حضوره ليس باختيار المكلف.
ويتجه عليه: أنه إن كان المراد بالجواز هو الجواز العقلي - وهو الإمكان - فلا يعقل كون التقييد به احترازا عنهما ضرورة إمكان وقوعهما عقلا، وان كان المراد به هو الشرعي، وهو الإباحة - كما هو الظاهر بل المقطوع به في كلامه

[1] المراد بالاقتضاء هو التلازم عقلا، وهذا هو المراد منه في كلام من عبر [عن] عنوان المسألة:
باقتضاء الأمر بشيء للأمر بمقدمته. لمحرره عفا الله عنه.
[2] فالقائل بوجوب المقدمة يدعي أن للآمر بشيء حالة في النفس بحيث لو التفت إلى كون مقدمة مقدمة له وأنه لا يحصل إلا بها لصح، له أمر أصلي بها أيضا، كالأمر بالذهاب إلى السوق من الأمر بشراء اللحم، والمنكر ينفي ذلك. لمحرره عفا الله عنه.
380

ففيه: أن وجوب المقدمة - على القول به - إنما هو من باب ثبوت التلازم عقلا بينه وبين وجوب ذيها، فمع فرض بقاء وجوب ذيها على حاله لا يفرق في المقدمة بين المباحة والمحرمة، بل لا بد من انقلاب حكم المقدمة الثابت لها بذيها إلى الوجوب، فلا يبقى لها حينئذ حكم الإباحة أو الحرمة.
هذا إذا كانت المقدمة منحصرة في المحرمة.
وأما إذا لم تنحصر فالمقدمة هو الكلي القدر المشترك بين الجائزة والمحرمة وهو جائز قطعا، إلا أن ذلك الكلي إنما يتصف بالوجوب في ضمن فرده الجائز [1]، فالنزاع في مقدمة الواجب ليس في الجزئيات الخارجية حتى يكون خروج المحرمة منها خروجا عن محل النزاع، بل في كلي المقدمة، وهو غير خارج.
نعم قد خرج بعض جزئياته عن الاتصاف بالوجوب والانطباق على المأمور به، فالاستثناء من الانطباق على المأمور به لا من محل النزاع.
هذا ما في جعله القيد المذكور احترازا عن المقدمات المحرمة.
ويتجه على جعله احترازا عن المقدمات الغير المقدورة: أن تلك المقدمات خارجة عن محل النزاع بمجرد تحرير العنوان: بأن مقدمة الواجب واجبة أو لا، فإن ذلك التحرير صريح في كون النزاع في أفعال المكلف الاختيارية له، إذ الأمور الاضطرارية لا تصلح لاتصافها بشيء من الأحكام الخمسة، فالوجوب المتنازع فيه لا يمكن [أن يكون] له موضوع من المقدمات الاضطرارية حتى يتوهم دخولها، فيستعان في إخراجها بما ذكر ().
هذا، وبالجملة: فالنزاع في المقام في وجوب المقدمة الوجودية للواجب

[1] وبعبارة أخرى: العقل لا يخير المكلف في أفراد ذلك القدر المشترك مطلقا، بل يختص تخييره في الأفراد المباحة. لمحرره عفا الله عنه.
381

التي هي من أفعال المكلف، فيخرج منها الأمور الاضطرارية، والمراد بالواجب هو الواجب فعلا، ومعه لا يفرق في وجوب مقدمته من جهة التوصل إليه بين المقدمات المحرمة بالذات وبين المباحة كذلك.
نعم فرق بينهما من جهة أخرى لا تجدي ذلك الرجل في شيء مما هو في صدده، وهو أنه إذا كانت المقدمة جائزة فإذا عرضت لها جهة الوجوب فلا تقع المعارضة بين جوازها ووجوبها، بل الأول يرتفع موضوعه بمجرد عروض جهة الثاني، لأن جواز الشيء إنما هو لأجل عدم مقتضي الوجوب أن الحرمة فيه، لا من باب أن في الشيء جهة تقتضي الجواز، فإذا عرضت له إحدى جهتي الوجوب أو الحرمة يرتفع () بذلك موضوع الجواز.
هذا بخلاف ما إذا كانت محرمة، فإن الحرمة لا تكون إلا بثبوت جهتها فيها، فلا ترتفع بمجرد عروض جهة الوجوب موضوعها، بل تقع المعارضة بينهما، فيجب الترجيح بينهما بالأهمية إن كانت، وإلا فالتخيير، والأهمية في الواجبات الغيرية إنما تلاحظ بالنسبة إلى الواجبات النفسية التي هي مقدمات لها، فإن رجح جانب حرمة المقدمة يطرح وجوب ذي المقدمة بالمرة لو فرض في مورد ثبوت الجواز من جهة وجود سبب مقتض له، فيقع المعارضة بينه وبين ما دل على الوجوب أو الحرمة، كما إذا كان فعل شيء أو تركه حرجا، فإن الحرج حينئذ يقتضي جواز الفعل أو الترك، فافهم.
قد ذكروا للمسألة ثمرات:
منها: حصول البر () بفعل واحدة من المقدمات لناذر الإتيان بواجب على القول بوجوب مقدمة الواجب، وعدمه على القول بعدمه.
382

وفيه - بعد الإغماض عن انصراف النذر إلى الواجب النفسي - أن ذلك لا يعد من ثمرات المسألة الأصولية، فإنها ممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الكلية، لا لتحقيق الموضوعات.
ومنها: ترتب الثواب والعقاب على القول بوجوب المقدمة على فعلها أو تركها، وعدمهما على القول الآخر.
وفيه - مضافا إلى ما يرد عليه مما عرفت في الوجه الأول، إذ الثواب والعقاب ليسا من الأحكام الشرعية، بل من فعل الله سبحانه وتعالى - أنهما غير مترتبين عليها على القول بوجوبها أيضا كما عرفت تحقيق الكلام فيه مفصلا.
ومنها: فسق تارك المقدمة من حين تركه لها على القول بوجوبها، وعدمه في تلك الحال [على القول بعدمه] () وتوقف حصوله على حضور زمان فعل الواجب، فيفسق التارك لها حينئذ لتحقق المعصية منه حينئذ.
وفيه: أن الحكم بفسق التارك للمقدمة إن كان لأجل الترك الحكمي لذيها - المتحقق بتركها قبل مجيء زمان فعله - فلا ريب أن الترك الحكمي يتحقق بتركها قبل ذلك الزمان على القول بعدم وجوبها أيضا، ضرورة عدم تأثير إيجابها في تحققه، فلو أوجب الترك الحكمي فسق المكلف من حين تحققه لأوجبه على القول بعدم وجوب المقدمة أيضا، وإن كان لأجل صدور المعصية من التارك لها فقد عرفت أنه لا يتحقق معصية بالنسبة إلى ترك الواجبات الغيرية، فلا معصية على القول بوجوب المقدمة أيضا حتى يورث الفسق، بل المتحقق منها إنما هي بترك الواجب النفسي الذي هو ذو المقدمة، والمفروض عدم حصولها بعد، فلا يحكم بفسق التارك للمقدمة قبل مجيء زمان فعله وان ادعي صدق معصيته بترك
383

المقدمة قبل ذلك الزمان، فيكون فاسقا قبله لذلك، بأن يقال: إن ترك مقدمته علة لتركه في وقته، فهو الآن تارك له في وقته، فهو الآن عاص له، فلا يفرق فيه أيضا بين القولين.
ومنها: الحكم بفسق التارك لمقدمات عديدة للواجب من حين تركها من باب الإصرار إن لم نقل بكون ترك واحدة منها من الكبائر على القول بوجوب المقدمة، وعدمه لعدم الإصرار على القول بعدمه.
وفيه - مضافا إلى ما عرفت في الثمرة السابقة: من عدم صدق المعصية في ترك الواجبات الغيرية، فلا معنى للقول بتحقق الإصرار على المعصية بترك جملة منها - انه قد يكون ترك المقدمات تدريجيا، فحينئذ يكون ترك أولاها علة تامة لترك ذي المقدمة في وقته، وموجبا لتعذره على المكلف فيما بعد، فإذا تعذر لا () يبقى وجوب للمقدمة المتأخرة حتى يتحقق الإصرار بتركها [1]، وترك أولاها أيضا لا يوجبه بتسليم القائل.
اللهم إلا أن يكتفي القائل بظهور الثمرة في صورة ترك المقدمات دفعة، لكن يدفعها حينئذ عدم صدق المعصية على ترك الواجب الغيري أصلا، فلا يكون تركه موجبا للفسق ولو على وجه الإصرار.
ومنها: ما ذكره بعضهم من جواز أخذ الأجرة على فعل مقدمات الواجب على القول بعدم وجوب المقدمة، وحرمته على القول بوجوبها.
ولعل ذلك مأخوذ من إرسال بعض الفقهاء عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب كالمحقق - قدس سره - على ما حكي عنه، حيث أفاد عند عده ما يحرم

[1] إذ بقاء الأمر بالمقدمة تابع لبقاء الأمر بذيها، فمع ارتفاعه - لأجل التعذر أو لغيره - فهو موجب لارتفاع الأمر عنها أيضا. [لمحرره عفا الله عنه].
384

الاكتساب به: (الخامس - ما يجب على الإنسان فعله) ()، أو من معاقد بعض الإجماعات المنقولة وإن لم
يقض بذلك على إطلاقه.
لكن الإنصاف: أنه لا أصل لهذا التفريع بوجه، سواء قلنا بعدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات مطلقا أخذا بما ذكر، أو خصصناه ببعض الواجبات كما هو التحقيق:
أما على الأول - فلأن الظاهر أن القائل بعدم جواز أخذ الأجرة على الواجب مراده عدم جواز أخذها في عمل الواجب.
وبعبارة أخرى فارسية: (مرادش اين است كه حرام است اجرت در كردن واجب)، سواء جعلت الأجرة عوضا عن نفس فعل الواجب النفسي أو عن فعل مقدماته، فنقول بحرمتها أيضا إذا جعلت عوضا عن فعل المقدمات ولو مع عدم وجوبها، لأنه أخذ للأجرة في عمل الواجب، ضرورة أن عمل الواجب وإيجاده إنما هو عبارة عن الإتيان بجميع ما يتوقف عليه وجوده من المقدمات الداخلية والخارجية.
وأما على الثاني - فلعدم الملازمة حينئذ بين الوجوب وحرمة أخذ الأجرة، بل لا بد في إثبات حرمة أخذ الأجرة من دليل آخر دال على حرمة أخذ الأجرة على فعل الواجب الغيري مثلا.
اللهم إلا أن يكتفي ذلك البعض بظهور الثمرة في مورد ذلك الدليل، فإنه إذا قام دليل على حرمة أخذ الأجرة على فعل الواجب الغيري فثمرة القول بوجوب المقدمة أنها تكون حينئذ واجبة غيرية داخلة في موضوع ذلك الدليل.
لكن يتجه عليه حينئذ - مضافا إلى أن مثل ذلك لا يعد من ثمرات
385

المسألة الأصولية - أنه إذا قام مثل ذلك الدليل يحرم () أخذ الأجرة أيضا بالأولوية القطعية في فعل نفس الواجب النفسي، فحينئذ يحرم أخذ الأجرة على فعل المقدمات ولو على القول بعدم وجوبها أيضا، لما عرفت على الاحتمال الأول.
ثم إن مجمل الكلام فيما حققنا من تخصيص حرمة أخذ الأجرة ببعض الواجبات: أنه لا شبهة في أن المانع من أخذ الأجرة على فعل وحرمته () ليس وجوبه، وإلا لما جاز أخذها على الواجبات الصناعية الكفائية، والتالي باطل بالضرورة، بل المانع إنما هو قيام الدليل على لزوم وقوع العمل مجانا كما في بعض الواجبات التوصلية الكفائية كأحكام الأموات من التكفين والدفن، فإنه قد استفيد من الأخبار مملوكية تلك الأعمال للغير مجانا، مثل ما ورد: من أن المؤمن قد ملك عن أخيه المؤمن أمورا منها الدفن وما يتعلق به ()، فيكون أخذ الأجرة عليه من الأكل بالباطل لكون العمل مملوكا للغير، وكما في جميع الواجبات التعبدية، فإن غرض الله - سبحانه وتعالى - قد تعلق بوقوعها خالصة لوجهه الكريم، فكأنها مملوكة له - سبحانه وتعالى - فليس للعبد تمليكها للغير وأخذ العوض منه عليها، لكونه أيضا أكلا بالباطل.
والحاصل: أنه لا يمنع مجرد وجوب فعل على الإنسان من أخذ الأجرة عليه، فلا ملازمة بينهما، بل النسبة بينهما هي العموم من وجه، لافتراق الوجوب عن حرمة أخذ الأجرة في القضاء بين المسلمين، وكذا السعي إلى الميقات لمن
386

وجب عليه الحج على ما ذكرهما بعض المتأخرين من المعاصرين ()، وأفتى بهما مستدلا بأصالة جواز أخذ الأجرة، وافتراق حرمة الأجرة عن الوجوب في مقدمات الدفن والتكفين على القول بعدم وجوب المقدمة واجتماعهما في نفس الدفن والتكفين وفي جميع الواجبات التعبدية.
ومن هنا يظهر: أن مقتضى الأصل هو إباحة أخذ الأجرة على الواجب كما ذكره البعض المشار إليه، فافهم.
ومنها: ما نسب إلى المولى البهبهاني () - قدس سره - من أنه على القول بوجوب المقدمة يلزم اجتماع الأمر والنهي في بعض الموارد، وهو فيما إذا كان المقدمة محرمة.
وفيه: أن مجرد اجتماع الأمر والنهي لا يعد من ثمرات المسألة الأصولية، بل لا بد أن تكون الثمرة اختلاف الأحكام الشرعية بحسب اختلاف القولين، ولا اختلاف من جهة وجوب المقدمة وعدمه في الحكم الشرعي، ولا في حصول امتثال ذي المقدمة وعدمه.
بيان ذلك: أن المقدمة المحرمة: إما من المقدمات الخارجية، وهي الأمور المتقدمة على ذي المقدمة المتوقف عليها حصوله، وإما من المقدمات الداخلية المقارنة لذي المقدمة المتحدة معه في الوجود، وهي الأجزاء.
فإن كانت من الأولى فالقول بوجوب المقدمة وإن أوجب فيها اجتماع الأمر والنهي، لكن هذا الاجتماع غير قادح بحصول امتثال ذي المقدمة إذا طوي المسافة في طريق الحج بالدابة المغصوبة، فالامتثال فيه حاصل على
387

القولين في وجوب المقدمة وعدمه.
وإن كانت من الثانية فحينئذ وإن كان يلزم فيها أيضا اجتماع الأمر والنهي، لكن هذا الاجتماع ليس متوقفا على القول بوجوب المقدمة، بل حاصل على القول بعدمه أيضا، لما تقرر فيما سبق منا في طي تقسيم المقدمة: أن للأجزاء اعتبارين: فباعتبار أن الكل ليس إلا عبارة عن تلك الأجزاء فتلك الأجزاء عين ذلك الكل المأمور به نفسا، وباعتبار أن كل واحد منها من مقدمات الكل ومما يتوقف عليه حصوله فهي مغايرة له، ولا ريب أن الوجوب لا يرتفع عنها بالاعتبار الأول، فنحن إن لم نقل بوجوب المقدمة فهي ليست واجبة بالاعتبار الثاني، وأما وجوبها بالاعتبار الأول فهو لا ينفك عنها لعدم انفكاك ذلك الاعتبار عنها، فهي واجبة دائما على القولين في مقدمة الواجب، فلا حاجة حينئذ إلى القول بوجوب المقدمة في تحقق اجتماع الأمر والنهي.
ثم على تقدير تسليم استناد الاجتماع إلى القول بوجوب المقدمة لا يترتب على هذا الاجتماع بمجرده شيء، فإنهم وإن اختلفوا في هذه الصورة في صحة العبادة وفسادها، لكن ليس شيء من الصحة والفساد ناشئا من القول بوجوب المقدمة وعدمه، بل من أن تعدد الجهة هل يجدي في الصحة فيما إذا كان متعلق الأمر والنهي أمرا واحدا شخصيا، أو لا؟.
ومنها: أن القول بوجوب المقدمة يؤثر في صحتها إذا كانت عبادة وانحصر الأمر بها بالغيري، بخلاف القول بعدم وجوبها.
وفيه: أنه إذا كانت لا بد ان يكون فيها [1] رجحانها نفسيا جدا واستحبابها ذاتيا، وإن لم يجتمع الأمر الاستحبابي مع الوجوب الغيري، لكن جهة

[1] الظاهر عدم الاحتياج إلى كلمة (فيها) والعبارة تستقيم بدونها، ويمكن إصلاح العبارة بوجه آخر هو: (ان يكون فيها رجحان نفسي جدا واستحباب ذاتي). وقد كانت العبارة في الأصل هكذا: (أن يكون فيها رجحانه نفسيا جدا واستحبابا ذاتيا).
388

الاستحباب تجتمع معه، وحينئذ فتلك الجهة كافية في صحة المقدمة العبادية، إذ على القول بوجوبها يجعل () المكلف تلك الجهة وصفا لما يأتي به، ويقصدها على هذا الوجه، وبجعل وجوبها الغيري داعيا، وعلى القول بعدم وجوبها يأتي () بها بداعي أمرها () الاستحبابي الموجود فيها فيه فعلا، فلا يتوقف صحة المقدمة إذا كانت عبادة على وجوبها.
هذا، مع أن الوجوب الغيري هو بنفسه غير كاف في انعقاد الفعل عبادة، بل لا بد من القصد إلى الأمر النفسي المتعلق بذي المقدمة أيضا، والإتيان بها بداعي ذلك الأمر مغن عن قصد الأمر الغيري، لما مر أن روحه هو ذلك الأمر.
ومنها: أن القول بوجوب المقدمة يؤثر في فساد العبادة التي يتوقف على تركها فعل ضدها بناء على اقتضاء النهي التبعي في العبادة لفسادها، فإنه إذا وجب تركها مقدمة فوجوب تركها يقتضي النهي عن فعلها من باب اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده، وذلك النهي يقتضي فسادها على القول باقتضاء النهي التبعي للفساد.
هذا بخلاف القول بعدم وجوب المقدمة، إذ لا أمر حينئذ بالترك حتى يكون مقتضيا للنهي الموجب لفساد الفعل.
والإنصاف: أن هذه هي الثمرة التي ينبغي اختيارها بناء على اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده، وعلى اقتضاء النهي التبعي للفساد، فهذه أهم الثمرات وأجودها، بل الثمرة منحصرة فيها، لما عرفت من ضعف سائر ما ذكروه ثمرة للمسألة.
389

وربما تدفع هذه الثمرة: بأنه لا بد من الحكم بفساد تلك العبادة على القول بعدم وجوب المقدمة أيضا لأجل عدم الأمر بفعلها، إذ لا يعقل الأمر بشيء مع الأمر بما ليس للمكلف بد من تركه، فتأثير الفساد مستند إلى عدم الأمر لا إلى النهي.
لكن هذا الدفع غير مرضي عندنا، وسيجئ توضيح ضعفه في محله إن شاء الله تعالى.
وإذا عرفت تلك المقدمات كلها فلنشرع في أصل المسألة، وقبل التعرض لذكر الأقوال فيها وحججها ينبغي التعرض لأن في المسألة أصلا يقتضي وجوب المقدمة أو عدمه، كي يعول عليه عند الشك وعدم دليل على أحد الطرفين، أولا.
قد قيل - أو يقال - بالأول، وأنه مقتض لعدم وجوبها.
لكن يتجه عليه: أنه إن كان المراد بالأصل المقتضي لعدم الوجوب هو أصالة البراءة ففيه: أن شأنها إنما هو نفي العقاب على مشكوك الحرمة أو الوجوب، ولا ريب أنه لا تكليف بالمقدمة يستتبع عقابا على القول بوجوبها أيضا، لما عرفت سابقا من عدم استحقاق العقاب على مخالفة الواجب الغيري، فاحتمال العقاب على المقدمة منفي على القول بوجوب المقدمة أيضا.
نعم ترك المقدمة بعد العلم بمقدميتها وإن كان سببا للعقاب لإفضائه إلى ترك الواجب النفسي، لكن هذا العقاب إنما هو على ترك ذي المقدمة، لا على تركها، وإنما تركها سبب له، والسببية لازمة للمقدمية لا لوجوبها، فإن ترك المقدمة على القول بعدم وجوبها أيضا سبب للعقاب على نحو ما عرفت.
وبالجملة: النزاع في وجوب المقدمة وعدمه إنما هو بعد إحراز المقدمية، وبعد إحرازها لا خلاف لأحد في كون ترك المقدمة سببا للعقاب، وإنما الخلاف في وجوبها، فلا يعقل إجراء أصالة البراءة عن ذلك العقاب المسبب عن ترك المقدمة أيضا لمعلومية الاستحقاق له.
390

والحاصل: أن المتصور هنا عقابان:
أحدهما: ما يترتب على ترك المقدمة نفسها.
وثانيهما: ما يترتب على ترك ذيها، ويتسبب من ترك المقدمة.
ولا سبيل لأصالة البراءة إلى شيء منهما، لأن الأول معلوم العدم، والثاني معلوم الوجود، فلا موضوع لها في شيء منهما.
ومن هنا يعلم وجه جريانها في صورة الشك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به، دون ما نحن فيه، فإن الشك هناك في أصل مقدمية الشيء للمأمور به، فيشك في سببية ترك ذلك المشكوك في جزئيته أو في شرطيته للعقاب فينفى ذلك العقاب المشكوك كونه مسببا عن تركه بأصالة البراءة للشك فيه.
وإن كان المراد به استصحاب عدم الوجوب - أعني استصحاب عدم وجوب مقدمة الواجب - ففيه: أن مما يعتبر في الاستصحاب وجود الحالة السابقة بأن يحرز خلو الموضوع عن ذلك الحكم المشكوك فيه في زمان، بأن يكون هو موجودا في زمان بدون ذلك الحكم، وهذا لا يعقل فيما نحن فيه، فإن حكم الوجوب بالنسبة إلى عنوان المقدمة لا يعقل فيه ذلك، لأن القائل بوجوبها إنما يقول به من أول الأمر، بمعنى أنه متى صدق عنوان المقدمة على شيء يترتب عليه حكم الوجوب، والقائل بعدمه يقول بعدمه كذلك، فالكل متفقون على أنه لو [لم] تجب المقدمة في زمان لم تجب مطلقا، وإن وجبت وجبت كذلك، فعلى تقدير عدم وجوبها في زمان - مثلا - لا يعقل الشك في أنها واجبة في الزمن الثاني، أو لا، بل عدم الوجوب معلوم.
والسر في ذلك: أن القائل بالوجوب إنما يقول به من جهة دعوى لملازمة بين وجوب شيء وبين وجوب المقدمة، فتلك الملازمة - على تقديرها - ثابتة من أول الأمر.
نعم لو كان المراد استصحاب عدم وجوب الأفعال الخاصة بعناوينها
391

الخاصة التي هي مصاديق لعنوان المقدمة - مثل أن يقال: إن الوضوء - مثلا - قبل وقت وجوب العبادة المشروطة به لم يكن واجبا، فيستصحب عدم وجوبه إلى بعد دخول ذلك الوقت - فجيد -، لأن الوضوء بعنوانه الخاص كان قبل الوقت ولم يكن واجبا، وبعد عروض عنوان مقدمة الواجب له يشك في وجوبه، فيستصحب عدمه، ويكون ذلك الاستصحاب في الثمرة متحدا مع الاستصحاب في عنوان المقدمة على تقدير صحة استصحاب عدم وجوب عنوان المقدمة، فيكون الأصل بهذا التقرير في المقام هو عدم الوجوب. وإذا عرفت هذا
فالأقوال في المسألة على ما استقصاه بعض المحققين () أربعة:
القول بوجوب المقدمة مطلقا: وهو منسوب إلى الأكثر، بل قد نقل عن الآمدي [1] أنه نقل الإجماع عليه.
والقول بعدمه مطلقا: وهو الذي نسبه الآمدي () - على ما حكى عنه المحقق الخوانساري - إلى بعض الأصوليين، وحكي () عن ظاهر المنهاج () وجود

[1] وحكي عن المحقق الخوانساري المناقشة في ذلك النقل عن الآمدي: بأن الموجود من عبارة إحكامه () دعوى اتفاق أصحابه والمعتزلة عليه، ونسب الخلاف إلى بعض الأصوليين. لمحرره عفا الله عنه.
392

القائل به، وعن عبارة المختصر () على إجمال () فيها.
والتفصيل بين السبب وغيره بالقول بوجوب الأول دون الثاني، ونسب هذا إلى الواقفية ()، واختاره صاحب المعالم ()، ونسبه العلامة () - قدس سره - إلى السيد () - قدس سره - وإن كان فيه ما لا يخفى كما تفطن له صاحب المعالم () - قدس سره -.
والتفصيل بين الشرط الشرعي وغيره: بالقول بوجوب الأول دون غيره ().
والذي احتج به على مذهب المشهور أو يمكن أن يحتج به عليه وجوه، وهي بين جيدة، ورديئة، وما بينهما.
فالجيدة منها وجهان:
أولهما: ما احتج به شيخنا الأستاذ - قدس سره - وارتضاه سيدنا الأستاذ - دام ظله - من أن المسألة - كما عرفت - عقلية، فالمرجع فيها إلى الوجدان والقاضي فيها هو، ولا شبهة أن من له وجدان سليم وطبع مستقيم إذا
393

راجع وجدانه يجد منه أنه يقضي على وجه اليقين بالملازمة بين طلب شيء وبين طلب ما يتوقف حصوله عليه بالمعنى الذي أشرنا إليه في تحرير محل النزاع، بمعنى أنه إذا فرض نفسه طالبا لشيء يجد فيها حالتين مقتضية كل واحدة منهما لطلب آمري مولوي عند الالتفات إليهما.
وبعبارة أخرى: نحن لا نريد إثبات طلب فعلي بمقدمة الواجب كالطلب المتعلق بنفس الواجب، وإنما المقصود إثبات حالة إجمالية في النفس عند طلب شيء لو التفت الطالب إليها وانكشف غطاء إجمالها عنده لكانت تلك الحالة في قالب الطلب التفصيلي بمقدمة ذلك الشيء بالطلب الأمري المولوي المقابل للإرشادي، بمعنى أنها مقتضية لذلك الطلب حينئذ، ويكون هو منبعثا عنها، ونحن نجد من وجداننا بالضرورة عند طلب شيء تلك الحالة.
وبعبارة ثالثة: إنا كما قد نجد من أنفسنا حالة تفصيلية موجبة للطلب الفعلي () بشيء كذلك قد نجد منها حالة إجمالية من الشوق المؤكد إلى شيء، بحيث لو كنا ممن يجب إطاعته على أحد عند العقلاء، كما لو كان لنا عبد، واطلع ذلك العبد على تلك الحالة في أنفسنا مع فرض غفلتنا عنها أيضا لما كان له ترك ذلك الشيء المشتاق إليه، بمعنى أن العقلاء لا يعذرونه في تركه، بل يلزمونه بالإتيان () به، ويصححون المؤاخذة والعقاب على مخالفته لو كان ذلك الشيء مشتاقا إليه نفسا، ووجود تلك الحالة في المطلوبات النفسية مما لا مجال لأحد لإنكارها لوجودها في نفس كل أحد كثيرا مع الغفلة عنها، بحيث لو التفت إليها لأمر بمقتضاها فعلا، وأما بالنسبة إلى المطلوبات الغيرية فنجدها من أنفسنا بالضرورة عند طلبنا لشيء نفسا.
394

والحاصل: أن من خلا ذهنه عن الاعوجاج والانحراف لو أنصف حق الإنصاف، وجانب سبيل الاعتساف، يجد بالضرورة من نفسه عند طلبه لشيء () حالة طلب إجمالية بالنسبة إلى مقدمة ذلك الشيء مركوزة في نفسه قبل الالتفات إليها منبعثة عن الطلب لذلك الشيء موجبة للطلب الفعلي () المولوي للمقدمة لغيره، وما نعني بوجوب المقدمة والطلب المتعلق بها إلا هذا المقدار [1].
وثانيهما: ما أفاده سيدنا الأستاذ - دام ظله -: أنه لا شبهة في صحة الطلب الغير الإرشادي للمقدمة () عند طلب ذيها، بل في وقوعه بالنسبة إلى بعض المقدمات الشرعية كالأمر بالوضوء عند دخول وقت الصلاة بمعنى أن من طلب شيئا يصح له طلب ما يتوقف عليه أيضا بالطلب المولوي، ولا يقبح منه ذلك عند العقلاء، وإذا صح ذلك في بعض الموارد يلزم منه صحته مطلقا

[1] قولنا: (إلا هذا المقدار). إن قيل: وأي فائدة في إيجاب هذا المقدار؟ قلنا: لا شبهة أن تلك الحالة الإجمالية الموجبة للطلب الفعلي عند الالتفات يترتب عليها ما يترتب على الطلب الفعلي كما أشرنا إليه، إذ العقلاء لا يفرقون في باب الإطاعة بين اطلاع العبد على طلب مولاه فعلا وبين اطلاعه على منشأ الطلب الموجود في نفسه مع غفلته عنه، بل يجعلون كلا من الطلب وتلك الحالة المنشئة له على حد سواء، فيلزمون العبد بالإتيان إرشادا بمجرد اطلاعه على أيهما كان.
هذا، مضافا إلى أن الغرض الأصلي من البحث إنما هو تحقيق الحال في مقدمات الواجبات الشرعية، ولا ريب أن وجود تلك الحالة فيها ملازم للطلب الفعلي، لاستحالة تطرق احتمال الغفلة إلى الشارع. لمحرره [عفا الله عنه].
395

لوجود العلة المصححة له في مورد خاص في جميع الموارد بعينها، وهي كون الشيء مقدمة للمطلوب النفسي الذي لا يحصل إلا بذلك الشيء، أما كون العلة المصححة له في بعض الموارد هذه فواضح، وأما وجودها في جميع الموارد على حد سواء فلمساواة كل مقدمة مع أختها في جهة المقدمية، وهي مدخليتها في وجود ذيها بحيث لولاها لما حصل ذلك، وإذا صح ذلك في جميع الموارد لتلك الحكمة يلزم () منه وقوعه في جميعها ممن التفت إلى تلك الحكمة، لأن كل حكمة مصححة لحكم تكون علة لوقوع ذلك الحكم مع عدم المانع من الوقوع كما هو المفروض في المقام بالضرورة، لأن المقتضي لشيء مع عدم المانع منه علة تامة لوجوده، ولا يعقل تحقق العلة بدون المعلول، فيلزم من صحة ذلك وجوبه لذلك.
نعم لا يجب بيان ذلك الطلب باللسان، بل يصح التعويل في إفهامه على العقل أيضا.
هذا، وإن شئت قرر الوجه هكذا، لا ريب في ثبوت الطلب على الوجه المذكور بالنسبة إلى بعض المقدمات، ووقوعه فيما ثبت وقوعه فيه ملازم لصحته بالضرورة، لاستحالة صدور القبيح من الشارع، فإذا ثبت صحته في ذلك المورد يلزم صحته مطلقا، فيلزم وقوعه كذلك ممن التفت إلى الحكمة المصححة لما تقرر في التقرير الأول.
وكيف كان، فلا نظن بأحد إنكار صحته في الجملة - بل وقوعه كذلك - وصحته كذلك ملازمة () لوجوبه لما مر بالنسبة إلى الملتفت، فهذا دليل على ثبوت الطلب الغيري الفعلي التشريعي لمقدمات () الواجبات الشرعية، لكون الآمر
396

بذيها من لا يتطرق إلى حضرته احتمال الغفلة، فيحصل به ما هو الغرض الأصلي من محل البحث.
والحاصل: أنا نستكشف من ثبوت الطلب على الوجه المذكور بالنسبة إلى بعض المقدمات الشرعية ثبوته مطلقا، وهو المطلوب المهم. هذا.
وأما المتوسط من الوجوه: فهو الإجماع الذي ادعاه بعض ().
وقد أورد عليه: بعدم حجية الإجماع في المسألة الأصولية ().
ويدفعه: عدم الفرق في الاعتماد عليه - على تقدير ثبوته - بينها وبين المسألة الفرعية كما حقق () في محله.
ولو قيل في رد الاستدلال بالإجماع: إن المسألة عقلية، فلا ينبغي الركون إليه فيها - حيث إن اعتباره إنما هو لأجل كشفه عن رأي الرئيس وعن رضاه، ولا ريب أنه دخل لرضاه () في المسألة العقلية، وأما رأيه فيها وإن كان على تقدير ثبوته كاشفا عن حجية ما رآه لعصمة عقله، إلا أن اتفاق العلماء بمجرده لا يكشف عن رأيه فيها - لكان أحسن، إلا أنه يتوجه عليه أيضا: أن المقصود الأصلي في المقام إنما هو إثبات وجوب مقدمات الواجبات الشرعية، والمطلوب المهم هو هذا، وهذا المطلوب شرعي لا غير، وطريق ثبوته قد يكون هو الشرع، وقد يكون هو العقل، وهذا المستدل لعله أراد إثباته بالأول، ويكون معقد الإجماع الذي ادعاه هو وجوب مقدمة الواجب شرعا الذي هو المطلوب، ولا ريب أن
397

اتفاق العلماء على هذا المطلب يكشف عن رأي المعصوم وعن عدم رضاه بترك مقدمة الواجب كسائر اتفاقاتهم على سائر الأحكام الشرعية، وإنما يرد ما ذكر على تقدير [كون] معقد الإجماع المذكور هو ثبوت الملازمة عقلا بين طلب شيء وبين طلب ما يتوقف عليه.
هذا، لكن الإنصاف عدم سلامة الاستدلال عن المناقشة على هذا التقدير أيضا، لأنه لما كان الطريق إلى ثبوت المطلوب المذكور لا ينحصر في الشرعي - بل للعقل مدخل فيه أيضا - فذلك يوهن استناد المجمعين على وجوب المقدمة شرعا إلى ما وصل إليهم من صاحب الشرع لاحتمال أن يكون اتفاقهم ذلك لاجتهادهم بسبب الدليل العقلي، بل لعله أظهر الاحتمالين.
قال دام ظله: والظاهر أن مراد المستدل بالإجماع المذكور هو اتفاق العقلاء كافة، لا الإجماع المصطلح، فهو - على تقدير ثبوته كما هو الحق - كاشف عن حجية المدعى، وهذا هو المعبر [عنه] - في لسان بعض من وافقنا في المدعى - بالضرورة ()، ضرورة أنه لم يرد منها ضرورة الدين، لما يرى من الاختلاف في المقام، بل غرضه ضرورة العقل والوجدان، فافهم.
وأما الوجوه الرديئة:
فمنها: ما عن أبي الحسين البصري () من أنه (لو لم تجب مقدمة الواجب لجاز تركها، وحينئذ فإما أن يبقى وجوب ذيها، أو لا، فإن بقي يلزم التكليف بما لا يطاق، وإلا يلزم () خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا). انتهى.
398

ومراده بقوله: (حينئذ) ليس وحين جواز الترك، إذ هو بمجرده لا يستلزم شيئا من المحذورين بالضرورة، ولا حين الترك مطلقا، فإنه وإن كان يلزم منه ما ذكر إلا أنه مشترك الورود بين القولين، إذ على القول
بوجوب المقدمة أيضا إذا ترك المكلف المقدمة وفوتها على نفسه بحيث لم يتمكن منها بعده، فحينئذ إما أن يبقى التكليف بذيها، أو يرتفع، فعلى الأول يلزم التكليف بما لا يطاق وعلى الثاني خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا، بل يعني به أنه حين جاز ترك المقدمة فتركها حال الجواز ولأجله، وليس ذلك مشترك الورود بين القولين [1].
ومراده بقوله: (لجاز تركها) أنه لجاز تركها كلية، وهي بأن لا يوجد شيئا من أفراد ما هو مقدمة للواجب، فإن حقيقة ترك المقدمة هو هذا، لا تركها في زمان مع التمكن منها في آخر وإتيانها فيه، ووجه خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا أن مفروض البحث إنما هو في المقدمة الوجودية الغير المتوقف عليها وجوب ذيها.
وبعبارة أخرى: الكلام في مقدمة يكون الواجب بالنسبة إليها مطلقا، فإذا فرض انتفاء وجوبه بانتفاء مقدمة فرض إطلاقه بالنسبة إليها يلزم خروجه عن كونه مطلقا بالنسبة إليها وصيرورته مشروطا بوجودها، إذ لو لا الاشتراط لما انتفى الوجوب عنه بانتفائها. هذا.
وقد أجيب عن الاستدلال بذلك بوجوه:
الأول: أنا نلتزم بالشق الأول، وهو بقاء التكليف بالواجب حين تفويت

[1] وبعبارة أخرى: لا ريب في أن نفس ترك المقدمة أمر ممكن بالحس، فهو لا يمكن أن يكون منشأ لاستلزام ذلك التالي المحال، وفي أن نفس الجواز أيضا لا يستلزم ذلك التالي، إذ بمجرده لا يلزم امتناع ذي المقدمة، بل الذي يستلزمه هو الترك حال الجواز، وعلى وجه الجواز، فإنه إذا كان ذلك مستلزما للمحال المذكور، فيقول المستدل: إنه لم ينشأ من نفس الترك، بل نشأ من الجواز، فهو محال. لمحرره عفا الله عنه.
399

مقدمته، فإن امتناعه إنما صار باختياره، وهو لا ينافي الاختيار.
وفيه: أن هذه القضية - وهي أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار - وإن كانت مسلمة، لكنها لا دخل لها بالمقام وبمدعى المجيب أصلا.
توضيحه: أن المتكلمين اختلفوا () في أن أفعال العباد هل هي باختيارهم، أو هم مضطرون إليها فعلا وتركا؟.
ذهب الأشاعرة إلى الثاني محتجين بأن الفعل ما لم يجب لم يوجد، وما لم يمتنع لم ينعدم ولا يترك، فإذا صار الفعل واجبا أو ممتنعا فليس شيء من إيجاده أو تركه باختيار العباد.
واحتجوا على وجوب الفعل إذا وجد: بأن الشيء لا يمكن وجوده إلا بوجود علته التامة، ومعها لا يمكن تركه، بل يجب وقوعه.
وعلى امتناعه عند تركه: بأن الشيء لا ينترك ولا ينعدم () إلا مع انسداد جميع أبواب علة الوجود عليه، ومعه يمتنع وجوده.
وذهبت العدلية من الإمامية والمعتزلة إلى الأول، وأجابوا عن دليل الأشاعرة: بأن ذلك الوجوب وذاك الامتناع إنما هما باختيار العبد، فإنهما قد تسببا من المبادئ الاختيارية له، وهو - أي الوجوب أو الامتناع بالاختيار - لا ينافي الاختيار، بل يؤكده.
والحاصل: أن الفعل بالذات اختياري للعباد، وعروض الوجوب أو الامتناع باختياره لا يصيره [واجبا أو] ممتنعا بالذات، بل معه أيضا ممكن بالذات
400

قد عرض له [الوجوب أو] الامتناع العرضي.
فإذا عرفت هذا فالمجيب عن ذلك المستدل هنا: إن أراد بذكر تلك القضية ما هو المراد بها هناك - وهو كون الفعل بعد تفويت مقدمته أيضا مقدورا بالذات - فهي لا تجديه في شيء لتسليم المستدل بهذا الطلب، فإنه لم يرتب التالي على الامتناع الذاتي، ولا يدعي ذلك أصلا بل على العرضي الحاصل باختيار المكلف.
وإن أراد بها أن القدرة على الواجب مع تفويت المقدمة باقية على حالها وموجودة فعلا - فيكون المراد بالقضية أن الامتناع بالاختيار لا ينافي بقاء القدرة حال الامتناع، فيصح بقاء التكليف - فالضرورة والحس يناديان بفساده، فإنا نشاهد أنه لا يقدر عليه حينئذ.
هذا، مضافا إلى كونه تناقضا في نفسه، وإلى أنه لم يرد بها ما هو المقصود منها في محله.
وإن أراد أن كون الفعل مقدورا بالذات يصحح بقاء الطلب له () حال امتناعه بالعرض وباختيار المكلف، فضرورة العقل تنكره لامتناع طلب الغير المقدور ولو لعارض.
والثاني (): ما ذكره صاحب المعالم () - قدس سره - من أنه بعد اختيار بقاء الوجوب أن المقدور كيف يكون ممتنعا؟ والكلام إنما هو في المقدور، وتأثير الإيجاب في القدرة غير معقول.
والظاهر أنه فهم من قول المستدل: (وحينئذ) حين جواز الترك، لا نفس
401

الترك، فلذا استوحش بأن المقدور كيف يكون ممتنعا؟ وقوله: (وتأثير الإيجاب في القدرة) لعله أيضا قرينة عليه، لكن قد عرفت أن مراده ليس ما فهمه - قدس سره -.
والثالث: ما ذكره السلطان - قدس سره - في حاشيته على المعالم () - بعد ما أورد على نفسه: بأن الامتناع من أي () جهات كان () يوجب قبح الطلب من الحكيم - من أن (أوامر الشارع للمكلفين ليس على قياس أوامر الملوك والحكام الذين غرضهم حصول نفس الفعل ودخوله في الوجود لمصلحة لهم في وجوده، حتى إذا فات وامتنع حصوله كان طلبه سفها وعبثا، بل أوامر الشارع من قبيل أوامر الطبيب للمريض: أن اللائق بحاله كذا، (وإن فعل كذا كان أثره كذا) ()، وان فعل بخلافه كان أثره بخلافه وهذا المعنى باق في جميع المراتب لا ينافيه عروض الامتناع بالاختيار للفعل، إذ بعد ذلك أيضا يصح () أنه فات عنه ما
402

هو اللائق بحاله، ويترتب على ذلك الفوت (فوت) () الأثر الذي كان أثره، وليس معنى كونه مكلفا (حينئذ) () إلا هذا، ولا يتعلق للشارع غرض بحصول () ذلك الفعل ووجوده، حتى قيل (): إنه لا يتصور حينئذ، وتحقيق المقام يقتضي بسطا (في الكلام) () عسى أن نأتي به في رسالة منفردة ()، والله الموفق) ().
انتهى كلامه رفع مقامه.
وفيه: أن أوامر الشارع وإن لم تكن لوجود مصلحة فيما أمر به عائدة إليه، كما في أوامر السلطان والحكام، بل لمصلحة عائدة إلى العباد، لكن عدم تعلق غرضه بصدور المأمور به مطلقا ممنوع.
نعم المسلم منه أنه لم يتعلق غرضه به على نحو الإرادة التكوينية التي لازمها وجوب الأفعال المأمور بها إذا تحققت من الله - سبحانه وتعالى -، فيلزم منها خروجها عن اختيار المكلفين وهي مرتبة من الإرادة متعلقة بصدور الفعل من العبد بحيث لو فرض كون جوارح العبد للمريد لما انفكت عن صدوره كما في إرادة الشخص لفعل نفسه، حيث إنها تقهر جوارحه على إيقاع ذلك الفعل، وتلك المرتبة ثابتة في أوامر السلاطين والحكام، حيث إنهم لو فرض سلطانهم على جوارح المأمورين لما انفك صدور ما أمروا به عن إرادته، إلا أن عدم استلزامها
403

لذلك لعدم سلطانهم على جوارح المأمورين، وأما تعلق غرضه به على نحو الإرادة التشريعية - وهي - مرتبة من الإرادة أدون من التكوينية متعلقة بالفعل من غير إلغاء () اختيار العبد وقدرته، بل تعلقت بصدوره منه عن اختياره - فلا مجال لإنكاره.
فيفارق أمر الشارع أمر () السلطان والحكام من وجهين:
الأول: أن الداعي له في أمرهم هي المصالح العائدة إلى الآمر بخلاف الداعي إليه في أمره تعالى.
والثاني: أن الإرادة المقرونة بالأمر بالنسبة إليهم تكوينية، وبالنسبة إليه تشريعية، وتشتركان في كون كل واحد منهما طلبا مولويا، لا إرشاديا، ولا إخبارا عن المصالح، فيبطل قياسه لأمر الشارع على أوامر الطبيب للمريض، لما عرفت من أنه ليس إرشاديا، سيما () مع جعله أمر الطبيب من مقولة الأخبار عن الخاصية من المصالح والمفاسد، كما ينادي به تفسيره له: بأن اللائق بحاله كذا، وأنه إن فعل كذا فأثره كذا.
فبالجملة: فبعد الإغماض عن فساد تفسيره لأمر الطبيب بما ذكر، نظرا إلى أنه من مقولة الطلب - وإن كان إرشادا - لا الإخبار، نقول:
إن كون أوامر الشارع من مقولة الإخبار عن خاصيات الأفعال يدفعه:
أولا - ظواهر أدلة التكاليف، حيث إنها ظاهرة في الطلب، فإرادة الإخبار منها مناف لظواهرها من غير قرينة عليه.
وثانيا - الأدلة على ثبوت العقاب على مخالفة الأوامر الشرعية، إذ
404

لا معنى للعقاب على ارتكاب خلاف ما يصلح الفاعل إذا لم يكن هناك عصيان لله تعالى.
اللهم إلا أن يتأول في تلك الأدلة بحملها على تجسم الأعمال، كما ورد به أخبار أيضا، بمعنى أن الأعمال السيئة تتجسم في الآخرة بصورة النار، فتأخذ عاملها، والحسنة تتجسم بصورة الخلد والحور والرضوان، فينعم بها عاملها، فيكون الثواب والعقاب بهذين المعنيين من الخواص الذاتية للأفعال المترتبة عليها قهرا، وأوامر الشارع إخبار عن تلك الخاصيات.
لكن يدفعه - مضافا إلى منافاة ذلك لظواهر تلك بل لنصها - أن مذهب التجسم كاد أن يكون خلاف الضرورة من المذهب لقلة القائل به منا.
مضافا إلى عدم تمامية أدلته بحيث يحصل بها الاعتقاد بذلك، حتى تكون تلك قرائن صارفة لتلك الأدلة.
وثالثا - أن أمر الشارع إذا كان معناه مجرد الإخبار عن خاصية ما تعلق به يصح () تعلقه بالممتنعات بالذات - أيضا - لعين ما ذكره المحقق المذكور من صدق أنه فات عنه ما هو اللائق بحاله، مع أنه لم يقل أحد بتعلق أمره بالممتنعات بالذات، فتأمل.
الرابع (): ما أفاد - دام ظله - من أن المستدل إن أراد ببقاء الوجوب بقاء الطلب - وهو الأمر - فنحن نلتزم بارتفاعه، بل لا يعقل بقاؤه ولو حال التمكن من ذي المقدمة، لأنه من الأمور الغير القارة - بمجرد وجوده ينعدم - لكن لا يلزم من ارتفاعه خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا وإلا يجري في جميع الواجبات المطلقة، إذ قبل ورود الأمر بها لا وجوب لها أصلا، وبعد وروده
405

يرتفع وينعدم، وكذا إن أراد به بقاء الحالة الطلبية القائمة بنفس الطالب التي إذا جاءت في قالب اللفظ يسمى طلبا وتحريكا وبعثا، لامتناع تعلقها وحصولها بالنسبة إلى الممتنع ولو بالعرض، ولا يلزم من ارتفاعها أيضا خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا لثبوت استحقاق العقاب على مخالفته، فإن تفويت مقدمته بعد تنجز التكليف به مخالفة حكمية له، ويستحق العقاب على هذه المخالفة، فثبوت استحقاق العقاب محقق لوجوبه المطلق ومثبت له، فلا يلزم خروجه عنه وإلا يجري ذلك في جميع الواجبات التي خالفها المكلف عصيانا، إذ بعد المخالفة لا شبهة في ارتفاع تلك الحالة فلو لم يكن ثبوت استحقاق العقاب كافيا للزم خروجها عن كونها واجبات مطلقة والخروج عنه إنما هو إذا لم يكن هناك استحقاق عقاب أصلا، وأما معه فلا، بل ذلك يحقق إطلاق وجوبه بالنسبة إلى تلك المقدمة الفائتة، ويؤكده.
والحاصل: انه يكفي في عدم خروجه عن كونه واجبا مطلقا بقاء أثر الوجوب المطلق، وهو ثبوت استحقاق العقاب على ترك ذي المقدمة المسبب من تركها.
الخامس: ما ذكره بعض من النقض بلزوم المحذور المذكور على تقدير وجوب المقدمة وتركها المكلف عصيانا، فإنه حينئذ يصير ذو المقدمة ممتنعا، فحينئذ إما أن يبقى التكليف... إلى آخر ما ذكره المستدل. فما هو الجواب عن ذلك فهو الجواب عن المستدل على تقدير الجواز.
وقد يجاب عن ذلك: بإبداء الفرق بين التقديرين بأن امتناع ذي المقدمة على تقدير جواز تركها إنما هو بسوء اختيار الآمر المكلف - بالكسر - فإنه إذا جوز تركها فتركها المكلف لم يصدر () منه في هذا الترك معصية، بل إنما
406

فعل فعلا جائزا مرخصا فيه من المولى، فامتناعه مسبب من تجويزه تركها، وحينئذ لا يصح العقاب على ترك ذي المقدمة.
هذا بخلاف تقدير وجوبها، فإن الامتناع المذكور حينئذ إنما هو بسوء اختيار المكلف - بالفتح - فيجوز بقاء التكليف بمعنى ثبوت استحقاق العقاب.
وبعبارة أخرى: إن المفروض أن ترك المقدمة علة تامة لترك ذيها، فإن معنى المقدمية هو هذا، أعني كون تركها علة لترك ذيها، فتجويز الشارع لتركها مستلزم لجواز ترك نفس الواجب، إذ لا يعقل تجويز ارتكاب علة شيء والنهي () عن معلوله الذي لا ينفك عنه عقلا، بل هذا التجويز عبارة أخرى عن تجويز ترك الواجب، فلا يعقل هنا استحقاق العبد للعقاب على ترك الواجب.
هذا بخلاف تقدير إيجابه للمقدمة ونهيه عن تركها لبقاء وجوب ذي المقدمة حينئذ بحاله، فيصح العقاب على تركه المسبب من سوء اختيار العبد.
هذا، لكن الإنصاف عدم استقامة هذا الجواب، لما ذكره بعض الأفاضل المحققين () مما حاصله بتوضيح منا:
أن كون إيجاب المقدمة مصححا للعقاب على ترك ذيها، وكذا كون عدم وجوبها موجبا لقبحه كلاهما ممنوع، بل المصحح له إنما هو ترك الواجب مطلقا [1] مع التمكن من الإتيان به بعد تعلق التكليف به، وهذا المناط متحقق في المقام على التقديرين، إذ لا ريب أن. عدم إيجاب المقدمة ليس معناه المنع من إيجادها، وليس مستلزما له أيضا، بل مراد القائل بعدم وجوبها أنه ليس في المقدمة

[1] قولنا: (مطلقا) إشارة إلى أن تركه الحكمي أيضا - الحاصل بترك المقدمة - سبب لاستحقاق العقاب. لمحرره عفا الله عنه.
407

جهة موجبة لها.
وبعبارة أخرى: إن مراده أن المقدمة معناها ما يتوقف عليه حصول الواجب، ولا يلزم من وجوب الواجب وجوب هذا العنوان، فإذن لا شبهة أن عدم وجوب عنوان ما يتوقف عليه الواجب ليس معناه الإذن في ترك ذلك العنوان من حيث أداؤه إلى ترك الواجب، ولا مستلزما له.
أما على القول بجواز خلو الواقعة عن الحكم فواضح، إذ عليه ليس له حكم آخر غير الوجوب - أيضا - أصلا حتى الإباحة، بل الثابت للشيء الذي صار مقدمة للواجب إنما هي الإباحة بالنظر إلى ذاتها لا بالنسبة إلى هذا العنوان العارض عليه، بل هذا العنوان خال عن الحكم مطلقا، فلا يلزم من نفي الوجوب إثبات الإباحة أصلا.
وأما على القول بعدم جواز خلو الواقعة عن الحكم فلأن اللازم - حينئذ - من نفي الوجوب عن عنوان المقدمة إنما هو ثبوت الإذن في ترك نفس ذلك العنوان من حيث هو - مع قطع النظر عن كون تركه سببا لترك الواجب - بمعنى أن غرض الآمر أنه يجوز ترك ما يتوقف عليه الواجب في نفسه، بمعنى أن غرضه إنما هو حصول الواجب كيف ما اتفق، ولم يتعلق طلبه بمقدمته أصلا، بل أراد نفس الواجب وإيجاده من المكلف المتمكن منه، سواء أتى به المكلف بتوسط المقدمة أو بدونها لو فرض إمكانه.
والحاصل: أنه طلب نفس الواجب مع قطع النظر عن مقدمته - بما هي مقدمة له - حال تمكن المكلف من امتثاله كما هو المفروض، فاللازم منه جواز ترك المقدمة في نفسها، وأما تركها من حيث كونه سببا لترك الواجب فهو ليس مأخوذا في مفهوم المقدمة، بل المأخوذ فيه هو توقف وجود الواجب عليها لا غير، فإن ترك المقدمة بتلك الحيثية حقيقة عبارة أخرى عن ترك نفس الواجب، فإنه مفهوم منتزع من تركه، لكونه مأخوذا من حيثية تركه، فتجويزه حقيقة تجويز
408

لترك الواجب [1].
والحاصل: أن تجويز ترك الواجب له عبارتان: إحداهما أن نقول صريحا:
يجوز لك ترك الواجب، وأخراهما: أن نقول: يجوز تلك ترك ما يؤدي تركه إلى تركه من حيث كونه مؤديا إليه، فإذا لم يكن معنى عدم إيجاب المقدمة الإذن في تركها من حيث أداء تركه إلى ترك الواجب ولا مستلزما له، بل غاية ما يلزم منه على القول المذكور ثبوت الإذن في تركها في نفسها مع قطع النظر عن هذه الحيثية، فلم يكن الامتناع باختيار الآمر، بل باختيار المأمور، إذ الآمر قد أراد منه الواجب حال تمكنه من الإتيان به، مع عدم منعه عن مقدمته، فهو متمكن من امتثاله فتركه المقدمة حينئذ إقدام على مخالفة التكليف بالواجب لكونه علة لتركه ومعصية حكمية له، فيستحق العقاب حينئذ كصورة وجوب المقدمة.
وبالجملة: الامتناع في الصورتين مستند إلى سوء اختيار المكلف.
ومن هنا ظهر ما في كلام بعض المحققين من المتأخرين ()، حيث إنه زعم:
أن عدم جواز ترك المقدمة - من حيث أداؤه إلى ترك ذيها - هو معنى وجوبها الغيري.
وتوضيح ضعفه: أنك قد عرفت أن تجويزه على هذا الوجه عبارة أخرى عن تجويز ترك نفس الواجب، فيكون معنى المنع عنه هو وجوب نفس الواجب لا وجوب مقدمته، فالالتزام بعدم جواز ترك المقدمة من حيث كونه مؤديا إلى ترك

[1] فإن الحكم إذا ثبت لشيء بحيثية مأخوذة من شيء آخر، يكون موضوعه حقيقة هو ذلك الشيء الآخر.
وإن شئت قلت: إذا ثبت حكم لشيء متقيدا بحيثية فالموضوع تلك الحيثية، فإذا فرض كونها منتزعة من شيء آخر فالموضوع حقيقة هو ذلك الشيء الآخر. لمحرره عفا الله عنه.
409

الواجب ليس عين وجوبها الغيري ولا مستلزما له.
وكيف كان فغاية ما قيل أو يقال - على تقدير عدم وجوب المقدمة -:
أنه إذا جاز تركها فلا يعقل استحقاق العقاب على تركها، فإذا تركها المكلف لم تعقل () معصية في هذا الترك، وليس هذا الترك أيضا معصية لنفس ذي المقدمة، فإنها إنما تتحقق بتركه في تمام وقته المضروب له شرعا، فهي إنما تتحقق بمخالفة التكليف به في آخر وقته الذي [هو] بمقدار فعله، فهو حين تركه لها لم يصدر منه معصية لا بالنسبة إلى المقدمة من حيث هي لعدم وجوبه نفسا بالفرض، ولا بالنسبة إلى ذيها لتوقف تحققها على مجيء آخر الوقت مع بقاء الأمر فيه، وإذا تركها فصار الواجب ممتنعا في حقه في آخر الوقت فلا يعقل توجه الأمر والطلب إليه ولا بقاؤه في ذلك الزمان، فلم يتحقق منه معصية بالنسبة إلى نفس الواجب لعدم الأمر به حينئذ.
فبالجملة: فعلى تقدير عدم وجوب المقدمة لا يصدر منه ما يوجب العقاب أصلا من المعصية، فلا وجه لاستحقاقه للعقاب، مع أنه خلاف الضرورة من الدين، فثبوت استحقاقه كاشف عن وجوب المقدمة.
ومجمل الجواب عنه:
أولا - بالنقض بلوازم الواجب لعدم وجوبها بالاعتراف من كل أحد، فلا حرج في تركها، فإذا تركها فلا ريب في امتناع الواجب، ضرورة امتناع أحد المتلازمين بتفويت الآخر، فمقتضى ما ذكره عدم العقاب هنا أيضا، وهو خلاف الضرورة، فما هو الجواب عن ذلك فهو الجواب عما ذكره.
وثانيا - بالحل بأن الموجب لاستحقاق العقاب ليس منحصرا في العصيان الحقيقي، حتى يقال: إنه حين ترك المقدمة لم يتحقق، وبعده لا أمر، بل كما أنه
410

موجب له كذلك العصيان الحكمي موجب له، وهو فعل ما يمتنع معه امتثال الواجب في وقته، ونحن نسلم بانتفاء () الأول، ونقول بثبوت الثاني على التقديرين ()، فإن امتناع امتثال الواجب بترك المقدمة لازم قهري عقلي غير متوقف على وجوب المقدمة بالبديهة وبالحس، فإذا تحقق العصيان الحكمي على كلا التقديرين فاستحقاق العقاب على الواجب مطلقا ثابت وان لم يبق الطلب له () بعد ترك المقدمة - كما مر - لكن هذا الأمر باق لا يرتفع، ولا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه كذلك.
والحاصل: أن استحقاق العقاب إنما هو للعصيان الحكمي للواجب الموجب لاستحقاق العقاب ببناء العقلاء كافة، ولا دخل لوجوب المقدمة في ذلك أصلا، وليس الامتناع على تقدير جوازها من الأمر قطعا، لما عرفت من أن جوازها على القول به إنما هو بالنظر إلى ذاتها، وأما جواز تركها من حيث أداؤها إلى ترك الواجب فلا، فإنه عبارة أخرى عن جواز ترك الواجب - كما عرفت - فليس معنى عدم جواز تركها من هذه الحيثية الالتزام بوجوبها الغيري - كما مر تخيله من بعض المحققين () - بل معناه وجوب نفس الواجب الذي هو ذو المقدمة.
ولعل منشأ ذلك التخيل ما رآه من بيان مرادهم من تعريف الواجب - بما يستحق تاركه الذم والعقاب بعد الإيراد عليهم بعدم شموله للواجب الغيري - بأن المقصود [1] كون الواجب سببا لاستحقاق الذم والعقاب ولو لم يكن الذم

[1] وقولنا: (بأن المقصود). إلقاء تبصرة لتفسير قولنا: (بيان مرادهم).. لمحرره عفا الله عنه.
411

والعقاب على نفسه، فيشمل الواجب الغيري، حيث إن تركه سبب لاستحقاقهما، فلأجل ذلك لما رأى ما نقلنا عن بعض الأفاضل - من حكمه بثبوت استحقاق العقاب على الواجب بتفويت مقدمته المؤدي إلى امتناعه على القول بجوازها - زعم () أن مراده: أن ترك المقدمة من حيث هو سبب لاستحقاق العقاب فيكون هذا معنى وجوبها الغيري، ولم يلتفت إلى أن غرضه أن تركها - من حيث كونه عصيانا حكميا للواجب - سبب له كما مر بيانه بما لا مزيد عليه، فتدبر.
هذا مضافا إلى النقض عليه بلوازم الواجب الملازمة له () في الوجود، كاستدبار الجدي بالنسبة إلى استقبال القبلة، حيث إن تركه سبب لترك الاستقبال الواجب ولاستحقاق العقاب، مع أنه لا قائل بوجوب اللوازم كما مرت الإشارة إليه، فلا تغفل.
السادس: ما ذكره بعض أفاضل المتأخرين [1] من أن مؤدى الدليل المذكور مؤد إلى الدور، ولم يبين وجهه كملا، وكأنه زعم: أن مراد المستدل أنه يشترط في صحة إيجاب شيء إيجاب مقدمته أولا، ثم إيجاب نفس ذلك الشيء، لئلا يلزم التكليف بما لا يطاق، مع أن وجوب المقدمة من توابع وجوب ذيها يحصل بعد حصوله،
فيكون ذلك دورا لتوقف وجوب الواجب على وجوب ما يتوقف وجوبه على وجوبه.

[1] وهو صاحب الفصول - قده - على ما في هامش المخطوطة، راجع الفصول: 85 عند قوله:
(وأيضا وجوب المقدمة من لوازم وجوب الواجب وتوابعه المتوقفة عليه بالضرورة، فلا يكون مما يتوقف عليه وجوب الواجب... وإلا لكان دورا)..
412

لكن الإنصاف اندفاعه: بأن مراده: أنه لا بد من إيجاب المقدمة عند إيجاب ذيها ولو كان وجوبهما متقارنين في الزمان، لا أنه لا بد من إيجابها أولا ثم إيجاب ذيها، فمعنى ذلك إنما هو التلازم بين وجوب الواجب وبين وجوب مقدمته وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر، وهذا غير التوقف كما لا يخفى.
ومنها: ما عن المحقق السبزواري في رسالته المعمولة في هذه المسألة:
من أنه لو لم تجب المقدمة لزم أن لا يكون تارك الواجب المطلق عاصيا مستحقا للعقاب أصلا، لكن التالي باطل، فالمقدم مثله.
وأما الملازمة فلأنه إذا أوجب الشارع الحج ولم يوجب طي المسافة - مثلا - فترك المكلف الحج بترك طي المسافة، فهو لو كان مستحقا للعقاب فإما أن يكون زمن الاستحقاق هو زمان ترك المشي، وإما أن يكون زمان فعل الواجب نفسه، وهو في الحج يوم النحر، لا سبيل إلى شيء منهما:
أما الأول: فلعدم صدور عصيان منه بعد يستحق به العقاب، لأنه حينئذ لم يصدر عنه إلا ترك المقدمة، ولا يعقل كونه سببا لاستحقاقه لفرض جوازه.
وأما الثاني: فلعدم الأمر بالواجب بعد امتناعه في وقته بسبب ترك مقدمته، فلا يعقل تحقق العصيان بالنسبة إليه في ذلك الزمان لانتفاء العصيان.
وأما بطلان التالي فبديهي لا حاجة له إلى دليل.
هذا ملخص كلامه - قدس سره -، وهذا الدليل عين الدليل السابق المحكي عن أبي الحسين حقيقة، إلا أن التغاير بينهما إنما هو بأنه - قدس سره - لم يتردد في لازم عدم وجوب المقدمة كما صنعه أبو الحسين، بل اختار - على تقدير -
413

الشق الثاني من شقي الترديد المذكور ثمة، وهو انتفاء الوجوب.
والجواب عنه قد علم مما مر في الوجه السابق، وإن شئت توضيحه فنقول:
إنا نختار استحقاق العقاب في زمان ترك المقدمة على تقدير جوازها، فإن ترك المقدمة وإن [كان] - في حد نفسه - جائزا بالفرض، لكنه لما كان تركا حكميا للواجب المنجز عليه المتعلق به حال تمكنه منه لتمكنه من مقدمته بالفرض، إذ المفروض أنه تركها اختيارا، فيكون سببا لاستحقاق العقاب على ترك الواجب الآن ببناء العقلاء كافة، ألا ترى أنه إذا أمر مولى عبده بشيء ففوت العبد مقدمته على نفسه - بحيث امتنع به امتثال الواجب عليه في وقته - لا يتوقفون العقلاء [1] في استحقاقه للذم والعقاب في زمان ترك المقدمة من غير انتظار [2] إلى مجيء زمان الواجب.
وبالجملة: فلا ينبغي الارتياب في تحقق ترك الواجب حكما بترك مقدمته ولو على تقدير جوازها، ولا في كونه سببا لاستحقاق الذم والعقاب من حينه، فلا يلزم على تقدير جوازها عدم تحقق العصيان واستحقاق العقاب على ترك الواجب المطلق.
هذا مضافا إلى النقض عليه بلوازم الواجب، فإنه كما يمتنع الواجب بتفويت مقدمته، كذلك يمتنع بتفويت ما يلازمه في الوجود، مع أنه أيضا لا يقول

[1] يصح ما في المتن على لغة قليلة، وعلى اللغة المشهورة يكون صحيح العبارة هكذا: لا يتوقف العقلاء..
[2] قال - دام ظله - بالفارسية: بجهت اينكه حضور زمان واجب چيز تازه از براي ايشان... نمى آورد با اينكه انتظار أو را داشته باشند بلكه واجب الآن در حكم متروك شد بحيثى كه ديگر نخواهد.
414

بوجوب اللوازم، فما هو الجواب عنها فهو الجواب عن المقدمة على تقدير جوازها، فإن دفع الإشكال ثمة بأن سبب العقاب هو ترك الواجب حكما فليقل به هنا أيضا.
ولقد أجاد المحقق الخوانساري في مقام رد هذا الوجه وإن اختار أن استحقاق العقاب إنما هو في زمان نفس الواجب، حيث قال ما هذا لفظه - على ما حكي عنه -: (وفيه نظر أما أولا - فبالنقض: فإنه قد تقرر في محله أن كلا من طرفي الممكن لم يتحقق ما لم يصل حد الوجوب في الواقع، وعلى ما ذكر من أن الامتناع ولو كان بالاختيار ينافي العقاب يلزم أن لا يصح العقاب على ترك أو فعل أصلا.
والفرق بين حصول الامتناع في ذلك الآن الذي تعلق التكليف بالفعل فيه وبين حصوله في الآن السابق عليه تحكم محض، إذ الإمكان الذي هو شرط التكليف إنما يعتبر في زمان كلف بإيجاد الفعل فيه لا في زمان آخر، وانتفاؤه في ذلك الزمان حاصل في الصورتين بلا تفرقة، على أن كل ما يتحقق في زمان فلزوم امتناعه حاصل في الأزل بناء على قاعدة الترجيح بلا مرجح، وأن الشيء ما لم يجب لم يوجد، ولزوم التسلسل أو القدم مدفوع في محله.
وأما ثانيا - فبالحل: باختيار أن استحقاق العقاب في زمان ترك الحج وموسمه المعلوم.
قوله: الحج ممتنع بالنسبة إليه، فكيف يكون مستحقا للعقاب بتركه؟ قلنا: امتناعه إنما نشأ من اختيار سبب العدم، ومثل هذا الامتناع لا ينافي المقدورية).
والحاصل: أن القادر هو الذي يصدر عنه الفعل، بان يريد الفعل، فيجب حينئذ الفعل، أو لا يريده، فيجب حينئذ الترك والوجوب الذي ينشأ من الاختيار لا ينافي الاختيار، ولا فرق بين أن يكون الوجوب ناشئا من
415

أحد طرفي المقدور أو من اختيار سببه.
قال المحقق الطوسي في التجريد في جواب شبهة النافين لاستناد الأفعال التوليدية إلى قدرتنا واختيارنا: من أنها لا يصح وجودها وعدمها منا، فلا تكون مقدورة لنا: (والوجوب باختيار السبب لاحق) () كيف ولو كان الوجوب باختيار السبب منافيا للمقدورية لزم أن لا يكون الواجب تعالى بالنسبة إلى كثير من أفعاله قادرا - تعالى عن ذلك - لما تقرر من أن الحوادث اليومية مستندة إلى أسباب موجودة مترتبة منتهية إليه تعالى. انتهى كلامه.
ولا يذهب عليك: أن ما ذكره المحقق المذكور يوهم جواز التكليف بالممتنع بواسطة الاختيار، كما استفاد منه بعض من لم تسلم فطرته عن الاعوجاج، بل المذكور في الجواب هو التحقيق الذي لا محيص عنه من جواز العقاب على نفس المأمور به من دون مدخلية أمر، وامتناعه في ذلك الوقت لا يضر في العقاب على تركه بعد استناد الترك إلى اختياره، وكذا ما أفاده المحقق الطوسي صريح فيما ذكرنا.
نعم قوله: (ومثل هذا الامتناع لا ينافي المقدورية) بظاهره يوهم اتصاف المورد بالمقدورية بعد الاختيار إلا أن من المقطوع من حال ذلك العلامة أن مراده المقدورية حال الصدور. هذا.
ومنها: ما عن المحقق السبزواري أيضا بتوضيح منا: من أنه لو لم تجب المقدمة: فإما أن يكون الطلب المتعلق بذيها متعلقا به مطلقا حتى على تقدير عدم المقدمة، وإما ان يكون متعلقا على تقدير وجودها، ضرورة أن الطالب لشيء إذا التفت إلى الأمور المغايرة لمطلوبه فلا يخلو حاله من أنه إما أن يطلبه مطلقا
416

- وعلى جميع تقادير تلك الأمور من تقدير وجودها وتقدير عدمها -، وإما أن يطلبه على تقدير وجودها، لكن التالي باطل بكلا قسميه: - أما الأول: فلكونه تكليفا بغير المقدور، إذ يمتنع إيجاد الفعل حال عدم مقدمته، وأما الثاني: فلاستلزامه انقلاب الواجب المطلق إلى المشروط، حيث إن الكلام إنما هو في المقدمات الغير المتوقف
عليها وجوب ذيها، ولازم ذلك انتفاء العقاب على تركه بترك مقدمته لعدم وجوب الواجب عليه قبل وجود المقدمة، فلا يكون تركه منشأ للعقاب، ولا عقاب على ترك المقدمة أيضا لعدم وجوبها بالفرض، وهذا خلاف الضرورة، ضرورة ثبوت استحقاق العقاب حينئذ - فكذا المقدم.
قال: (وإنما قيدنا الأمور التي يلتفت إليها الطالب حين طلبه بالمغايرة احترازا عن الأجزاء).
وهذا الدليل حقيقة عين ما مر من أبي الحسين كما لا يخفى، وعين الدليل السابق منه - قدس سره -.
والجواب عنه: أولا - بالنقض بأجزاء نفس الواجب التي أخرجها بقيد المغايرة، لعدم الفرق بينها وبين المقدمات الخارجية من حيث مدخليتها في وجود الواجب، وكون عدمها سببا لانعدامه، فنقول: إن وجوبه بالنظر إلى تقديري وجودها وعدمها: إما مطلق، أو مشروط بوجودها:
فعلى الأول يلزم التكليف بما لا يطاق.
وعلى الثاني يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا فما هو الواجب عن هذا فهو الجواب عن ذلك.
وثانيا - بالنقض بلزوم المحذور المذكور على تقدير وجوب المقدمة أيضا، فإن منشأه إنما [هو] دوران الأمر بين تعلق الوجوب بالفعل مطلقا بالنسبة إلى تقديري وجود المقدمات وعدمها وبين تعلقه به على تقدير وجودها، فما هو الجواب عنه فهو الجواب لنا.
417

وثالثا - فلأن ذلك لو تم لكان مستلزما لنفي الواجب المطلق ونفي العقاب على ترك الواجبات رأسا، مع أنه لا يقول به، ولا دخل له بثبوت وجوب المقدمة أصلا.
ورابعا - أنه لو تم لاستلزم عدم صحة تكذيب الإخبار عن الأمور المستقبلة.
والتالي باطل بالضرورة، فكذا المقدم.
وأما الملازمة فلأنه لا فرق بين الإنشاء والإخبار من حيث كون الأمر في مؤدى كل منهما بالنسبة إلى الأمور المغايرة لمتعلقاتهما منحصرا في أحد الشقين المذكورين من الإطلاق والتقييد، فمن أخبر: بأني أشتري اللحم غدا، يعلم () أن مراده ليس اشتراء اللحم على تقدير عدم المقدمات لأول إخباره حينئذ إلى الإخبار عن الممتنع، فلا بد أن يكون مراده اشترائه على تقدير وجودها، ولا ريب أنه على تقدير وجودها يحصل الاشتراء البتة، فإذا جاء الغد ولم يشتر اللحم فهو ليس إلا لفقد شيء من مقدماته، ولا أقل من كونه هي الإرادة، فلازم ما ذكره عدم صحة تكذيبه حينئذ، لأنه لم يرد اشترائه على تقدير فقد مقدمته، بل على تقدير وجود مقدماته.
هذا كله بطريق النقض.
وأما الجواب عنه بالحل فتحقيقه: أنا نختار الشق الأول، وهو الطلب على كل من تقديري وجود المقدمات وعدمها، ولا محذور فيه، إذ الكلام في المقدمات الوجودية المقدورة للمكلف الصالحة لإطلاق الوجوب بالنسبة إليها، ولا يلزم منه التكليف بغير المقدور لفرض قدرة المكلف على إيجاد المقدمات، وأن تركها ليس إلا باختياره، فعليه أن لا يتركها حتى يمتثل الواجب المنجز عليه.
418

وإن أراد من تقدير عدمها تفويت المكلف إياها بحيث لا يتمكن منه بعده، فنقول: نحن نسلم ارتفاع الطلب به حينئذ مع ثبوت استحقاق العقاب لتركه الواجب وعصيانه الحكمي - كما مر - فارتفاع الطلب حينئذ لم يوجب خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا لثبوت أثره، وهو استحقاق العقاب.
وبالجملة: الطلب المتعلق بشيء إنما يكون على تقدير التمكن من مقدماته، لا على تقدير وجودها، والمفروض حصول التمكن للمكلف، فتفويته مقدماته بعد تمكنه عصيان لذلك التكليف، لا موجب لخروجه عن الوجوب المطلق.
وبذلك يندفع الإشكال عن الإخبار عن الأمور المستقبلة أيضا، فإن اشتراء اللحم - مثلا - إنما هو على تقدير التمكن من مقدماته، فإذا لم يشتر اللحم في الغد مع تمكنه منه فصحة تكذيبه إنما هو لذلك، لا نقول: إن القائل يقصد هذا التقيد، بل مرادنا أن هذا التقييد إنما يثبت من قبل العقل ولو لم يلتفت القائل إليه، فهذا الاعتبار لكون () قوله: (أشتري اللحم غدا) في قوة قوله:
(أشتريه غدا مع تمكني من مقدماته)، فإذا جاء الغد ولم يشتره مع تمكنه منه فقد كذب، فيصح تكذيبه لذلك حينئذ، فتدبر.
وأجاب - دام ظله - عن الدليل المذكور بنحو آخر أيضا، وتقريره:
أن إطلاق شيء بالنسبة إلى تقديرين أو تقييده بأحدهما، إنما يصح فيما إذا كان كل من التقديرين من أحوال ذلك الشيء بحيث يمكن حصوله على أي منهما، بأن يكون هو قد يحصل بهذا، وقد يحصل بذاك كما في الرقبة - مثلا - بالنسبة إلى تقديري الإيمان والكفر، فإنها يمكن حصولها مع كل منهما، فيصح
419

إطلاقها بالنسبة إليهما، كما يصح تقيدها بواحد منهما، لكن هذا غير متأت في المقام، فإن وجود الواجب الذي تعلق به الطلب لا يمكن حصوله على كل من تقديري وجود مقدماته وعدمها، بل حصوله ملازم عقلا لوجودها، وتقدير عدمها حقيقة إنما هو تقدير عدم نفس الواجب لامتناع وجوده حينئذ، فإذن لا يعقل أن يعتبر وجود الطلب عند تعلق الطلب به مطلقا بالنسبة إلى التقديرين، وهكذا الكلام في سائر اللوازم والملزومات التي ما نحن فيه منها، وكذا في كل متلازمين فإنه لا يعقل إطلاق أحدهما بالنسبة إلى تقديري وجود وعدم الآخر لما مر، فإذا لم يصلح الفعل لاعتبار إطلاقه بالنسبة إلى تقدير عدم مقدماته فلا يعقل اعتبار تقييده بتقدير وجودها أيضا، فإنه إنما هو لأجل دفع توهم الإطلاق، وهو مقطوع العدم لرجوعه حقيقة إلى طلب الشيء على تقدير عدمه أيضا، وهو غير معقول.
هذا كله في نفس الفعل الواجب، وأما الطلب المتعلق به فيمكن فيه كل من الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى تقديري وجود المقدمات وعدمها، فإنه يمكن حصوله على كل منهما، فإن قيد بتقدير وجودها يصير الوجوب مشروطا بوجود المقدمات، و [إن] أطلق فيكون مطلقا بالنسبة إلى المقدمات حاصلا قبل وجودها وحصولها من المكلف مع تمكنه منها، فإذا علم ذلك فنقول:
إن أراد المستدل اعتبار الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى نفس الفعل المأمور به فقد ظهر فساده.
أقول: مع أنه على تقدير تقييده بتقدير وجود المقدمات لا يكون ذلك مستلزما لصيرورة الوجوب مشروطا، بل هو حينئذ أيضا مطلق إلا أن متعلقه مقيد.
وإن أراد اعتبارهما بالنسبة إلى نفس الطلب فنختار إطلاقه بالنسبة إلى التقديرين، بمعنى أنه متعلق بالفعل ومتوجه إلى المكلف سواء كان المكلف قد أوجد مقدماته، أو لم يوجد منها شيئا.
420

وبعبارة أخرى: إنه متوجه إليه بعد حصول التمكن له من مقدمات الفعل وإن لم يفعلها بعد، وإذا فوت بعد ذلك شيئا من المقدمات بسوء اختياره يرتفع ذلك الطلب لعدم قابلية المحل حينئذ لبقائه لفقد التمكن، لا لعدم وجود المقدمات مع ثبوت استحقاق العقاب حينئذ - إما في زمان ترك المقدمة أو في زمان فعل الواجب على اختلاف القولين - فلم يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه كذلك، حتى ينفي استحقاق العقاب، وليس معنى الواجب
المطلق إلا هذا، أعني ما يكون الطلب به متعلقا مع تمكن المكلف منه ولو لم يأت بعد بمقدماته الوجودية، ومرتفعا عنه بعد رفع التمكن، وموجبا لاستحقاق العقاب إذا كان رفعه بسوء الاختيار، وهذا بعينه موجود في المقام.
هذا، ومما حققنا - من عدم جواز اعتبار إطلاق وجود الشيء أو تقييده بالنسبة إلى تقديري وجود ملزوماته أو لوازمه وعدمها، وأنه مختص بنفسه في تقدير وجودها - يتضح الحال في الإخبار عن فعل شيء في المستقبل.
وتوضيحه: أن وجود المخبر به لا يعقل فيه الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى تقديري وجود مقدماته وعدمها، لكن نفس الإخبار ليس متقيدا بتقدير وجودها، بل بالتمكن منها ولو لم توجد بعد، فقوله: (افعل غدا كذا) في قوة (أفعل مع التمكن منه) فإذا جاء الغد ولم يفعل مع تمكنه من مقدماته وتركه بترك مقدماته يصح () تكذيبه لذلك.
هذا خلاصة ما أفاده - دام ظله -.
ومنها: ما ذكره بعضهم من أنه لو لم تجب المقدمة لجاز التصريح بجواز
421

تركها.
والتالي باطل، فالمقدمة مثله.
أما الملازمة فلأن انتفاء الوجوب إما بانتفاء فصله، وإما بانتفاء جنسه، وعلى التقديرين يجوز الترك مع انتفائه، لأن الجواز يعم جميع الأحكام غير الحرمة.
وأما القول بالجواز عقلا لا شرعا - بعد تسليم التفكيك بين حكميهما - مما لا يجدي، لأن المقدمة المفروضة في محل البحث هي ما يكون من مقولة أفعال المكلف، فلا بد أن تكون محكومة بأحد الأحكام، ضرورة فساد كون فعل المكلف خاليا عن الحكم أصلا كأفعال البهائم والمجانين.
وأما بطلان التالي فلأنه لا يرتاب أحد في قبح التصريح بالجواز من الحكيم.
وفيه: أن الجواز: تارة يلاحظ بالنظر إلى المقدمة من حيث هي مع قطع النظر عن كون تركها مؤديا إلى ترك الواجب، وأخرى بالنظر إليها مع ملاحظة كون تركها مؤديا إلى تركه، وقد عرفت سابقا أن الثاني حقيقة راجع إلى جواز ترك الواجب وعبارة أخرى عنه، فلا يصح التصريح به لأجل كونه حقيقة تصريحا بجواز ترك الواجب، وأن معنى جوازها الذي يدعيه القائل به هو الأول، لكنه لا يلازم جواز التصريح به، بل يقبح التصريح به كما ذكره المستدل، وقبح التصريح ليس لعدم الجواز واقعا، بل لخلوه عن الفائدة، إذ لا بد للمكلف بالواجب المطلق [من] الإتيان بها تحصيلا للواجب ولو لم تكن هي واجبة في نفسها، فلا يصدر التصريح به عن الحكيم.
نعم التصريح المثمر إنما هو التصريح بالجواز على الوجه الثاني، إذ معه يستريح المكلف عن مشقة التكليف بالواجب.
لكن عرفت فساده لفرض بقاء الوجوب بالواجب، ومعه يكون هذا
422

التصريح آئلا إلى التناقض.
وكيف كان، فامتناع التصريح بالجواز لا يلازم انتفاء الجواز شرعا، حتى يقال بأنه يلزم خلوه عن الأحكام، بل الجواز الشرعي يمكن ثبوته مع امتناع التصريح به وبيانه، بل أوكل الشارع بيانه إلى العقل.
وبعبارة أخرى: إن للشارع مانعا عن بيان الجواز بلسانه، فنبه بلسان العقل وأوكل البيان إليه [1]، فلا يلزم التفكيك ولا خلو الواقعة عن الحكم، ومراد من قال بأن الحكم بجواز الترك هنا عقلي لا شرعي أن بيان الجواز هنا إنما هو بلسان العقل، لا الشرع لعدم الفائدة فيه، فيقبح صدوره منه.
ومراده بالتفكيك بين حكمي العقل والشرع إنما هو التفكيك في البيان، لا الحكم نفسه، حتى يمتنع التفكيك.
هذا، ولهم وجوه أخرى أعرضنا عنها لعدم الفائدة في التعرض لها ()، والمعتمد هو الوجه الأول، وبعده الثاني، وعليهما نعول، ونختار وجوب المقدمة مطلقا بالوجوب الغيري المولوي وفاقا لشيخنا الأستاذ - قدس سره - ولسيدنا الأستاذ - دام ظله - ()، ومنهما يظهر فساد حجة النافين لوجوبها مطلقا أيضا، وكذا فساد حجج القائلين بالتفصيل أيضا، فلا نطيل الكلام بذكر حجج النافين مطلقا، لكن لا بأس بالتعرض الإجمالي لحجج المفصلين، فنقول:

[1] قال - دام ظله - بالفارسية: بجهت اينكه عقل كأرش واقع تجويز است ونظر به قبح ندارد پس در وقتي كه إدراك كرد چيزى را ميگويد كه جائز است وأما شارع چون بايد فعل أو مبني بر فائدة بأشد فلذا نميتواند تصريح بجواز ترك نمايد.
423

حجة القول بالتفصيل بين السبب وغيره كما يظهر من صاحب المعالم () - قدس سره -، أما على وجوب السبب فوجهان:
أحدهما: عدم ظهور الخلاف فيه ().
وثانيهما: أن القدرة غير حاصلة مع المسببات ()، فيبعد تعلق التكليف بها وحدها.
وأيد الوجه الثاني بقوله: (بل قد قيل: إن الوجوب في الحقيقة لا يتعلق بالمسببات.). إلى آخر ما ذكره، وإن ضعف هذا القول بمنع عدم تعلق القدرة بالمسببات.
وأما على عدم وجوب غير السبب فينفي () دلالة الأمر عليه مطلقا، بدعوى صحة تصريح الآمر بعدم وجوبه. هذا.
ويتجه على ما احتج به على وجوب السبب:
أما على الوجه الأول فمنع حجية عدم ظهور الخلاف في إثبات المدعى.
وأما على الثاني فمنع () حجية الاستبعاد.
ويتجه على تأييده أيضا - بما قيل من تعلق التكليف بالمسببات - أنه ()
424

على تقدير ثبوته لا يثبت الوجوب المتنازع فيه في المقام بل إنما يثبت الوجوب النفسي للسبب، ضرورة أن التكليف المتعلق بالمسبب نفسي، فإذا قلنا بتعلقه بالسبب فهو حينئذ واجب نفسا، والمقصود في المقام إثبات وجوبه الغيري لا غير.
وعلى ما احتج به على نفيه عن غير السبب:
اما على الوجه الأول: فبما عرفت في تحرير محل النزاع من أنه ليس النزاع في إثبات دلالة الأمر عليه، بل النزاع في ثبوت التلازم عقلا بين وجوب شيء وبين وجوب مقدمته، فتأمل.
وأما على الثاني: فإنه يقبح التصريح بعدم الوجوب قطعا كما يظهر للمتأمل، فدعوى صحته مكابرة للوجدان.
حجة القول بالتفصيل بين الشرط الشرعي وبين غيره بوجوب الأول دون غيره:
أما على الثاني: فما احتج به النافون للوجوب مطلقا.
وأما على الأول: فما احتج به ابن الحاجب على ما حكي () عنه: بأنه لو لم يكن الشرط الشرعي واجبا لم يكن شرطا، والتالي باطل لكونه خلاف الفرض ()، فكذا المقدم.
بيان الملازمة: أنه [لو] لم يجب الشرط لكان للمكلف تركه، فحينئذ إذا أتى بالمشروط فلا يخلو إما أن يكون آتيا بتمام المأمور به، أو لا.
لا سبيل إلى الثاني، فإن المفروض أن الشرط غير واجب، فيكون المأتي به تمام ما يجب عليه، فيثبت الأول، فحينئذ لم يكن الشرط شرطا، لأن الإتيان
425

بتمام المأمور به يقتضي الصحة والإجزاء، وتحققه بدون الشرط ينافي الشرطية.
انتهى.
وكأنه جعل الشرط أمرا مستقلا، حيث إنه حكم بأنه على تقدير عدم وجوبه يحصل المأمور به بتمامه بدونه.
وكيف كان فيتجه عليه:
أولا - النقض بلزوم المحذور المذكور على تقدير وجوبه أيضا، فإنه على تقدير وجوبه يكون وجوبه غيريا، والمأمور به هو ما تعلق به الوجوب النفسي فإذا تركه المكلف عصيانا وأتى بالمأمور به بدونه فهو آت بتمام المأمور به، وهو ينافي الشرطية.
وثانيا - أن الشرط الشرعي وإن كان يفارق الشروط العقلية من حيث إنه بحيث لو وجد يوجب حدوث وصف في المشروط يكون ذلك الوصف مأخوذا في مطلوبية المشروط كالطهارة، حيث إنها إذا وجدت تحدث في الصلاة المشروطة بها وصفا، وهو كونها مع الطهارة، ويكون هذا الوصف مأخوذا في مطلوبية الصلاة، وهكذا سائر الشرائط الشرعية بخلاف الشروط العقلية، فإنها لا تحدث عند وجودها وصفا في المشروط يكون ذلك الوصف دخيلا في مطلوبيته، كنصب السلم مثلا - للصعود إلى السطح، وكطي المسافة للحج، حيث إنهما على تقدير وجودهما لا يحدثان في المشروط وصفا معتبرا في مطلوبيته.
لكن هذا الفرق لا يصلح وجها للفرق فيما هو المناط في وجوب المقدمة، بل التحقيق: أن الشروط الشرعية كالعقلية في ذلك، بل هي في الحقيقة راجعة إلى تلك، إذ الشارع لا يجعل شيئا شرطا لمطلوبه إلا إذا اعتبره على نحو وكيفية لا يحصل هو على تلك الكيفية إلا بذلك الشرط، فبعد اعتباره ذلك في مطلوبه يستحيل وجوده بدون الشرط كما إنه يستحيل وجود المأمور به بدون الشروط العقلية.
426

والحاصل: أن الشروط الشرعية وإن كانت نفسها خارجة عن المأمور به، لكن تقيدها داخل فيه، فيستحيل وجوده بدونها كاستحالة وجوده بدون الشروط العقلية الصرفة، فإذا رجعت الشروط الشرعية إلى العقلية بطل () التفصيل المذكور.
ومن العجب أنه حكم على تقدير عدم وجوب الشرط بكون الآتي بالمأمور به بدونه آتيا بتمام المأمور به، لأن تقيده - كما عرفت - داخل فيه، فكيف يعقل كونه آتيا بتمام المأمور به بدون الإتيان بالشرط؟ فإن تماميته هو الفعل بوصف كونه مقرونا بالشرط الشرعي، فإذا لم يأت بالشرط ولو لم يكن واجبا كيف يعقل حصول تمام المأمور به؟ ولذا قلنا: كأنه جعل الشرط الشرعي أمرا مستقلا أجنبيا عن المأمور به، فكان الأولى أن يقول: لا سبيل إلى الأول، لا إلى الثاني. هذا.
ثم إنه لا بأس بذكر عدة من أدلة النافين بوجوب المقدمة مطلقا، فنقول:
منها: دعوى صحة التصريح بجواز تركها.
وفيه ما عرفت.
ومنها: أنها لو كانت واجبة لوصل إلينا على وجه العلم بتواتر ونحوه، لتوفر الدواعي وعموم البلوى ولم يصل إلينا ظنا فضلا عن العلم به.
وفيه: أن وجوبها مما يدعى كونه ضروريا، بل لعله كذلك، فيكون غنيا عن البيان.
وما ترى من وقوع الخلاف فيه لا ينافي ذلك لوقوع مثله كثيرا في مثله، بل في ما [هو] أوضح منه.
هذا، مع أن الخلاف قد نشأ من المتأخرين، وإلا فذلك من المسلمات عند
427

القدماء، كما يظهر للمتتبع في كتبهم.
ومنها: أنها لو كانت واجبة لعصى تاركها بتركها. التالي باطل، فالمقدم مثله.
وفيه: ما عرفت من منع تحقق العصيان بترك الواجب الغيري.
ومنها: أنها لو وجبت لثبت قول الكعبي بنفي المباح، لأن ترك الحرام لا يحصل إلا بفعل ضده، فتكون الأفعال المباحة واجبة تخييرا مقدمة لترك الحرام، فتخرج عن كونها مباحة.
وفيه: [ما] يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى - فيما بعد من أن فعل الضد ليس مقدمة للترك، بل هو الصارف عن الحرام، ووجوبه لا يستلزم نفي المباح.
ومنها: أنها لو كانت واجبة لترتب الثواب على فعلها، والتالي [باطل]، فالمقدم مثله.
وفيه: ما عرفت من عدم تحقق الإطاعة في الإتيان بالواجب الغيري التي هي المناط في استحقاق الثواب.
ومنها: أنها لو وجبت لوجب نيتها، والتالي [باطل] بالإجماع على عدم وجوب نية المتوضئ غسل كل جزء جزء من الرأس ().
وفيه: أن وجوب النية إنما هو في الواجبات النفسية التعبدية، لا في كل واجب.
ومنها: أنها لو وجبت لكانت زيادة على النص [1]، والتالي باطل لكونه نسخا.

[1] إذا ورد دليل على وجوب شيء، ثم جاء دليل آخر على وجوب أمر زائد على ذلك الشيء - كأن دل دليل على وجوب مركب ذي خمسة أجزاء، ثم جاء دليل على وجوب جزء آخر في ذلك المركب -
يسمى () الدليل الثاني في الاصطلاح زيادة على النص، ويكون هو ناسخا للحكم الأول.
لمحرره عفا الله عنه.
428

وفيه: أن النص - وهو الأمر بذي المقدمة - متضمن لوجوب المقدمة، بمعنى أن وجوبها يستفاد منه تبعا، ولسنا نقول: إن وجوبها على تقديره بدليل آخر، حتى يكون مثل ما دل على وجوب السورة في الصلاة بعد الأمر بها بدون السورة - مثلا - حتى يكون زيادة على النص، فيكون نسخا.
هذا تمام الكلام في المرام ختم الله أمورنا بخير ختام بنبيه محمد صلى الله عليه وآله البررة الكرام.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول:
أن الكلام في مقدمة المندوب هو الكلام في مقدمة الواجب، والمختار فيها المختار في تلك بعين ما مر، فالطالب لشيء ندبا يلزمه حصول حالة إجمالية في نفسه بالنسبة إلى مقدمات المندوب بحيث لو جاءت في قالب اللفظ لكانت طلبا أصليا ندبيا لها ().
الثاني:
أن من أقسام الواجب ترك الحرام [1]، فتدخل مقدمته في مقدمة الواجب، ويكون من أفرادها.

[1] المراد بترك الحرام الذي هو من أفراد الواجب هو الترك الاختياري، فإنه هو الذي يقبل بتعلق التكليف به، ويتصف بالوجوب، وتدخل مقدمته في مقدمة الواجب.
لمحرره عفا الله عنه.
429

وليعلم أن مقدمة الترك منحصرة في السببية، لما مر غير مرة من أن الوجود لا يتحقق إلا بعد تحقق جميع المقدمات من الخارجية والداخلية، وأما العدم فيكفي فيه عدم إحدى مقدمات الوجود، ويكون انتفاء واحدة منها وحدها سببا لعدم ذي المقدمة، فيكون ترك كل مقدمة منفردة علة تامة للترك.
وإن شئت قلت: إن ترك شيء لا يكون إلا مع وجود سبب الترك، وكل واحدة من مقدمات الوجود يكون تركها سببا للترك، فمقدمة الترك سبب له دائما.
ثم إنه إذا كان للمعلول - وجودا كان أو عدما - علل متعددة فهو مستند إلى الجميع إذا تواردت في المحل دفعة
واحدة، فالعلة له حينئذ هو المجموع، وإلى أسبق منها وجودا إذا تواردت في المحل تدريجا، لأنه لا يعقل التفكيك بين المعلول وبين علته، والمفروض كون الأولى علة له، فمع تحققها مفردة عن البواقي يترتب () عليها المعلول، فلا يعقل إذن تأثير البواقي فيه لاستلزامه لتحصيل الحاصل، وهذا واضح لا حاجة له إلى البرهان.
وإذا تمهد هذا فنقول: إن الفعل المحرم لا يكون محرما إلا مع الاختيار، وإلا فمع الاضطرار إليه لا يعقل النهي عنه بالضرورة، وسبب الترك في الأفعال الاختيارية إنما هو الصارف عنها، لا الأفعال المضادة لها، وذلك لأن عدم كل فعل إنما هو لفقد مقدمة من مقدمات وجوده، فإن كل واحدة منها من جهة الانتفاء عند الانتفاء علة تامة كما مرت الإشارة إليه، وقد عرفت أنه إذا كان لمعلول علل متعددة متدرجة فهو مستند إلى أسبقها، ومن المعلوم أن أسبق علل ترك الفعل الاختياري إنما هو الصارف عنه وعدم الإرادة له ()، ضرورة أن الفعل الاختياري
430

يجب عند إرادته، ويمتنع بدونها وإن كان سائر مقدمات وجوده موجودة، فعليه عدمه إنما هو عدم الإرادة المعبر عنه بالصارف لا غير.
فمن هنا بطل قول الكعبي [1] بمقدمية فعل المباح لترك الحرام، فيجب لذلك، فيلزم انتفاء المباح رأسا، وسيأتي زيادة توضيح لذلك فيما بعد - إن شاء الله - فانتظر.
الثالث ():
إذا علم مقدمية أمر للواجب فقد عرفت الحكم فيه، وأما إذا شك في أصل المقدمية فيجري استصحاب عدم الوجوب الغيري مطلقا واستصحاب عدم جعل ذلك الأمر شرطا أو جزء أو مانعا إذا كان الشك في مقدميته شرعا، ولا يعارضه استصحاب شغل الذمة بما يحتمل كونه شرطا له، بل هذا حاكم عليه كما لا يخفى.
وأما أصالة البراءة فلا مجال لها فيما إذا كان الشك في مقدميته عقلا أو عادة كاستصحاب عدم المقدمية، ضرورة أن الواجب ليس مقيدا بشيء من المقدمات العقلية أو العادية وإن كان لا يحصل بدونها، فليس في تركها مع الإتيان

[1] راجع شرح المختصر للعضدي: 1 - 90 و 96، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي 1: 107، وشرح اللمع للشيرازي 1: 192 وغيرها.
والكعبي هو أبو القاسم بن أحمد بن محمد البلخي الكعبي، من متأخري متكلمي المعتزلة البغداديين، وتنسب إليه الطائفة الكعبية، وله آراء خاصة في علم الكلام والتفسير وفي الأصول منها هذه الشبهة.
أقام ببغداد مدة طويلة، ثم عاد إلى بلخ، وتوفي بها في شعبان سنة 319 ه‍.
من آثاره المقالات، وهو تفسير كبير في اثني عشر مجلدا، وكتب في علم الكلام منها أوائل الأدلة في أصول الدين.
معجم المؤلفين 6: 31، وتاريخ بغداد 9: 384، ولسان الميزان 3، 255، وطبقات المعتزلة: 88 - 89.
431

بالواجب - إذا فرض إمكان الإتيان به بدونها - احتمال المؤاخذة والعقاب أصلا، حتى ينفى بأصالة البراءة.
ومن هنا يعلم وجه عدم جريان استصحاب عدم المقدمية فيها أيضا، وتوضيحه:
أن صفة المقدمية في المقدمات العقلية والعادية إنما هي من الأمور الملازمة لذات الشيء من أول الأمر إلى آخر الأبد، ولا يعقل فيها تحققها في زمان بدون تلك الصفة حتى يستصحب عدمها.
هذا بخلاف المقدمات الشرعية، فإن صفة المقدمية فيها إنما هي من الأحكام الوضعية الجعلية المسبوقة بالعدم، فيجري فيها الاستصحاب لذلك.
واما إذا كان الشك في مقدميته شرعا فهذا هو محل النزاع في جواز إجراء أصالة البراءة في الشك في الجزئية والشرطية، وتحقيق الكلام فيه يعلم بالنظر إلى تلك المسألة، والمختار فيها جريانها.
ومجمل الاحتجاج عليه: أنه لو كان الواجب مقيدا في الواقع بوجود ذلك الأمر المشكوك - في جزئيته أو شرطيته له - معه، أو بعدم ما شك في مانعيته له مع عدم قيام حجة على ثبوت هذا التقيد لكان التكليف به على ذلك الوجه قبيحا، ويقبح المؤاخذة عليه عقلا.
هذا مضافا إلى شمول أخبار البراءة لمثل المقام أيضا فأصالة البراءة - سواء لوحظت من باب العقل أو من باب التعبد - جارية في المقام ومحكمة، ولا يعارضها استصحاب شغل الذمة بالواجب، بل هي حاكمة عليه، بل لا معنى لاستصحاب الشغل أيضا، فإن القدر المعلوم من الشغل قبل الإتيان بالفعل إنما هو بالنسبة إلى المقدار المعلوم دخوله في المأمور به، وهو مرتفع بعد الإتيان [به] قطعا، فلا مجرى لاستصحاب عدمه.
432

وأما بالنسبة إلى أزيد من ذلك المقدار فلا ريب أن الجاري إنما هو استصحاب عدم الشغل، لا استصحاب بقائه، فافهم.
الرابع ():
المرجع في تمييز مقدمية شيء شرعا وعدمها إنما هي الأدلة الشرعية، كما أن المرجع في تمييز مقدميته عقلا أو عادة إنما هما لا غير، ومن المعلوم عدم طرو الشك في المقدمية العقلية والعادية وعدمها غالبا، لإمكان تميز ذلك بالحس كذلك.
نعم قد خفي مقدمية بعض الأمور عقلا وعدم مقدميته كذلك، وهذا كما في مقدمية ترك أحد الضدين للآخر وعدمها، فلا بأس بالتعرض لتحقيق الحال فيه حسبما يسعنا المجال، بل لا بد منه، فإنه إنما [هو] مبنى الكلام في المسألة الآتية المهمة، المتفرعة عليها فروع لا تحصى، فنقول - بعون الله الملك المتعال وحسن توفيقه -:
إنهم اختلفوا في أن ترك أحد الضدين مقدمة لوجود الآخر، أو لا.
المشهور أنه مقدمة مطلقا، وذهب بعض الأعلام () إلى ذلك فيما إذا كان الضد موجودا بالفعل في المحل، وأما بدونه فلا، والظاهر هو العدم مطلقا.
والذي احتج به للمشهور أو يمكن أن يحتج به هو أن يقال: إنما لو فرضنا اجتماع جميع أجزاء علة أحد الضدين في المحل عدا أنه مشغول بالضد الآخر نرى أنه يمتنع عقلا وجود ذلك الضد المفروض اجتماع أجزاء علته، فيكشف ذلك عن عدم تمامية علته، وإلا لامتنع التفكيك، والمفروض أن جهة
433

النقصان فيها إنما هي من حيث اشتغال المحل بالضد الآخر، إذ المفروض أنه لو يشتغل به يحصل ذلك قطعا، فيكشف ذلك عن مانعية وجود الضد للضد الآخر وكون عدمه معتبرا في علة وجوده. هذا.
ويمكن المناقشة فيه:
أما أولا - فبالنقض من وجوه:
الأول: بفرض اجتماع جميع أجزاء علتي الضدين معا وتواردهما في المحل الخالي عنهما دفعة من دون سبقه باشتغاله بأحدهما، فلو كان جزء علة كل منهما هو عدم الآخر في المحل حال وجود سائر أجزاء علته - كما هو نتيجة الدليل المذكور - فلا ريب في تحققه في تلك الصورة بالنسبة إلى كل واحد منهما، مع أنه لا شبهة في امتناع وجود شيء منهما فيها، فيكشف ذلك عن أن الشرط شيء آخر غير ما ذكر.
لا يقال: إن حكم تحقق علة الضد الآخر مع علة الضد حكم وجود نفس ذلك الضد حال تحقق علته، بمعنى أن الشرط إنما هو عدم وجود الضد الآخر أو ما يلزمه مع علة ذلك الضد، فالشرط في الصورة المفروضة مفقود.
لأنا نقول: لا تعاند ولا تمانع بين نفس علتي الضدين جدا، ولا تنافي بين أنفس هاتين () بوجه، بل إنما جاء المنافاة من قبل معلوليهما، فإنهما اللذان يمتنع اجتماعهما، فلا معنى لاشتراط عدم العلة نفسها في وجود الضد الآخر، ويكشف عن ذلك عدم صحة تخلل كلمة فاء بين انتفاء أحد الضدين وبين وجود علة الآخر بان يقال:
وجدت تلك فعدم هذا، كما هو الشأن في العلل مع معلولاتها، بل يعد ذلك مستهجنا جدا لعدم الربط بينهما بوجه.
الثاني: بلوازم الضدين: إذ مع وجود لازم من لوازم أحدهما يمتنع وجود
434

الآخر بالضرورة، مع أنهم لا يقولون بكون عدم لازم أحد الضدين مقدمة للآخر.
الثالث: بالنقيضين وبلوازمهما: بتقريب ما مر في لوازم الضدين، مع أنهم لا يقولون بكون انتفاء أحد النقيضين أو انتفاء لازمه مقدمة لوجود الآخر، وليس لأحد [أن] يلتزمه، ضرورة أن حيثية وجود أحد النقيضين إنما هو عين حيثية عدم الآخر فإن الوجود الذي هو نقيض للعدم ليس في المعنى إلا عدم العدم، واختلافهما إنما هو من حيث المفهوم لا اللب، وكذلك العدم إنما هو عين عدم الوجود في المعنى، وهكذا الحال في لوازمهما، فإن وجود لازم أحدهما عين عدم الآخر ولازمه، فالعلة لتحقق أحد النقيضين إنما هي عين علة عدم الآخر وعدم لازمه، فهما معلولان لعلة واحدة كما هو الحال في المتضايفين أيضا، فليس أحدهما علة لفناء الآخر ومانعا منه، حتى يكون عدمه شرطا فيه.
وأما ثانيا - فبالحل، وتوضيحه:
أن الشرط لتحقق كل واحد من الضدين بعد فرض استجماعه لسائر أجزاء العلة إنما هو قابلية المحل لا انتفاء الآخر.
وبعبارة أخرى: الشرط إنما هو عدم استلزام وجوده محالا، ففي الصورة التي فرضت في الاستدلال لو وجد أحد الضدين مع اشتغال المحل بالآخر لكان وجوده مستلزما للمحال، وهو اجتماع الضدين بل عينه، فإن وجوده مع فرض وجود الآخر اجتماع للضدين، فانتفاؤه مستند إلى لزوم هذا المحال، لا إلى وجود الآخر من حيث هو، حتى يقال: إنه علة لفنائه، فيكون عدمه من أجزاء العلة.
فإن قلت: هب أن انتفاء أحد الضدين ليس شرطا من حيث هو أولا وبالذات، لكنه شرط لما سلمت شرطيته، وهو قابلية المحل، إذ معه يخرج المحل عن القابلية كما اعترفت به، والشرط بشرط الشيء شرط لذلك الشيء بالأخرة، فثبت التوقف والشرطية.
435

قلنا: إن ارتفاع الضد الآخر الموجود في المحل وإن كان يحصل معه قابلية المحل لوجود المتأخر إلا أن هذا ليس من باب المقدمية لتحقق قابلية المحل، بل من أنحائه، فإن خروجه عن القابلية إنما هو باجتماع الضدين المحال، والقابلية عن ارتفاع ذلك المحال، وله أنحاء:
أحدها: ارتفاعهما جميعا عن المحل.
وثانيها: ارتفاع هذا الضد.
وثالثها: ارتفاع ذاك، فتأمل.
لا يقال: إن قابلية المحل - على ما اعترفت به - أمر كلي، وله أفراد ثلاثة منها ارتفاع ذلك الضد الخاص، فثبت مقدمية ذلك الفرد لذلك الكلي، لأن الفرد مقدمة لتحصيل الكلي.
لأنا نقول: الفرد عين الكلي لا مقدمة له، فإنه إذا وجد يصير فردا.
هذا، لكن الإنصاف أن منع مقدمية انتفاء أحد الضدين لوجود الآخر - بعد الاعتراف بأنه عين قابلية المحل التي هي مقدمة له البتة - بعيد عن الإنصاف إلى الاعتساف، فإن هذا اعتراف بكون نفس انتفاء أحد الضدين مقدمة بلا واسطة، وهو أولى من كونه مقدمة معها، فثبت مطلب المستدل.
والحاصل: أن للمستدل أن يقول حينئذ: إنه إذا ثبت أن وجود أحد الضدين مخرج للمحل عن قابلية وجود الآخر فيه، ثبت () كونه مانعا من الآخر من تلك الجهة، فثبت التمانع بين الضدين، فيكون عدم كل واحد منهما شرطا لتحقق الآخر، فحينئذ إذا فرض الضدان من مقولة الأفعال مع فرض تعلق الطلب المنجز بأحدهما، فهو يقتضي النهي عن الآخر لكونه مانعا، ويلزمه ارتفاع الأمر من الآخر لامتناع اجتماعه مع النهي ولو كان غيريا.
436

مع أنه لا يعقل بقاؤه من جهة أخرى أيضا: وهي أنه لو بقي لكان مستلزما لإرادة المحال، وهو اجتماع الضدين، لعدم الفرق بين أن يكون أمر واحد تعلق بنفس اجتماعهما أو يكون أمران فعلا يتعلق كل منهما بواحد منهما، ولا يمكن القول برفع هذا المحال برفع الأمر المنجز لفرض ثبوته كيف كان، وإن كان على تقدير ارتفاعه يوجب ارتفاع ذلك المحال، فلا بد من أن يكون ارتفاعه بارتفاع الأمر من الضد الآخر، وسيجئ توضيح ذلك في المسألة الآتية - إن شاء الله - فانتظر.
وقد يورد على المشهور أيضا: بأن ثبوت التمانع بين الضدين - كما قالوا به - مستلزم للدور، ضرورة أن وجود كل من المتمانعين يتوقف على عدم الآخر، وعدم الآخر أيضا يتوقف على وجود ما يتوقف وجوده على عدمه، لأن توقف الوجود على العدم إنما جاء من علية وجود أحدهما لعدم الآخر، فيتوقف وجود كل منهما على وجود نفسه، وهو دور صريح، وهو باطل، فملزومه - وهو ثبوت التمانع بين الضدين الذي صار منشأ للتوقف - مثله.
وأجاب عنه المحقق الخوانساري - قدس سره - على ما حكي عنه:
بأن التوقف وإن جاء من جهة التمانع، لكن عدم كل منهما لا ينحصر سببه في وجود الآخر [1]، بل يمكن أن يكون مستندا إلى فقد مقتض له أو شرط من شروطه، فإنه كما ينعدم كل منهما بوجود الآخر، كذلك ينعدم بعدم المقتضي أو الشرط، فلا يتوقف عدم كل منهما على وجود الآخر، فاندفع الدور.
ثم قال قدس سره: وإن فرض في المورد اجتماع جميع مقتضيات وشرائط

[1] قال دام ظله: ويمكن أن يكون العدم مستندا إلى وجود ضد ثالث في المحل، كما في الأضداد التي لها ثالث، فتأمل.
437

كل منهما بحيث لم يكن مانع من وجود كل منهما إلا اجتماعه مع الآخر، فحينئذ وإن [كان] ذلك على فرض تحققه مستلزما للدور، لكن نقول بامتناع ذلك الفرض، ومعه لا وقع لإيراد الدور.
قال دام ظله: وتوضيح عدم توجه إيراد الدور حينئذ: أن مقتضى قاعدة المناظرة في إيراد الدور أن يحرز المورد أولا وقوع صورة فرض فيها الدور أو إمكان وقوعها لا محالة، بأن يكون أصل إمكانها مفروغا عنه من () المتخاصمين، ثم يعترض على خصمه: بأن لازم مقالتك امتناع تلك الصورة لاستلزامها الدور فيها، مع أن الفرض إمكانها، فانتفاء الملزوم كاشف عن فساد الملزوم [1]، وهو ما يدعيه، وأما إذا لم يحرز ذلك فللخصم أن يدعي امتناع تلك الصورة وجعل لزوم الدور فيها دليلا على الامتناع.
هذا، ثم قال المحقق المذكور - قدس سره -: وهنا كلام آخر، وهو أنا ندعي: أن الترك الذي هو مقدمة للوجود إنما هو الترك المسبوق بالوجود لا مطلقا، بمعنى أن الشرط لوجود كل من الضدين إنما هو عدم الآخر في المحل على تقدير وجوده، وأما عدمه الأزلي فلا. انتهى.
وتوضيح اندفاع الدور على هذا التفصيل: أن الصورة المفروضة للدور صورة اجتماع جميع أجزاء علة كل من الضدين مع عدم اشتغال المحل بأحدهما، ومن المعلوم أن عدم كل منهما حينئذ أزلي، لا مسبوق بالوجود،
فليس شيء من عدميهما () كذلك مقدمة للآخر حتى يلزم الدور.

[1] في العبارة ملزومان ولازمان: فالملزوم الأول هو مقالة الخصم، ولازمها امتناع الصورة التي فرض فيها الدور. والملزوم الثاني هو نفس الصورة التي فرض فيها الدور، ولازمها هو الدور.
438

وبهذا يندفع الدور عن صورة اشتغال المحل بأحدهما أيضا فإن المتأخر من الضدين حينئذ وإن كان متوقفا على عدم السابق بعد وجوده، لكن وجود السابق لم يكن متوقفا على عدم اللاحق الأزلي [1].
ثم إن وجه اختياره - قدس سره - لهذا التفصيل: أنه رأى أن مقدمية ترك أحد الضدين لوجود الآخر إنما جاءت من جهة التمانع بينهما، وأن المانع من كل منهما إنما هو وجود الآخر في الخارج، ضرورة عدم التمانع بينهما من حيث التقرر الماهيتي () والوجود الذهني، فيكون الشرط لكل منهما انتفاء وجود الآخر لا عدمه الأزلي.
لكن يتجه عليه: أن مقتضى التمانع بينهما على تقديره أن لا يكون شيء منهما مقرونا بالآخر عند وجوده، فالشرط الناشئ من جهته إنما هو عدم اقتران كل منهما عند وجوده، فلا خصوصية إذن للعدم بعد الوجود، بل هو أحد الفردين المحصلين لذلك الشرط كما لا يخفى، وفرده الآخر هو استمرار عدم الآخر الأزلي إلى زمان الوجود، فيعود المحذور لو لا دعوى امتناع الصورة المفروضة للدور، فالتحقيق في دفعه إنما هي تلك الدعوى، فإنها هي التي يتجه القول بها.
هذا، والتحقيق في رد دليل المشهور: أنا نرى بالعيان والوجدان أن بعض الأضداد مع بعض ليسا من قبيل المتمانعين بحيث يكون كل واحد منهما علة لفناء الآخر ومانعا من وجوده، كما هو مبنى مقدمية ترك أحدهما لوجود الآخر، بل من قبيل المانع والممنوع، بحيث لو فرض اشتغال المحل بأحدهما

[1] ثم إنه قال دام ظله: لو سلمنا توقف كل من الضدين على عدم الآخر من غير تقيده بكونه مسبوقا بوجوده، يمكن دفع الدور المذكور: بأن كلا منهما يتوقف على عدم الآخر حين وجوده، وأما عدم الآخر حين وجود ذلك فلا يتوقف على وجود ذلك في ذلك الحين.
439

فوجد المقتضي للآخر لوجد ذلك الآخر، ويرتفع ما وجد قبله في المحل، ويرى تأثير المقتضي لذلك الآخر فيه حينئذ كتأثيره فيه حال خلو المحل عن جميع الأضداد، وهذا كما في السواد مع البياض، فإنهما ضدان بالضرورة، مع أن الثاني لا يمنع من وجود الأول إذا كان موجودا قبله، بل متى تحقق المقتضي للسواد يؤثر فيه حال اشتغال المحل بالبياض كتأثيره فيه حال خلوه عنه، ويرتفع البياض بمجرد تحقق المقتضي له، وكما في كل لون قوي مع الأضعف منه من الألوان، ضرورة أن كل قوي من لون مضاد مع الضعيف () منه، مع أن حال القوي بالنسبة إلى الضعيف حال السواد بالنسبة إلى البياض، وهذا بديهي غني عن الاحتجاج عليه.
فيتضح من ذلك أن التمانع ليس صفة لازمة للضدين من حيث إنهما ضدان، وإلا لما انفك عنهما، فيظهر فساد دعوى مقدمية ترك أحدهما للآخر لذلك.
ومن هنا ظهر أيضا اندفاع دعوى المقدمية من جهة أن انتفاء الآخر شرط لقابلية المحل لوجود ضده فيه، فإن التوقف من هذه الجهة أيضا متضح الفساد مما ذكرنا في الأمثلة المذكورة من الأضداد.
وتوضيحه: أن القوي من الألوان - مع كونه مضادا () مع الضعيف منها - لا يتوقف وجوده على ارتفاع الضعيف عن المحل قبله، بل يوجد مع اشتغال المحل به، ويرفعه بمجرد وجوده [1]، فظهر أن وجود الضعيف لا يوجب خروج

[1] فيكون الحال في مثل تلك الأضداد نظير الحال في النقيضين، فإنه كما إذا وجد المقتضي لأحد النقيضين يترتب عليه وجود مقتضاه وارتفاع النقيض الآخر، فكذلك إذا وجد المقتضي للون القوي يترتب عليه أمران: أحدهما هو، والآخر ارتفاع اللون الضعيف، فافهم وتدبر.
لمحرره عفا الله عنه.
440

المحل عن قابليته لوجود القوي فيه، بل يكون وجود الضعيف وعدمه من هذه الجهة على حد سواء.
فاتضح من ذلك أنه ليس من الصفات اللازمة للضدين كون كل منهما موجبا لخروج المحل عن القابلية، فظهر فساد دعوى المقدمية من هذه الجهة أيضا، فانكشف بذلك كله فساد دعوى مقدمية ترك بعض الأفعال المضادة لبعض آخر منها.
فالتحقيق ما أفاده سلطان المحققين () - قدس سره - من منع التوقف من الطرفين، أعني توقف وجود كل من الضدين على عدم الآخر وتوقف عدم كل منهما على وجود الآخر.
441