الكتاب: بلغة الفقيه
المؤلف: السيد محمد بحر العلوم
الجزء: ١
الوفاة: ١٣٢٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: شرح وتعليق : السيد محمد تقي آل بحر العلوم
الطبعة: الرابعة
سنة الطبع: ١٩٨٤ م - ١٣٦٢ ش - ١٤٠٣
المطبعة:
الناشر: منشورات مكتبة الصادق - طهران
ردمك:
ملاحظات: مكتبة العلمين العامة - النجف الأشرف

مكتبة العلمين العامة
النجف الأشرف
(9)
بلغة الفقيه
مجموعة بحوث ورسائل وقواعد فقهية لامعة تسد
ضرورة الفراغ في التشريع الاسلامي والفقه
الاستدلالي لا غنى للفقيه والقانوني عن معرفتها.
تصنيف
الحجة المحقق السيد محمد آل بحر العلوم - قدس سره -
شرح وتعليق
الفقيه الورع السيد محمد تقي آل بحر العلوم - دام ظله -
الجزء الأول
1

منشورات مكتبة الصادق
طهران ناصر خسرو پاساژ مجيدي
الطبعة الرابعة
1984 ميلادي
1362 شمسي
1403 قمري
2

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين
لقد نوهنا - عدة مرات في عامة منشورات (مكتبتنا العامة) عن الأهداف
الباعثة على تأسيسها: من نشر الثقافة العامة في المجتمع، وتشجيع المؤلفين
والكتاب، وتحقيق وتأليف الكتب الاسلامية - على اختلاف بحوثها - وتركيز
النوعية الفكرية باعطاء الكتاب الاسلامي مكانته اللائقة به من حيث أناقة
الاخراج وروعة التبويب ودقة التحقيق والتعليق، وإيصاله إلى أبعد الحدود
من أنحاء العالم المتحضر بالتوزيع والاهداء، حتى لقد ناهز سجل إهداء
(المكتبة) - إلى حين التاريخ - (العشرة آلاف كتاب) من منشوراتها
وغير منشوراتها -.
وواصلت (مكتبتنا) سيرها الفكري الاسلامي - قدما - منذ تاريخ
تأسيسها حتى الآن -: ففي سنة (1383 أي في سنة تأسيسها) كانت باكورة
مطبوعاتها: كتاب (تلخيص الشافي - في الإمامة) تأليف شيخ الطائفة
أبي جعفر الطوسي - قدس سره تقديم وتعليق سماحة العلامة الجليل السيد
حسين بحر العلوم، تم طبعه في أربعة مجلدات.
وفي سنة (1385) ظهر المجهود الثاني للمكتبة، وهو كتاب (رجال
السيد بحر العلوم - المعروف بالفوائد الرجالية) الموسوعة الضخمة في علم
الرجال والحديث والدراية والتراجم، تأليف سيد الطائفة وصاحب الكرامات
الباهرة السيد محمد المهدي بحر العلوم - قدس سره - أشرف على إخراجه والتعليق
عليه كل من العلمين: الحجة الثبت السيد محمد صادق بحر العلوم، والعلامة
المفضال السيد حسين بحر العلوم، فتم طبعه - بأروع إخراج - في أربعة
مجلدات ضخام، مفعما بالشروح والتعليقات القيمة.
3

وفي مطلع هذا العام المبارك - 1388 ه‍ -: نقدم إلى رواد الفقه.
وعلماء القانون والتشريع الاسلامي: الكتاب القيم والمجموع الضخم من الرسائل
والبحوث الفقهية التي عالجت مهمات أبواب الفقه التي قل أن يتطرق إليها
الفقهاء في موسوعاتهم الفقهية. وهو كتاب (بلغة الفقيه) تصنيف الحجة
المحقق والعالم المدقق السيد محمد ابن السيد محمد تقي ابن السيد رضا ابن
السيد بحر العلوم - تغمدهم الله برضوانه - وشرح وتعليق آية الله الفقيه
الورع السيد محمد تقي آل بحر العلوم - دام ظله -
ولنقف وقفة بسيطة بين يدي الكتاب، ومصنفه، وشارحه:
(كتاب بلغة الفقيه): عرض وتحقيق وغور في مجموعة رسائل فقهية
وبحوث علمية دقيقة، كان يلقيها بشكل أمالي يومية على تلامذته، فجمعها
في حياته - بعد أن كف بصره - فكانت هذا المجموع القيم والتراث النادر
ومجموعة الرسائل التي احتواها الكتاب هي: الفرق بين الحق والحكم
وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، والقبض وحقيقته، وقاعدة
تلف المبيع قبل قبضه، والأراضي الخراجية، وأخذ الأجرة على الواجبات
وبيع المعاطاة، وبيع الفضولي ومسألة الضمان، ومنجزات المريض، وحرمان
الزوجة من بعض الميراث، والرضاع، والولايات، وقاعدة اليد وفروعها
وبعض أحكام الدعاوى، والقرض، والوصية، والمواريث..
طبع الكتاب - أولا - في تبريز سنة 1325 في حياة مصنفه، طبعة غير خالية
من الأغلاط بالقطع الصغير.
وطبع - ثانيا - سنة 1329 بعد وفاته في طهران - بالقطع الحجري المتوسط
في مجلد ضخم تقارب صفحاته (500 صفحة). ولا تخلوا من الأغلاط أيضا -.
وحين رأينا ندرة وجوده وكثرة الطلب عليه، وضرورة ابراز الكتاب
على واقعه الدقيق المصحح، وبحلة قشيبة من حيث الاخراج والتبويب
4

والتعليق - كما يقتضيه عرف اليوم -.
صممنا - بعون الله - على إعادة طبعه، فلم نألو جهدا في تصحيحه
وعرضه على عامة نسخه المخطوطة والمطبوعة - الموجودة تحت أيدينا -.
وأكثر اعتمادنا في تصحيحه ومقابلته على النسخة المصححة على نسخة المصنف
وعليها تعليقات المصنف - نفسه - أدرجناها تحت الهامش بعلامة هكذا (*)
وتوجد النسخة في مكتبة الحجة الثبت المحقق السيد محمد صادق بحر
العلوم - دام تأييده -
وتكملة للفائدة وتوسعة في الأفق العلمي، عرضنا ملازم الكتاب -
قبل إرسالها إلى المطبعة - على سماحة آية الله الفقيه الورع السيد محمد تقي
آل بحر العلوم - دام ظله - فكان يقف عند كل رسالة رسالة وقفة المتأمل
فيعلق على ما يحتاج إلى التعليق، ويترك الآخر، حتى إذا جهز ما يكفي إلى
الجزء الأول قدمناه إلى المطبعة، مستعينين بالله تعالى - في إكمال الأجزاء
الأخر.
مصنف الكتاب - باقتضاب من مقدمة رجال السيد بحر العلوم -:
هو السيد محمد ابن السيد محمد تقي ابن السيد رضا ابن السيد محمد المهدي
بحر العلوم - قدس الله أسرارهم - وينتهي نسبه الشريف - بثلاثين واسطة -
إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام - حسبما تستعرضه
الشجرة المباركة لأسرة آل بحر العلوم المثبتة بخط زعيم الأسرة وسيد الطائفة
السيد بحر العلوم - قدس سره -
ولد - رحمه الله - في النجف الأشرف ليلة الأحد 24 محرم الحرام
سنة 1261 ه‍، ونشأ على أبيه (التقي) نشأة علم وشرف وكرامة، وكان
أية في الذكاء، ووقدة في الذهنية.
تلمذ - في ريعان شبابه - في الفقه والأصول على الحجج الأعلام من
5

أقطاب عصره، أمثال: عمه السيد علي - صاحب البرهان - والفقيه الشيخ
راضي، والسيد حسين الترك، واختص في الأصول - أكثر - بالميرزا
عبد الرحيم النهاوندي. وفي العلوم العقلية بالحكيم الإلهي الميرزا محمد باقر النجفي
وتلمذ عليه جم غفير من جهابذة العلم وعيون الأدب، لا يسع المجال
لاستعراضهم.
وما إن ناهز الثلاثين من عمره، حتى أصبح من أقطاب العلم والفضيلة
ومن أساتذة المنبر العلمي المشار إليهم بالبنان. وتولى - بعد وفاة عمه السيد
علي صاحب البرهان - أي سنة 1298 - زعامة الحوزة العلمية في النجف
الأشرف، وأنيط به أمر التدريس والبحث العلمي وشؤون المرجعية والتقليد
إلى أن نقله الله إلى حظيرة قدسه.
كان مثابرا على التدريس والبحث والكتابة والمطالعة، ليل نهار،
وكثيرا ما كان يقطع الليل كله في المطالعة والكتابة حتى كف بصره - في
أخريات أيامه -
وكان مطلعا على عامة العلوم العقلية والنقلية، قال عنه سيدنا
الأمين في (أعيان الشيعة): (.. سمعته - مرة - يقول: نظرت في
أكثر العلوم حتى الطب، ثم تركت النظر فيه، لأنه، ليس لي فرصة
للتعمق فيه).
وكان - بالإضافة إلى مقامه العلمي - مثال الورع، أريحى الطبع
مرن السلوك، بهي المنظر، ترف اللباس، دمث الأخلاق، يملأ المجلس
بالهيبة والوقار.
وكانت عنده مكتبة ضخمة من أعظم مكتبات العراق من حيث احتوائها
على صنوف الكتب، وأنواع المخطوطات. ولقد أعجب بها وكتب
عنها جرجي زيدان في (آداب اللغة العربية)، وقال عنها السيد الأمين
6

في (أعيانه): (ولم يكن في العراق أجمع منها لكتب الفقه والأصول
والحديث). ومن المؤسف أنها تبعثرت - بعد وفاته - بالبيع والاهمال.
كتب وألف وصنف - كثيرا - إلا أن عامة كتاباته كانت مسودات
تلفت - بعد وفاته - ولم يحتفظ لنا الزمن إلا بهذه المجموعة القيمة من
الفقه الاسلامي التي أسماها ب‍ (بلغة الفقيه) حيث كانت عنايته بها أكثر
حتى طبعت في حياته.
توفي - رحمه الله - ليلة الخميس 22 شهر رجب سنة 1326 بموت
الفجأة، فكان لفقده المصاب الجلل والوقع الممض في عامة أنحاء العراق
وإيران، وعطلت لوفاته الدروس العلمية - عدة أيام - وأقيمت على روحه
الطاهر عشرات الفواتح، ورثاه جم غفير من شعراء عصره: أمثال الشيخ
يعقوب النجفي، والشيخ محمد حسن سميسم والشيخ عبد الحسين الحويزي
والشيخ حسن الحلي، والسيد رضا الهندي، وغيرهم كثير.
واستقر في مثواه الأخير في (مقبرة آل بحر العلوم) في النجف
الأشرف تغمده الله برضوانه.
خلف - من الذكور - خمسة، وهم: السيد مهدي، والسيد مير علي،
والسيد جعفر - والد الحجة السيد موسى آل بحر العلوم - والسيد عباس،
والسيد حسن.
وأما صاحب التعليق: - باقتضاب من مقدمة رجال السيد بحر العلوم -:
فهو السيد محمد تقي ابن السيد حسن ابن السيد إبراهيم ابن السيد حسين
ابن السيد رضا ابن السيد محمد المهدي بحر العلوم - قدس الله أسرارهم -
ويتصل نسبه الوضاح باثنين وثلاثين واسطة - بالإمام الزكي الحسن بن علي (عليه السلام)
ولد - دام ظله - في النجف الأشرف، سنة 1318 ه‍ ونشأ في بيت
والده نشأة علم وشرف.
7

درس علوم العربية والبلاغة والتفسير وقسما من الرياضيات وسطوح
الفقه والأصول على العلماء المتخصصين لتلك العلوم - يومئذ -.
وما إن بلغ عمره (الثلاثين عاما) حتى امتطى صهوة (البحث الخارج)
فحضر الأصول والفقه على أستاذ العلماء المحقق النائيني - قدس سره - أكثر
من عشر سنين، وحضر الأصول أيضا على المحققين الآيتين: الشيخ ضياء
الدين العراقي والشيخ محمد حسين الأصفهاني.
ولازم - أخيرا في الفقه - أستاذيه الجليلين الآيتين الورعين: الشيخ
محمد رضا آل يسين، والسيد عبد الهادي الشيرازي - تغمدهما الله برضوانه -
وحضر عليه - ولا يزال - جم غفير من رواد العلم وأرباب الفضل
من العرب والفرس بحيث لا يسع المجال لاستعراضهم، فقل أن تجد من
فضلاء العصر - اليوم - إلا وقد حضر عليه قسما من دروسه الفقهية أو الأصولية
ولقد أصبح - اليوم من مراجع الشيعة وفقهاء الأمة، يعترف بمكانته
العلمية الخاص والعام. هذا بالإضافة إلى ما يتمتع به (سيدنا التقي) من
خلق وورع نادرين. ويقيم إمامة الجماعة - صباحا ومغربا - في جامع الشيخ الطوسي
- قدس سره - وظهرا في جامع الشيخ الأنصاري - رحمه الله -
كتب وألف في الفقه والأصول وغيرهما من العلوم الدينية كثيرا، من
ذلك: تقريرات أساتذته العظام في الفقه والأصول، وتعليقة على مكاسب
الشيخ الأنصاري، وتعليقة على رسالة المغفور له آية الله أستاذه الشيرازي،
وكتاب واقعة الطف، ورسالة عملية.
وأخيرا طلبنا من سماحته أن يقوم بدور الملاحظة والتعليق على هذا
السفر القيم (بلغة الفقيه) فكان هذا المجهود الثمين نقدمه إلى المطبعة مستعينين
بالله تعالى على اكماله والله ولي التوفيق. إدارة مكتبة العلمين العامة
في النجف الأشرف
8

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله جاعل العلم حياة القلوب من الردى، ونور الأبصار من
العمى، ورافع قدر العلماء بتفضيل مدادهم على دماء الشهداء (1)
والشكر له على انتظامنا في عدادهم، أو مكثري سوادهم. وأفضل
صلواته وأكمل تحياته على أهل علمه المخزون، وسره المكنون، حملة علم
الكتاب: محمد وآله الأطهار الأطياب
وبعد فيقول الراجي عفو ربه الغني محمد بن محمد تقي آل بحر
العلوم الطباطبائي: إني - وإن كنت أول الأمر عند استقبال العمر لم
أقصر في طلب العلوم حسب إمكاني، ولم يضع في غيره إلا القليل من
زماني، فكم سهرت لتحصيلها طوال الليالي، واستخرجت بغوص الفكر
في بحارها غوالي اللئالي، أجيل في مضاميرها سوابق أفكاري، وأصيب
غوامضها بصوائب سهام أنظاري - لكني لم أحفظ بالتحرير ما استحصلته من

(1) هذا مضمون أحاديث نبوية كثيرة متقاربة اللفظ، منها ما (عن الإمام
الصادق عليه السلام عن آبائه عن علي - عليه السلام - قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
إذا كان يوم القيامة وزن مداد العلماء بدماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دماء
الشهداء ".
راجع - عن فضل العلم والعلماء - كتاب العلم (بحار الأنوار ج 1 - 2)
من الطبعة الجديدة. فقد جمع فأوعى كل الآيات والأحاديث الواردة في ذلك
الموضوع.
وذكر العجلوني في (كشف الخفاء ج‍ 2 برقم 2276) الحديث بلفظ " مداد
العلماء أفضل من دم الشهداء " وأستعرض ألفاظ الحديث المختلفة، فراجع.
9

الضياع، إذ كل علم ليس في القرطاس ضاع.
حتى إذا تألب (1) علي صروف الزمان، واختلف باختلاف أغراضي
الجديدان (2) وولى من العمر أفضله، وأدبر مستقبله، وذهب بصري،
فخفت أن يذهب - كذهاب عيني - أثري.
فهممت بتحرير بعض المسائل المهمة - لو ينفع بالشيخ الهم بذل الهمة -
أخذا بقولهم - سلام الله عليهم -: (ما لا يدرك كله لا يترك كله) (3)
والميسور لا يسقط بالمعسور (4).
قصرت أملي على من حضرني - على اختلاف معرفتهم واختلاف
شؤونهم في تشتيت البال وكثرة المعوقات من الاشتغال -.
فحيثما عثرت على تعقيد في التعبير، أو سماجة (5) في التحرير فقد
عرفت أمره وأسلفنا لك عذره.
وقد سميتها (بلغة الفقيه لما يرتجيه) رجاء أن يبلغنا الله تعالى بها
مبالغ رضاه، ويجعلها من أحسن الوسائل يوم نلقاه.
فنقول:

(1) تآلب: تجمع وتحشد.
(2) الجديدان والأجدان: الليل والنهار، لأنهما لا يبليان أبدا، وهما لا يفردان
فلا يقال: للواحد منهما: الجديد أو الأجد.
(3) - (4) الأول حديث نبوي شريف، ذكره العجلوني في (كشف الخفاء
ج‍ 2 رقم 2258). وذكره ابن أبي جمهور الأحسائي في كتاب (غوالي اللئالي):
أنه علوي
. والثاني: علوي - كما ذكره في كتاب (غوالي اللئالي) - راجع الحديثين أيضا
في (حاشية الآشتياني على رسائل الشيخ الأنصاري ص 189) طبع إيران.
(5) سمج - بالضم - سماجة وسموجة: قبح.
10

رسالة
في الفرق بين الحق والحكم
11

مسألة
لما خفي الفرق على كثير بين الحق والحكم، والتبس الأمر بينهما،
مع ابتناء كثير من الفروع الفقهية عليهما، والفرق في الحقوق بين ما يقبل
النقل والاسقاط، وبين ما لا يقبلهما أو يقبل أحدهما دون الآخر.
أحببت أن أشير إلى الفرق بينهما بحسب المفهوم والحقيقة، وتحصيل
ما هو الميزان الفارق بينهما والثمرات المترتبة عليهما، وميزان الفرق في الحقوق
بين ما يسقط بالاسقاط وما لا يسقط به، وما تصح المعاملة عليه - مجانا -
أو بعوض، وما لا تصح بهما أو بأحدهما، ومعرفة مصاديق الحكم أو الحق مما
وقع الخلاف فيه، ومصاديق الحقوق القابلة للاسقاط والنقل وغير القابلة
لهما أو لأحدهما، وحكم صورة الشك في كل من الأمرين بحسب ما تقتضيه
الأصول والقواعد. فنقول - وبالله المستعان -:
أما الحكم: فهو جعل بالتكليف أو بالوضع، متعلق بفعل الانسان
من حيث المنع عنه والرخصة فيه، أو ترتب الأثر عليه. فجعل الرخصة
- مثلا - حكم، والشخص مورده ومحله، وفعله موضوعه. وهو لا يسقط
بالاسقاط، ولا ينقل بالنواقل - بالبديهة - لأن أمر الحكم بيد الحاكم لا بيد
المحكوم عليه. نعم، لو كان معلقا على موضوع، وكان داخلا فيه،
كان له الخروج عنه، فيسقط به - حينئذ - لا بالاسقاط.
وأما الحق فهو يطلق - مرة - في مقابل الملك، وأخرى - ما يرادفه.
وهو - بمعنييه -: سلطنة مجعولة للانسان من حيث هو على غيره
ولو بالاعتبار: من مال أو شخص أو هما معا، كالعين المستأجرة، فإن
للمستأجر سلطنة على المؤجر في ماله الخاص.
13

وهو أضعف من مرتبة الملك، أو أول مرتبة من مراتبه المختلفة في
الشدة والضعف.
وله طرفان: أحدهما - طرف النسبة والإضافة، ويعبر عن المنسوب
إليه بصاحب السلطنة، وذي السلطان، والآخر - طرف التعلق، ويعبر
عن متعلقة بالمسلط عليه.
وهو: قد يكون مستقلا بنفسه كحق التحجير، وقد لا يكون مستقلا
بنفسه، بل متقوم بغيره كحق المجني عليه على الجاني، وحق القصاص،
فهو كالملك الذي قد يكون متعلقة مستقلا، وقد لا يكون كالكلي في الذمة
وقد يتحدان في المورد، وإنما يختلفان بالاعتبار كسلطنة الانسان على نفسه
ولذا قبل: (الانسان أملك بنفسه من غيره). ومنه قوله تعالى - حكاية
عن كليمة -: (إني لا أملك إلا نفسي وأخي) (1) فما به التعلق عين
ما إليه الإضافة، وإنما يختلف بالاعتبار.
ومن فروع هذه السلطنة: تملكه للمباح الأصلي والعرضي بالحيازة،
الذي مرجعه إلى حصول الربط بها بين الحائز والمحوز، وارجاع أمر المال
إلى نفسه، وجعل نفسه في وثاق المال وبعهدته، بحيث لو كان مما يجب
عليه الانفاق وكسوته وحفظة لاحترامه، كان أولى به، فتعلق المال بالمالك
معنى له طرفان: الغنم، والغرم، وأولويته به ليس في خصوص النفع
وكل ذلك من فعل نفسه بنفسه، وليس إلا لسلطنته عليها، ومنه يظهر
الوجه في توقف نفوذ التمليكات المجانية كالهبة والوصية على قبول المتهب
والموصى له، لأن المالك لا سلطنة له على غيره حتى يدخل المال في ملكه
قهرا عليه، وإلا لكان من الايقاعات لا من العقود. نعم، له التمليك

(1) وتمام الآية: " قال: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا
وبين القوم الفاسقين " سورة المائدة: آية 25.
14

لأنه من آثار سلطنته على ماله.
وأما التملك، فمن آثار سلطنة المتملك على نفسه. فالسلطنة المجعولة
حق، وصاحبها مالك، وذو سلطان، وإن كان جعلها له حكما.
وكذا الآثار العارضة لها والمتعلقة بنفسها بحيث تكون نسبتها إليها نسبة
العارض إلى المعروض، فيكون الحق موضوعا لذلك الحكم، دون ما كان
منتزعا منها، بحيث تعد من شعبها وتطوراتها، فإنها من الحقوق أيضا.
وهنا كثيرا ما يقع الاشتباه بين القسمين من الآثار في المصداق
وأنه من العوارض على السلطنة أو من شعبها..
ثم الاسقاط الذي مرجعه إلى العفو: عبارة عن قطع طرف التعلق
عن متعلقه، ومورده الانسان، ويشبهه في الأعيان الأعراض، بناء على
خروج المعرض عنه عن الملك وعوده إلى الإباحة الأصلية، وإلا - كما
هو المقرر في محله من عدم الخروج به عنه كما هو المشهور - انحصر مورده
بالحقوق المتعلقة بالانسان، ولو في ماله، بناء على ما هو الحق: من أن
أولوية السبق في المساجد والمدارس والخانات والرباطات والقناطر والطرق
النافذة، ونحو ذلك من الأحكام التي تنتفي بانتفاء موضوعها بالاعراض
عن المحل، وهو التزاحم الذي هو موضوع المنع والحرمة، لا من الحقوق
التي تسقط بالاعراض.
ولعلك تقف على توضيح ذلك في بيان المصاديق المشتبهة بينهما.
والنقل: هو تحويل طرف الإضافة منه إلى غيره: بعوض، أو مجانا
فكل من النقل والاسقاط من عوارض السلطنة وأحكامها.
ثم الحق قد يضاف إليه تعالى، فيكون متعلقه ما سواه من الممكن،
وسلطنته عليه من أتم مراتب السلطنة وأكملها، لأنه سلطنة عليه بالايجاد
والربوبية، ضرورة افتقار الممكن في تحققه إلى الواجب، لعدم الاستقلالية
15

له في الوجود.
ومن فروع هذه السلطنة وحقه على الممكن أن يعبد ويوحد.
ومن رشحاتها: ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) على المؤمنين (1) وهي - وإن لم
تكن من سنخ سلطنة الله تعالى - إلا أنها سلطنة عنه تعالى بالاستخلاف.
وولاية خلفائه الطاهرين، ونوابهم المجتهدين.
فهي في طول سلطنة الله على خلقه. ولذا كان النبي - صلى الله
عليه وآله - خليفته في أرضه والأئمة خلفاءه في أمته، والعلماء نوابهم
في شيعتهم.
وهي أقوى وأشد وأولى وأكمل من سلطنة الانسان على نفسه مع
كونها في غاية الشدة والكمال، لأن منشأ انتزاعها هو كون الشئ نفسه.
والى السلطنتين وأكملية الأولى من الثانية أشار (صلى الله عليه وآله) في قوله بغدير
خم: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ثم جعلها بعد الاعتراف منهم
توطئة لبيان ولاية علي عليه السلام، فقال: - بعده -: (من كنت
مولاه فهذا علي مولاه) (2) فولايته على الأمة التي هي بمعنى الأولوية
بالتصرف: مشتقة من أولوية النبي (صلى الله عليه وآله) المشتقة من سلطنته تعالى على
خلقه.
ثم إن الحق - بما هو حق - يختلف بحسب اختلافه في سقوطه
بالاسقاط، وعدمه، ونقله إلى غيره مجانا أو بعوض، وعدمه، وانتقاله
قهرا بالإرث، وعدمه - إلى أنحاء شتى:

(1) قال الله تعالى في كتابه المجيد - سورة الأحزاب / 6 -: " النبي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم.. ".
(2) راجع - في هذا الموضوع سندا ودلالة -: الجزء الأول من كتاب
الغدير للحجة الأميني حفظه الله.
16

منها - ما لا يجوز عليه شئ من ذلك، فلا يسقط بالاسقاط، ولا
ينقل بالنواقل، ولا ينتقل بالإرث ونحوه: كحق الأبوة، وولاية الحاكم
وحق الاستمتاع بالزوجة للزوج، وحق الجار على جاره، والمؤمن على
أخيه: فإنها حقوق لأربابها لا تسقط، ولا تنتقل إلى غيرهم بوجه من
الوجوه.
ومنها - ما يجوز فيه كل ذلك، كحق الخيار، وحق القصاص، وحق
الرهانة، وحق التحجير، وحق الشرط المطلق.
ومنها - ما يسقط بالاسقاط، ولا ينقل ولا ينتقل، كحق الغيبة،
والايذاء بضرب أو شتم أو إهانة أو نحو ذلك - بناء على كونه حقا -
ولذا يجب الاستحلال منه، ولا يكتفى بالتوبة في التخلص عنه (1).
ومنها - ما يسقط بالاسقاط، وينتقل بالإرث - على قول - ولا ينقل بالنواقل
كحق الشفعة للشريك المسبب عن بيع شريكه.
ومنها - ما ينقل - مجانا لا بعوض - كحق القسم بين الزوجات بناء
على عدم مقابلته بالأعواض.
ومنها - المصاديق المشتبهة بين كونها حكما أو حقا.
وإن وقع الخلاف في ذلك في بعض ما تقدم - أيضا - كحق الرجوع
في المطلقة الرجعية وحق السبق في المسجد، والأوقاف العامة، والطرق النافذة
ومنشأ هذا الاختلاف: هو إن الموجب للحق: إما أن يكون علة
تامة، فيستحيل انفكاكه عنه بسقوط أو انتقال، لاستحالة تخلف المعلول
عن علته التامة، كولاية الآباء والأقارب، والحاكم، ومنصوبه. والعزال

(1) وربما قيل: إنها محض الحكم بالإثم، ويكفي بالتخلص عنه بمحض التوبة
شأن كل إثم بين العبد وربه.
17

المنصوب بالعزل اخراج له عن الموضوع، لا إسقاط للحق مع بقاء.
منشأ انتزاعه.
وإما أن يكون من قبيل المقتضى فيمكن فيه التخلف بحسب ما يوجبه
من السقوط أو النقل أو الانتقال، إلا إذا كان المنع عنه من جهة قصور
في كيفيته بحسب الجعل، كأن يكون الحق متقوما بشخص خاص أو عنوان
خاص، كحق التولية في الوقف إلى المتولي الخاص أو الحاكم، فلا يجوز
العدول إلى غير المجعول له بجعل الواقف من الشخص أو أفراد عنوان آخر
وكذا حق الوصاية المجعول من الموصي لشخص خاص من حيث هو هو، أو كان
مختصا له بالشرط، كحق الخيار المجعول لصاحبه بشرط مباشرته للفسخ
بنفسه. فإن أمثال هذه الحقوق إنما هي متقومة بذوات مخصوصة أو عناوين
خاصة، فلا تنتقل إلى غيرها لعدم التقوم إلا بها، وإن جاز إسقاطها
لعدم كون الموجب لها من العلة التامة.
فتلخص مما ذكرنا: أن الحق: إن كان موجبه علة تامة له، امتنع
انفكاكه عنه مطلقا من غير فرق بين السقوط بالاسقاط، والنقل بالنواقل
والانتقال القهري بالإرث.
وإن كان من قبيل المقتضى له، وكان مختصا ومتقوما بشخص
خاص، فهو، وإن جاز سقوطه بالاسقاط لكونه مالكا، وليس الموجب
علة تامة حتى يلزم التخلف المستحيل، إلا أنه لا يجوز نقله لمنافاته الاختصاص
المجعول بالأصل أو بالعارض بشرط ونحوه.
وإن لم يكن كذلك بأن لم يكن الموجب علة تامة، ولا الحق مختصا
ومتقوما بشخص خاص، جاز إسقاطه ونقله وانتقاله، لوجود المقتضي،
وهو كونه مالكا للحق، وعدم المانع من علية الموجب له أو الاختصاص
بما يوجب الخصوصية، كحق الخيار المطلق الذي يجوز إسقاطه ونقله وانتقاله.
18

هذا، واستفادة ما يتميز به الحكم من الحق وكيفية الحق من بين سائر
الحقوق من الموازين المتقدمة، إنما هي من الأدلة بحسب ما يستفيده الفقيه منها،
لا ما قيل في إثبات ذلك بالرجوع إلى ثبوت الآثار وعدمه من النقل والسقوط، لأن
ذلك - مع كونه مستلزما للدور - غير مطرد، ضرورة أن الحكم مما لا يسقط
ولا ينقل، لا كل ما لا يسقط ولا ينقل كان حكما، فإن الحقوق بعضها
كالأحكام لا يسقط بالاسقاط ولا ينقل بالنواقل - كما عرفت -.
نعم، لو دل الدليل على السقوط أو الانتقال أفاد كونه حقا، لأن
الأحكام بأسرها لا تقبل شيئا من ذلك. وحيثما شك في شئ من ذلك كان
المرجع فيه إلى ما تقتضيه الأصول والقواعد. فلو شك في شئ بين كونه
حكما أو حقا نفي كل أثر وجودي مترتب على كل منهما بالأصل، فلا يبنى
على السقوط بالاسقاط، ولا على الانتقال بالنواقل، لابتناء ذلك على إحراز
كونه حقا، ويكفي الشك فيه، فضلا عن كون مقتضى الأصل عدمه،
وإن لم يثبت بذلك كونه حكما، لأنه من الأصل المثبت. وكذا لو شك
في قابلية إسقاط الحق ونقله بعد إحراز كونه حقا، للشك في علية الموجب
وعدمها، أو في اعتبار ما يوجب الاختصاص وعدمه، وإن أحرز كون
الموجب مقتضيا، فإنه لا يترتب عليه شئ مما يتوقف ترتبه على إحراز
القابلية - أولا - نعم، يجوز التمسك بالعمومات بعد إحراز الصدق العرفي
والقابلية العرفية عند الشك في القابلية الشرعية المنبعث عن الشك في تخطئة
الشارع لما هو عند العرف، أو تصرف منه فيه باعتبار شئ فيه، أو مانعية
شئ عنه. فيدفع بالعمومات المتوجهة نحوهم الدالة على إمضاء ما هو المتعارف
عندهم. إلا أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، لمعلومية اختلاف الحقوق
شرعا في جواز الاسقاط وعدمه، وجواز النقل وعدمه. وإنما الشك في
اندراج المشكوك في أي قسم منهما مصداقا، وبالعموم لا يتميز المصداق - قطعا -.
19

إذا عرفت ذلك، فلنذكر المصاديق المشتبهة بين كونها حقا أو حكما
والحق من بين سائر الحقوق:
فمنها - جواز الرجوع في المطلقة الرجعية.
فقد ذهب المحقق القمي - قدس سره - وتبعه بعض من تأخر عنه -
إلى كونه حقا يجوز الصلح عليه، مستدلا بعمومات أدلة الصلح التي منها:
(الصلح جائز بين المسلمين) (1) أي: نافذ، من: جاز السهم:
إذا نفذ.
وأنت خبير بما فيه، لأن الشك فيه: إن كان للشك في كونه حكما
أو حقا، فهو من الشبهات المصداقية التي لا يجوز فيها التمسك بالعمومات
- قطعا - وإن كان للشك في كونه من الحقوق التي تنقل بالصلح أولا تنقل
بعد البناء على كونه حقا - فمرجع الشك فيه إلى الشك في القابلية التي
لا يتمسك لاثباتها بالعمومات - أيضا - اللهم إلا أن يجاب عن تمسكه بها
- بعد البناء منه على كونه حقا كما هو صريح عبارته في كتابه (أجوبة

(1) وهو حديث نبوي - من طريق الخاصة -. وتتمة الحديث ".. إلا
صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " راجع: شرح اللمعة للشهيد الثاني ووسائل
الشيعة للحر العاملي، كتاب الصلح. وفي الوسائل: عن أبي عبد الله (عليه السلام): الصلح
جائز بين الناس..
" والمراد بالمحقق القمي هو الميرزا أبو القاسم القمي. قال في كتابه المشار إليه في المتن
بأجوبة المسائل، المسمى ب‍ (جامع الشتات) كتاب الطلاق، باب جواز الصلح على
الطلاق: ص 535 طبع حجري إيران: ".. وأما اندراجه في الصلح فبأن يجعله عوضا
للصلح، فتقول المرأة: صالحتك هذه الفدية بأن تطلقني، وطلقها في عوضه، ويشمله
عمومات أدلة الصلح، وأنه جائز بين المسلمين إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا.
20

المسائل) (1) بإرادة جواز وقوع الصلح عليه، بمعنى سقوط حق الرجوع
الثابت للزوج بالصلح عليه، لا نقله به منه إلى غيره، حتى يقال فيه:
من المحتمل أنه من الحقوق المتقومة بالزوج ومختص به، فلا ينتقل إلى
غيره، بل هو من الصلح الواقع في مورد الاسقاط والابراء، مع منع
كون الموجب له علة تامة، حتى يمنع عن ذلك أيضا، فيكون الشك في نفوذ
الصلح المتضمن للسقوط وعدمه من الشك في التخصيص الذي يرجع فيه
إلى العموم، دون الشك في التخصص.
نعم، تبقى المناقشة معه في كونه حقا، بل الظاهر أنه من الأحكام
لا من الحقوق
توضيح ذلك: أن المطلقة إن كانت زوجة - بعد - كما يعطيه صدق
(وبعولتهن) الظاهر في الاتصاف الفعلي، وترتب أحكام الزوجية الظاهر
في كونها زوجة حقيقة، فمرجعه إلى ضعف سبب الفرقة وهو الطلاق وأنه
لم يؤثر قطع علقة الزوجية بالكلية، فالقدرة على الرجوع من آثار بقاء
علقة الزوجية التي مرجعها إلى إبقاء تلك العلقة وإرجاعها كما كانت، وكما
أن قطع العلقة بمعنى فكها عن الزوجية بيده، كالعتق في فك الملك بيد
المالك فكذلك إبقاؤها على الزوجية. فكل من الامساك والتسريح بيد
الزوج ومن أحكام سلطنته على الزوجة، لأنها من عوارضها المتعلقة بها،
فيكون الرجوع في العدة للزوج من قبيل جواز الرجوع في العقود الجائزة
الذي هو من الأحكام، لكونه من آثار علقة الملكية السابقة، بناء على
ضعف سببية العقد الجائز في قطع علاقة الملكية.
وإن قلنا بخروجها عن الزوجية بالطلاق، وإن ترتب عليها حكم

(1) راجع: جامع الشتات للمحقق القمي المعروف ب‍ (أجوبة المسائل) كما
في المتن: كتاب الطلاق باب جواز الصلح على الطلاق.
21

الزوجة - تعبدا - كما يشعر به قوله تعالى: (.. أحق بردهن) (1)
لظهور الرد في الرجوع بعد الخروج. غير أنه تحدث للزوج سلطنة جديدة
على إرجاعها وابطال سببية الطلاق للفرقة. كما تحدث لذي الخيار سلطنة
على فسخ العقد اللازم، وأن زمان العدة - نظير ثلاثة أيام لخيار الحيوان
- كان حقا، لا حكما، كحق الخيار في العقود اللازمة. وحيث أن
المستفاد من الأخبار، وكلمات علمائنا الأخيار: أنها زوجة - حقيقة -
لا حكما تعبديا، وإن علقة الزوجية باقية، لا جرم اتجه كونه حكما،
لاحقا، فلا يسقط بالاسقاط، ولا ينقل بالنواقل.
هذا، وقد حكى المحقق المتقدم عن بعض معاصريه: أن أثر الصلح
مع الزوج على حق الرجوع ليس إلا الحرمة التكليفية، وإلا فلو رجع
بعده نفذ رجوعه في إبطال الطلاق. وتعجب من ذلك غاية العجب.
قلت: وتعجبه في محله إن أراد تأثير الرجوع بعد سقوط حقه بالصلح
عليه، إذ لا حق بالفرض حتى يرجع به. ولكن من المحتمل - قويا - أن
يريد بوقوع الصلح كون المصالح عليه ترك الرجوع ونفس عدم الفعل
الذي مرجعه إلى مجرد الالتزام بعدم استيفاء حقه، لا سقوط الحقية من
أصله.
وعليه، فله وجه وجيه يتمسك على صحته بعموم أدلة الصلح بناء
على الأقوى من كونه عقدا مستقلا إن كان المصالح عليه نفس الترك ومجرد
عدم الرجوع، لا نفس جوازه الذي هو حكم الحق وأثر من آثاره، لما
عرفت من أن الحكم لا يسقط ولا ينقل لأن أمره بيد الحاكم، بل ويجوز

(1) تمام الآية: " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن
ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر، وبعولتهن أحق بردهن
في ذلك إن أرادوا إصلاحا.. ": البقرة / 228.
22

الصلح على هذه الكيفية، حتى لو قلنا بأن حق الرجوع في العدة من
الأحكام لا من الحقوق، لأن المصالح عليه بالفرض نفس الترك وعدم
الرجوع، لا الحكم بجوازه.
فلا فرق في الصلح على هذا التقرير بين كونه مصداقا للحق
أو للحكم، غير أنه على التقديرين ينفذ رجوعه لو رجع بها، وإن أثم
به، إلا أن الغالب وقوع الصلح في أمثال المقام لئلا يتمكن من الرجوع
بحيث لا ينفذ رجوعه لو رجع، وهو لا يتم إلا بالصلح على الحق، لا مجرد
عدم الرجوع مع بقاء الحق، فافهم.
ومنها - الخيارات، فإنها من الحقوق - قطعا - لكونها سلطنة مجعولة
بأحد أسبابها للمتعاقدين أو الأجنبي على إبطال العقد اللازم وحله، وموردها
العقود اللازمة، وإلا فالعقد الجائز لا خيار فيه ما دام جائزا، إلا إذا عرض
عليه اللزوم بسبب، فيؤثر - حينئذ - سبب الخيار فيه خيارا.
وكيف كان، فالظاهر جواز المعاوضة عليه بما يوجب نقله، فضلا
عن سقوطه لعمومات أدلة المعاوضة، مضافا إلى عموم (أوفوا بالعقود) (1) بعد إحراز القابلية بما دل على سقوطه بالاسقاط وانتقاله بالإرث الكاشفين
عن عدم كون الموجب له علة تامة، وعدم كون الحق متقوما بذاته من
حيث هو ذاته، وإلا لم يكن لينتقل عنه بالإرث.
ومنها - الأولوية بالسبق في المساجد والمدارس والقناطر والرباطات
والطرق النافذة، ونحو ذلك من الحقوق الراجعة إلى عموم الناس أو المتلبس
بعنوان منهم. فالذي يظهر من كثير منهم أنه من الحقوق، ولعله نظرا
إلى إطلاق الحق عليه في حديث: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد كان

(1) تمام الآية: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود.. " المائدة / 1
23

أحق به) وفي آخر: (كان له) بدل قوله (أحق به) (1) بناء على
ظهور اللام فيه.
ويحتمل - قويا، بل لعله الأقوى - كونها من الأحكام، بمعنى
تحريم مزاحمة السابق فيما سبق إليه مما له فيه حق بجعل الواقف الذي هو
وغيره فيه شرع - سواء بذلك الجعل، ضرورة أن الواقف لم يجعله وقفا
على السابق منهم حتى يختص به هو دون غيره، ولا أحدث السابق حقا
جديدا له وراء ما جعل له الواقف حتى يكون له حقان: استحق أحدهما
بالوقف كغيره، والآخر استحقه بالسبق دون غيره، فيسقط هو بالاعراض
عنه دون المجعول بالوقف، بل السبق سبب لحرمة مزاحمته فيه ومدافعته
عنه مطلقا. ولو كان المزاحم من مصاديق عنوان الموقوف عليه، فتقديم
السابق في تزاحم الحقوق كتقديم الأهم في تزاحم الواجبات في كونه من
الأحكام. فبالاعراض عن المحل يرتفع التزاحم الذي هو موضوع الحكم
بالتحريم، بل لعله يشعر به التعبير بالأحق في الحديث، والزيادة لاختصاص
الاستيفاء، واللام لمطلق الاختصاص.
وإن أبيت إلا عن كونه حقا، كما لعله المشهور أو الأشهر بتقريب
أن السبق يوجب تعيين العنوان الكلي في المصداق الخاص ما دام سابقا وشاغلا
للمحل أو غير معرض عنه كتعيين مصداق المالك بالقبض في الخمس والزكاة
من السادة والفقراء، فليس - هناك - للسابق إلا الحق المجعول بالوقف
للعنوان أو الجهة المتعين له بالسبق، فيكون - حينئذ - من الحقوق،
لا من الأحكام، فتظهر الثمرة.
مع أنه على القولين - يسقط بالاعراض، ولا ينقل ولا يورث فيما

(1) في (الجامع الصغير للسيوطي) و (كنوز الحقائق للمناوي - بمادة من -
الحديث هكذا " من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له ".
24

لو زوحم ودفع عن المحل كان المزاحم غاصبا، وصحة الصلاة فيه مبنية
على مسألة اجتماع الأمر والنهي (1) بناء على كونه حقا، وأما على كونه
حكما، فيصح تصرفه فيه، لأنه من التصرف في حقه بجعل الواقف،
وإن فعل محرما بدفع السابق عنه، بل لعله ينعكس الأمر بعده، فيحرم
على المدفوع مزاحمة الدافع. ولو تنزلنا وقلنا ببقاء الحرمة ما لم يعرض
المدفوع عنه، فصحة الصلاة فيه - حينئذ - مبنية على مسألة الضد (2)
لا مسألة اجتماع الأمر والنهي. فافهم.
ومنها - جواز الصلح على حق الدعوى ونفوذه. قال في (القواعد):
(لو صالح الأجنبي المدعي لنفسه ليكون المطالبة له، صح - دينا كانت
الدعوى أو عينا). (3)

(1) في شخص واحد ومصداق معين، لكن مع تعدد الجهة والحيثية كالمثال
في المتن، فإن شخص الصلاة مأمور بها من حيث كونها صلاة وعبادة، ومنهي
عنها من حيث كونها تعديا وغصبا والمسألة خلافية، وإن كان المشهور امتناع
ذلك، يقول الشيخ حسن صاحب المعالم في (معالمه): ". الحق امتناع توجه
الأمر والنهي إلى شئ واحد، ولا نعلم في ذلك مخالفا من أصحابنا ووافقنا عليه كثير
ممن خالفنا.. " راجع في تفصيل ذلك عامة كتب الأصول: باب مباحث الألفاظ
(2) المشهور أن الأمر بالشئ يقتضي النهي عن الضد العام بمعنى الترك،
لا الضد الخاص، ولا عن أحد الأضداد الوجودية لا بعينه. وإن زعم
البعض اقتضاء الأمر النهي عن مطلق الأمر النهي عن مطلق الأضداد: العامة
والخاصة، والمثال في المتن يمكن تصويره من باب الضد الخاص فإن الدافع مأمور
بإتيان الصلاة، وذلك الأمر يقتضي نهي المدفوع عن إيجادها في الخارج. راجع
عن تفصيل هذه المسألة - مباحث الألفاظ من كتب الأصول.
(3) راجع: قواعد العلامة الحلي: كتاب الصلح، الفصل الثالث في التنازع
25

قلت: الصلح مع المدعي: إما أن يكون من الأجنبي لنفسه.
أو من المدعى عليه. وعلى التقديرين، فإما أن يكون الصلح على المدعى
به، أو على مجرد حق الدعوى لأنه من الحقوق لا من الأحكام، فإن كان
على المدعى به - وكان من الأجنبي - انتقل إليه حق الدعوى، تبعا لما
انتقل إليه بالصلح من المدعى به - عينا كان أو دينا - وإن كان من المدعى
عليه، سقط الحق عنه، لأنه لا يملك على نفسه، وينتقل إليه المدعى به
إن كان عينا ولم يكن له في الواقع مع فرض صحة الصلح منه. وإن كان
على حق الدعوى مجردا عن المدعى به، فالظاهر بطلان الصلح وعدم نفوذه
لعدم استقلالية هذا الحق لنفسه حتى يصح الصلح عليه، ضرورة كونه
منتزعا من الحق المدعى به ومسببا عنه، دائرا مداره وجودا وعدما،
فلا استقلالية له في الوجود: بل وجوده وجود عرضي يتحقق بوجود
معروضة. كيف، وما كان كذلك يستحيل تفكيكه عنه ونقله بالصلح،
لأنه من تخلف المعلول عن علته التامة، وهو الوجه في عدم جواز الصلح
عليه مجردا، إلا ما قيل: من أنه لو صالح عليه وأثبت المدعى به ليس
له أخذه، لأنه لم يصالح عليه حتى يجاب عنه - كما في جامع الكركي -
بأنه بالصلح يقوم مقام المدعي في أخذ المدعى به بعد اثباته (1).

(1) راجع: جامع المقاصد في شرح قواعد العلامة: ج‍ 1 كتاب الصلح:
الفصل الثالث في التنازع، فإنه علق على نفس عبارة العلامة الآنفة بعبارة طويلة
آخرها قوله: ".. وكذا لقائل أن يقول: لم لا يجوز الصلح على استحقاق الدعوى
فقط، فإن ذلك حق ويجوز الصلح على كل حق، لكن يرد عليه - حينئذ - أنه
لو ثبت الحق امتنع أخذه لعدم جريان الصلح عليه. ويجاب بأن الصلح لو جرى
على أصل الاستحقاق، فإن ثبت الحق أخذه وإلا كان له استحقاق الدعوى وطلب
اليمين. وبالجملة: فيقوم مقام المدعى.. "
26

هذا، ولكن الأظهر بطلان الصلح على المدعى به قبل اثباته لأنه
محكوم ظاهرا بملكيته للمدعى عليه، وهو مستلزم لبطلان الصلح عليه ظاهرا
لأنه من الصلح على مال الغير شرعا، وهو باطل. فمرجع الصلح - حينئذ -
ليس إلا الصلح عن حق الدعوى الذي يكفي في ثبوته احتمال صحته،
وانتقاله إليه بهذا المعنى مستلزم لانتقال متعلقه في الواقع إن كان له ليقوم
الاحتمال في حقه أيضا، تصحيحا للمعاملة، وإن لم يكن له فالمصالح عليه
هو نفس هذا الحق المنتزع من احتمال كون متعلقه له.
ولعله مراد (الكركي) في الجواب، بأنه بالصلح يقوم مقام المدعي
في أخذ المدعى به بعد إثباته، وإلا فكيف يستحق المدعى به بعد الاثبات
مع أنه لم يجر الصلح عليه؟.
وكيف كان، فالصلح يبطل إن وقع عن المدعى به - فقط - وكذا إن وقع
عن حق الدعوى بشرط التجرد عنه، وإنما يصح لو جرى على حق الدعوى - لا بشرط -
هذا، ولو جرى الصلح على نفس ترك الدعوى دون حقها لم يسقط
حقه وكانت دعواه مسموعة، وإن وجب عليه الترك. ولكن، هل يجوز
له أن ينقله إلى غيره، فيطالب الغير به؟ الأقرب ذلك، لعدم منافاته
لما التزم به بالصلح من عدم المطالبة - بنفسه أو بوكيله. ولو مات انتقل
الحق إلى وارثه فله المطالبة به لعدم التزامه بما التزم به مورثه، ولو مات
من كان عليه الدعوى - في الفرض - فله المطالبة من وارثه لأنه غير من
التزم له بتركها إن وقع الصلح على ترك مطالبته، وإن وقع على ترك الدعوى
على العين استمر المنع إلى ما بعد الموت - أيضا - لأن الملتزم به ترك الدعوى
على العين لا على من كانت بيده، بخلاف الأول، ومثله يجري التفصيل
بين الاطلاق والتقييد فيما لو نقل العين إلى غيره، فافهم.
ومنها - حق اليمين، فإنه من الحقوق التي يصح الصلح عليها حيث
27

ما يستحق الاحلاف فيكون مفاد الصلح عليه هو الاسقاط.
ومنها - حق الغيبة، وسائر أنواع الإهانة لأخيه المؤمن مما يوجب
إدخال النقص عليه فإنها تسقط بالاستحلال لو أسقط، ولا ينقل ولا
يورث. فالذي يترائى - في بادئ النظر أن هذه الأفعال من الغيبة والشتم
والايذاء ونحو ذلك، أسباب توجب حدوث حق جديد للمغتاب ونحوه.
ولكن في الحقيقة ليس الأمر كذلك، بل هي متلفات للحق الثابت
له بأصل الشرع، فهي من تضييع الحق وإتلافه، وليس عليه إلا ما ضيعه
من الحق التالف.
توضيح ذلك: إن للمؤمن - أو المسلم - حقوقا على أخيه، منها
واجبة ومنها مندوبة. ومن الأول احترام عرضه، فإنه حق له مستمر على
أخيه المسلم واحترام ماله من احترام نفسه. ولذا من لا حرمة له في نفسه
لا حرمة لماله، كالحربي الذي يملك ماله، ولذا كان مكلفا بالعبادات المالية
كالخمس والزكاة، وإن لم يصح منه إلا بالاسلام، غير أنه يجوز لنا
مزاحمته في ماله، لعدم احترامه. والمسلم، وإن كان ماله محترما، إلا
أن زمام احترام ماله بيده، فله إسقاطه لعدم منافاته لاحترام نفسه، ولا
كذلك احترام عرضه، فليس بيده زمامه حتى يسقط باسقاطه. ولذا
لا تحل غيبة من جعل الناس في حل من غيبته، وحرمة عرضه مستلزمة لتحريم كل
ما يلزم منه عدمها، لأنها موجب لاتلاف حقه وتضييعه وعليه بدل التالف
لا حق جديد، ووجوب الاستحلال مع عدم المحذور - لو قلنا به - فإنما
هو للتخلص عن ضمان البدل الأخروي من تحل ذنوبه أو تحويل حسناته
إليه، كما ورد في بعض الأخبار، وهو أمر آخر، مع أنه يحتمل أن يكون
ذلك كله أصلا وفرعا من الأحكام، وإن أطلق عليها لفظ الحق فتأمل:
ومنها - حق الشفعة الذي دل الاجماع - بقسميه - والسنة المستفيضة
28

بل المتواترة معنى - على ثبوته للشريك ببيع شريكه حصته، فله سلطنة انتزاع
المبيع - قهرا - من المشتري بنفسه، وهو يسقط بالاسقاط، اجماعا من
المسلمين لكونه رخصة، لا عزيمة، شرع ارفاقا للشفيع بدفع ضرر الشركة
عن نفسه، ولعدم كون الموجب له علة تامة، وينتقل بالإرث على الأشهر
- بل المشهور - للاجماع المحكي نصا وظاهرا، المعتضد بالشهرة العظيمة،
وللنبوي المنجبر: (ما ترك الميت من حق فلوارثه) (1) المؤيد بعمومات
أدلة الإرث، كتابا وسنة.
وأما نقله بمعنى تحويله منه إلى غيره، فلم أعثر على من جوزه، بل
الظاهر، اتفاقهم على عدمه، من غير فرق بين نقله مستقلا أو منضما إلى حصته.
وفي سقوطه ببيع حصته، فللمشتري الشفعة فيه أو بقاؤه للأصل مع
كون الشركة علة الحدوث دون البقاء - وجهان: ولعل الأول هو الأقوى
نعم يصح الصلح المتضمن للاسقاط عليه مطلقا، ولو من الأجنبي
فيسقط بمجرده من دون حاجة إلى إنشاء الاسقاط، إلا إذا صالحه على
نفس الاسقاط فيجب عليه فعله، ولا يسقط بدونه، ولكن، لو تركه
وأخذ بحقه، ملكه، وإن أثم بالترك. ومثله ما لو وقع الصلح على مجرد
ترك استيفاء الحق دون نفس الحق، فله استيفاؤه لبقاء الحق بالفرض،
وإن أثم به.
اللهم إلا أن أن تدعى الملازمة بين السقوط والالتزام بعدم الاستيفاء
ولكنه على عهدة مدعيها.
نعم يبقى هنا سؤال الفرق بين الانتقال القهري بالإرث والنقل
الاختياري إلى الأجنبي بأحد النواقل منضما معه حصته - أيضا - كي ينتقل

(1) راجع: كتاب الرياض للسيد الطباطبائي: ج 1 فصل 3 الخيار، باب
أن الخيار يورث.
29

في الأول، ولا ينتقل في الثاني مع اتحادهما في تحقيق الشركة وتجددها، ولعله
لكون الإرث مرجعه إلى قيام الوارث مقام المورث، وتنزيله منزلته. ولذا
كان له ما ترك من حق، ولا كذلك النقل بالنواقل، فإنه من تحويل الملك
من المالك إلى غيره، لا من قيام الغير مقام المالك.
وإن أبيت عن ذلك، فنقول: الفارق بينهما هو قيام الدليل على
ثبوت هذا الحكم المخالف للأصول والقواعد في الانتقال القهري من الاجماع
وغيره وعدم قيامه في غيره مع منع عموم يقضي بصحة النقل في كل حق
إلا ما خرج، مع أنه قد يقال: إن مرجع الشك - هنا - إلى الشك في
القابلية التي لا يمكن إجراؤها بالعموم، لو فرض وجوده - فتأمل -.
ومنها - النفقات. والأقرب: أن بعضها حقوق، وبعضها أحكام
أما نفقة الزوجة، فهي من الحقوق - قطعا - لاطلاق الحق عليها
في بعض النصوص. ولذا تقضى لو أخل بها الزوج مع تمكينه من نفسها
- إجماعا - بقسميه، ومنقوله فوق الاستفاضة، معتضدا بدعوى غير واحد
عدم الخلاف فيه، فيسقط بالاسقاط وينقل بالنواقل وينتقل بالإرث كغيره
من الديون.
وأما نفقة الأقارب من الأبوين - مطلقا - أو الأدنين منهما والأولاد،
فالأقرب إنها من الأحكام، إذ غاية ما يستفاد من أدلتها وجوب البذل
للمواساة وسد الخلة، ولذا لا يقضيها من وجب عليه البذل لو أخل
به، وإن أثم - بلا خلاف - كما عن جماعة بل اجماعا كما عن غير واحد (1)

(1) قال المحقق في (الشرائع آخر كتاب النكاح باب القول في نفقة الأقارب
".. ولا تقضى نفقة الأقارب لأنها مواساة لسد الخلة فلا تستقر في الذمة ". وقال
سيدنا في (الرياض - في هذا الكتاب والباب). ".. وتقضى نفقتها (أي الزوجة)
دون نفقتهم (أي الأقارب) بلا خلاف في شئ من ذلك، بل حكى جماعة الاجماع
عليه وهو الحجة فيه مع النص الآتي في الأول مع تأمل يظهر وجهه. وعللوا الثاني
بأن وجوب النفقة فيه على وجه المعاوضة في مقابلة الاستمتاع بخلاف نفقة القريب
فإنها إنما وجبت للمواساة ورفع الخلة.. فلا تستقر في الذمة ولا يجب قضاؤها "
وبمثل هذا الحكم والتعليل في اللمعة وشرحها للشهيدين والجواهر - في نفس الكتاب -.
30

وليس إلا لما ذكرناه من كونه حكما لاحقا، وإلا فالأصل في الحقوق
المالية أن تقضى، ودعوى الخروج عنه في المقام بالاجماع وأنه من الاجماع
على خلاف القاعدة - كما صرح به شيخنا في (الجواهر) (1) ممنوعة جدا،
إذ لا موجب للالتزام بكونه حقا، حتى نلتزم بالخروج عن القاعدة للاجماع.
وحينئذ، فلا تسقط بالاسقاط ولا تنقل بالنواقل. ومثلها نفقة المملوك،
فإنها تجب على المالك للمواساة وسد الخلة - أيضا - مضافا إلى عدم إمكان
فرض حق له عليه.
ومنها - الوصية التي هي عبارة عن إعطاء ولاية التصرف للوصي
من الموصي في ثلث ماله بعد الموت. فهي من الحقوق، لأنها منتزعة
من سلطنة المالك في ملكه، بل هي هي بعد تنزيل الوصي منزلة الموصي
بأدلة الوصية، فانتقل منه ما كان له من ملكية التصرف إليه، فهي لا تسقط
ولا تنقل بوجه من الوجوه.

(1) قال شيخنا في (الجواهر - كتاب النكاح، باب نفقة الأقارب) في
شرح قول المحقق (ولا تقضى نفقة الأقارب) ".. نعم قد يشكل أصل عدم
وجوب القضاء بأن الأصل القضاء في كون الحق مالي لآدمي، ودعوى كل الحق هنا
خصوص السد الذي لا يمكن تداركه، واضحة المنع بعد اطلاق الأدلة المزبورة
وحرمة العلة المستنبطة عندنا... فالعمدة حكم الاجماع فهو مع فرض تماميته في غير
المفروض ".
31

ولعل مثلها الوكالة على بيع الرهن في ضمن عقد الرهانة، فإنه من
التولية عليه دون التوكيل، ولذا لا يملك عزله - على الأقوى - بخلاف
غيره من العقود اللازمة لو اندرجت وكالة فيه، فإنه يملك عزله وينعزل
به، وإن أثم فيه - على رأي قوي - بل ولو شرط عدم نفوذ العزل
كان من الشرط الفاسد الموجب للخيار، ضرورة منافاته لماهية الوكالة
وحقيقتها التي هي عبارة عن مجرد الإذن الخاص في التصرف ومحض الرخصة
فيه ولذا كان جواز التصرف فيها من الأحكام لا من الحقوق. ولتفصيل
الكلام فيه محل آخر. وبالجملة، غير بعيد دعوى الفرق بين جعله وكيلا
على بيع الرهن في عقد الرهانة ليحصل الوثوق التام بالاستيفاء والوكالة على
غيره في سائر العقود اللازمة بجعل الأول من التولية التي لا بأس بها لو
قلنا بأنه لا يملك عزله، والثاني من الوكالة التي ينافيها عدم نفوذ العزل فيه.
ومنها - إجازة المالك في بيع الفضولي، فإنها من الأحكام لأن معناها
إمضاء البيع الواقع في ملكه، فهو كما لو باعه بنفسه من الآثار المتعلقة
بنفس السلطنة التي هي له، ومثلها الرد الذي مرجعه إلى إبقاء ملكه على
ما كان، وكل من النقل والابقاء من الأحكام، لا من الحقوق.
هذا ما وسعني من الكلام في هذا المقام على تشتت البال وضيق المجال
وهو الموفق للسداد والهادي إلى سبيل الرشاد
32

التعليق
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
من الآن إلى قيام يوم الدين.
قال سيدنا الحجة خالنا المرحوم السيد محمد آل بحر العلوم - تغمده
الله برحمته وأسكنه فسيح جنته - في رسالته في (تحقيق الفرق بين الحق
والحكم): (أما الحكم فهو جعل بالتكليف أو الوضع) إلى أن يقول
- قدس سره -: (وأما الحق فهو يطلق مرة - في مقابل، الملك وأخرى
ما يرادفه..) إلى آخر كلامه - رحمه الله -.
أقول: قد يطلق الحق على عنوان عام شامل لكل ما جعله الشارع
المقدس بالجعل التأسيسي، والامضائي. وهو بهذا الاطلاق عبارة عن
التحقق والثبوت. ويشمل الحكم الشرعي تكليفا وامضاء.
وله إطلاق آخر أخص من هذا العنوان العام في اصطلاح الفقهاء،
خصوصا المتأخرين منهم، وهو عبارة عن مرتبة ضعيفة من الملك، وإضافة
ناقصة مجعولة من المالك الحقيقي - تبارك وتعالى - لذي الحق، أعم من
وجود من عليه الحق أو عدمه.
وعبر عنها بعض المعاصرين بالملكية غير الناضجة، وهو تعبير حسن
فإن المرتهن للعين المجعولة من الراهن وثيقة لدينه الذي له عليه - وإن كان
ذا إضافة وسلطنة عليها - ومن هنا يمنع الراهن من التصرف فيما ملكه من
العين المرهونة - مطلقا - أو خصوص التصرف المنافي لحق المرتهن - على
33

الخلاف - ولكن ليس للمرتهن بالنسبة إلى الرهن من التصرف فيه، سوى
استيفاء دينه منه ببيعه وأخذ مقدار حقه من ثمنه عند امتناع تحصيله من
المديون. وكذا من له الخيار في عقد البيع - مثلا - فإنه - وإن كان ذا
حق متعلق بالعقد وسلطنة عليه من حيث القدرة على فسخه وإقراره أو
متعلق بالعين التي خرجت عن ملكه إلى ملك طرفه بالتسلط على إعادتها
إلى ملكه بفسخ العقد، ومن هنا يمنع طرفه من التصرفات المنافية لحقه فيما
انتقل إليه وملكه بالعقد - لكن حقه المجعول له لا يتجاوز التسلط على فسخ
العقد أو اقراره، أو التسلط على استرجاع العين التي نقلها إلى طرفه إليه
- بناء على تعلق حقه بنفس العين المنقولة إلى طرفه -
وهكذا كل من له حق بالمعنى الأخص، فإن له شأنا من شؤون
الملك. فإن من له حق الشفعة فيما باعه شريكه في شركته، له أخذ
الشقص (1) وتملكه من مشتريه بما اشتراه من الثمن - قهرا عليه - ومن
حجر على موات من الأرض، أو سبق إلى وقف على عنوان يشمله،
فأشغله بنفسه أو بمتاعه، فماله من الحق هو اختصاصه به وعدم الحق لآخر
في مزاحمته عليه، وإن كان ممن يشمله عنوان الموقوف عليه - بناء على
ما هو المشهور من كون ذلك من قبيل الحقوق - وإن احتمل سيدنا المصنف
بل قوى كون ذلك من قبيل الأحكام - على ما سبق من رسالته - فراجع
ومثله حق الاختصاص فيما لم يكن متمولا من الأشياء كالخمرة القابلة
للتخليل، ونحو ذلك.
والحاصل: إن العلقة والإضافة الحاصلة بين المضاف والمضاف إليه
إذا كانت تامة صالحة لأنحاء التقلبات تسمى ملكا. وإذا كانت ناقصة

(1) الشقص - بالكسر - السهم والنصيب، مأخوذ من قولهم: شقص الذبيحة
أي قطعها سهام معتدلة بين الشركاء.
34

لا تصلح إلا لنحو من التقلب لقصور في نفسها أو متعلقها - تسمى حقا،
كالإضافة الحاصلة للمرتهن بالنسبة إلى العين المرهونة والحاصلة للشفيع بالنسبة
إلى حصة شريكه المبيعة في شركته، فإن المرتهن ليس له سوى استيفاء
دينه من الرهن إذا لم يفه المديون. والشفيع ليس له من السلطنة إلا تملك
ما اشتراه المشتري من الحصة بالثمن الذي اشتراه به. وكذا الإضافة الحاصلة
لذي الخيار، فإنه - بناء على تعلق حقه بما خرج عن ملكه إلى ملك طرفه -
ليس له إلا التسلط على إعادته إلى ملكه بفسخ العقد.
وأما بناء على تعلق حقه بالعقد وتسلطه على فسخه واقراره، فالقصور
في متعلق الإضافة.
ونظيره من هذه الجهة: حق التحجير على موات من الأرض وحق
السبق إلى مكان مباح أو وقف عام، فإن الموات لا يملك بالتحجير عليه،
والمباح والوقف لا يملكان بالسبق إليهما. وغاية ما يحصل لمن حجر أو سبق
حق اختصاص فيما حجر عليه أو سبق إليه لا يجوز غصبه منه ومزاحمته
عليه.
ثم إن المائز بين الحكم والحق: هو أن الحكم لا يسقط بالاسقاط إذ
هو مجعول من الشارع المقدس على موضوعه، فزمامه بيده، وأمر وضعه
ورفعه إليه بخلاف الحق، فإن قوامه قابليته للاسقاط والعفو ممن جعل له
وهو - وإن كان كالحكم من حيث الجعل من الشارع الأقدس - إلا أن
نحو الجعل مختلف، فإن الحق جعل لصاحبه بنحو يكون زمامه بيده، فله
الأخذ به، وله العفو والاسقاط، بخلاف الحكم فإنه مجعول من الشارع
المقدس على موضوعه بنحو يكون رفعه بيد جاعله كوضعه.
وبالجملة: فإن الحق سلطنة مجعول زمامها بيد ذي الحق فله القدرة
على الاعمال والاسقاط.
35

فما ذكره سيدنا الخال - قدس سره - حيث يقول: (منها - أي
من الحقوق -: ما لا يجوز عليه شئ من ذلك فلا يسقط بالاسقاط ولا ينقل
بالنواقل ولا ينتقل بالإرث كحق الأبوة وولاية الحاكم، وحق الاستمتاع
بالزوجة وحق الجار على جاره والمؤمن على أخيه فإنها حقوق لأربابها لا تسقط
ولا تنتقل بوجه من الوجوه) انتهى.
قابل للمناقشة، إذ الحق الذي هو سلطنة ضعيفة على الشئ ومرتبة
ناقصة من الملك بجميع أقسامه وأنحائه، قابل وصالح للاسقاط بمقتضى
طبعه - كما حكي ذلك عن شيخنا الشهيد - قدس سره - وجعل ذلك هو
الضابط في الفرق بين الحكم والحق.
وما أفاده سيدنا: من تنظير ما لا يسقط بالاسقاط بحق الأبوة وولاية
الحاكم.. إلى آخر ما ذكره من الأمثلة.
غير واضح، فإن جملة ما ذكر من الأمثلة ليس من الحق بالمعنى
المصطلح الذي هو مرتبة ناقصة من مراتب الملك وإنما هي من قبيل الأحكام -
فإن ما مثل به من (حق الأبوة) إن كان مراده بحق الأبوة وجوب
إطاعة الولد للأب وحرمة معصيته مما كان مستلزما لعقوقه وسخطه، فإنه
ليس من قبيل ما نحن فيه من الحق الذي هو بمعنى الملكية الضعيفة، وإنما
هو حكم شرعي الزامي على الولد بالنسبة إلى والديه ثبت بدليله الخاص -
احتراما لهما وجزاء على احسانهما إليه، كما أنه لو كان المراد سلطنته على
التصرف في مال ولده الصغير بما يحصل به حفظه عن التلف وما يرجع
إلى مصلحته من البيع أو الشراء له بما له، ونحو ذلك، فإنه - أيضا -
من الحكم الشرعي الثابت بدليله للأب فيما يرجع إلى مال الولد والترخيص
في تصرفه فيه ونفوذه عليه، وليس من الحق الاصطلاحي المذكور لمن
له الحق مما يعود فيه نفع لذي الحق.
36

نعم، ثبت للأب عند مسيس الحاجة - جواز أخذ مال الولد وصرفه
على نفسه وعلى من يعول به، ما لم يكن مجحفا ومسرفا في ذلك.
فعن الشيخ - قدس سره - باسناده (عن محمد بن مسلم عن أبي
عبد الله - صلوات الله عليه - قال: سألته عن الرجل يحتاج إلى مال ابنه
قال عليه السلام يأكل منه ما شاء من غير سرف) قال وقال - ع - وفي
كتاب علي (عليه السلام): إن الولد لا يأخذ من مال والده شيئا إلا بإذنه، والوالد
يأخذ من مال ابنه ما شاء.. إلى قوله: وذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال لرجل: أنت ومالك لأبيك).
وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام: (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال لرجل: أنت ومالك لأبيك، ثم قال أبو جعفر عليه السلام: ما أحب
أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج إليه مما لا بد منه، إن الله لا يحب
الفساد) (1).
ولعل سيدنا - قدس سره - يريد من حق الأبوة ما ذكرناه - أخيرا -
وعلى كل، فالظاهر كون ذلك - أيضا - ليس من الملك الضعيف الذي
هو حق اصطلاحا، وإنما هو حكم من الشارع وترخيص منه بأخذه ما يحتاج
إليه من مال ابنه عند الحاجة الماسة إليه، ولا معنى لسقوطه بالاسقاط ولا
نقله بالنواقل، ولا انتقاله بالإرث.
وأما ولاية الحاكم، فمما لا إشكال فيه كون الفقيه الجامع للشرائط
له ولاية التصرف في مال الطفل والغائب - في الجملة - لمصلحتهما - وسيأتي

(1) راجع هذين الحديثين في كتاب التهذيب - المكاسب - ج‍ 6 ص 343
طبع النجف الأشرف.
حديث " أنت ومالك لأبيك " تذكره عامة الصحاح عن النبي (صلى الله عليه وآله) راجع
كشف الخفاء للعجلوني: ج‍ 1 ص 207 حديث (628)
37

بيانه في مبحث الولاية. وهي بالمعنى المذكور ليست من الحق الاصطلاحي
أيضا، وإنما ذلك حكم من الشارع وترخيص منه للحاكم في التصدي
لذلك رعاية لمصلحة المولى عليه، ولا يعود منه نفع للحاكم غير الأجر
والثواب.
وأما حق الاستمتاع للزوج بالنسبة إلى زوجته، فعدم كونه من
الحق - بمعنى الملك - واضح، فإن مرجعه إلى حكم من الشارع على الزوجة
بعدم جواز امتناعها وترفعها عن ذلك عند إرادة الزوج له فيما لو كان ملتزما
بحقوقها الواجبة عليه، ولا مناسبة بينه بالمعنى المذكور - وبين الحق
بمعنى الملك.
كما أن مرجع حق الجار على جاره أو الأخ المؤمن على أخيه: المحافظة
على مقام الأخوة والجوار وعدم التصدي إلى ما ينافيه.
وبالجملة، هذه الحقوق ونظائرها، وما ذكره سيدنا بعد ذلك من
حق الغيبة والايذاء بضرب وشتم أو إهانة أو نحو ذلك: الظاهر أنها من
الأحكام، وليست من الحقوق بمعنى الملك، ووجوب الاستحلال من
المستغاب أو المتأذي أو المهان - على فرضه - إنما هو من جهة ظلمه بهتك
عرضه أو إيذائه ونحوه، لا لثبوت حق مملوك له عليه.
كما أن حق التولية المجعول من الواقف للمتولي على الوقف وحق
الوصاية المجعول من الموصي لشخص خاص على أطفاله أو على التصرف
في ثلث ماله، ونحو ذلك مما يكون من شؤون ولايته على الأطفال وسلطنته
على نفسه أو على ماله، كل ذلك - على الظاهر - أنها من قبيل الحكم
لا الحق بالمعنى المصطلح.
وما ثبت بالدليل أن الموصى إليه له رد الوصية في حياة الموصي فتبطل
وصايته بشرط بلوغ الرد للموصى، وإمكان نصبه غيره على وجه موافق للاحتياط
38

ليس ذلك من حيث كون الوصاية حقا للوصي والرد إسقاطا له وإلا
لجاز له ذلك وصلح - مطلقا - بلا شرط.
وبالجملة، فالظاهر أن الولايات على إطلاقها وشعبها المجعولة ممن له
الجعل والنصب لأشخاص أو أنواع من حيث الترخيص في تصرفاتهم في
مال الغير أو نفسه وصحتها ونفوذها - ومنها باب الوصاية - من قبيل الأحكام
الثابتة لموضوعاتها في مواردها - ترخيصا أو إمضاء - ومن هنا لا تقبل
الاسقاط، فهي من قسم الحق بالمعنى العام، لا من الحق بالمعنى الأخص
الذي هو من مراتب الملك القابل للاسقاط بمقتضى طبعه:
فما ذكره سيدنا - قدس سره -: (من أن الوصية من الحقوق، لأنها
منتزعة من سلطنة المالك في ملكه، بل هي هي بعد تنزيل الوصي منزلة
الموصى بأدلة الوصية، فانتقل منه ما كان له من ملكية التصرف فهي
لا تسقط ولا تنقل بوجه من الوجوه..)
غير واضح، فإن أصل سلطنة الشخص على ماله من قبيل الحكم المجعول
من الشارع بقوله: (الناس مسلطون على أموالهم) لا من الحق بمعنى الملك
الضعيف، ولذلك لا يسقط بالاسقاط فكيف ما ينتزع منها ويتفرع عليها؟.
نعم ربما يكون بعض ما هو حتى بالمعنى الأخص غير قابل للاسقاط
عمن هو عليه، فيكون - من هذه الجهة - بمنزلة الحكم في عدم قبوله
للاسقاط. وذلك كحق الخمس والزكاة المتعلق بمال الغير لأربابه ومستحقيه
- بناء على كونهما من الحق - بالمعنى الأخص كما هو الأقوى -
وقبل بيان وجه عدم قابلية هذا النوع من الحق للاسقاط - مع أنا
ذكرنا أن قوام الحق قبوله للاسقاط -: لا بد من توضيح نحو هذا النوع
من الحق وكيفية تعلقه بموضوعه، فنقول:
لا إشكال - بل لا خلاف - في عدم كون الحق المذكور من قبيل
39

التكليف الصرف ومحض الوجوب على المالك نظير وجوب نفقة الأقارب
وإنما هو من قبيل الوضع.
وعليه، فهل الحق المذكور إنما يتعلق بذمة المالك والعين الزكوية،
مثلا ليست محقوقة به؟ ربما يحكى عن بعض الأصحاب ذلك، وينسب إلى
بعض العامة وهو خلاف ظاهر آية الزكاة، وآية الخمس. بل خلاف
صريح بعض الأخبار، وكلمات الأصحاب، والفروع المتسالم عليها عندهم
فإنها صريحة بتعلق الفريضة بنفس العين.
وعليه، فهل الحق المذكور المجعول لأربابه من قبيل الملك في العين
وأن الفقراء - مثلا - يملكون قسطا من مال المالك بنحو الشركة الحقيقة
والكسر المشاع - كما نسب إلى ظاهر المشهور - أو من قبيل الكلي في المعين
كما يظهر من بعض آخر - ولعل ذلك لما يظهر - من بعض الأخبار من
قوله - عليه السلام - (.. فيما سقت السماء العشر) (1) و (في كل
عشرين مثقالا من الذهب نصف مثقال) (2) وقوله عليه السلام: (إن
الله تعالى شرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال) وقول علي عليه الصلاة
والسلام - كما في نهج البلاغة فيما كان يكتبه لمن يستعمله على الصدقات -:
(فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن أكثرها له) (3)

(1) بهذه الألفاظ وبقريب منها يذكر الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) في عامة
كتب الصحاح، وكتب الأخبار في كتاب الزكاة باب زكاة الغلاة.
(2) بهذا اللفظ وبهذا المضمون ذكره (الكافي في كتاب الزكاة، باب زكاة
الذهب والفضة).
(3) راجع: شرح ابن أبي الحديد (ج 15 ص 151) طبع دار احياء
الكتب العربية.
40

حيث أن الظاهر منه: إن بعضها - وهو ما عد الأكثر - للمستحق، جعله
الله له...
إلى غير ذلك من أخبار الزكاة وأدلة الخمس، كالآية الشريفة (واعلموا
أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه..) (1)
وما عن الشيخ والكليني - قدس سرهما - في الصحيح: (عن محمد
ابن مسلم - رضي الله عنه - عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن
معادن الفضة والصفر والحديد والرصاص؟ فقال - عليه السلام - عليها
الخمس جميعا) (2).
وأظهر منها صحيح الحلبي - رض - في حديث قال: (سألت أبا عبد الله
- عليه السلام - عن الكنز: كم فيه؟ قال عليه السلام الخمس، وعن
المعادن: كم فيها؟ قال عليه السلام الخمس، وعن الرصاص والصفر
والحديد وما كان من المعادن كم فيها؟ قال: (عليه السلام): يؤخذ منها كما
يؤخذ من معادن الذهب والفضة..) (3).
إلى غير ذلك مما هو ظاهر في الشركة في المال بنحو الكسر المشاع
هذا، ولكن الالتزام بذلك والأخذ بهذا الظهور لا يجتمع مع بعض
التصريحات والأمارات في غير واحد من الأخبار، وكلمات الأصحاب والفروع
المسلمة عندهم على الظاهر، بل لا يتناسب مع آية الزكاة من قوله تعالى:
(إنما الصدقات للفقراء والمساكين..) الخ فإن ظاهرها ومفادها: أن

(1) سورة الأنفال / 41
(2) راجع: التهذيب للشيخ الطوسي (ج 4، كتاب الزكاة، باب الخمس
والغنائم) حديث (345) طبع النجف الأشرف.
(3) راجع: التهذيب للشيخ الطوسي (ج 4 ص 121 باب الخمس والغنائم)
طبع النجف الأشرف.
41

ما فرضه الله تعالى في أموال الأغنياء للفقراء هو صدقة يجب على الغني دفعها
من ماله تقربا إلى الله تعالى، ولا محصل للتصدق على شخص بما يملكه فعلا.
هذا مضافا إلى أن الظاهر أن استحقاق الفقير في الأموال التي يستحب
أداء زكاتها كمال التجارة والخيل والإناث وما يكال أو يوزن من الحبوب
عدا الغلاة الأربع وغير ذلك مما يستحب أداؤه، مساو لما فرض فيه الزكاة
كالغلاة الأربعة والأنعام الثلاثة والنقدين - كما يشهد بذلك اشتمال بعض
الروايات الواردة في بيان ما ثبت فيه الزكاة على الواجب والمستحب (1) فإن
الظاهر من سياقها اتحاد نحو الاستحقاق غير أن بعضه فرض والآخر ندب
وهو ما سوى الأعيان التسعة.
ومن المعلوم عدم امكان الشركة الحقيقية والملكية الفعلية في المستحب
أداؤه، على أن المال المشترك بين مالكين بنحو الإشاعة ليس لأحدهما
التصرف فيه إلا بإذن الشريك.
ولا إشكال بل الظاهر عدم الخلاف في جواز تصرف المالك فيما عدا
مقدار الزكاة من النصاب مع العزم على الأداء من الباقي.
بل الذي يظهر من صحيحة عبد الرحمان، صحة بيع جميع النصاب ولزومه
لو أدى البائع مقدار الزكاة من ماله للآخر - وأن ما يؤديه هو عين الزكاة
لا بدلها: قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل لم يزك إبله أو شاته
عامين، فباعها على من اشتراهما أن يزكيها لما مضى؟ قال (عليه السلام): نعم
يؤخذ زكاتها ويتبع بها البائع أو يؤدي زكاتها البائع) (2)

(1) راجع ذلك في كتاب وسائل الشيعة للحر العاملي أوائل كتاب الزكاة
بأبواب متفرقة.
(2) وسائل الشيعة: ج‍ 6 كتاب الزكاة، باب لو باع النصاب قبل أداء
الزكاة طبع جديد طهران.
42

ومن الواضح أن مؤدى هذه الصحيحة لا يجتمع مع الشركة الحقيقة
بل ولا مع الملكية الفعلية، ولو كانت بنحو الكلي في المعين فإن مقتضى
ذلك كون البيع المذكور بالنسبة إلى مقدار الفريضة فضوليا يتوقف نفوذه
على إجازة من له الولاية على الزكاة، فيأخذ من الثمن للمستحق مقدار
حصته، ولا يجدي في نفوذه أداء البائع مقدار الزكاة من ماله الآخر كما
هو مفاد الصحيحة المذكورة.
ثم إن ظاهرها من حيث سكوتها عن نماء حصة المستحق في المدة
المذكورة في السؤال: أنه ليس على المالك أداء الموجود منه، ولا ضمان
ما استوفاه أو فات وتلف تحت يده، وأنه ليس عليه إلا أداء الزكاة
فقط، وهو خلاف ما تقتضيه قاعدة تبعية النماء للملك.
وبالجملة: فالذي يستفاد من الآية الشريفة، ومجموع الأخبار والفروع
المتسالم عليها من الأصحاب: أن فريضة الزكاة متعلقة بالعين لا بالذمة،
وإن تعلقها لم يكن بنحو الملك الفعلي في العين - لا بنحو الشركة الحقيقة
ولا بنحو الكلي في المعين - وإنما هو حق معين فرضه الله تعالى على
المالك متعلق بماله المعين. وعلى ما استظهره الأستاذ النائيني - قدس سره -
في تعليقته على العروة الوثقى: كونه حقا متعلقا بمالية النصاب، لا ملكا
في العين بشئ من الوجهين (1) وعليه فيلزم المالك أداؤه من نفس العين
أو من ماله الآخر، فهو ملك للمستحق شأنا لا فعلا.
وباصطلاح الفقهاء: حق، لا ملك. وعلى ما عبر به البعض: ملك
غير ناضج.
ثم إن الظاهر عدم كونه من قبيل حق الرهانة حيث أن مرجع كونه
من قبيله: أن فريضة الزكاة في ذمة المالك، والعين الزكوية وثيقة عليها

(1) أي الآنفي الذكر، وهما: الشركة الحقيقية، والكلي في المعين.
43

كما أن الرهن وثيقة على الدين الذي هو في ذمة الراهن، ومن آثاره كون
المالك ممنوعا من التصرف في شئ من النصاب ما دام لم يؤد الفريضة،
كما أن الراهن ممنوع من التصرف في الرهن قبل فكه من الرهانة، كما
أن مقتضاه كون تلف النصاب بلا تفريط كلا أو بعضا إنما يكون من
المالك، ولا يرد شئ منه على المستحق، كما أن تلف الرهن بلا تفريط
إنما هو من الراهن، ولا ينقص شئ بسببه من دين المرتهن.
وكل ذلك خلاف ما هو المتسالم عليه في باب الزكاة.
أما كون فريضة الزكاة متعلقة بذمة المالك فلم ينقل عن أحد معين
من أصحابنا، نعم عن ابن حمزة نسبته إلى بعض غير معين. بل المتسالم
عليه بينهم أنها متعلقة بالعين - على اختلاف مشاربهم في نحو التعلق -.
وأما منع المالك من التصرف في النصاب قبل أداء الفريضة فإنه
لا إشكال في جوازه فيما سوى مقدار الفريضة، مع العزم على الأداء من
الباقي: ولعله مما لا خلاف فيه.
نعم مقتضى القول بالشركة الحقيقة توقفه على إذن الحاكم الشرعي.
وأما ورود التلف - كلا أو بعضا - على المالك فقط فهو مبني على
تعلق الحق بالذمة لا بالعين. وأما بناء على تعلقه بالعين، فظاهر النص
والفتوى: أن ما يتلف من النصاب بلا تفريط من المالك يرد على المستحق
منه بنسبة حصته من النصاب. نعم من التفريط - ومنه تأخير دفعها وإيصالها
إلى المستحق مع التمكن من ذلك - يضمن المالك حصة المستحق.
وبالجملة فالظاهر عدم كون حق الزكاة من قبيل حق الرهانة، كما أنه ليس من قبيل حق الفقير بالمال المنذور التصدق به عليه، إذ لا إشكال
في أن المال المنذور التصدق به لا يجوز التصرف فيه بما ينافي الصدقة، ويتعين
على الناذر التصدق به. ولا يجدي إبداله بمال آخر. ولا إشكال ولا
44

إشكال ولا خلاف - على الظاهر - في جواز دفع معادل فريضة الزكاة
من مال آخر.
هذا، وليس تعلقها بالعين من قبيل تعلق حق غرماء الميت بتركته
فإن حق الغرماء غير المستوعب للتركة يتعلق بمجموع التركة بحيث لو تلف
منها شئ وكان الباقي بمقدار دينهم على الميت، كان لهم استيفاء الدين
بكماله من الباقي ولا يرد عليهم النقص بسبب التلف - على الظاهر - وهذا
بخلاف حق المستحق المتعلق بالنصاب، فإن تعلقه بنحو البسط والسريان
في جميع النصاب بحيث لو تلف منه شئ بلا تفريط من المالك يسقط عن
المالك جزء من الفريضة نسبته إليها كنسبة التالف إلى مجموع النصاب.
وبعبارة أخصر: إن التلف - هناك - يختص به الوارث، وهنا يتوزع
على المالك والمستحق بالنسبة. ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف سنخ الحق في
الموردين بحسب ما يستفاد من الأدلة، فإن الغرماء لهم دين معين على الميت
اشتغلت به ذمته حال الحياة وقد جعل الله تعالى لهم حق استيفاء دينهم بتمامه
من تركته - مهما بلغت قليلة كانت أم كثيرة - بقيت أم تلف بعضها -
ما دامت التركة وافية بذلك الدين.
وما هو للوارث من تلك التركة - حسب المستفاد من الأدلة كتابا
وسنة - متأخر عن حق الغرماء، وفي طوله. ومقتضى ذلك ورود التلف
على ما يخص الوارث من المال المتروك وسلامة حق الغرماء، ولا فرق في
ذلك بين القول بأن التركة باقية على حكم مال الميت ما دام الدين باقيا -
وبين القول بأنها تنتقل إلى الوارث محقوقة للغرماء.
وأما فريضة الزكاة، فإنها متعلقة بنفس النصاب لا بذمة المالك - كما
ذكرنا - ولا فرق بين ما يملكه المالك من النصاب وما يستحقه الفقير
- مثلا - منه سوى أن ملكية المالك تامة فعلية، وملكية المستحق ناقصة
45

شأنية معبر عنها بالحق - اصطلاحا - وعلى كل هما في عرض واحد والتلف
الوارد على العين كما يرد على ملك المالك كذلك هو وارد على متعلق حق
الفقير - مثلا - فاختصاص ما يتلف من العين بالمالك بلا وجه. نعم لو كان
التلف بتفريط المالك - ومنه تأخير دفعها وايصالها إلى المستحق عند التمكن
من الدفع والاهمال في الأداء - فقد ذكرنا أن المالك ضامن لحصة المستحق
ففي صحيحة محمد بن مسلم - أو حسنته -: (قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: رجل بعث بزكاة ماله لتقسم، فضاعت هل عليه
ضمانها حتى تقسم؟ فقال عليه السلام: إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها
فهو لها ضامن حتى يدفعها وإن لم يجد لها من يدفعها إليه فبعث بها إلى
أهلها فليس عليه ضمان لأنها خرجت من يده وكذلك الوصي الذي يوصى إليه
يكون ضامنا لما دفع إليه إذا وجد ربه الذي أمر بدفعه إليه، وإن لم يجد
فليس عليه ضمان) (1).
وصحيحة زرارة قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل بعث
إليه أخ له زكاته ليقسمها فضاعت، فقال: ليس على الرسول ولا على المؤدي
ضمان قلت: فإنه لم بجد لها أهلا ففسدت وتغيرت أيضمنها؟ قال:
لا ولكن إذا عرف لها أهلا فعطبت أو فسدت فهو لها ضامن حتى يخرجها) (2)
هذا وليس تعلق حق الزكاة بالعين نظير تعلق أرش الجناية برقبة
العبد الجاني خطأ، وإن كان يشبهه في الجملة من حيث إن مالك العبد
يخير بين دفعه للمجني عليه أو وليه ليتملكه أو يتملك ما قابل الجناية فيما
لو كان أرشها أقل من قيمته، وبين أن يفديه بأرش الجناية أو بأقل
الأمرين من الأرش وقيمته - على الخلاف ما بين الشيخ قدس سره والمشهور

(1) (2) الكافي للكليني: كتاب الزكاة، باب (الزكاة تبعث من بلد إلى
بلد.. فتضيع) حديث (1، 4)
46

وعلى كل يتخير المالك بين دفعه وبين فدائه، كما أن المالك - في باب الزكاة -
يتخير بين دفع الفريضة من العين وبين القيمة - كما أن العبد الحاني يجوز
بيعه، ولكن نفوذه يتوقف على فك رقبته بأداء فدائه، وإلا كان للمجني
عليه أو وليه تملكه، فيبطل البيع، وكذلك العين المتعلقة لحق الزكاة لا
مانع من بيعها، وينفذ البيع لو أدى المالك الزكاة من ماله الآخر، وإلا
كان لمن له الولاية على الزكاة أخذها من العين فيبطل البيع بالنسبة إلى
مقدار الزكاة.
ولكن فرق حق الجناية عن الزكاة: أن حق الجناية ليس أمرا
مفروضا على مالك العبد يلزمه أداؤه لمستحقه، وإنما هو كسائر الحقوق
موكول لمن له الحق إن شاء أخذ به - وحكمه ما ذكرنا - وإن شاء عفا فيسقط
بخلاف حق الزكاة فإنه فرض من الله تعالى على مالك النصاب، يلزمه
أداؤه - من العين أو بدلها - لمستحقه، وليس لأحد إسقاطه والعفو عنه
من غير فرق بين من له الحق، وبين من له الولاية عليه كالحاكم الشرعي
ولعل السر في ذلك: أن من له الحق لم يكن شخصا معينا جعل
زمام الحق بيده كسائر الحقوق المجعولة لأشخاص معينين لهم الأخذ بالحق
وإسقاطه، وإنما جعل هذا الحق لطوائف وأصناف.
وببيان آخر: الحق المذكور مجعول للكلي، لا لفرد أو أفراد، وإنما
يملك الفرد ما وصل إليه من الحق ملكية فعلية تامة، فمن جعل له الحق -
وهو الصنف بنحو الكلي - لا معنى لاسقاطه، والفرد أو الأفراد لا أثر
لاسقاطهم، إذ لم يجعل الحق لهم.
ومن هنا: ليس لهم أخذ الحق من المالك جبرا، أو استيفاء بنحو
من أنحاء الاستيفاءات، كما يجوز ذلك للمغصوب حقه من الغاصب إلا
بإذن من الحاكم الشرعي، وتوكيل خاص له بأخذ الحق من المالك الممتنع.
47

وأما من له الولاية - على هذا الحق - وهو الحاكم الشرعي -
فولايته مقصورة على أخذ الحق ممن هو عليه، وإيصاله لأربابه وصرفه
في مصارفه ولا تتعدى ولايته إلي جهة إسقاط الحق الذي هو خلاف
مصلحة الأصناف وحكمة جعل ذلك الحق لهم.
ومن هنا: ليس له بخس حق المستحق بالمصالحة مع من عليه الحق
على شئ يسير لا يعادل الحق المجعول للمستحق.
والحاصل: إن هذا الحق من هذه الجهة كالحكم الشرعي على موضوعه
غير قابل للاسقاط، كما أنه غير قابل للانتقال إلى الغير - لا بإرث
ولا بغيره - كما لا يخفى -.
هذا وقد ظهر لك مما ذكرنا الوجه في عدم قابلية حق الزكاة للاسقاط
والانتقال، كما أنه ظهر أن فريضة الزكاة من سنخ الحقوق، وليست
ملكا في العين لا بنحو الإشاعة ولا بنحو الكلي في المعين.
وظهر أيضا أنه ليس من قبيل ما ذكرناه من الحقوق وإن كان ربما
يشبه بعضها من بعض الجهات، بل هو حق مستقل متعلق بمالية العين
لا بخصوصيتها، فهو من هذه الجهة يشبه إرث الزوجة مما سوى الأرض
كالأبنية والنخيل والأشجار فإنه حق متعلق بماليتها غير أنه من قبيل الملك
الفعلي للزوجة، وليس من سنخ الحقوق اصطلاحا مما هو ملك شأنا، إذ
لا شبهة في اتحاد كيفية إرث الزوجة من الأموال المنقولة وغير المنقولة
سوى أن إرثها من الأول يتعلق بالعين، ومن الثاني يتعلق بماليتها وقيمتها
ولا اشكال في أن إرثها من المنقول بنحو الملك الفعلي، فليكن إرثها
من غير المنقول كذلك ومقتضاه جواز المصالحة على حقها مع الوارث
أو الأجنبي فينتقل ما تستحق من القيمة إليه.
ولا أظن أن فقيها يلتزم بجواز المصالحة على الزكاة قبل أخذها ممن
48

هي عليه: لما ذكرنا من أن الحق المذكور غير صالح للنقل مطلقا - لا
إلى من هو عليه ولا إلى غيره -.
وفرق آخر بين إرث الزوجة من غير المنقول وبين حق الزكاة،
وهو أنه لا إشكال ولا خلاف في أن الخيار في الزكاة للمالك بين دفعها
من العين المتعلقة للحق وبين دفعها من مال آخر للمالك وليس للمستحق
ولا للحاكم الشرعي المشاحة مع المالك بخلاف إرث الزوجة من غير المنقول
فإن الوارث لو اختار دفع حقها من نفس العين دون القيمة، ففي إجبار
الزوجة على القبول إشكال وخلاف.
ولعل منشأ الفرق بين الحقين - مع أن كلا منهما متعلق بالمالية -: هو
أن ظاهر أدلة باب الزكاة أنها في العين، ولكن ثبت أيضا - نصا واجماعا -
جواز دفع المالك القيمة إرفاقا به، بخلاف إرث الزوجة، فإن ظاهر
الأدلة تعلقه بنفس القيمة، وإن ظهر من بعضها: أن علة حرمانها من
العين الارفاق بالوارث لكن لا يبعد كون ذلك من قبيل حكمة الجعل والحرمان
من العين.
وبالجملة، لا دليل على جواز إجبارها على أخذ العين بدلا عما تستحقه
من القيمة ولم يثبت ذلك بنص أو إجماع، كما ثبت في باب الزكاة جواز
دفع القيمة بدلا عن العين، فاجبارها على أخذ استحقاقها من العين في غاية
الاشكال، فلا يترك الاحتياط بالمصالحة معها على ذلك.
ثم إن الكلام في الخمس هو الكلام في الزكاة والمختار فيه هو المختار
فيها، إذ الظاهر أنه حق فرضه الله تعالى لأربابه - وهم بنو هاشم - في
أموال خاصة عوضا عما فرضه لغيرهم من الصدقات التي حرمها عليهم من
غيرهم تكريما لهم وإعلاء لشأنهم.
وبالجملة، فالظاهر اتحاد نحو الحقين، والله تعالى هو العالم.
49

ثم إن مقتضى ما ذكرنا من أن الحق نحو من الملك ومرتبة من مراتبه:
كونه بحسب طبعه قابلا للانتقال بالإرث، ويشمله النبوي المشهور: (ما ترك
الميت من حق فهو لوارثه) (1) وغيره، ما لم يستفد من دليله - أو من
الخارج - أنه متقوم بخصوص ذي الحق، وليس له قابلية الانتقال بالإرث
فمثل حق القسم الذي هو للزوجة على الزوج - وإن كان قابلا للنقل إلى
ضرتها (2) بالصلح عليه مجانا فقط - كما عن جماعة من أصحابنا - قدس
سرهم - أو حتى إذا كان بالمعاوضة عليه - كما هو مقتضى القاعدة ما لم
يقم إجماع على خصوص المجانية - ولكنه غير قابل للانتقال بالإرث، حتى
إلى الضرة، كما لو تزوج شخص بامرأة، ثم تزوج بعمتها أو خالتها،
ثم ماتت إحداهما وكان الوارث لها ضرتها، فإنها لا ترث حق القسم منها
ولعل الفرق بين النقل والانتقال بالإرث: أن الحق المذكور إنما هو
للزوجة ما دام الحياة بمعنى أن قوامه الحياة فلها نقله وتفويضه إلى مثلها،
وبموت الزوجة ينعدم موضوع الحق وينتهي أمده، فلا متروك حتى يورث
وبالجملة، فظاهرهم التسالم على عدم انتقال الحق المذكور إلى الوارث
مطلقا.
ومن الحقوق - غير القابلة للنقل بل ولا الانتقال على الظاهر: -
ما كان من قبيل حق الغيبة والشتم والضرب والايذاء - بناء على كونها
من الحقوق وعدم كفاية التوبة فيها بل لا بد من إرضاء ذي الحق وإبرائه

(1) راجع: كتاب مكاسب الشيخ الأنصاري، باب الخيارات، الكلام في
أحكام الخيار.
(2) الضرة - بالفتح والتضعيف -: تطلق على كل من زوجتي الرجل
أو زوجاته، فهما ضرتان، وهن ضرائر.
50

والأظهر: أنها ليست من الحقوق بالمعنى الذي ذكرناه من الحق
وإن قلنا بعدم كفاية التوبة فيها، فإنها لم تكن من مقولة الملك ومن مراتبه
ووجوب استحلال الانسان ممن استغابه أو آذاه بالضرب أو الشتم - على
فرضه - إنما هو من حيث ظلمه له بهتك عرضه أو إيذائه، لا لثبوت
حق له عليه بمعنى الملك.
ثم إنه لا ملازمة بين قبول الحق للنقل وبين قبوله للانتقال بالإرث،
فقد يكون الحق قابلا للنقل ولا يقبل الانتقال، كما ذكرنا من حق القسم
وقد يقبل الانتقال بالإرث ولا يقبل النقل كحق الرهانة وحق الشفعة وحق
الخيار - على الأظهر - من عدم قبوله للنقل، وقد لا يقبلهما بل ولا الاسقاط
كما ذكرنا من حق الخمس والزكاة، وقد يقبلها جميعا كحق التحجير على موات
من الأرض - مثلا -
ثم إن ما يقبل النقل قد يكون قابلا للنقل إلى كل أحد كحق التحجير
فإنه قابل للنقل إلى كل أحد بالمصالحة عليه مع العوض وبدونه، بخلاف
حق القسم للزوجة، فإنه إنما يقبل النقل إلى الضرة - فقط -.
فإن قلت: إذا كان حق الرهانة وحق الشفعة وحق الخيار قابلا
للانتقال إلى الوارث، ولم يكن متقوما بذي الحق، فلم لا يكون قابلا للنقل
إلى الغير بالمصالحة عليه..؟
قلت: وجه الفرق بين انتقال الحقوق المذكورة بالإرث وبين نقلها
بالمصالحة متوقف على بيان حقيقتها فنقول:
إن حق الرهانة مرجعه إلى سلطنة للمرتهن حاصلة له بعقدها على
استيفاء دينه الذي هو على الراهن من العين المرهونة ببيعها وأخذ مقدار
دينه من ثمنها عند حلول الدين بالشروط المذكورة في باب الرهن، وهذه
السلطنة لا يعقل نقلها إلى الراهن - كما لا يخفى - وأما نقلها إلى ثالث له دين
51

أيضا على الراهن، وإن كان غير ممتنع عقلا ولكنه يتوقف على أن يكون
العقد الواقع بين الراهن والمرتهن مقتضاه كون الرهن وثيقة على ما يعم
دينه ودين غيره على البدل، ليصح للمرتهن تحويل ماله من الحق في العين
المرهونة إلى غيره ممن له دين على الراهن، ومن الواضح أن عقد الرهانة
الواقع بين الراهن والمرتهن إنما يقتضي كون الرهن وثيقة على خصوص
دينه الذي هو على الراهن، لا الأعم من دينه ودين غيره، فالسلطنة
الحاصلة للمرتهن محدودة غير صالحة للتعدية والتحويل إلى الغير.
وبالجملة فكما لا يمكن نقل الحق المذكور وتحويله إلى من هو عليه
كذلك لا يمكن تحويله ونقله إلى ثالث وإن كان ذا دين أيضا على الراهن
بل الحق خاص بالمرتهن إن شاء أخذ به، وإن شاء أسقطه.
نعم لو نقل المرتهن الدين الذي له على الراهن إلى ثالث بالبيع ونحوه
فالظاهر أن الرهن يتبعه في الانتقال إلى المنقول إليه، فيكون ذا الحق في
العين المرهونة فإن العقد الواقع بين الراهن والمرتهن مفاده ومقتضاه كون
الرهن وثيقة على شخص الدين الذي كان للمرتهن على الراهن، وبانتقال
الدين إلى مشتريه - مثلا - لم يكن المنقول إلا نفس ما كان الرهن وثيقة
عليه. لا غيره. غاية الأمر اختلف مالك الدين، وهو غير ضائر.
وبالجملة ليس هذا كنقل الحق إلى ثالث له دين آخر على الراهن
الذي منعنا منه - كما لا يخفي -.
وأما حق الشفعة الذي هو عبارة عن ملكية الشريك وسلطنته على
المشتري لحصة شريكه المبيعة حال شركته لتملك تلك الحصة وأخذها منه
قهرا بالثمن الذي اشتراها به من شريكه، فهذا المعنى غير قابل للنقل إلى
من عليه الحق، وهو المشتري، إذ هو مالك لتلك الحصة بالاشتراء، فلا
معنى لنقل حق التملك منه إليه. وكذا لا يقبل النقل إلى ثالث، إذ لو كان
52

النقل إليه بمعنى تسليطه على أخذ الحصة من المشتري إلى ذي الحق، وهو
الشريك نفسه، فهذا ليس من نقل الحق إليه، وإنما هو توكيل واستنابة
في الأخذ بحق الشفعة لذي الحق وهو الشريك.
وإن كان المراد تسليط الغير على أخذ الحصة من المشتري وتملكها
لنفسه، فهذا التسليط لم يجعل للشريك، فإن الحق المجعول له من الشارع
إرفاقا به هو السلطنة على تملك الحصة المبيعة في شركته من مشتريها بالثمن
الذي اشتراها به وإضافتها إلى حصته، ومن هنا سمي الحق المذكور بحق
الشفعة، إذ الشفيع بأخذه به وإعماله يشفع حصته ويجعلها شفعا وزوجا
بنصيب شريكه الذي ابتاعه المشتري منه.
وبالجملة، فليس الذي هو للشريك من الحق مجرد تملك الحصة من
مشتريها قهرا عليه ليمكن نقل ذلك إلى الغير، بل الذي له من الحق تملكها بما
أنها شفعة، وأنه شفيع وجاعلها منضمة إلى حصته وشفعا بها، والحق بهذا
المعنى لا يمكن نقله إلى الغير. نعم إذا أخذ بشفعته وتملكها وصارت له
فلينقلها إلى ما شاء، فإن الناس مسلطون على أموالهم، وأما قبل التملك
فليس له نقل الحق المذكور وتحويله إلى غيره.
هذا، وأما نقل حق الخيار إلى غير من جعل الحق له، وتحويله
إليه، ففي امكان ذلك وعدمه خلاف، فصريح شيخنا الأنصاري - قدس
سره - في أول كتاب البيع من (مكاسبه) عدم قابليته للنقل (1) وصريح
سيدنا - قدس سره - فيما سبق من كلامه: قابليته للنقل حيث يقول: (فالظاهر جواز المعاوضة عليه بما يوجب نقله..)

(1) قال: ".. وأما الحقوق فإن لم تقبل المعاوضة بالمال كحق الحضانة
والولاية فلا إشكال، وكذا لو لم يقبل النقل كحق الشفعة وحق الخيار.. "
53

وقبل بيان ما هو المختار من الرأيين وتحقيق ذلك نقول:
المتبايعان - تارة - ينشئان البيع بينهما بالتعاطي فيعطي كل منهما ماله
للآخر قاصدا تمليكه إياه بعوض ما يأخذه منه. - وأخرى - ينشئان البيع
بالعقد المشتمل على الايجاب والقبول كبعت واشتريت. أما في صورة انشاء
البيع بالتعاطي فإن فعلهما الخارجي، وإن كان على ما هو المختار، مصداقا
للبيع حيث أن مفهومه تمليك عين بعوض أو تبديل طرف إضافة مالكية
بطرف إضافة مثلها لآخر كما هو المختار أو مبادلة مال بمال مع كون المعوض عينا،
كيف ما كان، فالمفاهيم المذكورة تنطبق على فعلهما الخارجي وتشمله آية
(أحل الله البيع..) (1) وآية (التجارة عن تراض) (2) ويصح
بذلك ويحصل الملك لكل منهما فيما أخذه من صاحبه، ولكنه ملك جائز ليس فيه اقتضاء اللزوم، فإن غاية ما يستفاد من تعاطيهما بقصد الملك ملكية كل منهما ما أخذه من الآخر. وأما التعهد والالتزام من كل منهما بالثبات
والبقاء على ما ملكه للآخر، فلا دلالة لفعلهما عليه، والآيتان إمضاء وتصحيح
لما يستفاد من فعلهما، وهو أصل الملكية ليس إلا كما أن السيرة التي استدل
بها على حصول الملك بالمعاطاة غاية ما يستفاد منها معاملة المأخوذ بالمعاطاة
معاملة الملك وترتيب آثاره عليه، وأما لزوم الملك وعدم جواز الرجوع
فيه، فلا دلالة لها عليه، ولعل منشأ تسالم الأصحاب ممن قال بإفادتها الملك
أو الإباحة على عدم اللزوم: هو القصور في المقتضي لا لوجود دليل على
عدمه - من اجماع ونحوه.
هذا إذا كان انشاء البيع بالفعل. وأما في صورة إنشائه بين المتبايعين

(1) البقرة: 275.
(2) النساء: 29.
54

بالعقد المشتمل على الايجاب والقبول، فهيأة الماضي - مثلا - الواردة على
مادة البيع والشراء، وإن دلت على تمليك العين بالعوض وتملكها به، كالتعاطي
بقصد الملك إلا أن إنشاء التمليك والتملك بالقول كما يدل على ما دل عليه
الانشاء بالفعل بالمطابقة وهو تمليك العين وتملكها بالعوض، كذلك يدل
بالدلالة الالتزامية العرفية على التعهد والالتزام من كل من المتعاقدين بهذا
المدلول المطابقي، والثبات عليه ما لم يكن في البين خيار مجعول له، ومن
هنا أطلق العقد على الانشاء بالقول فإنه: العهد الموثق المحكم، لما فيه من
الأحكام. ويشهد لذلك: أن المعاملات الخطيرة ذات الشأن إنما تنشأ
- نوعا - بالعقود دون المعاطاة من جهة فقدان المعاطاة لما كان العقد واجدا
له من الالتزام والأحكام. وآية (أوفوا بالعقود..) (1) إنما تمضي
وتلزم بالوفاء بالعقود باعتبار وجود المدلول الالتزامي فيها، وهو التزام
كل من المتعاقدين لصاحبه بالثبات والبقاء على ما يقتضيه العقد من التمليك
والتملك بالعوض.
ودليل الخيار المجعول بأسبابه وموارده - ومنها اشتراط ذلك في ضمن
العقد - يكون مخصصا لعموم (أوفوا بالعقود).
وحقيقة الخيار نظرة ومهلة لمن هو له فيما التزمه لطرفه بانشاء العقد
من الثبات عليه والالتزام بمقتضاه، وسلطنة له على نقضه وحله أو اقراره
وإبرامه، وهو - بهذا المعنى - حق بالمعنى الأخص لمن هو له. وهل هو
متعلق بالعقد من حيث أنه يملك فسخه وإقراره، أو أن متعلقه العين
الخارجة من ملكه إلى طرفه من حيث أن ذا الخيار يملك إعادتها إلى نفسه
بفسخ العقد؟ وجهان: - بل قولان - وعليهما يبتني جواز تصرف من

(1) سورة المائدة: 1.
55

عليه الخيار في العين المنقولة إليه ممن له الخيار تصرفا منافيا لحق ذي الخيار
وعدم جوازه، كما هو مذكور في فصل أحكام الخيار.
فإن قلنا: إن متعلق حق الخيار لمن جعل له، هو العين الخارجة
عن ملكه إلى ملك طرفه وإنه يملك إرجاعها إليه بفسخ العقد، فلا يجوز
لطرفه التصرف المنافي لحقه فيما انتقل منه إليه، إذ هو تصرف في متعلق
حقه مناف له فإنه لو اختار فسخ العقد لا يقدر على إرجاع العين إليه فيما
لو كان تصرف من عليه الخيار فيها بالبيع - مثلا - أو العتق أو الاتلاف
نعم لو قلنا بأن متعلق حق ذي الخيار نفس العقد من حيث قدرته
على فسخه وإقراره، فإن التصرف بالبيع والعتق ونحوه ممن عليه الخيار
لا ينافي حق ذي الخيار من حيث الاقتدار على فسخ العقد لو كان هو
المختار، غاية الأمر أن المتصرف يضمن له عند فسخه مثل ما تصرف فيه
أو قيمته.
وهل الخلاف بين سيدنا الخال المصنف، والشيخ الأنصاري - قدس
سرهما - في جواز نقل الخيار وتحويله إلى غير من هوله وعدم جوازه مبني
على الخلاف في متعلقة؟ الظاهر عدم الابتناء عليه، فإن الشيخ - قدس سره -
في فصل أحكام الخيار - يختار - أو يقرب - تعلقه بالعقد، حيث أنه بعد
أن يذكر حجة القول بمنع التصرف وأن الخيار حق يتعلق بالعقد المتعلق
بالعوضين من حيث إرجاعهما بحل العقد إلى ملكهما السابق، فالحق - بالآخرة -
متعلق بالعين التي انتقلت منه إلى صاحبه فلا يجوز أن يتصرف فيها بما
يبطل ذلك الحق باتلافها أو نقلها إلى شخص آخر - يقول:
(هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه المنع، لكنه لا يخلو عن نظر، فإن
الثابت من خيار الفسخ بعد ملاحظة جواز التفاسخ في حال تلف العينين
هي سلطنة ذي الخيار على فسخ العقد المتمكن في حالتي وجود العين وفقدها
56

فلا دلالة في مجرد ثبوت الخيار على حكم التلف جوازا ومنعا، فالمرجع
فيه سلطنة الناس على أموالهم - إلى أن يقول -: فالجواز لا يخلو عن قوة
في الخيارات الأصلية).
وهنا يجزم بعدم قابليته للنقل، حيث يقول - في أول كتاب البيع -:
(وأما الحقوق فإن لم تقبل المعاوضة بالمال كحق الحضانة والولاية، فلا
إشكال وكذا لو لم تقبل النقل كحق الشفعة وحق الخيار).
وعلى كل، فالظاهر عدم قابلية نقل حق الخيار وتحويله إلى غير من
جعل له - مطلقا - سواء قلنا إنه متعلق بالعين المنقولة منه إلى صاحبه أم
إنه متعلق بالعقد.
أما على القول بتعلقه بالعين، بمعنى أن ذا الخيار فيما إذا كان هو
البائع - مثلا - يملك إرجاع المبيع إلى ملكه قهرا على المشتري بفسخ العقد
فعدم صلاحية نقل الحق المذكور بهذا المعنى إلى المشتري من الوضوح
بمكان، فإنه إذا صار ذا خيار - فرضا - بنقل البائع خياره إليه، فمرجع
ذلك إلى أنه يملك إعادة الثمن إليه قهرا على البائع بفسخ العقد، وهذا
غير ما كان للبائع من الحق، وإنما هو حق جديد له إذ العلقة والإضافة
الضعيفة المعبر عنها بالحق كانت بين البائع وبين ما نقله بالبيع إلى المشتري،
وهو المبيع والحادثة إضافة ناقصة بين المشتري وبين الثمن، وهي غير
الإضافة التي كانت للبائع. ومن الواضح إن ذا الحق إنما يتسلط على نقل
حقه إلى الغير فيما إذا كان قابلا للنقل والتحويل، وليس له جعل حق
للغير لم يكن هو المجعول له إذ جعل الحقوق لأربابها من وضائف الشارع
المقدس.
هذا إذا قلنا: إن متعلق حق البائع هو العين المبيعة: وأما إذا قلنا
إن متعلق الحق هو العقد الواقع بينهما، فعدم جواز نقله وتحويله إلى الغير
57

وإن لم يكن بذلك الوضوح، فإنه يمكن أن يقال: إن العقد الواقع بين
البائع والمشتري كان متعلق حق البائع فيما لو كان الخيار له، فزمامه بيده
فله حله ونقضه، وله إقراره، وإحكامه. وهذا الحق الذي كان للبائع
بالمعنى المذكور، أعني السلطنة على فسخ العقد وإقراره يمكن نقله وتحويله
إلى المشتري بالمصالحة عليه بعوض أو بدونه، وعمومات الصلح تشمله،
فيكون المشتري ذا الخيار بعد الصلح، وتسليم زمام الحق إليه.
هذا ولكن لقائل أن يقول: إنا ذكرنا فيما سبق أن إنشاء البيع
الذي حقيقته تبديل طرف إضافة مالك المثمن بطرف إضافة مالك الثمن
إذا كان بالعقد المشتمل على الايجاب والقبول فإنه كما يدل بالمطابقة على
تبديل كل من المتعاقدين المثمن بالثمن في عالم الاعتبار والانشاء، كذلك
يدل بالدلالة الالتزامية على التزام كل منهما لصاحبه بالثبات والبقاء على هذا
التبديل وبمقتضى إمضاء الشارع وحكمه بلزوم ما التزمه كل منهما لطرفه بانشائه
بقوله تبارك وتعالى (أوفوا بالعقود) يملك كل منهما على صاحبه - مضافا
إلى المال الذي ملكه إياه - ثباته والتزامه بعدم التعدي عن حدود التبديل
المنشأ بالعقد. ومن هنا سمي اللزوم المذكور (لزوما حقيا) فإن كلا منهما
له على طرفه حق الالتزام بما تعهده له من الثبات والبقاء على ما أنشأه
من التبديل.
هذا إذا لم يكن لأحد المتعاقدين خيار مجعول من الشارع المقدس
أو من المتعاقدين بالشرط في ضمن العقد.
وأما لو كان لأحدهما خيار مجعول من الشارع أو من المتعاقدين فمن
له الخيار منهما كما يملك ما التزم به صاحبه له، كذلك يملك ما التزمه هو
لصاحبه، فمن حيث ملكيته لما التزمه صاحبه له يكون العقد بالنسبة إلى
صاحبه لازما لا ينفسخ بفسخه، ومن حيث ملكيته لما التزمه لصاحبه يكون
58

العقد بالنسبة إليه جائزا.
وبالجملة، فغاية ما يمكن أن يستفاد من جعل الخيار أن يكون للمجعول
له من الحق مهلة النظر في مدة الخيار في التزامه الذي التزمه لصاحبه بأن
يحكمه ويبرمه أو ينقضه ويحله، وأما نقل هذا الحق وتحويله إلى صاحبه
الذي هو ملزم بالتزامه والعقد لازم بالنسبة إليه ليكون هو صاحب الحق
عليه، بعد أن كان الحق له عليه، فاستفادة السلطنة على هذا التحويل
من جعل الخيار لشخص من الشارع أو من المتعاقدين بالشرط مشكل غايته
هذا، وأما نقل الخيار إلى ثالث، فتارة يجعله من له الخيار كوكيل
عنه في إنشاء الفسخ والاقرار مع رعاية مصلحة ذي الخيار فيما يختاره من
الفسخ أو الاقرار، فالظاهر عدم الاشكال في ذلك، فإنه ليس من نقل
حق الخيار وتحويله إلى الغير، بل هو كتوكيل منه على اعمال خياره
واعتماد منه على حسن اختياره.
وأما نقله إلى الغير على نحو ما ذكرنا من التحويل إلى طرفه بمعنى تسليم
زمام الحق إليه بأن يكون هو ذا الخيار بعد التسليم ومن كان له الخيار
مسلوب الاختيار في أمر العقد، فهو ما ذكرنا أنه مشكل غاية الاشكال،
بل الظاهر عدم قابلية حقه المجعول له لنقله إلى الغير بالمعنى المذكور.
فإن قلت: أليس للبائع - مثلا - حين إنشاء البيع جعل الخيار للغير
بالشرط في ضمن العقد بنحو يكون المجعول له هو صاحب الحق، والجاعل
لا خيار له، ولا اختيار في أمر عقده، بل تكون سلطنة الفسخ والاقرار
لذلك الغير، فإذا صح له جعل السلطنة المعبر عنها بالحق عند العقد للغير
فلم لا يصح نقلها إلى الغير بعد أن جعلت له عند العقد.
قلت: الفرق بين جعل العاقد الخيار للأجنبي عند العقد، وبين
نقله الخيار المجعول له إليه بعد العقد واضح، فإنه عند العقد له السلطنة
59

التامة على ماله، ومقتضى عموم سلطنته عليه جواز نقله إلى الغير بالبيع
اللازم أو البيع غير اللازم أي المجعول فيه الخيار له أو لغيره بالشرط في
ضمن العقد، فجواز جعل الخيار للغير حال العقد من مقتضيات سلطنته
على ماله. أما نقل حق الخيار المجعول له حال العقد وتحويله إلى الغير بعد
العقد، فليس من مقتضيات سلطنته على ماله، فإنه حال نقل الخيار لم
يكن المال له، بل للمشتري، والخيار المجعول له حال العقد من الشارع
أو بسبب الشرط في ضمن العقد مقتضاه سلطنته على اقرار العقد أو حله
ونقضه، لا الأعم من ذلك ومن توليته الغير على البدل.
وبالجملة، لم يتضح قابلية نقل حق الخيار إلى الغير كما اختاره سيدنا
المصنف - قدس سره -.
ومع الشك، فالأصل عدم الانتقال بنقله.
هذا ما كان من أمر نقل الحقوق الثلاثة إلى الغير، وأما قابلية انتقالها
إلى الوارث، فيمكن أن يقال في وجهه بأن الوارث يقوم مقام المورث
فيما كان له من مالكية وواجدية اعتبارية، فيكون له ما كان لمورثه من
ملك وحق بانتقال ذلك منه إليه، ففيما نحن فيه من حق الشفعة، كما
تنتقل إليه بالإرث ملكية الشقص الذي كان مملوكا لمورثه عند الموت،
فكذا ينتقل إليه بالإرث حق الشفعة الذي كان لمورثه في الشقص المبيع في
شركته.
وعليه، فله الأخذ بحق الشفعة الذي كان لمورثه وورثه منه الذي
مرجعه السلطنة على تملك حصة شريكه المبيعة في شركته من مشتريها
بالثمن الذي اشتراها به، قهرا عليه - فيقوم الوارث مقام المورث ويكون
له ما كان لمورثه من حق تملك الشقص من مشتريه بذلك الثمن.
وكذا حق الرهانة الذي مرجعه سلطنة المرتهن على استيفاء دينه الذي
60

له على الراهن من الرهن ببيعه واستيفاء مقدار الدين من ثمنه، فيرث الوارث
ذلك الحق من مورثه، ويستوفي الدين الذي ورثه منه من الرهن على
النحو الذي كان لمورثه.
وهكذا حق الخيار الذي مرجعه سلطنة ذي الحق على إقرار العقد
وحله، فالوارث للبايع - مثلا - يرث حقه، فيتسلط على ما كان مورثه
مسلطا عليه من إقرار العقد وحله، فإن أقره ورث ما ملكه مورثه من
ثمن المبيع، وإن حله بفسخه رجع المبيع إلى ملك مورثه ملكية آنية
استطراقية إلى ملك وارثه، نظير ملكية الميت لديه نفسه، فإنها عوض
نفسه التي أزهقت بالقتل، فيملكها ثم يرثها الوارث منه.
وبالجملة، فلا ملازمة بين قبول الحق للانتقال بالإرث وبين قبوله
للنقل بالمصالحة عليه فقد يكون الحق قابلا لأحدهما دون الآخر.
هذا، ولو شك في شئ مجعول من الشارع أنه من سنخ الأحكام
أو من سنخ الحقوق، فإن دل الدليل على قابليته للانتقال أو الاسقاط
يستكشف من ذلك أنه حق، إذ الحكم غير قابل لكل منهما، وإلا فالأصل
يقتضي عدم سقوطه بالاسقاط وعدم انتقاله بالإرث، ولا بالنقل، كما أنه
لو علم كونه حقا وشك في قابليته للنقل أو الانتقال كان الأصل عدمهما.
بقي شئ ينبغي التنبيه عليه: وهو أنه لو أحرز كون المجعول حقا
قابلا للنقل والاسقاط كحق التحجير مثلا - فهل يصح جعله ثمنا في البيع
ربما يقال بصحة ذلك بدعوى أن حقيقة البيع تمليك عين بعوض في قبال
الهبة التي هي تمليك مجاني، ويكفي في العوضية جعل البائع على المشتري
شيئا يحصل منه نفع يعود إليه في قبال العين الخارجة من ملكه إلى المشتري
فلو جعل عليه إسقاط حق تحجيره - مثلا - على الأرض المباحة عوض
ما ملكه من العين ليسبق إليها البائع فيحجرها له، كان مصداق تمليك العين
61

بالعوض، وأولى بذلك ما لو جعل العوض نفس الحق لينتقل منه إليه في
قبال ما انتقل منه إليه من العين.
هذا، ولكنا نقول: إن حقيقة البيع ليس مطلق تمليك العين بعوض
من المشتري، ولو كان من قبيل إسقاط حق ينتفع به البائع، بل ولا
تبديل إضافة بإضافة أخرى ولو لم تكن من سنخ إضافة البائع، بل حقيقته
- لغة - والمتبادر منه عرفا -: إنشاء تبديل عين هي طرف لإضافة مالكية
بطرف إضافة مثلها لآخر في ظرف قبوله ذلك.
توضيح ذلك: إن الملكية التي هي جدة اعتبارية وعلقة وإضافة بين
المالك والمملوك لها طرفان: طرف يرتبط ويتعلق بالمالك، وآخر بالمملوك
فحقيقة الإرث انحلال الإضافة والعلقة من طرفها المتعلق بالمالك وارتباطها
بالوارث مع بقاء التعلق من طرفها الآخر المتعلق بالمملوك على ما كان
عليه، فإن الوارث يقوم مقام المورث ويأخذ بزمام ما كان المورث
آخذا به.
وأما البيع، فحقيقته: حل طرف علقة المالك للمثمن وإضافته من
جانب مملوكه وربطها بطرف إضافة مالك للثمن، وحل إضافة مالك للثمن من ذلك
الجانب أيضا، وربطها بمكان علقة المالك للمثمن المحلولة.
وأما الإضافتان - من حيث اتصاف كل منهما بكونها مالكية - فلم يطرأ
عليهما تغيير وتبديل، وإنما التغيير والتبديل في المملوكية، فالبايع إذا كان
أصيلا قبل البيع، كان مملوكه المثمن، وبعد البيع يملك الثمن، والمشتري
بالعكس. وفيما إذا كان وكيلا أو وليا، فموكله - أو المولى عليه - يكون
كذلك.
ومن هنا نقول - على ما هو التحقيق -: لا بد في إنشاء البيع أن
يكون البائع - أصيلا كان أم وكيلا أم وليا أم فضوليا - قاصدا دخول
62

المثمن في ملك مالك الثمن عوضا عما يخرج من ملك مالك الثمن إلى ملك
مالك المثمن، وكذا المشتري بالنسبة إلى الثمن، فيقصد دخوله في ملك
مالك المثمن عوضا عما يخرج من ملك مالك المثمن إلى مالك الثمن، فبيع
الغاصب العين لنفسه إذا لم يسبق منه بناء وادعاء لملكية العين المغصوبة،
وأنها كسائر أملاكه - باطل غير صالح للتصحيح بإجازة المالك أصلا -
لا له ولا للغاصب، كما نبهنا عليه في بيع الفضولي.
إذا عرفت ذلك، تبين لك عدم صحة جعل الحق بالمعنى الأخص ثمنا
في باب البيع، لا بمعنى جعل الثمن إسقاطه، إذ هو غير قابل للانتقال
إلى الغير، لأنه فعل ذي الحق، وهو المشتري، ولا بمعنى جعل أصل
الحق ثمنا، فإنه، وإن كان قابلا للنقل إلى الغير حسب الفرض، ولكنه
يتوقف ذلك على أن يكون حقيقة البيع تبديل إضافة بإضافة أخرى، وقد
ذكرنا أن حقيقة البيع تبديل طرف إضافة مالكية بطرف إضافة مثلها لآخر
فإن المتبادر - عرفا - من لفظ البيع والمرتكز في أذهانهم أنه تبديل الأموال
بعضها ببعض في عالم الانشاء والاعتبار.
ويشهد لذلك تعريف (صاحب المصباح) البيع بأنه: مبادلة مال
بمال (1).
وبالجملة، فجعل ثمن المبيع من سنخ الحقوق مشكل غاية الاشكال
فإنه من قبيل تبديل المملوك بالملك، إذ الحق ملك ناقص، لا من قبيل
تبديل المملوك بالمملوك الذي هو معنى البيع - كما ذكرنا -.
نعم: يمكن نقل الحق المذكور إلى الغير بالمصالحة معه بعوض -

(1) ونص عبارته - كما في مادة بيع -: " والأصل في البيع: مبادلة مال
بمال ".
63

عينا كان أم منفعة أم حقا مثله قابلا للنقل وذلك آمر آخر، فإنه من
الصلح لا من البيع، ولا كلام لنا فيه. كما أن جعل الأجرة في باب الإجارة
حقا مشكل كذلك، فإنها كالبيع معاوضة بين مالين غير أن المعوض فيها
المنافع أو الأعمال، وفي البيع: الأعيان. والله تعالى هو العالم.
هذا آخر ما علقناه على (رسالة الفرق بين الحق والحكم) لسيدنا
الخال المصنف - قدس سره - والحمد لله رب العالمين.
64

رسالة
في قاعدة ما يضمن بصحيحه
يضمن بفاسده
65

بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة: اشتهر بين الفقهاء - سيما المتأخرين منهم -: أن كل
ما يضمن بصحيحة يضمن بفاسده، حتى أسسوها قاعدة كلية وأرسلوها
إرسال المسلمات، بل صرح بعضهم بكليتها، طردا وعكسا، وهي:
ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده (1).
67

ثم إن ما ذكرناه أخص مما أطلق بعض في تعداد أسباب الضمان:
القبض بالعقد الفاسد، فإنه يشمل ما لم يكن مضمونا بصحيحه كالعارية.
بل وسائر التمليكات المجانية، فلا بد من حيث تخصيص القاعدة أو تعميمها
من النظر إلى مدركها، فإن كان هناك ما يستفاد منه عموم القاعدة كحديث:
(على اليد) (1) وجب تخصيصها بالكلية الثانية - بعد تسليمها -
لورودها عليه.
وكيف كان، فهنا قاعدتان: إحداهما ايجابية، وهي (كل ما يضمن
بصحيحه يضمن بفاسده) والأخرى سلبية وهي: (كل ما لا يضمن
بصحيحه لا يضمن بفاسده).
والكلام في الكلية الايجابية يقع - مرة - في معناها، وأخرى - في
مدركها:
أما معناها، فنقول - وبالله التوفيق -: أما كلمة (ما) فيحتمل
أن تكون كناية عن المقبوض باعتبار القبض أو ما بحكمه من الاستيفاء للعمل
لأنه الموجب للضمان والسبب له بلا واسطة، أو عن العقد - كما وقع التعبير
به في بعض العبارات، لأنه سبب لما يترتب عليه من القبض، وموجب
له بواسطته، وبشرط تحققه.
ويبعده - مع كونه مرجوحا - بالنسبة إلى الأول، لما عرفت من
لزوم الواسطة في النسبة -: إنه إنما يتم في العقد الصحيح، وأما الفاسد فلا
68

مدخلية له بنفسه في التأثير - بالمرة - (1)

(1) سورة القمر: 34.
(2) سورة آل عمران: 123.
69

ثم الظاهر إرادة التدارك من الضمان (1) وهو الظاهر من كون الشئ
72



(1) ذكره العجلوني بهذا اللفظ في (كشف الخفاء: ج 1 حديث 1205)
عن عامة الصحاح.
(2) مضمون خبر مفصل يذكره الحر العاملي - قدس سره - في (الوسائل
ج 3، أحكام الإجارة، باب إن من استأجر دابة إلى مسافة فتجاوزها..) حديث (1)
طبع طهران اسلامية.
73



(1) راجع: كتاب مكاسب الشيخ الأنصاري وعامة الموسوعات الفقهية في
كتاب البيع باب أحكام القبض.
76

مضمونا عليه بمعنى لزوم الغرامة عليه بالتلف، والتدارك له بالبدل عنه
بحيث يعود الخسران والنقصان في ماله الأصلي، لا ما قيل في معناه:
من محض كون التالف في ملكه وفائتا من ماله، كما لعله يعطيه قولهم:
لو تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال البائع ومضمون عليه، إذ لا معنى
لكون الانسان ضامنا لمال نفسه.
فعلى الأول - يختص العقد في الكلية الايجابية بعقود المعاوضات، ودخل
غيرها من التمليكات كالوقوف والصدقات والهبات المجانية وغيرها كالعارية
ونحوها في الكلية السلبية، فتطرد الكليتان حينئذ - أصلا وعكسا، كما
يظهر من استدلالهم بعدم الضمان في فاسد العقود المجانية بالكلية السلبية، وهو
يدل - أيضا - على إرادة ما ذكرناه من معنى الضمان في القاعدة.
وعلى الثاني - يعم سائر العقود التمليكية من المعاوضات والمجانيات،
واختص في السلبية بغير العقود التمليكية كالعارية والإجارة بالنسبة إلى العين
دون المنفعة والوديعة وسائر الأمانات مما لا يكون العقد فيه مملكا.
77

ثم المراد من العوض المدلول عليه بالضمان هو العوض الواقعي مثلا
في المثليات، وقيمة في القيميات، لأنه البدل عنه، ويحصل به تأديته
بعد التلف، لأن تأدية الشئ بعد تلفه يصدق - عرفا - بتأدية بدله الواقعي
من المثل أو القيمة، فيكون مندرجا بعد التدارك بذلك في الغاية في حديث
" على اليد " وإلا لاختص الضمان فيه بحال بقاء العين في اليد، والمسمى
إنما يكون بدلا وعوضا بشرط إمضاء الشارع لما تقرر عليه المتعاقدان،
ومع عدمه فالبدل هو البدل الواقعي. وحينئذ، فالعين المضمونة بصحيح
العقد أو القبض مضمونة بفاسده أيضا، من غير اختلاف في أصل معنى
الضمان فيهما. وإن اختلفا في الكيفية بالمسمى في الأول، والمثل أو القيمة
في الثاني.
ثم إن المقيس والمقيس عليه من عقدي الصحيح والفاسد يشترط أن
يكونا متحدين - صنفا - بمعنى أن يكون صنف واحد، له فردان صحيح
وفاسد يقاس فاسدهما بصحيحه في الضمان وعدمه، كعارية الذهب والفضة
أو المشروطة يقاس فاسدهما بصحيحه في الضمان، لا بغيرهما من صنوف
العوارى غير المضمونة.
هذا، والذي يظهر من اطلاق كلماتهم، عدم الفرق في الفاسد بين
كون الفساد من جهة نفس العقد أو فوات ما يعتبر في المتعاقدين منهما
أو من أحدهما أو في العوضين، كذلك، أو فوات نفس العوض - على اشكال
فيه - وسواء كان المتعاقدان عالمين بالفساد أو جاهلين به، أو أحدهما
عالما والآخر جاهلا.
هذا كله في بيان معنى القاعدة. وأما مدركها.
فعمدة ما يعول عليه - بعد الاجماع المستفيض، وإن أمكن أن يقال
فيه: إنه من الاجماع على القاعدة - قاعدة الاحترام، فإن المسلم محترم في
78

نفسه وعرضه وماله، وحرمة ماله كحرمة دمه، وعمله محترم أيضا، وهو
من ضروريات الدين ومدلول عليه بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. ومعنى
احترام ماله حرمة مزاحمته فيه والأخذ منه بالقهر عليه، بخلاف غيره ممن
لم يدخل في ذمة الاسلام من الكفار، فإنهم، وإن ملكوا أموالهم، ولذا
كلفوا بالفروع من العبادات المالية - أيضا - المتوقفة على تملكهم لها، إلا أنه
يجوز لنا مزاحمتهم عليها والأخذ منهم بالغيلة أو الغلبة. ولا منافاة بين
الملكية وعدم الاحترام، فإن عدم الاحترام أعم من عدم الملكية.
لا يقال: إن غاية ما دل عليه الاحترام حرمة مزاحمة المسلم في ماله
وعدم جواز أخذه منه قهرا، وأين ذلك من الضمان على تقدير المزاحمة
بعد التلف، وإن أثم بها، وبعبارة أخرى: غاية ما يستفاد منه الحكم
التكليفي، وهو حرمة المزاحمة، وأما الحكم الوضعي، وهو الضمان بعد
التلف فهو أول الكلام.
لأنا نقول: إن المزاحمة كما يحرم حدوثها يحرم دوامها، فيجب
رفعها بعد حدوثها، وكما يحصل رفعها بدفع العين المأخوذة مع بقائها،
يحصل - عرفا - بدفع المثل أو القيمة بعد التلف فيما يقع الضمان بالتأدية
الحاصلة برد العين مع بقائها ورد عوضها الواقعي مع التلف كما هو مفاد
".. حتى تؤدي " في حديث " على اليد ".
ودعوى عدم المزاحمة بعد التلف لعدم وجود المال حتى تصدق المزاحمة
مردودة بما وقع منها الذي لم يزل إلا بالتدارك، فإن عدم الرفع
به بعده مع القدرة عليه نوع بقاء للمزاحمة ودوام لها، فافهم.
وحيث أن نظام العالم في نقل الناس الأموال وبذل الأعمال فيما بينهم
لحصول الأغراض الدينية أو الدنيوية، لا جرم ألقى الشارع زمام ذلك بيد
المالك في ماله بحيث له تمليكه لغيره - مجانا - أو بعوض - عينا أو منفعة -
79

أو تسليطه للغير على الانتفاع بماله مع بقائه في ملكه أو تنزيله منزلة نفسه
في أعماله وما يتولاه في حاله وإن اعتبر في حصول ذلك أمورا، وجعل
لها أسبابا خاصة كالعقود وما يعتبر فيها، فإن ذلك غير مناف للسلطنة
المجعولة للمالك بحكم " الناس مسلطون على أموالهم " ولا للاحترام المجعول
لمال المسلم.
وإن أبيت إلا دعوى عدم الاحترام في التمليكات المجانية ونحوها مما
لا يكون بعوض، فلا بأس بدعوى جعل الشارع إسقاط الاحترام بيد المالك
فله أن يسقط احترام مال نفسه، فعدم الضمان في فاسد العقود المضمونة
بالعوض بصحيحه مناف للاحترام المجعول في مال المسلم بعد أن كان
التواطئ بين المتعاقدين على تبديل مال بمال مخصوص، إذ غاية ما أوجب
فساد العقد عدم سلامة المسمى له لا سقوط احترام ماله، ولا كذلك في
غير المعاوضات من العقود مما كان القبض فيه مجانا من التمليكات والأمانات
فإن عدم الضمان فيه - كما عرفت - لا ينافي الاحترام بعد أن كان الاقدام
منه على المجانية، أو لسقوط الاحترام المجعول له اسقاطه، فظهر أن
كل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وبالعكس.
ودعوى أن مرجع التمسك بالاحترام إلى التمسك بحديث " على اليد "
لأنه المستفاد منه.
فيها - مع أن حديث " على اليد " من جملة ما دل على الاحترام في
بعض الموارد، لا الاستدلال بالاحترام استدلال بحديث اليد -: أن الحديث
لظهور اختصاصه بالأعيان أخص من قاعدة الاحترام الأعم من الأموال
والأعمال، ولذا كان عمل الأجير بالإجارة الفاسدة مضمونا على المستأجر
بأجرة المثل - كما هو مضمون بالمسمى في الإجارة الصحيحة، فلا يتم
الاستدلال - كما عن جماعة - بحديث " على اليد " على تمام المدعى من
80

كلية قاعدة " ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ". كما لا يتم الاستدلال
عليها بقاعدة الاقدام - كما عن بعض - منهم الشهيد الثاني في (المسالك)
في باب الرهن المشروط بكون المرهون مبيعا بعد انقضاء الأجل، حيث
علل الضمان بعد الأجل بأنه دخل القابض على الضمان، ودفع المالك عليه
وإن أضاف إليه حديث " على اليد " (1) وكأنه تبع في التعليل بذلك الشيخ
فيما حكي عن (مبسوطه) في مواضع، حيث علل الضمان في موارد كثيرة
من البيع والإجارة الفاسدين، بدخوله على أن يكون المال مضمونا عليه
بالمسمى فإذا لم يسلم له المسمى رجع إلى المثل أو القيمة، لأن الاقدام -
مع أنه لا دليل على كونه موجبا للضمان ومن أسبابه، وأن إقدام المتعاقدين
عليه إنما هو على تقدير الصحة لا مطلقا - فيه أن ما أقدما عليه بالعقد
الفاسد من الضمان بالمسمى لم يثبت لهما وما هو ثابت من العوض بالمثل
أو القيمة لم يقدما عليه. وبعبارة أخرى - إنما أقدما على الضمان الخاص،
لا مطلق الضمان، ومع انتفاء الخصوصية لا يبقى المطلق حتى يتقوم بخصوصية
أخرى، وليست من قبيل الدالين والمدلولين بمعنى الاقدام على الضمان وكونه
بالمسمى، حتى لا ينافي انتفاء أحدهما بقاء الآخر.
هذا مضافا إلى ما قيل من أن الاقدام أعم من الضمان من وجه، فقد
يكون الاقدام موجودا ولا ضمان كالتالف بعد البيع قبل القبض، فإنه
لا ضمان على المشتري، مع تحقق الاقدام منه عليه، وقد يتحقق الضمان
بالعقد الفاسد مع عدم الاقدام عليه، كالبيع بلا عوض، والإجارة بلا
81

أجرة، ومع ذلك كيف يكون الاقدام دليلا على الضمان.
اللهم إلا أن يجاب عن الأول بأن الاقدام إنما هو على كون المقبوض
مضمونا عليه أو العقد المضمون بشرط القبض - كما تقدم -
وعن الثاني بأن البيع بلا عوض والإجارة بلا أجرة إن أريد التمليك
البيعي أو الإجارتي منهما، فلا نسلم الاقدام على عدم الضمان إلا على تقدير
حصول التمليك البيعي أو الإجارتي، لا مطلقا، وإن أريد التمليك المجاني
- وإن عبر عنه بالبيع أو الإجارة من عقود المعاوضات - فلا نسلم الضمان
حينئذ، لسقوطه بالاقدام على عدمه، فيدخل في عقود التمليكات المجانية
التي لا ضمان في صحيحها وفاسدها - كما عرفت - ولعله يأتي لذلك مزيد
توضيح إن شاء الله تعالى.
فظهر مما ذكرنا أن قاعدة الاقدام لا تصلح أن تكون دليلا، ولا يبعد
حمل كلام الشيخ - رحمه الله - ومن تبعه مما ظاهره الاستدلال على الضمان
عليه، على إرادة عدم وجود المانع عن الضمان من الاقدام على المجانية،
لأنه دخل على أن يكون مضمونا عليه، لا إثبات المقتضي للضمان بالاقدام
فينحل كلامهم إلى ثبوت الضمان لوجود المقتضي: من اليد، والاحترام، وعدم
المانع من الاقدام على المجانية، لأنه دخل على أن يكون مضمونا عليه،
وإن كان يكفي في عدم المانع عدم الاقدام على المجانية، لا الاقدام على
عدمها، إلا أنه لما كان في الواقع كذلك، وكان أكد في بيان عدم المانع
وقع التعبير به في كلامهم.
فالعمدة في الاستدلال على الكليتين -: الايجابية والسلبية -: هو
ما ذكرنا من الاجماع المستفيض وقاعدة الاحترام، وبهما تتم كلية القاعدة
طردا وعكسا.
ثم ها هنا نقوض وإشكالان:
82

أما النقوض، فمنها - النقض على الكلية السلبية باستعارة المحرم الصيد
من المحل، فإنهم حكموا بوجوب الارسال مع غرامة القيمة للمالك، فهي
عارية فاسدة مضمونة، مع أن صحيحها غير مضمون.
وفيه - مع أنه مبني على وجوب الارسال، والغرامة للمالك كما
هو أحد القولين في المسألة، والآخر - وجوب رده إلى المالك والفداء لله
تعالى، تقديما لحق المالك وجمعا بين الحقين، وعليه فلا يتم النقض -.
مبني أيضا على الضمان مطلقا، ولو بالتلف قبل الارسال، وهو في حيز المنع
وحكمهم بالضمان هنا للاتلاف المنبعث عن وجوب الارسال، وهو من
أسباب الضمان مطلقا في صحيح العارية وفاسدها، فالكلام منهم مسوق
لبيان حكم الاتلاف بالارسال دون التلف، دفعا لما لعله يتوهم من عدم
الضمان مطلقا، ولو بالاتلاف، لأن المالك أقدم بهذه العارية الواجب على
المستعير إتلافها على كونه تالفة عليه.
وبالجملة، فالصواب أن يقال بعدم الضمان على المحرم مع التلف
في يده لكونها عارية فاسدة، وصحيحها غير مضمون، ففاسدها كذلك
والضمان مع الاتلاف بالارسال لأن صحيحها مضمون بالاتلاف ففاسدها
مضمون به أيضا.
وربما يقال - بل قيل - في توجيه الضمان - مطلقا - بدعوى انتقال
القيمة إلى ذمة المحرم بمجرد أخذه له من المحل، وإن كان عارية لوجوب
الاتلاف عليه، إما بخروجه عن ملك المالك بذلك، فتكون القيمة حينئذ
بدلا عن العين، وإن لم يملكها المحرم، أو بدلا عن الحيلولة مع بقائها
على المملوكية مطلقا، أو إلى الارسال، لأن الممتنع شرعا كالممتنع عادة
وإن جاز للمحل صيده بعد الارسال - على التقديرين - وعليك باستخراج
الثمرة بينهما، أو بدعوى كونها مضمونة عليه مطلقا، ولو بالتلف من دون
83

انتقال القيمة بمعنى كونه في عهدته لكونه من الاقدام على الاتلاف،
والعرضة له، فيكون القبض قبض ضمان مطلقا بالتلف أو بالاتلاف إلا أن
ذلك كله على عهدة المدعي (1)
84

ومنها - النقض بنماء المبيع بالبيع الفاسد غير المستوفى (1) فإنه
مضمون، مع كونه غير مضمون بصحيحه، فإنه مضمون بسبب الاتلاف

(1) ربما يرد النقض على القاعدة بنماء المبيع بالبيع الفاسد ومنافعه فإنها
مضمونة على المشتري للبائع مع كونها غير مضمونة في الصحيح.
هذا، ولكنا ذكرنا - سابقا - أن القاعدة ليست في مقام بيان كل ما هو مضمون
أو غير مضمون في العقود الفاسدة وإنما هي لبيان الضابط لتمييز ما يضمن فيه مورد
العقد ومصبه مما لم يضمن فيه ذلك، وفي ما سواه يرجع في ضمانه وعدم ضمانه إلى
القواعد الأخر. وحيث كان مصب العقد في البيع نفس المبيع، وهو مضمون في
صحيحه، فكذا يضمن في فاسده، وأما النماء والمنفعة فالمرجع فيهما قاعدة تبعيتهما
للأصل، وحيث كان المبيع في البيع الفاسد ملك البائع فمقتضى تلك القاعدة ضمان
المشتري ما أتلفه أو تلف تحت يده من نمائه وكذا ما استوفاه أو فات تحت يده من منفعته.
هذا في المقبوض في البيع الفاسد. وأما المقبوض بالصحيح، فنماؤه ومنفعته
ملك القابض كالأصل.
نعم لو حصل فسخ في البيع بخيار أو انفساخ فيه بإقالة فما يحدث من النماء
بعدهما كالأصل مضمون بمثله أو قيمته على القابض لو أتلفه أو تلف تحت يده
ما لم يستأمنه المالك عليه فلا يضمنه بالتلف وكذا المنفعة الحادثة المستوفاة أو الفائتة
فإنها مضمونة بأجرة المثل ما لم يستأمنه المالك على العين، فلا يضمن الفائت منها
وأما السابق عليهما فلا يضمنها - مطلقا -
اللهم إلا أن يقال ببطلان المعاوضة من أصلها بالفسخ أو الانفساخ، لكنه
ضعيف، بل الأقوى البطلان من حينهما - فتأمل جيدا -.
89

وفيه إن عدم ضمان النماء في البيع الصحيح لكونه من نماء ملكه غير
ملحوظ فيه انتقاله بالعقد من المالك حتى يصح اتصافه بكونه مضمونا
أو غير مضمون في العقد الصحيح
ومنها - النقض بحمل المبيع بالبيع الفاسد، فإن المحقق - رحمه الله -
في (الشرائع) - مع بنائه على عدم دخول الحمل في بيع الحامل إلا بالشرط
- كما هو المشهور (1) - بل حكى الاجماع عليه - جزم بضمانه على المشتري
فيه - مع أنه غير مضمون في البيع الصحيح لكونه بيد المشتري أمانة مالكية
وحكى ذلك عن (المبسوط) أيضا.
والحق، أن الحمل غير مضمون على المشتري لكونه أمانة مالكية
بيده مطلقا في صحيح البيع وفاسده وإن كان الحامل مضمونا عليه بالمسمى
في الأول وبالقيمة في الثاني.
وعلى الدخول بالشرط ينزل كلام المحقق - رحمه الله - في (الشرائع)
90

كما في (المسالك) (1) وبناء الشيخ في (المبسوط) على أصله فيه من دخوله
في المبيع تبعا كالجزء (2) وإن أنكر شيخنا في (الجواهر) كونه أماتة
لكون الإذن من المالك في البيع الفاسد من جهة اعتقاد كونه مستحقا عليه
فالإذن مقيد بجهة الاستحقاق ومن حيث البيعية، والمقيد ينتفي بانتفاء جهة
تقييده، وجعله هو الوجه في إطلاق كلام مصنفه.
وفيه أن توهم الاستحقاق أو اعتقاده من الجهات التعليلية لا من
الجهات التقييدية وبعبارة أخرى: من الدواعي، لا من مشخصات الموضوع
وتخلف الداعي عن الواقع لا يخرج الأمين عن كونه أمينا.
نعم، مع علم المالك بتخلف الداعي وخطأ الاعتقاد لم يجعله أمينا،
وأين ذلك من الضمان بعد جعله أمينا لو تلف بغير تعد وتفريط كما هو
المفروض في المسألة.
وبالجملة فالضمان وعدمه في الفرض - يدور مدار الأمانة وعدمها،
لا صحة العقد وفساده، لعدم مدخلية الحمل في المبيع، وليس من متعلقات
عقد البيع أصلا حتى يكون مورد النقض على القاعدة - لو سلم ضمانه في
الفاسد - لأن النقض إنما يتم في متعلقات العقد دون ما يقارنه، وإن كان
مستلزما له بناء على إرادة العقد من كلمة (ما) في القاعدة دون القبض.
ومنها - النقض بالشركة الفاسدة أورده شيخنا المرتضى - رحمه الله -
91

في (مكاسبه) بما لفظه: (ويمكن النقض - أيضا - بالشركة الفاسدة
بناء على أنه لا يجوز التصرف بها فأخذ المال المشترك - حينئذ - عدوانا
موجب للضمان) (1).
والظاهر إرادة شركة العنان، لأنها المتصور فيها الصحيح، والفاسد
دون غيرها من أقسام الشركة (2).
وفيه: أنه إن أراد بالضمان مع عدم الإذن في التصرف من الشريك
فهو من التصرف عدوانا، وبغير حق - على التقديرين -. وإن كان بإذنه
فلا ضمان في الشركة الفاسدة - أيضا - لأنه مأذون من الشريك.
ودعوى كون الإذن من جهة الشركة المفروض عدمها في الفاسدة.
فيها ما عرفت: من كون الجهة تعليلية، لا تقييدية، ومن مشخصات
الموضوع، بل هي من الدواعي - كما تقدم -.
وإن أراد كفاية عقد الشركة للإذن بجواز التصرف بناء على ظهوره
فيه ما لم يمنع عنه من غير حاجة إلى إذن مستقل بعد العقد، وهو إنما يتأتى
في العقد الصحيح دون الفاسد الذي يكون وجوده كعدمه من جهة إلغاء
الشارع له.
ففيه - مع أنه من أصله غير مسلم - (3).
92

لا مدخلية لالغاء الشارع سببية العقد للشركة فيما ليس مجعولا له
من ظهور الألفاظ في مداليلها وكشفها عما في ضمير المتكلم فإن كان العقد
بلفظه أو بمعونة شاهد الحال كاشفا عن تحقق الإذن، كان كاشفا - مطلقا
- ألغاه أم أمضاه - وإلا، فلا كذلك.
وربما يتوهم النقض أيضا بعامل القراض إذا أخذ المال قراضا،
وكان عاجزا عنه، مع جهل المالك به - بناء على فساد المضاربة - حينئذ -
كما هو الأظهر، وعليه شيخنا في (الجواهر)، فإنهم حكموا بضمان المال
عليه - مطلقا - أو على التفصيل المحرر في محله مع أنها مضاربة، وصحيحها
غير مضمون، ففاسدها ينبغي أن يكون كذلك.
ويدفعه: أن الضمان - هنا - بسبب التعدي بوضع يده على المال
على الوجه غير المأذون فيه، ولذا قال به من قال بصحة المضاربة - أيضا -
كما في (المسالك) وغيرها - لعدم المنافاة بين الضمان وصحة المضاربة، كما
لو عين المالك جهة خاصة، وخالفها العامل، فإن المضاربة صحيحة، والربح
بينهما على الشرط.
95

مع كون المال مضمونا عليه بالتعدي (1)
96

وقد يتوهم النقض - أيضا - باستعارة العين المغصوبة من الغاصب،
فإنهم حكموا بالضمان في بعض صور تلف العين.
وجملة صورها: هو أن يقال: إما أن يكون التلف في يد الغاصب
المعير (1) أو في يد المستعير. وعلى التقديرين، فتارة مع جهل المستعير
بالغصب، وأخرى - مع العلم به. وعلى التقادير، فإما أن تكون العارية
مضمونة بالشرط، أو كانت من الذهب والفضة، أو لم تكن. وعلى التقادير
كلها، فإما أن يرجع المالك على الغاصب المعير، أو على المستعير.
وأما أحكامها، فليعلم - أولا - أن للمالك الرجوع على أي منهما شاء
من غير فرق بين كون العين متلفة أو تالفة في يد المستعير أو في يد المعير (2)
لقاعدة تعاقب الأيدي (3). فإن رجع على المستعير بالعين وما استوفاه
من المنفعة (4). رجع المستعير بهما (5) مع جهله بالغصب على المعير، إن

(1) بعد عودها إلى المعير من المستعير.
(2) يعني بعد عودها إليه - كما عرفت -.
(3) المقتضية لضمان كل من الأيدي المتعاقبة على مال الغير.
(4) بمعنى أخذه عوضهما منه.
(5) أي بما أخذه المالك منه من بدل العين، وبدل ما استوفاه من المنفعة.
100

لم تكن العارية مضمونة عليه (1) ولو كانت العين تالفة في يده (2)
لغروره (3) ولكونها عارية منه (4) وهي غير مضمونة بصحيحها، فلا تضمن
بفاسدها أيضا (5) ولا يعارضها قاعدة (قرار الضمان على من كان التلف
في يده) لأنها فرع تحقق أصل الضمان المنفي بقاعدة (ما لا يضمن)
ضرورة أن مفادها نفي ما هو بمنزلة الموضوع لقاعدة القرار.
ومنه يظهر الوجه في عدم رجوع الغاصب المعير على المستعير مع
جهله، إن رجع المالك عليه - مطلقا - (6) إلا إذا كانت العارية مضمونة
على المستعير وكان التلف بيده، فإنه يرجع عليه ببدل العين دون المنفعة
لأنها عارية مضمونة وهي مضمونة بصحيحها، فتكون مضمونة بفاسدها
أيضا - ومنافعها غير مضمونة - مطلقا - (7).
101

هذا، وفي (الشرائع): جعل الوجه - مع جهل المستعير - اختصاص
الضمان بالغاصب - عينا ومنفعة، تلفت في يده أو في يد المستعير. (1)
وليس بوجيه، لمخالفته الأخبار المنجبرة (2) وقاعدة (تعاقب الأيدي) (3)
ولعل نظره - كما في المسالك - إلى ضعف مباشرة المستعير بالغرور
والسبب الغار أقوى (4) لا ما علله شيخنا في (الجواهر): بقاعدة (ما لا يضمن.)
إذ لا عارية بين المستعير والمالك حتى يستند عدم تعلق الضمان له عليه إلى
قاعدة (ما لا يضمن)، نعم تجري القاعدة بين المستعير والمعير لتحقق
العارية بينهما.
102

فمن الغريب نسبته الغرابة إلى (المسالك) حيث قال: (اللهم إلا
أن يقال إن قاعدة (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) تقتضي ذلك
ولعلها المدرك للمصنف وغيره في الحكم بعدم الضمان، لا ما في (المسالك)
من الأول، فمن الغريب ما فيها من موافقته على جريانها في المقام، حتى
استدل بجزء الاثبات منها على ضمان الجاهل في العارية المضمونة، مع إنكاره
على المصنف الحكم بعدم الضمان) انتهى (1)
103

فإن مورد إجرائها في (المسالك) بين المستعير والغاصب المعير
وهو مجراها، لتحقق العارية بينهما، ولا مورد لجريانها بين المالك والمستعير
الذي لا عارية بينهما حتى يصلح أن يجعله مدركا للحكم.
هذا كله مع جهل المستعير بالغصب. وأما مع علمه به، فهو ضامن
للعين والمنفعة، وقرار الضمان عليه لو تلفت في يده، ولعله مورد توهم
نقض القاعدة به، لكونها مضمونة - حينئذ - من غير خلاف، مع كونها
غير مضمونة بصحيحها، ولا مدخلية للعلم والجهل إلا في الإثم وعدمه
دون الأحكام الوضعية من الضمانات وعدمها.
ولكنه توهم فاسد، لأن المستعير لعلمه بالغصب علم بكونها مضمونة
عليه - شرعا - ولو للمالك، فهو كعارية الذهب والفضة - المضمونة شرعا
لا بشرط من المعير، فهو إقدام منه على الضمان، والعارية مضمونة بصحيحها
فهي مضمونة بفاسدها - فتأمل (1).
105

ثم إن ما ذكرنا جريا على مذاق من أجرى قاعدة العارية بين المستعير
والغاصب المعير في الرجوع وعدمه في بعض صور المسألة، وإلا فيمكن
أن يقال بخروج عارية الغصب عن مجرى قواعد العارية وأحكامها، وإن
كانت بصورة العارية.
وما تقدم في بعض صور المسألة من الرجوع وعدمه بين المستعير
والغاصب المعير، فإنما هو للغرور، لا لكونها عارية يتمسك فيها بقاعدة
(ما لا يضمن) فإن العارية التي تجري فيها قواعدها - وكذا الوديعة ونحو
ذلك من العناوين - هي الطارئة على أخذ المال من المالك لا مطلق الأخذ
وإن كان من غيره.
ومما يمكن أو يورد على الكلية الايجابية: النقض بالبيع من السفيه
المحجر عليه، لو تلف المبيع في يده مع كون القبض بإذن البايع، فإنه
حكم غير واحد - كالعلامة في القواعد، والمحقق في الشرائع، وثاني الشهيدين
والمحققين في المسالك، وجامع المقاصد - بفساد البيع، وعدم تعلق الضمان
106

بالسفيه، وإن فك حجره (1) فالمبيع - هنا - غير مضمون مع كون
صحيحه مضمونا، وكل ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.
واطلاق كلام المحقق، وصريح الباقين: عدم الفرق بين صورتي
العلم والجهل بالسفه.
قلت: لا يتم النقض به مع علم البائع بذلك لأنه - حينئذ - مقدم
على تلف ماله، ومضيع له، ومسقط لاحترامه.
نعم يتوجه النقض به مع جهله، وإن علله في (المسالك)
و (جامع المقاصد) بما يرجع محصله إلى تقصير البائع معه بعدم اختبار
حاله. وعلمه بثبوت العوض المبذول له.
وفيه: منع التقصير، ولزوم الاختبار مع جريان أصالة الصحة
والسلامة، فإنه أصل موضوعي عليه بناء العقلاء، والسيرة القطعية في معاملاتهم.
107

اللهم إلا أن يمنع بناء العقلاء على التمسك به في مفروض المسألة
من العلم بأصل الحجر، والجهل بالسبب إن لم نقل ببنائهم على التوقف
في نحو ذلك حتى يحرزوا سببه، لو أرادوا المعاملة معهم، فما عللاه
من التقصير في الاختبار لا يخلو من وجه.
وعلى كل حال، لا يكون نقضا للقاعدة: إما بدعوى الضمان في
صورة الجهل، أو لوجود المسقط له من قاعدة التسليط، إن قلنا بتقصيره
في الاختبار.
وربما يتوهم النقض أيضا بما لو باع بلا عوض أو آجر بلا أجرة
بأن قال: بعتك الدار بلا عوض أو آجرتك بلا أجرة، فعن الشهيدين
في ثانيهما: عدم الضمان مع كون صحيح البيع والإجارة مضمونا، وكل ما
يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.
وفيه: إن عدم الضمان فيهما لعله مبني على ظهور إرادة التمليك
المجاني كالهبة ونحوها من لفظ (بعت.) أو (آجرت) بقرينة قوله
(بلا عوض) أو (بلا أجرة) وحينئذ فإن لم نعتبر في صحة ذلك لفظا خاصا
أو صيغة خاصة كانت هبة صحيحة، وهي غير مضمونة، وإلا كانت هبة
فاسدة، وهي غير مضمونة أيضا لأن صحيحها غير مضمون ففاسدها كذلك
نعم يحتمل أن يكون المراد من ذلك: نفس البيع لصراحة لفظ
(بعت) - مثلا - فيه، وكون العوضية مأخوذة في حقيقته، فإرادته
مع إرادة عدم العوضية من الجمع بين المتضادين، وهو محال، فلا بد
من صرف لفظ (بعت) عن ظاهره بحمله على ما لا ينافي المجانية كالهبة
ونحوها.
وفيه: إن محالية إرادة المتضادين بمعنى إنشائهما مسلم، إن أراد المعنى
الصحيح الشرعي المأخوذ فيه العوضية من البيع الفاسد، لعدم العوض
108

بخلاف ما لو أراد تنزيل هذا البيع منزلة البيع الصحيح، وأنه من أفراده
بالادعاء، فيكون لفظ البيع مستعملا في معناه الحقيقي ويكون من الاستعارة
والمجاز في النسبة، نحو: زيد أسد. أي: فرد منه بالادعاء، ومنه إطلاق
العين على الربيئة. ومن هذا الباب: التشريع الذي مرجعه في الحقيقة - إلى تنزيل
مخترعاته منزلة مخترعات الشارع، وأنه منه بالادعاء، لا أنه من أفراده - حقيقة - فتأمل.
وعليه، فالأقوى الضمان، لأنه بيع فاسد أو إجارة فاسدة، وصحيحهما
مضمون ففاسدهما كذلك (1)
ولا يتوهم سقوطه - مع ذلك - بتسليط البائع له على ماله - مجالا - لأن ذلك
كان بعنوان البيعية، والحيثية - هنا - تقييدية، لا تعليلية، فينتفي المقيد
بانتفاء جهته التقييدية، فيبقي عموم (على اليد) و (قاعدة الاحترام) سليمين
عن المسقط.
وبالجملة لا إشكال في حكم القضية بعد تشخيص المراد منها، إنما الاشكال
والتأمل في ظهور هذا العقد الصادر من البائع في أي الاحتمالين حتى يترتب
عليه حكمه وأصالة الصحة لا مدخلية لها في ظواهر الألفاظ المتبعة في كشفها
عن المراد (2).
109

ثم إن بعض المحققين من المعاصرين نسب إلى الشيخ في (المبسوط)
التمسك لعدم ضمان فاسد عقد لا يضمن بصحيحه، بالأولوية، مستشعرا
ذلك من كلمة (فكيف) في عبارته، حيث قال - معللا عدم الضمان
في المسألة المتقدمة من الرهن المشروط بكونه مبيعا بعد انقضاء الأجل -
(لأن صحيح الرهن غير مضمون عليه، فكيف فاسده) وحاصله: إن سبب
الضمان إما إقدام المالك عليه، أو حكم الشارع وامضاؤه لما أقدم عليه
وكلاهما منفي في الرهن الفاسد، ووجه الأولوية إمكان دعوى عدم ضمان
عقد فاسد يضمن بصحيحه لانتفاء السبب الموجب له من الحكم بصحة
ما أقدما عليه من الضمان الخاص - شرعا - بعد أن كان وجود العقد
الفاسد كعدمه، ولا إقدام على غيره - كما عرفت سابقا - فإذا كان ما يضمن
بصحيحه يمكن أن لا يكون مضمونا بفاسده، فما لا يضمن بصحيحه كالرهن
بطريق أولى لا يضمن بفاسده.
114

وفيه - مع إمكان أن يقال: إن صحة عقد الرهن والإجارة المستلزمين
لتسلط المرتهن والمستأجر على العين شرعا، بل وسائر ما لا يضمن بصحيحه
مؤثرة في عدم الضمان، وبعبارة أخرى: السبب في عدم الضمان هو إمضاء
الشارع لما أقدم عليه المالك من التسليط المجاني، بخلاف الفاسد منه، لانتفاء
السبب ولو بانتفاء جزئه، فلا أولوية في المقام:
أن ذلك مبني على إرادة الأولوية من كلمة (كيف) ويحتمل إرادته
التعجب منها، دون الأولوية، ومنشأه توهم الفرق بين صحيح ما لا يضمن
وفاسده في الضمان، وعدمه، مع اشتراكهما في عدم علة الضمان أو علة
عدمه، لأن علة الضمان: إما إقدام المالك، أو حكم الشارع به، أو المركب
منهما، والكل منتف في صحيح ما لا يضمن، فكذا في فاسده، بعد أن
كان وجود العقد كعدمه، والاشتراك في العلة يستلزم الاتحاد في الحكم
وبعد أن كان صحيح الرهن - مثلا - لا يضمن، فكيف فاسده، فالفرق
بين صحيح الرهن وفاسده مورد التعجب.
هذا ما حضرني من النقوض التي ربما يتوهم ورودها على القاعدة
بكليتها: الايجابية والسلبية، وقد عرفت عدم تماميتها. مع أنه لو فرض
تخلفها في بعض الموارد لدليل خاص لا ينافي تأسيسها الموجب للتمسك
بها في موارد الشك، وإن هي إلا كالعام المخصص، وليست هي من
القواعد العقلية الآبية عن التخصيص، مع أن النقض إنما يتحقق بما إذا
كان ما يخالف القاعدة من المتفق عليه والمسلمات عندهم، لا فتوى شر ذمة منهم
وأما الاشكالان:
فالأول منهما - إن فاسد عقود المعاوضات إذا كان الفساد من جهة
لفظه، لم لا تكون مضمونة بالمسمى كصحيحها بالمعاطاة، بعد أن كان
وجود العقد لفساده كعدمه.
115

والجواب عنه: إن المعاطاة يعتبر فيها غير اللفظ ما يعتبر في العقود
التي منها قصد التمليك بالايجاب والقبول الفعليين كالعقود المعتبر فيها قصد
التمليك بالايجاب والقبول اللفظيين، فالقبض والاقباض في المعاطاة يقصد
بهما التمليك والتملك، وفي العقود يترتبان على ما قصد التمليك به من العقد
فالعقد الفاسد قصد التمليك به، لا بما يترتب عليه من القبض والاقباض
فما قصد به التمليك من العقد لم يقع، وما وقع من القبض والاقباض لم
يقصد بهما التمليك، فلم يقع عقد ولا معطاة، فلا تكون مضمونة إلا
بعوضه الواقعي من المثل أو القيمة.
والثاني - إن اطلاق كلامهم في الكلية الايجابية يشمل صورة علم
البائع مع جهل المشتري، وحينئذ يقتضي سقوط الضمان للغرور.
وفيه: - مع أنه غير مطرد إلا إذا استلزم غرامة البدل الواقعي
زيادة الضرر على المسمى - أنه لا غرور من البائع حتى يوجب عدم ضمان
ماله وسقوط احترامه، وجهل المشتري لتقصيره في تعليم الأحكام الشرعية
غير موجب لسقوط الضمان عنه.
116

رسالة
في القبض وحقيقته
117

بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة: لما كان جملة عقود المعاوضات وشطر من المجانيات كالرهن
والوقوف والهبات، يعتبر القبض فيما يترب عليها من الأحكام، كان
التعرض لمعناه من المهمات، حيث يترتب عليه كثير من الثمرات.
القول فنقول - وبالله المستعان -: القبض - لغة - هو الأخذ والتناول
باليد واختلفت عبارات الفقهاء فيما يراد منه في المنقول - بعد اتفاقهم على
كفاية التخلية في غيره - والجمود على ظواهرها ينهيه إلى أقوال ثمانية:
القول الأول - كفاية التخلية فيه - مطلقا - في المنقول وغيره، صرح به في
(الشرائع) (1) و (مختصر النافع) (2) وهو المحكي عن (كاشف الرموز) (3)
ونسبه في (الإيضاح) إلى بعض المتقدمين (4)
119

وحجتهم - على ما قيل -: لزوم الاشتراك أو المجاز لو أريد غيرها
في المنقول، بعد الاجماع - بل الاتفاق - على إرادتها في غيره، والمراد
بها رفع اليد وجميع الموانع عن سلطنة القابض واستيلائه عليه.
القول الثاني - التخلية في غير المنقول كالعقار والدور، وفي المنقول نقله
أي نقل المشتري له، لأنه الكاشف عن السلطنة والاستيلاء عليه، والمتحقق
به قبضه دون البائع، اختاره الشيخ - رحمه الله - في (الخلاف) (1)
وابن إدريس في (السرائر) - على ما حكي عنه، وابن زهرة في (الغنية)
مدعيا عليه الاجماع (2) والشهيدان في (اللمعة والروضة) (3) وغيرهم.
ودليلهم عليه - بعد الاجماع المعتضد بالشهرة المحكية - في الجملة -:
فهم العرف، لأنه المرجع فيما لم يرد في تعريفه نص من الشرع.
القول الثالث - كالثاني - في تحقق قبض المنقول بنقله، للصدق العرفي
إلا في خصوص المكيل والموزون، فقبضه كيله أو وزنه معينا، لصحيحة
معاوية بن وهب، قال: (سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الرجل
يبيع المبيع قبل أن يقبضه؟ فقال: ما لم يكن كيل أو وزن، فلا تبعه
120

إلا أن تكيله أو تزنه إلا أن تولاه الذي قام عليه) (1) وصحيحة الحلبي
عن أبي عبد الله عليه السلام: (إنه قال في الرجل يبتاع الطعام ثم يبيعه
قبل أن يكال؟ قال: لا يصلح له ذلك) (2) حيث علق فيهما جواز بيع
المبيع على الكيل أو الوزن، سيما مع وقوع الأولى في جواب السائل عن
بيع ما لم يقبض أو يكال، وليس إلا لكونهما قبضا في المكيل والموزون.
ذهب إلى هذا القول جماعة، بل نسبه بعضهم إلى المشهور.
وفيه: إن اعتبار الكيل والوزن: إن كان لكونهما قبضا في المكيل
والموزون.
فيدفعه: أنهما يصدران - غالبا - من البائع في مقام الاقباض
والتسليم، والقبض والتسلم فعل المشتري، فكيف يكون ما هو فعل البائع
فعلا للمشتري؟ فلا أقل من القول بالتفصيل بين ما لو صدرا من البائع
أو المشتري في مقام التسلم والقبض، ومنه يظهر وجه الاشكال في جعل
التخلية - التي قد عرفت معناها - قبضا - مطلقا - أو في غير المنقول الذي
ادعي الاتفاق عليه فيه (3).
121

وإن اعتبرهما الشارع شرطا في رفع المنع - تحريما أو كراهة - عن
بيع ما لم يقبض في خصوص الطعام أو مطلق المكيل والموزون.
فيدفعه - مضافا إلى كونه خروجا عن فرض كونهما قبضا في المكيل
والموزون -: أنه مناف للاجماعات المحكية على جواز البيع بعد القبض
فاللازم حمل الصحيحتين ونحوهما على الغالب مما يترب عليهما من القبض والتسلم.
ومما ذكرنا يظهر ضعف ما استقر به في (المختلف): من كون
القبض في المنقول نقله، وفي المكيل والموزون ذلك، أو كيله ووزنه
مخيرا بينهما (1).
واستند في هذا القول إلى الجمع بين العرف الذي هو المرجع فيما
لا نص فيه من الشرع مؤيدا برواية عقبة بن خالد عن الصادق - عليه السلام -
في رجل اشترى متاعا من آخر، وواجبه، غير أنه ترك المتاع عنده ولم
يقبضه، وقال: آتيك غدا إن شاء الله، فسرق المتاع: من مال من
يكون؟ قال: من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع
ويخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته، فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد
ماله إليه) حيث جعل - عليه السلام - النقل هو القبض - وبين صحيحة
معاوية المتقدمة (2).
122

ولعل التزامه بكون الكيل والوزن قبضا دون أن يكون اعتبارهما لمحض
كونهما شرطا في رفع المنع التحريمي أو الكراهي عن بيع المكيل والموزون
للتخلص عن لزوم تخصيص الصحيحة بالاجماع الذي حكاه بعد أن ساقها
حيث قال: (فجعل - عليه السلام - الكيل والوزن هو القبض، لأن
الاجماع على تسويغ بيع الطعام بعد قبضه) (1)
هذا، ومفاد الاجماع المزبور: هو كون القبض مسوغا للبيع، لا حصر
المسوغ به - كما هو مفاد ما حكاه جدنا (2) في (الرياض) وحيث قال
123

- في جواب المناقشة على الرواية -: (.، فليكونا قبضا، للاجماع على
عدم ارتفاعه إلا به) (1)
وتبعه - في كيفية نقل الاجماع وحصر المسوغ بالقبض - الفاضل الجواد
في (شرح اللمعتين) حيث قال - في وجه سقوط المناقشة: (. بالاجماع
المدعى على عدم ارتفاع المنع - تحريما أو كراهة - بدون القبض) (2)
ولا يخفى عليه الفرق الواضح بين النقلين، واختلاف لزوم التخصيص
على الطريقين.
القول الخامس - ما ذهب إليه في (المبسوط) حيث قال: "..
124

وإن كان مما ينقل ويخول، فإن كان مثل الدراهم والدنانير والجواهر ومما
يتناول باليد، فالقبض فيه هو التناول، وإن كان مثل الحيوان كالعبد
والبهيمة، فإن القبض في البهيمة أن يمشي بها إلى مكان آخر، وفي العبد
أن يقيمه إلى مكان آخر، وإن كان اشتراه جزافا كان القبض فيه أن
ينقله من مكانه، وإن كان اشتراه مكايلة فالقبض فيه أن يكيله) انتهى (1)
القول السادس - ما ذهب إليه في (الدروس) قال: (والقبض
في غير المنقول: التخلية بعد رفع اليد، وفي الحيوان نقله، وفي المعتبر كيله
أو وزنه أو عده: ذلك أو نقله، وفي الثوب: وضعه في اليد) (2)
ولعل نظره في المكيل والموزون إلى الصحيحتين، وفي النقل إلى
العرف، ورواية عقبة المتقدمة، لكن الفرق بين الحيوان وغيره مشكل
وإلحاق المعدود بالمكيل والموزون قياس، وكلمة (بعد) لعلها زائدة لأن
التخلية تحصل برفع اليد والموانع، لابعد (3).
القول السابع - كفاية التخلية في نقل الضمان عن البائع، لا في زوال
المنع عن بيع ما لم يقبض. نفى عنه البأس في (الدروس) (4).
ومن المحتمل أن يكون ذلك اختلافا في مناط الحكمين، لا في تسميته
125

قبضا على أن يكون القبض في نقل الضمان غيره في زوال المنع، وعليه
لا يكون قولا آخر في ماهية القبض وحقيقته. ويقربه استبعاد كونه قولا
في معنى القبض مرضيا عنده، بعد ما اختار قبله بلا فصل: ما نقلنا عنه
إلا أنه - حينئذ - يمكن أن يقال عليه: كيف نفى البأس عنه مع أن
التخلية إن كانت قبضا، فقد حصل المسوغ للبيع للاجماع المتقدم المحكي
في (المختلف) وغيره، وإلا فلم يتحقق نقل الضمان بحكم النبوي المعروف:
(كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه) بل رواية عقبة المتقدمة
دالة بظاهرها على اعتبار النقل في رفع الضمان عن البائع، كما فهمه الأصحاب
لا كفاية التخلية فيه، كما فهمه شيخنا المرتضى - قدس سره - في (المكاسب)
وجعلها معارضا للنبوي وتكلف في وجه الجمع بينهما (1). ومنشأه قراءة
(يقبض) بضم حرف المضارعة، لا بفتحها، وجعل فاعل (يخرج)
راجعا إلى البائع دون المشتري.
القول الثامن - الاستقلال والاستيلاء عليه باليد وهو. المحكي عن
الأردبيلي - رحمه الله - والسبزواري - رحمه الله - (2) و (المسالك) وإن
126

اطرده في الأخير في غير المكيل والموزون، وتبع فيهما النصوص المتقدمة (1)
لكن لا يكاد يتم ما ذكره هنا وقواه، مع ما ذكره - أخيرا - بعد ذكر
فروع كثيرة بقوله: (والتحقيق هنا أن الخبر الصحيح دل على النهي عن
بيع المكيل والموزون قبل اعتباره بهما له، لا على أن القبض لا يتحقق بدونهما
وكون السؤال فيه وقع عن البيع قبل القبض - حينئذ - لا ينافي ذلك، لأن
الاعتبار بهما قبض وزيادة، وحينئذ، فلو قيل: بالاكتفاء في نقل الضمان
فيهما بالنقل عملا بمقتضى العرف والخبر الأخير، ويتوقف البيع ثانيا على
الكيل والوزن، أمكن، إن لم يكن إحداث قول النهي فتأمل جيدا) انتهى.
والذي يظهر لي أن القبض معناه أمر واحد في جميع موارد اعتباره
وهو الاستيلاء والسلطنة العرفية على الشئ وقيامها بذات المشتري، بعد أن
كانت قائمة بذات البائع. - مثلا - بحيث لو لم يكن مالكا أو مأذونا
من مالك لكان غاصبا من غير مدخلية مماسة اليد أو فعل الجوارح في ماهيته
واعتبار العرف لشئ من ذلك، إنما هو لكونه كاشفا عن حصولها له
وتحققها فيه، فهو معتبر من باب الأمارة والطريقية، لا موضوعية له في
127

ماهيته، بل هي مرتبة على السلطنة ترتب المعلول على العلة والأثر على
المؤثر. نعم هي أسباب لحكم العرف بحصولها للمشتري، لا لنفس الحصول
فلو حصلت التخلية التامة التي هي بمنزلة الاقباض من البائع - مثلا - مع
قبولها من المشتري تحولت تلك السلطنة من المنقول منه إلى المنقول
إليه، وقامت بذاته قيام الصفة بالموصوف والعارض بالمعروض، ولذا لو أرجع
الغاصب العين المغصوبة إلى المغصوب منه ووضعها بين يديه أو في داره
بمشهد منه حصلت التأدية منه، وبرئت ذمته، وليس إلا لرجوع تلك
السلطنة المسلوبة منه إليه بمجرد وضعه بين يديه وحصول القبض منه لماله
وكذا الودعي للوديعة. ولعل اختلاف عبارات الأصحاب في قبض المنقول
عدا من اعتبر الكيل والوزن في المكيل والموزون للتعبد محض اختلاف
في التعبير عن الكواشف والأمارات، لا خلاف في أصل معناه. ولذا كل
منهم يستند في دعواه إلى العرف. فلترجع - حينئذ - جملة من الأقوال
بعضها إلى بعض.
هذا تمام الكلام في أقوال المسألة
128

بقي هنا فروع
الأول - أنه لو كان المبيع مشغولا بأمتعة البايع: فإما أن يكون
منقولا (1) أو غير منقول (2) وعلى الأول: فإما أن نعتبر النقل في قبضه (3)
أو تكفي التخلية أو الاستيلاء، وعلى التقادير: فمرة - مع إذن البايع
لنقل المتاع، وأخرى - مع عدم إذنه له.
فنقول: أما مع الإذن بنقله (4) فلا إشكال في حصول القبض
- مطلقا - بعد حصول ما هو معتبر فيه (5) - منقولا كان أو غير منقول -
كالعقار والدور. وأما مع عدم إذن البايع في نقل المتاع مع كونه آذنا
في قبض المبيع أو كان إذنه غير معتبر لوصول الثمن إليه (ففي) تحقق
القبض قبل تفريغه وترتب جميع أحكامه عليه بالاستيلاء عليه، أو نقله
بما فيه، إن كان منقولا واعتبرنا النقل فيه، أو عدمه كذلك (6) أو ترتب
نقل الضمان عن البايع دون غيره من أحكام لعدم كونه قبضا -: (وجوه
129

واحتمالات) قوى أولها (1) في (الجواهر) ونظره إلى عدم مانعية الإثم
لتحقق القبض وترتب أحكامه عليه، وهو حسن، إن كان المنشأ ذلك
لأن النهي لا يدل على الفساد في المعاملة، وإن اتحد العنوان المحرم معها في
الوجود - كما هو محقق في محله - (2).
130

ولكن يمكن أن يوجه المنع بعدم تحقق الاستيلاء والسلطنة، أو التخلية
التي قد عرفت أن معناها رفع جميع الموانع التي منها - بل أعظمها -
المانع الشرعي لكونه مستلزما للتصرف في مال الغير بغير إذنه ولو كان
منقولا، واعتبرنا النقل فيه، لأن اعتبار النقل اعتبار للتخلية وزيادة.
نعم يتحقق بعد التفريغ وإن إثم فيه، لا قبله (1).
131

ومنه يظهر وجه القول الأخير (1) ومواقع النظر من كلام شيخنا في
(الجواهر) حيث قال: (.. فإن كان منقولا كالصندوق المشتمل على
أمتعة البائع، كفى في قبضه - على المختار - حصول تلك السلطنة عليه
ولو قبل تفريغه، بل لو اعتبرنا نقله - ونقله المشتري بالأمتعة - كفى في
نقل الضمان وغيره، حتى مع عدم إذن البائع في نقل الأمتعة، بعد أن يكون
آذنا في المبيع، أو كان إذنه غير معتبر لوصول الثمن إليه، إذ الإثم في
ذلك لا ينافي صحة القبض وترتب أحكامه عليه (2) واحتمل في (المسالك)
توقفه - فضلا عن غيره من أحكام القبض - على إذن البائع في نقل الأمتعة
132

وفيه من الضعف ما لا يخفى، وإن كان غير منقول فلا ريب في تحقق
التخلية قبل نقل الأمتعة، فيكتفى بها. واحتمل في (المسالك) عدم الاكتفاء
قبل النقل - أيضا - وهو أضعف من سابقه) (1) انتهى.
وأما الوجه الثالث (2) فقد يقال: إنه لا موجب لنقل الضمان بعد أن
لم يكن قبضا بالفرض، مع أنه تالف قبل قبضه (وكل مبيع تلف قبل
قبضه فهو من مال البائع) بحكم النبوي المتقدم.
ودعوى ترتب الضمان على القبض الفاسد - غير الشرعي - كقبض
المغصوب وإن لم يترتب عليه سائر أحكامه.
133

يدفعها: أن الضمان المترتب عليه هو الضمان بالمثل أو القيمة، دون
الضمان بالمسمى، والمبيع مضمون بالمسمى على بائعة قبل التلف، لا بالمثل
أو القيمة.
إلا أن الأقوى - كما ستعرف - ضمانه بالمسمى، إن لم يكن فساده
منبعثا عن فساد العقد أو ما يعتبر فيه - كما في المقام - (1)
ومنه يظهر قوة ما قواه في (المسالك) (2) ففي المسألة احتمالات
ثلاثة.
الثاني - لو كان المبيع بنفسه مشتركا بين البائع وغيره، فعلى المختار
كفى في تحقق القبض حصول الاستيلاء والسلطنة للمشتري على حسب ما كان
134

للبائع - مطلقا - منقولا كان المبيع أم غيره -.
وكذا على القول بكفاية التخلية مطلقا - إذ ليس للمشترى إلا ما كان
للبائع من السلطنة له في المال المشترك، والمنع من التصرف من جهة الشركة
لا ينافي الملكية بالإشاعة، لوضوح الفرق بين الطلق والمشاع في الملكية
والتخلية المطلوبة من المالك، وإن اعتبرنا النقل في المنقول وكان المبيع
المشترك منقولا، فغير بعيد الحاقه بغير المنقول في تحقق القبض بالتخلية
- كما عن (المختلف) - في كتاب الهبة - (1)
ويحتمل - قويا - توقف القبض على إذن الشريك أو قبض الحاكم
له - أجمع - بعضه أمانة، وبعضه عن المشتري، بعد رفع أمره إلى الحاكم.
الثالث: قال في (المسالك) - تبعا للتذكرة -: (لو كان المبيع
في مكان لا يختص بالبائع، كفى في المنقول نقله من حيز إلى آخر، وإن
كان في مكان يختص به، فإن نقله فيه من مكان إلى آخر بإذنه كفى
أيضا (2)
135

وإن كان بغير إذنه كفى في نقل الضمان خاصة كما مر " (1)
قلت هذا: مبني على اعتبار النقل في المنقول، وعليه فالظاهر حصول
القبض بنقله (2) من حيز إلى آخر، وإن كان مختصا بالبائع وكان بغير إذنه
لتحقق ما هو مناط القبض من التسليط والتسلط والنقل المأذون في أصله، وإن أثم
باختياره منه الفرد المتحد مع العنوان المحرم، سيما مع كون الحيز المنقول
إليه في طريق السلوك إلى الخارج ضرورة أن النقل إلى ذلك الموضع محلل
لا إثم فيه، وهو يكفي في تحقق القبض، وها هنا يتجه كلام شيخنا المقدم
في (جواهره) لا في الفرع المتقدم، فافهم (3)
136

الرابع: لو باع ما هو غير منقول كالدار مع ما فيها من المنقول صفقة
فالظاهر كفاية التخلية في قبض المجموع - هنا - وإن اعتبرنا النقل في
المنقول، لأن قبض الدار قبض لها بما فيها - عرفا -.
137

ويحتمل اعتبار النقل في خصوص قبض الحال، وإن كفت التخلية
في قبض المحل (1).
الخامس: لو كان المبيع مكيلا أو موزونا، فلا يخلو من صور
ثلاث، لأنه إما أن يكون كيله أو وزنه معلوما، أولا، كما لو باعه قدرا
معينا من صبرة مشتملة عليه. وعلى الأول: فإما أن يكون معلوما بالمشاهدة
- كما لو كيل أو وزن بمشهد المشتري - قبل العقد عليه، أو بأن أخبره
به، فصدقه.
أما الثالثة: فهي المتيقنة من مورد النصوص المتقدمة الدالة على المنع
تحريما أو كراهة عن بيع المكيل أو الموزون قبل كيله أو وزنه.
وأما الأولى: ففي الاكتفاء بالكيل السابق أو وزنه عن تجديدهما بعد
البيع - ثانيا - وجهان: مبنيان على أن اعتبارهما هل هو من جهة تحقق
القبض، فلا بد من تجديدهما بعد البيع إذ لا معنى للقبض قبل البيع
- كما قواه في المسالك - ونسبه فيه إلى العلامة والشهيد (2) وعليه، فلا بد
138

من الاعتبار - ثانيا - في الصورة الثانية بطريق أولى، أو لمحض التعبد في
رفع المنع عن بيعه - ثانيا - المحتمل عليه دعوى الاكتفاء بالكيل السابق
أو وزنه لاطلاق النصوص المتقدمة الشاملة لما كان الكيل أو الوزن قبل
البيع، ضرورة صدق كونه كيل أو وزن عليه. وعليه، ففي الصورة
الثانية يحتمل الاكتفاء به أيضا، ويحتمل العدم، لعدم الأولوية - حينئذ - مضافا
إلى رواية محمد بن حمران (قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: اشترينا
طعاما، فزعم صاحبه أنه كاله فصدقناه وأخذناه بكيله؟ فقال: لا بأس
فقلت: أيجوز أن أبيعه كما اشتريته بغير كيل؟ فقال: لا، أما أنت
فلا تبعه حتى تكيله) (1).
هذا، والتعرض لكلمات الأصحاب في هذا الفرع ربما ينجر إلى
الاطناب.
والذي يختلج بالبال ويخطر في الخيال في تحقيق المسألة: هو أن يقال:
كل مبيع بعد تعلق البيع الصحيح به جاز للمشتري بيعه بعد الدخول في
ملكه - مطلقا - وإن لم يقبضه، لوقوعه من أهله في مجله. إلا المكيل
139

والموزون، فإنه يمنع عن بيعه مكايلة قبل قبضه، وإن دخل في ملكه
للنصوص المتقدمة، بعد تنزيلها على الغالب من ترتب القبض على الكيل
والوزن، وبعد قبضه يجوز بيعه، وإن تحقق بغير الكيل والوزن، لما تقدم
من الاجماع المحكي في (المختلف) (1) على انعقاد البيع بعد القبض، فالقبض
هو المناط في جواز البيع - ثانيا - جمعا بين النصوص والاجماع المتقدم.
وإن أبيت إلا الجمود على ظاهر النص وأغضيت النظر عن إجماع (المختلف)
أو تمسكت بظاهر معقده المحكي في (الرياض) (2) و (شرح اللمعتين) (3)
فنقول: خصوص المكيل والموزون يمنع عن بيعه - ثانيا - إلا بعد الكيل
والوزن، وإن حصل القبض فيهما بدون ذلك، كما لو نقله المشتري إلى
بيته، وتصرف فيه بجملة التصرفات من دون كيل عليه أو وزن، فإنه
- حينئذ - يترتب جميع أحكام القبض عليه حتى دخوله في ضمان المشتري
غير أنه لو أراد بيعه - ثانيا - توقف على كيله أو وزنه، للنصوص المتقدمة
السادس: المقبوض بالقبض الفاسد، لو تلف بيد المشتري كان
مضمونا عليه - مطلقا - بالمثل أو القيمة، إن كان الفساد منبعثا عن فساد العقد
أو ما يعتبر فيه، وبالمسمى إن كان فاسدا فيما لا يكون القبض مستحقا له
على البائع مع وقوعه منه بغير إذنه وفرض كون العقد صحيحا، ومعناه
انتقال الضمان منه إليه، لقاعدة الضمان على من تلفت بيده.
وقد يتوهم - هنا - كون الضمان على البائع، بناء على ما تقدم من
140

عدم تحقق القبض إلا بعد التخلية الموقوفة على إذنه، لكون القبض غير
مستحق عليه بالفرض، فهو تالف قبل قبضه، وكل مبيع تلف قبل
قبضه فهو من مال بايعه بحكم القاعدة المستفادة من النبوي المتقدم.
إلا أنه توهم فاسد، لأن المراد من القبض المعلق على عدمه التلف
مطلق القبض بكلا قسميه: الصحيح والفاسد، ونفي القبض كذلك معناه
كون التلف عند غير المشتري، فلا يكون المقام مشمولا للنبوي حتى يتوهم
تعارض القاعدتين فيه، كيف ولو تلف بيد المشتري بعد أن كانت العين
مضمونة بالمسمى بالعقد الصحيح، فإن رجع البائع على المشتري ببدله
الواقعي، فمع أنه غير الضمان بالمسمى مع كون الضمان به بالفرض، لم يكن
الفوات من مال البائع بعد أخذه البدل الواقعي. وإن لم يرجع عليه بشئ
من البدلين الواقعي والمسمى، جمع المشتري بين العوض والمعوض، فلم يبق
إلا كون المبيع فائتا من المشتري، بمعنى كون خسرانه عليه ونقصانه في
ملكه، وهو المطلوب من انتقال الضمان للمشتري.
نعم لولا النبوي لكان مقتضى القاعدة الأولية غرامة البائع بعد
أن كانت العين مضمونة بعقد المعاوضة وتلف عنده المثل أو القيمة للمشتري
بدلا عن ملكه وأخذه المسمى منه، إلا أن النبوي حاكم على تلك القاعدة
الأولية ومتضمن لبطلان البيع وانفساخه، ورجوع المبيع إلى ملك البائع
آناءا عند التلف حتى يصدق كون التالف من مال البائع - كما عليه المشهور
وإن كان الأقوى - عندنا - موافقة النبوي للقاعدة في إيجابه الانفساخ بالتلف
قبل القبض، كما ستقف عليه عند تحريرنا له في مسألة مستقلة (1).
وبالجملة: فمفاد النبوي عندهم مجرد بيان حكم ما لو تلف المبيع عند
البائع وكون التلف منه في قبال ما تقتضيه القاعدة الأولية، وأين ذلك من
المقام المفروض كون التلف بيد المشتري؟.
141

السابع: قال في (المسالك): (لو كان المبيع بيد المشتري قبل
الابتياع: فإن كان بغير إذن البائع فلا بد من تجديد الإذن في تحققه بالنسبة
إلى رفع التحريم أو الكراهة. وأما بالنسبة إلى نقل الضمان، فيحتمل
- قويا - تحققه بدونه، كما لو قبضه بعده بغير إذن البائع. ويحتمل توقف
الأمرين على تجديده، لفساد الأول شرعا، فلا يترتب عليه أثر. ولو كان
بإذنه كالوديعة والعارية لم يفتقر إلى تجديد إذن ولا تخلية.) (1) انتهى
قلت: ومما ذكرنا ظهر لك وجه قوة ما قواه في (المسالك) من
انتقال الضمان إلى المشتري لو كان مقبوضا بغير إذنه، إلا أن إطلاق قوله
(فلا بد من تجديد الإذن) الشامل لما لو كان القبض مستحقا له على
البائع، كما لو اشتراه بمال في ذمته، غير جيد - ضرورة عدم الحاجة إلى
الإذن بعد ما كان القبض مستحقا عليه.
هذا بالنسبة إلى البيع. وأما بالنسبة إلى ما كان القبض شرطا في
صحته أو لزومه كالرهن والهبة، فنقول: لو رهن المقبوض بيد المرتهن
قبل عقد الرهن عليه، فلا يخلو: إما أن يكون القبض المتحقق أولا بإذن
الراهن، أو بغير إذنه كالمغصوب. وعلى التقديرين، ففي اعتبار الإذن
مطلقا أو عدمه كذلك، أو التفصيل بين المأذون وغيره.
أقوال: نسب ثانيها إلى الأكثر، ولعل نظرهم إلى كفاية تحقق
القبض فيما هو معتبر فيه من الصحة أو اللزوم، لاطلاق قوله (صلى الله عليه وآله)
(لا رهن إلا مقبوضا) (2)
142

و (رهان مقبوضة) (1).
وفيه: إن المطلقات مسوقة لبيان أصل اعتبار القبض، وأما من
جهة الكيفية، فهي مهملة غير ناظرة إليها، فيبقى الحكم على ما كان عليه
قبله من الجواز وعدم ترتب الصحة بحكم الاستصحاب.
وأما وجه القول بالتفصيل، فلتحقق ما هو معتبر في القبض من الإذن
في الأول دون الثاني.
وفيه أن المعتبر هو القبض المأذون بعنوان كونه رهنا، لا مطلق الإذن
بالقبض، وبالجملة، بعد اعتبار الإذن والرضا في صورة حدوث القبض
المعتبر في الرهن بعد عقده - كما عليه المشهور - لا معنى لعدم اعتباره في
القبض المستدام، كما نسب إلى الأكثر أيضا هنا.
ومنه يظهر الاشكال في وجه التفرقة بين المقامين حتى ذهب المشهور
إلى اعتبار الإذن في الأول وعدم اعتبارهم له في الثاني.
ودعوى تحقق الإذن فيه - بدلالة الارهان عليه - فمع أنها ممنوعة
من أصلها لعدم الملازمة بين الرضا بكونه رهنا وكونه عند المرتهن بعينه
آت في القبض الحادث، كما لو قبضه المرتهن بدون إذن الراهن بالقبض
بمجرد العقد عليه، فالأقوى في المقامين اعتبار كون القبض مأذونا فيه
وفاقا للمشهور في الأول، وخلافا لهم في الثاني - كما عرفت من الاستصحاب
بعد كون المطلقات مهملة من حيث الكيفية، مضافا إلى أن القبض بعد
كونه جزء السبب ومتمما للعقد صحة أو لزوما يعتبر فيه ما يعتبر في باقي
أجزاء السبب من الرضا والاختيار، أو إلى دعوى كون المستفاد من أدلة
اعتبار القبض فيما هو معتبر في صحة العقد أو لزومه اعتبار تأكد الايجاب
143

والقبول اللفظي بالايجاب والقبول الفعلي - كما عن شيخنا المرتضى رحمه الله - في بعض
تحقيقاته الدرسية فالسبب عنده في الرهن ونحوه مما كان القبض معتبرا في صحته أو لزومه
مركب من الايجاب والقبول اللفظي والفعلي، تأكيدا للعقد اللفظي بالمعاطاة الفعلية.
وبالجملة، فلا بد من كون قبض المرتهن عن إقباض الراهن أو إذنه
من غير فرق بين القبض الحادث والمستدام، غير أنه في المستدام بعد الإذن
به لا يحتاج إلى مضي زمان يمكن فيه تجديد القبض - كما في المسالك عن
(التذكرة) مستندا إلى أن القبض إنما يعتبر بعد الرهن، وهو لا يتم إلا بإذن
ثم الإذن في القبض يستدعي تحصيله، ومن ضروراته مضي زمان فهو دال
على القبض الفعلي بالمطابقة، وعلى الزمان بالالتزام.
ولما لزم من القبض الفعلي تحصيل الحاصل أو اجتماع الأمثال المحالان
حمل اللفظ على المعنى الالتزامي لتعذر المطابقة.. انتهى.
وفيه: إن مضي الزمان من لوازم حصول القبض وتحققه، فيعتبر
فيه من باب المقدمة، فلا يعتبر في القبض الحاصل المتحقق.
نعم، لا يكفي الإذن، ولو مع مضي زمان يمكن فيه القبض، فضلا
عن الإذن - وحده - لو كان المرهون - منقولا كان أو غيره غائبا - غيبة
لا يصدق معها القبض لو خلي بينه وبينه فيما يكفي فيه ذلك، فضلا عما لو كان
منقولا واعتبرنا النقل فيه حتى يحضر المرتهن أو وكيله عند الرهن ويقبضه
بما يصدق معه من تخلية أو نقل.
وبعبارة أخرى: لو رهن ما هو غائب عن مجلس العقد غيبة لا يصدق
معها القبض لم يصر رهنا صحيحا بناء على اعتباره في الصحة، أو لازما
بناء على اعتباره في اللزوم، بلا خلاف أجده - كما في الجواهر - (1)
144

بل عن (جامع المقاصد) نسبته إلى نص الأصحاب (1)
وهذا مما لا كلام فيه ولا شبهة تعتريه. إنما الكلام في تسويغ حيلة
توجب صحة رهن ما كان غائبا كذلك أو لزومه.
فقد يقال - بل قيل - بصحة رهنه كذلك لو وكل المرتهن الراهن
على قبضه، فيكون قبضه له بعد عقد الرهن عليه قبضا عن المرتهن
والمفروض كفاية القبض المستدام مع الإذن في صحة الرهن أو لزومه، ولا
يعتبر حدوثه بعده.
وفيه - أولا - إن القبض بعد اعتباره وكونه جزء من السبب يعتبر
فيه أن يكون مقدورا للقابض، وفعلا من أفعاله الاختيارية وقبض الراهن
في الفرض قبض غير مقدور له لكونه مقهورا عليه، فهو من بقاء المال
تحت يده، لا إبقاء له كذلك.
وثانيا - إن الوكالة إنما تتحقق بأمرين: حدوث فعل، مع نية
كونه عن الموكل، إذ لا بد لهما من المتعلق. والقابض الناوي عن العين المقبوضة
له، لم يحدث منه فعل حتى ينوي به عن الموكل، ولا نيابة إلا في فعل
ومجرد قصد الوكالة غير كاف في تحققها.
ومما ذكرنا يتجه الفرق - بل يتضح - بين حضور الرهن عند القابض
وغيبته غيبة تمنع عن الصدق، ضرورة أن دوام القبض في الأول معناه
145

الابقاء، وفي الثاني هو البقاء، والابقاء فعل اختياري بخلاف الثاني حتى
لو كان القابض الناوي هو المرتهن بأن كان مقبوضا له قبل رهنه وإن
احتمل فيه الصحة لكونه مقبوضا له بإذنه بناء على ما تقدم من اعتبار كون
القبض فعلا اختياريا، فيفرق في القبض المستدام بين ما كان منبعثا عن
الابقاء أو منبعثا عن البقاء، فافهم واغتنم.
146

رسالة
في قاعدة تلف المبيع قبل القبض
147

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
محمد وأهل بيته المعصومين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى
يوم الدين.
مسألة: يظهر من الفقهاء رضي الله عنهم - اتفاقهم على أن
المبيع الشخصي قبل القبض مضمون على بائعه بالمسمى، وبعده ينتقل الضمان
منه إلى المشتري، بل في (التذكرة): نفي الخلاف فيه - عندنا - وأنه
من ضمان البائع لو تلف قبل القبض (1) وحكاية الاجماع عليه مستفيضة.
والأصل فيه - قبل الاجماع عليه - النبوي المشهور المتلقى عندهم
بالقبول: (كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه) (2) وخبر
عقبة بن خالد عن الصادق - عليه السلام - في رجل اشترى متاعا من آخر
وأوجبه غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه، وقال: آتيك غدا إن شاء الله
149

فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال - عليه السلام - من مال صاحب
المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته، فإذا أخرجه
من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله إليه) (1).
والمراد بصاحب المتاع هو البائع بقرينة ذيل الخبر (2)
وهذه الكلية - في الجملة - مما لا كلام فيها. وإنما الكلام يقع في أمور:
الأمر الأول - في كونها: هل هي على القاعدة، أو جرت على
خلافها تعبدا للدليل الدال عليها، فيجب الجمود فيها - حينئذ - على مورده
من المبيع دون الثمن، فضلا عن غير البيع من سائر المعاوضات؟
فنقول: أكثر من تعرض لهذه المسألة - مفصلا - صرح بأنها جارية
على خلاف القاعدة، لأن القاعدة الأولية - بناء على انتقال كل من العوضين
إلى ملك الآخر بالعقد - تقتضي ضمان كل منهما لصاحبه لو تلف قبل القبض
ببدله الواقعي من المثل أو القيمة، إن لم نقل بكون يده يد أمانة لا بالمسمى
وكونه تالفا من المشتري (3)، وضمانه باليد لعموم دليله، لا من ضمان
المعاوضة، لكن لما دل الدليل على كون التلف قبله من مال البائع الظاهر
150

في كونه مالا له عند التلف بمعونة ظهور (من) فيه للتبعيض، وإلا فبعد
التلف لا يتعقل اتصافه بكونه مالا له، وجب الحكم بانفساخ العقد قبل التلف
بجزء لا يتجزء من الزمان تصحيحا لصدق كونه تالفا من البائع، ومثل
ذلك في سبق الدخول في الملك آنا ما غير عزيز في الشرع، كما التزموا به (1)
فيمن اشترى أحد عموديه، وفي نحو (أعتق عبدك عني) (2) وكد خول
151

الدية في ملك الميت قبل موته بآن ما (1) وحيث كان مفاد الدليل عندهم
ذلك، وكان أخص من القاعدة، التزموا بتخصيصها به.
153

قلت: إن ما ذكروه مبني على أن مفاد العقد ليس إلا التمليك بإزاء
التمليك وأن وجوب القبض إنما هو لكونه ملك الغير فيجب تسليمه إلى
مالكه، لا لاقتضاء عقد المعاوضة ذلك.
وفيه - مضافا إلى ما يلزمهم من محذور لزوم تقدم المعلول على علته
بعد أن كان الانفساخ مسببا عن التلف بعده - وقياسه بإجازة الفضولي
بناء على الكشف، قياس مع الفارق، لامكان دعوى كون الشرط في
الإجازة هو تعقب العقد بها، وهو مقارن للعقد، وليس في المقام ما يصلح
أن يكون معقبا بالتلف حتى يصح أن يكون علة للانفساخ، ولا يتوهم
- هنا - كون السبب هو العقد المعقب - أيضا - لأن مدخلية التلف في
التأثير تضاد أثر العقد ومفاده، فكيف يمكن تركب السبب منهما، بخلاف
الإجازة التي ليس معناها إلا إمضاء مفاد العقد، وارجاع شرطية التلف
إلى شرطية بقاء العين إلى القبض في اللزوم، فيه من التكلف ما لا يخفى
وصدق الرجوع والانفساخ، وإن توقف على سبق الملك بالعقد إلا أن
استناده لا يمكن إلى العقد، أو ما يتركب منه ومن غيره ومع ذلك لا ينفك
عن لزوم المحال من تأخر المعلول عن علته التامة بالزمان، بناء على ما هو
المسلم عندهم من الانفساخ من حينه لا من حين العقد، ولذلك كان القول
بشرطية التعقب بالإجازة مبنيا على القول بأنها كاشفة لا ناقلة.
154

أنه لا ملازمة بين التعبير بكونه من مال البائع، والقول بالانفساخ
فضلا عن سبقه على التلف حتى يلتزم به، إذ كما يمكن ذلك تصحيحا
للصدق كذلك يمكن أن يكون كناية عن إرادة كونه تالفا عليه بلا عوض
له فأشبه بماله الذي لو تلف عنده كان التلف عليه وخسرانه منه. وهذا
المعنى يكفي - أيضا - في تحقق الصدق المذكور عليه، وإن كان الأول هو
الأظهر من العبارة، إلا أن الثاني يمكن ترجيحه عليه بوجوه من المرجحات (1)
وعليه، فيمكن القول بانفساخ العقد وحله بالتلف، لكن من حينه
لا قبله، فتكون مخالفتها للقاعدة - التي مقتضاها: لزوم العقد - من حيث
الانفساخ ورجوع كل من العوضين إلى مالكه الأول، أو القول بلزوم
العقد وعدم انفساخه الموجب لكون المبيع مضمونا ببدله الواقعي من المثل
أو القيمة، غير أنه بعد قيام الدليل على كونه مضمونا بالمسمى خرجنا به
عن القاعدة التي مقتضاها ضمان كل شئ ببدله الواقعي، وحينئذ فلا حل للعقد
ولا انفساخ، بل رجوع الثمن - حينئذ - إلى المشتري إنما هو من باب
155

الغرامة والبدلية عما تلف من ملكه، ولم يقع الانفساخ في متن رواية أو معقد
إجماع حتى يلتزم به، وإن وقع التعبير به عن الأكثر، إلا أنه استنباط
منهم من ظهور التعبير الواقع في الحديث وغيره في ذلك الممكن إرادة ما ذكرناه
منه، بل هذا هو الأنسب باطلاق الضمان عليه ومرجعه في مخالفته للقاعدة
إلى عدم إمضاء الشارع في المقام لما هو المجعول بدلا عن التالف عند العرف
والعقلاء بجعله الثمن المملوك للبائع بخصوصه بدلا عن المبيع التالف قبل
القبض، والالتزام بذلك أولى من رفع اليد عن الأدلة الدالة على لزوم العقد
ووجوب الوفاء به إذ ليس هو إلا عدم تقرير وامضاء من الشارع لما
عليه العرف والعقلاء في خصوص المقام من جعل البدل.
وتظهر الثمرة بينه وبين القول بالانفساخ قبل التلف - أو من حينه -
فيما لو عاد التالف بالفرض، أو ما بحكمه من السرقة ونحوها، بناء على
إلحاقه بالتلف في الحكم، فإنه يرجع كل من العوضين على الأخير إلى
مالكه بالعقد كالمأخوذ بدلا عن الحيلولة، ولا يرجع على الأول، لانفساخ
العقد وحله، وعوده موقوف على معاوضية جديدة.
هذا، وما ذكرنا كله جريا منا على مذاق من بنى على كون الحكم
بذلك على خلاف القاعدة، وإلا فالأظهر - عندي - كما عليه غير واحد
من الأصحاب - موافقته لها، بعد أن كان مقتضى العقد هو تسليط كل
من المتعاقدين صاحبه على ما كان مسلطا عليه من تبديل سلطنة بسلطنة في
المتعلق الموجب لحصول الربط بين العوضين ربط البدلية، بحيث يقوم كل
منهما مقام الآخر في تعلق السلطنة الفعلية به وحيث كان مفاد العقد ذلك
وجب على كل من المتعاقدين إيجاد ما هو عليه بعد العقد من التمكين
الذي هو بمنزلة الجزء الأخير من العلة التامة لحصول التسليط الفعلي، وحينئذ
فوجوب القبض والتسليم إنما هو من شؤون العقد ومقتضياته، ولذا جاز
156

لكل منهما الامتناع عن التسليم حتى يحصل التقابض، ولو بالرجوع إلى
الحاكم عند التشاح.
وعليه، فبالتلف يتحقق الانفساخ المسبب عن عدم الوفاء بتمام مقتضى
العقد (1)
157



(1) قوله " حتى يرد إليه ماله " يمكن أن تكون كلمة يرد مضارع رد، يعني
أن المشتري ضامن للثمن حتى يدفعه ويوصله إلى البايع: ويمكن أن تكون مضارع
ورد، ولعله الأنسب يعني أن المشتري ضامن للبايع حقه وهو الثمن حتى يصل إلى
البايع ماله من الثمن.
159

وبالجملة، فالقبض شرط في الخروج عن ضمان المعاوضة في جميع
عقود المعاوضات، فيجري مثل تلف المبيع قبل القبض تلف المنفعة قبله في
الإجارة بتلف العين بعد مدتها فتنفسخ الإجارة - على المختار - وتكون المنفعة
مضمونة بقيمتها - على القول الآخر - اقتصارا فيما خالف الأصل عندهم
على مورد الدليل من البيع دون غيره.
وليس من الحكم بذلك: ما لو تلفت العين المستأجرة قبل القبض مع
انقضاء مدة لا يمكن فيها الانتفاع، أو بعده - بلا فصل - كذلك فإن
الحكم يبطلان الإجارة في الصورتين مستند إلى تعذر التسليم لكون القدرة
عليه شرطا في صحة العقد - بالاتفاق - ولذا اتفقوا على بطلان الإجارة
- هنا - وإن اختلفوا في كون مسألة تلف المبيع قبل القبض على القاعدة
أو على خلافها.
فمن الغريب توهم بعض الأساطين في استناد حكمهم بالبطلان - هنا -
إلى ما ورد في البيع: من الدليل على الانفساخ فيما لو تلف المبيع قبل
القبض.
وها نحن نتلو عليك جملة من عباراتهم لكيلا تغفل عن مستند الحكم:
قال في (الجواهر) - في شرح قول مصنفه: ولو استأجر شيئا فتلف
قبل قبضه بطلت الإجارة ما لفظه -: (.. بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به
في محكي (التذكرة) لفحوى ما دل عليه في البيع: من النبوي، وخبر
عقبة، وغيرهما، بل ظاهر الأصحاب في المقام اتحاد الحكم في المقامين، وإن
المنفعة هنا بمنزلة المبيع، والأجرة بمنزلة الثمن، ومن هنا يتجه جريان
جميع ما تقدم هناك في المقام كالبحث عن تلف الثمن المعين..) (1)
160

وقال الفاضل الجواد في (شرح اللمعتين) - في شرح قوله: ولو
طرأ المنع. فإن كان قبل القبض فله الفسخ - ما نصه: (المنع الطارئ
على المنفعة بعد العقد عليها وقبل قبضها إن كان بتلف سماوي بطلت الإجارة
وليس مرادا من العبارة، لحكمه بثبوت خيار الفسخ مع أن الثابت بالتلف
هو الانفساخ لكون المنفعة بمنزلة المبيع التالف قبل القبض في الضمان، وانفساخ
العقد - بلا خلاف كما في التذكرة، وظاهره نفيه بين المسلمين، بل في
(السرائر) وغيره: الاجماع عليه صريحا، ولولاه لأشكل الحال في تعدية
الحكم من البيع إلى الإجارة، لوجود النص في الأول، وفقدانه في الثاني
- إلى أن قال بعد منع الدليل عليه هنا - فالعمدة الاجماع في المقام) (1)
وقال جدنا في (الرياض): (ولو تلفت العين المعين في العقد
استيفاء المنفعة منها قبل القبض أو بعده بلا فصل، أو امتنع المؤجر عن
التسليم مدة الإجارة بطلت الإجارة بلا خلاف في الأولين في الظاهر، وبه
صرح في (التنقيح) قيل: لفوات المتعلق، فتكون كتلف المبيع قبل
قبضه، واستيفاء المنفعة هنا بتمامها قائم مقام القبض في المبيع، كما أن
استيفاء بعضه كقبض بعضه، ولولا الاتفاق على هذا الحكم لأمكن
المناقشة فيه على إطلاقه، بل مطلقا، لمخالفته الأصل الدال على لزوم الأجرة
وانتقال المنفعة إلى ملك المستأجر بمجرد العقد. فرجوع كل منهما إلى مالكهما
الأول مخالف للأصل، ولا دليل عليه سوى القياس على المبيع، وهو فاسد
161

بعد اختصاص الدليل به) (1).
وقال في (الحدائق): (الثالث عشر - لو استأجرت شيئا فعرض
له التلف: فإما أن يكون للجميع أو البعض قبل القبض أو بعده، أو لم
يعرض له التلف - إلى أن قال: - الأولى - أن تتلف العين المستأجرة
لاستيفاء المنافع منها قبل القبض، ولا اشكال في بطلان الإجارة لأن استيفاء
المنفعة أحد العوضين، فإذا فات قبل قبضه بطل كما في البيع، فاستيفاء
المنفعة - هنا - كالقبض في البيع، كما أن استيفاء البعض كقبض بعض
المبيع) (2).
وقال في (المسالك) - في شرح ما تقدم من عبارة مصنفه - (المراد
بالتالف المعين في عقد الإجارة استيفاء المنفعة منه، كما يرشد إليه ظاهر
العبارة، وبطلان الإجارة - حينئذ - واضح، لأنه أحد العوضين فإذا فات
قبل قبضه بطل كالبيع، والاستيفاء - هاهنا - للمنفعة بتمامها، قائم مقام
القبض في المبيع..) (3).
وقال في (التذكرة): (مسألة - إذا فاتت المنفعة بالكلية حسا
انفسخ العقد ولا خيار للمستأجر، كما لو استأجر دابة معينة للركوب فماتت
أو استأجر للخدمة أجيرا معينا فمات، فإن كان قبل القبض انفسخ العقد
بلا خلاف نعلمه، لأن المعقود عليه تلف قبل قبضه، فأشبه ما لو تلف
المبيع قبل قبضه، وكذا إن كان عقيب القبض بلا فصل قبل مضى مدة
162

لمثلها أجرة، فإن الإجارة تنفسخ، وتسقط الأجرة أيضا - في قول
عامة الفقهاء) (1) انتهى.
ومنشأ توهمهم في مستند الحكم بذلك: هو صدق عنوان التلف قبل
القبض مع الغفلة عن استناد بعض صور إلى فقدان القدرة على التسليم
المتفق على اعتبارها في صحة العقد.
إذا عرفت ذلك، فنقول: تنقيح المسألة هو أن يقال: تلف العين
المستأجرة: إما أن يكون قبل القبض، أو يعده. وعلى التقديرين: فإما
أن يكون التلف بعد انتهاء مدة الإجارة، أو في أثنائها، أو قبل مضي
شئ منها يمكن الانتفاع فيه، فهنا صور:
الأولى - أن يكون التلف قبل القبض، ولكن بعد انتهاء مدة الإجارة
ففي هذه الصورة نحكم بانفساخ الإجارة ورجوع الأجرة إلى المستأجر،
نظير الحكم في تلف المبيع قبل القبض بالانفساخ ورجوع الثمن إلى المشتري
إن قلنا به على القاعدة، وإلا فالمنفعة مضمونة على المؤجر بقيمتها للمستأجر
لفقدان الدليل على الضمان بالمسمى في الإجارة.
الثانية - لو كان التلف في أثناء المدة، ولكن قبل القبض أيضا
فحكمها حكم تلف بعض المبيع قبل القبض، فإن المنفعة كالمبيع والأجرة
كالثمن، وستعرف حكمها.
الثالثة - لو كان التلف قبل القبض، ولما ينقض زمان يمكن فيه
القبض. وهذه الصورة كالصورة:
الرابعة - وهي إذا كان التلف بعد القبض بلا فصل في الحكم ببطلان
العقد من أصله، لتعذر التسليم فيهما، لا للنبوي، وغيره في البيع.
163

الخامسة - ما إذا كان التلف بعد القبض لكن في أثناء المدة.
السادسة - ما إذا كان التلف بعدهما، والحكم فيهما واحد من
حيث استحقاق الأجرة إلى حين التلف، غير أنه يستحق من الأجرة إلى
حيث التلف في الأولى لكونه مقبوضا له، والتلف في الأثناء يكشف عن
تعذر التسليم فيما بقي من المدة، وفي الأخيرة يستحق الأجرة بتمامها لكون
المنفعة بجملتها مقبوضة له، وإن لم يستوفها في تمام المدة أو في بعضها.
هذا، وليعلم أن قبض المنفعة يصدق - عرفا - بقبض العين، وإن
كان حصولها بالتدريج، فللمؤجر مطالبة الأجرة بمجرد تسليم العين إلى
المستأجر ولا كذلك في الأجير على عمل، فليس له مطالبة الأجرة إلا بعد
إيجاد العمل وإن ملكها بالعقد، والفرق: إن اليد على العين - عرفا -
يد على منافعها، فتكون المنافع - بأجمعها وإن تجدد حصولها - تحت يده
عرفا لكن بشرط بقاء العين المحرز عندهم بأصالة السلامة من التلف واستصحاب
بقائها، ولذا كانت منافع العبد المملوك مضمونة على من حبسه، وإن لم
ينتفع بخدمته، وحيث لا يد على الأجير الحر لا يكون عمله مقبوضا للمستأجر
وتحت يده إلا بعد إيجاده، فليس له مطالبة الأجرة قبله، وإن ملكها
بالعقد، ولذا لا تكون منافع الحر المحبوس مضمونة على حابسه، إذ لا يد له
عليه حتى يكون له يد على منافعه.
نعم، لو حبس الأجير على عمل مشخص بمدة مخصوصة كيوم مخصوص
غير المستأجر ضمن الحابس منفعته المخصوصة، لصدق الاتلاف عليه - عرفا -
بعد تموله عندهم.
ولعل فيما ذكرنا -: من الفرق بين الأجير ومؤجر العين في صدق
قبض المنفعة وعدمه مع تملك كل منهما الأجرة بالعقد - شهادة أيضا على
ما قويناه: من كون القبض من مقتضيات العقد في سائر عقود المعاوضات.
164

الأمر الثاني - لو كان المبيع بعضا من جملة معينة: فإما أن يكون
معبرا عنه بأحد الكسور التسع كالنصف والثلث والربع - مثلا - من صبرة
معينة، أو يكون معبرا عنه بمقدار مخصوص وزنا أو كيلا كوزنة منها
أو قفيز.
فإن كان الأول، كان المبيع مشاعا، ويتحقق قبضه بقبض الجميع
ضمنا. فإذا تلف الكل بعد قبضه كان من ضمان المشتري، لأنه تلف
بعد قبضه، ولو تلف بعضه كان التالف منهما بالنسبة.
وإن كان الثاني، ففي تحقق قبضه بقبض الجميع ليتخير منه اشكال
ينشأ: من الابهام وعدم تعين المبيع إلا بعد تعيينه، فلم يكن مقبوضا
بعنوانه، ومن انحصاره في المعين الخارجي فلا يخرج عن كونه مقبوضا
بقبض الجميع. فعلى الأول، لو تلف الجميع انفسخ العقد وكان من
ضمان البائع لأنه من التلف قبل القبض بالفرض، ولا ينفسخ لو تلف
بعضه إن كان الباقي بمقدار المبيع، ولا ينفسخ على الثاني مطلقا وإن تلف
جميعه لكونه بالفرض من التلف بعد القبض الموجب لانتقال الضمان به من
البائع إلى المشتري.
الأمر الثالث - لو كان المبيع كليا في الذمة، فدفع إلى المشتري
أكثر من حقه مقدارا أو مصداقا ليتخير منه، ففي تعين الحق في المدفوع
لكون التعيين بيد المديون - وفد عينه في الجملة - وإن كان يعد مبهما
فيه، وعدمه: وجهان. وعلى الأول - ففي حصول قبضه بقبض المجموع
لاشتماله عليه، وعدمه لابهامه بعد - بالفرض: الاشكال المتقدم. وحكم
ما لو تلف جميعه في يده - من حيث كونه من ضمانه أو من ضمان البائع -
يعرف مما تقدم.
هذا، ويحتمل تنزيل ذلك على الإشاعة بعد فرض التعيين في المدفوع
165

فيكون مقبوضا بقبض الجميع، كما صرحت به رواية محمد بن مسلم في
الضعيف عن الباقر - عليه السلام - قال: (سألته عن رجل اشترى من
رجل عبدا وكان عنده عبدان، فقال للمشتري: اذهب بهما، فاختر
أيهما شئت ورد الآخر، وقد قبض المال فذهب بهما المشتري فأبق أحدهما
من عنده؟ قال: ليرد الذي عنده منهما ويقبض نصف الثمن مما أعطى
من البائع، ويذهب في طلب الغلام فإن وجده، اختار أيهما شاء، ورد
النصف الذي أخذ، وإن لم يجد كان العبد بينهما نصفه للبائع ونصفه
للمبتاع) (1) ونحو ذلك خبر السكوني عن الصادق - عليه السلام - (2)
والمبيع في الخبر محمول على كلي في الذمة موصوف بما ترتفع به
الجهالة، وكل من العبدين مصداق لما ينطبق عليه المبيع الكلي، وإلا فأحد
العبدين لو كان مبيعا لبطل العقد لابهامه.
إلا أن الروايتين - مع ضعف سندهما (3) وعدم معلومية الجابر لهما -
وإن نسب الشهيدان في (الدروس، والروضة) إلى الأكثر العمل بهما،
166

إلا أن غير واحد أنكر النسبة المذكورة - واضطراب متنيهما -: فيهما إشكال
من وجوه:
الأول - أن ظاهرها تعين الكلي في الذمة في العبدين المقبوضين بتعيينه
فيهما، مع أن تشخيص ما في الذمة في الكلي الخارجي في حيز المنع.
الثاني - أنها صرحت بالإشاعة الموجبة لكون ملك المشتري نصفا من
كل من العبدين، ومقتضاها عدم استرداد نصف الثمن لكون المبيع مقبوضا
بجملته في ضمن الكل، فالتالف منهما، وتلف حقه فيه من ضمانه لأنه من
التلف بعد القبض، والموجود لهما، وحقه فيه مقبوض له موجود عنده
فلا وجه لاسترداد نصف الثمن.
الثالث - أنها حكمت باسترداد نصف الثمن، وهو ينافي الإشاعة
وموجب لعدمها، وعليه فيتعين حقه في الموجود من العبدين لخروج التالف
عن قابلية تشخص المبيع فيه، كبيع صاع من صبرة معينة، فإن المبيع
ينحصر في الباقي منها، وإن كان صاعا واحدا والتالف كله من البائع،
وهو مناف لذيل الخبر، وهو قوله عليه السلام: (وكان العبد بينهما
نصفه للبائع ونصفه للمبتاع) الصريح في الإشاعة وكون التالف منهما
والموجود لهما.
الرابع - على الإشاعة ينافي رجوع التخيير بعد وجدان الآبق إلا بجعل
الاختيار كالقسمة، وهو ممنوع:
ومن ثم لم يعمل بهما أكثر المتأخرين، حتى أن صاحب الحدائق
رجع في المسألة إلى ما تقتضيه القواعد بعد طرح الخبر من جهة المخالفة لها.
اللهم إلا أن يتكلف في الجواب عن ذلك كله: أما عن الأول
فيمنع امتناع تشخص ما في الذمة في الكلي الخارجي - مطلقا - بعد أن
كان التعيين بنظر المديون فكما له التعيين في ضمن فرد، له التعيين في
167

ضمن أفراد مخصوصة مدفوعة له بعنوان الوفاء، مخير إياه في التعيين منها.
وأما عن الثاني، فلتنزيل الابهام في الأفراد المخصوصة منزلة الاشتباه
أو المزج الرافع للتميز في كونه موجبا للشركة الموجبة للتملك بالإشاعة
وعليه فنصف الآبق، وإن تملكه المشتري وكان مقبوضا له، إلا أن تلفه
من ضمان البائع بعد أن كان الخيار في التعيين للمشتري، إلحاقا له بتلف
المبيع في مدة الخيار، فإنه من ضمان من لا خيار له - وهو هنا البائع -
ولا يقدح الفرق بينهما بأن الخيار هنا في تشخيص المعقود عليه وهناك
في لزوم أصل العقد بعد وجود المناط من عدم الاستقرار على من
له الخيار، كما صرح به هناك في (السرائر) أو تنزيله على الإباق في
في الثلاثة، فيكون من خيار الحيوان.
وبذلك ينقدح الجواب عن الثالث: من عدم منافاة استرداد نصف
الثمن للإشاعة بعد ظهور الوجه فيه من كونه في ضمان البائع وإن كان
مقبوضا للمشتري.
وأما عن الرابع، فرجوع التخيير بعد وجدانه مبني على ما هو الحق
كما حقق في محله -: من كون الشركة حكمية لا حقيقية، فلا يخرج بمزج
المالين كل منهما عن ملك مالكه، وإن جرت عليه أحكام الشركة الحقيقية
من جهة المزج والاشتباه. ولذا لو تميزا بعد رفع التميز ارتفع حكمها
واختص كل منهما بمالكه.
لكن مع ذلك كله: الأقوى طرح الرواية، والعمل بما تقتضيه
القاعدة: من تعيين الحق بالموجود من العبدين بعد تحقق القبض الوقائي بقبضهما
إن قلنا به. وعدم استرداد شئ من الثمن وكون التالف من ملك البايع،
وفي كونه مضمونا على المشتري لعموم (على اليد) وإلحاقه بالمقبوض
بالسوم، بل لعله أقرب منه لتحقق البيع - هنا - وانطباق المبيع الكلي
168

عليه وتشخصه فيه بعد الاختيار، ولم يتحقق بعد في المقبوض بالسوم،
وعدمه بناء على اختصاص دليل اليد برد المأخوذ بنفسه. ورد بدله بعد
تلفه مستفاد من دليل آخر. واختصاص دليل ضمان المقبوض بالسوم
بالاجماع المحكي المفقود في المقام -:
وجهان، بل قولان. ولعل الآخر هو الأقوى، وإن قلنا بعموم
(على اليد) لخروج يد الأمانة عنه، والتالف بيد المشتري أمانة لكونه مدفوعا
إليه من المالك.
والأولوية من المقبوض بالسوم ممنوعة: أولا - لما قبل من الفرق
بين المقامين، فإن المقبوض بالسوم مبيع بالقوة بما يؤول إليه، وصحيح
البيع وفاسده مضمون بخلاف صورة الفرض لأن المقبوض ليس كذلك لوقوع
البيع سابقا، وإنما هو محض استيفاء حق أو لأن المقبوض بالسوم يحصل
بمطالبة المشتري، وهنا يدفع البايع من دون سبق المطالبة به. وثانيا -
لو سلمت فهي أولوية ظنية لا معول عليها، بل لعل الحكم بالأمانة - هنا -
أولى بالحكم بها فيما لو باع دينارا بدينار موصوفين في الذمة، فدفع
أحدهما إلى الآخر ما يزيد عليه فإنه لم يتشخص الزائد المدفوع ثمنا أو مبيعا
وعليه إبداله حيث حكموا بكون ما في يده أمانة لم يضمنه لو تلف قبل
رده بغير تعد وتفريط من غير فرق بين صورتي تعمد الدافع وغفلته، إلا
في كون المدفوع على الأول - أمانة مالكية وعلى الثاني أمانة شرعية، بل
في (المسالك) دعوى الاتفاق على كونه أمانة في الأول.
الأمر الرابع - ما ذكرنا إنما هو فيما إذا كان التلف بنفسه. وأما إذا
كان بتسبيب، فإما أن يكون باتلاف المشتري، أو البائع، أو الأجنبي.
فإن كان من المشتري، فاتلافه بمنزلة قبضه فيكون من ضمانه ما لم
يكن مغرورا لوقوع الاتلاف منه على ملكه. كما لو أتلف ماله المغصوب
169

في يد الغاصب الموجب لخروجه عن الضمان. ولعل التفصيل بين الغرور
وعدمه هو مراد الشيخ فيما حكي عنه من التفصيل بين صورتي علم المشتري
وجهله.
وإن كان الاتلاف من البائع ففي ضمانه بالمسمى لاقتضاء العقد ذلك
من غير فرق بين الاختيار وعدمه إلا في الإثم وعدمه، أو لصدق التلف.
وإن كان بالاختيار فيكون مشمولا لاطلاق ما دل على كونه من مال
البائع، وإن أثم بالاختيار، أو بالمثل والقيمة بناء على انصراف التلف في
الدليل المخرج له عن القاعدة إلى ما كان بنفسه، أو تخيير المشتري بين تضمين
البائع بالمسمى أو بالمثل لوجود سبب كل من الضمانين الموجب للخيار في
اختياره الأخذ بأيهما شاء.
أقوال. والأول - هو الأقوى على المختار، والثاني - قوي إن قلنا به
على خلاف القاعدة، وفي الثالث - نظر (1).
170

لوجوب إلغاء أحد السببين المتضادين في الأثر عند اجتماعهما عن
السببية، فإن التلف أثره انفساخ العقد وحله الموجب لضمانه بالمسمى،
والاتلاف أثره الضمان بالمثل أو القيمة، وهو مبني على بقاء العقد ولزومه
فأما أن لا يكون التلف المسبب عن الاتلاف سببا للضمان بالمسمى أو لا يكون
الاتلاف المسبب بالكسر للتلف سببا للضمان بالمثل والقيمة.
والتعليل له - أيضا - بعد انصراف الدليل إلى التلف بنفسه بتعذر
التسليم الموجب للخيار بين الفسخ فيرجع عليه بالمسمى، والقبول فيرجع
ببدله الواقعي.
عليل لأن التعذر المسبب عن التلف لم يثبت سببيته للخيار، وإن قلنا
به في بيع الضال ونحوه. وخبر الضرار يدفعه ما وضعه الشارع من الضمان
بالبدل الواقعي لمن أتلف مال غيره.
ويجري ما ذكرنا - هنا - من الأقوال الثلاثة ومستندها حرفا بحرف
176

فيما لو كان الاتلاف من الأجنبي، غير أن وجه القول بالتخيير فيه أقوى
بل نسب القول به فيه إلى الأشهر - بل المشهور، بل في (الجواهر):
ظاهرهم الاتفاق عليه (1) وهو ممنوع جدا.
الأمر الخامس - لو حصل للمبيع قبل التلف نماء، فهو عند غير
الشيخ للمشتري، لأنه نماء ملكه بعد أن كان الأصل منتقلا إليه بالعقد
والانفساخ إنما هو من حين التلف، وقاعدة تبعية النماء للأصل في الملك
تقضي بذلك، بل أرسل أكثر من تعرض للفرع هنا ذلك إرسال المسلمات
إلا أن الشيخ في (المبسوط) حكم بأن نماء المبيع المردود بخيار العيب
قبل القبض للبائع، مستدلا عليه بحديث (الخراج بالضمان) مفسرا للخراج
بالفائدة، والضمان بمن يكون المال يتلف من ملكه، والأصل قبل القبض
في ضمان البائع، فالخراج له (2)
وكلامه - وإن اختص بالذكر بالمبيع المردود بالخيار - إلا أن التعليل
بالخبر يعم المقام.
قلت: المراد بالضمان في الحديث ضمان تكفل، لا ضمان غرامة، فالمبيع
يدخل في ضمان المشتري بالعقد بالمعنى الأول، وهو إلى القبض في ضمان
البائع بالمعنى الثاني. ولا منافاة بين الضمانين.
وتنقيح المسألة: هو أن الملكية ربط بين المالك والمملوك ربط إضافة
ونسبة، فكل منهما مربوط بالآخر، غير أن أثر الربط في المالك سلطنته
على المملوك، فله أنحاء التصرف فيه، وهو غنمه منه وفي المملوك: دخوله
في عهدة المالك، فعليه غرمه من حيث حفظه وإصلاحه، بحيث لو كان
177

حيوانا لكان عليه نفقته، لأن (من له الغنم فعليه الغرم).
ويشهد لما ذكرنا - من تفسير ضمان المال بتكفله من كلام أهل اللغة -
ما قاله محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري الإفريقي في كتابه المسمى به
(لسان العرب): (الضمين الكفيل، ضمن الشئ:، وبه ضمنا وضمانا
كفل به، وضمنه إياه كفله) إلى أن قال في كلام لأبي عبيد في تفسير
حديث (الضامنة من النخل) -: (ما تضمنتها أمصارهم، وكان داخلا
في العمارة، وأطاف به سور المدينة، قال أبو منصور: سميت ضامنة، لأن
أربابها قد ضمنوا عمارتها وحفظها، فهي ذات ضمان كما قال الله
عز وجل (في عيشة راضية) أي: ذات رضى، والضامنة: فاعلة
بمعنى: مفعولة وفي الحديث: (الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن) أراد
بالضمان - هنا -: الحفظ والرعاية، لا ضمان الغرامة لأنه يحفظ على القوم
صلاتهم..) انتهى (1)
فإذا كان ضمان المبيع بهذا المعنى على المشتري، كان خراجه له
لأن الخراج بالضمان، فيكون الخبر موافقا لقاعدة تبعية النماء للأصل في
الملك، بل هو من أدلتها، ولا ينافي ما ذكرنا خروجه عن ملك المشتري
بالانفساخ عند التلف وكونه من البائع تقديرا فافهم (2).
178

الأمر السادس - صرحوا بأن النماء المتجدد قبل التلف بيد البائع
أمانة لم يضمنه بغير تعد وتفريط، وهو كذلك، لأن الضمان باليد ما كان
مسبوقا بملك الغير، لا ما كان سابقا على حدوثه، كما هو صريح جعل
الأخذ صلة للموصول في حديث (على اليد) فاليد عند حدوث الملكية
179

يد أمانة لا يخرج منها إلى الضمان إلا بتعد ونحوه.
ومنه يعلم: أن الضمان - هنا - من ضمان المعاوضة لا من ضمان اليد.
توضيح ذلك: أن المبيع مع قطع النظر عن كونه مضمونا باقتضاء
العقد على المختار، أو بحديث (كل مبيع تلف..) الخ على القول الآخر
فمقتضى القاعدة أن يكون أمانة عند حدوث الملكية لخروجه عن مصب
حديث (على اليد) لما عرفت. ولا يخرج عنها إلا بتبدل عنوان اليد
بأحد أسباب الضمان، ولا دليل سواه يقضى بكون الأصل في اليد: الضمان
مطلقا - غير أن ضمانه بالمسمى ثابت: أما باقتضاء العقد، أو بحديث
(كل مبيع..) وأما نماؤه، فلما لم يكن من البيع، لم يتعلق به
ما يوجب الضمان من اقتضاء العقد، أو الحديث، والمفروض عدم شمول
دليل اليد له، حتى يكون مضمونا عليه باليد بعد فرض تبعيته للأصل فيما
تقتضيه القاعدة الأولية، لا جرم كان بيد البائع أمانة لم يضمنه بغير تعد
وتفريط.
الأمر السابع - يلحق بالتلف الظاهر في الهلكة، ما كان بحكمه مما
يوجب تعذر التسليم كالسرقة والضياع والغصب المتعذر استخلاصه من
الغاصب على المختار، لوجود المناط الموجب لحل العقد وانفساخه من عدم تمامية
مقتضاه. وفي لحوقه به على القول بمخالفته الأصل - للنص على السرقة
في خبر عقبة بن خالد، المحمولة فيه على المثال أو عدمه، لضعف الخبر
وعدم معلومية الجابر له في هذا الخصوص، أو يفصل بين السرقة، كما
في الخبر ونحوها - مما لا يمكن الرجوع على من فعله، لمجهوليته - وبين
الغصب مما كان معلوما يمكن الرجوع به بالغرامة، فيلحق الأول بالتلف
في حكمه المخالف للقاعدة ويرجع في الثاني إلى ما تقتضيه القواعد - وجوه
180

أظهرها التفصيل لما عرفت (1).
الأمر الثامن - قد عرفت أن سبب انفساخ العقد وحله إنما هو
التلف قبل القبض، فلو شك بعد تحقق التلف في كونه من التلف الموجب
للانفساخ وعدمه، ولو للشك في كونه من التلف قبل القبض أو بعده
فربما يتوهم فيه الحكم بلزوم العقد للشك في عروض الفاسخ له أو فاسخية
العارض، إلا أنه توهم فاسد، لأن الشك فيه مسبب عن حصول القبض
وعدمه، لعدم تعقل القبض بعد التلف، وإصالة عدم تحقق القبض محكمة
على أصالة لزوم العقد واستصحاب بقائه، ولا يتوهم أن أصالة عدم القبض
لا تثبت عنوان كون التلف قبل القبض، والسبب إنما هو التلف المعنون
بعنوان القبلية على القبض لا بعدم القبض بعده لأن القبلية بالنسبة إلى بعدية
الغير له غير معقول هنا، لأن القبض بعد التلف من قبض المعدوم، وهو
محال، فلا جرم كان معنى تلفه قبل القبض تلفه بلا قبض (2)
181

الأمر التاسع - استثنى بعض الأصحاب كالمفيد في (المقنعة) على
ما حكي عنه، والسيد في (الإنتصار) وسلار في (المراسم) (1) من الكلية
المتقدمة: ما لو تلف المبيع قبل القبض في الثلاثة التي يثبت فيها خيار التأخير
فذهبوا إلى كونه في ضمان المشتري وبعد الثلاثة من ضمان البائع، لأنه
ملكه بالعقد، وكان التأخير لمصلحته، بل في (الإنتصار) وعن الغنية
دعوى الاجماع عليه (2).
182

ونسب إلى (الوسيلة) (1) وأبي الصلاح الحلبي: التفصيل بين ما لو عرض
البائع المبيع، فلم يتسلم المشتري، فهو من ضمانه، وعدمه، فمن ضمان
البائع.
قلت: ليس التفصيل بين عرض البائع المبيع وتمكينه من التسليم
للمشتري، وعدمه، قولا في أصل المسألة، بل لعله من التلف بعد القبض
بناء منهم على تحقيق القبض بذلك، موضوعا أو حكما، لا استثناء من
الحكم بالتلف قبل القبض.
وأما التفصيل بين الثلاثة وبعدها.
فإن استند أهل هذا القول إلى إجماعي (الإنتصار) و (الغنية)
فمع موهونيتهما باعراض الأكثر عنهما، معارض بالاجماع المحكي عن (الخلاف)
المعتضد باطلاق النبوي وفتوى المعظم.
وإن استندوا إلى التعليل المتقدم، ففيه مع أن عليل في نفسه أنه غير
مختص بالثلاثة، بل يأتي فيما بعدها - أيضا -.
وإن استندوا إلى قاعدة التلف في مدة الخيار المضمون على من لا خيار
له، والخيار هنا للبائع، ففيه، مع أنها مخصوصة بما إذا كان التلف بعد
القبض، كما يأتي (2) وموقوفة على تقديمها - لو سلم شمولها لما قبله - على
قاعدة التلف قبل القبض، إذ النسبة بينهما - حينئذ - العموم وجه:
- أنه لا فرق - حينئذ - بين الثلاثة وبعدها في كونه في ضمان المشتري.
183

بل لعل بعد الثلاثة أولى به منه فيها لأنه لا خيار في الثلاثة، وإنما يحدث بالتأخير
بعدها.
الأمر العاشر - لا يسقط هذا الضمان عن البائع باسقاط المشتري
أو إبرائه، لأن الانفساخ بالتلف حكم امضائي من الشارع لما تقرر عليه
المتعاملان بعقد المعاوضة، فهو من أحكامها، وليس من الحقوق حتى
يمكن فيه دعوى السقوط بالاسقاط.
ولو سلم كونه حقا، لأنه متعهد به وفي عهدته كغيره من الأعيان
المضمونة على من هي في يده لدخولها في العهدة. غير أن السلطنة هنا
بالتلف على الرجوع بالمسمى، وفي غيره على الرجوع بالمثل أو القيمة
ففيه - مع أن الرجوع هنا بالمسمى إنما هو لرفع البدلية عنه بالتلف، لا
لأخذه بدلا وعوضا عن التالف ليكون حقا -: أنه ليس من الحقوق التي
تسقط بالاسقاط لو فرض أنه حق بعد أن كان الانفساخ - قهريا - لما هو
محقق في محله من أن الحق إذا كان الموجب له علة تامة لا يسقط بالاسقاط
ولا ينتقل بالنواقل لعدم جواز تخلف المعلول عن علته التامة.
هذا، ولو اشترط في العقد البراءة عنه، احتمل - قويا - حصولها
لرجوع الاشتراط فيه إلى كون مفاد العقد المشروط بها صرف التمليك
والتسليط الاقتضائي، بمعنى الاستحقاق، دون التسليط الفعلي الذي هو
مفاد العقد المطلق، ضرورة أن العقد المشروطة فيه البراءة عنه من الجانبين
أو من أحدهما بالنسبة إلى ضمان العوضين أو أحدهما مفاده مغاير للعقد المطلق
لأن مفاد الأول هو مجرد التمليك بإزاء التمليك بحسب الاقتضاء واستحقاق
التملك منهما أو من أحدهما بحسب الشرط، ومفاد الثاني هو التسليط الفعلي
بإزاء التسليط الفعلي، فإن الاقتضائية والفعلية إذا اجتمعتا اتحدتا في الوجود
فلا يكون الشرط في الأول منافيا لمقتضى ذات العقد. وهذا لا ينافي ما ذكرنا
184

من كون التسليم من تمام مقتضى العقد، فإنه من مفاد العقد المطلق لا مطلق
العقد. وبذلك ظهر الفرق بين الاشتراط في العقد والاسقاط بعده الذي
لا أثر له بعد العقد اللازم العمل بتمام مقتضاه.
الحادي عشر -: ربما يستثنى من هذه الكلية صور:
منها - ما لو أسلم عبد الكافر، فإنه يجبر على بيعه من مسلم، فلو تلف
أو أبق أو سرق بعد بيعه وقبل القبض، احتمل عدم الانفساخ هنا، سيما
بناء على سبقه على التلف لاستلزامه الدخول في ملك الكافر، ولو آنا ما
وهو ممنوع كالدخول في ملكه ابتداء لعدم الفرق بين التمليك الابتدائي
والعود إلى الملك بعد وجود علة المنع من نفي السبيل وغيره. ويحتمل
- أيضا - استثناؤها من كلية منع تملك الكافر للمسلم، بناء على اختصاصه
بالتمليك الابتدائي، لأن بين الكليتين عموما من وجه، فلا بد من الترجيح
ولعل الأظهر ترجيح عموم كلية التلف قبل القبض، لأن العود إلى الملك
من توابع ملكه قبل الاجبار، إن لم نقل بانصراف الملك الممنوع إلى
الملك المستقر، لمنع السبيل في هذا النحو من الملك.
ومنها - ما لو باع العبد ممن يعتق عليه - قهرا - فتلف قبل التسليم
فإن الانفساخ والرجوع إلى ملك البائع متعذر هنا، لانعتاقه بمجرد العقد
ولا يعود الحر ملكا بل لعل القبض غير معتبر فيه، لعدم اليد على الحر
بل قبضه انعتاقه، سيما بناء على أن مفاد البيع هنا - هو الانعتاق دون
التمليك، ليتوقف على تقدم التملك عليه: إما بالطبع أو بالزمان، ولو
آنا ما.
ومنها - ما لو باع العبد الآبق مع الضميمة، فتلف الآبق دون
الضميمة قبل الياس، لم ينفسخ البيع، لكون الثمن بإزاء الضميمة مع
عدم الوجدان، للنص، وفي كون التالف من ضمان المشتري أو البائع تردد
185

ينشأ من كونه من المبيع التالف قبل قبضه، ومن أن ضمان البائع إنما
هو حيث يتحقق الانفساخ ولا موجب له مع بقاء الضميمة، وكون الثمن
- حينئذ - بإزائها.
وأما لو تلفت الضميمة قبل القبض، فإن كان بعد وجدان الآبق
وقبضه، فالأظهر - بل الظاهر - الرجوع بما قابله الضميمة لا مجموع الثمن
لأن الآبق لا يوزع عليه الثمن ما دام آبقا، للنص، لا بعد حصوله في اليد
لأنه جزء من المبيع المبذول بإزاء مجموعة الثمن الموجب للتقسيط حينئذ.
وإن كان تلفها قبله وفي حال فقدانه، ففي انفساخ العقد في الآبق
تبعا للانفساخ في الضميمة، أو بقائه بما قابله من الثمن وجهان: من أن
العقد على الآبق إنما صح بالعقد على الضميمة، وبعد فرض كون العقد
عليها كأن لم يكن بالتلف قبل القبض، انتفت الصحة بالنسبة إلى الآبق
لانتفاء المعلول بانتفاء علته، ومن أن الضميمة علة التصحيح وحدوث
الصحة، لا دوامها.
وتظهر الثمرة في حصوله باليد بعد تلف الضميمة فيرجع بما قابله
من الثمن على الثاني، ولا يرجع به على الأول.
ومنها - ما لو اشترى جارية، فأولدها، ولما يحصل القبض بالوطء
فتلفت الجارية، أو أبقت قبل القبض بالفرض، ففي لزوم العقد - حينئذ -
أو انفساخه وجهان: من أن أم الولد لا تنتقل إلى غير مالكها إلا في بعض
الصور الذي ليس المقام منه، ومن أن الانفساخ قهري بحكم عموم هذه
الكلية، والمنع عن بيع أمهات الأولاد مخصوص بالنواقل الاختيارية، ولا
يتوهم من جواز فسخ البائع بالخيار إذا كان له خيار لسبق حقه على حق
المشتري من المنع بالاستيلاء على التلف الذي هو سبب الانفساخ، فيكون
من ضمان المشتري ومستثنى من هذه الكلية، لأن الانفساخ بالتلف تابع
186

لعقد المعاوضة السابقة على الاستيلاء، لوقوعه بين العقد والتلف، فالعمل
بما يقتضيه عقد المعاوضة، لأنه أسبق السببين.
ومنها - ما لو حصل في العبد المبتاع قبل القبض أحد أسباب الانعتاق
من الجذام والعمى ونحوهما (1) فربما يتوهم كونه من ضمان المشتري، قياسا
على الانعتاق عليه في شراء أحد عموديه لاتحادهما في الانعتاق القهري، وإن
اختلفا في السبب، إلا أنه توهم فاسد، لأن الانعتاق - هنا - بعروض
المرض بحكم التلف السماوي لعدم الفرق في التلف قبل القبض بين تلف
الملك أو الملكية بعد فرض حصول الانعتاق قهرا بحدوث السبب، كما هو
مفاد الأخبار المستفيضة وعليه الفتوى.
نعم، لو قلنا بكونها أسبابا لوجوب العتق على صاحبه كما هو ظاهر
خبر الجعفي عن أبي جعفر - عليه السلام - حيث قال: (إذا عمى المملوك
أعتقه صاحبه ولم يكن له أن يمسكه..) الخبر (2) ولم يقل: انعتق على
صاحبه - لم ينفسخ العقد لكونه مملوكا - بعد - بالفرض، فإذا قبضه
دخل في ضمان المشتري، وإن وجب عليه عتقه.
ومنها - ما لو جنى المملوك قبل القبض بما يوجب استرقاقه حيث
لا يكون الخيار للمالك، فالأقوى كونه من ضمان البائع لتعذر التسليم عليه
قبل القبض.
ومثله ما لو جنى على نفسه بقتل، فإنه من التلف قبل القبض وإن
كان باتلاف منه. ولا كذلك لو ارتد عن فطرة، وإن وجب قتله لبقائه
187

على الملك، فإن قتل قبل القبض كان من التلف قبله، وإن قبضه دخل
في ضمان المشتري، وإن وجب قتله.
ودعوى كونه بحكم الميت بعد وجوب قتله، ولذا تبين زوجته
وتعتد عدة الوفاة وتقسم أمواله في ورثته فهو كالميت قبل القبض.
فاسدة، لأنه بحكمه في الأحكام المخصوصة تعبدا، لا في مطلق
الأحكام.
الثاني عشر - لو ضمن الأجنبي للمشتري درك الثمن لو رجع إليه
بتلف المبيع قبل قبضه، لم يصح الضمان إن كان قبل تلف المبيع مطلقا
قبل قبض البائع الثمن أو بعده، قبل تلفه عنده أو بعده - تلف المبيع أو لم
يتلف - حيث كان الضمان قبل تلفه، لأنه من ضمان ما لم يجب في جميع
صوره.
وإن وقع الضمان بعد تلف المبيع عند البائع وكان الثمن مقبوضا له
صح مطلقا - ولو كان الثمن موجودا حين الضمان. أما مع تلفه فواضح
لكونه من ضمان المال - حينئذ - الذي لا إشكال في صحته، وأما مع وجوده
فهو من ضمان العين ودرك الثمن الذي لا إشكال في صحته - أيضا - وإن
وقع الكلام في كونه على القاعدة أو على خلافها، وإنما ثبوته بالاجماع
ومسيس الحاجة إليه، وقد تقدم منا تحقيقه في بيع الفضولي.
وملخصه: عدم المنافاة بين صحة الضمان الذي معناه - عندنا - تحويل ما في
ذمة إلى ذمة أخرى وكون المضمون عينا بعد فرض دخولها في العهدة لعدم
الدليل على اختصاص كون المضمون مالا، والعهدة قابلة للنقل والتحويل
فراجع (1)
188

الثالث عشر - لو وكل غيره على البيع وإقباض المبيع وفرط
الوكيل في الاقباض، فتلف المبيع قبل قبضه، انفسخ العقد، ورجع
الموكل على وكيله بسبب التفريط بالمسمى، لأنه فوته عليه بعد أن ملكه
ويحتمل - قويا - الرجوع عليه بالمثل أو القيمة، لأن ضمان الوكيل
- حينئذ - من ضمان اليد لا من ضمان المعاوضة، ويحتمل - فيما لو زاد
المسمى على القيمة - تغريم الزائد عليها - أيضا - بالتفويت والاضرار، ولا
يتوهم أن الضمان بالتفريط حين تعلقه بالوكيل كان للمشتري لكون المبيع
ملكه قبل التلف، فكان حق الرجوع بالمثل أو القيمة للمشتري دون البائع
لأن ضمان الوكيل إنما هو للمالك من حيث هو مالك، وبالتلف يخرج
المشتري عن كونه مالكا ويكون من مال البائع الموكل، فيكون الضمان له
ويجري مثل ذلك في بيع الولي - من الحاكم وغيره - مال المولى عليه لو فرط
في إقباضه حرفا بحرف.
الرابع عشر - لو كان المبيع مقبوضا للمشتري قبل البيع لم يفتقر
- حينئذ - إلى قبض جديد ولا إلى مضي زمان يسعه فيه من غير فرق
بين كون القبض مأذونا فيه كالوديعة والعارية ونحوهما، أو منهيا عنه
كالغصب، لظهور بيعه في الرضا بقبضه، فينتقل الضمان إلى المشتري
فيكون التلف منه، لأنه من تلف المبيع بعد قبضه بالفرض.
نعم، لو علم عدم الرضا به حيث كان له الامتناع عن التسليم إلى
أن يتسلم الثمن، أو كان مما يعتبر القبض فيه في أصل النقل أو لزومه
لم يكن القبض - حينئذ - معتبرا موجبا لنقل الضمان إلى المشتري، فيكون
التلف عنده من التلف قبل القبض الموجب لانفساخ العقد.
لكن قد يشكل ذلك فيما لو كان اليد عليه قبل البيع يد ضمان
كالغصب ونحوه، لخروجها عن الضمان بالانتقال إليه لتبدل عنوانها إلى يد
189

مالكية، ولا دليل على عود الضمان في المقام بعد تلف المبيع لعدم الموجب
له من اليد على مال الغير.
إلا أنه يضعف بعدم خروجه بالبيع عن مطلق الضمان. بل هو من
تبدل الضمان بضمان آخر، فإن المبيع قبل البيع كان مضمونا عليه بضمان
اليد بالمثل أو القيمة، وبعده قبل التلف كان مضمونا بالمسمى، فإذا
انفسخ العقد الموجب لتبدل الضمان عاد الضمان الأول فيرجع المشتري بالثمن
لو كان مقبوضا للبائع، ويغرم له المثل أو القيمة.
الخامس عشر - لو اتحد المقبض والقابض، واختلفا بالاعتبار
والحيثية، كما لو باع الولي ماله من الطفل، أو ابتاع منه لنفسه، لم يفتقر
إلى قبض منوي به عن الطفل في الأول، ولنفسه في الثاني، بعد أن كان
المبيع مقبوضا له في الصورتين، فيكون التلف بعد العقد من المشتري المولى
عليه في الأول، والولي في الثاني، لكونه بالفرض من التلف بعد القبض.
ويحتمل اعتبار القصد في القبض عن المشتري - وليا كان أو مولى عليه -
ليمتاز عن القبض الأول، بعد أن كان المبيع في يد الولي وقبضه في
الصورتين قبضا واحدا مستمرا، فلا يتشخص إلا بالقصد.
واختلف الأصحاب في هبة الولي للصغير: في لزوم قصد القبض عنه
وعدمه، فالمشهور على العدم، لما روي في الصحيح: (عن الصادق
- عليه السلام - في رجل تصدق على ولد له قد أدركوا؟ فقال: إذا لم
يقبضوا حتى يموت فهو ميراث فإن تصدق على من لم يدركوا من ولده
فهو جائز، لأن الوالد هو الذي يلي أمره) (1) وموثقة داود بن الحصين
(الهبة والنحلة ما لم يقبض حتى يموت صاحبها؟ قال: هو ميراث، فإن:
190

كان لصبي في حجره فأشهد عليه فهي جائزة..) (1) ورواية جميل:
(عن رجل وهب لابنه شيئا، هل يصلح أن يرجع فيه؟ قال: نعم
إلا أن يكون صغيرا) (2)
والجواز في الأولين بمعنى النفوذ بقرينة المقابلة للإرث، وعدم تقييده
بالقبض مع تقييد ما قبله به لتحققه فيه بقبض الولي، لا لعدم اعتبار القبض
في هبة الصغير واعتباره في الكبير، لأن القبض معتبر في صحة الهبة أو لزومها
مطلقا، ولو كان المتهب صغيرا، غير أن قبض الصغير يتحقق بقبض
وليه واطلاق الرجوع في هبة الكبير في الأخير محمول على الرجوع قبل
القبض، واستثناء الصغير أنما هو لتحققه بقبض وليه الواهب.
وإطلاق هذه الأخبار يعم ما لو قصد القبض عن المولى عليه وعدمه
ولو كان القصد معتبرا وجب التقييد به، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت
الحاجة والعلة المنصوصة في الأولى موجبة للحكم به في غير الهبة من سائر
عقود المعاوضات.
فإذا الأقوى عدم اعتبار القصد في القبض، بل يدل عليه - مضافا
إلى ذلك -: أن اليد فيما لو باع الولي على المبيع مالكية وبالبيع إلى المولى
عليه، فتنتقل اليد عن كونها مالكية إلى كونها أمانة جزما. ومعناها:
ليس إلا كون يده عليه بدلا عن يد مالكه، وبالعكس فيما لو ابتاع من
المولى عليه لنفسه فإن اليد تبدلت من الأمانة عن الغير إلى المالكية، بل
الأظهر تحقق القبض - قهرا - وإن قصد عدمه بعد تبدل العنوان، لأنه
لم تنفك المالكية عن كون القبض لنفسه، والأمانة عن كونه عن غيره.
191

السادس عشر - إذا تلف بعض المبيع وكان التالف مما يقسط عليه
من الثمن، انفسخ العقد بالنسبة إليه بخصوصه مما يقابله من الثمن، لكونه
من تلف المبيع قبل قبضه، بعد فرض انحلال البيع إلى بيوع متعددة
ويتخير المشتري في رد الموجود منه، والرجوع بجملة الثمن، للتبعض
وقبوله بما يقابله منه.
نعم، قد يشكل الحكم بالانفساخ - هنا - وكون التالف بخصوصه
من مال البائع من أن ظاهرهم الاتفاق عليه، على القول بمخالفة الحكم به
للقاعدة، لوجوب الاقتصار فيه على المتيقن خروجه منها، وهو تلف جميع
المبيع، ولو بدعوى الانصراف إليه، دون بعضه، والرجوع في تلف
البعض مع القبول وعدم الرد إلى ما تقتضيه القاعدة من ضمانه بالمثل أو القيمة
ولعله من الشواهد - أيضا - على كونه موافقا للقاعدة، وإن كان مما
لا يقسط عليه شئ من الثمن - جزء كان التالف أو وصفا - كقطع يد
أتعبد قبل القبض ونسيانه الكتابة كذلك المشروط اتصافه بها، فلا خلاف
في أن للمشتري الرد. وفي جواز أخذ الأرش بحيث يجبر البائع عليه فيكون
المشتري مخيرا بين الرد والأرش قولان: فعن الشيخ في (المبسوط والخلاف)
العدم، بل عن (الخلاف): دعوى عدم الخلاف فيه، وهو المحكي
عن ابن إدريس، والمحقق في (النافع) و (كاشف الرموز) في شرحه (1)
وعن غير واحد - ومنهم الشيخ في محكي (النهاية) وعن ابن البراج
وأبي الصلاح: الجواز، وهو المحكي عن الشهيدين، وثاني المحققين، بل
عن (المسالك): إنه المشهور، واستدل عليه في (المختلف) وغيره بأن
المبيع لو تلف أجمع، لكان من ضمان البائع، فكذا أبعاضه وصفاته
قلت: قد يشكل قياس تلف أبعاض المبيع - مطلقا - وصفاته بتلف
جمعه في كونه من ضمان البائع الذي قد عرفت أن معناه انفساخ
192

العقد بالتلف والرجوع بالمسمى، لأن الضمان بهذا المعنى إنما يتحقق بتلف
الجميع أو بعضه مما يقابل بشئ من الثمن، لامكان تحقق الرجوع
- حينئذ - بكل الثمن أو بعضه بالانفساخ في كل المبيع بالتلف أو بعضه
وحيث كان التالف جزء لا يقسط عليه من الثمن أو وصفا، وهو كذلك
كيف يمكن فرض الضمان فيه بهذا المعنى؟ إذ لا رجوع فيهما بشئ من
المسمى، وليس الأرش من المسمى، حتى يمكن في مورده فرض الانفساخ
والرجوع بشئ منه.
إلا أن شيخنا المرتضى - رحمه الله - ذكر وجها لتعقل انفساخ العقد
وتخيير المشتري بين الرد والأرش فيما لو حدث عيب في المبيع قبل القبض
بما يرجع ملخصه - بتوضيح منا - إلى أن الضمان في تلف المبيع وأبعاضه
وأوصافه بمعنى واحد، وهو فرض العقد بالنسبة إلى التالف كأن لم يكن
غير أنه يختلف حكمه باختلاف التالف، فإن كان الكل كان الرجوع بتمام
المسمى، وإن كان بعضا يقسط عليه من الثمن كأحد العبدين فرض كأن لم يعقد
على التالف وعقد على الموجود منهما، فيرجع بما يقابل التالف من المسمى، ويتخير
للتبعض بين الرد وقبول الموجود بما يقابله منه، وإن كان التالف بعضا لا يقسط
عليه من الثمن أو وصفا مشروطا اتصافه به أو يوجب فواته عيبا فيه كان
ضمانه بمعنى فرض العقد بالنسبة إليه بخصوصه كأن لم يكن، ومرجعه إلي
تقدير كون العيب في ملك البائع ووقوع العقد على المعيب، فيجري حكمه
من التخيير بين الرد والأرش فيه (1)
وهو تخريج حسن، لجواز أخذ الأرش من البائع بضمانه لما تلف
من أوصاف المبيع قبل القبض، لكن يشكل ذلك كما اعترف به، بناء
193

على كون الحكم به على خلاف القاعدة لوجوب الاقتصار فيما يخالفها على
المتيقن خروجه منها، وهو تلف جميع المبيع، أو يعمه وما بحكمه من تلف
بعض يقسط عليه من الثمن دون مطلق أبعاضه وأوصافه.
السابع عشر: يجري في تلف الثمن المعين وأبعاضه وأوصافه قبل
القبض ما تقدم في تلف المبيع قبله، حرفا بحرف وأنه في ضمان المشتري
قبل القبض، كما أن المبيع في ضمان البائع إلى حصول القبض، لتساويهما
في اقتضاء عقد المعاوضة لضمانهما.
نعم، يشكل تعدي الحكم من المبيع إلى الثمن، بناء على كونه
مخالفا للقاعدة، إلا بدعوى إطلاق المبيع على الثمن أيضا، كما يقال:
(البيعان بالخيار ما لم يفترقا) (1)
ويظهر من بعض دعوى الاتفاق على تعدي الحكم إلى الثمن وهو
من الشواهد - أيضا - على كون الضمان من مقتضيات عقد المعاوضة (2).
194

الثامن عشر: - لو باع ثوبا بعبد - مثلا، وقبض الثمن - وهو
العبد - فباعه من غيره، ثم تلف المبيع - وهو الثوب - قبل قبضه، فإن
كان البيع سابقا على التلف نفذ البيع لوقوعه في ملكه، ويغرم قيمة
العبد للمشتري لانفساخ العقد بتلف المبيع قبل قبضه، وإن كان مسبوقا به لم
ينفذ بيع العبد لرجوعه إلى المالك الأول بانفساخه من حين التلف ووقوع
البيع - حينئذ - منه على ملك الغير، والحكم في الصورتين واضح، ومع
الشك في السبق واللحوق، فأصالة تأخر كل منهما معارضة بمثلها في الآخر
فيشكل نفوذ البيع في العبد بل يشكل - أيضا - لو أثبتنا التقارن بأصالة
عدم تقدم كل منهما على الآخر، وإن قلنا بكونه أمرا عدميا، فضلا عن
كونه أمرا وجوديا.
اللهم إلا أن يقال: إن الشك في بقاء الملك للعبد حين بيعه وعدمه
مسبب عن سبقه على التلف، ومع تعارض الأصلين في السبب يرجع إلي
ما يقتضيه الأصل في المسبب، وهو بقاء الملك إلى حين البيع الحاكم على
أصالة عدم النقل، لأن الشك فيه مسبب عن الملك وعدمه.
التاسع عشر - قد عرفت الكلام في ما إذا كان الثمن معينا شخصيا
وأما إذا كان كليا، سواء كان كليا خارجيا أو في الذمة - ودفع إلى
البائع ما زاد على الثمن ليتخير منه، فالكلام فيه هو الكلام في المبيع الكلي
بقسميه - حسبما تقدم -.
العشرون - قد عرفت موافقة الحكم بالضمان قبل القبض بالمسمى
للقاعدة الموجبة للتعدي من البيع إلى سائر عقود المعاوضات ولعل ذلك
من المسلم عندهم - كما يظهر من بعضهم -:
قال شيخنا المرتضى في (المكاسب) (.. ثم إنه هل يلحق العوضان
في غير المبيع من المعاوضات به في هذا الحكم؟ لم أجد أحدا صرح
195

بذلك نفيا أو إثباتا، نعم ذكروا في الإجارة والصداق وعوض الخلع
ضمانها لو تلف قبل القبض، لكن ثبوت الحكم عموما مسكوت عنه في
كلماتهم، إلا أنه يظهر من بعض مواضع (التذكرة) عموم الحكم لجميع
المعاوضات على وجه يظهر كونه من المسلمات، قال - في مسألة البيع قبل
القبض وجواز بيع ما انتقل بغير البيع -: (والمال المضمون في
يد الغير بالقيمة كالعارية المضمونة، أو بالتفريط، ويسمى ضمان اليد
يجوز بيعه قبل قبضه لتمام الملك - إلى أن قال -: أما ما هو مضمون في يد
الغير بعوض في عقد معاوضة، فالوجه جواز بيعه قبل قبضه كمال الصلح
والأجرة المعينة، وقال الشافعي: لا يصح لتوهم الانفساخ بتلفه كالبيع
وظاهر هذا الكلام كونه مسلما بين الخاصة والعامة) (1) إنتهى.
فمن الغريب - مع ذلك - ما وقع منه ومن غيره من البناء على كون
الحكم مخالفا للقاعدة الذي مقتضاه الاقتصار فيما خالفها على المتيقن من مورد
الدليل من المبيع دون الثمن، فضلا عن غير البيع من سائر عقود المعاوضات
فافهم واغتنم.
تذييل
يشترط في خروج البائع عن ضمان المبيع بالقبض: أن لا يكون للمشتري
خيار يختص به، فإن كان له خيار كذلك - وتلف المبيع في يده - كان
من ضمان البائع - أيضا - وإن كان بعد قبضه حسبما كان ضامنا له قبل
القبض، لأن تلف المبيع في مدة الخيار من ضمان من لا خيار له - إجماعا
بقسمية في الجملة - وهي قاعدة مسلمة عند الأصحاب، وإن وقع من بعض
196

التأمل في كليتها بحيث تعم الثمن والمثمن وأنواع الخيارات، بايعا كان
ذو الخيار أو المشتري.
والأصل فيه - قبل الاجماع -: صحيحة ابن سنان: (عن الرجل
يشتري الدابة أو العبد ويشترط إلى يوم أو يومين، فيموت العبد أو الدابة
أو يحدث فيه حدث، على من ضمان ذلك؟ فقال: على البائع حتى ينقضي
الشرط ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري) (1) شرط له أم لم
يشترط - وإن كان بينهما شرط أياما معدودة فهلك في يد المشتري فهو من
مال البائع) (2)
ورواية عبد الرحمان ابن أبي عبد الله: قال: (سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن الرجل: اشترى أمة بشرط من رجل يوما أو يومين
فماتت عنده، وقد قطع الثمن: على من يكون ضمان ذلك؟ قال: ليس
على الذي اشترى ضمان حتى يمضي بشرطه) (3)
ومرسلة ابن رباط: (إن حدث في الحيوان حدث قبل ثلاثة أيام
فهو من مال البائع) (4)
والنبوي المروي في (قرب الإسناد) في العبد المشترى بشرط فيموت
197

قال: (يستحلف بالله مارضيه، ثم هو برئ من الضمان) (1)
إذا عرفت ذلك، فاعلم أن الكلام هنا يقع في أمور:
الأول: إن المصرح به في كلام كثير من الأصحاب هو أن تلف
المبيع في زمن الخيار من ضمان من لا خيار له، وقد أرسلوها إرسال القاعدة
وهي - باطلاقها - تعارض القاعدة المتقدمة، وهي تلف المبيع قبل قبضه
تعارض العامين من وجه، لأنها تعم ما قبل القبض وبعده: غيره أنها مختصة
بوجود الخيار، وتلك القاعدة، وإن اختصت بما قبل القبض، إلا أنها
عامة بالنسبة إلى صورتي وجود الخيار، وعدمه، وحينئذ فتتعارض
القاعدتان في صورتي تلف المبيع قبل قبضه والخيار للبائع فقط، وتلفه
بعد قبضه والخيار للمشتري كذلك، وتتوافقان في الصورتين - أيضا - في
الأولى، مع كون الخيار للمشتري - فقط - وفي الثانية مع كون الخيار
للبائع كذلك.
هذا ولكن الانصاف عدم استفادة نحو هذه الكلية من الأخبار حتى
يقع تعارض بين القاعدتين المذكورتين وإن وقع التعبير بنحو هذه الكلية
في كلام الأصحاب، بل المستفاد منها اختصاصها بما بعد القبض، بقوله
- عليه السلام - في ذيل الصحيحة المتقدمة: (وإن كان بينهما شرط أياما
معدودة فهلك في يد المشتري) وقوله - عليه السلام - (فماتت عنده)
في رواية عبد الرحمان، المقيد بهما، ولو بمعونة فهم الأصحاب إطلاق
198

الخبرين الأخيرين، فلا تكون النسبة بين القاعدتين عموما من وجه حتى يرجع
في تخصيص إحديهما دون الآخر إلى المرجح.
الثاني - هو أن الأخبار المتقدمة، وإن اختصت بظاهرها - بمعونة
ذكر الزمان فيها - ببعض الخيارات كخيار الحيوان وخيار الشرط، أو هما وخيار
المجلس، إن اختص بالمشتري ولو باسقاط البائع خياره، بناء على إطلاق
الشرط عليه في الأخبار، فلا تشمل القاعدة غيرها من أنواع الخيارات
كخيار الغبن وخيار العيب، ونحوهما مما يكون فيه على الفورية من غير
اعتبار للمدة فيه.
إلا أن الأقوى تعميمها لمطلق الخيار (1) بناء على أن المناط في عدم
ضمان ذي الخيار له، وإن تلف في يده، هو تزلزل العقد بالنسبة إليه
199

وعدم استقراره عليه وضمانه على من لا خيار له لأنه قد استقر العقد عليه
كما صرح به في (السرائر) حيث قال: (وكل من كان له الخيار
فالمتاع يهلك من مال من ليس له خيار، لأنه قد استقر العقد عليه ولزم
والذي له الخيار ما استقر عليه العقد ولا لزمه، فإن كان الخيار للبائع دون
المشتري وكان المتاع قد قبضه المشتري وهلك في يده، كان هلاكه من
مال المشتري دون مال البائع، لأن العقد استقر عليه ولزم من جهته..) (1)
انتهى.
وهو مناط مستفاد مما هو بحكم التعليل في قوله (حتى ينقضي الشرط
202

ثلاثة أيام ويصير المبيع للمشتري) بعد حمل صيرورته للمشتري على الملك
المستقر كما فهمه المشهور، دون أصل الملك، كما عليه الشيخ، ومانعية
التزلزل عن ضمان المقبوض لم تنفك عن مطلق الخيار.
وبهذا التعميم وغيره - كما ستعرف - صرح بعض الأصحاب:
قال في (الدروس): (.. ولو تلف بعد قبض المشتري فهو من ماله
إلا أن يختص بالخيار، فيكون من البائع..) انتهى (1) من غير تقييد
للخيار في كلامه بما يخصصه ببعضه.
وقال جدنا في (الرياض) بعد بيان قاعدة ما إذا تلف المبيع قبل
قبضه فهو من مال بائعه -: (.. وكذا لو تلف المبيع أو الثمن بالآفة
الإلهية بعد قبضه وقبل انقضاء خيار المشتري أو البائع، فإن التلف في مدة
الخيار ممن لا خيار له بلا خلاف أجده، لما مر في كل من خياري الشرط
والحيوان: من المعتبرة المستفيضة، وأخصيتها من المدعى مندفعة بعدم
القائل بالفرق بين الطائفة..) (2)
وقال في (مفتاح الكرامة): (لقد حكم المصنف - هنا - وفي
التذكرة والمحقق الثاني والفاضل الميسي: أنه يكون من المشتري إن كان الخيار
للبائع أو لهما أو لأجنبي، وأنه إن كان للمشتري - خاصة - فمن البائع
وهو - فيما عدى الأجنبي وما عدى ما إذا كان الخيار لهما - على ما ستعرف
الحال فيه - موافق لما في (السرائر) و (جامع الشرائع) لابن سعيد، و
(الإرشاد) وشرحه لولده، (ومجمع البرهان): من أن التلف إن كان
في مدة الخيار، فهو ممن لا خيار له، وهو معنى ما في (الشرائع) و
203

(التحرير) و (التذكرة) و (المسالك) و (المفاتيح): من أنه إن
كان الخيار للبائع فالتلف من المشتري، وإن كان للمشتري فالتلف من
البائع، ولا أجد في شئ من ذلك خلافا، بل اطلاق إجماع (الغنية)
حيث قال: (إذا هلك المبيع في مدة الخيار فهو من مال البائع إلا أن يكون
المبتاع قد أحدث فيه حدثا يدل على الرضا، فيكون هلاكه من ماله)
منطبق على الصورة الثانية، لكنه يشكل بالنسبة إلى ما إذا كان الخيار لهما
كما ستسمع (1) إنتهى.
وبالجملة، لم أجد من صرح من الأساطين باختصاص الخيار ببعض
أقسامه مع وقوعه بنحو الاطلاق في كلامهم، وإن وقع التعبير بالمدة
والزمان في كلام أكثرهم المنزل على غلبة تصوير التلف في حال الخيار
ووجوده بعد أن كان المناط التلف في حال التزلزل من غير مدخلية للزمان
في موضوعية المناط، وإن أخذ - غالبا - طريقا إلى تحققه.
نعم، الظاهر عدم مانعية التزلزل المسبوق باللزوم عن ضمان المقبوض
كخيار تأخير الثمن لحدوث الخيار بعد الثلاثة لا في أثنائها، فضمان المبيع
على المشتري لو تلف عنده بعد الثلاثة إنما هو للقاعدة الأولية لكونه تلف
في ملكه بعد قبضه، كما لو تلف في الثلاثة، لا لخيار البائع وأنه من مال
من لا خيار له، لظهور (حتى ينقضي الشرط) في الصحيحة في اعتبار
اتصال التزلزل بالعقد، وكذا مثله، بناء على تعميم القاعدة للثمن أيضا
- كما ستعرف - إذا تلف الثمن بعد قبض البائع له لو شرط الخيار عند
رد الثمن أو مثله في زمان معين، فإن الخيار إنما يحدث بعد رد مثل
الثمن فيه، لا قبله، فيكون تلف الثمن في ملكه، ولا خيار له حتى يكون
في ضمان المشتري، ومن مال من لا خيار له، فهو من التزلزل المسبوق
204

باللزوم الذي قد عرفت أنه غير مانع عن الضمان.
نعم لو فرض استمرار الخيار في المدة، وأن رد مثل الثمن شرط
في إعمال الخيار ومباشرة الفسخ على وجه يكون ذلك بجعل بالفرض في
أصل العقد، أشكل الحكم بذلك لاختصاص الخيار بالبائع واقتضاء القاعدة
كونه من ضمان من لا خيار له، وهو المشتري.
الثالث - يظهر مما ذكرنا من عدم كون المقبوض لذي الخيار مضمونا
عليه لو تلف في خياره: عدم الفرق بين المبيع والثمن، لوحدة المناط
المتقدم فيهما، ضرورة أن نسبة الثمن المقبوض للبائع، والخيار مختص به
كنسبة المبيع المقبوض للمشتري إذا كان الخيار مختصا به.
وإن تأمل في التعميم من هذه الحيثية أيضا - بعض المحققين من
المعاصرين، نظرا إلى الاقتصار فيما خالف الضوابط الشرعية على المتيقن
خروجه منها، وهو المبيع، فلا يتعدى منه إلى الثمن.
وأنت خبير بما فيه، لعدم وقوع لفظ المبيع في شئ من الأخبار
كما وقع في النبوي المتقدم في القاعدة المتقدمة حتى يتوهم الاقتصار عليه.
ودونك في التعميم من هذه الحيثية - أيضا - ما تقدم من كلام جدنا
في (الرياض) وغيره.
الرابع - الخيار: إما أن يكون للبائع، أو للمشتري، أولهما، أو للأجنبي
- منفردا - أوله منضما إليهما، أو إلى أحدهما، بائعا كان أو المشتري
وعلى التقادير كلها: فإما أن يكون التلف قبل القبض أو بعده.
فإن كان قبل القبض كان من ضمان البائع - مطلقا - في جميع صورها
السبع، لأنه من تلف المبيع قبل قبضه الذي قد تقدم كونه مضمونا
على البائع - مطلقا - حتى لو كان له خيار مختص به فإنه لا يكون من
ضمان المشتري الذي لا خيار له، لما عرفت من اختصاص قاعدة تلف المبيع
205

في مدة الخيار بما إذا كان بعد القبض، لا قبله، وإن توهم كونه من
تعارض القاعدتين فيه.
وأما إذا كان التلف بعد القبض فمن ضمان المشتري في جميع صورها
أيضا - إلا إذا كان الخيار خاصا بالمشتري، فإنه المتيقن خروجه - بما دل
على كون التالف في مدة الخيار ممن لا خيار له - عن القاعدة الأولية التي
مقتضاها كون التالف منه، لأنه تلف في ملكه وهو مقبوض له.
ويلحق بهذه الصورة في الخروج عن القاعدة الأولية: ما لو كان
الخيار للأجنبي، وكان بجعل من المشتري توكيلا منه - منفردا كان أو منضما
إلى نفسه - لا تحكيما، فافهم.
الخامس - المراد بالضمان في هذه القاعدة هو المراد منه في قاعدة
تلف المبيع قبل قبضه، بمعنى انفساخ العقد وحله، فلا يفتقر بعد التلف
إلى فسخ ذي الخيار، لتحقق الانفساخ بمجرد تحقق التلف، فلم يبق عقد
- حينئذ - حتى تكون له سلطنة على الفسخ بالخيار، وهو واضح
هذا آخر ما أردنا بيانه في هذه المسألة والله العالم
بحقائق أحكامه
206

رسالة
في الأراضي الخراجية
207

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين
محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المعصومين، وعلى صحبه الأبرار المنتجبين، ولعنة
الله على أعدائهم إلى يوم الدين.
وبعد: فيقول الراجي عفو ربه الغني محمد بن محمد تقي آل
بحر العلوم الحسني الحسيني الطباطبائي (1):
هذه (رسالة في الأراضي الخراجية) وغيرها، وما يأخذه السلطان
من الخراج والمقاسمة، وما يؤخذ منه من الجوائز. رتبتها على مقدمة ومقالات
وتذنيب، وخاتمة.
أما المقدمة، ففي تقسيم الأرضين
وهي في الأصل - كما في قاطعة اللجاج (2) - على قسمين:
(أحدهما) - أرض بلاد الاسلام، وهي على قسمين - أيضا -
عامر، وموات. فالعامر، ملك لأهله لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن ملاكه
209

والموات - إن لم يجر عليه ملك مسلم، فهو لإمام المسلمين، يفعل به ما يشاء
وليس هذا القسم من محل البحث المقصود.
(الثاني) ما ليس كذلك، وهو أربعة أقسام: الأول - الأرض
المفتوحة عنوة، الثاني - أرض الجزية، وهي التي صولح عليها، الثالث
الأرض التي أسلم عليها أهلها طوعا، الرابع - أرض الأنفال (1)
وهذه القسمة لا تنافي تقسيم أكثر الفقهاء لها إلى الأقسام الأربعة لأن
نظرهم في التقسيم إليها من حيث تعلق يد الكفار بها واستيلائهم عليها.
(تنبيه): جمع الأرض على الأراضي على غير قياس، لأن (فعل)
لا يجمع علي (فعالي)، بل هو جمع (فعلاء) كصحراء وصحاري، قال
في (المسالك): (.. وربما جمعها - أي الأرض - بعضهم على الأراضي
وغلط في ذلك) (2) وعن الحواشي المنسوبة إلى الشهيد - رحمه الله -: (أن
جمع الأرض على الأراضي غلط).
قلت: هو جمع سماعي على غير قياس، قال في (الصحاح):
(.. وقد تجمع - أي الأرض - على أروض، وزعم أبو الخطاب:
أنهم يقولون: أروض، وأراض، كما قالوا: أهل، وأهال، والأراضي
- أيضا - على غير قياس) (3) وقال في (القاموس): (.. أرضات
وأروض وأرضون وأراض، والأراضي غير قياسي) (4) وعن المصباح
(.. قال أبو زيد: وسمعت العرب تقول في جمع الأرض: الأراضي
والأروض، مثل: فلس وفلوس، وجمع فعل وفعالي في أرض وأراضي
210

وأهل وأهالي، وليل وليالي - غير قياسي) (1).
وكيف كان، فها هنا مقالات:
المقالة الأولى: في الأرض المفتوحة عنوة - بفتح العين المهملة
وسكون النون - وهي المأخوذة بالقهر والغلبة المستلزمة لذلك والخضوع.
ومنه قوله تعالى: (وعنت الوجوه للحي القيوم) (2)
فما كان منها عامرا - يوم الفتح - فهو للمسلمين قاطبة، ولمن يدخل
في الاسلام ولمن يوجد - بعد ذلك - بالسوية، من غير تفاضل بينهم،
فضلا عن التخصيص بالمقاتلة منهم.
ويدل عليه - بعد الاجماع بقسميه البالغ منقوله فوق حد الاستفاضة
المعتضد بدعوى غير واحد الوفاق، وعدم الخلاف في ذلك، فلا يعبأ بما
وقع من التعبير عنه بالمشهور في (الكفاية) - (3)
الأخبار المستفيضة التي منها: صحيحة الحلبي (عن السواد: ما منزلته؟
فقال: هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم ولمن يدخل في الاسلام بعد اليوم
ولمن لم يخلق - بعد - فقلنا: الشراء من الدهاقين؟ قال: لا يصلح إلا
أن يشترى منهم على أن يجعلها للمسلمين، فإن شاء ولي الأمر أن يأخذها
211

أخذها. قلنا: فإن أخذها منه؟ قال: يرد إليه رأس ماله، وله
ما أكل منها) (1).
ومنها - صحيحة ابن ربيع الشامي: لا تشتروا من أرض السواد - إلى
أن قال -: فإنها فيئ للمسلمين) (2)
ومنها - خبر محمد بن شريح: (سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن شراء
الأرض من أرض الخراج؟ فكرهه، وقال: إنما أرض الخراج للمسلمين
فقالوا له: فإنه يشتريها الرجل، وعليه خراجها؟ فقال: لا بأس، إلا
أن يستحيى من عيب ذلك) (3).
ومنها - صحيحة صفوان: (قال: حدثني أبو بردة، قال: قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: ومن
يبيع ذلك - وهي أرض المسلمين؟ قال: قلت: يبيعها الذي هي في
يده، قال: ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ - ثم قال -: لا بأس أن يشتري
حقه منها ويحول حق المسلمين عليه، ولعله يكون أقوى عليها وأملأ
بخراجهم منه) (4)
ومنها - مرسلة حماد - الطويلة - (.. عن أبي الحسن الأول (عليه السلام):
212

(الأرض التي أخذت عنوة بخيل وركاب، فهي موقوفة متروكة بيد من
يعمرها ويحييها ويقوم عليها على قدر طاقتهم من الخراج: النصف أو الثلث
أو الثلثان، على قدر ما يكون لهم صلاحا، ولا يضر بهم، فإذا خرج
منها نماؤها فأخرج منه العشر من الجميع فيما شقت السماء أو سقي سيحا
ونصف العشر فيما سقي بالدوالي والنواضع، فأخذه الوالي، فوجهه في
الوجه الذي وجهه الله له على ثمانية أسهم: للفقراء والمساكين والعاملين
عليها والمؤلفة وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، ثمانية
أسهم يقسمها بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون في سنتهم، بلا ضيق
ولا تقتير، فإن فضل شئ من ذلك رد إلى الوالي، وإن نقص شئ من
ذلك، ولم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم
حتى يستغنوا، ويأخذ بعد ما يبقى من العشر، فيقسمه بين الوالي وشركائه
الذين هم عمال الأرض واكرتها، فيدفع إليهم انصبارهم على ما صالحهم
عليه، ويأخذ الباقي فيكون أرزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه
من تقوية الاسلام وتقوية الدين، وفي وجوه الجهاد، وغير ذلك مما فيه
مصلحة عامة، وليس لنفسه من ذلك القليل والكثير) (1)
وهي - وإن كانت مرسلة - إلا أن الأصحاب تلقوها بالقبول، فهي
منجبرة، وإن تضمنت تقديم الزكاة على الخراج، وهو - على ما قيل -
خلاف المشهور. إلى غير ذلك من الأخبار.
والظاهر: أنها لهم على جهة الملكية - كما عن صريح بعض - لمكان
اللام والإضافة الظاهرين فيها، لا على وجه الاختصاص، ولو من جهة
213

اختصاص ارتفاعها بهم لكونه يصرف في مصالحهم - كما في المستند - تبعا
للمحكي عن بعض فيه - ولعله ظاهر (الكفاية) - أيضا - بدعوى منع
ظهور اللام والإضافة في الملكية، لصدق الإضافة بأدنى الملابسة، وكون
الاختصاص أحد معاني اللام، مضافا إلى أن الملكية لا يمكن أن تكون
لغير المعين، لأنها من الصفات اللازم قيامها بالذات المفقودة في الكلي
قبل تشخصه في الخارج، ولذا يحمل (1) عليها في باب الدعاوى والأقارير
والمجاز خير من الاشتراك، أو المنصرف إليها عند الاطلاق، بناء على أنها
حقيقة في مطلق الاختصاص الذي هو القدر المشترك بين جهاته: من الملكية
أو الاستحقاق أو الاختصاص الخاص، لأنها المنسبق إلى الذهن من سائر
214

الجهات وكفاية أدنى الملابسة في الصدق، غايته أنها مسوغة لإرادة الأدنى
منها، لا أنه موجب للحمل عليها.
وأما الحكم بعدم إمكان كون الملك لغير المعين، ففيه: أنه إن أريد
منه عدم إمكان كون الملك للمالك الكلي، وأن المالك لا بد أن يكون
شخصا خارجيا، ففيه عدم الفرق في الملكية التي هي عبارة عن العلقة الخاصة
الحاصلة بين المالك والمملوك بين طرفيها، فكما يصح أن يكون المملوك
كليا كالكليات الثابتة في الذمة، صح أن يكون المالك كليا - أيضا -
كالخمس والزكاة بعد التعيين وقبل القبض للفقراء والهاشميين والأعيان الموقوفة
على العناوين العامة، كالعلماء والمشتغلين، بناء على أن الوقف - مطلقا -
ملك للموقوف عليه.
والفرق بدعوى صحة كون المملوك كليا باعتبار أوله، وإمكان تشخصه
في الخارج الموجود ذلك الكلي فيه ومنطبق عليه، فهو متمول بهذا الاعتبار
يصح تعلق الملكية به.
فيعينه يقال في صحة كون المالك كليا، حرفا بحرف.
وبالجملة، فالملكية: إما أن تكون بين جزئيين شخصيين، أو كليين
أو يكون أحدهما جزئيا والآخر كليا، فالصور أربع.
أما الأولى - فكملكية زيد - مثلا - للعين الشخصية الخارجية.
وأما الثانية - فكملكية مقدار من الخمس أو الزكاة الثابتين في ذمة المتلف لهما
لكلي الفقراء والهاشميين، ومنه يتضح المثال في الصورتين الأخيرتين - فتأمل (*)
وإن أريد منه لزوم التعيين المقداري، ففيه - مع امكان منع كونه
معتبرا في أصل الملكية وتحققها، وإن اعتبرناه في صحة المعاملة، لتعذر
215

القبض والتسليم مع جهالة المقدار، فغايته اعتبار تعيينه في الواقع ونفس
الأمر، وإن لم يكن معلوما في الظاهر، وهو متعين في علم الله بالنسبة إلى
المسلمين المالكين لتلك الأراضي. فإذا: الأقوى إنها لهم على جهة الملكية
للرقبة دون الاختصاص، لكن هل هي لهم بمعنى أنه لكافة آحادهم على
سبيل الاستغراق الافرادي كما يعطيه ظاهر النسبة إلى جميع المسلمين، أو لكافتهم
أو قاطبتهم في الصحيحة الأولى ومعقد بعض الاجماعات المحكية، أو هي
لهم على الجنسية والنوعية الكليين كالأمثلة المتقدمة من الخمس والزكاة - وجهان -
ويتبع ملكية الرقبة ملكية ارتفاعها، ففي تعيين صرفها لخصوص
المصالح العامة المستوية فيها آحاد المسلمين، أو هو لمطلق المصالح الراجعة
لنوعهم، وإن اختصت المصلحة ببعضهم دون بعض: وجهان، مبنيان
- كما عرفت - على كيفية الملكية للرقبة، فإن قلنا بكونها لآحاد المسلمين
كافة - كان نماؤها التابع لها في الملكية لآحادهم - أيضا - وحيث يتعذر
التوزيع والقسمة بين الكل تعين الصرف في المصلحة الراجعة إلى الكل
كمعونة الغزاة ومؤنة الولاة والقضاة ومطلق ما يرجع إلى تقوية الدين ومصالح
كافة المسلمين، كبناء المساجد والقناطر، فإن الحقية ثابتة لكل واحد منهم
وإن لم يتفق له فعلية الانتفاع، ضرورة أنه لا معنى لكون الرقبة ملكا لكل
واحد منهم، ويختص بنمائها البعض، وإن قلنا بملكيتها لكلي المسلمين ونوعهم جاز
دفع نمائها للبعض الصادق عليه النوع والكلي، بل أمكن أن يقال بجواز
دفع عليه الرقبة - كلا أو بعضا - له، لصدق النوع عليه، فتكون من
دفع المملوك إلى مالكه، إلا أن يقال بظهور الأخبار وكلمات الأصحاب على
الملكية المؤبدة لهم وصرف ارتفاعها عليهم كالأعيان الموقوفة لغرض تأبيد
العين وتسبيل المنفعة. لم أر في كلماتهم تنقيحا لذلك.
وظاهر بعض الأخبار ومعقد الاجماعات، وإن اقتضت ملكية الرقبة.
216

لآحادهم الموجبة لاختصاص صرف نمائها في المصالح العامة - إلا أنها
معارضة بما دل على حلية أخذ جوائز السلطان الشامل باطلاقه لما كان
المأخوذ من الخراج والمقاسمة، من غير تقييد بكونها من غيرهما، بل في
بعضه ما هو نص في ذلك، ويأتي - إن شاء الله - زيادة توضيح لذلك.
مع عدم حلية ذلك لو كان المصرف خصوص المصالح العامة، إذ
لا يجوز صرف حق في غير مصرفه، فيصلح لأن يكون قرينة لصرف تلك
الظواهر وحملها على إرادة نوع المسلمين دون آحادهم، والجمع والتأكيد
إنما هو لتعميم النوع وإفادة عدم الاختصاص ببعض منهم دون بعض
وطائفة دون أخرى.
وبالجملة، فحلية ما يؤخذ منهما بنحو الهبات والصلات - كما عليه بعض
الاجماعات - تكشف عن عدم اختصاص صرفهما في المصالح العامة، وهي
إنما تتم على ملكية النوع، دون الآحاد.
هذا، ولكن كلمات الأصحاب، وكذا الأخبار الواردة في بيان المصرف
كلها مصرحة باختصاصه في المصالح العامة.
اللهم إلا أن يقال: بذل الجوائز والعطايا لكونها من لوازم الرئاسة
التي هي من المصالح العامة، يعد منها أيضا - فهي محسوبة من مؤنة
القائم بها.
بقي هنا أمور:
الأول - إن هذه الأراضي، هل يتعلق بها الخمس، فيكون الباقي
بعد إخراج الخمس منها - وهو الأربعة أخماس - ملكا للمسلمين، أو الكل
لهم بخمسة أخماسها؟ قولان:
المشهور هو الأول، بل في (المبسوط) (1): إنه يقتضيه المذهب).
بل هو مندرج في معقد إجماع (المدارك) و (الذخيرة) بل في (الحدائق):
217

(إنه ظاهر كلام الأصحاب) وفي (الجواهر) - بعد نسبته إلى ظاهرهم:
(كأنه من المسلمات عندهم) وحكي عن بعض: التصريح بالثاني، بل
في (الحدائق): (إن اختصاص الخمس بالمنقول من الغنائم هو ظاهر
الأخبار): بل فيه: (إنه لم يعرف دليلا ولا وقف على مستند يوجب
الخمس في ذلك إلا ظاهر الآية)
قلت: الكلام في هذه المسألة - مرة - من حيت أخبارها، وأخرى
من حيث كلمات الأصحاب فيها.
أما الكلام في الأولى: فهنا طوائف من الأخبار:
واحدة منها - دلت على وجود الخمس في هذه الأراضي بالعموم
أو الاطلاق.
وأخرى - على عدمه - كذلك - وكونها للمسلمين.
وثالثة - ما دل على أن الأرض كلها للإمام - عليه السلام -.
فمن الأولى - رواية أبي حمزة: (إن الله جعل لنا - أهل البيت -
سهاما ثلاثة في جميع الفيئ - إلى أن قال -: وقد حرمناه على جميع الناس
ما خلا شيعتنا، والله، يا أبا حمزة، ما من أرض تفتح، ولا خمس بخمس
فيضرب على شئ منه إلا كان حراما على من يصيبه، فرجا كان
أو مالا) (1)
وحسنة معاوية بن وهب، وفيها: (السرية يبعثها الإمام فيصيبون
غنائم، كيف يقسمون؟ قال: إن قاتلوا عليها مع أمير أمره الإمام
218

- عليه السلام - أخرج منه الخمس لله وللرسول، وقسم بينهم أربعة أخماس
وإن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كلما غنموا للإمام (عليه السلام) يجعله
حيث أحب) (1)
ورواية أبي بصير: (كل شئ قوتلوا عليه على شهادة أن لا إله
إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن لنا خمسه) (2)
ومن الثانية -: ما تقدم مما دل على كونها للمسلمين، ومعارضتها
للأولى من تعارض العام والخاص المطلق، الموجب لحمل العام على الخاص
أو المطلق على المقيد، لأن تلك الأخبار التي هي من الطائفة الأولى كعموم
الآية الدالة على وجوب الخمس، شاملة - بعمومها أو إطلاقها للأراضي
وغيرها من منقول الغنائم، وهذه الأخبار التي هي من الطائفة الثانية الدالة
كونها للمسلمين مختصة بخصوص الأراضي، وما لا يحول وينقل - وإن كانت
مطلقة بالنسبة إلى جميعها أو الباقية بعد إخراج الخمس منها - إلا أنها -
باطلاقها أخص من الأولى، والخاص المطلق، وإن كان بالنسبة إلى ما هو
مندرج فيه - مطلقا أو عاما - مقدم على العام المطلق الشامل له ولغيره
ومع وجود المرجحات الداخلية - من العموم والخصوص المطلقين - لا يرجع
إلى المرجحات الخارجية من موافقة الكتاب ومخالفة الجمهور.
219

فمن الغريب: ما وقع من (النراقي) في (مستنده) حيث جعل
التعارض بينهما من العامين من وجه، فقال - بعد أن أورد تلك الأخبار
العامة - ما لفظه -: (وهي، وإن كانت معارضة مع عمومات الأخبار
المصرحة بأنها لجميع المسلمين بالعموم من وجه إلا أن الترجيح لأخبار
الخمس لموافقة الكتاب، ومخالفة العامة (1).
ومنه يظهر - أيضا -: ضعف ما ذكره في (الجواهر) من قوله:
(كما أن تلك الأخبار الواردة في المفتوحة عنوة، وأنها ملك المسلمين
وكيفية إخراجها، لا يأبى التقييد بما هنا: من كون ذلك بعد الخمس
فإن الخاص المطلق يأبى تقييده بالعام كذلك، وإن كان مطلقا بالنسبة إلى
ما هو مندرج تحته).
هذا، مضافا إلى ما يمكن أن يقال: إن الحسنة المتقدمة ظاهرة في
المنقول من الغنائم بقرينة تقسيم الباقي بعد الخمس إلى خصوص المقاتلين.
نعم، ذيل رواية أبي حمزة، وإن صرح بالأرض المفتوحة، إلا
أنها بقرينة قوله - بعده - (أو خمس يخمس) ظاهرة في إرادة الأنفال
منها، التي كلها للإمام، لظهور المقابلة لما فيه الخمس في ذلك.
ومع فرض التسليم، فهي - أيضا لشمولها عامر المفتوحة ومواتها
ورؤوس الجبال وبطون الأودية - أعم مطلقا مما دل على أن المفتوحة
للمسلمين، بعد معلومية تقييدها بالاجماع وغيره - بالمحياة عند الفتح منها
فلا مناص عن كون التعارض بين الطائفتين من العموم والخصوص المطلق
وأما الطائفة الثالثة التي تأتي أخبارها (2)، فلا دلالة فيها على وجود
الخمس في هذه الأراضي، بل هي دالة على كونها للإمام - عليه السلام -
220

فهي من الأنفال، فتكون معارضة لأخبار كونها للمسلمين، حتى في القدر
المسلم كونها لهم.
هذا، مع أنه أعم منها - مطلقا - لشمولها لجميع الأراضي، فيكون
التعارض بينهما من تعارض العام والخاص المطلق أيضا، والمنتج - بعد الحمل -
كون الأراضي كلها للإمام - عليه السلام - إلا المفتوحة - عنوة - فإنها للمسلمين.
وأما الكلام في الحيثية الثانية - فقد عرفت كلمات الأصحاب
فيها، وأن ثبوت الخمس في هذه الأراضي منسوب - في كلام جماعة -
إلى ظاهر الأصحاب، بل صرح غير واحد - ومنهم خالي المجاهد في (المناهل) (1)
بظهور دعوى الاتفاق عليه وعدم الخلاف فيه.
مضافا إلى ما عرفت: من أنه مقتضى المذهب في (المبسوط) وأنه
من الضروريات والمسلمات في (الجواهر)، ولعل منشأ ذلك ظاهر إطلاق
كلام الأصحاب في كتاب الخمس بوجوبه في الغنائم الشامل للمنقول منها
وغير المنقول، وإلا فالمصرح به بالخصوص ليس إلا البعض منهم، وإن
نسب إلى المعظم، نعم في (المدارك) - في شرح قول مصنفه في تعداد
ما يجب فيه الخمس: الأول - غنائم دار الحرب مما حواه العسكر وما لم
يحوه من أرض وغيرها ما لم يكن غصبا من مسلم أو معاهد - قليلا كان
أو كثيرا - قال: (هذا الحكم مجمع عليه بين المسلمين) (2)، ومثله وقع من
(الذخيرة) - في شرح قول مصنفه - أيضا - مع اطلاق معاقد الاجماعات
المحكية فوق الاستفاضة على ثبوت الخمس في الغنائم الشامل لها - أيضا -
221

هذا، ويختلج بالبال ويخطر في الخيال، دعوى المناقشة في ذلك كله:
أما ظهور إطلاق كلامهم في الغنائم في كتاب الخمس، فمعارض
بظهور إطلاق كلامهم في حكم المفتوحة عنوة: أنها للمسلمين من غير
تقييد باخراج الخمس منها.
وأما إجماع (المدارك) و (الذخيرة)، ففيه: إنه إن كان المشار
إليه ثبوت الخمس في كلي الغنائم، فمسلم كونه مجمعا عليه بين المسلمين
لكن لا يجدي في خصوص الأراضي إلا بنحو العموم والاطلاق، وهو
مخصص كاطلاق معاقد الاجماعات المنقولة على ثبوت الخمس في الغنائم بما
دل على عدمه في الأراضي المذكورة. وإن كان ثبوته في كل ما اندرج
في عبارة المصنف، فممنوع مسلميته بين المسلمين، كيف، وقد تقدم
من (المستند) ترجيح أخبار الخمس بموافقة الكتاب ومخالفة العامة.
فلعل نسبتهما له إلى عموم المسلمين ظاهرة في إرادة المعنى الأول.
وأما إطلاق معاقد الاجماعات المحكية على ثبوت الخمس في الغنائم
فهي - كما عرفت - مخصصة كعمومات الكتاب والسنة بما يعارضها من
الأخبار الخاصة الواردة في المفتوحة عنوة بأنها للمسلمين.
فلم يبق في المقام لثبوت الخمس إلا الشهرة التي لا تنهض لاثبات
الحكم بها على تقدير تحققها.
لكن - مع ذلك - الأقوى ثبوت الخمس فيها - أيضا - كغيرها
من منقول الغنائم، لظهور الاتفاق من إطلاق كلامهم في كتاب الخمس
المتكفل لبيان ما يجب فيه الخمس بثبوته في غنائم دار الحرب، من غير
تقييد لها بالمنقول منها، مع كونه مقام بيان التخصيص، لو كان الثبوت
مختصا ببعضها.
وهذا بخلاف إطلاقات كلامهم في حكم الأراضي المفتوحة عنوة في
222

كتاب الجهاد - فإنها مسوقة لبيان عدم اختصاصها كالمنقول منها بالمقاتلين
وكونها لكافة المسلمين، واكتفاء منهم في بيان تعلق الخمس بها بما بينوه
في محله - من كتاب الخمس - لأنه المقرر لتعيين ما يجب فيه الخمس، دون
كتاب الجهاد، وإحياء الموات.
ومثله الكلام في إطلاق الأخبار المتقدمة الواردة في حكم الأراضي
المزبورة وكونها للمسلمين وفيئا لهم، دفعا لما يتوهم من كونها مختصة
بالمقاتلين منهم. فلا معارضة بينها وبين عمومات الكتاب والنصوص بعد
أن كان موردها بحسب السياق مختصا بغير الخمس منها، فتبقى العمومات
والاطلاقات من الكتاب والسنة والاجماعات سليمة عن المعارض كافية وافية
في إفادة المطلوب من ثبوت الخمس فيها، مؤيدة بالشهرة العظيمة وتصريح
الأساطين بذلك، بل لم نعثر على من صرح بالعدم عدى (الحدائق)، وإن
نسب إلى بعض - وبأخبار حل الشيعة ما هو لهم مما في أيديهم مما يأخذونه
من السلطان، بقرينة كون المأخوذ - غالبا - من الخراج والمقاسمة، من
غير فرق في الحلية بين حصته وحصة قبيلته، ولا استبعاد في إباحتهم
لحصة قبيلتهم من الأسهم الثلاثة الآخر بعد أن كان زيادتهم له ونقصهم
عليه.
الأمر الثاني: على ما هو الأقوى من ملك الرقبة وتعلق الخمس بها
فهل يتعين إخراجه من العين - كما عن ظاهر المبسوط والسرائر -
أو من حاصلاتها - كما عن ظاهر التحرير - أو التخيير بينهما - كما عن صريح
الشرائع والقواعد - احتمالات، بل لعلها أقوال، أقواها الأخير. ولعل
الأولين يرجعان إليه.
وعلى تقدير الافراز من العين - كلا أو بعضا أو قطعة قطعة - فلا بد
من التعديل - أولا - ثم القسمة بعده على حد القسمة في المشتركات.
223

الأمر الثالث - ما يأخذه السلطان من طرف أجرة الأرض باسم
الخراج أو المقاسمة، إنما يأخذه بدلا عن مجموع الأرض، لا عن غير
الخمس منها، فالخمس في الخراج وداخل في القبالة، لا في حصة المتقبل
التي هي عوض عمله، ولا موزع عليهما. فلا يتوهم اختصاص صحة التقبيل
من السلطان وبراءة ذمة المتقبل بدفع القبالة إليه بغير الخمس من الأربعة
أخماس، اقتصارا على القدر المتيقن مما أمضاه الشارع بالنسبة إلى ما كان
راجعا إلى المسلمين - كافة - فيبقى الخمس مندرجا تحت الأصل وما
تقتضيه القواعد العامة، لاطلاق ما دل على الخراج والمقاسمة المفروض كونهما
بدلا وقبالة عن مجموع الأرض، لا خصوص غير الخمس منها.
الأمر الرابع - الأقوى ثبوت الخمس في الخراج - مطلقا في زماني
الحضور والغيبة - وإن قلنا بتعميم أخبار التحليل والإباحة منهم لشيعتهم
لها، لا مختصا بما كان مختصا بهم من أراضي الأنفال، ونحوها، لأن
مفادها - ظاهرا - على تقدير القول به - هو حلية الأخذ وإباحة التناول
مما فيه الخمس من الخراج، لا سقوطه من أصله، كإباحتهم للخمس في
المتاجر بالنسبة إلى ما يؤخذ منها مما فيه الخمس، لا سقوط الخمس من
أرباح التجارات.
خلافا لظاهر المحكي في (الكفاية) عن بعض (حواشي القواعد):
من التفصيل بين زماني الحضور والغيبة، حيث قال المحشي - في
شرح قوله (يخرج منه الخمس) -: (هذا في حال ظهور الإمام
وأما في حال الغيبة ففي الأخبار ما يدل على أنه لا خمس فيه)
انتهى.
ولعل نظره في ذلك إلى أخبار التحليل والإباحة.
وفيه - مع ما عرفت: من مفاد تلك الأخبار على تقدير شمولها
224

للأراضي الخراجية -: أنه لا ملازمة بين الإباحة والسقوط من أصله،
بل هي على عدمه أدل.
وتظهر الثمرة بينهما في جواز السرقة منه بمقداره، وعدمه، بناء على
القول بوجوب دفع الخراج إلى السلطان - مطلقا - أو مع مطالبته، وجواز
التملك لرقبتها احتسابا من الخمس بمقداره، فيختص يتملكه؟ المحتسب له
وإباحة التصرف فيها يخص الإمام من سهمه منه للشيعة - مطلقا - بناء على
تحليل الشيعة لما يخصهم من الأراضي كذلك.
مضافا إلى أن الإباحة والإذن العام منهم وقع ممتدا من زمان
حضورهم إلى زمان الظهور - عجل الله فرجه - فلا معنى - حينئذ -
للتفصيل بين الحضور والغيبة.
الأمر الخامس - ما دل على كون الأراضي كلها للإمام عليه السلام
بالاطلاق أو العموم، كخبر عمر بن يزيد: قال رأيت مسمعا بالمدينة
- وقد كان حمل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) مالا، فرده عليه، فقلت: لم
رده عليك؟ فقال: (إني قلت - حين حملت إليه المال -: إني وليت
البحرين الغوص، فأصبت أربعمائة ألف درهم، وقد جئتك بخمسها ثمانين
ألف درهم وكرهت، أن أحبسها عنك، وأعرض لها - وهي حقك الذي جعله
الله لك في أموالنا - فقال: أو مالنا من الأرض، وما أخرج الله عنها إلا
الخمس؟ إن الأرض كلها لنا، فما أخرج الله منها من شئ فهو لنا،
فقلت: وأنا أحمل إليك المال كله، فقال: يا أبا سيار، قد طيبناه لك
وأحللناك منه، فضم إليك مالك، وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض
فهم فيه محللون يحل ذلك لهم حتى يقوم قائمنا، فيجبيهم طسق (1) ما كان
225

في أيديهم، ويترك الأرض في أيديهم، وأما ما كان في أيدي غيرهم،
فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض
من أيديهم..) الحديث (1).
يجب تقييدها، أو تخصيصها بتلك الأخبار المتقدمة الدالة على كون
الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين، لكون المعارضة بينهما من تعارض العام
والخاص المطلق.
نعم، يمكن أن يقال - بل قيل -: بكونها للإمام عليه السلام أيضا
- بوجه آخر، وهو أنه يشترط في كون المنقول من الغنيمة بعد إخراج
الخمس للمقاتلين، وغير المنقول منها كذلك للمسلمين: أن يكون الاغتنام
بإذن الإمام (عليه السلام) وإلا فالكل له مختص به وهو من الأنفال.
وعليه، فما وقع من الفتوحات الاسلامية بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله) مما
لم يكن الإمام فيه مبسوط اليد يقتضي أن يكون كله للإمام عليه السلام
سيما وكون الإذن - حيث شك فيه - كان مقتضى الأصل عدمه.
قال الشيخ - رحمه الله - في (المبسوط) - بعد ذكر حكم هذه
الأراضي من كونها بعد اخراج الخمس منها للمسلمين وغير ذلك - ما لفظه:
(وعلى الرواية التي رواها أصحابنا: إن كل فرقة غزت بغير الإمام فغنمت
تكون الغنيمة للإمام (عليه السلام) خاصة، وتكون من جملة الأنفال التي لا يشاركه
فيها غيره (2)) إنتهى.
226

وإن سار الإمام عليه السلام فيها بالخراج أيام خلافته الظاهرة بسيرة
من تقدم عليه من الخلفاء الثلاثة، لعدم تمكنه من التغيير والتبديل، سيما
في مثل هذا الحكم، بدعواه اختصاص ارتفاع هذه الأراضي بنفسه دون
غيره من المسلمين.
ويناسبه أخبار تحليل الخراج لشيعتهم (1)، المشعر بكونه مختصا بهم
من غير حاجة إلى تكلف التوجيه لإباحة حصة قبيلتهم، فتكون هذه
الأراضي بحكم المفتوحة عنوة، كما حكاه النراقي في (مستنده) - بعد
أن اختاره عن بعض، بل عن صريح الأكثر - (2).
لكن - مع ذلك - الأقوى كونها من المفتوحة عنوة، موضوعا
لا حكما - لأن الظاهر تحقق الإذن منهم، ويكشف عنه إخبارهم لها
بكونها للمسلمين في تلك الأخبار المتقدمة - بعد تقييدها بما دل على اعتبار
227

الإذن في ذلك نصا وفتوى - كما يأتي -.
واختصاص بعضها - سؤالا وجوابا - بأرض السواد لا يضر مع
تعميم الباقي لمطلق أرض الخراج، سيما مع ورود نحو صحيحة محمد بن مسلم
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سألته عن سيرة الإمام (عليه السلام) في الأرض التي
فتحت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد سار
في أهل العراق بسيرة، فهي إمام لسائر الأرضين..) الخير (1)
الدالة على تبعيتها لها في الحكم.
مضافا إلى ما عن (الخصال) - في الأبواب السبعة - مسندا إلى
جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام): أنه (أتى يهودي أمير المؤمنين (عليه السلام)
في منصرفه عن وقعة (النهروان) فسأله عن تلك المواطن - وفيه قوله -:
وأما الرابعة - يعني من المواطن الممتحن فيها بعد النبي (صلى الله عليه وآله) - فإن القائم
بعد صاحبه - يعني: عمر - كان يشاورني في موارد الأمور، فيصدرها
عن أمري ويناظرني في غوامضها، فيمضيها عن رأيي، لا يعلمه أحد
ولا يعلمه أصحابي، ولا يناظرني غيره..) الخير (2).
ومن المعلوم: أن جهاد الكفار وقتالهم من أعظم الأمور وأغمض
الغوامض.
بل استفاض النقل في مشاورتهم لأمير المؤمنين - عليه السلام - في
228

عظائم الأمور، ولا يعدون رأيه، سيما في الحروب (1).
مؤيدا بما اشتهر من وجود أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) في العسكر
وإن كنت لم أتحققه (2).
ودخول أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) في أعمالهم كعمار بن ياسر،
وسلمان الفارسي وغيرهما (3).
هذا، وذكر شيخنا (المرتضى) في (مكاسبه) وجوها ثلاثة
لاثبات الإذن منهم - عليهم السلام - زيادة على ما ذكرنا:
الأول - ما أشار إليه بقوله: (مضافا إلى ذلك أنه يمكن الاكتفاء
عن إذن الإمام المنصوص في مرسلة الوراق - بالعلم بشاهد الحال برضاء
أمير المؤمنين - عليه السلام - وسائر الأئمة بالفتوحات الاسلامية الموجبة
لتأييد هذا الدين، وقد ورد: أن الله - تعالى يؤيد هذا الدين بأقوام
لا خلاق لهم منه) انتهى (4).
ولعل نظره إلى الاكتفاء بالرضا القلبي المستكشف - مرة - بالإذن،
وأخرى - بشاهد الحال. ولا خصوصية للإذن في مقام الكشف، وإن
229

وقع التعبير به للغلبة، فالعبرة بالمنكشف دون الكاشف.
وفيه: إن الاستكشاف بشاهد الحال: إن كان عند الاقدام على
الجهاد، فممنوع إحرازه به، لعدم معلومية تعقب الفتح والغلبة الموجب
للقوة، وإن كان بعد تحقق الفتح المستلزم للرضا القلبي، فمع أن الرضا
المتأخر لا يجدي بالنسبة إلى ما كان هو شرطا فيه عند الاقدام عليه،
لا يبقى مورد لاعتباره في قسمة الغنائم، إذ الفتح - حينئذ - لا ينفك عن
الإذن، ومع عدمه لا غنيمة حتى تكون من الأنفال، ولو فرض مورد
لذلك فهو من النادر الذي يأبى حمل أخبار اعتبار هذا الشرط وكلمات
الأصحاب عليه.
لا يقال: إن تقوية الدين مرضية عند الإمام - عليه السلام - وهي
موقوفة على الجهاد والاقدام على القتال، وما يتوقف عليه الفعل المرضي
مرضي، فالجهاد مرضي.
لأن المتوقف عليه كلي الجهاد، دون الوقائع الشخصية المعتبر فيها
الإذن: ولو سلم، ففيه ما عرفت من عدم بقاء مورد لاعتبار هذا الشرط
لأنها - حينئذ - تكون من القضية الدائمة لا ينفك الرضا عنه.
الثاني ما ذكره مما يرجع ملخصه إلى التمسك بأصالة الصحة في الغزو
الصادر من الغزاة، أي حمل فعل المسلم على الوجه الصحيح، حيث قال:
(مع أنه يمكن أن يقال بحمل الصادر من الغزاة من فتح البلاد على الوجه
الصحيح، وهو كونه بأمر الإمام - عليه السلام -) (1).
وفيه: أنه لا وجه للحمل على الصحة في نحو هذه الأفعال المبتنية
على أساس يأبى الحمل عليها، كيف، وهم لا يرون لهذا الفعل من
حيثية اعتبار الإذن وعدمه، اتصافا بالصحة والفساد، حتى يتجنبوا الفرد
230

الفاسد منها، فافهم.
الثالث - ما ذكره بقوله: (مع أنه يمكن أن يقال: إن عموم ما دل
من الأخبار الكثيرة على تقييد الأرض المعدودة من الأنفال بكونها مما لا
يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وعلى أن ما أخذت بالسيف من الأرضين
بصرف حاصلها في مصالح المسلمين، معارض بالعموم من وجه لمرسلة
الوراق، فيرجع إلى عموم قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شئ
فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى..) الآية، فيكون الباقي للمسلمين
إذ ليس لمن قاتل شئ من الأرضين نصا واجماعا) انتهى (1).
وملخص كلامه وخلاصة مرامه: كون المعارضة بين المرسلة وبين
الأخبار من تعارض العامين من وجه، لكون المرسلة موردها مطلق الغنيمة
الشاملة للأراضي وغيرها، وتلك الأخبار، وإن اختصت بالأراضي إلا أنها
مطلقة من حيث اعتبار الإذن، وعدمه. وبعد التعارض فليرجع إلى عموم
الآية، الدالة على كون الخمس منها للإمام، وحينئذ، فالباقي من الأراضي
إما أن يكون لخصوص المقاتلة - ولا قائل به فتعين كونه للمسلمين.
وفيه: إن المدعى هو وقوع الفتح عن إذنهم، كما هو صريح كلامه
قبل تعداد الوجوه التي أقامها عليه، وهو لا يثبت بما ذكره من الوجه
الأخير لأن الثابت به - على تقدير تماميته - هو كونها للمسلمين، وهو
أعم من تحقق الإذن المعتبر، أو عدم اعتباره من أصله، والعام لا يدل
على خصوص الخاص وإن فرض اعراضه عن الدعوى المزبورة ورجوعه إلى
أصل المسألة من اعتبار الإذن وعدمه، فنمنع الرجوع إلى عموم الآية
بمجرد معارضة الأخبار بالعموم من وجه، للمرسلة المنجبرة المرجحة
بالمرجحات الكثيرة الموجبة لتقييد غيرها من عمومات الأخبار، بل وعموم
231

الآية بها - كما ستقف عليه - إن شاء الله - عند تعرضنا له في الأنفال.
الأمر السادس - ما يفتح من الأراضي عنوة في زمان الغيبة بالجهاد
دفاعا إذا استلزم ذلك كان - أيضا - للمسلمين، لأنه من الاغتنام مع إذن
الإمام (عليه السلام) بالإذن العام، لوجوب الدفاع عن بيضة الاسلام، وأما
الجهاد - لا عن دفاع - ففي كونها للمسلمين كافة أو للإمام (عليه السلام)
خاصة وجهان مبنيان على اعتبار الإذن وعدمه، إذ لم يعلم الإذن منهم
في الغيبة على الجهاد الابتدائي إلا بدعوى العلم بشاهد الحال وقد عرفت
ما فيه.
الأمر السابع -: لا تخرج الأراضي عن كونها خراجية بتغلب
الكفار عليها، فلو عادت إلى المسلمين - ثانيا - ضرب عليها الخراج،
وإن كان العود عليهم لا بالغلبة منهم، بل بالانجلاء عنها ونحوه، لدخولها
في ملكهم - أولا - بالفتح عنوة وعدم وجود ما يوجب خروجها عنه،
وإن هي إلا كالأعيان المغصوبة عندهم، فهي باقية على حكمها الأولي من
كونها للمسلمين وإن كانت تحت يد الكفار.
الأمر الثامن -: المراد بالمعمورة عند الفتح وكونها للمسلمين: كونها
لهم بعماراتها الكائنة فيها، فما فيها من الدور والقصور وسائر الآثار من
النخيل والأشجار بأراضيها للمسلمين، إذ لا فرق في صدق المعمورة بين
كونها عامرة بنفسها كالمزارع، أو من حيث وجود العمارة فيها كالدور
والعقار. نعم العمارات المستحدثة بعد الفتح لأربابها المحدثين لها لا يشاركهم
فيها غيرهم.
فإذا عرفت أن الأرض - بما فيها من العمارات والآثار الكائنة عند
الفتح - للمسلمين، أشكل الحكم في ملكية ما يصنع من تلك الأراضي من
الآلات والأواني كالجص والآجر والكيزان المعمولة من طينها، وأشكل
232

منه، نملك ما يستخرجونه من تلك الأبنية القديمة بحفر أو قلع مما كانت
عمارة قبل الفتح وعند الفتح، ولو بمعونة أصالة تأخر الخراب عن الفتح
المعلوم تأريخه كالمدائن، ولعل منها (الخورنق)، وأراضي (بابل)، ونحو
ذلك من الآثار القديمة. فالأبنية المستحدثة بعد الفتح من تلك الآثار القديمة
والمعمولة من هذه الأراضي، ينبغي أن تكون - أيضا - للمسلمين، فكيف
تكون ملكا خاصا؟ فضلا عن تملك الأرض تبعا لها مع إجراء أحكام
الملك الخاص على كل من القسمين من النقل والانتقال ونحو ذلك. ولذا
اعتبر العلامة - رحمه الله - وجماعة - على ما حكي عنهم - في صحة رهن
الآثار المستحدثة في المفتوحة عنوة - أن لا تكون معمولة من تلك الأراضي.
ودعوى كونها بالانفصال والهدم صارت مواتا، وبالأعمال فيها
عادت محياة، فيملكها المحيي لها، لعموم أخبار الاحياء، مع منع دعوى
انصرافها إلى غير ذلك لكونه من الانصرافات البدوية التي لا يعول عليها
فاسدة، لأنه على تقدير تسليم منع الانصراف وشمول الأخبار لمثل
ذلك - أرضا وحياة ومماتا - أن التملك بالاحياء مشروط بعدم سبق الملك
لمالك معلوم بغير الاحياء، وها هنا المالك معلوم، وهم المسلمون، والملكية
لهم بالاغتنام، فلا تكون مشمولة لأخبار التملك بالاحياء. وحينئذ، فالقاعدة
تقتضي توقف تملكها على الشراء من السلطان أو الحاكم وصرف الثمن في
مصالح المسلمين، أولا أقل من الاستيذان من أحدهما، مع امكان
أن يقال: لا مدخلية للسلطان فيه، لأن القدر المأذون في تناوله منفعة
الأرض، لا أجزاؤها. إلا أن يكون الأخذ على وجه الانتفاع لا التملك
فيجوز، مع أن عمل الناس وسيرتهم على التملك من دون توقفه على شئ
من ذلك.
هذا ولعل الوجه في صحة التملك: هو أن يقال: إن المنفصلة من
233

أجزاء الأرض لعمل اللبن والأواني وسائر الآلات المحتاج لها والمضطر
إليها عموم الناس - تعد من منافعها، وإن كانت عند الاتصال بها وقبل
الانفصال عنها تعد من عين الرقبة، فعموم الانتفاع بالأجزاء المنفصلة
موجب لصدق المنفعة عليها وإن كانت هي من الأعيان الخارجية، وهذه
المنفعة مبذولة للمسلمين - كافة - من غير تخصيص من هذه الحيثية ببعض
دون بعض، وإن كان المأخوذ يختص به الآخذ، والعبرة بعموم البذل
في صدق كونها مصروفة في المصالح العامة، فهو بحكم المباح، وإن كان
ملكا للجميع، لعموم البذل، فيختص به من سبق إليه، لعموم قوله (صلى الله عليه وآله)
(من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد..) (1).
وإن أبيت إلا لزوم تحقق الإذن مع ذلك - أيضا - فهو متحقق
بالسيرة القطعية الكاشفة عن ذلك.
هذا بالنسبة إلى ما يعمل من الأرض كاللبن والأواني. وأما المستخرجة
منها من تلك العمارات القديمة مما هو مدفون في الأرض بعد هدمها،
فقد يقال: إنها تعد من أجزاء الأرض كالمتخلفة في ممر المياه من الطين
والرمل من غير فرق بين أساس العمارة في الأرض ومهدومها، فيكون
- حينئذ - حكمه حكم ما مر من الأجزاء المنفصلة. نعم، الآثار القائمة
على الأرض مما لا يعد جزء منها كطاق كسرى ونحوه، يشكل تملكها
بالقلع إلا بإذن السلطان أو الحاكم، ولا حرج في الالتزام بذلك - بخصوصه -
ولم تقم سيرة عليه كذلك.
الأمر التاسع -: يتفرع على ما ذكرنا - مما هو المجمع عليه:
من كون المفتوحة عنوة المسلمين - قاطبة -: أنه لا يجوز التصرف فيها
234

بالبيع والشراء وسائر النوافل المملكة لها ولا رهنها ولا وقفها، بل، ولا يصح
تعميرها بدون إذن ببناء دور ومنازل وسائر الآثار من غرس نخيل وأشجار
قال في (المبسوط): (ولا يصح بيع شئ من هذه الأراضي
ولا هبته ولا معاوضته ولا تمليكه ولا وقفه ولا رهنه ولا إرثه، ولا يصح أن
يبنى دورا ولا منازل ولا مساجد ولا سقايات ولا غير ذلك من أنواع
التصرف، ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا، وهو باق على
الأصل) انتهى. (1)
وتنقيح هذه المسألة يتم ببسط الكلام في طي مقامين:
الأول - هل يجوز إيجاد العمارة وإحداث الآثار في المفتوحة عنوة
من دون توقف على الإذن من الإمام - عليه السلام - أو من يقوم مقامه
أو لا يجوز إلا بإذن منه؟.
فنقول: مقتضى الأصل الأولي فيما كان مملوكا للمسلمين - كافة -
هو العدم الحاكم على أصالة الإباحة في الأشياء. ولكن قد يقال بالخروج
عنه، والحكم بالجواز: إما مطلقا، لأخبار التحليل، أو التفصيل بين
ما عرض له الموت بعد الحياة عند الفتح، لعموم أخبار الاحياء، وبين
ما كان باقيا عليها.
وفيه: أما أخبار التحليل، فهي مختصة بما كان لهم من الأنفال،
دون ما كان للمسلمين، ولهم ولاية النظر فيها. وأما أخبار الاحياء،
فهي مقيدة بعدم سبق الملكية لمالك معلوم - وفي الفرض مملوك والمالك
معلوم وهو المسلمون.
فإذا، لا مناص عن القول بالتوقف على إذن الإمام، أو من يقوم
مقامه، وهو لا ينافي الحكم بملكية الآثار لمن كانت يده عليها، حملا للتصرفات
235

على الوجه الصحيح: من تحقق الإذن عند ايجادها وإحداثها.
ودعوى سقوط اعتبار الإذن في زمان الغيبة، أو تحققها فيه، على
عهدة مدعيها.
وقياسه بالأجزاء المنفصلة منها لعمل الآلات والأواني، لعموم الانتفاع
ومسيس الحاجة - أيضا - قياس مع الفارق. والسيرة عليها بدون الإذن
ممنوعة.
الثاني - اختلفت كلماتهم: في عدم جواز بيع المفتوحة عنوة، وغيره
من النواقل - لعدم التملك مطلقا - أو جوازه كذلك، أو التفصيل بين
جواز بيعها تبعا للآثار - بناء على أنها تملك تبعا لها، فيدخل في المبيع
بالتبعية أو الجزئية، أو التفصيل بين زماني الحضور والغيبة - كما نسب إلى الدروس
- وإن كان في النسبة نظر - كما ستعرفه عند التعرض لكلامه -: أقوال:
ذهب إلى الأول منها - جم غفير، وهو المحكي عن الشيخ في كتابيه:
النهاية (1) والمبسوط - في مواضع منهما (2) وابن إدريس - في موضع من
السرائر - حتى أنه أورد على نفسه - بعد المنع عنه مطلقا - بما نصه:
(فإن قيل: نراكم تبيعون وتقفون أرض العراق - وقد أخذت عنوة،
قلنا: إنا نبيع ونقف تحجيرنا وبناءنا، فأما نفس الأرض لا يجوز
236

ذلك فيها) (1).
بل قيل: هو المشهور، ولا سيما بين القدماء، بل نسب القول
بالجواز إلى الشذوذ - كما عن موضع آخر من السرائر - نقلا عن الشيخ: إنه
إذا حجر أرضا ثم باعها لم يصح بيعها، وفي الناس من قال: إنه يصح
وهو شاذ، وأما عندنا فلا يصح بيعه..) الخ (2).
بل ظاهر (الغنية) والكركي في (قاطعة اللجاج) دعوى الاجماع:
قال - في الأول -: (وهذه الأرض المفتوحة عنوة بالسيف لا يجوز
التصرف فيها ببيع ولا وقف ولا غيرهما - ثم ذكر أحكامها، وما يختص
بالإمام - عليه السلام - من الأنفال - إلى أن قال: ودليل ذلك كله
الاجماع المتكرر) (3).
وقال - في الثاني -: (.. قال الشيخ في المبسوط والنهاية،
وكافة الأصحاب: لا يجوز بيع هذه الأرض ولا هبتها ولا وقفها) انتهى (4)
237

وإلى الثاني - السبزواري في (الكفاية) (1) والسيد العاملي في
(مفتاح الكرامة) (2) - في ظاهر كلاميهما -.
وإلى الثالث - جمع كثير - كما عن التحرير، والمختلف، والمنتهى (3)
وحواشي الشهيد، واللمعة، والروضة، والمسالك، وموضع من التذكرة
والسرائر. وفي (المسالك) نسبه إلى جمع من المتأخرين (4). بل نسبه
بعضهم إلى مشهورهم. بل عن حواشي الشهيد: دخولها في المبيع بنحو
الجزئية، دون التبعية المحضة حيث قال -: (إذا بيعت تبعا للآثار جاز
أن تكون مجهولة، والأولى أنها جزء المبيع، فلا بد من العلم بها أيضا)،
وقال في (الدروس): (لا يجوز التصرف في المفتوحة عنوة إلا
بإذن الإمام - عليه السلام - سواء كان بالبيع أو الوقف أو غيرهما،
نعم في حال الغيبة ينفذ ذلك، وأطلق في (المبسوط): أن التصرف
238

فيها لا ينفذ) (1).
وقال ابن إدريس: (إنما يباع تحجيرنا وبناؤنا وتصرفنا في نفس
الأرض) إنتهى (2).
ونسب إليه القول بالتفصيل بين زماني الحضور والغيبة: بعض مشايخنا
منهم شيخنا في (الجواهر) والفاضل الجواد في (شرح اللمعتين).
بل استظهر منه في (مفتاح الكرامة): جواز بيعها مجردة عن
الآثار.
قلت: وظاهر عبارته - وإن أوهم ذلك في بادئ النظر - إلا أنه
بعد أدنى التأمل فيها - تجدها ظاهرة في التفصيل بين الزمانين في أصل
التصرف بأحداث الآثار، وأنه لا يجوز في زمان الحضور إلا بإذن الإمام عليه السلام ويسقط اعتبار الإذن فيه، فيصح وينفذ في زمان الغيبة. فهو
قائل بصحة البيع، تبعا للآثار الصحيحة، غير أن الآثار لا يصح احداثها
في زمان الحضور إلا بإذنه، وتصح في زمان الغيبة، لسقوط الإذن فيها
ثم - بناء على الملكية التبعية - ففي زوالها بزوال الآثار - كما في
(المسالك) وغيره (3)، أو بقائها - وإن زالت - كما في (المستند) (4)
وجهان: مبنيان على أن الملكية - ولو بالتبع -: هل هي متعلقة بنفس
الأرض من حيث هي، فلا بد - حينئذ - في خروجها عنها من مخرج شرعي
239

أو متعلقة بها من حيث اتصافها بالوصف العنواني، وهو التابعية الموجب
لزوالها بزوال الآثار، لانتفاء الموضوع - حينئذ - ولو بانتفاء جزئه، وهو
وصف التابعية؟.
ولعل الثاني هو الأظهر. وعليه؟ فلا تبقى الملكية بعد زوال الآثار
الموجبة لها بالتبعية.
حجة القول بالمنع - مطلقا -: - مضافا إلى أنه مقتضى الأصل
فيما هو ملك المسلمين قاطبة - وظاهر الاجماع المتقدم -: الأخبار الناهية
عن شراء أرض الخراج (1).
حجة القول بالجواز - مطلقا -: الأخبار الدالة على جواز شراء
تلك الأرض التي:
منها - دلالة الاستثناء في ذيل (صحيحة الحلبي المتقدمة) (2).
ومنها - صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألته عن الشراء من أرض
اليهود والنصارى؟ فقال: ليس به بأس، وقد ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله)
على أهل خيبر، فخارجهم على أن تترك الأرض في أيديهم، يعملونها
ويعمرونها،.. وأيما قوم أحيوا شيئا من الأرض أو عملوه، فهم
240

أحق بها وهي لهم) (1).
ومنها: - صحيحة محمد بن مسلم، قال: (سألته عن شراء أراضيهم
فقال: لا بأس أن تشتريها فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم، فتؤدي فيها كما
يؤدون فيها) (2).
ومنها: - رواية أبي بصير، قال: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن شراء الأرضين من أهل الذمة؟ فقال: لا بأس أن يشتري منهم إذا
عملوها وأحيوها فهي لهم. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين ظهر على
خيبر وفيها، خارجهم على أمر وترك الأرض في أيديهم يعملونها
ويعمرونها) (3).
ومنها: - رواية محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
(سألته عن ذلك فقال: لا بأس بشرائها، فإنها إن كانت بمنزلتها في
أيديهم يؤدي عنها كما تؤدي منها) (4).
ومنها: - رواية إبراهيم بن أبي زياد قال: (سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن الشراء من أرض الجزية؟ فقال: اشترها فإن لك من
الحق ما هو أكثر من ذلك (5).
241

ومنها - خبر حرير عن أبي (عليه السلام) قال: (سمعته يقول:
رفع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام): رجل مسلم اشترى أرضا من أراضي الخراج
فقال (عليه السلام) له ما لنا وعليه ما علينا، مسلما كان أو كافرا، له ما لأهل
الله وعليه ما عليهم) (1).
ومنها - رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي، عن رجل اشترى أرضا
من أراضي الخراج، فبني بها أو لم بين: غيره أن أناسا من أهل الذمة
نزلوها، أله أن يأخذ منهم أجرة البيوت إذا أدوا جزية رؤوسهم، قال:
يشارطهم، فما أخذ بعد الشرط، فهو حلال) (2).
ومنها - ذيل رواية صفوان - المتقدمة - الناطقة بعد النهي عنه بقوله
قلت: يبيعها الذي هو في يده، قال: ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثم
قال: لا بأس، اشتر حقه منها، وتحول حق المسلمين عليه، ولعله يكون
أقوى عليه وأملأ بخراجهم منه) (3).
وفيه - مع أن مورد جملة منها - بل أغلبها - أرض الجزية المحتمل فيها
لاجمالها كون الأرض ملكا لهم، وصولحوا على أنها لهم والجزية فيها على أعناقهم
وإن سميت بالأرض الخراجية لكون الخراج للمسلمين - كما في الجواهر - (4)
242

وإن كان فيه من البعد ما لا يخفى -:
أنها لا تدل على ملكيتها - مطلقا - حتى مع تجردها عن الآثار،
بل لعلها بعد التأمل يظهر كونها عند الشراء مشغولة بالآثار التي هي مملوكة
للبائع، - كما يومي إليه ذيل خبر صفوان - بناء على أن المراد من (الحق)
هو الآثار المبنية كيف - ومع التجرد عنها هو كغيره من المسلمين لا يملك
بالخصوص شيئا حتى ينقله إلى المشتري.
ولو سلم ظهور بعضها - ولو بالاطلاق - إلى ما كانت مجردة عن
الآثار فهو محمول على إرادة صورة الشراء، ولو بضرب من التسامح
بإرادة مجرد رفع ذي اليد يده عنها، دون الشراء الحقيقي المتوقف على تملك
البائع لها، إذ لا بيع إلا في ملك. ومثل هذا النحو من اليد يعبر عنه في
عرفنا - الآن - ب‍ (اللزمة) وليست هي يدا تفيد الملكية أو الاختصاص
إذ لا شئ له فيها حتى يوجب شيئا من ذلك.
حجة القول بتملكها - تبعا للآثار، فيجوز بيعها كذلك:
هو الجمع بين ما دل على المنع من الأخبار بحمله على بيعها مجردة
عن الآثار، وبين ما دل على الجواز بحمله على بيعها تبعا لها.
مضافا إلى دعوى السيرة القائمة بين الناس: خلفا عن سلف على
بيعها وشرائها، سيما الدور والعقارات، ووقفها مدارس ومساجد أو غيرها
غير وليس إلا لكون الأرض مملوكة لمالك الآثار بالتبع.
وفيه: إن هذا النحو من الجمع يتوقف على وجود شاهد له غير
موجود في المقام، ودعوى السيرة على ذلك على عهدة مدعيها، سيما في
الدور والعقار كالمزارع ونحوها.
والانصاف: إنه لا يستفاد من الأدلة - سيما بعد ملاحظة الأخبار الناهية
ومقتضى الأصول الأولية - أزيد من ثبوت حق الاختصاص والأولوية
243

بالتصرف في الأرض لمن له الآثار فيها، فإذا بيعت الآثار المملوكة لبايعها
لحق المشتري ما كان للبايع في نفس الأرض من حق الاختصاص والأحقية
بالتصرف.
هذا، ويشكل الحكم في الأوقاف العامة المبنية على الدوام، سيما في
المساجد لتعلق الغرض الأصلي في وقف المسجد بأرضها، وإن قلنا بملكية
الأرض تبعا للآثار الموجب لزوال الوقفية بزوالها الموجودة في الأراضي
المفتوحة عنوة، سيما فيما كان معلوما منها كأرض العراق فضلا عما لو قلنا
بعدم ثبوت غير حق الاختصاص فيها بترتب أحكام المسجدية - حينئذ -
في نفس الأرض، حتى مع وجود الآثار الني لم يتعلق الوقف - حينئذ -
إلا بها - خاصة - وهذا الالتزام من الشناعة بمكان كشناعة الحكم ببطلان
المساجد المبنية في العراق عند خرابها وزوال آثارها. مع أن السيرة القطعية
قائمة بين الخواص والعوام على بقاء الأوقاف - خصوصا المساجد - على
وقفيتها، وترتيب أحكام مسجديتها وإن زالت الآثار بجملتها.
فلا بد من توجيه ذلك بما ينطبق على ما ذكرناه من حكم المفتوحة
عنوة، فنقول:
أما بناء على بقاء الملكية التبعية في الأرض - بعد زوال الآثار -:
فواضح، وأما بناء على زوالها بزوال الآثار، فيمكن أن يوجه بوجوه:
الأول -: إن المساجد الموجودة في المفتوحة عنوة - مثلا - مما يشك
في كون أرضها بالخصوص كانت عامرة عند الفتح حتى يملكها المسلمون
والأصل يقتضي عدمه، وهو كاف في الحكم بدوام الوقفية، وإن زالت
الآثار. نعم، لو فرض - نادرا - تحقق العلم بذلك في أرض مسجد
- مثلا - فلا نمنع من انقطاع الوقفية بعد اندراس الآثار بالكلية، ولا يلزم
من الالتزام بذلك - لغاية ندرتها - شناعة ولا مخالفة للسيرة، إذ نمنع قيامها
244

على مثل ذلك - أيضا -.
الثاني - إن اليد النوعية عليه كاليد الشخصية بالنسبة إلى ما هي عليه
من الدلالة والأمارية والمساجد والمدارس ونحوها من الأوقاف العامة عليها
يد المسلمين نوعا فيحكم بمفادها كما يحكم بمفاد اليد الشخصية، بناء على
اعتبارها في إفادة الملكية المطلقة بالنسبة إلى ما كانت هي عليه في المفتوحة
عنوة - كما يأتي - بل اليد النوعية منتهية إلى اليد الشخصية، وهي يد
الواقف الممكن في حقه التملك على بعض الوجوه المصححة له.
الثالث - إن الملكية الكلية المرددة بين ما يقتضي دوامها، كما لو
كانت مواتا عند الفتح يملكها المحيي لها - دائما - لكونها للإمام عليه السلام
دون المسلمين، وبين ما لا يقتضي ذلك، كما لو كانت محياة عنده مستصحبة
وهي كافية في الحكم بالدوام، ضرورة أن الحكم بانقطاع الوقف بعد
زوال الآثار من أحكام الملكية المقيدة بها وجود أو عدما، دون مطلق
الملكية أو الملكية المطلقة.
غير أن هذا الوجه الأخير لا يتم على ما اخترناه من عدم ثبوت غير
حق الاختصاص في الأرض، إذ لا وقف إلا في ملك.
الأمر العاشر - لا إشكال في ثبوت كون الأرض من المفتوحة
عنوة، أو من العامر في وقتها بما يفيد العلم: من التواتر والشياع والقرائن
القطعية المفيدة له. وهل يثبت بما يفيد الظن من الأمارات الظنية كقول
المؤرخين وغيرهم؟.
وبعبارة أخرى: هل الظن يقوم مقام العلم وما بحكمه في ثبوت ذلك
أولا؟ ذهب جماعة - ومنهم شيخنا في الجواهر - إلى عدم اعتبار الظن هنا.
وذهب غير واحد - ولعله الأكثر - إلى اعتباره -
حجة المنع عن العمل بالظن: الأصل، وعدم الدليل عليه،
245

بل الدليل على عدمه من الكتاب والسنة، فيجب الرجوع - حينئذ - مع
عدم العلم أو ما في حكمه كالبينة - إلى ما تقتضيه الأصول المعتبرة.
وحينئذ، فما كان الشك في كونها من المفتوحة عنوة، أولا،
فمقتضى الأصل عدمه وعدم تحقق ما هو سبب الملكية للمسلمين. وإن كان
الشك في عمارتها عند الفتح بعد إحراز كونها منه. فإن علم كونها معمورة
قبل الفتح وشك في خرابها قبله أو بعده كان الحياة مستصحبة إلى ما بعده
فيكون للمسلمين، وإن لم يثبت به عنوان الموات بعده، لكونه من الأصل
المثبت، إذ الحكم المزبور مرتب على الحياة عند الفتح وإن لم يعلم ذلك،
سواء علم بعمارته وشك في تقدمها على الفتح أو حدوثها بعده أو لم يعلم بها
أصلا، وكانت محتملة، فالأصل يقتضي العدم.
لا يقال: إنا نعلم كون الأراضي منها ما هي عنوة وما بحكمها،
ومنها ما هي ليست كذلك واشتبه علينا وكان من الشبهة المحصورة من الكثير
في الكثير، فيجب الاجتناب عن جميعها، إذ لا مجرى للأصول في أطرافها
- على الأقوى - كما تقرر في محله. ومثله الشبهة في كونها عامرة أو غامرة
عند الفتح لعدم الابتلاء بجميع أطرافها بالنسبة إلى من يجري الأصل في
قطعه منها التي هي محل ابتلائه.
واستدل: في (الكفاية) على كفاية الظن مطلقا، وقيامه مقام
العلم بما نصه - في البلد المشكوك -: (فإما أن يجري عليه خصوص
حكم بلا أمر دال عليه أو أمارة ظنية، ففيه ترجيح حكم بلا مرجح،
أو يرجع فيه إلى الظن. وإذا بطل الأول تعين الثاني، وأيضا، إن كان
المظنون فيه أمرا كان خلافه مرجوحا، فإما أن يعلم فيه بالراجح أو
بالمرجوح أولا يعمل بشئ منهما. لا وجه للثالث، وهو ظاهر، ولا وجه
للعمل بالمرجوح، فتعين المصير إلى الأول) انتهى موضع الحاجة من
246

كلامه (1)،
وفيه: إن العمل بما تقتضيه الأصول ليس من الترجيح بلا مرجح،
فضلا عن كونه ترجيحا للمرجوح بل هو من العمل بالدليل الشرعي، واعتبار
رجحان الظن أو الكلام، سيما ومقتضى الأصل عدمه.
هذا، ولعل الأقوى في المقام ونحوه مما يتعذر العلم وما بحكمه من
البينة في تشخيص الموضوعات التي يترتب عليها الأحكام - الرجوع إلى
الظن الحاصل من أهل الخبرة في تشخيصها سواء كان الشك في مفهوم
الموضوعات أو في مصاديقها، فإن المرجع في ذلك العرف الخاص، كما
عليه بناء العقلاء في معرفة ما يتعلق به أغراضهم من ذلك، ومنه الظنون
الرجالية والحاصل من قول اللغويين.
وبرشد إليه صحيحة عمار الساباطي في معرفة المواقيت عن الصادق
عليه السلام، قال: (يجزيك إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والأعراب
عن ذلك) (2).
وكلمة (يجزيك) ظاهرة في كفاية الظن، إذ ما وراء العلم من شئ.
247

ويمكن أن يقرر الدليل بنحو أسد من ذلك بما يرجع إلى دليل الانسداد
وتقريره: هو انسداد باب العلم وما بحكمه في المقام لتطاول الزمان
وخراب العمران وعدم إمكان الرجوع إلى الأصل، للزوم المخالفة القطعية
- كثيرا - وعدم امكان تعطيل حكم تلك الأراضي، والعمل بالاحتياط
متعذر أو متعسر، فلا مناص عن العمل بالظن الحاصل من القرائن والآثار
القديمة وكلام السير والتواريخ المعتبرة والتدرج في العمل بالظن إلى الأقوى
فالأقوى كما هو جار في كثير من الموضوعات العامة البلوى التي انسد فيها
باب العلم وما بحكمه من البينة كموضوع النسب ونحوه.
والظاهر: عدم التعويل على ضرب الخراج، وإن عول عليه غير
واحد من الفقهاء لأن اعتباره إن كان من جهة حمل فعل المسلمين على
الصحة، ففيه: إنها منتفية بفساد أساسه - كما تقدم - فلا صحة حتى يحمل
عليها ودعوى وجوب الحمل على ما يوجب أخفية الفساد عن الدوران
بينه وبين الأشد والأفسد، لا دليل عليه.
وإن كان من جهة إفادته الظن، فالصغرى ممنوعة - بعد أن كان
الخراج مضروبا على الأراضي الخراجية وغيرها من الأنفال والتي صولحوا
عليها، على أن الأرض لهم والجزية في أعناقهم. ومنه يعلم أن المشكوكة
منها المحياة - فعلا - المردد حالها بين كونها خراجية أو مجهولة المالك أو
هي للإمام عليه السلام من تركة من لا وارث له، لدورانها في نفس
الأمر بين كونها من عامرة (المفتوحة عنوة) أو من غيرها، فملكها المحيي
لها، غير أنه مجهول المالك، إن كان هو أو وارثه موجود ألا نعلمه،
وإلا فهو ميراث الإمام لأنه وراث من لا وارث له، وإن دخل في أطراف
الشك كونها مما انجلى عنها أهلها، احتمل كونها للإمام من هذه الجهة
- أيضا - يرجع في أمرها إلى الحاكم، وإن كان عليها يد الجائر أو يد
248

من أخذها منه بالخراج، إذ لا يد له في الحقيقة عليها لكونها عادية في
الخراجية - أيضا - فلا يثبت كونها خراجية بقول ذي اليد، ولا بضرب
الخراج، لما عرفت. ويعمل فيها الحاكم: إما بالقرعة، لكونها لكل أمر
مشكل - وإن كان العمل بها مع عدم الجابر لها أشكل - أو يصرف أجرتها
فيما ينطبق عليه كل من العناوين المتقدمة.
نعم، لو كانت تحت يد مدعي الملكية لها حكم بها له، لليد،
لامكان تملكها بوجوه من الصحة، بل يحكم بكونها له، وإن علم كونها
من (المفتوحة عنوة) بعد إمكان فرض الصحة فيها على وجوه، منها
تملكه بالاحتساب عليه من الخمس أو الشراء من المستحق المحتسب عليه
خمسا، أو من طرف حصة الإمام المباح للشيعة، وغير ذلك.
الأمر الحادي عشر: يجوز للإمام عليه السلام - ومن يقوم مقامه
إقطاع شئ من أرض (العنوة) لبعض، ولا تخرج به عن كونها خراجية
لأن معناه كون خراجها له، لا خروجها عن الخراجية. وهل يجوز له
بيع شئ منها، وإن اقتضت المصلحة ما لم تبلغ نحو حفظ بيضة الاسلام؟
إشكال. والظاهر العدم، للأصل، وظاهر قوله (عليه السلام) - فيما تقدم (من
يبيعها وهي للمسلمين) لظهور كون السبب في انكاره (عليه السلام) كونها للمسلمين
لا كون البائع غيره، فإنه في قوة قوله (لا تباع) لكونها للمسلمين،
وقوله عليه السلام في مرسلة حماد المتقدمة له (فهي موقوفة متروكة بيدي
من يعمرها) (1) الظاهر في إرادة التأبيد والدوام وصرف الارتفاع في
مصالحهم ولزوم مراعاة الأصلحية عند تعارض المصلحتين، ومقتضاه العدم
- غالبا -.
249

تنبيه: ما تداول في عصرنا - الآن - في (دولة آل عثمان) من
بيع الأراضي الخراجية وغيرها، معبرين عنها ب‍ (الطاپو) يجعلونها في
ميدان المزايدة، ويعطونها لمن دفع الزيادة، ثم من بعده لأولاده الذكور
والإناث بالتساوي بينهم - ليس هو بيعا حقيقيا ولا تمليكا واقعيا، بل
إنما هو تفويض وتقبيل بالمقاسمة على الخمس من حاصلاتها. غير أنه
آلى علي نفسه السلطان أن لا يغير المتقبل ما دام حيا، ويقبل أولاده من بعده
ذكورا وإناثا، تقبيلا جديدا، قرره بهذا النحو على نفسه من أول الأمر
ولذا يسترد الصكوك المعبر عنها ب‍ (الأوراق الخاقانية) المدفوعة - أولا -
ويعطي أولاده - مطلقا كل واحد منهم ورقة خاقانية مستقلا مبينا فيها مقدار
سهمه بحسب التوزيع على رؤوسهم بالسوية، وكيفية التقبيل وكمية القبالة
منوطتان برائيه، فلا تمليك ولا تملك ولا إرث ولا ميراث، حتى ينكر ذلك
بمخالفتها لحكم الأراضي الخراجية وقواعد المواريث.
كما وقع الانكار من جماعة ممن لا خبرة له بحقيقة الأمر، وما يأخذه
من النقود - أولا - عند المزايدة ليس ثمنا - كما توهم - بل هو للتقديم،
في التقبيل ولعله يصرفه في محله - ليس علينا حسابه.
الأمر الثاني عشر: ولاية التقبيل والتسليط للإمام عليه السلام
فيقبلها ممن يشاء وبأي كيفية يشاء من الخراج - وهو الضريبة - بقدر
مخصوص من المال يأخذها من طرف أجرة الأرض أو بالمقاسمة، وهي
القدر المخصوص من حاصلاتها: من النصف أو الثلث أو الربع - مثلا -
وقد يطلق اسم (الخراج) على (المقاسمة) أيضا، ويأخذ القبالة
ويصرفها في المصالح العامة: وإن عين مدة فله أخذها من المتقبل بعد
انقضاء المدة وتقبلها من آخر بما يراه من كمية الخراج وكيفيته.
250

ويدل عليه - مضافا إلى أن له الرئاسة الكبرى، وهي من آثارها
وأحكامها -.
جملة من الأخبار التي منها - رواية صفوان، والبزنطي، قال:
ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج - إلى أن قال -: (وما
أخذ بالسيف فذلك للإمام يقبله بالذي يرى، كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله)
بخيبر، قبل سوادها وبياضها - يعني أرضها ونخلها - إلى أن قال -: إن
أهل مكة دخلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنوة وكانوا أسرى في يده، فأعتقهم
فقال: اذهبوا أنتم الطلقاء) (1):
ومنها - صحيحة البزنطي، وفيها: (وما أخذ بالسيف فذلك إلى
الإمام (عليه السلام) يقبله بالذي يرى، كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بخيبر، قبل
أرضها ونخلها..) الحديث (2).
ومنها - ما تقدم من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في أهل
العراق التي هي إمام لسائر الأرضين (3).
وبالجملة، فلا كلام في أن النظر وولاية التصرف في هذه الأراضي
بالأضل للإمام - عليه السلام - في زمان حضوره وبسط يده.
ومع عدمهما - كما في زمان الغيبة - ففي سقوط الولاية من أصلها،
فيجوز التصرف لكل أحد بلا توقف على الإذن، أو ثبوتها للنائب العام
إن كان مبسوط اليد متمكنا من التقبيل وصرف القبالة في وجهها، بناء
على عموم أدلة الولاية وكونه مفوضا إليه ما هو أعظم من ذلك كإقامة
251

الحدود. ومع عدم بسط يده فإلى السلطان - وبعبارة أخرى، لا بد من
الإذن في جواز التصرف من الحاكم مع بسط يده، وإلا فمن السلطان:
قولان: المشهور هو الثاني. بل في (الكفاية): القول به هو قضية
كلام الأصحاب (1). وفي (المسالك): في حكم هذه الأرضين في زمان
الغيبة: (وهل يتوقف التصرف فهذا القسم منها على إذن الحاكم الشرعي
إن كان متمكنا من صرفها في وجهها - بناء على كونه نائبا عن المستحق
مفوضا إليه ما هو أعظم من ذلك؟ الظاهر ذلك، وحينئذ فيجب عليه
صرف حاصلها في مصالح المسلمين. ومع عدم التمكن أمرها إلى الجائر
وأما جواز التصرف فيها كيف اتفق لكل أحد من المسلمين، فبعيد جدا
بل لم أقف على قائل به، لأن المسلمين بين قائل بأولوية الجائر وتوقف
التصرف على إذنه، وبين مفوض الأمر إلى الإمام العدل عليه السلام، فمع
غيبته يرجع الأمر إلى نائبه، فالتصرف بدونهما لا دليل عليه. وليس هذا
من باب الأنفال التي أذنوا - عليهم السلام - لشيعتهم في التصرف فيها
في حال الغيبة، لأن ذلك حقهم، فلهم الإذن فيه - مطلقا - بخلاف
المفتوحة عنوة، فإنها للمسلمين قاطبة ولم ينقل عنهم الإذن في هذا النوع)
انتهى (2).
واستدل عليه - أيضا - بدعوى غير واحد الاتفاق على وجوب دفع
الخراج إلى السلطان الذي هو بمنزلة العوض وأجرة الأرض، فإذا كان
له الولاية على العوض كان له الولاية على المعوض - أيضا -.
252

وذهب بعض إلى الأول، واحتمله في (الكفاية) بعد أن حكاه
عن بعض (1) واختاره في (المستند) ونسب القول به إلى ظاهر الشيخ
في (التهذيب) مستظهرا ذلك من عبارته فيه، وهي قوله: (وأما أراضي
الخراج وأراضي الأنفال والتي قد انجلى أهلها عنها، فإنا قد أبحنا - أيضا -
التصرف فيها ما دام الإمام مستترا) انتهى (2) وإن كان في الاستظهار
منها تأمل.
قلت: تنقيح المسألة هو أن يقال: إن ما كان منها تحت يد السلطان
وكان متوليا عليه، فيرجع إليه في التقبل ويدفع إليه القبالة على ما خارجه
عليه من الخراج والمقاسمة، إجماعا عليه - بقسميه - مع دلالة بعض المعتبرة
عليه، بل قيل بعدم جواز منعهما وجحدهما، بل صريح غير واحد دعوى
الاتفاق عليه - أيضا -.
253

وأما ما لا يدله عليه منها، فيرجع في التصرف إلى الحاكم مع بسط
يده. ومع عدمه: ففي جواز استقلاله بالتصرف، أو الرجوع إلى السلطان
وجهان، مبنيان على أن إمضاء الشارع لأعماله: هل هو للتقية وتسهيلا
لأمر الشيعة في انتفاعهم بها، فلا يجب إلا عند الضرورة التي تتقدر بقدرها
أو لتنزيله منزلة الإمام العادل، بعد تغلبه وقيامه بمنصب الإمامة عدوانا
في حفظ البيضة وحماية الحوزة، صيانة للدين وخوفا من تفرق كلمة
المسلمين، إلى أن يظهر من يبسطها قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا
ويرجع الأمر إلى أهله ويدور الحق على مركزه - عجل الله فرجه - كما
يشعر به سيرة علي - عليه السلام - وأصحابه مع الخلفاء. وعليه، فيجب
الاستئذان منه والرجوع إليه ولو مع التمكن من عدمه.
لا يقال: إنه - حينئذ - يجب تقديمه على الحاكم حتى مع بسط
يده - أيضا -:
لا نا نقول: الحاكم وكيل عن الإمام، فإذا فرض بسط يده،
كان كما لو كان الإمام - عليه السلام - مبسوط اليد. هذا بالنسبة إلى
التصرف في نفس الأرض. وأما في ارتفاعها فهو تابع لها في الابتناء
المذكور، فيجب دفعه إليه - على الثاني - وإن تمكن من عدمه ولا يجب
- على الأول - إن تمكن من ذلك. -
ودعوى الاتفاق على عدم جواز منعهما وجحدهما - لو سلمت - فمسلمة
بالنسبة إلى جحدهما بالكلية، لا بالنسبة إلى خصوص الجائر، ولو تنزلنا
فهي مسلمة بالنسبة إلى ما كانت تحت يده وخارجة عليها - لا مطلقا -.
وبالجملة، فالكلام في وجوب ذلك، وعدمه - أرضا وارتفاعا -
مبني على ما تقدم من وجهي إمضاء الشارع لأعمال السلطان.
هذا، ومقتضى التنزيل المتقدم عدم الفرق في المتغلب الجائر بين
254

المخالف والمؤالف من غير مدخلية اعتقاد حلية أخذ الخراج واستحقاق
الإمرة على المسلمين في ذلك، بعد أن كان المناط حفظ النظام وإعلاء
كلمة الاسلام.
ويحتمل قصر الحكم فيما خالف الأصل من إمضاء عمل الجائر على
الأول، اقتصارا فيه على القدر المتيقن ثبوته من الشرع، سيما ولم يكن
لغيره سلطان في زمن ورود الأخبار الآمرة بذلك، ومع تعدد ذي الشوكة
والسلطان، ففي التخيير بينهما أو التوزيع عليهما، أو تقديم المخالف منهما مع
التخالف للاحتياط، أو تقديم غيره، أو الأقوى منهما شوكة أو الأضعف
تقوية له، أو تعيين الدفع إلى من تقبل منه: - احتمالات، كلها - عدا
الأول منها - استحسانات ضعيفة.
ثم إن ها هنا - كلاما لشيخنا صاحب (الجواهر) لا يخلو عن تأمل
وهو أنه قال: (ثم إن مقتضى السيرة بين العوام والعلماء عدم وجوب
صرف ما ينفق حصوله من حاصلها في يد أحد من الشيعة - من جائر أو غيره
في زمان الغيبة في المصالح العامة، بل له التصرف فيه بمصالحه الخاصة، بل
قد يقال بحصول الإذن منهم في ذلك للشيعة من غير حاجة إلى رجوع إلى
نائب الغيبة، وإن كان الأحوط - إن لم يكن أقوى - استئذانه، والظاهر
أن له الإذن - مجانا - مع حاجة المستأذن، كما أن الظاهر حل تناوله من
الجائر بشراء أو اتهاب وغيرهما) (1) ثم قال بعد ذلك في شرح قول
مصنفة -: يصرف الإمام حاصلها في المصالح العامة.. الخ -: (وهل
تجب مراعاة ذلك إن حصل منها في يده في زمن الغيبة ولو بإذن نائبها
255

وجهان، أحوطهما ذلك، وأقواهما العدم، لظاهر نصوص الإباحة وللسيرة
المستمرة في سائر الأعصار والأمصار بين العلماء والعوام، بل قد تمكن
جملة من علمائنا كالمرتضى والرضي والعلامة - رحمهم الله - وغيرهم من جملة
منها، ولم يحك عن أحد منهم التزام الصرف في نحو ذلك، بل لعل المعلوم
خلافه من المعاملة معه معاملة غيره من الأملاك) انتهى.
قلت: وعبارته في المقامين كما ترى - صريحة في جواز صرف ما كان
من الخراج والمقاسمة في مصلحته الخاصة ومشعرة بعدم الرجوع إلى الجائر
في شئ من ذلك.
مع أن المصرح به في كلمات الأصحاب والمدلول عليه بالأخبار: اختصاص
صرفهما في خصوص المصالح العامة، بل لم أعثر على من اكتفى في مصرفهما
بمطلق المصلحة، وإن كانت خاصة مستدلا (يعني صاحب الجواهر قده)
على دعواه بنصوص الإباحة، وبالسيرة.
وفيهما نظر:
أما استدلاله بالأخبار، فإن أراد بن الاستدلال على جواز الاستبداد
بالتصرف في الأرض وخراجها من دون إذن بناء على أن ولاية التصرف
من حقوق الإمام عليه السلام وما كان لهم فقد أباحوه لشيعتهم.
ففيه إنها من وظائف الإمامة لا من الحقوق المالية حتى تتعلق بها
الإباحة. وإن أراد الاستدلال بها على جواز تناوله وصرفه في مصالح نفسه
ففيه أنه للمسلمين، فلا يكون مشمولا لأخبار إباحة ما هو لهم لشيعتهم.
وأما استدلاله بالسيرة، ففيه: منع قيامها على مدعاه، وكيفية عمل
المرتضى وغيره، غير معلوم لنا.
وكان الأحسن له أن يستدل على عدم تعيين الصرف في المصالح
العامة بجواز أخذ جوائز السلطان، ولو كانت من الخراج والمقاسمة، من
256

الصلات والهبات المدلول عليه بمنقول الاجماعات، بل كاد أن يكون جوازه
من الضروريات والمسلمات، مع كون نحو ذلك من العطيات من المصالح
الخاصة، حتى أن من نقل عنه الاحتياط والتوقف من ذلك لم يستند في
وجه ذلك إلا لكون الجائر غاصبا ويده يد عدوان، ولو كان متعينا صرفه
في المصالح العامة لكان الاستناد إلى كونه من صرف المال في غير مصرفه
وبذله لغير مستحقه أولى، وليس إلا لكون جواز التناول عندهم من المسلمات
ودعوى أن ذلك من باب (لنا المهنا وعليه الوزر) بعيدة جدا (1).
اللهم إلا أن يجاب عنها بما أشرنا إليه - سابقا - من كون اعطاء
الجوائز الذي هو من لوازم الرئاسة محسوبا من المؤن معدودا من المصالح
العامة، فهو من قبيل (الإذن في الشئ إذن في لوازمه).
وأما تمكن المرتضى والرضي وغيرهما من العلماء من تلك الأراضي
ومعاملتهم لها معاملة أملاكهم، فالظاهر أنها كانت من الاقطاعات التي
قد تقدم الكلام فيها، مع إمكان أن يكون على وجوه أخر من الصحة
فلا يصلح أن يكون شاهدا له على صحة دعواه.
الأمر الثالث عشر: يلحق بالعمران: حريمها ومرافقها، وإن
كانت مواتا لتبعيتها لها والحاجة إليها - كمطرح القمامة ومركض الخيل
ومرعى المواشي - بما لا يخرج في البعد عن العادة، ولعلها بحيث تسرح
في الغداة وتروح في العشي.
الأمر الرابع عشر: لو فتحت بلدة بالعنوة من سمت، وبالصلح
من سمت آخر - كما وقع على ما قيل - في زمان الثاني في بعض بلاد الشام
دخلها أبو عبيدة بالصلح من باب، وخالد بن الوليد بالعنوة من باب
257

آخر، وكل لا يعلم بما فعله الآخر، حتى التقى الفريقان عند كنيسة مريم
فرقة بالسيف، وفرقة بالأمان، فهل هي من المفتوحة عنوة أو صلحا؟.
لعل الظاهر أنها ليست من العنوة، لعدم تحقق تمامية الاستيلاء بها، ولا
عبرة بلوائح الفتح وعلاماته قبل أن تضع الحرب أوزارها، كما لا عبرة
بالكر والفر في الغلبة قبل ذلك، ويحتمل أن يكون المدار - حينئذ - على
ما فعله أمير الجيش.
الأمر الخامس عشر: في تعيين المفتوحة عنوة، وما أخذ بها -
وحيث لم تسعني المراجعة التامة إلى كتب التواريخ والسير، فلا جرم اقتصرت
في بيان ذلك على ما ذكره (الكركي في قاطعة اللجاج) لكونه مشتملا
على جملة من كلمات الأصحاب، وشطر من روايات الباب.
قال المحقق المذكور في (رسالته) (1): (اعلم، إن الذي ذكره
الأصحاب من ذلك مكة - زادها الله شرفا - والعراق والشام وخراسان وبعض
الأقطار ببلاد العجم. وقد تقدم في بعض الأخبار السابقة: أن البحرين
من الأنفال (2).
فأما (مكة): فإن للأصحاب في كونها فتحت عنوة أو صلحا
خلافا، أشهره أنها فتحت عنوة، قال الشيخ في (المبسوط): ظاهر
المذهب أن النبي (صلى الله عليه وآله) فتح مكة عنوة بالسيف، ثم آمنهم بعد ذلك،
258

وإنما لم يقسم الأرضين والدور، لأنها لجميع المسلمين قاطبة ومن النبي على
رجال من المشركين فأطلقهم، وعندنا أن للإمام عليه السلام أن يفعل
ذلك، وكذلك أموالهم من عليهم بها
وقال العلامة - رحمه الله - في (التذكرة): وأما أرض مكة فالظاهر
من المذهب أن النبي (صلى الله عليه وآله) فتحها بالسيف ثم آمنهم بعد ذلك. وكذا
قال في (المنتهى)، ونحوه قال في (التحرير). وشيخنا في (الدروس)
لم يصرح بشئ.
واحتج العلامة على ذلك: بما رواه الجمهور عن النبي (صلى الله عليه وآله): أنه
قال لأهل مكة ما تروني صانعا بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم
فقال: أقول لكم كما قال أخي يوسف لإخوته (لا تثريب عليكم اليوم
يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) أنتم الطلقاء. ومن طرق الخاصة:
بما رواه الشيخ عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر، قال:
(ذكرنا له الكوفة - إلى أن قال -: إن أهل الطائف أسلموا وجعل
عليهم العشر ونصف العشر، وإن مكة دخلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنوة،
وكانوا أسراء بيده فأعتقهم وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) (1).
وأجاب عن حجة القائلين بأنها فتحت صلحا - حيث أن النبي (صلى الله عليه وآله) -
دخلها بأمان - بما ورد في قصة العباس وأبي سفيان، وقوله (صلى الله عليه وآله) لأهل
مكة: (من ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن تعلق
بأستار الكعبة فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) إلا جماعة
معينيين وأنه (صلى الله عليه وآله) لم يقسم أموالهم ولا أراضيهم: بأنه - على تقدير تسليم
ذلك - إنما لم يقسم الأرضين والدور، لأنها لجميع المسلمين لا يختص بها
الغانمون، على ما تقرر: من أن الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين - قاطبة -
والأموال والأنفس يجوز أن بمن عليهم بها، مراعاة للمصلحة، لأن للإمام
259

أن يفعل مثل ذلك. وهذا قريب من كلام (المبسوط).
وأما أرض العراق - وهي التي تسمى ب‍ (أرض السواد) وهي
المفتوحة عنوة من أرض الفرس التي فتحت في أيام الثاني -.
فلا خلاف في أنها فتحت عنوة. وإنما سميت (سوادا) لأن الجيش
لما خرجوا من البادية ورأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سموها (السواد)
لذلك كما ذكره العلامة في (المنتهى والتذكرة).
قال في (المبسوط) - وهذه عبارته -: (وأما أرض السواد) فهي
الأرض المغنومة من الفرس التي فتحها (عمر) وهي سواد العراق. فلما
فتحت بعث عمر عمار بن ياسر: أميرا، وابن مسعود: قاضيا وواليا على
بيت المال، وعثمان بن حنيف ماسحا، فمسح عثمان الأرض. فاختلفوا في
مبلغها: فقال الساجي: اثنان وثلاثون ألف ألف جريب (1)،
وهي ما بين (عبادان والموصل (2)) - طولا - وبين (القادسية
260

وحلوان (3)) - عرضا - ثم ضرب على كل جريب نخل ثمانية دراهم،
والرطبة: ستة، والشجر: كذلك، والحنطة: أربعة، والشعير: درهمين
وكتب إلى عمر فأمضاه.
وروي: أن ارتفاعها كان في عهد عمر مأة وستين ألف ألف درهم
فلما ولي عمر بن عبد العزيز، رجع إلى ثلاثين ألف ألف في أول سنة،
وفي الثانية بلغ ستين ألف ألف، فقال: إن عشت سنة أخرى لرددتها
إلى ما كان في أيام عمر، فمات في تلك السنة.
وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام. ثم لما أفضى الأمر إليه أمضى ذلك
لأنه لا يمكنه أن يخالف ويحكم بما عنده.
والذي يقتضيه المذهب: أن هذه الأرضين وغيرها من البلاد التي
فتحت عنوة يكون خمسها لأهل الخمس، وأربعة أخماسها تكون للمسلمين
- قاطبة -: الغانمون وغير الغانمين في ذلك سواء، ويكون للإمام (عليه السلام)
التصرف فيها، وتقبيلها وتضمينها بما شاء) - هذه عبارته بحروفها -.
261

وقال في (المنتهى) - وهذه عبارته -: (أرض السواد هي الأرض
المفتوحة من الفرس التي فتحها عمر بن الخطاب، وهي سواد العراق وحده
في العرض: من منقطع الجبال: - ب‍ (حلوان) إلى طرف (القادسية)
المتصل ب‍ (العذيب) من أرض العرب. ومن تخوم (الموصل) طولا
إلى ساحل البحر ببلاد (عبادان) من شرق دجلة. وأما الغربي الذي تليه
البصرة، فإنما هو إسلامي مثل شط عمر بن أبي العاص - إلى أن قال -
وهذه الأرض فتحت عنوة فتحها عمر بن الخطاب، ثم بعث إليها بعد فتحها
ثلاثة أنفس: عمار بن ياسر على صلاتهم أميرا، وابن مسعود قاضيا
وواليا على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. وفرض
لهم في كل يوم شاة، شطرها مع السواقط لعمار، وشطرها للأخيرين،
وقال: ما أرى قرية تؤخذ منها كل يوم شاة إلا سرع في خرابها. ومسح
عثمان أرض الخراج، واختلفوا في مبلغها: فقال الساجي: اثنان وثلاثون
ألف ألف جريب، وقال أبو عبيدة: ستة وثلاثون ألف ألف جريب،
ثم ضرب على كل جريب نخل عشرة دارهم، وعلى الكرم ثمانية دارهم،
وعلى جريب الشجر والرطبة سبعة دارهم وعلى الحنطة أربعة دارهم، وعلى
الشعير: درهمين. ثم كتب بذلك إلى عمر فأمضاه. وروى: أن ارتفاعها كان
في عهد (عمر) مأة وستين ألف ألف درهم، فلما كان في زمن الحجاج
رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف، فلما ولي عمر بن عبد العزيز..)
ثم ساق باقي كلام الشيخ السابق بحروفه ما زاد فيه ولا نقص.
وكذا صنع نحوه في (التذكرة) - في باب الجهاد، وأعاد القول بفتح السواد
عنوة في باب إحياء الموات. ومثل ذلك صنع في كتاب الجهاد من (التحرير)
ولم يحضرني في وقت كتابتي (هذه الرسالة): هذا الموضع من
(كتاب السرائر) لابن إدريس لأحكي ما فيه. لكن - في باب أحكام
262

الأرضين من كتاب الزكاة - ذكر: أن أرض العراق مفتوحة عنوة،
وذكر من أحكامها قريبا من كلام الأصحاب الذي حكيناه.
وروى الشيخ باسناده عن مصعب بن يزيد الأنصاري - وأورده ابن إدريس - رحمه الله - في السرائر، والعلامة في المنتهى -: (قال استعملني
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أربعة رساتيق (1): المدائن (والبهقباذات) (2)
ونهر سير، ونهر جوبر، ونهر الملك (3)، وأمرني أن أضع على كل
جريب زرع غليظ درهما ونصفا، وعلى كل جريب وسط: درهما،
وعلى كل جريب زرع رقيق: ثلثي درهم، وعلى كل جريب كرم:
عشرة دراهم. وأمرني أن ألقي كل نخل شاذ عن القرى: لمارة
الطريق وابن السبيل، ولا آخذ منه شيئا. وأمرني أن أضع على الدهاقين
الذين يركبون البراذين ويتختمون بالذهب: على كل رجل منهم ثمانية
وأربعين درهما، وعلى أوساطهم والتجار منهم على كل رجل أربعة
263

وعشرين درهما، وعلى سفلتهم وفقرائهم: اثني عشر درهما على كل
انسان منهم. قال: وجبيتها (1) ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة).
قال الشيخ: توظيف الجزية في هذا الخبر لا ينافي ما ذكرناه: من
أن ذلك منوط بما يراه الإمام من المصلحة، فلا يمنع أن يكون أمير المؤمنين
عليه السلام رأى المصلحة في ذلك الوقت وضع هذا المقدار، وإذا تغيرت
المصلحة إلى زيادة ونقصان غيره، وإنما يكون منافيا لو وضع ذلك عليهم
ونفى الزيادة عليه والنقصان في جميع الأحوال. وليس ذلك في الخبر (2).
قلت: ومثله القول في الخراج منوط بالمصلحة وعرف الزمان - كما يأتي -
إن شاء الله. وهذا التقدير ليس على سبيل التوظيف، بل بحسب مصلحة الوقت.
واعلم أن الذي أوردته من لفظ الحديث: هو ما أورده الشيخ
- رحمه الله - في (التهذيب)، لكن، وجدت نسخة مختلفة العبارة في
ايراد (الرساتيق) المذكورة، فهي في بعضها: (نهر سربا) بالباء الموحدة
والسين المهملة المكسورة، و (نهر جوبر) بالنون والجيم المفتوحة والياء
المثناة من تحت بعد الواو المكسورة. وفي بعضها: (جوبر) بالجيم
والباء الموحدة بعد الواو المكسورة.
وقال ابن إدريس - بعد أن أورد الحديث في (السرائر) بعطف
(البهقباذات) على (المدائن) بالواو: (نهر سربا - بالباء المنقطة تحتها
نقطة واحدة، والسين غير المعجم، هي المدائن. والدليل على ذلك:
أن الراوي قال: استعملني على أربعة رساتيق ثم عد خمسة، وذكر المدائن
ثم ذكر من جملة الخمسة: نهر سربا، فعطف على اللفظ دون المعنى)
264

ثم شرع في بيان جواز مثل هذا العطف - إلى أن قال -: (فأما البهقباذات
فهي ثلاث: البهقباذ الأعلى، وهو ستة طساسيج) ثم ذكر أسماءها
واليقباذ الأوسط أربعة طساسيج - ثم ذكر أسماءها، والبهقباذ الأسفل خمسة
طساسيج - وصنع مثل ذلك. والذي وجدته في نسخ (التهذيب): (المدائن
البهقباذات) بغير واو (1) كما وجدت في نسخة (التهذيب)..
ثم ذكر كلاما لا حاجة لنا في نقله - ثم قال -: وأما أرض الشام،
فقد ذكر كونها مفتوحة عنوة بعض الأصحاب، وممن ذكر ذلك العلامة
في - كتاب احياء الموات من التذكرة - ولكن لم يذكر حدودها.
وأما البواقي، فقد ذكر حكمها قطب الدين الراوندي في (شرح نهاية
الشيخ)، وأسنده إلى (المبسوط)، وهذه عبارته: والظاهر على ما في
المبسوط - أن الأرضين التي هي من أقصى خراسان إلى كرمان وخوزستان
وهمدان وقزوين وما حواليها أخذت بالسيف.
هذا ما وجدته - فيما حضرني من كتب الأصحاب، والله أعلم
بالصواب -) (2) انتهى موضع الحاجة من نقل كلامه، رفع في الخلد
مقامه -.
هذا تمام الكلام في عامرة المفتوحة عنوة.
وأما مواتها: فهي للإمام عليه السلام على المشهور شهرة عظيمة،
بل الاجماع عليه مستفيض النقل. مضافا - إلى المعتبرة المستفيضة الدالة
265

على أن موات الأرض من الأنفال للإمام (1) وعمومها الشامل لموات
(العنوة) وغيرها. وإن كان معارضا بالعموم من وجه، لعموم أخبار
حكم (المفتوحة عنوة) من كونها للمسلمين عامرة كانت أو مواتا - إلا أنه
مرجح على عموم أخبار (العنوة) بالشهرة العظيمة والاجماعات المستفيضة. ثم إن مقتضى كون الموات - مطلقا - من الأنفال للإمام عليه السلام
يشكل الحكم بكون المحياة عند الفتح على إطلاقه للمسلمين، لأن ما كان
منها محياة بعد شرع الأنفال إلى وقوع الفتح كان إحياء لملك الإمام (عليه السلام)
- حينئذ - بغير إذنه وغاصبا في تصرفه، والمغصوب من الغنائم مردود
إلى صاحبه.
فلا بد في التخلص عنه من ارتكاب أحد المحاذير الثلاثة: إما بتخصيص
العام المحكوم بكونه للمسلمين بما كان عامرا قبل شرع الأنفال - كما اختاره
شيخنا في الجواهر، في الأنفال من كتاب الخمس (2) - ونفى عنه البعد
266

بعد أن احتمله الفاضل الجواد في (شرح اللمعتين)، أو بكون الاحياء
- مطلقا - من الأسباب المملكة لها إلى المحيي، أو بتخصيص ما دل على
كون المغصوب مردودا بغير المغصوب من الإمام:
والكل كما ترى، لا يمكن الالتزام بواحد منه.
أما الأول، فلعدم الاشعار به في شئ من الأخبار، وكلمات
الأصحاب، المشحونة كتبهم بجهل الميزان عندهم في كونه للمسلمين المحياه
عند الفتح وعدمه، لا قبل شرع الأنفال وبعده. ولم نعثر على من تفوه
بذلك عند ذكر أحكام (المفتوحة). بل اعترف بذلك شيخنا في
(الجواهر) في كتاب إحياء الموات (1). مع أنه يشكل فيما كان
مشكوكا عمارته بعد شرع الأنفال أو قبله - الحكم بكونه للمسلمين، لعدم
ثبوت العمارة قبله. سيما مع أصالة تأخر الحادث. فلا يثبت بها الموات
عند شرع الأنفال، حتى يحكم به للإمام، لأنها من الأصول المثبتة. فلا
يثبت بالأصل كل من العنوانين الوجوديين: المحياة قبل شرع الأنفال،
والموات عنده -. بل الأصل يقتضي عدم الأول، ولا يثبت به الثاني.
وأما الثاني، فلأن سببية الاحياء لتملك المحيي؟ مشروطة - نصا
وإجماعا - بإذن الإمام - عليه السلام - المفقود في المقام.
ودعوى كفاية الإذن العمومي المحقق بعمومات أخبار الاحياء.
فيها - أولا منع شمولها للكفار، لتقييد بعضها بالمسلمين، كصحيحة
الكابلي: عن الباقر (عليه السلام): (قال: وجدنا في كتاب على (عليه السلام): أن
267

الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي
الذين أورثنا الله الأرض، ونحن المتقون والأرض كلها لنا. فمن أحيى
أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله
ما أكل منها حتى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف، فيحويها ويمنعها
ويخرجهم منها كما حواها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومنعها
إلا ما كان في أيدي شيعتنا، فيقاطعهم على ما في أيديهم، ويترك الأرض
في أيديهم..) الحديث (1).
ولعل القيد - هنا - من القيود الاحترازية، كالواقعة في الحدود،
وموارد إعطاء القاعدة، فينزل عليها إطلاق الأخبار الواردة - مطلقا -
في سببية الاحياء للملكية.
وثانيا - توقفه على إذن الإمام في حال الحضور اتفاقي - كما ستعرف -
ولولاه لم يبق مورد لاعتبار إذن الإمام في سببية الاحياء، إذ لم ينفك
الإذن منه في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) المنقول عنه بعض تلك الأخبار.
وثالثا - لو تنزلنا وسلمنا، فيكون المعيار - حينئذ - في الحياة
والموات الموجبين لكونه للمسلمين أو للإمام: هو زمان صدور الإذن منه
بالاحياء، لا زمان الفتح ولا زمان نزول آية الأنفال. وهو - كما ترى -
من سخيف الأقوال.
268

وأما الثالث: فلأن المغصوب من مسلم أو مسالم مردود عليه،
فكيف بالمغصوب من إمام المسلمين؟.
واحتمال العطية منه - عليه السلام - للمسلمين بعد رد المغصوب إليه
فيكون تملكهم من الإمام - عليه السلام - بالعطية لا من الكفار بالعنوة.
يدفعه ظهور أخبارهم في النصوص بكونها لهم بالأصل لا بالعطية
منهم.
اللهم إلا أن يجاب عن الاشكال باليد بدعوى أن محياة الأرض عند
الفتح مما هي تحت يد الكفار محكومة بالملكية لهم باليد التي لم يفرق في
كونها إمارة عليها بين المسلم والكافر بعد إمكان الصحة بنحو من الوجوه
التي منها إحياؤها قبل شرع الأنفال، فإذا كانت عند الفتح محكومة لهم
بالملكية كانت بالفتح للمسلمين، وهو حسن، غير أن مفاده حكم ظاهري
لا يتمشى في مورد لو فرض العلم بحدوث عمارته بعد شرع الأنفال.
أو يجاب عنه بدعوى منع دخول الموات التي تحت يد الكفار المستولين
عليها في الأنفال حتى يشكل الخروج عنه باحياء الكفار لها بعد تقييد
الموات التي للإمام بما لا رب لها - كما يأتي -. ومقتضاه تنويع الموات
عند شرع الأنفال واختصاص نوع منها، وهو كل موات لا رب له،
بالإمام.
وفيه - مع أن الموات الأصلي لا تملك بمجرد الاستيلاء، ووضع
اليد عليها حتى لو كانت من المباحات إلا بالاحياء - كما يأني لذلك مزيد
توضيح إن شاء الله تعالى - أنه لم يقم دليل في خصوص موات المفتوحة
عنوة أنها منتقلة من الكفار إلى الإمام بالعنوة كالمحياة المنقولة منهم إلى
المسلمين بها، بل الحكم بكونها للإمام - عليه السلام - مستفاد من العمومات
الدالة على أن الموات له - بعد تقديمها على عمومات (المفتوحة عنوة)
269

للمسلمين، حيث كان التعارض بينهما بالعموم من وجه. ومقتضاه
- بعد الترجيح - أن ما كان للكفار من الأراضي وليس إلا المعمورة منها
منتقلة بالعنوة إلى المسلمين.
وأما الموات، فمن أصلها للإمام، وإلا كانت الأرض المفتوحة
بتسميها - محياتها ومماتها - للمسلمين بحكم عمومات أخبار العنوة. واحتجنا
في إخراج الموات منها إلى دليل خاص بالنسبة إليها بالخصوص. ومنه
يعلم أن المملوكة من الأراضي للكفار حينما كانت الموات من المباحات قبل
شرع الأنفال إذا عرض لها الموت بعده واستمر مواتا إلى وقت الفتح
كانت للمسلمين أيضا كالمحياة منها، وليست من الموات التي لا رب لها
حتى تكون للإمام، بل هي كذلك حتى لو ماتت قبل الأنفال بعد أن
كانت مملوكة عند شرعه، بناء على سببية الاحياء للتملك - مطلقا -
واختصاص الموات للإمام بما لا رب لها - مطلقا - ولو كان كافرا - فتأمل -.
ولا ينافي ذلك كلامهم المنزل على الغالب باختصاص المحياة عند
الفتح بالمسلمين - فافهم -.
وكيف كان، فالموات للإمام - عليه السلام - لا يجوز لأحد
التصرف فيها إلا بإذنه - عليه السلام - ويشترط في تملكها بالاحياء -
الإذن منه، إجماعا محكيا في ظاهر (التذكرة) و (التنقيح) وصريح
(الخلاف) و (جامع المقاصد) بل في (المسالك): دعوى الاتفاق
على اعتباره حال الحضور (1) - مضافا إلى الأصل وقاعدة حرمة التصرف
270

في مال الغير بغير إذنه، ومقتضاه المنع بدونه مطلقا ولو في زمان الغيبة.
نعم، يشكل ذلك بما ورد من أخبار إحياء الموات الدالة بظاهرها
على سببية الاحياء للتملك من دون توقف على شئ، وهي مروية عند
الفريقين مسلمة عند الطائفتين.
فمن طريق الجمهور: ما عن سعيد بن زيد: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:
(فمن أحيى أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق) (1). وما عن
عائشة: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أحيى أرضا ليست لأحد فهو
أحق بها) (2). وما عن سمرة: (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من
أحاط حائطا على أرض فهي له) (3).
ومن طرق الخاصة: ما رواه محمد بن مسلم: (في الصحيح عن
الباقر - عليه السلام - قال: أيما قوم أحيوا أرضا ميتة أو عمروها فهم
أحق بها وهي لهم) (4). وما عن السكوني: (عن الصادق عليه السلام
قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله): من غرس شجرا أو حفر بئرا لم يسبقه
أحد إليه أو أحيى أرضا ميتة فهي له قضاء من الله عز وجل ورسوله) (5)
وفي الحسن: (عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وفضيل وبكير وحمران
وعبد الرحمن ابن أبي عبد الله عن الباقر والصادق عليهما السلام: (قال قال
271

رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أحيى أرضا مواتا فهي له) (1) إلى غير ذلك.
وهذه الأخبار - كما تراها - ظاهرة في كون الاحياء سببا تاما في
الملكية، حتى أن بعض الأصحاب - بل لعل المشهور - لم يعتبر الإذن في
الغيبة، تمسكا بهذه العمومات.
وليت شعري، إن استفيدت السببية التامة منها كان اللازم عدم اعتبار
الإذن - مطلقا - حتى عند الحضور الذي هو زمن ورود هذه الأخبار،
وإلا فلا يسقط اعتباره بها في الغيبة.
فالقول بالتفصيل بين الزمانين ضعيف، إلا أن يقال باشتراط الإذن
في حال الحضور من جهة الاجماع المنقول في (الروضة) على اعتباره فيه
بالخصوص. وعليه يحمل إطلاق معقد غيره من الاجماعات. وبه تخصص
عمومات الأخبار.
هذا، ويحتمل - قويا - أن يقال: مفاد هذه الأخبار هو الترخيص
منهم بالاحياء: فالإذن منهم حاصل بها مدلولا عليه بدلالة الاقتضاء إن
لم نقل بالمطابقة أو التضمن، فهو على حد قول مالك الدار: (من دخل
داري فله كذا) المستفاد منه حصول الإذن بدخول الدار، فلا ينافي
اعتبار الإذن بالاحياء مطلقا في زمان الحضور والغيبة. غير أن الإذن منه
حاصل بهذه العمومات. فالإذن من الإمام معتبر - مطلقا - وهو حاصل
منه كذلك.
وبذلك يجمع بين أخيار الاحياء، وما دل على اعتبار الإذن: من
إطلاقات معاقد الاجماعات، وقاعدة حرمة التصرف في مال الغير بغير
إذنه.
لكن يشكل - حينئذ - من جهة أخرى، وهي أن الترخيص بالاحياء
272

الموجب للملكية المفروض حصوله من النبي (صلى الله عليه وآله)، مستلزم لنقض
الغرض من شرع الموات من الأنفال، المقصود به التوسعة في مال
النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام، ضرورة أن الأرض ما دامت ميتة لا ينتفع بها،
فإذا أحييت ملكها المحيى، فمتى يكون ذلك توسعة في ماله (عليه السلام)؟ وهو
مناف للغرض المقصود من تشريعه.
اللهم إلا أن يقال: إن الإذن الصادر من أحدهم - ولو بالعموم -
بنحو (من أحيى أرضا) لا ينفذ على الإمام الآخر، غير الصادر منه
ذلك. إذ ليس الإذن هنا وبيان الترخيص فيه من قبيل الأحكام الإلهية
المعلوم في بيانها أنهم لسان واحد، بل هو إذن مالكي في التصرف في ملكه
فإن انتقل الملك من أحدهم إلى آخر توقف التصرف فيه على إذن المنتقل
إليه ورضاه.
نعم، من أحيى في زمن الصادر منه الإذن بالاحياء بعد صدوره
منه، ملكها بالاحياء. وأما قبله، أو في زمان من لم يصدر منه،
فيحتاج إلى الاستيذان منه - عليه السلام -. وحينئذ لا تنفع العمومات
في زمان الغيبة، وإن استفيد الإذن منها، إلا إذا ورد نحوها من الحجة
- عجل الله فرجه -.
وحينئذ، فيبقى الاشكال في التملك به في زمن الغيبة. إلا أن يتشبث
للشيعة بأخبار التحليل، سيما بالنسبة إلى أراضيهم الواردة منهم في إباحتها
لهم - أخبار كثيرة، وغيرهم لا يملكونها بالاحياء، لفقدان الشرط وهو
الإذن بالنسبة إليهم، وإن وجب علينا ترتيب أحكام الملكية الظاهرية لهم
بالنسبة إلى ما هي تحت أيديهم مما أحيوها كغيره مما استحلوه من أمواله
- عجل الله فرجه -.
مع إمكان أن يقال في الجمع بين أخبار الاحياء، وما دل على توقف
273

التصرف في مال الغير على الطيب والرضا، وعموم سلطنة الناس على أموالهم
- بعد أن كان التعارض بينهما بالعموم من وجه - بوجه آخر. وهو منع
إفادة أخبار الاحياء التملك المجاني من دون أن يكون للإمام عليه السلام
فيه حق، فيكون للإمام عليه السلام فيه بحسب ما يقاطع المحيى عليها في
زمان حضوره وبسط يده، ومع عدمه فله أجرة المثل. ولا ينافي ذلك
نسبة الملكية إلى المحيى في أخبار الاحياء. وإن هي الاجارية مجرى كلام
الملاكين للفلاحين في العرف العام عند تحريضهم على تعمير الملك من عمرانها
أو حفر أنهارها وكرى سواقيها، فهي له، الدالة على أحقيته من غيره
وتقدمه على من سواه، لا على نفي الملكية من نفسه وسلب المالكية عن
شخصه. فالحصة الراجعة إلى الملاك المعبر عنها (بالملاكة) مستحقة له غير
منفية عنه، وإن أضاف الملك إليهم عند الترخيص والإذن العمومي، غير
أن الشيعة محللون بالنسبة إلى ما يرجع إلى الإمام مما يستحقه من أجرة المثل
أو حصة (الملاكة) ويشهد لما ذكرنا من الأخبار: صحيحة الكابلي المتقدمة
المتضمنة لتعلق الخراج والطسق للإمام عليه السلام في المحياة من أراضيهم
ممتدا إلى ظهور القائم بالسيف (1).
وصحيحة عمر بن يزيد، وفيها: (وكل ما في أيدي شيعتنا من الأرض
فهم محللون، كل ذلك حتى يقوم قائمنا، فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم
ويترك الأرض في أيديهم، وأما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من
274

الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض من أيديهم (1)،
ورواية يونس - أو المعلى -: (ما لكم في هذه الأرض؟ فتبسم
- إلى أن قال -: فما سقت - أو استقت - فهو لنا، وما كان لنا فهو
لشيعتنا) (2).
المقالة الثانية - في أرض الصلح.
ويعبر عنها ب‍ (أرض الجزية) وأرض الذمة. وهي كل أرض لهم
فتحت صلحا: إما على أن الأرض لهم والجزية فيها عليهم. وإما على
أنها للمسلمين، والجزية في أعناقهم.
فهي - بهذا الاعتبار - تنقسم على قسمين:
قسم منها - وقوع الصلح معهم على أن أرضهم لهم والجزية فيها
بحسب ما يصالحهم الإمام أو نائبه: من النصف أو الثلث أو غير ذلك
وله الزيادة والنقيصة، ولكن بعد انقضاء مدة الصلح، لأنه من الصلح
الجديد يتبع نظره فيه.
وهذه الأرض التي وقع الصلح مع أهلها كذلك، ملك لأربابها
يتصرفون فيها تصرف الملاك في أملاكهم، ليس عليهم منها شئ سوى
الضريبة المضروبة فيها بالصلح حتى الزكاة، لأن مقتضاه إقرارهم على أديانهم
ومعتقداتهم الذي منه عدم وجوب الزكاة عليهم.
والظاهر أن مواتها للإمام عليه السلام كموات (العنوة) إلا إذا اندرجت
275

في الصلح، فتكون لهم يملكونها بالاحياء. وحيث كانت الأرض مملوكة
لهم، جاز لملاكها بيعها وسائر النواقل فيها، لعموم السلطنة. وحينئذ،
فلو باعها من غيره كان الخراج على البائع منتقلا من الأرض إلى ذمته على
المشهور شهرة عظيمة. بل عن ظاهر (الغنية): الاجماع عليه (1) بل
كاد أن يكون مما لا خلاف فيه، إلا ما يحكى عن الحلبي حيث أوجبه
على المشتري لأنه حق على الأرض فيجب على من انتقلت إليه. وفيه منع
تعلقه بها مطلقا، ومن حيث هي، بل متعلق بها من حيث كونها للكافر
المطلوب منه الجزية المضروبة في نوع مخصوص من ماله، فإذا انتقل منه
انتفى التعلق، وموضوعه الخاص.
نعم، ربما يشهد له من الأخبار: صحيحة ابن مسلم عن أبي جعفر
عليه السلام: عن شراء أهل الذمة، فقال: (لا بأس، فيكون ذلك إذا
كان ذلك بمنزلتهم) ونحوها: أخرى مضمرة (يؤدي كما يؤدون) (2)
وخبر ابن شريح المتقدم - وفيه: (سألت أبا عبد الله عليه السلام
276

عن شراء أهل الخراج، فكرهه، وقال: إنما أرض الخراج للمسلمين
فقال: إنه يشتريها الرجل وعليه خراجها؟ قال: لا بأس إلا أن يستحي
من عيب ذلك) (1) بناء؟ على أن الوجه في الاستحياء المستثنى هو التشبه بهم
في اعطاء الجزية، فتكون قرينة على إرادة أرض الذمة من أرض الخراج
المسؤول عنه في صدر الخبر.
إلا أنها مع كون الثانية مضمرة موهونة باعراض الأصحاب عنها
- غير مكافئة لدليل المشهور: من الاجماع المعتضد بالشهرة العظيمة، بل
بدعوى غير واحد عدم الخلاف فيه إلا منه.
فلتحمل على ما لا ينافي ذلك من المحامل التي منها - إرادة الأراضي
الخراجية والترخيص في شراء آثارهم فيها، ومنها - الحمل على ما لو شرط
عليه ذلك، بناء على شمول أدلة الشروط له - ومنها - إرادة الإشارة
بقوله: (إذا كان ذلك في الأولى) إلى ظهور الحجة - عجل الله فرجه -
دون البيع والشراء - كما حكاه عن الوافي في مفتاح الكرامة -.
وفيه - أيضا - احتمال إرادة الاستحياء من الجائر بمطالبة الخراج
دون التشبه بهم في الجزية. وإن كان فيهما بعد -.
وعلى كل حال، فالحق ما عليه المشهور: من انتقال الخراج إلى
ذمة البائع - مطلقا - وإن كان المشتري من أهل الذمة، إذ لا يجب عليه
دفع الجزية عن الغير وتحمل جزيتين، وإن كان هو من أهل الجزية.
وإن كان في بعض العبارات تقييد ذلك بالمسلم، والاستدلال عليه بأنه
جزية، وهي منتفية عنه، إلا أن نظرهم في مقابل الحلبي المطلق، لكونه
على المشتري، لأنه حق على الأرض، فيجب على من انتقلت إليه،
هذا، ومثله في الانتقال إلى ذمة البائع في البيع: الانتقال إلى ذمة
277

المؤجر لو آجرها للغير، فإن الأجرة له والخراج عليه من غير خلاف
محقق إلا عن الحلبي فيه - أيضا - وهو على أصله: من أنه حق على
الأرض ولو في منفعتها، فيجب على من انتقلت إليه.
نعم في (الجواهر) حكى الخلاف فيه عن (التذكرة) و (التحرير) (1)
وإن كنا لم نتحققه ولعله لبعض نسخ الأول حيث فيها (ويجوز للمسلمين
استيجارها منهم لأنها ملك له. وتكون الأجرة والخراج عليه) (1) انتهى
مستشعرا من عطف الخراج على الأجرة المعلوم كونها على المستأجر.
وفيه: إن الظاهر سقوط لفظ (له) بعد (الأجرة) فيكون الخراج
على من له الأجرة، وهو الكافر المؤجر - كما في بعض النسخ المصححة -.
ويؤيده: ما في (المنتهى): (فإذا آجرها كانت الأجرة له والخراج
عليه) ومثله في (التحرير) (3) فلم يتبين منه القول بالتفصيل بين البيع
278

والإجارة.. بل قد يقال بأولويتها منه على القول بكون الخراج على البائع.
ثم ليعلم: إن مصرف هذا الخراج مصرف منقول الغنيمة - على
ما طفحت به عبارات الأصحاب، لكونه مأخوذا منه بنوع من (العنوة)
فيخرج منه الخمس - أولا - ثم يعطى الباقي للمجاهدين ولو كان مأخوذا
بالأقساط والدفعات، وفي زمن الغبية للمتشبهين بهم من الجند والعسكر
وحماة الثغور، لأنهم - اليوم - في الحقيقة بمنزلة المجاهدين في مصافهم في
قبال الكفار أو أقرب ما يكون إليهم. ولا أرى وجها للدفع إلى الفقراء
مع وجودهم - كما يظهر من السرائر - حيث قال: (وكان المستحق
للجزية على عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) المهاجرين دون غيرهم - على ما روي -
وهي - اليوم - لمن قام مقامهم مع الإمام في نصرة الاسلام والذب عنه
ولمن يراه الإمام من الفقراء والمساكين من سائر المسلمين) (1).
ولعله للأصل. وفيه أنه - لو سلم - فمقطوع بما رواه الشيخ في
الصحيح: (2) عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر - عليه السلام - قال:
سألت عن سيرة الإمام - عليه السلام - إلى أن قال -: إن أرض الجزية لا ترفع
عنهم الجزية إنما الجزية عطاء المهاجرين والصدقات لأهلها الذين سمى الله تعالى
279

في كتابه ليس لهم في الجزية شئ) الحديث. ومثله: صحيحة ابن أبي يعفور (1)
فإن الذين سماهم في آية الزكاة منهم الفقراء، وقد نص فيه على أنه
ليس لهم في الجزية شئ.
ولعله لذا قيده في (القواعد) بقوله: وما يؤخذ صلحا أو جزية
فهو للمجاهدين، ومع عدمهم لفقراء المسلمين) (2) انتهى وهو حسن.
هذا بالنسبة إلى الجزية المأخوذة عوض الصلح عن دفع القتال عن
أنفسهم.
وأما جزية المعاوضة، وهي المأخوذة على وجه المعاوضة لدخول
بلاد الاسلام حقنا لدمائهم وصيانة لأموالهم، فالقاعدة فيها مساواة المجاهدين
مع غيرهم، ولا وجه لاختصاصهم بها. وإن روي العطاء لهم على عهد
الرسول (صلى الله عليه وآله) فهو حكاية فعل لم بعلم منه الخصوصية لو فرض العلم
بكونه كان من القسم الثاني منها، ومورد الصحيحة المتقدمة هو القسم
الأول. ولعل اللام في الجزية، للعهد الذكري دون الجنس، فالجزية
المأخوذة من القسم الثاني راجعة إلى بيت مال المسلمين مصروفة في مطلق
مصالحهم غير مختصة بالعامة منها، إن لم يقم - كما هو الظاهر - دليل
خاص على اختصاصها بالمجاهدين
280

ومنه يظهر ما في (القواعد) من عطفه الجزية على الصلح - إن
أريد تغايرهما -.
وقسم آخر - وقوع الصلح معهم على أن تكون الأرض للمسلمين
ولهم السكنى والجزية في أعناقهم فهي بحكم (المفتوحة عنوة) بل هي منها
بلا خلاف أجده فيه - كما اعترف به بعضم - فيكون عامرها للمسلمين
- قاطبة - بعد إخراج الخمس منها، ومواتها للإمام عليه السلام، والجزية
للمقاتلة. ثم الظاهر عدم مشروعية الصلح الموجب لحقن الدم واحترام المال
مع غير أهل الذمة من الكافر الحربي، لعدم انفكاك الإباحة، بالنسبة إلى
دمائهم وأموالهم وعدم سقوطها إلا بالاسلام.
ومنه يظهر الوجه في تسمية هذه الأرض بأرض الجزية، كما عن
النهاية، والغنية، والوسيلة والمنتهى، والسرائر، والتذكرة، وقاطعة
اللجاج (1) وغيرها. بل عن الغنية، والروضة وموضع من (النهاية):
إن أرض الصلح هي أرض أهل الذمة. ولعل من أطلق العنوان بأرض
الصلح كالمحقق في (الشرائع) و (النافع) وغيره، اتكالا على المفروغية
عنه، دون التعميم.
نعم، لا تمنع إجراء حكم الصلح الصحيح في مرحلة الظاهر إذا
اقتضت مصلحة كلية بوقوع صورة الصلح معهم، فكيف عن دمائهم
وأموالهم مما شاة معهم في الظاهر، إجراء لاقتضاء المصلحة دون عقد الصلح
فلا يخرجون بذلك عن كونهم مهدورين في الواقع، وإن كانوا محفوظين
281

في الظاهر بسبب المصلحة. وهذا بخلاف الجزية الموجبة للحكم الواقعي
في حقهم ما داموا قائمين بشرائط الذمة.
ولعله إلى ما ذكرنا أشار المولى الأردبيلي - رحمه الله - في (شرح
الإرشاد بقوله: (هذا إنما يكون مع قوم يصح أخذ الجزية منهم
وتقريرهم عليها وعلى دينهم، وهو ظاهر، وإن فعل مثل ذلك بغيرهم
فلا يكون المأخوذ جزية، ويكون ذلك صلحا لمصلحة يعلمها صاحبها (1)
وعليه ينزل كلام شيخنا في (الجواهر) حيث قال - في وجه تسمية بعض
أرض الصلح بأرض الجزية -: (ولعل المراد: أنه الذي وقع من النبي (صلى الله عليه وآله)
وإلا فالظاهر من المصنف وغيره عدم الفرق بينهم وبين غيرهم، لعموم
أدلة الصلح، وليس ذلك من الجزية المختصة بأهل الكتاب، اللهم إلا أن
يدعى اختصاص مشروعية الصلح بهم كالجزية) انتهى (2).
وبعد تحرير هذه الكلمات عثرت على عبارة (المنتهى) وهي: (مسألة
إذا حاصر الإمام حصنا لم يكن له الانصراف عنه إلا بأحد أمور خمسة:
الأول - أن يسلموا - إلى أن قال -: الثاني - أن يبذلوا مالا، فإن كان
جزية، وهم من أهلها قبلت منهم، لقوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن
يد وهم صاغرون) (3) وإن لم تكن جزية بأن كانوا حربيين اعتبرت
المصلحة فإن وجد الإمام من المصلحة قبوله منهم، وإلا فلا) انتهى.
المقالة الثالثة - في أرض من أسلم أهلها - طوعا - كالمدينة المنورة،
والبحرين، وبعض بلاد اليمين - على ما قيل - بدعوة كان إسلامهم أو بدونها
282

فهي لأهلها مملوكة لأربابها، ليس عليهم فيها شئ إلا الزكاة - إذا
اجتمعت شرائطها - فلهم التصرف فيها بالبيع والشراء وغير ذلك من سائر
النوافل ما داموا قائمين بعماراتها من غير خلاف فيه كذلك. وإذا أهملوها
حتى خربت أخذها الإمام عليه السلام أو القائم مقامه ودفعها إلى من يعمرها
بحصة منها: من النصف أو الثلث - مثلا - ويأخذ القبالة ويدفع منها
طسقها (1) إلى المالك، والباقي في بيت مال المسلمين يصرف في مصالحهم.
أفتى بذلك جم غفير من أصحابنا المتقدمين والمتأخرين، بل في (قاطعة
اللجاج للكركي) وغيره: نسبته إلى المشهور (2). ومقتضاه البقاء على
ملك أربابها، خلافا لما عن ابني حمزة والبراج، حيث لم يوجبا دفع الطسق
لأربابها، ومقتضاه الخروج عن ملكهم. بل صريح كلاميهما: كونها - حينئذ - للمسلمين.
واحتجا - على ما في المختلف - بصحيحة معاوية بن وهب، قال:
(سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أيما رجل أتى خربة، فاستخرجها
وكرى أنهارها وعمرها، فإن عليه منها الصدقة، فإن كانت أرض رجل
قبله، فغاب عنها وتركها، وأخربها، ثم جاء - بعد - يطلبها، فإن
الأرض لله عز وجل ولمن يعمرها) (3).
283

وفيه: إن الرواية - كما ترى - أجنبية عن مدعاهما ظاهرة في تملك
المحيي لها من دون شئ غير الزكاة عليه. وأين ذلك من كونها للمسلمين
بصرف الإمام عليه السلام قبالتها في مصالحهم، فلتنزل على الموات من
الأصل أو المملوكة بالاحياء - بناء عليه - فيه كما يأتي في الخاتمة.
والأحسن: الاحتجاج لهما بما روى في (المختلف) و (قاطعة اللجاج)
عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر قالا: (ذكرنا له الكوفة
وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته، فقال: من أسلم طوعا
تركت أرضه في يده، وأخذ منه العشر مما سقت السماء والأنهار، ونصف
العشر مما كان بالرشاء فيما عمروه منها وما لم يعمر منها أخذه الإمام، فقبله
ممن يعمره، وكان للمسلمين وعلى المتقبلين في حصصهم العشر أو نصف
العشر).
وفي الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: (ذكرت
لأبي الحسن الرضا عليه السلام: الخراج وما سار به أهل بيته، فقال:
العشر أو نصف العشر فيما عمر منها، وما لم يعمر أخذه الوالي فقبله ممن
يعمره وكان للمسلمين، وليس فيما كان أقل من خمسة أوسق شئ،
وما أخذ بالسيف فذلك للإمام عليه السلام يقبله بالذي يرى، كما صنع
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بخيبر " (1).
والسؤال - وإن وقع عن أرض الخراج - إلا أن الإمام عليه السلام
أجاب - أولا - عن حكم أرض من أسلم طوعا، ثم أجاب عن (العنوة)
بعده. وظاهرهما إهمال عمارتها حتى زالت لا عدم تعميرها من أصلها حتى
تكون للإمام عليه السلام بقرينة الإضافة الدالة على الملكية لهم دون الإمام
284

وبقرينة كونها للمسلمين، مع أن الموات الأصلي مملوكة لمن أحياها، وعلى
المشهور، خلافا للحلي - فمنع من التصرف فيها بغير إذن أربابها مطلقا
حيث قال في (السرائر) - بعد نقل ما عليه المشهور -: عن الشيخ
أبي جعفر - (والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية، فإنها تخالف الأصول
والأدلة العقلية والسمعية، فإن ملك الانسان لا يجوز لأحد أخذه ولا
التصرف فيه بغير إذنه واختياره فلا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد)
انتهى (1).
وهو حسن على أصله، إلا أنه قول متروك - كما في الدروس - (2)
وغيره، محجوج بالأخبار المتضافرة التي ادعيت شهرتها. غير أنه ليس
في الخبرين المتقدمين دفع الطسق لأربابها، بل ولا صرف ما زاد عليه من
حق القبالة في مصالح المسلمين.
إلا أن بعضهم استدل على وجوب الأجرة إلى المالك بصحيحة الحلبي
المتقدمة، وفيها: (وعن الرجل يأتي الأرض الخربة الميتة فيستخرجها ويجري
أنهارها ويعمرها ويزرعها، ماذا عليه؟ قال: الصدقة، قلت: فإن كان
يعرف صاحبها؟ قال: فليؤد إليه حقه) القاضية بعدم خروجها عن
ملك صاحبها بالموت، إلا أن مفادها كون الأرض لمن عمرها. وإن
وجب عليه دفع الأجرة لمالكها الأول، دون توقف على تقبيل الإمام،
فلتحمل على الأحقية بها ما دام قائما بعمارتها.
وبالجملة، فالروايات مختلفة، وكلمات الأصحاب في المقام متشتة:
285

والذي يظهر لي منها: أن الأرض: إن كانت مواتا - بالأصل أو
بالعارض - ولم يعرف صاحبها، جاز لكل أحد إحياؤها والاقدام على
تعميرها، فإن عرف صاحبها دفع إليه الأجرة - مطلقا - أو إن كانت
مملوكة بغير الاحياء - على الخلاف الآتي - وليس عليه غيرها وغير الصدقة
شئ. وإن كان صاحبها معروفا أو كانت خراجية لا يجوز الاقدام عليه
بالاحياء، لكونه مالا مملوكا لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن مالكه. نعم
للإمام عليه السلام أو نائبه أخذها وتقبيلها ممن يعمرها بحصة منها وعليه
دفع الأجرة إلى صاحبها، لكونه أنفع للمسلمين، وإحسانا محضا و (ما
على المحسنين من سبيل) (1) وجمعا بين حق الملكية واخراجها عن العطلة
فإن ذلك ربما يكون من تضييع المال واتلافه.
والمراد بكونها للمسلمين في الخبرين المتقدمين: كونها لهم إحياؤها
وتعميرها، وإن توقف على التقبيل من الإمام عليه السلام أو نائبة أو نمائها
دون رقبتها. وحينئذ فإن دفعها الإمام لمن يعمرها بحصة مخصوصة دفع
منها الأجرة إلى مالكها إن زادت عليها. وكان الزائد في بيت مال المسلمين
لأنه - في الحقيقة - محيى لها بالولاية العامة وإن دفعها لا بحصة مخصوصة كان
على المعمر دفع ما يستحقه المالك من الأجرة إليه. ثم الأجرة المدفوعة للمالك
أجرة الأرض قابلة للتعمير لا أجرتها معمورة حتى يستحق المالك حق
القبالة كله لو كان التقبيل بحصة مخصوصة كالنصف والثلث - مثلا -
ولذا قلنا: ما زاد على الأجرة من حق القبالة يجعل في بيت المال.
ومقتضى الجمع المذكور: عدم اختصاص جواز تقبيل الإمام بأرض
من أسلم أهلها طوعا، بل يعم كل أرض خربة مملوكة لم يعمرها صاحبها
كما وقع التعبير بنحو الكلية المزبورة في كلام غير واحد من الفقهاء، فراجع.
286

وإن ظهر من بعض: اختصاص الحكم المزبور بأرض من أسلم طوعا
لخصوص مورد الخبرين. الأخص مطلقا من غيرهما من الأخبار، إلا أن
الظاهر عدم الفرق بين أراضي المسلمين من حيث هو كذلك كيف، ولو
اختص الحكم بها لزم أن تكون أرض من أسلم طوعا أسوء حالا من أرض
من أسلم كرها لخروجها عن مورد النص الموجب لبقائها تحت القاعدة الكلية
المانعة من جواز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه
هذا، والظاهر اعتبار عدم كون الترك عن الغفلة والنسيان أو خوف
الظالم، فضلا عما لو كان التعطيل لمصلحة الأرض، لعدم تبادر نحو ذلك
من إطلاقات النصوص، بل المتبادر منها غيره، كما لو كان عن عجز
أو مسامحة أو تعند أو نحو ذلك. خلافا - في بعض ذلك - لشيخنا في
(الجواهر) (1).
ثم الظاهر - أيضا - جواز ذلك للإمام - عليه السلام - لا وجوبه
عليه - كما وقع التعبير به في كلام بعضهم - أيضا -.
اللهم إلا أن يكون من باب: متى ما جاز وجب سياسة - كما احتمله
في الجواهر - بل استظهره من الخبرين، وبعض عباراتهم (2).
287

وفيه أن الأخذ والتقبيل فيهما لكونه في مقام توهم الحظر لا ظهور
فيه على أزيد من الجواز والإباحة.
والأولى: ابتناء الحكم المزبور من الجواز أو الوجوب - على الوجهين
المتقدمين تسويغ الإمام في التصرف من الاحسان، أو الحفظ من تضييع
المال واتلافه، فيجوز على الأول، ويجب على الثاني بل، عليه - حينئذ -
يجب على المالك التعمير أو الإذن به، ومع امتناعه عنهما، فعلى الإمام
أخذه وتقبيله من غيرهم.
ثم الظاهر: اختصاص ذلك بالإمام العادل. ويلحق به - في زمن
الغيبة - نائبه العام، بناء على عموم أدلة الولاية له. وأما الجائر فلا يجوز
له ذلك، اقتصارا فيما خالف الأصول والقواعد على مورد النص، فتأمل:
المقالة الرابعة - في أرض الأنفال.
وهي الأراضي المعدودة من الأنفال التي هي لله ولرسوله وللإمام القائم
مقامه، وخاصة له، دون قبيلته. وهي: كل أرض مفتوحة بغير قتال
ولا هراقة دم، بل من غير أن يوجف عليه بخيل ولا ركاب، سواء
أسلموها للمسلمين طوعا - وهم فيها - أو انجلوا عنها وتركوها. وكل
أرض هلك أهلها وبادوا - مطلقا: مسلمين كانوا أم كفارا - معمورة
كانت الأرض أم خربة - لأنه وارث من لا وارث له. والأرضون
الموات - سواء كانت مواتا بالأصل كالمفاوز أم بالعارض إذا باد أهلها
ولو كانوا مسلمين - بل: وكل أرض لا رب لها - مطلقا - ولو كانت
محياة بنفسها. والمراد بالموات: عطلتها: إما باستيلاء الماء عليها أو انقطاعه
عنها أو ظهور السبخ ونحوه فيها بحيث لا ينتفع بها - والحالة ذلك - وقد
مر الكلام فيها - مفصلا - في (المفتوحة عنوة).
والأرض المفتوحة من الكفار بغير إذن الإمام، بل مطلق المغنومة
288

منهم، كذلك، فإنه للإمام عليه السلام - على المشهور شهرة عظيمة،
وعن بعض حكاية الاجماع عليه. وهو الحجة، سيما بعد اعتضاده بما عرفت.
مضافا - إلى مرسلة الوراق - المنجبر ضعفها به وبالشهرة المستفيضة -
وفيها: (إذا غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام
عليه السلام فإذا غزوا بأمر الإمام (عليه السلام) فغنموا كان للإمام الخمس) (1)
وإلى الحسنة بإبراهيم بن هاشم عن معاوية بن وهب - المتقدمة في
المفتوحة عنوة (2). وقطائع الملوك، المعبر بها عن غير المنقول من أموالهم
التي اختصوا بها كالأراضي، وعن المنقول منها بالصوافي، وهي من
الأنفال - أيضا - ما لم يكن مغصوبا من مسلم أو مسالم فإن المغصوب
مردود إلى صاحبه.
والآجام - بالكسر أو الفتح، مع المد -: جمع أجمة - بالتحريك،
وهو الشجر الكثير الملتف والمراد: ذات الأشجار الكثيرة الملتفة، ونحوها
القصب، ورؤس الجبال، وبطون الأودية، دون ظهورها، والمرجع فيها
إلى العرف - مطلقا - ولو كانتا في غير ملك الإمام على المشهور - كما قبل -
خلافا للحلي ويأتي الكلام فيه.
ويدل على ذلك كله - بعد الاجماع المحكى صريحا في بعض منها،
مع عدم ذكر الخلاف في الباقي المؤذن به في الجميع -:
الأخبار المعتبرة المستفيضة التي منها - صحيحة إبراهيم بن هاشم -
أو حسنته - المروية في (الكافي) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الأنفال
289

ما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، أو قوم صولحوا، أو قوم أعطوا
بأيديهم، وكل أرض خربة، أو بطون الأودية، فهو لرسول الله وهو
للإمام من بعده يضعه حيث يشاء) (1).
ومرسلة حماد بن عيسى عن العبد الصالح - إلى أن قال -: (والأنفال
كل أرض خربة قد باد أهلها، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا
ركاب، ولكن صولحوا صلحا وأعطوا بأيديهم على غير قتال، وله
رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكل أرض ميتة لا رب لها، وله
صوافي الملوك مما كان في أيديهم من غير وجه الغصب، لأن الغصب
كله مردود، وهو وارث من لا وارث له..) (2).
وقول الباقر عليه السلام في خبر أبي بصير المروي عن علي (عليه السلام):
(لنا الأنفال، قلت: وما الأنفال؟ قال: منها المعادن والآجام وكل
أرض لا رب لها وكل أرض باد أهلها فهو لنا) (3).
وقول الصادق - عليه السلام - في خبر إسحاق بن عمار المروي عن
تفسير علي بن إبراهيم - بعد أن سأله عن الأنفال - فقال: (هي القرى
التي خربت، وانجلى أهلها، فهي لله وللرسول وما كان للملوك فهو للإمام
وما كان من الأرض الخربة التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وكل
290

أرض لا رب لها..) الحديث (1).
وما رواه الكليني: عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):
أنه سمعه يقول: (إن الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم
أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم، وما كان من أرض خربة أو بطون
الأودية، فهذا كله من الفيئ، والأنفال لله وللرسول، فما كان لله فهو
للرسول يضعه حيث يحب) (2).
وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (سمعته يقول:
الفيئ والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء وقوم صولحوا
وأعطوا بأيديهم، وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهو كله من
الفيئ، فهذا لله ولرسوله..) (3).
ورواية داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في حديث -
(قال: قلت: وما الأنفال؟ قال: بطون الأودية، ورؤوس الجبال
والآجام والمعادن وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وكل أرض
ميتة قد جلى أهلها، وقطائع الملوك) (4)
وموثقة سماعة: (قال: سألته عن الأنفال؟ قال: كل أرض
خرية أو شئ يكون للملوك فهو خالص للإمام (عليه السلام) ليس للناس فيه سهم
291

- قال -: ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب) (1)
وما رواه الشيخ عن داود بن فرقد: (قال قال أبو عبد الله:
قطائع الملوك كلها للإمام وليس للناس فيها شئ) (2)
ورواية محمد بن مسلم: (قال سمعته قال - وسئل عن الأنفال -:
كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل لله عز وجل نصفها يقسم
بين الناس، ونصفها لرسول الله فما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو
للإمام) (3)
إلى غير ذلك من الأخبار المنجبر ضعف بعضها سندا بالشهرة فتوى
ورواية.
والتقييد بالنصف محمول على التقية - كما في الحدائق - (4) و
(بالخربة) (5) في المرسلة، منزل على الغالب، وإلا فالأرض - مطلقا -
وإن كانت معمورة إذا باد أهلها من الأنفال - كما عرفت -.
وإطلاق جملة منها المتعلقة بالآجام وبطون الأودية ورؤوس الجبال
292

يعم ما كان منها في ملك الإمام وغيره، خلافا للمنسوب إلى ظاهر الحلي
في الثلاثة، فخصها بما إذا كانت في ملك الإمام. ورده في البيان بأنه يفضي
إلى التداخل وعدم الفائدة في ذكر اختصاصه عليه السلام بذلك لكن في
(المدارك) - بعد ذكره ما في البيان -: (إنه جيد لو كانت الأخبار
المتضمنة لاختصاصه بذلك على الاطلاق صالحة لاثبات هذا الحكم، إلا
أنها ضعيفة السند، فيتجه المصير إلى ما ذكره ابن إدريس الحلي، قصرا
لما خالف الأصل على موضع الوفاق) (1)
وفي (المختلف): (.. احتج ابن إدريس بأن الأصل إباحة ذلك
للمسلم وعدم تخصيص الإمام (عليه السلام) به، فلا يعدل عنه بمثل هذه الأخبار
الضعيفة. والجواب: المنع من أصالة الإباحة، بل الإمام أولى، لأنه
قائم مقام الرسول، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم..) (2) انتهى.
وقال الخال في (المناهل): (.. وأشار إلى هذا الأصل في
(المدارك) و (الذخيرة) بقولهما: يتجه المصير إلى ما ذكره ابن إدريس
- رحمه الله - قصرا لما خالف الأصل على موضع الوفاق. وقد يجاب عما
ذكره - أولا - بالمنع من الأصل المذكور عليه - كما في (المختلف)
293

بقوله: والجواب المنع، إلى آخر ما تقدم من كلامه - ثم قال -:
وفي حاشية (الروضة) بقوله - بعد الإشارة إلى ما ذكره في (المدارك):
وما ذكره من قصر الحكم المخالف للأصل على موضع الوفاق لا يخلو من
خفاء.
فإنه إن أراد: أن انتقال رؤوس الجبال إلى الإمام مخالف للأصل فيقتصر
فيه على موضع الوفاق - وهو ما كان في الموات والأرضين المملوكة
للإمام (عليه السلام) - ففيه: إن ذلك الأصل غير مسلم، لما عرفت: من
احتمال أن تكون الجبال والأودية دائما - للحجة في زمانه، وهو يأتي في
الآجام أيضا إذا كانت مستأجمة في الأصل. ولو سلم هذا، فإنما يتم في
ما كان أسلم عليه أهله طوعا. وأما المفتوحة عنوة، فكما أن الانتقال إلى
الإمام عليه السلام خلاف الأصل فكذلك الانتقال إلى المسلمين، وليس
بشئ موضع الوفاق فلا ترجيح للثاني على الأول.
وإن أراد: أن الأصل في رؤوس الجبال أن تكون تابعة للأراضي
التي هي فيها، فالحكم بها لغير صاحب الأرض مخالف للأصل فيقتصر فيه
على موضع الوفاق، ففيه - بعد تسليم الأصل المذكور: أنه ليس على هذا
موضع وفاق وقع فيه خلاف، إذ على ما اختاره، رؤوس الجبال تابعة
للأرض مطلقا وتكون لصاحبها، فلم تقع فيه مخالفة لذلك الأصل.
ويمكن اختيار الأول، بناء على تسليم الأصل المذكور، بأن يقال:
إن ذلك لترجيح قول ابن إدريس - رحمه الله - فيما أسلم عليه أهله طوعا
بأن فيه اقتصار الحكم المخالف للأصل، وهو اختصار الإمام على موضع
الوفاق، وأما ترجيحه في (المفتوحة عنوة) فكأنه باعتبار أمر آخر، وهو
موافقته لأصل تبعيتها للأصل، بخلاف قول المشهور، فإنهم يحكمون
فيهما بكونهما للإمام عليه السلام مع كون الأرض للمسلمين، فتدبر،
انتهى.
294

قلت: لا يخفى عليك مواقع النظر في ذلك:
أما ما ذكره في البيان: من الرد بالتداخل وعدم الفائدة، ففيه:
إن ذلك غير وارد على من لم يعمل بأخبار الآحاد كابن إدريس - رحمه الله -
المفروض عنده خلو المقام عن الأخبار المخرجة للحكم عن الأصل. نعم،
يرد ذلك على من يعمل بهذه الأخبار، ولو بمعونة جبر ما ضعف منها،
ويقول - مع ذلك - باختصاصها بما كان في ملكه. ولكن لم نعثر على
قائل منهم بذلك. على أن الفائدة كادت أن تكون معدومة في رؤوس
الجبال وبطون الأودية، لعدم انفكاكها - غالبا - عن الموات الموجب
لكونهما - حينئذ - للإمام عليه السلام والموجب بسبب الموت.
وأما ما وقع من (المختلف) في الجواب بالمنع من الأصل المزبور
بأولوية الإمام (عليه السلام) بالمؤمنين من أنفسهم، ففيه: إن ذلك لا يدل على
الملكية له (عليه السلام) وإن كان أولى بالتصرف فيه، فإنه أولى بالمؤمنين في
التصرف في أملاكهم من أنفسهم. بل لم نجد لما ذكره من وجه المنع
معنى محصلا.
اللهم إلا أن يريد به: إن الإمام عليه السلام ليس في مرتبة غيره
من آحاد المسلمين حتى يتمسلك عليه بأصالة الإباحة عند الشك في امتيازه
عمن سواه بالاختصاص.
وفيه: إن الحكم بالأولوية منبسط على المباحات والمملوكات - مطلقا -
فلا ينافي التمسك بالأصل لتعيين أحد النوعين، وإن كان الحكم بها يعمهما
ومنبسطا عليهما، فافهم.
وأما ما ذكره المحشي - رحمه الله - في الحاشية الجمالية: من احتمال
أن تكون الجبال والأودية - دائما للحجة (عليه السلام) في زمانه.
ففيه: إنا ننقل الكلام معه إلى أول زمان شرع الأنفال المدعى نقلها
295

إليه بالنفل، فإن الأصل عدمه.
وأما ما ذكره من قوله: وأما المفتوحة عنوة فكما أن الانتقال
إلى الإمام عليه السلام خلاف الأصل فكذا الانتقال إلى المسلمين.. الخ
ففيه: إن الشك في الانتقالين ليس في مرتبة واحدة، لأن الانتقال
إلى المسلمين فرع كونهما مملوكين للكفار قبل الاغتنام حتى ينتقل به إليهم
وكونهما للإمام فرع عدم كونهما لهم.
مضافا إلى أن ما ذكره من التفصيل في إجراء الأصل وعدمه بين
المفتوحة عنوة وأرض من أسلم عليها طوعا: بالأول في الثاني، والثاني
في الأول، مبني على تملك الكفار لهما حال الكفر قبل الاسلام أو الاغتنام
حتى يقال ببقائه على ملكهم وعدم انتقاله إلى الإمام عليه السلام في الثاني،
للأصل. ومعارضة الأصل بمثله بعد معلومية الانتقال منهم بالاغتنام في
الأول مع كون الدخول في ملكهم، والحال ذلك بمجرد وضع اليد عليها
من دون إحياء لهما - أول الكلام. بل مقتضى الأصل عدمه. ودعوى
معلومية الانتقال وعدم بقائهما على الإباحة الأصلية، وتدفعها معارضة أصالة
عدم الانتقال إلى الإمام عليه السلام بأصالة عدم الانتقال والدخول في
ملك الكفار، إذ هو أيضا مقتضى الأصل عدمه، فيجري فيه نظر
ما يجري في المفتوحة عنوة من تعارض الأصلين، فافهم.
وأما ما ذكره - أخيرا -: من التفصيل في معنى الأصل بإرادة
معناه الأول في أرض من أسلم أهلها طوعا وبمعنى الظاهر في المفتوحة
عنوة.
ففيه: أنه تفكيك ركيك. ولعله إليه أشار بالتدبر.
وبالجملة: فكلام ابن إدريس جيد، بناء على أصله: من عدم
العمل بأخبار الآحاد الموجب حينئذ للرجوع إلى الأصل، إلا أنه يجب
296

الخروج عن مقتضاه بتلك الأخبار الكثيرة المنجبرة ما ضعف سنده منها
بالشهرة المستفيضة الحاكمة باطلاقها على ما كان منها، ومن المستأجمة
بالأصل للإمام عليه السلام، ولو كان في ملك غيره ما لم يكن مملوكا
بالاحياء، أو مستأجمة في ملكه فإنه لمالكه.
هذا، وكلام ابن إدريس - رحمه الله - غير صريح فيما نسب إليه،
بل لعله غير ظاهر فيه، سيما بالنسبة إلى الآجام التي كاد أن يكون فيها
كالصريح في خلافه. ولذا عن (البيان): الاقتصار في نسبة الخلاف
إليه على الأولين دون الآجام، حيث قال في (السرائر) - في تعداد
أراضي الأنفال ورؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام التي ليست في
أملاك المسلمين، بل التي كانت مستأجمة قبل فتح الأرض والمعادن التي
في بطون الأودية التي هي ملكه، وكذلك رؤوس الجبال - (فأما ما
كان من ذلك من أرض المسلمين ويد مسلم عليه، فلا يستحقه الإمام
عليه السلام بل ذلك في الأرض المفتوحة عنوة والمعادن التي في بطون الأودية
مما هي له..) (1) انتهى
إذ لعل الظاهر من كلامه التفصيل في المعادن بين ما كان في ملك
الإمام عليه السلام كبطون الأودية ورؤوس الجبال، على أن تقييد البطون
في كلامه بالتي هي ملك الإمام (عليه السلام) من القيود التوضيحية، لا الاحترازية،
وكلامه في الآجام موافق لما عليه غيره. بل لعله المشهور من أنه مشروط
بما إذا لم تكن مستأجمة في ملك الغير، فإن المستأجمة كذلك مملوكة لمالكها ولا
أقل من الاجمال في كلامه.
وكيف كان، فلو فرض - ولو بالمحال العادي - أنه استأجمت
297

الأرض المملوكة أو استودت فهل تنتقل إلى الإمام عليه السلام، لاطلاق
ما دل على كونها من الأنفال، أو هي باقية على ملك مالكها، للأصل
مع انصراف المطلقات إلى ما كان كذلك بالأصل وقبل شرع الأنفال؟
وجهان، مبنيان على ما عرفت - إلا إذا كانت مملوكة بالاحياء وقلنا
بصيرورتها مواتا بذلك، فإنها تبنى على المسألة الخلافية الآتية في خروج
المملوكة بالاحياء بالموات عن الملكية وعدمه، وإن كان الأقوى عدمه
- كما يأتي -.
هذا، ولعل النزاع في غير الآجام من الثلاثة قليل الجدوى، لعدم
انفكاكها - غالبا - عن الموت الموجب لكونهما للإمام بذلك، بخلاف
الآجام التي قد يدعى أنها من المحياة لكثرة الانتفاع بأشجار ها وأخشابها
التي ربما لا تنقص عن جملة من المنافع التي تعد بها الأرض محياة: بل،
ولعل اطلاق بعض الأدلة يقضي بدخول غير الآجام من الثلاثة في ملك
الإمام عليه السلام وإن كانت محياة بنفسها، بل وما كان منها في المفتوحة
عنوة، تحكيما للاطلاق المزبور، على ما دل على ملكية المسلمين لعامرها
ولو بترجيحه عليه، بناء على تعارض العموم من وجه بينهما. بل قد
يقال بعدم المعاوضة بينهما، فضلا عن الترجيح، بناء على أن اطلاقات
المفتوحة عنوة للمسلمين مختصة بما كان مملوكا للكفار. وليس شئ من
ذلك للأدلة المزبورة داخلا في ملكهم حتى يملكه المسلمون بالاغتنام - كما
تقدم نظير ذلك في موات المفتوحة عنوة - فراجع.
بقي هنا إشكال: وهو إن مقتضى ملكية الإمام عليه السلام
لهذه الأراضي ملكية ما فيها من النباتات والأشجار بتبعية الأرض.
ومقتضاه عدم جواز تناول شئ من ذلك إلا بإذنه، مع أن بناء الناس
وسيرتهم جار على المعاملة مع هذه الأشياء معاملة المباحات الأصلية من
298

التملك بمجرد الحيازة بالاحتشاش والاحتطاب وترتيب آثار الملكية عليها
بالبيع أو الشراء، وغير ذلك من غير فرق بين كون الحائز من الشيعة أو
غيرهم، فلا يجدي التمسك بأخبار الإباحة والتحليل بالنسبة إلينا بالخصوص
في رفع الاشكال بعمومه، بل ذلك مقتضى ما ورد من قوله (صلى الله عليه وآله):
(الناس شركاء في ثلاثة: النار والماء والكلاء) (1) بل الظاهر منه سيما
مع عطف الكلاء على الماء المعلوم كونه من المباحات الأصلية: كون
الثلاثة باقية على الإباحة الأولية. بل قد يقال: لم نجد مصداقا لما يتحقق
معه الإباحة الأصلية من الكلاء والماء والنار المقصود منها - ظاهرا - الشجر
والحطب ولو مجازا، كيف وإباحة شئ من تلك فرع إباحة الأرض
النابتة فيها. وليس - عندي - من الأراضي ما هي باقية على إباحتها
الأصلية - بعد ما عرفت من تقسيم الأراضي وأحكامها -.
ودعوى استثناء ذلك من أدلة التبعية في خصوص ما ينبت في
أرض الإمام عليه السلام المختصة به بالإمامية، فيها من الوهن ما
لا يخفى.
فلا محيص عن الاشكال، إلا بما سنح بالبال وخطر في الخيال،
بدعوى إمكان: أن يقال - ولو للجمع بين الأدلة -: إن تلك الأشياء
- مع كونها مملوكة للإمام - يجب عليه - عليه السلام - بذلها للأنام كافة
كما يجب على المعيل بذل ماله لمن يجب عليه نفقته، حتى يكون جميع الناس
مطوقين له بطوق إحسانه متنعمين بسعة فضله وامتنانه ليكون له فضل
المنعم، ويستحق عليهم شكر المتنعم، وهو أتم للحجة وأوضح للمحجة،
فتلك - لسعة البذل وعمومه - بحكم المباحات الأصلية في تملك من سبق
299

إليها بالحيازة، فملكية الإمام لها نظير ملكية الله تعالى للأشياء التي لا تنافي
معها ملكية العباد.
لكن هذا الحكم لا يعم أمواله المختصة به، ولو بالإمامة، بل تختص
منه بما اشتد مسيس حاجة الناس إليه وتوقف ضرورة التعيش عليه كالنار
وللكلاء، فافهم واغتنم.
هذا تمام الكلام في أراضي الأنفال من حيث موضوعها
وأما حكمها: فهي للإمام عليه السلام - بعد النبي (صلى الله عليه وآله) -
القائم مقامه، فلا يجوز لأحد التصرف فيها إلا بإذنه، كما تقتضيه أصول
المذهب وقواعده - مطلقا - في زمان الحضور والغيبة، وجواز التصرف
في ذلك لنا في الثاني، لا لسقوط الإذن بالنسبة إلينا، كما لعله يظهر من
(المدارك) وغيره بل لحصوله منهم لنا بأخبار التحليل والإباحة لشيعتهم
وهو - في الجملة - مما لا خلاف فيه، وإن وقع الخلاف في مقدار ما
حللوه: فمنهم من أفرط في ذلك، وعمم الحكم بالإباحة والتحليل لمطلق
ما للإمام عليه السلام حتى الخمس، فأسقطه في زمان الغيبة، إلا أنه
قول متروك، رماه غير واحد بالندرة والشذوذ (1) ومنهم - من خصه
300

بخصوص المناكح والمساكن والمتاجر المقصود منها - ظاهرا - ما يشتري
بالتجارة من الأموال التي فيها الخمس من الظلمة، كما عن العلامة في كتبه
وعن (الحدائق): نسبته إلى المشهور (1).
ولعل الأقوى: اختصاصه بمطلق الأنفال دون الخمس، جمعا بينها
وبين ما دل على وجوب دفعه والحث على اخراجه وإيصاله إلى أهله،
أو خصوص الثلاثة منها. وتفصيل الكلام فيه موكول إلى محله في
كتاب الخمس.
وكيف كان، فالأراضي التي هي من الأنفال يجوز لنا التصرف فيها
بالزراعة وغيرها من غير توقف على التقبيل من الجائر، بل، ومن الحاكم
- أيضا - وإن كان نائبا للإمام، وقلنا يعموم ولايته لحصول الإذن من
مالكه الحقيقي. وبذلك يفترق حكمها عن حكم الأراضي الخراجية التي هي
للمسلمين من المفتوحة عنوة.
هذا بالنسبة إلى ما كان منه في أيدينا. وأما ما كان في أيدي غيرنا
فهو عليهم حرام لعدم الإذن به منهم، وفي جواز انتزاعه من أيديهم مع
الأمن الضرر: وجهان: من أنه مال الإمام عليه السلام في يد من
لا يستحق وظالم له في تصرفه وغاصب له في قبضه، ومن أن المستحق
لانتزاعه هو الإمام فيتوقف على أمره غير أن ما يأخذه الجائر باسم الخراج
والمقاسمة مما كان في أيدي غيرنا من الأنفال جاز لنا أخذه منه - بلا إشكال -
لأنه للإمام عليه السلام، وقد أباحه لنا.
نعم ما يأخذه باسم ذلك مما هو في أيدينا، ففي جواز أخذه منه،
301

وعدمه: وجهان: مبنيان على كون المأخوذ باسم ذلك من المتقبل منا
مملوكا لكونه بالإباحة والتحليل مستحقا للأرض مجانا بلا أجرة عليه، أو
هو للإمام عليه السلام، فيكون الجائر غاصبا منه، دون الزراع، وإن
أبيح له الأجرة لو تسلط عليه. ولعله يأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء
الله تعالى.
هذا، وقد يسبق إلى الذهن في المقام إشكال، وهو: إن غاية
مفاد أخبار التحليل والإباحة، جواز التصرف فيما هو للإمام عليه السلام
من الأنفال دون التمليك، مع قيام الاجماع على ترتيب آثار الملكية عليه
من البيع والشراء وسائر النواقل ووطء الأمة وعتقها المتوقفين على
الملكية.
ويدفعه - مضافا إلى إمكان دعوى أن يقال بدخوله - آنا ما - في
ملكه عند إرادة وقوع شئ ومن ذلك كالمعاطاة، بناء على المشهور: من
إفادتها الإباحة.
أنه لم لا يجوز أن يكون في أول مرتبة الانتقالات من الفضولي - مع إجازة
المالك، بناء على صحته - مطلقا - ولو مع وقوعه لنفسه كبيع الغاصب
مع إجازته؟.
وأما جواز وطء الأمة المغنومة لمن اغتنمها، فمن باب التحليل،
فتأمل.
أو يقال: إن عدم إفادة الإباحة أزيد من جواز التصرف لكونه
المتيقن منها دون التمليك الذي مقتضى الأصل عدمه لأنها أعم منهما،
والعام لا يدل على خصوص الخاص، مسلم في الإباحة المجردة عن قرينة
التمليك دون المحفوفة بها: من التعليل بطيب الولادة ونحوه الظاهر فيه،
302

سيما مع ما ورد من قوله عليه السلام (ما هو لنا فهو لشيعتنا). (1)
الظاهر - ولو بمعونة اللام - في الملكية.
لكن قد يقال: إن التمليك لا بد وأن يكون بأحد الأسباب المملكة
شرعا، وليست الإباحة منها.
وقد يجاب عنه بأن السبب المملك شرعا - هنا - هو اليد بالأخذ
والتناول في مورد الإباحة الكلية من المالك، كالأخذ بقصد التملك في
مورد الاعراض والتناول من نثار الأعراس، فيكون بحكم المباحات المملوكة
لمن سبق إليها بالحيازة، فتأمل (*)
أو يقال: بأن الإباحة المطلقة الشاملة لجميع التصرفات مرداة لملكية
العين، بل الإباحة الخاصة مرتبة من مراتب الملكية لها - أيضا - غير أنها
مرتبة ضعيفة من جهة اختصاصها بالجهة الخاصة فالملكية التي هي بمعنى
السلطنة المتعلقة بالعين، إن اشتدت قوتها بحيث أحاطت بجميع التصرفات
فيها عبر عنها بملك الرقبة، للإحاطة المزبورة، وإن اختصت ببعض
الجهات دون بعض عبر عنها بملك المنفعة، وأضعف منها مرتبة ملك
الانتفاع.
فللملكية من حيث الشدة والضعف والأضعف مراتب ثلاثة:
وجه التأمل: هو أن ذلك إن تم فلا يتم فيما كان الاغتنام الذي هو
لتملك الإمام حاصلا بنفس الأخذ، ضرورة تأخير تملك المغتنم في المرتبة عن تملك الإمام
بالاغتنام المسبب عنه. اللهم إلا أن يقال: إن التقدم بالعلية لا بالزمان فتأمل (منه
قدس سره). (*)
303

يعبر عن الأولى - اصطلاحا - بملك العين، وعن الثانية بملك المنفعة
وعن الثالثة بملك الانتفاع.
ومن ذلك: ملكية الزوج لبضع الزوجة ودخول بضع الأمة المحللة
في ملك اليمين بعد حظر التحليل في قوله تعالى: (إلا على أزواجهم
أو ما ملكت أيمانهم) (1) والأمة المحللة ليست بزوجة - قطعا - فهي
مملوكة للمحلل له من جهة خصوص الانتفاع ببضعها. ولا ينافي ذلك
كونها باقية على ملك مالكها المحلل المبيح، ولعلك تقف على مزيد توضيح
لذلك في مسألة المعاطاة.
تذنيب: فيما يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة الذي قد عرفت
معناهما من الأراضي وباسم الزكاة من الأنعام وغيرها وما يؤخذ منه من
ذلك من الجوائز أو بالبيع والشراء وغير ذلك.
فنقول: لا اشكال في براءة ذمة المتقبل من الجائر بدفع القبالة
إليه، بلا خلاف أجده بل الاجماع - بقسميه - عليه.
ويدل عليه - مضافا إلى ذلك -: الأخبار المستفيضة الدالة على صحة
التقبيل منه، وإن كان هو آثما في قبضه، لأنه غير مستحق له لكونه
وظيفة الإمام العادل المتولي لأمور المسلمين.
وبذلك يخرج عن القاعدة التي لولاها لكان مقتضاها عدم تعيين
المقبوض أجرة ومقاسمة لفساد القبض والقسمة لكونه غاصبا ظالما فيهما،
فيبقى المقبوض على ملك مالكه، ويجب - حينئذ - دفع ما عليه من القبالة
لمن يستحق القبض منه، وهو الإمام العادل (عليه السلام) المتولي لمصالح المسلمين
إلا أن الحكم بالبراءة مدلول عليه بالاجماع والسنة المستفيضة الكاشفين عن
304

إمضاء الشارع لتعيينه خراجا للأرض.
كما لا اشكال - بل لا أجد خلافا معتدا به - في جواز أخذ شئ
من ذلك منه بالبيع أو الشراء وسائر الانتقالات: من الصلات والهبات،
لا لأخبار الإباحة والتحليل - كما توهم - إذ هي أخص من المدعى لظهورها
في خصوص ما هو ملكهم كالأنفال، فلا تعم ما هو لغيرهم، ولهم
الولاية عليه، كخراج المفتوحة عنوة التي هي للمسلمين، بل لتحقق الإذن
بذلك منهم بالمستفيضة من الروايات ومحكي الاجماعات.
فمن الأولى - صحيحة الجذاء، عن أبي جعفر عليه السلام قال:
(سألته عن الرجل منا يشتري من السلطان، من إبل الصدقة وغنمها،
وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم، فقال:
ما الإبل والغنم إلا مثل الحنطة والشعير، وغير ذلك، لا بأس به حتى
يعرف الحرام بعينه فيتجنب. قلت: فما ترى في متصدق يجيئنا، فيأخذ
صدقات أغنامنا، فنقول: بعناها، فيبيعنا إياها، فما ترى في شراء ذلك
منه؟ فقال: إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس قيل له: فما ترى في
الحنطة والشعير يجيئينا القاسم. فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فنأخذه بكيل
فما ترى في شراء ذلك منه؟ فقال: إن كان قد قبضه بكيل وأنتم حضور
فلا بأس) (1).. الحديث
305

الظاهرة - بل الصريحة - في جواز شراء ما لم يعلم أنه الحرام بعينه
من المقبوض زكاة أو خراجا المتعين كونه كذلك بالقبض، ولو بمعونة
إمضاء الشارع له، وأن الحرام هو القدر الزائد عليه، فيكون باقيا على
ملك مالكه، يجب الاجتناب عنه وعن المشتمل عليه بحيث لا يفرز أو
المشتبه به بالشبهة المحصورة مع الابتلاء بأطرافها.
والمناقشة فيها - أولا - بأخصيتها من المدعى لاختصاصها - أولا -
بالشراء فلا يعم غيره من النواقل، وثانيا، بالزكاة لامكان أن يكون
المشتري مستحقا لها، وثالثا - بأن تعليق الجواز ونفي البأس فيها على عدم
معلومية الحرام مشعر بالمنع عنه مطلقا، بعد أن كان المأخوذ - ولو قدر
الحق الواجب - حراما بالاجماع. ولعل العدول عنه إلى التعبير بذلك
وللاجمال في البيان للتقية.
ضعيفة جدا، لأنه إن تم في الشراء أو الزكاة، تم في غيرهما من
النواقل والحقوق بعدم القول بالفصل - كما قيل - مع ظهور لفظ (القاسم)
في ذيلها في المقاسمة، سيما مع سبق حكم الزكاة في قوله (إلا مثل الحنطة
والشعير) ووقوع التعبير عنه ب‍ (المصدق) فيكون (القاسم) غيره.
ولا أقل من الاطلاق، بل العموم المستفاد من ترك الاستفصال وظهور
إرادة الزائد على الحق الواجب عليه من الحرام الواقع غاية في قوله (حتى
تعرف الحرام بعينه) وهو المخصوص فيها بالمنع عنه، دون الحق الواجب
وإن كان حراما على الآخذ آثما في أخذه مضمونا عليه ببدله ممنوعا عن
التصرف في ثمنه، فلا إجمال حتى يشعر بالتقية، ولا موجب للحمل عليها.
بل ظاهرها - سؤالا وجوابا وتقريرا من الإمام -: كون الجواز بالنسبة
إلى المقبوض مقدار الحق مفروغا عنه. وإنما وقع السؤال عما يعلم قبضه
أكثر من الحق لشبهة اندراج الزائد في المبيع بل مقتضى نفي البأس عن
306

الشراء المسبب عن حلية المأخوذ به، ولو بقرينة قوله (حتى تعرف
الحرام بعينه (عدم الفرق بينه وبين غيره من النواقل، لوجود المناط،
وهو الحلية. فاندفع به أيضا دعوى اختصاص الجواز بالشراء، اقتصارا
فيما خالف الأصل والقواعد على القدر المتيقن وهو الشراء دون غيره - كما
عن بعض -.
وبالجملة: فالصحيحة كالصريحة: في أن جهات الأسئلة فيها
هي: أولا - عن الجواز مع العلم الاجمالي بحصول الحرام في أيدي العمال
وثانيا من جهة توهم الحرمة أو الكراهة في شراء ما يخرج في الصدقة،
كما ذكر في باب الزكاة. وثالثا - من جهة كفاية الكيل الأول في بيع
المكيل والموزون، وكون أصل الجواز مفروغا عنه، وإلا كان هو أولى
بالسؤال عنه (*).
307

ومنها - موثقة إسحاق بن عمار) قال: (سألته عن الرجل يشتري
من العامل، وهو يظلم؟ قال: يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه
أحدا) (1) لظهور السؤال عن الشراء من العامل في شراء ما هو عامل
فيه من الحقوق التي يقبضها عن السلطان. ولا أقل من العموم المستفاد
من ترك الاستفصال.
وبه يندفع توهم السؤال عن شراء أموال الظلمة - كما عن الشيخ
إبراهيم القطيفي (2) - فيكون المراد بالظلم المنسوب إلى العامل هو أخذه
الأكثر من الحق الواجب دون أصل الحق، وإلا لم ينفك العامل عن الظلم
- حينئذ - فيكون سياق الرواية سياق الصحيحة المتقدمة، سؤالا وجوابا
في صدرها.
ونحوه الخبر الموصوف بالصحة، وفيه: (أشتري من العامل الشئ
أعلم إنه يظلم؟ فقال: اشتر منه) (3)
بل، وبترك الاستفصال المفيد للعموم يستدل عليه باطلاق النصوص
المجوزة للشراء من الظلمة، نحو المرسل كالصحيح: (أشتري الطعام
308

فيجيئني من يتظلم يقول: ظلمتني؟ فقال: اشتره) (1).
اللهم إلا أن يدعى في نحو الأخير كون الاطلاق مسوقا لبيان حكم آخر
ومنها - الحسن: (ما يمنع ابن أبي سماك أن يخرج شباب الشيعة
فيكفونه ما يكفيه الناس ويعطيهم ما يعطي الناس قال - ثم قال لي -: لم
تركت عطاءك؟ قال قلت مخافة على ديني، قال: ما منع ابن أبي سماك
أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أن لك في بيت المال نصيبا) (2).
وقال جدي في (الرياض) - بعد ذكره الرواية -: ما هذا لفظه:
(وهو - مع حسنه واحتمال صحته - واضح الدلالة من حيث تجويزه - أولا -
لشباب الشيعة أخذ ما يعطي الحاكم الناس المعينين له، ومن جهة ما يعطون
وجوه الخراج والمقاسمة، وثانيا - للراوي أخذ العطاء من بيت المال الغالب
فيه اجتماع وجوههما فيه لندرة الزكوات، فإن لها أربابا مخصوصة يعطون
من دون احراز لها فيه، فاحتمالها فيه ضعيف وأضعف منه احتمال الوجوه
الموصى بها أو المنذورة للشيعة. فالمناقشة في الدلالة بما مر ضعيفة) انتهى (3).
309

بل في (قاطعة اللجاج) للكركي - بعد ذكرها -: (هذا نص في
الباب، فإنه - عليه السلام بين للسائل حيث قال: إنه ترك أخذ العطاء
للخوف على دينه - بأنه لا خوف عليه، فإنه إنما يأخذ حقه حيث أنه
يستحق من بيت المال نصيبا، وقد تقرر في الأصول تعدي الحكم بالعلة
المنصوصة) (1) انتهى.
إلا أن المقدس الأردبيلي بالغ في الانكار على المحقق المذكور في دلالتها
وأظهر العجب منه حيث قال: (والعجب أنه قال في المنفردة: هذا نص
في الباب - إلى آخر عبارته المتقدمة - ثم قال: وأنا ما فهمت منها دلالة ما
كيف وغاية دلالتها ما ذكره، وذلك قد يكون من بيت مال يجوز أخذه
وإعطاؤه للمستحقين، مثل أن يكون منذورا أو وصية لهم بأن يعطيه ابن
أبي سماك أو غير ذلك، ولا يقاس عليه الخراج الذي أخذه الظالم باسم
الخراج ظلما، لأنه ما علم صيرورته خراجا بحيث يجوز لكل أحد الأخذ
منه بإذنه لا بدونها، كما هو المدعى - نعم لو صار المأخوذ خراجا يجوز
للمولى إعطاء المستحق نصيبه الذي فيه، إن علم العلة وجواز حصته من
المال المشترك لبعض الشركاء، كل ذلك غير ظاهر فيما نحن فيه) انتهى
موضع الحاجة من كلامه.
قلت: الانصاف أن الرواية ظاهرة في المطلوب، لا بمثابة النص
فيه - كما في الرسالة - ولا أجنبية عنه - كما ادعاه المقدس المزبور - والذي
أوقعه في ذلك، بل تكرر في كلامه: هو عدم تعيين المقبوض عنده باسم
الزكاة والخراج زكاة وخراجا حتى تترتب عليه صحة الشراء أو أخذ المستحق
له من بيت المال لعدم قبض المتولي له، وهو الإمام عليه السلام وإن فرق
310

- أخيرا بين الشراء وغيره، نظرا إلى تحقق العوض العائد إلى بيت المال
فيه، بخلاف ما لم يكن له عوض كالهبة ونحوها، فإنه يصير كالتضييع
وأنت خبير بما فيه أولا - لظهور الأخبار في تعيين ما يؤخذ باسمهما
زكاة وخراجا، سيما الصحيحة المتقدمة وأخبار تقبيل الأراضي. وثانيا - بلزوم
خروجه عن القاعدة - أيضا - في تصحيحه الشراء بالأخبار الآمرة به،
والتفرقة بينه وبين غيره بما ذكر أوهن من بيت العنكبوت. إلا أن يقال
بالاقتصار على القدر المتيقن فيما خالف القواعد.
نعم، قد يدعى ظهور اختصاص الرواية بالزكاة، لأن الزكاة من
الحقوق التي يتعلق بها نصيب أغلب الناس من ذوي الحاجة، وهي في
بيت المال، وإلا فالخراج لا يتعلق بها وهي كذلك إلا نصيب من يكون
الدفع إليه من المصالح العامة كالغزاة والقضاة وصاحب الديوان ونحو ذلك.
ولم نعلم كون الراوي منهم، بل الظاهر تجنبه عنهم للخوف على دينه.
وحملها على خصوص المنذور، أو الموصى به للشيعة كما احتمله المقدس
- بعيد جدا كدعوى ندرة الزكاة في بيت المال وعدم الاحراز فيه - كما
تقدم من (الرياض) تبعا لصاحب (الحدائق) - ويكون - حينئذ - لوم
الإمام عليه السلام لابن أبي سماك: في عدم إخراج شباب الشيعة، عدم
إخراجهم بالعمالة في جمع الزكاة ليكون لهم منها سهم العاملين. اللهم إلا أن
يكون تعلق النصيب في خراج الأنفال وما هو للإمام عليه السلام من الخمس
الذي أباحوه لشيعتهم، فيكون تعلقه باعتبار ذلك، بل ويمكن صدق التعلق
بخراج (العنوة) باعتبار اعتياد دفع العطايا والجوائز للناس منها بعلاقة
الأول والقوة القريبة.
ومنها - الأخبار الواردة في جواز تقبل الخراج من الأراضي والرؤوس
التي: منها: ما عن الصدوق في (الفقيه): (في الصحيح عن إسماعيل
311

ابن الفضل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يتقبل بخراج
الرجال وجزية رؤوسهم وخراج النخل والآجام والمصائد والسمك والطير
وهو لا يدري لعل هذا لا يكون أبدا، أو يكون، أنشتريه وفي أي زمان
نشتريه ونتقبل منه؟ فقال: إذا علمت من ذلك شيئا واحدا قد أدرك
فاشتره وتقبل به). وظاهرها كون أصل الجواز مفروغا عنه وإنما وقع
السؤال عن غيره.
ومنها - موثقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام):
(في الرجل يتقبل بجزية رؤوس الجبال وبخراج النخل والآجام والطير، وهو
لا يدري لعله لا يكون..) (1) الخبر المتقدم بأدنى تفاوت. وهي كالأولى
في كون السؤال من حيث إنه لا يدري أنه يكون من ذلك شئ أم لا.
ومنها - صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في جملة حديث -
(قال: لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض وأهلها من السلطان وعن مزارعة
أهل الخراج بالربع والنصف والثلث؟ قال: نعم لا بأس به، وقد قبل
رسول الله (صلى الله عليه وآله) خيبرا أعطاها اليهود حين فتحت عليه..) الخبر (2)
ومنها - رواية الفيض بن المختار: (قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
جعلت فداك ما تقول في الأرض أتقبلها من السلطان ثم أواجرها من
أكرتي على أن ما أخرج الله تعالى منها من شئ لي من ذلك النصف أو
الثلث بعد حق السلطان؟ قال: لا بأس، كذلك أعامل أكرتي) (3).
312

إلى غير ذلك من الأخبار الصريحة في صحة التقبل الموجبة لانتقال
الخراج إلى المتقبل ودخوله في ملكه مطلقا ولو كان الخراج ثابتا في الذمة
المشعرة بكون حكم تصرف الجائر في هذه الأراضي بحكم تصرف الإمام
العادل فيها، ولو بامضاء ذلك منه (عليه السلام) لمصلحة هو أعرف بها.
ومنها - ما روى في الصحيح عن جميل بن صالح، قال: (أرادوا
بيع تمر عين أبي زياد، وأردت أن أشتريه، فقلت: لا، حتى استأمر
أبا عبد الله (عليه السلام)، فسألت معاذا أن يستأمره، فقال: قل له: يشتره،
فإنه إن لم يشتره، اشتراه غيره) (1).
واستدل به المحقق الكركي في (رسالته) على حلية الخراج والمقاسمة
تبعا لما حكاه عن العلامة - رحمه الله - في (المنتهى) في ذلك (2).
وهو مبني على كون عين أبي زياد من الأراضي الخراجية، كما لعله
يعطيه ما حكي عن (الوافي) بعد ذكر الخبر في باب المتاجر: أبو زياد
كان من عمال السلطان إلا أنه من المحتمل - قريبا - كون الضيعة المزبورة
313

كانت لأبي عبد الله وغصبت منه، كما يشعر به ما رواه ثقة الاسلام في
(الكافي - في باب نادر آخر أبواب الزكاة): (عن يونس - أو غيره -
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: بلغني أنك تفعل في غلة عين
زياد شيئا، فأنا أحب أن أسمعه منك، قال: فقال: نعم، كنت آمر
إذا أدركت الثمرة أن يثلم في خيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلون،
فكنت آمر في كل يوم أن توضع عشر بنيات يقعد على كل بنية عشرة كلما
أكل عشرة جاء عشرة يلقى لكل نفس منهم مد من رطب، وكنت آمر،
لجيران الضيعة كلهم: الشيخ والعجوز والمريض والصبي والمرأة ومن لا يقدر
يجيئ، فيؤخذ لكل السان مد فإذا كان الجذاذ فوفيت القوام والوكلاء والرجال
أجرتهم، واحمل الباقي إلى المدينة، ففرقت في أهل البيوتات والمستحقين
الراحلتين والثلاثة والأقل والأكثر - على قدر استحقاقهم - وحصل لي بعد
ذلك أربعمائة دينار، وكان غلتها أربعة آلاف دينار).
ولا ينافي فيه إضافة الضيعة إلى أبي زياد - في الأول - وإلى زياد -
في الثاني - فإن مثل هذا التجوز - كثير - كما قيل - فيكون استئماره منه
- عليه السلام - لكونها له. ولعله لذلك لا يخلو الاستدلال به على المطلوب
من وهن.
ومنها - صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج: (قال قال لي: أبو الحسن
عليه السلام: ما لك لا تدخل مع علي في شراء الطعام، إني أظنك ضيقا
قلت: نعم، وإن شئت وسعت علي، قال: اشتره) (1) بناء على قوة
احتمال كون الطعام المشترى من الحقوق المضروبة على الأراضي والزراعة
واحتمال كون اللام فيه للعهد والمعهود من غيرها لعله ضعيف.
314

وكذا استدل به في (التذكرة) على جواز تناول ما يأخذه الجائر
باسم الخراج والمقاسمة. وتبعه عليه في ذلك الكركي في (رسالته) (1).
إلى غير ذلك من الأخبار التي يشرف الفقيه بملاحظتها وانضمام بعضها
إلى بعض - على القطع بالمسألة.
مضافا إلى الاجماعات المحكية التي: منها - ما حكاه جدنا العلامة
في (المصابيح) حيث قال: (ما يأخذه الجائر من الغلات باسم المقاسمة
ومن الأموال باسم الخراج في أراضي الصلح، والأراضي المفتوحة عنوة
وباسم الزكاة مما فيه الزكاة، في حكم ماله يجوز ابتياعه منه واتهابه، وكذا
سائر المعاوضات وإن لم يرض المالك، باجماع علمائنا ورواية أصحابنا) (2).
وما وقع حكايته مكررا من الكركي - رحمه الله - في (رسالته)
ومن السيد جدنا في (الرياض) مستفيضا حيث قال - بعد ذكره فتواه
في ذلك -: (والأصل في المسألة - بعد عدم الخلاف في الطائفة والاجماع
المستفيض حكايته في كلام - جماعة -: المعتبرة المستفيضة) انتهى (3).
بل في (المسالك) دعوى إطباق العلماء حيث قال: (.. إلا أن
ما يأخذه الجائر في زمن الغيبة قد أذن أئمتنا عليهم السلام في تناوله منه
315

وأطبق عليه علماؤنا لا نعلم فيه مخالفا وإن كان ظالما في أخذه) (1) انتهى.
وفي (الجواهر): (لا خلاف معتدا به في جواز شرائه منه وقبول
هبته ونحو ذلك مما يقع على المملوك حقيقة) ثم حكى الاجماع عن غير
واحد (2). ولعل التقييد في نفي الخلاف إشارة إلى مخالفة الأردبيلي
- رحمه الله - تبعا للشيخ إبراهيم القطيفي.
وفي (الحدائق): (المسألة الثانية: أنه لا خلاف بين الأصحاب
- رضي الله عنهم - في أن ما يأخذ الجائر باسم المقاسمة والخراج من
الأراضي والغلات وما يأخذه باسم الزكاة من الأنعام والغلات ونحو ذلك
يجوز شراؤه وقبول اتهابه، بل ظاهر كلام جملة من الأصحاب دعوى
الاجماع على ذلك، ولم أقف على مخالف في الحكم المذكور إلا المحقق
الأردبيلي - رحمه الله - في (شرح الإرشاد) وقبله الفاضل الشيخ إبراهيم
ابن سليمان القطيفي أصلا، الحلي مسكنا) انتهى (3).
بل يظهر لمن تتبع فناوى الأصحاب المحررة في كتبهم والمحكية عنهم
316

بالحل وجواز التناول من الجائر إنه من البديهيات عندهم حيث أرسلوه
إرسال المسلمات من دون ذكر خلاف في المسألة مع أن ديدنهم التعرض
للأقوال النادرة في المسائل الخلافية وإلى قضاء ضرورة التعيش ومسيس الحاجة
إليه بحيث كاد أن يكون التكليف بالتجنب عنه من التكليف بما لا يطاق، ولا
أقل من استلزامه العسر والحرج المنفيين آية ورواية، وحرمان الشيعة من حقوقهم
المتعلقة بتلك الأموال المجعولة في أيديهم وتحت سلطنتهم مع عدم الوسيلة
لهم للوصول إليها إلا بهم، ومقتضاه - كما هو مقتضى إطلاق النصوص
والفتاوى بل إطلاق معقد الاجماعات المحكية - عدا الأول منها -: عدم
الفرق في الخراج المأخوذ من أرض الأنفال المختصة بالإمام عليه السلام
وغيرها مما هو للمسلمين كأرض الصلح والمفتوحة عنوة، مع احتمال
الاختصاص بالثاني، اقتصارا على المتيقن من إمضاء تصرفات الجائر
وعمله، والمغصوب من الإمام عليه السلام كالمغصوب من آحاد المسلمين
أو التفصيل في المأخوذ منه ذلك بين الشيعة وغيرهم لكون الأرض - في
الأول - مفروضة بلا أجرة عليه بحكم الإباحة منهم لشيعتهم، بخلاف
الثاني، فإنه يجوز لنا أخذه، إما لكونه أجرة الأرض المفروض كونه
للإمام عليه السلام - أو تقاصا عن الأجرة الثابتة في ذمته.
ثم إن مقتضى الصحيحة المتقدمة وغيرها (1) الظاهرة بل الصريحة
في تعيين ما يقبضه الجائر من المالك باسم الزكاة من الأنعام والغلات
زكاة - ولذا أجاز شراءه منه وإلا كان غصبا باقيا على ملك مالكه
الموجب لعدم جواز شرائه قطعا - سقوطها عن المالك وبراءة ذمته عن
أدائها مرة أخرى - كما هو أحد القولين أو الأقوال في المسألة -. بل
أخذ الجائر ذلك منه المتوقف على قسمته معه بحكم العزل المعين كون
317

المعزول زكاة، بل هو منه حقيقة فإذا أخذه الجائر أخذ ما هو زكاة،
وإن كان ظالما في أخذه لكونه غير مستحق له ولا نائبا عن المستحق
كالخراج الظالم في أخذه لذلك مع تعيين كونه خراجا بحكم الشارع
وبرائة ذمة المالك عن دفعه ثانيا بالانفاق.
مضافا إلى ما دل على سقوطها - حينئذ - من المعتبرة المستفيضة التي منها:
صحيحة يعقوب، قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
العشور التي تؤخذ من الرجل، أيحتسبه بها من زكاته؟ قال: نعم إن شاء):
وصحيحة سليمان: (سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: إن أصحاب
أبي أتوه، فسألوه عما يأخذه السلطان فرق لهم، وإنه ليعلم أن الزكاة لا
تحل إلا لأهلها، فأمرهم أن يحتسبوا به، فجاز ذلك والله لهم، يا أبه
إن سمعوا ذلك لم يزك أحد، فقال: يا بني حق أراد الله أن يظهره) (1)
وصحيحة العيص عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الزكاة، قال (ما
أخذه منكم بنو أمية فاحتسبوا به ولا تعطوهم شيئا ما استطعتم، فإن
المال لا ينبغي أن يزكى مرتين) (2).
318

مؤيدا بالأخبار الدالة على سقوط الزكاة بعد دفع الخراج إليه التي:
منها ما رواه رفاعة: (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل له
الضيعة. فيؤدي خراجها، هل عليه فيها العشر قال: لا) (1)
ونحوه صحيحته الأخرى، وخبر أبي كهمش عنه (عليه السلام): (من أخذ
منه السلطان الخراج فلا زكاة عليه). (2)
وخبر أبي قتادة عن سهل بن اليسع حيث أنشأ سهل يسأل أبا الحسن
- عليه السلام - عما يخرج منها: ما عليه إذا كان السلطان يأخذ خراجه؟:
(فليس عليك شئ وإن لم يأخذ السلطان منها شيئا فعليك إخراج عشر
ما يكون فيها) (3) بعد حملها - كما في الحدائق عن بعض - على إرادة
الزكاة من الخراج، فتكون - حينئذ - من روايات الباب. وإن كان
الأولى حملها على التقية، لكون ذلك مذهبا لأبي حنيفة - على ما حكي
عنه - وعليه فتعتبر النية عند الدفع إليه، كما تعتبر في سائر الزكوات.
والقول الآخر: عدم سقوط الزكاة عنه بدفعها إليه - كما قواه
شيخنا الشهيد الثاني رحمه الله - في (المسالك) معللا بأن الجائر ليس
نائب المستحقين، فتعذر النية، فلا يصح الاخراج بدونها ووجوب دفعه
إليه أعم من كونه على وجه الزكاة أو المضي معهم في أحكامهم والتحرز
319

عن الضرر بمباينتهم (1)
وبما ذكرنا يظهر لك ضعف هذا القول ومستنده.
نعم، يدل عليه صحيحة الشحام، وهي: (قلت للصادق (عليه السلام)
جعلت فداك، إن هؤلاء المصدقين يأتوننا فيأخذون منا الصدقة، فنعطيهم
إياها: تجزي عنا؟ قال: إنما هؤلاء قوم غصبوكم - أو قال ظلموكم -
أموالكم وإنما الصدقة لأهلها) (2)
إلا أن المحكي عن الشيخ - رحمه الله - حملها على استحباب الإعادة
وفي (الحدائق): حملها على ما إذا تمكن من عدم الاعطاء بانكاره
ونحوه ولم يفعل. بل لو سلمها إليهم بمجرد الطلب وهو حسن. ولعله
يشهد له صحيحة العيص المتقدمة (3)، لولا ظهورها (4) في المقهورية على
الدفع وعدم امكان المدافعة، ولو بمعونة ظهور قوله في الجواب (إنما
هؤلاء قوم غصبوكم أظلموكم) الموهن للحمل المذكور،
اللهم إلا أن يريد بالغصب أو الظلم من حيث المصرف والمدفوع له،
لا من حيث الأخذ من المالك لكونها من حقوقكم المدفوعة إلى غيركم،
وحينئذ يتجه الحمل المذكور.
ولعل الأقوى، القول بالتفصيل في السقوط وعدمه بين الدفع إليه
320

مع امكان منعه وجحده، ولو بالانكار عليه، فالثاني وإن تعين المقبوض
زكاة بالقسمة والعزل لثبوته بالتفريط في الذمة، مثلا، إن كان مثليا،
أو قيمة إن كان قيميا، ومع عدم امكانه فالأول لعدم التفريط فيه
بالفرض، وبه يجمع بين الأخبار. ويشهد له الصحيحة المتقدمة (1).
ولا كذلك الحكم في الخراج، بل تبرء الذمة منه بالدفع إلى الجائر مطلقا
وإن تمكن من جحده لوجود تقبل الأراضي منه ولو بالتخيير بينه وبين
الحاكم - كما هو مدلول الأخبار، ومعاقد الاجماعات - حسبما تقدم، ولم
يوجد مثله في دفع الزكاة إلى الجائر، فظهر الفرق بما ذكرنا بين الزكاة
والخراج بعد دفعهما إليه في السقوط مطلقا في الثاني، والتفصيل فيه
في الأول.
ودعوى عدم تعيين الزكاة بالعزل الذي يلزم من تحققه التلف، وإن
كانت ولاية العزل والقسمة للمالك إرفاقا به لكن ما لم يكن كذلك،
وإجبار الشخص على إعطاء الزكاة لا يوجب احتساب المدفوع من حق
الفقراء، لأن المشاع لا يتميز بغير رضا الشركاء، غاية الأمر أنه يجب
على المكره أن يدفع إلى المكره ما يكفيه شره، وأما احتسابه من حق
الفقراء فلا، ومن هنا يعلم أن الاكراه على تعيين قسمة أحد الشريكين لا
ينفع في التعيين.
فيها: إن ذلك اجتهاد في مقابل النص. نعم هو مقتضى القواعد
الأولية التي يجب الخروج عنها بظواهر النصوص المتقدمة (2).
هذا كله في حكم الأخذ من الجائر مما يأخذه باسم الزكاة
والخراج.
321

وأما حكم جوائزه مما لا يعلم كونه منهما، بل جوائز الظالم
مطلقا، فلا يخلو: إما أن يعلم بكونه حراما بعينه، أو يعلم بكونه حلالا
كذلك، أولا يعلم شيئا منهما بل هو مشتبه الحال.
أما الأول - فلا اشكال في حرمة أخذه وتناوله إلا مع قصد إرجاعه
إلى مالكه مع التمكن منه والتصدق عنه مع عدمه، فيجوز ذلك - حينئذ -
بل يستحب ويكون أمانة في يده لا يضمنها إلا مع التعدي أو التفريط،
ومع عدم قصد ذلك يضمنه لو تلف ولو بغير تفريط مطلقا، ولو علم
بها بعد القبض، لأن يده حينئذ - عادية والقبض لمصلحته.
أما لو تلف في يده مع سبق القبض على العلم بالحرمة مع القصد
المذكور عنده، ففي ضمانه لعموم (على اليد) وعدم منافاة جواز التصرف
للضمان، وعدمه لجواز التصرف مع قصد الاحسان على المالك بالفرض قولان، أقربهما الأول.
وبالجملة، فصور المسألة في الضمان وعدمه أربع، لأن المجاز بذلك:
إما أن يقصد الارجاع إلى المالك، أولا. وعلى التقديرين: إما أن يعلم
بالحرمة قبل القبض، أو بعده.
لا إشكال في الضمان مع عدم القصد - مطلقا - ولو كان العلم بها بعد القبض لكونه
غاصبا - حينئذ - كما لا ينبغي الاشكال في عدمه معه لو سبق العلم بها عليه،
لأنه أمين محسن فلا سبيل عليه. وكون القبض - حينئذ - حسبيا مأمورا
به من الشارع رعاية لمصلحة المالك وعدم تضرره، فكيف يكون ذلك
بتضرر القابض حسبة، وهل هو إلا من دفع الضرر بالضرر المساوي له
في درجة الملاحظة.
وفي ضمانه معه - لو قبض ثم علم بها - قولان: اختار ثانيهما في
(المسالك) حيث قال: (والأقوى التفصيل وهو أنه إن كان قد قبضها
322

من الظالم عالما بكونها مغصوبة ضمن واستمر الضمان. إن أخذت منه قهرا
وإن لم يعلم حالها حتى قبضها ثم تبين كونها مغصوبة ولم يقصر في
إيصالها إلى مالكها ولا في حفظها، لم يضمن، والفرق بين الحالتين
واضح فإن يده في الأول عادية فيستصحب حكم الضمان كما لو تلف بغير
تفريط، وفي الثاني يد أمانة فيستصحب كما لو تلف بغير تفريط) (1)
وتبعه على ذلك جدنا العلامة - رحمه الله - في (المصابيح) حيث
قال: (ولو علم بالتحريم لم يجز الأخذ إلا بقصد الإعادة على المالك
فيجوز - حينئذ - بل يستحب، ولا يضمن على تقدير التلف لجواز التصرف
كما لو قبضها ثم علم بالتحريم) انتهى (2)
وظاهرهما - بل صريح الأول - عدم الضمان رأسا. وظاهر السيد
جدنا - رحمه الله - في (الرياض) التوقف في المسألة لاقتصاره فيها على
نقل القولين من دون اختيار لأحدهما (3)
والأقوى هو الأول، لما عرفت من عموم (على اليد) مع منع
كونها عند القبض والاستيلاء عليه أمانة. كيف ولم يقبضها إلا لمصلحة نفسه
وأقدم في الأخذ على كونها له.
ويؤيده - بل يدل عليه -: إطلاق كلامهم بالضمان في مسألة تعاقب
الأيدي من غير تفصيل بين العلم بالغصب والجهل به، مستمرا كان
323

الجهل به أولا - ورجوع المالك على من شاء منهم.
نعم ربما يحتمل القول بسقوطه عند العلم به مع قصد إرجاعه إلى
المالك لكون القبض - حينئذ - مأذونا فيه من الشارع ويكون بالقصد
المزبور محسنا على المالك، فيتبدل عنوان اليد من الضمان إلى الأمانة
الشرعية التي هي من مسقطات الضمان، بل هو أقوى من القول بعدم
الضمان - أصلا -.
ولكنه مع ذلك، فيه - أيضا -: منع تبدلها إلى الأمانة بمجرد
العلم، مع القصد المزبور وإن كان مأذونا فيه. أما بناء على أن القبض
المستدام قبض واحد، بناء على بقاء الأكوان وعدم احتياج الباقي إلى
المؤثر، فواضح، لأنه قبض مضمون عليه بالفرض، فيستصحب ضمانه،
وأما بناء على عدم بقاء الأكوان وأنه قبوضات متعددة متجددة، ففيه
- أيضا - إن القبض المأذون فيه المتجدد عند العلم - لو سلم - فغايته أنه
لا يوجب ضمانا ولا ينافي ثبوته بالقبض الأول.
والذي يجدي في المقام: كونه مسقطا للضمان، لا مجرد عدم كونه
موجبا له، إلا بدعوى الملازمة الممنوعة بين عدم سببيته للضمان وبين
سببيته لعدمه، وليس كل مأذون فيه أمانة شرعية، فإن الإذن لازم أعم
للأمانة، لا مساويا لها.
هذا، وهل يتقدر الفحص المتوقف عليه الايصال الواجب إلى سنة
تنزيلا له منزلة اللقطة، لخبر حفص بن غياث (سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا -
واللص مسلم -: هل يرده عليه؟ فقال: لا يرده عليه فإن أمكنه أن
يرده على صاحبه فعل، وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة. يصيبها، فيعرفها
حولا، فإن أصاب صاحبها ردها عليه وإلا تصدق بها، فإن جاء صاحبها
324

بعد ذلك خيره بين الأجر والغرم، فإن اختار الأجر فله الأجر، وإن
اختار الغرم فله الغرم) (1) مع التعدي عن مورده من اللص إلى غيره،
ومن الوديعة إلى غيرها.
أو إلى حد اليأس لكونه الأصل فيه، بعد الاقتصار في الخبر على
مورده؟ وجهان.
ولو توقف الفحص على الأجرة، ففي وجوبها عليه - مطلقا - ويرجع
بها مع الجهل على من غره، أو ما لم يكن أمينا بأن كانت يده يد ضمان
مطلقا، ومع الغرور يرجع به إلى الغار، أو في خصوص ما لو كانت يده
عدوانا إثما؟ فيه احتمالات. فإن عرف المالك بعينه ولو بعد الفحص عنه
دفعه إليه مع بقاء العين، ومع التلف دفع بدله المثل أو القيمة لو كانت
مضمونة عليه، وإلا فإن كان مشتبها بين محصورين تخلص عنه بالصلح
معهم، فإن امتنعوا عنه توصل الدفع إلى الحاكم ليجبرهم عليه، ويحتمل
التعيين بالقرعة، لأنها لكل أمر مشكل. وإن كان في غير المحصورين،
أو كان مجهولا بالكلية، تخير بين الدفع إلى الحاكم - مطلقا - لأنه وليه
فيكون يده يد المالك المولى عليه، وبين التصدق عنه بنفسه كذلك، لورود
الأخبار المستفيضة بالتصدق عنه - حينئذ - فيستفاد منها ثبوت ولاية
التصدق للمتصدق أيضا، كما أن ولاية تعيين الزكاة وعزلها للمالك.
ويحتمل التفصيل بين العين المتصدق بها وبين الدين الثابت في الذمة،
325

لأنه كلي لا يتشخص إلا بقبض الديان أو وكيله، فتعين فيه بالخصوص
دفعه إلى الحاكم، وبقبضه يتعين كونه للمالك فيتصدق بماله عنه.
اللهم إلا أن يستفاد من إطلاق أخبار الصدقة ثبوت ولاية تشخص
الدين للمديون هنا - أيضا - ولا ريب أن الأحوط دفعه إلى الحاكم مطلقا
لما يظهر من بعض الروايات: أن مجهول المالك مال الإمام، كرواية
داود بن أبي زيد: (إني أصبت مالا، وإني قد خفت منه على نفسي
فلو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلصت عنه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لو
أصبت كنت تدفعه إليه؟ فقال: إي والله، فقال: والله ما له صاحب
غيري، قال فاستلحفه أن يدفعه إلى من يأمره، فحلف، قال:
فاذهب وقسمه بين إخوانك ولك الأمن مما خفته، قال: فقسمه بين
إخوانه) (1)
ولا يجب عليه الحفظ والوصية به، والاحتياط بحفظه للمالك لعله
خلاف الاحتياط لأدائه - غالبا - إلى حرمانه عن العين والبدل، بناء على
عدم عموم المنزلة في خبر حفص بن غياث المتقدم، وأن التنزيل منزلة
اللقطة في حد الفحص إلى سنة والتصدق بعده، مؤيدا بخلو أخبار حكم
مجهول المالك بالصدقة عن حفظه للمالك، كما ورد الأمر به، ولو تخييرا
في اللقطة.
فما عن الحلي: من إبقائها أمانة في يده والوصية بها مع كونها
معرضا للتلف، ضعيف لما عرفت.
وكيف كان، فلو ظهر المالك بعد التصدق فله الخيار بين إمضاء
326

الصدقة وقبول الأجر والثواب، وبين ردها وغرامة المتصدق المثل أو
القيمة. وليس له الرجوع على المتصدق عليه ولو مع بقاء العين في يده،
لأصالة لزوم الصدقة وثبوت الضمان على المتصدق بعد التصدق مطلقا،
ولو كانت يده أمانة، للأخبار المستفيضة المصرحة بذلك، وقاعدة
الاتلاف مع إمكان المناقشة فيها بالخصوص في المقام، لكونه من الاتلاف
له لا الاتلاف عليه. ولذا يمكن أن يقال: لولا الأخبار كان مقتضى
القاعدة عدم الضمان بعد الأمر به، بناء على أن التصدق به نوع إيصال
إلى المالك، ونحو من الطرق الموصلة إليه.
ولو مات المالك، ففي قيام وارثه في الخيار مقامه وعدمه احتمالان،
لكلى منهما وجه.
ولو مات المتصدق (يعني من عليه التصدق) قبل التصدق به، فإن كانت العين باقية
وظهر المالك أخذها وإن كانت تالفة مضمونة عليه ولم يتصدق ببدلها حتى مات،
رجع به على تركته مطلقا، ولو بعد القسمة، وفي ضمانه بعد الصدقة
وإجراء حكم ديونه عليه لو أراد المالك بدله المالي: وجهان، والأقوى
العدم، بل تعين عليه قبول الأجر والثواب، سيما بناء على ثبوت الحق
للمالك بظهوره أو بمطالبته، لا عند التصدق به، كما عليه غير واحد من
الأصحاب. وتفصيل الكلام موكول إلى محله في باب اللقطة.
ومما ذكرنا يظهر حكم الظالم نفسه فيما عليه من المظالم المجهولة المالك
فإنه يجبره الحاكم في أخذ المظالم منه في حال حياته ويتصدق بها عن أربابها
وتخرج من أصل تركته بعد موته كالدين مقدما على مواريثه ووصاياه،
خلافا لشيخنا الأكبر كاشف الغطاء في شرحه على (القواعد) حيث قال
ما لفظه: (عازما على الضمان أي بعد الصدقة. ثم الأداء لو ظهر
فاختار أنه يرد إليه ثواب الصدقة ويأخذ ماله ولا يحسب من ديونه - إلى
327

أن قال -: وتؤخذ من الظالم قهرا مع الامكان، إن بقيت في يده،
وعوضها مع التلف، ويقاص بها من أمواله ما لم يجبر على الأخذ - على
الأقوى - مع حياته، ولو كانت ودائع على نحو ما سيجيئ في كتاب
الغصب، إلا أن ما في يده من المظالم ثم تلف لا يلحقه حكم الديون
في التفريع على الوصايا والمواريث، لعدم انصراف الدين إليه وإن كان
منه، وبقاء عموم الوصية والمواريث على حاله، والسيرة المأخوذة يدا بيد
من مبدأ الاسلام إلى يومنا هذا، فعلى هذا لو أوصى بها بعد التلف خرجت
من الثلث) انتهى.
وتبعه على ذلك ولده في (أنوار الفقاهة) حيث قال: (وضمان
المتصدق للصدقة لو ظهر أهلها لا يجري فيه حكم الدين في حياته، ولا
يجب أن يوصي به ويعزل عند وفاته، نعم لو ظهر أهلها بعد موته وقبل
تلف التركة قوي جواز الرجوع إلى التركة والأخذ منها، وأما بعد التلف
فلا يبعد سقوط حق الرجوع بها، وأما الظالم نفسه فيرجع عليه بما أخذه
عينا مع وجود أهله، ولو أتلفه رجعوا عليه بمثله أو قيمته حيا أو ميتا،
ويكون عليه كسائر الديون، وإن كان مجهولا رجع الحاكم عليه في حياته،
وأما بعد موته فالأظهر أنه لا يؤخذ من تركته ولا يحتسب كديونه الخاصة
بحيث تقدم على وصايا ومواريثه، بل لو أوصى بها خرجت من
الثلث) انتهى.
قلت: دعوى الانصراف غير مسلمة، ولو سلمت فمن الانصرافات
البدوية التي لا يعول عليها، والسيرة الكاشفة ممنوعة، والمنبعثة عن عدم
المبالاة غير مجدية.
فظهر بما ذكرنا حكم صور المسألة، وإن الأقوى في إجراء حكم
الدين عليه، وعدمه التفصيل بين ما قبل الصدقة وبعدها. وفي الثانية:
328

بين ظهور المالك في حياة المتصدق وبعد موته، وأنه دين تجري فيه
أحكام ديونه قبل التصدق - مطلقا - ظهر المالك أم لم يظهر، في حياته
أو بعد موته - ولا كذلك بعد الصدقة إلا فيما لو ظهر المالك في حال
حياته، فله الرد والرجوع بالبدل المالي، للأخبار مع الاقتصار فيها على
ظاهرها من الرجوع عليه في حياته وأنه القدر المتيقن من ثبوت الحق للمالك
بظهوره أو بعد مطالبته.
ثم إن مصرف هذه الصدقة - كغيرها من الصدقات - هو فقراء
المؤمنين حتى لو كان المالك المجهول من غير أهل الحق من مخترمي المال،
لأنه المتبادر منها ولاطلاق الأمر بها، وإن لم ينتفع بثوابه الأخروي،
لامكان تعويضه ببدله الدنيوي أو التخفيف عن عذابه في الجحيم، كما هو
المأمول من لطفه العميم.
وفي جواز التصدق بها على الهاشمي، بناء على تحريم مطلق الصدقة
الواجبة عليه لا خصوص الزكاة منها، وعدمه: وجهان، بل
قولان.
ولعل الأقرب هو الأول، لأنها من المندوبة على المالك، وإن
وجب على من بيده المال دفعه صدقة، فهو مما يجب دفعه صدقة، لا
من الصدقات الواجبة، والفرق بينهما واضح.
وأما الثاني - وهو ما لو كان المأخوذ مما علم كونه حلالا بعينه،
فلا اشكال في حكمه من جواز التصرف فيه، وإن كان يندب التنزه عنه
لأنه موجب لمحبتهم، فإن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها. ولما
ورد في الصحيح: (إن أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا
من دينه مثله). ولولا ما قبل من عدم القول بالكراهة لقلنا بها فيه،
وإن كان لا ملازمة بينهما وبين ترك المندوب، بل لاشعار الصحيحة بها
329

مع التسامح في أدلتها وجبلية النفوس، المتقدمة.
وأما الثالث - وهو المشتبه بين كونه من الحلال أو الحرام أو منهما
فلا كلام في كونه من الشبهة المحصورة - لو علم في أمواله محرما - وإن
أصر شيخنا في (الجواهر) بخروجه عنها - موضوعا - وإن أدرجه في
الشبهة غير المحصورة بملاحظة كلي الظالم وصنفه من كل ذي مال مختلط
حرامه بحلاله كالعشار والسارق والمرابي والمرتشي ومن لم يخرج الحقوق
ونحوهم الذي منه الجائر - فإن ما في أيدي كل واحد من هؤلاء - وإن
كان من الشبهة لو اشتبه الحرام منه بالحلال - إلا أن المجموع من حيث
المجموع الملحوظ بلحاظ الوحدة صنفا مخرج لها من المحصورة إلى غير
المحصورة. وإن كان بالنظر إلى آحاد أفرادهم كان من المحصورة حتى
صارت غير محصورة، فيجري عليها حكم عدم الاجتناب.
وفيه - مع لزوم فتح هذا الباب سد باب الشبهة المحصورة - غالبا -
أنه - حينئذ - من شبهة الكثير في الكثير المساوي لحكم المتصف بضده في
وجوب الاجتناب عنه - على الأقوى - كما تقرر في محله. كما أنه لا كلام
أيضا في خروجه - في الجملة - عن حكم الشبهة المحصورة، فيجوز
تناول ما يعطيه والمعاملة معه عليه إجماعا بقسميه.
فمن منقوله: ما حكاه جدنا العلامة في (المصابيح) حيث قال:
(يجوز أخذ الجوائز من الظالمين والتصرف فيها ما لم يعلم حرمتها
- بعينها - بالاجماع والنصوص المستفيضة) انتهى (1) - المعتضد بدعوى
غير واحد - ومنهم السيد جدنا في الرياض - عدم الخلاف فيه، مضافا
330

إلى النصوص المستفيضة - بل المتواترة معنى، الصريحة في ذلك (1)
إنما الكلام في خروج المقام عن حكم الشبهة المحصورة مطلقا، أو
في خصوص ما إذا حصل منهم تصرف خاص كاعطاء وبيع ونحو ذلك:
وجهان:
قال شيخنا في (الجواهر: (إنما الكلام في أن ذلك يقتضي
خروج ما في أيديهم وتحت تصرفهم - وإن علم اشتماله على محرم - عن
حكم الشبهة المحصورة، فيجوز المقاصة منه والأكل للمارة والتصرف بالفحوى
ونحو ذلك حتى يعلم الحرام منه بعينه فيترك أو يختص ذلك بما إذا حصل
تصرف خاص منهم كاعطاء وبيع وإذن ونحو ذلك مما يحتمل فيه القصد
إلى الحلال، فلا تجوز المقاصة وأضرابها، ويجوز الأخذ مع مقارنة أحد
تلك الأفعال المحمولة على الصحة شرعا - من غير فرق بين ما كان في
صندوق فيه غصب، أوليس كذلك، أو دار أو غيرها ما لم يعلم إقدامه
على المشتبه المحصور عنده: احتمالان. ظاهر الأستاذ في شرحه: الثاني
منهما. قال: ولو لم يعلم كونها - أي الجوائز - غصبا، جاز أخذها
من الجائر مطلقا، للاجماع والأخبار، ومن غيره ما لم يعلم إقدامه على
المشتبه المحصور، لقضاء اليد وإصالة الصحة، فيجوز الأخذ - حينئذ -
وإن جاء بها من دار أو دكان أو صندوق فيه غصب، أو أشار إلى
معين من جملة كذلك، ولا يعلم حصوله في المدفوع والمعين إلا أن التجنب
مع الانحصار من شيم الأبرار، وتختلف مراتب الرجحان باختلافه، ولو
أشار إلى مبهم قوي المنع كالأخذ للمقاصة والأكل للمارة - أو جاز -
331

وللدخول تحت رفع الجناح إلا بعلاج، عملا بالأصل في غير محل النص.
والظاهر إرادته من الاطلاق في الجائر بالنسبة إلى كونه سلطانا أو عاملا
أو عشارا، لا أن المراد - وإن علم إقدامه على المشتبه المحصور حتى
يكون الاشتراط في كلامه مختصا بغير الجائر، بل الظاهر تعميمه لهما،
كما يقضي به التأمل لتمام كلامه.
ويمكن أن يريد اختصاص الجائر بهذا الحكم، وهو جواز التناول
منه، وإن علم إقدامه على المشتبه المحصور، كما هو مقتضى حال الجائر
للنصوص، وغيرها مما ستعرفه. وعلى كل حال، فوجهه: ما
أشار إليه.
ويحتمل الأول، بل ربما أوهمه التقييد بالعين في المتن، والنافع،
ومحكي نهاية الإحكام والدروس والكفاية ومعقد اجماع المصابيح) انتهى
كلامه رفع في الخلد مقامه (1)
وقال في (المسالك - في شرح قوله: جوائز الظالم.. الخ):
(التقييد بالعين إشارة إلى جواز أخذها. وإن علم أن في ماله مظالم كما
332

هو مقتضى حال الظالم، ولا يكون حكمه حكم المال المختلط في وجوب
اجتناب الجميع للنص على ذلك) انتهى (1)
قلت: لم أجد وجها لتخصيص القاعدة في حكم الشبهة المحصورة
من وجوب الاجتناب عن أطرافها، بعد تنجز الخطاب بالاجتناب عن
الحرام منها المشروط بابتلاء المكلف بجميع أطرافها بما يعطيه الجائر وغيره
من الجوائز وغيرها، بعد أن كان غير الجائزة من أمواله - مثلا - خارجا
عن ابتلاء المجاز، فلا يكون التكليف بالحرام - على تقدير أن يكون غيرها
منجزا في حقه - حتى يجب الاجتناب عن المشتبه به من باب المقدمة،
فالقاعدة لا تقتضي الاجتناب عنه بعد اختصاص الابتلاء به، وإن كان
من الشبهة المحصورة لانتفاء شرط جريان حكمها فيه وهو الابتلاء بجميع
أطرافها المفروض عدمه - هنا -.
نعم، لو فرض الابتلاء بأطرافها، كما لو أراد المقاصة من أمواله،
أو أكل المارة حيث جاز أو دخوله تحت رفع الجناح في قوله تعالى (ليس
عليكم جناح أن تأكلوا..) الآية (2)، أو فيما لو أشار المجيز إلى غير
معين من أمواله المشتملة على الغصب الموضوعة في صندوق أو قبة ونحوها
أو إلى مبهم من كيس أو صرة من الصرر المتعددة المشتبه حلالها بحرامها
333

وجب الاجتناب عنها بالكلية وحرم أخذ شئ منها، ولم يعلم ورود دليل
على الجواز في أمثال المقام بعد أن كانت النصوص في حل جوائز الجائر
وصحة معاملاته واردة فيما خص الابتلاء به من أمواله، لا مطلقا.
هذا، والوجه هو ما ذكرناه، لا ما ذكره مشايخنا من الوجه المتقدم
ذكره في كلامهم: من حمل الفعل على الصحة، ومنه يظهر جواز الأخذ
منه ولو علم الاقدام منه على المشتبه عنده، خلافا لما تقدم من مشايخنا
من اشتراطه بما لم يكن الاقدام كذلك، ضرورة وضوح الفرق بين
المدركين: ما هو المدرك عندنا، وما هو المدرك عندهم
وإنما يتجه اعتبار ذلك بناء على الثاني دون الأول.
ثم إن مقتضى إطلاق النصوص والفتاوى عدم الفرق في الحكم
المذكور بين ما علم ثبوت مال حلال للظالم أو لا، وإن كان ربما يوهم
اعتبار ذلك فيه بعض الأخبار، مثل ما عن (الإحتجاج): (عن
الحميري: أنه كتب إلى صاحب الزمان - عجل الله فرجه - يسأله عن
الرجل يكون من وكلاء الوقف مستحلا لما في يده ولا يتورع عن أخذ
ماله، ربما نزلت في قرية، وهو فيها، أو أدخل منزله - وقد حضر
طعامه - فيدعوني إليه، فإن لم آكل من طعامه - عاداني، فهل يجوز لي
أن آكل من طعامه وأتصدق بصدقة، وكم مقدار الصدقة؟ وإن أهدى
إلي هذا الوكيل، فيدعوني إلى أن أنال منها، وأنا أعلم أن الوكيل لا
يتورع عن أخذ ما في يده، فهل علي شئ إن أنا نلت منها؟ الجواب:
إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه، واقبل
بره، وإلا فلا) (1):
334

إلا أنه - لقصوره وعدم مقاومته لما تقدم (1) - محمول على ما لو
حصل منه العلم بالحرمة.
هذا، ولكن يستحب التنزه عن نحو هذه الأموال، بل يكره تناولها
بلا خلاف أجده فيه.
مضافا إلى جبلية النفوس على حب من أحسن إليها، وإلى النصوص
المستفيضة، نحو قوله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (2) وقوله في
الصحيح المتقدم: (إن أحدكم لا يصيب من دنياهم..) وفي الخبر:
عن الورع عن الناس فقال: (الذي يتورع عن محارم الله عز وجل
ويتجنب هؤلاء، وإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه)
وقوله: (من ترك الشبهات نجا من الهلكات) إلى غير ذلك (3)
إلا أن الكراهة ترتفع بأمور:
منها - إخباره بالحلية أو بما يفيدها كقوله: هو من مال تجارتي -
كما ادعاه غير واحد من الأصحاب. بل في الرياض: (نفى الريب عنه
حينئذ) (3). والوجه فيه: هو ما دل على قبول قول ذي اليد.
والأولى تقييده بما إذا كان مأمونا في قوله، وإلا كان قوله كيده.
ومنها - إخراج الخمس منه، لفحوى ما دل على تطهيره المختلط
335

بالحرام يقينا، وقد تمسك بالأولوية المزبورة جماعة، منهم العلامة في
(المنتهى) وجدنا بحر العلوم في (المصابيح) (1) وجدنا السيد في
(الرياض) (2).
قيل: ويمكن الخدشة في أصل الاستدلال بأن الخمس إنما يطهر
المختلط بالحرام حيث أن بعضه حرام وبعضه حلال، فكأن الشارع جعل
الخمس بدل ما فيه من الحرام، فمعنى تطهيره تخليصه باخراج الخمس مما
فيه من الحرام، فكان المقدار الحلال طاهرا في نفسه إلا أنه قد تلوث
بسبب الاختلاط مع الحرام بحكم الحرام، وهو وجوب الاجتناب فاخراج
الخمس مطهر له عن هذه القذرة العرضية. وأما المال المحتمل لكونه
بنفسه حراما وقذرا ذاتيا، فلا معنى لتطهيره باخراج خمسه، بل المناسب
لحكم الأصل - حيث جعل الاختلاط قذرة عرضية - كون الحرام قذر
العين، ولازمه: أن المال المحتمل الحرمة غير قابل للتطهير، فلا بد من
الاجتناب عنه. انتهى.
وهو حسن، غير أنه منقوض عليه في المختلط بالحرام يقينا بما لو
كان مقدار الحرام في الواقع أكثر من الخمس المدفوع منه، فإن الزائد
عليه - حينئذ - من قذر العين المفروض تطهيره بدفع بعضه.
فالأحسن: التمسك بالأولوية، سيما مع كون الاحتمال في المشتبه
ثلاثيا مرددا بين كونه حلالا أو حراما أو مشتملا عليهما.
بل، وأولى منه: التمسك بها فيما لو كان ثنائيا مرددا بين الأول
336

والثالث، فافهمه.
ويدل على نفي الكراهة به من النصوص: الموثق المسؤول فيه عن
عمل السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال عليه السلام: (لا إلا أن لا يقدر
فإن فعل، فصار في يده شئ فليبعث بخمسه إلى أهل البيت) (1)
فإن موردها - وإن كان ما يقع في يده بإزاء العمل - إلا أن الظاهر
عدم الفرق بينه وبين ما يقع في اليد على وجه الجائزة.
ومنها - ما لو قصد بذلك مواساة الإخوان وصرفها في حوائجهم،
بل في مطلق المصالح التي تكون في نظر الشارع أرجح من الاجتناب عنه
كما ورد عن الإمام الكاظم (عليه السلام) - فيما أهدي إليه من قوله: (لولا
أني أرى من أزوجه من عزاب آل أبي طالب لئلا ينقطع نسله ما
قبلته) (2).
وعلى ذلك ينزل ما ورد من قبولهم عليهم السلام لجوائز الأمويين
والعباسيين، أو على الضرورة، أو بيان الجواز، أو على كونه تخليصا
لأموالهم المغصوبة، أو غير ذلك من الوجوه التي هم أعرف بها - صلوات
الله وسلامه عليهم أجمعين -.
337

خاتمة في الأراضي المندرسة
وهي التي خربت بعد أن كانت معمورة مملوكة لمالكها، فلا تخلو
إما أن يكون المالك قد ملكها بغير الاحياء من الأسباب المملكة والنواقل
الشرعية، ولو بالاغتنام كالمفتوحة عنوة، أو ملكها بالاحياء.
فإن كان الأول - فالذي يظهر من عبارة غير واحد من الأصحاب
التسالم فيه على بقاء الملكية، وعدم زوالها بالخراب. بل في (الجواهر)
عن التذكرة: دعوى عدم الخلاف فيه. بل عنه في (المسالك) و
(الروضة): نقل الاجماع عليه (1).
قال في (الروضة): (ولو جرى عليه ملك مسلم معروف فهو
له ولوارثه بعده كغيره من الأملاك، ولا ينتقل عنه بصيرورته مواتا مطلقا
لأصالة بقاء الملك، وخروجه يحتاج إلى سبب ناقل، وهو محصور وليس
منه الخراب. وقبل: يملكه المحيي بعد صيرورتها مواتا، ويبطل حق
السابق - إلى أن قال -: وهذا هو الأقوى. وموضع الخلاف ما إذا
كان السابق قد ملكها بالاحياء، فلو كان قد ملكها بالشراء ونحوه لم
يزل ملكه عنها اجماعا - على ما نقله العلامة في التذكرة عن جميع أهل
العلم..) انتهى (2).
وقال في (المسالك): (إذا جرى على الأرض ملك مسلم معروف
ومن في حكمه، فما دامت عامرة فهي له ولورثته بعده، وإن ترك
338

الانتفاع بها أصلا - اجماعا - فإن خربت، فإن كان انتقالها إليه بالقهر
والغلبة كالمفتوح عنوة بالنسبة إلى المسلمين أو بالشراء أو العطية ونحوها،
لم يزل ملكه عنها - أيضا - اجماعا، على ما نقله في (التذكرة) عن جميع أهل
العلم، وإن ملكها بالاحياء ثم تركها حتى عادت مواتا، فعند المصنف
- وقبله الشيخ وجماعة - أن الحكم كذلك - ثم استدل عليه بأدلة - إلى
أن قال -: وذهب جماعة - منهم العلامة في بعض فتاوى كتبه، ومال
إليه في التذكرة - إلى صحة إحيائها وكون الثاني أحق بها من الأول، ثم
استدل على هذا القول بأدلة - ثم قال بعدها -: وهذا القول قوي لدلالة
الروايات الصحيحة عليه) انتهى (1).
وفيما حضرني من نسخ (التذكرة) ما هذا لفظه: (لو لم تكن
الأرض التي في بلاد الاسلام معمورة في الحال، ولكنها كانت قبل ذلك
معمورة جرى عليها ملك مسلم، فلا يخلو: إما أن يكون المالك معينا أو غير
معين. فإن كان معينا، فإما أن ينتقل إليه بالشراء أو العطية وشبههما أو
بالاحياء، فإن ملكها بالشراء وشبههه لم تملك بالاحياء، قال ابن عبد البر:
أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع أنه لا يجوز إحياؤه
لأحد غير أربابه) انتهى.
وليس فيه دعوى عدم الخلاف، كما حكاه عنه في الجواهر، ولو
سلم ذلك فليس بصريح في الاجماع، وصريحه منقول عن ابن عبد البر،
ولا نعرفه، ولعله من العامة. فإن تم في المقام إجماع، وإلا فللمناقشة
فيه مجال.
وأما الثاني، وهو ما كانت مملوكة بالاحياء، فاختلفت كلمات
الأصحاب فيه على قولين بل أقوال. وصريح الروضة، وظاهر المسالك،
وغيره - كما تقدم - حصر الخلاف بينهم في هذه الصورة. ولا أرى
339

وجها للتفصيل بين الملكية الحاصلة بغير سبب الاحياء من النواقل الشرعية
وبين الحاصلة بالاحياء وحصر موضع الخلاف في الثاني دون الأول، إلا
التشبث بذيل الأخبار تعبدا إن تم، وهو غير معلوم كما ستعرف. كيف
والنواقل الشرعية لا توجب إلا نقل ما كان للمنتقل عنه إلى المنتقل إليه.
فإن كانت الملكية الحاصلة للأول ملكية في الجملة وما دامت
العمارة موجودة كالملكية بالاحياء - بناء عليه فيه - انتقلت كذلك إلى من
انتقلت إليه.
وإن كانت الملكية دائمة، فتنتقل كذلك، فالعقود ونحوها من
النواقل تنقل ما كان للأول إلى الثاني، إن دائما فدائما، وإن كان في
الجملة ففي الجملة، من غير فرق بين وجود الواسطة وعدمها وتعددها
وعدمه، والأغلب - بل الغالب - تنتهي سلسلة المملوكات صعودا إلى
المملوكة بالاحياء، وتتدرج الكيفية الحاصلة - أولا - في التنزيل بالسلسلة
الطولية بعينها إلى حصول الخراب من دون زيادة في كيفية الملكية. اللهم
إلا أن يكون منشأ الخلاف في المملوكة بالاحياء هو الاختلاف في كيفية
سببية الاحياء في الموات المملوكة للإمام بالنقل، وأنه هل يوجب الملكية
- كما هو الظاهر من اللام في عموم (من أحيى أرضا ميتة..) - (1) وكونه
سببا تاما للملك، بناء على سقوط إذن الإمام في زمن الغيبة أو تحققه
المستفاد من تلك العمومات، أو لا يوجب إلا الأحقية، بناء على كون
اللام للاختصاص، وإن قلنا بمجازيته، لقرينة ما دل على من الروايات على
دفع خراجه للإمام (عليه السلام) من أهل بيته وانتزاعها من أيديهم عند ظهوره
- عجل الله فرجه - إلا ما كان في أيدي شيعتهم فيقاطعهم عليه (2) وإلا
340

فلا معنى لانتزاع المملوك من يد مالكه. وحيث قلنا بمفاد الأحقية دون
الملكية، فمقتضى أخبار التحليل للشيعة فيما هو لهم حتى في التصرفات
المتوقفة على الملك: هو إما دخوله آنا ما في ملكه عند إرادته ذلك، أو
كونه من الفضولي المتحقق معه الإجازة من المالك - كما تقدمت الإشارة
إليه - وعلى التقديرين يملكه المنتقل إليه بأحد النواقل الشرعية ملكية تامة،
وإن كان الانتقال من المحيي نفسه، وقلنا له بالأحقية دون الملكية لأحد
الأمرين المتقدمين. وحيث تم في أول مرتبة السلسلة تم في جميع مراتبها
الطولية نزولا، بخلاف ما لو خربت عند المحيي نفسه غير الثابت له إلا
الأحقية التي تزول بزوال مناطها وهو الاحياء.
وبالجملة، فالقول بزوال حق الأول مبني على ثبوت الأحقية له بالاحياء
دون الملكية. وعليه يتجه ما عليه أكثر أهل القول الثاني من أنها للثاني
من دون شئ عليه من الطسق للأول، فافهم.
وكيف كان فقد ذهب إلى القول ببقاء الملكية وعدم زوالها بالموت
جماعة، منهم: الشيخ في (المبسوط) وصاحب المهذب، والسرائر،
والجامع، والتحرير، والدروس، وجامع المقاصد - وغيرهم - على ما
حكي عنهم - بل عن الأول: نفي الحلاف في أن غامر بلاد الشرك إذا
كان لمعين لا يملك بالاحياء. وهو باطلاق يشمل محل البحث مما كان
مملوكا بالاحياء. مضافا إلى تصريحه بعدم الفرق بين بلاد الشرك والاسلام
بأكثر من أن الغامر في بلاد الاسلام لا يملك بالقهر والغلبة والغامر في
بلاد الشرك يملك بالقهر والغلبة. بل قيل - كما في الجواهر -: إنه لم
يعرف الخلاف في ذلك قبل الفاضل في (التذكرة).
وعلى كل حال: حجتهم على ذلك: عموم قوله (صلى الله عليه وآله): (من
341

أحيى أرضا ميتة فهي له) وقوله: (ليس لعرق ظالم حق) (1) بالتنوين
أو بالإضافة بناء على ما عن هشام بن عروة في تفسيره: أن يأتي الرجل
الأرض الميتة لغيره فيغرس فيها.
وخبر سليمان بن خالد - وفيه -: (أنه سئل الصادق (عليه السلام) عن الرجل
يأتي الأرض الخربة، فيستخرجها و يجري أنهارها ويعمرها ويزرعها،
فماذا عليه؟ قال: الصدقة، قلت: وإن كان يعرف صاحبها؟ قال:
فليؤد إليه حقه) (2) بناء على ظهوره في الرقبة دون أجرتها، مضافا
إلى أصالة بقاء الملك على ما كان عليه، وإلى أنها أرض يعرف مالكها
فلا تملك بالاحياء كالتي ملكت بشراء أو عطية. وإلى أن الملكية لا تزول
إلا بأسباب مخصوصة، وليس الخراب منها - كذا قيل -:
وفي الكل نظر: أما الأول - فلا يتم إلا بمعونة الأصل الذي
ستعرف ما فيه.
وأما الثاني، فمع أن التفسير ليس ممن قوله حجة علينا، فسره
بأن يأتي الرجل الأرض الميتة لغيره، وهو - هنا - غير مسلم، بل هو
عين الدعوى.
وأما الثالث - فمعارضة بأخبار أخر لعلها أقوى منه سندا.
وأما الأصل، فيخرج عنه بالأخبار الصحيحة الظاهرة في خلافه.
وأما ما يليه من الأدلة، فمصادرة محضة، وإن هو إلا عين
الدعوى.
وذهب جماعة أخرى، منهم العلامة في (التذكرة) وثاني الشهيدين
342

في (الروضة) والمسالك، وغيرهم، بل في (جامع المقاصد): إنه
المشهور، وإن كنا لم نتحققه - إلى جواز تملك الثاني لها بالاحياء، لعموم
قوله (صلى الله عليه وآله): (من أحيي أرضا ميتة فهي له) (1) ولصحيحة محمد بن
مسلم عن الباقر عليه السلام قال: (أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض أو
عمروها فهم أحق بها وهي لهم) (2) وغيرها من الأخبار الدالة على تملك
المحيي بالاحياء، ولأن هذه الأرض أصلها مباح، فإذا تركها حتى عادت
إلى ما كانت عليه صارت مباحة، كما لو أخذ ماء من دجلة ثم رده إليها
ولأن العلة في تملك هذه الأرض الاحياء والعمارة، فإذا زالت العلة زال
المعلول وهو الملك، فإذا أحياها الثاني فقد أوجد سبب الملك فيثبت الملك
له، كما لو التقط شيئا ثم سقط من يده وضاع منه فالتقطه غيره فإن
الثاني أحق به - كذا قيل -.
ومقتضاه زوال ملك الأول بالموت وتملك الثاني بالاحياء الذي
مقتضاه عدم وجوب شئ عليه للأول - كما هو ظاهر أكثرهم -.
وفيه: إما عمومات الاحياء، فمع أن اجراءها في الثاني ليس بأولى
من إجرائها في الأول، وأنه من الترجيح بلا مرجح، بل المرجوح
فمقيدة بالمرسل المنجبر وهو: (من أحيى ميتة في غير حق مسلم فهي له)
اللهم إلا أن ينكر كونه لمسلم - والحالة هذه - وإنه من المصادرة. وفيه
مع أنه مقتضى الأصل يكفي كونه مشكوكا بناء على كونه شرطا في صحة
الاحياء - لا يمكن احرازه في المقام بالأصل.
وأما عودها إلى ما كانت عليه - أولا - من الإباحة، فهو مصادرة
محضة والاحياء الأول علة للملكية التي مقتضاها الدوام إلى طرو أحد
343

النواقل الشرعية، فلا تزول بزواله، وكونه كالماء المأخوذ من دجلة
وعوده إليها من القياس الذي لا نقول به، بل لا ينبغي تدوينه في كتبنا
وإن ذكره في (التذكرة) جريا على مذاق الجمهور. مع أن الملقى في
دجلة من المأخوذ منه يعد تالفا وبالالقاء إليها بعد إتلافا له.
والقياس باللقطة قياس مع الفارق، فإن الأحكام مترتبة على
موضوعاتها ضرورة أن اللقطة موضوعها الضالة، وليس الملتقط الأول
بأزيد من المالك الأصلي حتى تكون ضالته غير ضالة الأول.
وبالجملة، فهذه الأدلة كلها مزيفة واهية جدا. والعمدة في المقام
هي النصوص الخاصة التي:
منها - صحيحة معاوية بن وهب قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: أيما رجل أتى خربة بائرة، فاستخرجها وكرى أنهارها وعمرها،
فإن عليه فيها الصدقة، فإن كانت أرضا لرجل قبلة فغاب عنها وتركها
فأخر بها، ثم جاء - بعد - يطلبها فإن الأرض لله ولمن عمرها) (1)
وصحيحة الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال (وجدنا في كتاب
علي: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا
وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتقون، والأرض كلها لنا، فمن
أحيى أرضا ميتة من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام (عليه السلام) من
أهل بيتي، وله ما أكل منها، فإن تركها أو أخربها فأخذها رجل من
المسلمين من بعده فعمرها وأحياها، فهو أحق بها من الذي تركها،
فليؤد خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، وله ما أكل منها حتى يظهر القائم
عليه السلام من أهل بيتي بالسيف فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنعها إلا ما كان في أيدي شيعتنا، فيقاطعهم على
344

ما في أيديهم، ويترك الأرض في أيديهم) (1)
وهذان الخبران - وإن عارضهما خبر سليمان بن خالد المتقدم - (2)،
إلا أن الجمع بين الأخبار يمكن بأحد وجهين - أو وجوه -:
الأول - إن المعارضة بين خبر سليمان الدال على بقاء الملك للأول
والشامل باطلاقه لما لو كانت الأرض مملوكة بالاحياء أو بغيره، وبين
صحيحة معاوية الدالة على كونها للثاني المعمر لها، مع شمول إطلاقها
للصورتين - أيضا - من تعارض المتباينين. غير أن صحيحة الكابلي -
لاختصاصها بصورة التملك بالاحياء - أخص مطلقا من خبر سليمان الموجب
لتخصيصه بها حملا للمطلق على المقيد أو العام على الخاص، وبعد التقييد
أو التخصيص تنقلب النسبة بين خبر سليمان وصحيحة معاوية، ويكون
أخص منها كذلك لاختصاصه بعد التقييد بصحيحة الكابلي بما لو كانت
الأرض مملوكة بغير الاحياء، فيجب تقييد الصحيحة بخبر سليمان المقيد
بخبر الكابلي. فيكون حاصل الجمع بين الأخبار - حينئذ -: أنه إن
كانت مملوكة بالاحياء للأول كانت لمن عمرها ثانيا لصحيحة الكابلي مع
دلالة صحيحة معاوية عليه بعد تقييدها بخبر سليمان، وإن كانت مملوكة
بغير الاحياء كانت للأول لخبر سليمان المنزل عليه بالخصوص بعد تقييده
بصحيحة الكابلي. وعليه، فتكون الأرض لمن عمرها ثانيا، ولا شئ عليه
لزوال ملك الأول عنها فيما لو كان ملكها بالاحياء.
ويضعف - مضافا إلى لزومه الترتيب في طريق الجمع الذي فيه
كلام موكول إلى محله -: أن تقييد خبر سليمان بصحيحة الكابلي فرع
ظهورها في ملكية الثاني، وهو ممنوع، إذ ليس فيه إلا أن الثاني أحق
345

من الأول الذي تركها، وهو أعم من الملكية، والعام لا يدل على
خصوص الخاص. ولو سلم الظهور في الملك بدعوى كونه هو المتبادر
من إطلاق الأحقية، لأن الأحقية المطلقة يتبادر منها الملك، فإنما هو
تبادر إطلاقي. وحينئذ يدور الأمر بين تقييد أحد الاطلاقين: إطلاق
خبر سليمان واطلاق الصحيحة، وترجيح تقييد الأول على الثاني ترجيح
بلا مرجح. ومع التنزل - وتسليم كون التبادر وضعيا لا إطلاقيا وأن
إرادة غير الملك من الأحقية إرادة للمعنى المجازي فيدور الأمر - حينئذ -
بين التقييد والمجاز والتقييد أولى، كما تقرر في محله - فهو مسلم ما لم
يستلزم التقييد حمل المطلق على الأفراد النادرة، وإلا فالمجاز حينئذ - ولا
سيما الشائع منه - أولى من التقييد، وهو - هنا - كذلك، لأن تقييد
خبر سليمان بالصحيحة يوجب تقييده لاطلاق صحيحة معاوية المنزل - حينئذ -
على الفرد النادر، وهو المملوك بالاحياء، فإن الغالب - ولا سيما في البلاد
المعمورة - حصول الملك لغيره من الأسباب المملكة كالشراء والعطية
ونحوهما من النواقل الشرعية - فتأمل.
الوجه الثاني: هو أن يجمع بينهما بحمل اللام في قوله (ولمن
عمرها) في صحيحة معاوية بن وهب على مجرد الاختصاص دون الملكية
بقرينة ظهور (فليؤد إليه حقه) في خبر سليمان في بقاء الملك للأول على
كل من تفسيري الحق فيه: بالرقبة أو أجرتها، إذ لا معنى لاستحقاق
الأجرة مع عدم ملك الرقبة، مضافا إلى ظهور التعبير عنه بصاحبها فيه،
ودعوى إشعار الأحقية به في صحيحة الكابلي. وعليه فتكون الأرض
ملكا للأول، وللمعمر الثاني الأحقية بها وأولوية التصرف فيها وعليه دفع
أجرتها للأول. وحينئذ ففي جواز الاقدام على الاحياء - مطلقا - لاطلاق
النصوص وظاهر فتاواهم، أو مشروطا بإذنه أو إذن الحاكم، ومع عدمهما
346

فيجوز حسبة للجمع بينهما وبين ما يقتضي بقاء الملكية من القواعد الشرعية
- كما عن بعض -: وجهان: ولا ريب أن الثاني هو الأحوط، إن لم
يكن هو الأقوى.
هذا كله بناء على أن الاحياء من الأول موجب للملكية أو دائمة
أو مقيدة - بما دامت العمارة باقية. ويحتمل - قويا عندي كما تقدم (1)،
بل هو الأقوى -: إن الاحياء في الموات التي هي للإمام عليه السلام لا
يكون سببا لملك المحيي وخروج الرقبة عن ملك الإمام، ولا يوجب إلا
أحقية المحيي بها وأولويته من غيره بالتصرف فيها فتكون اللام في عمومات
الاحياء لمجرد الاختصاص - بقرينة ما دل على دفع خراجها للإمام (عليه السلام)
في صحيحة الكابلي - وإن كنا لا نقول به في زمان الغيبة لأخبار الإباحة
والتحليل للشيعة المستفاد منها كونها لهم بلا أجرة عليهم، ويحويها بعد
ظهوره - عجل الله فرجه - إلا ما كانت في أيدي شيعتهم، فيقاطعهم
عليها (2). ولو كانت مملوكة لمن أحياها من غيرهم، أشكل الحكم
بانتزاعها من أيديهم بعد أن كانت مملوكة لهم لمخالفته لمقتضى قواعد
الملكية، وليس إلا لبقائها على ملك الإمام.
وأما خبر سليمان بن خالد الدال على الملك ودوام الملكية، فمحمول
على ما لو كانت مملوكة بغير الاحياء من أسباب الملك، وإن انتهت
سلسلتها بالصعود إلى الاحياء غير المملك للمحيي، لما عرفناك - مكررا -
إن الإباحة منهم لشيعتهم جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك، مستلزمة
إما لدخوله آنا ما في ملكه عند إرادة التصرف الخاص أو يكون من
347

الفضولي المتحقق معه الإجازة من المالك، فتخرج الرقبة - حينئذ - عن
ملك الإمام عليه السلام ويملكها من انتقلت إليه، كما لو اشتراه من
الإمام (عليه السلام) نفسه.
ومنه يعلم: أنه لا وجه لالحاق الانتقال بالإرث من المحيي لسائر
النواقل الشرعية منه كالشراء والعطية وغيرهما - كما وقع من شيخنا في
(الجواهر) تبعا للرياض وجامع المقاصد، بل لو خربت عند من ورثها
من المحيي - ولو بوسائط متعددة بالإرث - كان حكمه حكم ما لو خربت
عند المحيى نفسه من وقوع الخلاف المتقدم فيه.
وبالجملة، المملوكة بالإرث من المحيي كالمملوكة بالاحياء في وقوع
الخلاف فيه، ضرورة أن الإرث لا يوجب انتقال ما كان للموروث من
الملك أو الحق إلى الوارث، وليس كالنواقل الشرعية المتوقفة على تحقق
عنوان الملك.
وكيف كان، فعلى ما قويناه، لا اشكال في جواز الاقدام على
تعميره، ويكون من عمرها أحق بها من غيره لزوال أحقية الأول
بزوال مناطها.
ثم ليعلم أنه لا منافاة - كما ربما يتوهم - بين كلامهم هنا،
وتسالمهم في المملوكة بغير الاحياء على عدم جواز مزاحمة المالك والتصرف
في ملكه بغير إذنه، وبين كلامهم في المسألة المتقدمة في المقالة الثالثة: من
ذهاب المشهور، حتى قيل: إن القول بخلافه متروك: من أن ملاك
الأرض لهم التصرف فيها ما داموا قائمين بعمارتها، فإذا أهملوها حتى
خربت أخذها الإمام (عليه السلام) أو نائبه، وقبلها من غيرهم ليعمروها، ودفع
طسقها إليهم.
348

لأن كلامهم - هناك - في ما لو كان الاهمال منبعثا عن عجز المالك
أو تعذره أو نحو ذلك مما يعد معه ابقاء للأرض على العطلة لخصوص
الأخبار المتقدمة الدالة عليه، ولكونه من التضييع المحرم. ولذا قلنا
فيه بوجوب الاقتصار على القدر المتيقن المتبادر من النصوص بمخالفتها
للقواعد الأولية.
وبالجملة - وجوب اخراج الأرض عن العطلة - ولو بمزاحمة المالك
لو امتنع عنه مسألة، وجواز مزاحمته في ملكه بمجرد الخراب مسألة أخرى
وبينهما فرق واضح وبون بعيد، فافهم.
هذا تمام الكلام في حكم ما لو كان السبب معلوما.
وأما لو كان مشكوكا دائرا بين سببية الاحياء وغيره، فحكمه
- على القول باتحاد حكم الصورتين - واضح، وعلى القول بعدمه وزوال
الملكية بالخراب فيما لو كان مملوكا بالاحياء، فقد بتوهم إلحاقه به تمسكا
بعموم دليل الاحياء بالنسبة إلى الثاني بعد عدم إمكان تعيين السبب بالأصل
لكونه معارضا بالمثل، فيبقى عموم: (من أحيى) بالنسبة إلى المعمر الثاني
سليما عن المعارض.
إلا أنه فيه - مع أن عموم الاحياء أو مطلقاته بعد تقييدها بما لم
يكن في حق مسلم، بحكم المرسلة المتقدمة المنجبرة (1) وثبوت تنويع أفراد العام
ودوران أمر لمشكوك - حينئذ بين كونه مندرجا في العام أو الخاص مع
كونه من الشبهة في المصداق ولا يجوز التمسك بالعمومات في الشبهات
المصداقية -:
أنه يمكن اجراء استصحاب كلي الملك المردد بين فردين: أحدهما
349

معلوم البقاء والآخر معلوم العدم الموجب لدخوله في الموات التي تعلق بها
حق مسلم، فيندرج - حينئذ في الخاص المعلوم فيه حكمه من عدم جواز
الاقدام على احيائه وعدم التملك به لو أحياه. فبالاستصحاب يدخل في
موضوع الخاص أو المقيد الذي هو من الدليل الاجتهادي الخاص، فهو من
تخصيص العام بالدليل الاجتهادي الثابت موضوعه بالاستصحاب، لا من
التخصيص بالأصل والاستصحاب، كما ربما يتوهم.
وأما بناء على ثبوت الأحقية دون الملكية بالاحياء وبقاء الرقبة على
ملك الإمام (عليه السلام) ما لم يطرأ عليه أحد النواقل الشرعية، فمرجع الشك
- حينئذ - إلى الشك في خروجها عن ملك الإمام بأحد النواقل ولو من
المحيي وعدمه، والأصل بقاؤها على ملكه، فيجوز الاقدام على تعميرها
وإحيائها ويكون المحيي أحق بها من غيره، وأولى بالتصرف من دون
شئ عليه من الطسق للأول، لزوال أحقيته بزوال مناطها، فافهم
واغتنم.
تلخيص لما تقدم من الكلام في الأراضي المندرسة:
وهو: أن الموات منها: إما أن لا يكون له مالك معروف - سواء
لم يكن له مالك أصلا لانقراضه وانقطاعه، أو كان مجهولا لا يمكن
تشخيصه ولو في محصور - وهذه كلها للإمام (عليه السلام) كالموات بالأصالة يجوز
إحياؤها مطلقا أو للمسلمين خاصة - على الخلاف - مشروطا بإذن الإمام (عليه السلام)
مطلقا، أو في زمان الحضور خاصة - على الخلاف أيضا - يملكه المحيي
بالاحياء أو يكون به أحق من غيره وأولى بالتصرف فيه مع بقاء
الرقبة على ما كانت عليه من ملك الإمام - على ما تقدم من الخلاف
أيضا -.
350

وإما أن يكون له مالك معروف. وهو: إما أن يكون قد ملكها
بغير الاحياء من الأسباب المملكة شرعا، أو ملكها بسبب الاحياء.
وعلى التقديرين: إما أن يكون سبب التملك أو الأحقية معلوما أو
مشكوكا.
فها هنا مقامات:
الأول - ما علم كونه مملوكا بغير الاحياء، وحكمه البقاء على الملكية
وعدم جواز التصرف فيه بغير إذنه، مطلقا - على حد غيره من مملوكاته -
والظاهر أنه عندهم مما لا كلام فيه ولا شبهة تعتريه، إلا إذا كان ذلك
منبعثا عن إهماله لعجز أو تعند، حتى انجرت إلى الخراب، أخذه الإمام
أو نائبه العام وجوبا أو جوازا وقبله من غيره ودفع طسقه إلى المالك
- حسبما تقدم الكلام فيه في المقالة الثالثة -
الثاني - ما علم كونه مملوكا بسبب الاحياء، ففيه الخلاف المتقدم:
من جواز احيائه للثاني وتملكه له من دون شئ عليه أو ثبوت الأحقية
له كذلك أو مع دفعه الطسق إلى الأول مطلقا - أو مشروطا بعدم إذنه
وامتناعه من تعميره أو حرمة التصرف فيه - مطلقا - كما لو كانت مملوكة
بغير الاحياء. كل ذلك مبني على الخلاف في كون الاحياء سببا للأحقية
والملكية. وعلى الملكية، فهل هي ملكية دائمة مطلقا، أو ما دامت
الحياة باقية فتزول بزوالها؟ ومنشأ الخلاف في ذلك أيضا: اختلاف
الانظار في مفاد الأخبار ووجوه الجمع بينهما حسبما حررناه لك، وعليك
بالترجيح بعد اعطاء التأمل حقه.
وأما الثالث - وهو ما لو كان مشكوكا ولم يعلم كونها مملوكة
بالاحياء أو بغيره، ففي جواز اقدام الثاني على إحيائها، وعدمه، وجهان
351

مبنيان على ما تقدم: من أن الاحياء هل هو سبب للملك أو لا يوجب
إلا الأحقية بالتصرف، وأنه على الأول: لا يجوز إحياؤها للثاني لكونها
من الموات المتعلق به حق مسلم بحكم استصحاب الكلي الموجب لاندراجه
في المرسل المقيد لعمومات إحياء الموات. وعلى الثاني: يجوز ذلك
لاستصحاب بقاء الرقبة على ملك الإمام عليه السلام، فيكون كالمرات
بالأصالة، يجوز لكل أحد إحياؤها، غير أن المحيي أحق بالتصرف
من غيره.
والله العالم بحقائق الأمور
بهذه الرسالة ينتهي الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله:
رسالة
في أخذ الأجرة على الواجبات
352