الكتاب: تقريرات آية الله المجدد الشيرازي
المؤلف: المولى علي الروزدري
الجزء: ٣
الوفاة: ١٣١٢
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ذو القعدة ١٤١٤
المطبعة: حميد - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث - قم
ردمك: ٩٦٤-٥٥٠٣-٥٤-x
ملاحظات: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث - قم - دور شهر - خيابان شهيد فاطمي - كوچه ٩ - بلاك ٥ ص . ب ٩٩٦ / ٣٧١٨٥ - هاتف ٢ - ٧٣٠٠٠١ / (vols١-٤) ٩٦٤-٥٥٠٣-٥١-٥

77
تقريرات
آية الله المجدد الشيرازي
للعلامة المحقق
المولى علي الروزدري
المتوفى حدود سنة 1290 ه‍
الجزء الثالث
تحقيق
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث
1

BP المجدد الشيرازي، محمد حسن بن محمود، 1230 - 1312 ق.
159 تقريرات آية الله المجدد الشيرازي / لعلي الروزدري؛ تحقيق مؤسسة آل
8 / البيت عليهم السلام لاحياء التراث. - قم: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث، 1409
9 م / - 1415 ق = 1367 - 1373 ش.
7 ت 4 ج.
1415 ق الجزء الثالث.
1. أصول الفقه الشيعي. ألف. الروزدري، علي، المؤلف. ب.
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث. ج. العنوان.
شابك (ردمك) 5 - 51 - 5503 - 694 دورة 1 - 4
ISBN 5 - 51 - 5503 - 964 / 4 VOLS.
شابك (ردمك) × - 54 - 5503 - 694 / ج 3.
ISBN X - 54 - 5503 - 964 / VOL 3.
الكتاب: تقريرات آية الله المجدد الشيرازي - الجزء الثالث
المؤلف: المولى علي الروزدري
تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث - قم
الطبعة: الأولى ذو القعدة 1414 ه‍
ليتوگرافي: حميد - قم
المطبعة: مهر - قم
التجليد: صحافي صنعتي - قم
الكمية: 2000 نسخة
السعر: 3500 ريال
2

بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظة:
ابتداءا من بحث القطع إلى آخر التعادل والتراجيح
يعد تعليقة من المصنف (قدس سره) على كتاب فرائد
الأصول للشيخ الأنصاري (قدس سره).
3

تنبيه:
سقط بحثا «القطع والظن» من النسخة الأصلية والتي هي
بخط الصنف (قدس سره)، ووجدناهما في نسختين
مستنسخين عن الأصل المذكور، فاعتمدنا عليهما ورمزنا
لهما ب‍: أ، ب.
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
لمؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
مؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
قم - دور شهر - خيابان شهيد فاطمي - كوچه 9 - پلاك 5
ص. ب. 996 / 37158 - هاتف 2 - 730001
4

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في مسألة اجتماع الأمر والنهي
وتنقيحه يقتضي تقديم أمور:
الأول:
هل المسألة هذه لفظية أو عقلية؟ وعلى الثاني هل هي من المسائل الأصولية، أو الكلامية، أو من المبادئ الأحكامية؟ وجوه مختلفة منشؤها اختلاف الوجوه الصالحة فيها لوقوع كل منها موردا للبحث، فإن في الأمر والنهي اعتبارات يصلح كل منها لوقوعه موردا للكلام وموردا للنقض والإبرام، لأنه يصح أن يبحث عنهما بملاحظة فهم العرف تخصيص أحدهما بالآخر في مورد الاجتماع وعدمه، فتكون المسألة لفظية، وأن يبحث عنهما بملاحظة قبح تعميمهما بالنسبة إلى مورد الاجتماع وعدمه، فتكون المسألة عقلية وكلامية أيضا، إذ البحث عن الحسن والقبح من توابع علم الكلام، وأن يبحث عنهما بملاحظة نفس اجتماعهما عقلا من أي وجه كان، وعدمه كذلك، فتكون المسألة عقلية أصولية إن عممنا المسألة الأصولية إلى ما يكون طريقا لاستنباط الحكم الفرعي ولو مع واسطة استنباط آخر غير استنباط نفس الحكم الفرعي (1)، وإلا فهي من المبادئ الأحكامية، إذ من المعلوم أنه - بعد استنباط جواز اجتماع الأمر والنهي

(1) بتقريب: أن المسألة الأصولية ما يبحث فيها عن أحوال ما يكون طريقا لاستنباط حكم فرعي ولو مع توسط استنباط آخر وراء استنباط الحكم الفرعي، إذ البحث عن حكم العقل بجواز الاجتماع أو امتناعه بحث عما يكون طريقا لاستنباط حكم فرعي مع الواسطة كما لا يخفى. لمحرره عفا الله عنه.
5

أو عدم جوازه - لا بد من استنباط حكم أصولي، وهو حكم تعارض الدليلين، أو عدم تعارضهما، ثم بعد هذين نستنبط حكم الصلاة في الدار المغصوبة - مثلا - من قوله: صل ولا تغصب، فلا تكون أصولية، لفرض توسط استنباط آخر غير استنباط نفس الحكم الفرعي، بل يكون من المبادئ الأحكامية لصدقها عليها، فإنها عبارة عن المسائل المبحوث فيها عن الحكم أو لوازمه، ومن المعلوم أن البحث عن جواز اجتماع الوجوب والحرمة بحث عن لوازمهما، ويتفرع على هذا البحث أحد الأمرين على اختلاف القولين فيه، وهما تحقق موضوع التعارض بين الدليلين، أو عدم تعارضهما، وكل واحد منهما موضوع لحكم أصولي، وهو حكم التعارض أو عدمه.
ثم الظاهر من عنوان المسألة في باب الأمر لا سيما بملاحظة تحريره مورد الخلاف بلفظي الأمر والنهي الظاهرين في القول: إن النزاع فيها إنما هو من الحيثية الأولى، فتكون لفظية.
ويؤيده التفصيل المحكي فيها عن الأردبيلي رحمه الله وصاحب الرياض في رسالته المنفردة لهذه المسألة: من القول بجواز اجتماع الأمر والنهي عقلا وعدمه عرفا، إذ الظاهر من تقابل العرف للعقل اعتبار جهة فهمهم من خطابي الأمر والنهي تخصيص أحدهما بالنسبة إلى مورد الاجتماع وعدمه.
هذا، لكن الظاهر أن النزاع في المقام إنما هو بالاعتبار الثالث دون الأول أو الثاني.
أما الأول: فلأنه وإن كان يوهمه ما عرفت، إلا أن التأمل في أدلتهم الآتية قاض بعدمه، فإن من أدلة المانعين من الاجتماع لزوم التكليف المحال، أو بالمحال، أو التكليف المحال بالمحال، وهذا كما ترى لا ربط له بإثبات الدلالة اللفظية بوجه، ومثله لزوم التناقض الذي هو أحد أدلتهم، فلا بد إذن من صرف ما عرفت إلى ما لا ينافي ذلك.
6

وأما الثاني: فلإباء احتجاج المانعين بلزوم اجتماع الضدين، أو النقيضين عنه فما زعمه المحقق القمي (1) رحمه الله من كون المسألة كلامية بمكان من الضعف، فتعين أنه بالاعتبار الثالث.
والظاهر أن المسألة على هذا التقدير من المبادئ الأحكامية، لا الأصولية، فإن الظاهر اختصاص الأصولية بما يكون موضوع البحث فيه أحد الأدلة المعروفة للفقه، التي لا واسطة بينها وبين استنباط نفس الحكم الفرعي، فإن الظاهر من تعريفهم لعلم أصول الفقه - بأنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية - أن المراد بالقواعد في ذلك الحد يكون قواعد وطرقا لاستنباط الحكم الفرعي بلا واسطة استنباط آخر.
ويقوي ذلك - بل يعينه - أن جماعة من الأعلام أوردوا المسألة في باب الأحكام.
وملخص الكلام في محل النزاع في المقام أن البحث: إنما هو في جواز اجتماع الوجوب والتحريم عقلا من غير مدخلية لخصوصية الأمر والنهي أصلا، ومن غير تعميم النزاع إلى سائر الأحكام أيضا، ولعلنا نتعرض في آخر المبحث - إن شاء الله - لتحقيق الحال بالنسبة إلى سائر الأحكام وبالنسبة إلى جهة فهم العرف تخصيص أحد من الأمر والنهي بالنسبة إلى مورد الاجتماع وعدمه، فانتظر (2).

(1) الموجود من عبارة المحقق القمي (ره) - في قوانينه: 140 - في هذا المقام يخالف المذكور هنا حيث جاء فيه قوله: (وهذه المسألة وإن كانت من المسائل الكلامية، ولكنها لما كانت يتفرع عليها كثير من المسائل الفرعية ذكرها الأصوليون في كتبهم، فنحن نقتفي آثارهم في ذلك).
(2) والنزاع من جهة فهم التخصيص وعدمه إنما ينفع بعد البناء على جواز الاجتماع عقلا، وأما مع البناء على امتناعه فلا بد من التخصيص، فالباحثون عن تلك الجهة لا بد أن يكونوا هم الذين جوزوا الاجتماع عقلا. لمحرره عفا الله عنه.
7

وأما عذر من أورد المسألة في باب الأوامر فهو عدم اشتمال كتابه على المبادي الأحكامية، والنكتة - في تعبيره عن مورد الخلاف بلفظي الأمر والنهي مع عموم النزاع لمطلق الوجوب والتحريم - أن الغالب كونهما مدلولين لهما.
وأما المراد بعدم الجواز عرفا في التفصيل المتقدم فهو أحد أمرين:
أحدهما: الذي هو أظهرهما هو عدم الجواز بنظر المسامحة الغير المبني على الدقائق الحكمية، وتوصيفه بالعرفي باعتبار أن أنظارهم في المطالب على هذا النحو، فمراد المفصل: أن العقل يحكم بجواز الاجتماع بملاحظة الدقائق الحكمية، وأما بالنظر البدوي الغير الملحوظ فيه تلك الدقائق فهو قاض بامتناعه.
ويتفرع على ذلك ما يتفرع على حكم العقل بامتناعه بدقيق النظر من التعارض بين الخطابين، نظرا إلى أن أحكام الشارع مبنية على الأنظار العرفية دون الدقائق الحكمية.
وثانيهما: عدم الجواز العقلي المبني على التدقيق، لكن بالنظر إلى ما يفهمه العرف من الأمر والنهي، بمعنى أن العرف يفهمون منهما معنيين يمتنع عند العقل اجتماعهما في موضع.
والمراد بالجواز عقلا - حينئذ - أن العقل لا يأبى عن صيرورة فرد واحد مصداقا لعنوانين: أحدهما متعلق للأمر، والآخر متعلق للنهي، ووقوعه امتثالا من أحدهما، وعصيانا للآخر.
وبعبارة أخرى: إنه لا بأس بوقوع (1) الصلاة في المكان المغصوب امتثالا للأمر بالصلاة ومبرئة عنه وعصيانا للنهي عن الغصب، لكن العرف يفهمون من طلب فعل الصلاة وطلب ترك الغصب معنيين يمتنع اجتماعهما عقلا.

(1) في الأصل: لا بأس عن وقوع الصلاة...
8

هذا، لكن لا يخفى ما في هذا الوجه من الركاكة، فإن عدم الجواز على هذا الوجه عقلي جدا، نعم موضوعه عرفي، فلا يحسن التقابل، بل لا يصح، فتعين حمله على الوجه الأول.
الثاني:
قد يحرر النزاع في المسألة:
بأنه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد؟ وقد يحرر: بأنه هل يجوز اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد؟ وقد يبدل لفظا الوجوب والتحريم إلى لفظي الواجب والحرام، كما حكي عن بعض.
وقد يقيد الاجتماع في الثلاثة بكونه من جهتين، ولا بد منه كما سيتضح وجهه مما (1) يأتي، وهو مطوي في أنظار المطلقين أيضا.
والمقصود من الثلاثة واحد، فإن المراد من الأمر والنهي - كما مرت الإشارة إليه هو الوجوب ولتحريم، وقد عرفت نكتة التعبير عنهما بهما، ومن المعلوم - أيضا - أن اجتماع الواجب والحرام في المعنى عين اجتماع الوجوب والتحريم، وإنما التغاير بينهما من حيث المفهوم، فما ربما يتخيل - من كون النزاع في جواز اجتماع الواجب والحرام نزاعا آخر غير ما نحن فيه - بمكان من الضعف.
ثم المراد باجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ثبوتهما له على وجه إذا أتى بذلك الشيء يقع امتثالا لأحدهما ومبرئا للذمة عنه وعصيانا للآخر، فإن ذلك هي الثمرة المتفرعة على القول بجواز اجتماعهما.
ثم توصيف ذلك الشيء بالواحد لأجل أنه لو تعلق الوجوب بشيء مغاير - في الخارج - لما تعلق به الحرمة فلا يعقل الشك في جوازه، كوجوب الصلاة

(1) في الأصل: عما.
9

وحرمة الزنا مثلا.
ثم الوحدة: قد تكون بالجنس، وقد تكون بالجنس، وقد تكون بالنوع، وقد تكون بالشخص.
وعلى جميع تلك التقادير، إما أن يكون توجه الأمر والنهي إلى الشيء الواحد من جهة واحدة، أو من جهتين.
وعلى الثاني: إما أن تكون الجهتان تعليليتين، أو تقييديتين، ومعنى كونهما تقييديتين كون كل واحدة موضوعا للحكم حقيقة، بأن تكون إحداهما موضوعا للوجوب، والأخرى موضوعا للحرمة، مع تصادقهما في فرد مجمع بينهما.
وعلى الثاني: إما أن تكون النسبة بين الجهتين التساوي، أو التباين، أو العموم المطلق أو من وجه.
لا إشكال ولا نزاع ظاهرا في امتناع اجتماع الوجوب والحرمة في الشيء الواحد مطلقا إذا كان من جهة واحدة، لاستلزامه التناقض والتكليف بالمحال، بل التكليف المحال من جهة التناقض، فلا نظن بالقائلين بجواز التكليف بالمحال القول به في جميع تلك الصور.
وكذلك الكلام فيما إذا كان اجتماعهما فيه من جهتين تعليليتين، لاستلزامه أيضا التكليف بالمحال، بل المحال، لامتناع تحقق إرادتين متناقضتين في النفس بالنسبة إلى الشيء الواحد ولو لعلتين.
ولو سلمنا أنه لا يلزم في هذين الفرضين إلا التكليف بالمحال فقط، نقول بخروجهما عن محل النزاع وندعي بطلانهما اتفاقا حتى من القائلين بجواز التكليف بالمحال، فإن الظاهر أنهم لا يجوزون ذلك ابتداء، وإنما يجوزونه إذا كان المكلف هو السبب للاستحالة بسوء اختياره.
ويتلوهما في امتناع الاجتماع والخروج عن محل النزاع: ما إذا كانت الجهتان تقييديتين مع كون النسبة بينهما هو التساوي، أو العموم المطلق، أو من وجه مع اتفاق انحصار فرد الواجب في المحرم بغير تقصير من المكلف، أو مع كونه
10

منحصرا فيه من أول الأمر، كما إذا كان الواجب أخص مطلقا من المحرم لعين ما مر في الفرضين المتقدمين.
وبالجملة: لا ينبغي التأمل في امتناع تلك الفروض وخروجها عن محل النزاع كما أنه لا شبهة أيضا في خروج ما إذا كان اجتماعهما في الشيء الواحد بالجنس أو النوع عن محل النزاع مع تعدد الجهة التقييدية بأن يتعدد ذلك الشيء بتعدد تلك الجهة، وذلك فيما إذا كان النسبة بين الجهتين هو التباين كالسجود لله والسجود للصنم، والصلاة في حال الطهر وهي في حال الحيض، فإن ذلك - في الحقيقة - راجع إلى توجه الوجوب إلى شيئين متباينين الذي لا نزاع لأحد في جوازه.
بقيت من الصور المتصورة ثنتان:
إحداهما: صورة توجه الوجوب والحرمة إلى شيء واحد من جهتين تقييديتين يكون النسبة بينهما هي العموم من وجه.
وثانيتهما: صورة توجههما إلى شيء واحد من جهتين تقييديتين مع كون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلقين مع عدم انحصار فرد الواجب فيهما في المحرم.
وكلتاهما محل للنزاع بجميع الوجوه المتصورة في الوحدة فيهما، بمعنى أن النزاع فيهما لا يختص بما إذا كان مورد الاجتماع واحدا شخصيا، بل يعم ما إذا كان واحدا جنسيا أو نوعيا، فإن لفظة الواحد في محل النزاع وإن كانت ظاهرة في الواحد الشخصي إلا أن تمثيلهم لمحل الاجتماع بالصلاة في المكان المغصوب قرينة على إرادة الأعم، ضرورة أنها ليست واحدة شخصية بل نوعية.
وربما يتوهم اختصاص النزاع في هذه المسألة بالأولى من هاتين الصورتين، وأن الثانية منهما هي محل النزاع في المسألة الآتية وهي مسألة أن النهي في العبادات يقتضي الفساد، أو لا؟
11

وهو بمكان من الضعف، إذ الأدلة الآتية وإطلاق عناوين كثير منهم يأبيان عن ذلك التخصيص، والذي ألجأ ذلك الرجل إلى هذا التخصيص أنه زعم: أنه لولاه لما يبقى فرق بين هذه المسألة وتلك، بل يرجع النزاع فيهما إلى واحد.
لكن بالنظر الدقيق يمكن إبداء الفارق بينهما من غير حاجة إلى مثل ذلك التكلف، وإن شئت توضيحه فنقول:
الفارق بينهما كما حققه - دام ظله - أمران:
أحدهما: أن مورد البحث في تلك المسألة ما كان متعلقا الأمر والنهي من عنوان واحد - سواء كانت النسبة بين متعلقيهما هو العموم المطلق أو من وجه - والمراد بكونهما من عنوان واحد وقوع اسم واحد على كليهما وكونهما من سنخ واحد، وهذا كما إذا أمر بصلاة الصبح، ونهى عن الصلاة في مكان مخصوص، أو أمر بصلاة خاصة مطلقا، ثم نهى عن بعض أفرادها، كما إذا أمر بصلاة الظهر - مثلا - من غير تقييدها بشيء، ثم نهى عنها مقيدة ببعض القيود والأحوال الطارئة عليها، والنسبة بين متعلقي الأمر والنهي في المثال أول هو العموم من وجه وفي الثاني هو العموم والخصوص المطلقان، ويقع على كل واحد منهما في كل من المثالين اسم واحد وهو الصلاة مثلا.
هذا بخلاف مسألتنا هذه، فإن مورد البحث فيهما ما كان متعلقاهما متباينين في الاسم، سواء كانت النسبة بينهما هو العموم من وجه، كالصلاة والغصب أو العموم والخصوص المطلقين كالصلاة والفرد الخاص من الغصب المتحد مع الصلاة، وهذا كما إذا قال: صل ولا تغصب في الصلاة.
وثانيهما: أن النزاع في تلك المسألة من حيث دلالة النهي عرفا على تقييد متعلق الأمر بغير مورد الاجتماع أو تخصيصه به، فتكون تلك لفظية، وفي هذه المسألة من حيث جواز اجتماع الوجوب والتحريم عقلا وعدمه ولو لم يكن هناك
12

أمر أو نهي، بل يثبت الوجوب والتحريم بغيرهما، ومع قطع النظر عن أن النهي يدل على التخصيص أو التقييد أو لا، فتكون هذه عقلية.
وبعبارة أخرى: النزاع في تلك المسألة إنما هو على فرض ثبوت مصحح لمورد الاجتماع من إطلاق متعلق الأمر أو عمومه بالنسبة إليه فيبحث فيها عن أن النهي المتوجه هل يدل على الفساد - بمعنى دلالته على تخصيص متعلق الأمر أو تقييده بغير مورد الاجتماع ليترتب عليه فساد مورد الاجتماع - أو لا؟ هذا بخلاف ما نحن فيه فإن البحث فيه عن مجرد جواز اجتماع الوجوب والتحريم عقلا مع قطع النظر عن أن يكون هناك ما يقتضي صحة مورد الاجتماع، فافهم وتأمل حتى لا يختلط عليك الأمر، والله الهادي إلى سواء السبيل.
ثم الظاهر من التحريرات الثلاثة للخلاف: أن النزاع في اجتماع الوجوب والتحريم العينيين النفسيين دون التخييريين والكفائيين والغيريين، لكن الظاهر جريان النزاع فيما إذا كانا كفائيين وغيريين أيضا، لجريان أدلة الطرفين في الكل على حد سواء.
نعم لا يجري النزاع فيما إذا كانا تخييريين، إذ لا شبهة في جواز الأمر والنهي بأمرين شخصيين على سبيل التخيير، فكيف بما إذا كان متعلقاهما كليين، كما في المقام، فإن ذلك آئل إلى وجوب الإتيان بأحدهما لا بعينه وحرمة الجميع، ومن البديهيات جواز مثل ذلك، وكذلك الحال فيما إذا كان الوجوب تعيينيا والحرمة تخييرية (1) فإنه أيضا لا شبهة في جوازه، ولا يعقل النزاع فيه من ذي مسكة، نعم إذا كان التحريم تعيينيا والأمر تخييريا يجري (2) هناك هذا النزاع.

(1) في الأصل: تخييريا..
(2) في الأصل: فيجري..
13

ثم إنه ظهر مما حققنا: أن النزاع في المقام - فيما إذا تعلق الوجوب بعنوان كلي والحرمة بعنوان كلي آخر مع كون النسبة بين ذينك العنوانين هو العموم المطلق أو من وجه - مبني على تعلق الأحكام بالطبائع دون الأشخاص.
وتوضيح عدم جريان النزاع بناء على تعلقها بالأشخاص: أن المفروض من الحرمة في محل النزاع هي الحرمة العينية حتى بالنسبة إلى مورد الاجتماع، لما قد عرفت من أنها لو كانت تخييرية لا شبهة في جواز اجتماعها مع الوجوب التخييري شرعا أو عقلا، ومن المعلوم أنه - بعد فرض حرمة مورد الاجتماع عينيا - لا يعقل الترخيص فيه، فكيف بطلبه ولو تخييرا؟ فإنه - مضافا إلى كونه سفها وعبثا لخلوه عن الفائدة - آئل إلى التناقض، ومثل ذلك لا ينبغي أن يخفى على أحد حتى ينازع فيه، فلا نظن بأحد مثله.
والحاصل: أنه بعد فرض تعلق الوجوب بالأشخاص التي منها مورد الاجتماع يكون هو تخييريا شرعا بالنسبة
إليه، ومجرد الجواز الذي يتضمنه الوجوب التخييري يناقض حرمة ارتكاب مورد الاجتماع، فكيف بطلبه؟ فيكون عبثا وسفها أيضا لذلك.
ومن هنا علم حكم عكس هذه الصورة، وهو ما كان الوجوب فيه عينيا بالنسبة إلى مورد التعارض، والحرمة تخييرية بينه وبين غيره، لعين ما مر من السفه ولزوم التناقض، وهذا المحذور لا يلزم على تقدير تعلق الأحكام بالطبائع، فإنه إذا فرض حرمة مورد الاجتماع عينيا فلا يكون الأمر بالعنوان الكلي الآخر المجتمع مع الحرام في ذلك الفرد آئلا إلى التناقض والسفه كما لا يخفى، لاختلاف موضوعي الأمر والنهي، وعلى تقدير لزومه فهو خفي غاية الخفاء، فيمكن وقوعه محلا للخلاف.
14

ثم إن هنا صورا اخر من صور اجتماع الوجوب والحرمة لا بأس بالإشارة إلى بعضها وإن كانت خارجة عن محل النزاع:
منها: ما إذا كان الوجوب والحرمة كلاهما كفائيين وعينيين مقابل التخييري.
ومنها: ما إذا كان الوجوب كفائيا والحرمة عينية مقابل الكفائي.
ومنها: عكس هذه الصورة مع فرض كون موضوع الوجوب والحرمة في الصور الثلاث هو نفس مورد الاجتماع ابتداء.
ومما ذكرنا - من اعتبار كلية متعلقيهما في محل النزاع، وأنه لا بد للمكلف من مندوحة لامتثال الأمر - علم خروج تلك الصور أيضا عن محل النزاع في المقام.
هذا مضافا إلى أن وضوح امتناع الاجتماع فيها أيضا بمثابة لا نظن بأحد إنكاره، ضرورة أن إرادة شيء واحد عينيا مقابل التخييري يناقض كراهة ذلك.
ومن هنا يتولد الإشكال بالنسبة إلى الصنائع المكروهة وإلى القضاء ممن لا يثق من نفسه من القيام به، حيث إنها واجبة كفائية ومكروهة أيضا، فإن الكراهة وإن كانت أدون من الحرمة، إلا أنها مناقضة للوجوب كما لا يخفى، فلا بد من الجمع بينهما بوجه.
وأقرب وجوه الجمع أن يتصرف في دليل الكراهة في الأمثلة المذكورة بتخصيصه بما إذا قام أحد بتلك الواجبات الكفائية، إذ حينئذ يسقط الوجوب الكفائي عمن لم يقم بها، فلا يجتمع مع الكراهة.
الثالث
قد أشرنا في مطاوي كلماتنا المتقدمة إلى الثمرة بين القولين في المسألة: من أنه يتفرع على القول بجواز الاجتماع عدم التعارض بين الأمر والنهي بالنسبة إلى مورد الاجتماع، فيعمل بمقتضاه، فيصح وقوعه امتثالا عن الأمر ومبرئا للذمة عنه، والتعارض بينهما على القول بامتناعه، فيعمل بمقتضاه من ملاحظة الترجيح لأحدهما إن كان له مرجح فيدخل فيه مورد التعارض
15

وتخصيص الآخر بغيره، وإلا فالتخيير.
ولا يخفى أن هذا فيما إذا اقتضى كل من الأمر والنهي بعمومه أو إطلاقه دخول مورد الاجتماع فيه، وإلا فيحكم بدخوله فيما اقتضى دخوله فيه إن كان أحدهما كذلك، وإلا فيعمل على مقتضى الأصول العملية المقررة لصورة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم مع فقد النص من أصل البراءة أو الاحتياط على اختلاف القولين فيها، فافهم.
بقي هنا شيء (1) ينبغي التنبيه عليه: وهو أن التخصيص في المقام ليس كالتخصيصات اللفظية المتعارفة، نظرا إلى أنه إذا قام القرينة في التخصيصات اللفظية على خروج فرد من عام فهي إنما تخصص موضوع الحكم المعلق على ذلك العام بغير ذلك الفرد، بحيث لا يكون شيء من المصلحة أو المفسدة المقتضيتين لذلك الحكم موجودا في ذلك الفرد أصلا في حال من الأحوال الطارئة عليه، مثلا: إذا قامت القرينة المتصلة أو المنفصلة على خروج (زيد) من قوله:
أكرم العلماء، أو لا تكرم الفساق، فزيد خارج عن حكم وجوب الإكرام في الأول، وعن حكم حرمته في الثاني، وعن كونه ذا مصلحة مقتضية للأول في الأول، أو ذا مفسدة مقتضية للثاني في الثاني، فيكون موضوع الحكم والمقتضي له في المثالين ما عداه من أفراد العلماء والفساق بحيث لا يدخل هو في حكم العام، ولا يشتمل على الجهة المقتضية له من المصلحة والمفسدة في حال من الأحوال، فلا يقع موردا للامتثال في المثال الأول، أو للعصيان في الثاني في حال من الأحوال.
هذا بخلاف التخصيص في المقام فإنا إذا بنينا - مثلا - على ترجيح جانب النهي، وحكمنا بخروج مورد الاجتماع عن الأمر، فليس خروجه منه كخروج

(1) انظر ما يرتبط بالمقام في مسألة دلالة النهي على الفساد: 130.
16

(زيد) في المثالين عن العام، بل يخالفه (1) من حيث ثبوت الجهة المقتضية للحكم فيه على نحو ثبوتها في سائر أفراد العام، وانتفاؤها في (زيد) في المثالين. نعم يوافقه من حيث خروجه عن حكم العام واختصاص الحكم بسائر أفراده، وهذا مثل الصلاة في المكان المغصوب التي هي من افراد محل النزاع في المقام، فإنها - بناء على ترجيح النهي - يحكم بخروجها عن الأمر بالصلاة وعدم سراية (2) الوجوب المعلق على طبيعة الصلاة بالنسبة إليها، إلا أنها مع ذلك ليست كالصلاة بغير الطهارة من الحدث التي لا مصلحة فيها أصلا، بل مشتملة على مصلحة جهة طبيعة الصلاة على نحو اشتمال سائر أفراد تلك الطبيعة عليها، بحيث لا تنقص هذه من هذه الجهة من شيء من أفرادها، وإنما تزيد تلك الأفراد وترجح على هذه من جهة أخرى، وهي خلو تلك عن الجهة المقتضية للنهي - وهي المفسدة - واشتمال هذه عليها، لكن تلك الجهة لا توجب زوال المصلحة عنها البتة، لعدم المنافاة بينهما بوجه، وإنما المنافاة بين مقتضاهما - وهو طلب الترك أو الفعل - ولذا خصت إحداهما بالحكم دون الأخرى.
والحاصل: أن الصلاة في المكان المغصوب - من حيث كونها صلاة ذات مصلحة - لا منقصة فيها من هذه الجهة أصلا، وإنما اتحدت في الوجود مع عنوان

(1) والسر في ذلك أن الحكم في العمومات إنما يتعلق بحصص الجزئيات والأشخاص، فإذا ورد النهي عن بعض الأفراد فهو ملازم لمبغوضية ذات ذلك الفرد بعينه، ومعه لا يعقل كونه ذا مصلحة أيضا، فالنهي عنه مناف للأمر وللجهة المقتضية له أيضا، فلذا لا يقع موردا للامتثال ولو مع الغفلة عن النهي، هذا بخلاف المقام، فإن المفروض في الفرد الذي هو مجمع عنواني المأمور به والمنهي عنه عدم مبغوضية نفسه، وإنما هو متضمن لشيء هو المبغوض لا غير، مع تضمنه لعنوان آخر ذي مصلحة أيضا، وذلك لعدم تعلق النهي بنفس ذلك الفرد من حيث هو، بل بعنوان متحد معه صادق عليه، فلذا يقع امتثالا في حال نسيان النهي أو الغفلة عنه، لوجود جهة الأمر فيه حينئذ. لمحرره عفا الله عنه.
(2) في الأصل: (تسري)، ولا وجود لهذا المصدر بمعنى السراية، فالصحيح ما أثبتناه.
17

آخر مشتمل على المفسدة، ومجرد اتحادها معه في الخارج لا يوجب زوال تلك المصلحة عنها، بل هي ذات مصلحة ومفسدة باعتبارين، وعدم سراية (1) الأمر إليها ليس لعدم المقتضي، بل إنما هو لوجود المانع من توجه الأمر، وهو اتحادها مع ذلك العنوان، حيث إنها لما اتحدت معه فصارت ذات مفسدة يقبح (2) سراية (3) الأمر إليها، أو أن المانع هو نفس النهي لمناقضته مع الأمر، إذ بعد ترجيح جهة النهي فهي مقتضية للنهي الآن، فتكون منهيا عنها، ومعه لا يمكن الأمر بها لأدائه إلى التناقض.
وتظهر الثمرة بين التخصيص على هذا النحو وبين التخصيصات المتعارفة فيما إذا كان الحكم الثابت لذلك الفرد المستثنى من العام هي الحرمة، وكان المكلف غافلا عن حرمته، أو جاهلا بها جهلا يعذر معه، أو ناسيا، لاندراجه تحت العنوان المحرم المتحد فيه مع عنوان الأمر مثل ما إذا علم بحرمة الغصب، إلا أنه نسي أن الصلاة الصادرة منه في دار الغير غصب، مع كون ذلك الفرد المستثنى عبادة، بمعنى أن يكون المأمور به
الذي ذلك من أفراده من العبادات، بل مع كونه من المعاملات أيضا فأوجده المكلف، فإنه على تقدير أن يكون خروجه عن العام الذي هو موضوع الأمر على نحو التخصيصات المتعارفة فلا يجديه ذلك في شيء، فإنه وإن لم يعقل منقصة لفعل ذلك الفرد لعدم فعلية النهي في حقه، لعدم علمه به والتفاته إليه، إلا أنه خال عن المصلحة الكامنة في المأمور به الموجودة في سائر افراده، فلا يقع عبادة ولا مسقطا عنها بوجه:
أما عدم وقوعه عبادة فلتوقفها إما على الأمر أو على الجهة المقتضية له

(1) في الأصل: (تسري)، والصحيح ما أثبتناه.
(2) في الأصل: فيقبح..
(3) في الأصل: (تسري)، والصحيح ما أثبتناه.
18

من المصلحة والمحبوبية وكلاهما منتف، إذ غاية ما هنا أنه اعتقد الأمر، وهو لا يكون منشئا لوقوع الفعل عبادة إذا لم يكن هو في نفسه عبادة، كما أنه لا يصلح أن يكون منشئا للإجزاء ومقتضيا له كما تحقق في محله، وإنما يكون الأمر منشئا لذلك إذا كان ثابتا واقعا، والمفروض خلو الفعل المأتي به عن الجهة المقتضية للأمر أيضا، فلم يبق ما يوجب وقوعه عبادة بوجه وأما عدم كونه مسقطا فلأنه يتوقف على أحد الأمرين:
أحدهما: جعل الشارع لذلك الفعل بدلا عن المأمور به وان لم يكن من أفراده.
وثانيهما: انطباقه على المأمور به وتساويه لسائر الأفراد من حيث الجهة المقتضية للأمر، وكلاهما مفقودان في المقام.
ومن هنا ظهر عدم الفرق بين العبادات والمعاملات من حيث كون ذلك الفعل المأتي به مسقطا للأمر وعدمه إذا فرض أن خروجه من المأمور به على نحو التخصيصات المتعارفة، ضرورة توقف الإسقاط في المعاملات أيضا - بعد انتفاء البدلية - على تساوي ذلك الفرد [مع] سائر (1) أفراد الطبيعة من حيث المصلحة المقتضية للأمر.
وأما إذا كان خروجه عن موضوع الأمر على نحو التخصيص في المقام فيصح منه ويجزيه مطلقا معاملة أو عبادة:
أما الأول: فلفرض تساوي ذلك [مع] سائر (2) أفراد المأمور به في الجهة المطلوبة من الأمر الداعية إليه ولا حاجة في المعاملات في مقام الأجزاء إلى أزيد من كون المأتي به منطبقا على المأمور به ومساويا لسائر أفراده من حيث وجود

(1) و (2) في الأصل: ذلك لسائر.
19

الجهة المقتضية فيه، والمفروض حصوله (1).
وأما الثاني: فلأنه بعد إحراز الجهة المقتضية للأمر فيه - كما هو المفروض - فيكفي في انعقاده عبادة الإتيان به بداعي تلك الجهة، من غير حاجة إلى الأمر فعلا إذا لم يكن فعله معصية، وهذا هو المتعين في توجيه صحة بعض العبادات، كما لا يخفى على المتأمل، وكأنه هو الوجه لصحة الصلاة في المكان المغصوب حال كون المكلف غافلا عن الغصبية، بل المتعين فيها ذلك وهذا يتضح بمقدمات ثلاث:
أولاها: أن المثال المذكور وهو الصلاة في المكان المغصوب من موارد مسألتنا هذه، أي مسألة اجتماع الأمر والنهي، وهذا واضح.
وثانيها: أنه يقبح من الشارع الأمر بذي المفسدة ما لم تزاحمها مصلحة غالبة عليها، ومن المعلوم للمتأمل أنه ليست مصلحة جهة الصلاة أقوى من مفسدة جهة الغصب، وإلا لغلبت عليها في صورة الالتفات وعدم النسيان أيضا، واختصت الصلاة في المكان المغصوب بالأمر، ولم يقل به أحد، فإن من يقول بكونها مأمورا بها في تلك الصورة فإنما هو من جهة بنائه على جواز اجتماعه مع النهي، ومن المعلوم أن حصول النسيان لم يوجب مزية في مصلحة جهة الصلاة حتى تغلب على تلك المفسدة في هذه الصورة، بل هي على ما هي عليه كمية وكيفية، فلو أمر بتلك الصلاة حينئذ لكان هذا أمرا بذي المفسدة مع عدم مصلحة غالبة عليها، وهو كما ترى.
وثالثها: أنهم اتفقوا قولا واحدا على صحة تلك الصلاة في تلك الحال، حتى القائلين بامتناع اجتماع الأمر والنهي.

(1) لما مر من أنه على تقدير التخصيص على هذا النحو يكون الفرد المخرج مساويا لسائر أفراد الطبيعة المأمور بها من حيث وجود المصلحة المقتضية فيه. لمحرره عفا الله عنه.
20

فيستنتج من تلك المقدمات الثلاث أن تلك الصلاة في تلك الحال صحيحة ومجزية بدون الأمر بها واقعا، بل ولا ظاهرا أيضا:
أما عدم الأمر بها واقعا: فهو مقتضى المقدمتين الأوليين، إذ بعد فرض كون تلك الصلاة من أفراد محل النزاع في المقام - كما هو مقتضى المقدمة الأولى، وتكون هي مستجمعة لكلتا جهتي الأمر والنهي من المصلحة والمفسدة، ومع اشتمالها على المفسدة لا يعقل توجه الأمر إليها، كما هو مقتضى المقدمة الثانية - فلا تكون مأمورا بها واقعا.
وأما عدم الأمر بها ظاهرا: فلأن غاية ما هناك أن المكلف اعتقد كونها مأمورا بها، واعتقاده بذلك لا يوجب حدوث خطاب يتوجه إليه في مرحلة الظاهر. نعم ذلك الاعتقاد يستتبع أمرا عقليا إرشاديا، لكنه غير مجد في شيء.
هذا مضافا إلى أن الأمر الظاهري على تقدير ثبوته لا يصلح لأن يكون منشأ للصحة والإجزاء، فتعين أن يكون وجه الصحة والإجزاء - الذي تقضي به المقدمة الثالثة - هو الذي ذكرنا.
ومن هنا تبين أيضا اختصاص فائدة الثمرة بين القولين في المسألة - بناء على عدم اعتبار الفعلية في الأمر والنهي في محل النزاع، وعمومه بالنسبة إلى الشأنيين والمختلفين أيضا - بما إذا كان المكلف عالما ملتفتا إلى الحرمة، وأما إذا كان المورد من قبيل الأمثلة المذكورة فالقائلون بعدم جواز الاجتماع وإن كانوا يخصصون الأمر فيه بغير مورد الاجتماع، إلا أنهم يلتزمون بالصحة كالقائلين بجواز الاجتماع، فلا يجديهم هذا التخصيص في شيء، بل يكون وجوده من هذه الجهة كعدمه.
وأما بناء على اختصاص النزاع بالفعليين فأصل الثمرة المذكورة منتف في تلك الأمثلة فكيف بفائدتها؟ ولا حاجة فيها أيضا إلى الالتجاء إلى التوجيه المتقدم لكفاية الأمر الواقعي حينئذ في الصحة إلا أن جواز الاجتماع في تلك
21

الأمثلة دون الالتزام به خرط القتاد، كما سيأتي تفصيله في محله، وقد أشرنا إلى إجماله: من أنه مستلزم للأمر بذي المفسدة الغير المتداركة بالمصلحة الغالبة لا محالة إن لم نقل بأدائه إلى التناقض، نظرا إلى اختلاف الأمر والنهي بالشأنية والفعلية، فلا ينبغي أن يظن خروجها عن محل النزاع.
اللهم إلا أن يدعى أن النزاع في المقام إنما هو في جواز اجتماع الأمر والنهي، وامتناعه بالنظر إلى ذاتيهما مع قطع النظر عن الجهات الخارجية، فلا يستبعد حينئذ أن يكون جواز الاجتماع من هذه الجهة متفقا عليه بين الفريقين، فتأمل.
ثم إنه قد حكي عن شيخنا الأستاذ - قدس سره - أنه وجه الصحة في الأمثلة المذكورة بالتزام ثبوت الأمر فيها واقعا، ثم التفت إلى الإشكال المتقدم وهو لزوم الأمر بذي المفسدة، فأجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أن النزاع في المقام لا يختص بالعدلية، بل يعم الأشعرية المنكرين للمصلحة والمفسدة في المأمور به والمنهي عنه، فلأحد حينئذ منع ثبوت المفسدة في الفعل حال الجهل والنسيان، فلا يلزم الأمر بذي المفسدة.
وثانيهما: أن الظاهر من أدلة العدلية - التي أقاموها على دوران الأحكام مدار المصالح والمفاسد - إرادتهم
الأعم من المصلحة والمفسدة الكامنتين في ذات الفعل فلم يقم دليل قاطع في تلك الأمثلة على أن الفعل نفسه مشتمل على المفسدة، فيحتمل أن يكون في نفس النهي عنه مصلحة، فيرتفع المحذور. هذا خلاصة ما أفاده - قدس سره -.
لكن لا يخفى ما في كل من هذين الوجهين:
أما الأول منهما: فلأنه إنما يجدي لمن كان من الأشاعرة، لا لمن كان من العدلية التي هو - قدس سره - منهم، بل رئيسهم.
وأما الثاني: فلأنه بعد تسليم صحة النهي لمصلحة في نفس النهي، نمنع
22

من صحته في الأمثلة المذكورة، لعدم تصور مصلحة للنهي فيها، إذ الفائدة المتصورة لنفس الأمر والنهي إنما هي مجرد البعث والتحريك نحو الفعل أو الكف عنه، وهو ممتنع الحصول في صورة الجهل والنسيان المفروضين في الأمثلة المذكورة بالضرورة، فيلغى (1) النهي، فيجب انتفاؤه، والمفروض ثبوته، فيكشف عن أنه ليس إلا لمفسدة في نفس الفعل، فيعود المحذور.
ثم إنا وإن بنينا على أن النهي الواقعي ما لم ينجز على المكلف - بمعنى عدم فعليته بالنسبة إليه - لم يكن مانعا من الصحة والإجزاء إلا أن مجرد عدم فعليته لا يكفي فيها، ضرورة عدم كفاية عدم المانع بمجرده لوجود شيء وتحققه، بل لا بد معه من إحراز المقتضي له أيضا، وهو في المعاملات اشتمال الفعل المأتي به على ما اشتمل عليه سائر أفراد الطبيعة المأمور بها وتساويه لها من تلك الجهة، فإن مجرد ذلك كاف في الصحة المرادفة للإجزاء في الأمور المعاملية بلا شك وريب.
وأما في العبادات ففي الاكتفاء به في تحقق الإجزاء إشكال، بل منع، فإن الصحة المرادفة للإجزاء فيها إنما هي تستتبع انعقاد الفعل عبادة، ضرورة أن الغرض منها ذلك، ومن المعلوم أن صحة الماهية (2) - وهي اشتمال الفرد المأتي به على تمام المصلحة (3) التي اشتملت عليها الطبيعة المأمور بها من حيث هي وتساويها سائر (4) الأفراد من هذه الجهة - لا تستلزم وقوع ذلك الفرد عبادة حتى

(1) لغا يلغى: أخطأ، ولغا يلغو: بطل.
(2) في الأصل: (الصحة الماهية)، والأنسب: الصحة الماهوية..
(3) وبعبارة أخرى عدم نقصان في ذلك الفرد من حيث كونه فردا للطبيعة المأمور بها بمعنى تحققها فيه على نحو تحققها في سائر أفرادها. لمحرره عفا
عنه.
(4) في الأصل: لسائر..
23

تستلزم الصحة المرادفة للإجزاء، بل أعم منها لتوقف الصحة بهذا المعنى على أمر آخر أيضا وهو أحد الأمرين على سبيل منع الخلو.
أحدهما: إيقاع الفعل بداعي الأمر.
وثانيهما: أن يكون هو بنفسه من رسوم العبودية لله تعالى كالسجود والخضوع له، إذ معه لا حاجة إلى وجود الأمر أصلا وبانتفاء كليهما يمنع الصحة.
فعلى هذا فنحن وإن كنا مشتركين في الأمثلة المتقدمة بواسطة قيام الإجماع على صحتها، إلا أن الإشكال في حكم المجمعين بها فيها، فإن الظاهر أن حكمهم بها إنما هو لاقتضاء القاعدة إياها، ومن المعلوم أنها إنما تقتضيها إذا كان الفعل المأتي به منطبقا على الطبيعة المأمور بها بالمعنى المتقدم، وجامعا لأحد الشرطين المتقدمين، والصلاة في الموارد المفروضة في الأمثلة المتقدمة وإن كانت منطبقة على الطبيعة المأمور بها، إلا أنه لم يعلم كون طبيعة الصلاة بنفسها من رسوم العبودية حتى تكون تلك الصلاة كذلك لانطباقها، لتكون صحيحة لذلك، والأمر بتلك الصلاة أيضا قد عرفت امتناعه، فلم يبق لهم وجه للحكم بصحتها.
ويمكن دفعه: بأنهم فهموا من الإطلاقات الواردة لبيان بعض آثار الصلاة - كقوله صلى الله عليه وآله: «الصلاة قربان كل تقي» (1) وقوله صلى الله عليه وآله: «الصلاة معراج المؤمن» (2) - أنها بنفسها من رسوم العبودية ومقربة إليه تعالى وأن الأمر بها كاشف عن كونها كذلك، لا محققة له، وليس ببعيد.
أقول: ولو لا الاعتماد على تلك الإطلاقات لأشكل الأمر علينا أيضا في الحكم بالصحة في الأمثلة المذكورة بواسطة قيام الإجماع عليها بعد إحراز أن

(1) الكافي: 3 / 265 / كتاب الصلاة / باب فضل الصلاة / ح: 6، ومن لا يحضره الفقيه: 1 / 136 / باب فضل الصلاة / ح: 16.
(2) لم نعثر عليه في كتب الحديث، وأورد مضمونه صاحب الجواهر: 7 / 2.
24

المجمعين إنما حكموا بها لاقتضاء القاعدة عندهم لها، لعدم الاعتماد على مثل هذا الإجماع لعدم الكشف فيها أصلا، فيكون الاعتماد على القاعدة لا عليه، وقد عرفت أنها لا تتم في إثبات الصحة إلا بذلك التوجيه، فافهم.
اللهم إلا أن يثبت اتفاق الكل المشتمل على المعصوم عليه السلام ثم إن هنا فوائد اخر تلقيناها منه - دام ظله - وكتبناها في آخر مسألة دلالة النهي على الفساد، وسميناها زيادات مسألة اجتماع الأمر والنهي، فإن شئت الاطلاع عليها فراجع ثمة.
الرابع:
إذا بنينا على امتناع اجتماع الأمر والنهي فقد عرفت أنه لا بد من خروج موارد الاجتماع عن أحدهما على حسب ما يقتضيه المرجح، فهل المرجحات التي يرجع إليها في المقام هي التي يرجع إليها في التراجيح السندية أو الدلالية كما في التخصيصات المتعارفة، أو أمور وراء تينك؟ الحق هو الأخير، إذ النزاع في المقام بعد الفراغ عن صحة سندي الأمر والنهي وعن دلالة كل منهما على دخول مورد الاجتماع فيه على نحو ما يدل عليه الآخر، بحيث ليست دلالة أحدهما عليه أقوى من دلالة الآخر بالنصوصية أو الأظهرية، وهذا واضح لا غبار عليه بوجه.
نعم هنا شيء ينبغي التنبيه عليه: وهو أن المرجح في المقام غير المرجحات في باب التزاحم أيضا، إذ المرجح هناك إنما هي الأهمية، ومن المعلوم أن الأهم في نظر الشارع أيضا إنما هو مراعاة جانب الحرمة وامتثال الواجب بغير مورد الاجتماع على تقدير جواز الاجتماع، فعلى تقدير الامتناع - كما هو المفروض - لا يكون منشأ التخيير هو الجهل بأن الأهم منهما ما ذا؟ بل منشؤه إنما هو الجهل بأن الغالب من المصلحة والمفسدة بالنسبة إلى مورد الاجتماع أيهما، فهل هي المصلحة فاضمحلت مفسدة النهي في جنبها بحيث لا حكم لمورد الاجتماع واقعا سوى الوجوب أو هي المفسدة فانعكس؟
25

وبالجملة: منشأ الشك في حكم مورد الاجتماع إنما هو الشك في كيفية جعل الوجوب والحرمة الموجودتين فيه قوة وضعفا، وهذا غير الأهمية الملحوظة في باب التزاحم، فافهم ولا تغفل.
وإن شئت قلت: إن هذا إنما هي الأهمية الملحوظة في مقام إنشاء الحكم الأولي، وتلك هي الأهمية الملحوظة في مقام الامتثال دون الحكم الأولي.
ثم إنه بعد ما عرفت ما ذكرنا، فهل الترجيح للأمر أو للنهي، أو لا ترجيح لأحدهما على الآخر أصلا؟ خير الثلاثة وأقواها أوسطها، فإن استقراء الموارد الشرعية المجتمعة فيها جهتا الوجوب والحرمة من العبادات والمعاملات قاض بترجيح النهي في مورد الشك، فإن المتتبع يجد في تلك الموارد أن الشارع غلب جانب الحرمة على جانب الوجوب في غالبها، فيلحق المشكوك بالغالب.
ألا ترى أنه لو توقف عبادة على ارتكاب أدنى محرم من المحرمات رفع الشارع [يده] عن تلك العبادة، وهكذا الحال في المعاملات أيضا.
وبالجملة: هذه الغلبة من القوة بمثابة كادت تفيد القطع بأن بناء الشارع على ذلك في كافة تلك الموارد.
وقد يستدل للترجيح بوجوه أخرى غير ناهضة للمدعى، فالأولى الإعراض عنها.
ثم إنه - بعد فرض عدم المرجح لأحدهما أصلا - فهاهنا مقامان لا بد من تحقيق أن مقتضى الأصول العملية المقررة لصورة الشك في كل منها ما ذا؟ فنقول:
المقام الأول: أن يشك في مورد الاجتماع من حيث حكمه التكليفي من حيث جواز ارتكابه وعدمه.
الثاني: أن يشك فيه من حيث حكمه الوضعي من الصحة والفساد.
26

ومقتضى أصالة البراءة في الأول منهما هو جواز الارتكاب لمكان الجهل بحرمته واقعا، كما أن مقتضى أصالة الشغل في الثاني هو الفساد، إلا أن لازم حكمهم بصحة عبادة ناسي الغصبية هو الصحة في المقام أيضا لاتحاد المناط فيهما، فإن النهي الواقع بمجرده غير مانع من الصحة، وإلا لبطلت صلاة ناسي الغصبية، وخصوص نسيان موضوع الحرام - وهو الغصب - لا مدخل [له في] الحكم بالصحة قطعا، بل إنما هو من باب كونه أحد أفراد العذر، وهو متحقق في المقام، إذ الجهل بالحرمة أيضا عذر للجاهل، إذ مفروض الكلام في الجهل الذي يعذر معه الجاهل.
وبالجملة: لا بد لمن قال بالصحة هناك من الالتزام بها هنا، وكلما نوجهها به هناك فلنوجهها به هنا، فلا يفيد الكلام في توجيه الصحة من أنها لوجود الأمر الفعلي أو لكفاية الجهة.
ثم إن مما قررنا من بيان مقتضى الأصل على تقدير البناء على امتناع الاجتماع ظهر الحال في مقتضاه على تقدير الشك في امتناع الاجتماع بالنسبة إلى المقامين أيضا. هذا خلاصة الكلام في المقدمات، فإذن نخوض في أصل المسألة وتحقيق الحق فيها بعون الملك العلام، فنقول:
المعروف من أصحابنا إنما هو امتناع اجتماع الأمر والنهي عقلا، وعليه بعض مخالفينا أيضا على ما حكي عنه، كما أن جمهور مخالفينا على جواز الاجتماع كذلك، وعليه بعض أصحابنا المتأخرين أيضا، وقد نسب إلى بعض جواز الاجتماع عقلا وامتناعه عرفا كما ذكرناه سابقا، والأقوى هو الجواز مطلقا.
والذي احتج به لمجوزي الاجتماع - أو يمكن أن يحتج به - وجوه:
أحدها الذي هو أقواها:
أنا لا نرى من العقل مانعا منه عدا ما تخيله المانعون منه من استلزامه لاجتماع الضدين في شيء واحد، لكن ذلك التخيل
27

باطل، فثبت المطلوب.
في بيان الوجوه لاستلزام اجتماع الضدين
وتوضيح ذلك ببيان وجه الاستلزام أولا، ثم بيان وجه بطلانه، فنقول:
أجود ما قيل أو يقال في وجه الاستلزام: أن الأحكام - على القول بتعلقها بالطبائع، كما هو مبنى النزاع في المسألة - لا يعقل تعلقها بها مع قطع النظر عن الوجود والعدم، بل إنما يتعلق بها بلحاظ أحدهما، وذلك لأحد وجوه على سبيل منع الخلو:
أحدها: أنه لو لا ذلك لما بقي فرق بين الأمر والنهي. التالي باطل، فالمقدم مثله.
بيان الملازمة: أنه لو لا اعتبار الوجود في الأمر واعتبار العدم في النهي لكان (1) كل منهما مجرد الطلب المتعلق بذات الطبيعة من غير مائز بينهما.
وقد يمنع من دلالته على المطلوب: بأن الوجود والعدم من الحيثيات المأخوذة في الأمر والنهي ومن فصولهما المميزة لهما، وليسا من القيود المأخوذة في متعلقهما، والوجه المذكور لا يقتضي ذلك لحصول الفرق بينهما بما ذكره.
وفيه: أنه - بعد الاعتراف بلزوم اعتبار الوجود والعدم في الأمر والنهي - لا يفرق في اللب والمعنى بين كونهما من الحيثيات المأخوذة في مفاد الهيئتين - أعني هيئتي الأمر والنهي - وبين كونهما من القيود المأخوذة في متعلقيهما، فإن الأول أيضا راجع إلى الثاني في المعنى، فإن حصل معنى الأمر على التقديرين إيجاد الطبيعة من المكلف، ومعنى النهي طلب تركها، غاية الأمر أن الدال على اعتبار الوجود على الأول إنما هو نفس الطبيعة، وعلى الثاني أعم، ومجرد ذلك لا يجدي في المقام في شيء.
نعم يمكن الجواب عن الوجه المذكور بمنع انحصار وجه الفرق فيما

(1) في الأصل: فيكون..
28

ذكر، بل يمكن الفرق بين الأمر والنهي، بأن الأول عبارة عن الإرادة والثاني عبارة عن الكراهة.
29

في بيان الوجوه لاستلزام اجتماع الضدين
ويمكن دفعه: بأن الإرادة والكراهة إنما هما منشئان للأمر والنهي، لا نفسهما، فإنهما عبارتان عن الصفتين القائمتين في نفس الآمر والناهي الباعثتين له على الأمر والنهي.
وثانيها: أن الطبائع من حيث هي ليست إلا هي فلا يعقل طلبها من المكلف.
وثالثها: أن الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالمقدور للمكلف، ومن المعلوم أنه ليس المقدور له إلا إيجاد تلك الطبائع، لا ذواتها من حيث هي (1).
ورابعها: أن من المسلم تعلق الأحكام بفعل المكلف، ومن المعلوم أن ذوات تلك الطبائع ليست من فعله في شيء، فإنها إنما هي الأمور الحاصلة من المصدر الدال عليها اسمه، فإن الصلاة - مثلا - إنما هي عبارة عن الحاصل من المصدر الذي هو المعنى الحدثي الذي هو فعل المكلف، وظاهر الخطابات وإن كان تعلق الخطاب بنفس تلك الطبائع، إلا أنه - بعد قيام الدليل على امتناع ذلك - لا بد من صرفها إلى ما ذكر، وليس فعل المكلف - الذي هو مدلول المصدر - إلا إيجاد تلك الطبائع، فثبت أن المطلوب بالأمر إنما هو تلك الطبائع باعتبار الوجود، أعني حقيقة الوجود - التي هي عبارة عن الوجود الخارجي الذي هو عين أفراد تلك الطبائع - لا مفهومه، فإنه

(1) ويمكن المناقشة فيه: بأنها مقدورة بواسطة القدرة على إيجادها، فيصح تعلق الإرادة بها نفسها لذلك من غير حاجة إلى اعتبار الوجود، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
30

أيضا إحدى الطبائع، فلا يعقل تعلق الطلب به أيضا لما مر، فيكون مورد الأمر بالأخرة هي الأفراد.
والفرق بين هذا وبين القول بتعلق الأحكام بالأفراد بالابتداء والأول، فإن مراد القائلين بتعلقها بها إنما هو تعلقها بهذا ابتداء، فإذا فرض كون فرد منهيا عنه، كما هو المفروض في مورد الاجتماع في المسألة، فتعميم الأمر بالطبيعة المأمور بها الصادقة عليه الآئل إلى تعلقه بذلك الفرد أيضا - كما عرفت - يوجب اجتماع الضدين فيه، ضرورة تضاد الأحكام التي منها الوجوب والحرمة.
* * *
31

وجه بطلان الاستدلال باستلزام
اجتماع الضدين على امتناع اجتماع الأمر والنهي
هذا تمام الكلام في وجه استلزام اجتماع الضدين الذي [هو] دليل القائلين بامتناع الاجتماع.
وأما وجه بطلانه فأجود ما قيل أو يقال فيه: أن اعتبار الوجود في متعلق الأمر غير مستلزم لاجتماع الوجوب
والتحريم في مورد الاجتماع، فإن الملحوظ فيه وإن لم يكن مفهوم الوجود بل حقيقته، لكنها لم يلحظ فيها خصوصية شيء من أفراد الطبيعة لا تعيينا ولا تخييرا، بل مع قطع النظر عنها، فمتعلق الأمر إنما هي الطبيعة المقيدة بحقيقة الوجود اللا بشرط، فهو بهذا الاعتبار يغاير كل واحد من أفراد تلك الطبيعة التي منها مورد الاجتماع وإن كان متحدا مع كل منها باعتبار اتحاده معه في الخارج وعدم التمايز بينهما فيه، لكنه غير قادح في شيء.
وبعبارة أخرى: الذي يتعلق به البعث والتحريك إنما هو تلك الطبيعة المقيدة بلحاظ الوجود الغير الموجودة بعد (1) في الخارج، وإلا لزم تحصيل الحاصل، وليست الأفراد إلا تلك الوجودات الخارجية الحاصلة من تلك الطبيعة، وتلك الطبيعة - باعتبار - عدم تحققها في الخارج بعد (2) وكليتها (3) مع اعتبار الوجود فيها أيضا - تغاير تلك الأفراد التي هي تلك الطبيعة الموجودة في الخارج، فلا تكون تلك الأفراد موردا للأمر بوجه، وإنما هي منطبقة على الطبيعة المأمور

(1) و (2) (بعد) هنا بمعنى (إلى الآن).
(3) أي وباعتبار كليتها..
32

بها، وتقع امتثالا عنها لذلك.
وبعبارة ثالثة: أن الذي يقبل ويصلح لتوجه الأمر إليه وتعلقه به إنما هي الطبيعة بلحاظ الوجود ما لم توجد بعد (1) في الخارج، بحيث إذا وجدت لا يعقل بقاء الأمر لكونه طلبا للحاصل، فهي قبل وجودها وإن كانت موردا للأمر إلا أنها غير متحدة مع عنوان المحرم، فلا يلزم اجتماع الوجوب والتحريم في شيء واحد، وبمجرد وجودها الموجب لصيرورتها فردا يرتفع الأمر، وحينئذ وإن كانت متحدة مع عنوان المحرم إلا أنها غير مأمور بها حينئذ (2)، فلا يلزم المحذور المذكور أيضا. هذا.
* * *

(1) (بعد) هنا بمعنى (إلى الآن).
(2) الظاهر أن (حينئذ) هنا زائدة.
33

وجه بطلان الاستدلال باستلزام
اجتماع الضدين على امتناع اجتماع الأمر والنهي..
وقد يجاب عن المحذور المذكور بمنع اعتبار الوجود في الطبيعة المأمور بها، فيختلف مورد الأمر والنهي، إذ الفرد غير مأمور به وإنما هو نفس تلك الطبيعة، والمنهي عنه إما الطبيعة الأخرى أو خصوص الفرد بناء على كون النهي للاستغراق، ومجرد اتحاد تلك الطبيعة مع المنهي عنه في الوجود الخارجي غير مستلزم لما ذكر، لعدم سراية (1) الأمر من الطبيعة إلى الفرد، فإنه ليس إلا البعث والتحريك وهو لا يتوجه إلا إلى الطبيعة لا غير.
وفيه: أن منع اعتبار الوجود في متعلق الأمر بمكان من الضعف، فإن الطبائع المتعلقة للأوامر لها اعتبارات، ومن المعلوم للمتأمل أنها لا يتعلق بها مع قطع النظر عن جميع الاعتبارات، أو مع ملاحظة جميعها، بل إنما يتعلق بها بالاعتبار الذي تكون هي معه منشأ للآثار والغايات الداعية للآمر إلى (2) الأمر، ومن البديهي أن الاعتبار الذي تكون هي معه منشأ لتلك ليس إلا اعتبار الوجود، فإنها معه يترتب عليها الآثار المقصودة، لا بدونه، أو مطلقا.
ومع الإغماض عن الوجوه المتقدمة يكفي هذا في إثبات المطلوب، بل الاعتماد عليه لا عليها، لكنه لا يقتضي كون الوجود نفسه مأخوذا في متعلق

(1) في الأصل: (تسري)، ويريد: سراية الأمر، ولا يوجد في اللغة المصدر (تسري) بهذا المعنى، وما أثبتناه في المتن هو الصحيح.
(2) في الأصل: على..
34

الأمر على وجه الجزئية حتى يرد عليه أنه مستلزم لاجتماع الضدين بتقريب ما مر، بل يوافق اعتباره على وجه القيدية والشرطية بأن يكون نفس الوجود خارجا عن المأمور به والتقيد به داخلا فيه بأن يكون هو عبارة عن الطبيعة المتلبسة بالوجود، والمكتسية به، كما هو الحال في سائر الشروط، فافهم.
وقد يقال - في وجه اجتماع الضدين على تقدير بقاء الأمر والنهي المتعلقين بالطبيعتين الصادقتين على مورد الاجتماع من غير تخصيص أحدهما بغيره -: إنه لا شبهة في ثبوت التضاد بين الأمر والنهي، فيكون المتصف بأحدهما مضادا للمتصف بالآخر، فتكون الطبيعة المأمور بها مضادة للطبيعة المنهي عنها، ومع ذلك لو فرض كون شيء مصداقا لكلتا الطبيعتين مع عدم تخصيص الأمر والنهي بغيره يلزم اجتماع الضدين في ذلك المصداق، لسراية كل وصف ثبت للطبيعة من حيث هي إلى كل واحد من أفراده، ويكون ذلك الشيء مثل ما فرض كونه مصداقا للأبيض والأسود، فيكون مأمورا به ومنهيا عنه، فيلزم اجتماع الأمر والنهي في نفس ذلك الشيء بالأخرة، وليس هذا إلا اجتماع الضدين هذا.
وفيه: بطلان قياس الوجوب والتحريم بالأوصاف والأعراض القائمة بالطبائع الغير المنفكة عنها في الخارج، ضرورة ثبوت الفرق بينها وبين المقام بما مرت الإشارة إليه، من أن الوجوب - حيث إنه هو البعث والتحريك - إنما يعقل ثبوته لموضوعه ما لم يوجد في الخارج، لأن تحققه في الخارج علة تامة لارتفاعه، هذا بخلاف مثل السواد والبياض وسائر الأوصاف، فإنها تثبت لموضوعاتها بعد تحققها في الخارج أيضا، بل لا تثبت لها إلا فيه، فلا يلزم اجتماع الوجوب والتحريم في مورد الاجتماع حتى يلزم اجتماع الضدين.
وبالجملة: الذي يقع مصداقا للمأمور به إنما يتحد معه لا بعنوان كونه مأمورا المنتزع من الآمر لا معه لما عرفت، هذا بخلاف ما يقع مصداقا للأبيض
35

أو الأسود، فإنه يتحد مع ما يصدق عليه بعنوان كونه أبيض أو أسود أيضا.
هذا خلاصة الكلام - بعد انقضاء مدة طويلة في النقض والإبرام في بيان مانع اجتماع الضدين وإبطاله - تلقيناه (1) من السيد الأستاذ القمقام - أدام الله ظله على مفارق الأنام - ولم ينكشف بعد (2) به غمائم شوائب الأوهام حق الانكشاف، فانقضت بعد ذلك مدة أخرى بالإجمال والإبهام، ثم ألهمه الله الملك العلام تقريبا آخر لدفع مانع اجتماع الضدين تقربه عيون الأذهان والأفهام، فأنا إذن كأني كنت في المنام، فانتبهت به، أو في الظلام فاستضأت به، وهو:
أن المانع من الاجتماع - وهو اجتماع الضدين - إنما يلزم مع اتحاد متعلقي الأمر والنهي، كما هو مبنى دعوى المانعين من الاجتماع، وأما مع اختلافهما وامتيازهما في نظر الآمر فلا.
فنقول - بعد البناء على أن الأوامر إنما هي تتعلق بالطبائع، كما هو مبنى النزاع في المسألة، وأنه لا بد من اعتبار الوجود فيها لما تقدم، وأنه لا يجب أن يكون معتبرا على وجه الجزئية، بل يصح اعتباره على وجه الشرطية أيضا كما عرفت -: إن متعلق الأمر في المقام إنما هي الطبيعة بوصف تلبسها واكتسائها بالوجود الخارجي الذي هو منشأ للآثار والغايات المقصودة للآمر فنفس الوجود خارج عن المأمور به بالمرة، وإنما هو محقق لجزئه العقلي، وهو وصف التلبس به، ومتعلق النهي إما الطبيعة الأخرى المتصادقة مع تلك الطبيعة في مورد الاجتماع، أو أفرادها التي منها مورد الاجتماع، بناء على كون النهي للاستغراق، فيختلف موضوعا الأمر والنهي في الذهن، فلا يلزم اجتماع الضدين فيه ولا في الخارج أيضا، لما مر من أن متعلقيهما وإن كانا يتحدان فيه، إلا أنه بمجرد وجوديهما يرتفع

(1) هكذا تجده (ره) يصرح في مواضع تقرير آراء أستاذه (قده) بذلك.
(2) (بعد) هنا بمعنى (إلى الآن).
36

الأمر والنهي عن ذلك الموجود: أما ارتفاع الأمر فلكونه (1) طلبا للحاصل، وأما ارتفاع النهي عنه فلأن
بقاءه مستلزم لطلب الممتنع، لعدم إمكان ترك ذلك الموجود بعد وجوده.
وكيف كان فالأمر مرتفع عنه بمجرد وجوده لا محالة، ومعه لا يلزم ما ذكر من المحذور، وبه يتضح الفرق بين القول بتعلق الأوامر بالأفراد، وبين تعلقها بالطبائع أيضا من غير حاجة إلى تكلف الفرق بينهما بالأول والابتداء.
لا يقال: على تقدير اعتبار صفة التلبس بالوجود في متعلق الأمر دون نفس الوجود لا بد من تقييد تلك الصفة بالوجود الحاصل على الوجه المباح، وإلا يلزم اجتماع الوجوب المقدمي والتحريم فيه فيما إذا كان على الوجه المحرم، نظرا إلى مقدميته لتلك الصفة المطلوبة، وأيضا يشكل كون نفس الوجود مبغوضا مع كون الصفة الحاصلة به محبوبة.
لأنا نقول: تلك الصفة محبوبة للآمر على الإطلاق من غير اختصاص محبوبيته بما يحصل منها بالوجود المباح، ولا يجب عليه أيضا تقييد الأمر بها بما يحصل منها كذلك (2).
نعم لا يجوز له تعميمه (3) بالنسبة إلى ما يحصل منها بالمحرم لقبحه، لكن

(1) في الأصل: لكونه..
(2) أقول: لا يخفى أن الأمر المتعلق بصفة التلبس بالوجود موضوعه نفس تلك الصفة الملحوظة بلحاظ الوحدانية، ونفس الوجود مباين لها، فلا يعقل تعميم ذلك الأمر بالنسبة إلى وجود دون آخر، وإنما المعقول تحققه ببعض من افراد تلك الصفة دون آخر، فحرمة بعض أفراد الوجود إنما توجب اختصاص الأمر المقدمي - الناشئ من الأمر بتلك الصفة - بالوجود المباح، لا اختصاص ذلك الأمر، فيجوز إيراد ذلك الأمر على وجه الإطلاق، مع كون بعض مقدماته محرما، فقبح التعميم مختص بالأمر المقدمي، فتأمل. لمحرره عفا الله عنه.
(3) وجه قبح التعميم: أن الطلب المتعلق بذلك الفرد الحاصل على الوجه المحرم على تقديره وإن
كان تخييريا غير مستلزم للتكليف بما لا يطاق، إلا أنه مستلزم للأول في ارتكاب مبغوضه، وهو قبيح، لكونه نقضا للغرض وتناقضا أيضا، فتأمل. لمحرره عفا الله عنه.
37

الغرض يحصل به ويجوز له الأمر بها من حيث هي من غير تصريح بالتعميم والتقييد، ولما كان الوجود المحرم غير قابل لذلك الأمر لوجود المانع منه فيه، فيختص الأمر بغيره، لكنه لما كان لوجود المانع مع ثبوت المقتضي، فلا يقتضي تغير المطلوبية بغيره، بل يعمه ويحصل به الغرض، فلم يلزم تقييد تلك الصفة، ولا اجتماع الوجوب والتحريم في شيء واحد حتى يلزم اجتماع الضدين، ولا منافاة أيضا بين كون شيء محبوبا للآمر وبين كون ما يحصله مبغوضا له، كما قد يقال له في مسألة الستر في الصلاة باللباس المغصوب: بأنه يجوز، نظرا إلى أن المعتبر في الصلاة إنما هي صفة الستر على الإطلاق، وهي تحصل مطلقا ولو كان ذات الساتر محرما مبغوضا، فمجرد حرمة مقدمة شيء لا يوجب مبغوضية ذلك الشيء، فاندفع استبعاد الاجتماع بينهما، فافهم.
الثاني (1):
أنه قد علم أن المانع من اجتماع الأمر والنهي إنما هو لزوم اجتماع الضدين مع عدم كفاية تعدد الجهة في رفعه، لكنه باطل، لوقوع الاجتماع بين الوجوب وغير الحرمة في الشريعة مع تعدد الجهة، بل ومع اتحادها أيضا، مع أن الوجوب مضاد لغيرها من الأحكام أيضا، فوقوعه ملازم لجوازه وإمكانه، لأنه أخص منه، وإمكان ذلك ملازم لإمكان اجتماع الوجوب والتحريم أيضا، لاتحاد مناط الجواز والامتناع في الموردين وإن كان الاختلاف ثابتا بينهما من وجوه، لكنها غير صالحة للفرق، لعدم دخليتها في الجواز والامتناع، بل بعضها مؤكد للجواز كما ستعرف، وموارد وقوع ذلك في الشريعة كثيرة:
فمنها: العبادات المكروهة: حيث إنها قد اجتمع فيها الوجوب والكراهة

(1) أي (الوجه الثاني من أدلة المجوزين للاجتماع) على ما جاء في هامش الأصل.
38

التي هي مضادة للوجوب مع اتحاد الجهة في بعضها حيث إن متعلق الأمر والنهي التنزيهي فيها واحد، وهو نفس العبادة، وذلك يستلزم جواز الاجتماع فيها نحن فيه بالأولوية القطعية، وهذا مثل الصوم في الأيام المخصوصة، كاليوم العاشر من المحرم وغيره، ومع تعددها في بعض آخر، كما سيتضح مثاله فيما بعد.
وفيه: أن اجتماع الكراهة والوجوب في تلك الأمثلة ليس ضروريا أو إجماعيا لا محالة، بل إنما هو مقتضى ظواهر الأدلة الشرعية، والمسألة عقلية لا يمكن إثباتها بالظواهر الظنية، بل لا بد فيها من القطع.
نعم تلك الظواهر تثبت إمكان الاجتماع ظاهرا مع فرض الشك في جوازه وامتناعه عقلا، فيترتب عليها في حق الشاك ما يترتب على إمكان الاجتماع عقلا.
والحاصل: أنه إن أريد إثبات الإمكان الواقعي العقلي بتلك الظواهر فهي لا تنهض لإثباته، وإن أريد إثبات الإمكان الظاهري فهو ليس من محل النزاع في هذه المسألة في شيء، فإن البحث فيها إنما هو عن الإمكان الواقعي.
نعم يمكن عقد مبحث آخر على تقدير الشك في الإمكان والامتناع الظاهريين، فيتجه حينئذ الاستدلال في إثبات الإمكان الظاهري بتلك الظواهر، مع أنه لا حاجة حينئذ إلى التمسك بها على إثباته أيضا، لكفاية الشك في امتناع الاجتماع في إثبات إمكانه ظاهرا كما لا يخفى.
هذا مضافا إلى أنه لا يصح النقض - على القائلين بامتناع الاجتماع - بالعبادات المجتمع فيها الوجوب والكراهة مع اتحاد الجهة، فإنها مشتركة الورود بين الفريقين، إذ القائلون بجواز الاجتماع إنما يجوزونه مع تعدد الجهة، لا مع وحدتها، فعلى أولئك - أيضا - أن يعالجوا تلك الأمثلة.
هذا، ثم إنه على القول بجواز الاجتماع فلا داعي إلى التأويل في تلك الأمثلة.
39

وأما على القول بامتناعه [فلا بد] (1) من تأويل تلك الظواهر إلى ما لا ينافي حكم العقل القطعي، إذ لا يعقل التخصيص في حكم العقل، لا سيما تخصيصه بالظواهر الظنية، ولا بأس بالتعرض لتأويلها على هذا القول، فنقول:
العبادات المتعلقة للنهي التنزيهي على ثلاثة أقسام:
الأول:
أن تكون النسبة بين المأمور به والمنهي عنه هي العموم والخصوص المطلقان مع كون الأخص مطلقا هو المنهي عنه، بأن يكون متعلق النهي بعض أفراد المأمور به مع كون الأفراد الأخرى منه أبدالا له، بمعنى عمد اتفاق انحصار فرد المأمور به في متعلق النهي، بل يتمكن المكلف من امتثاله في ضمن غير ذلك الفرد المنهي عنه، وهذا كالصلاة في الحمام، حيث إنها أخص مطلقا من مطلق الصلاة المأمور بها، ويتمكن المكلف من امتثال الأمر بالصلاة في غير الحمام، فتكون الصلاة في غير الحمام بدلا عنها فيه.
الثاني:
أن تكون النسبة بينهما على النحو المذكور في القسم الأول إلا أنه لا بدل لذلك الذي تعلق به النهي، بمعنى أنه اتفق انحصار فرد المأمور به فيه، وهذا كالصلاة والصوم في الأزمنة والأيام المخصوصة المذكورة في الفقه.
الثالث:
أن تكون النسبة بينهما هي العموم من وجه، ولا بد في هذا القسم الأخير - بعد القطع بامتناع اجتماع الأمر والنهي، والقطع بصحة العبادة - من تخصيص النهي بما إذا لم يكن متعلقه عبادة، فيرتفع النهي عن مورد الاجتماع.
ولو فرض استكشاف منقصة ذاتية ملازمة للعنوان الذي تعلق به النهي من ذلك النهي المتعلق به، بحيث يعلم ثبوت تلك المنقصة لمورد الاجتماع الذي هو من العبادة، فلا بد من التزام أن مصلحة جهة العبادية (2) الثابتة له غالبة على

(1) إضافة يقتضيها السياق.
(2) في الأصل: العبادة به..
40

تلك المنقصة، بحيث تكون تلك مضمحلة في جنبها، ويستتبع الحكم لجهة العبادية، فيكون مأمورا به لا غير.
أما تخصيص النهي بغير مورد الاجتماع دون حمله على الإرشاد - كما يصنع في القسم الأول - فلأن ظاهر النهي هو كونه مولويا لا إرشاديا، ولا داعي إلى الخروج عنه في سائر أفراد المنهي عنه، فيجب الحكم بمقتضاه بعد البناء على ثبوت الكراهة الشرعية في سائر الأفراد [و] لا يمكن حمل النهي في مورد الاجتماع على الإرشاد، لاستلزامه استعماله في معنيين، فتعين إخراجه منه وتخصيصه بغيره.
لا يقال: لما لم يمكن حمل النهي على الكراهة الشرعية بالنسبة إلى جميع أفراد العنوان المنهي عنه - التي منها مورد الاجتماع - فالأمر يدور بين ارتكاب أحد الأمرين المخالفين للأصل: أحدهما تخصيص النهي بغير مورد الاجتماع، وثانيهما حمله على الإرشاد من غير تخصيص فيه أصلا، إذ به أيضا يرتفع محذور اجتماع الوجوب والكراهة من غير حاجة إلى ارتكاب شيء آخر مخالف للأصل، فلا أولوية لارتكاب الأول على ارتكاب الثاني.
لأنا نقول: لا شبهة أن النهي الإرشادي بالنسبة إلى غير مورد الاجتماع على تقديره لا بد أن يكون المطلوب به الترك على الإطلاق، وبالنسبة إلى مورد الاجتماع على تقدير ثبوته له لا بد أن يكون المطلوب به الترك إلى بدل، وهو فعل واحد من سائر أفراد العنوان المأمور به، فعلى تقدير حمل النهي على الإرشاد من غير تخصيص يلزم - مضافا إلى ارتكاب حمله على الإرشاد الذي هو مخالف للأصل - استعماله في معنيين، بأن يكون المراد بالنسبة إلى غير مورد الاجتماع الترك على الإطلاق، وبالنسبة إلى مورد الاجتماع الترك إلى بدل، لعدم جامع بينهما حتى يستعمل النهي فيه، فلا بد من إرادة كل منهما مستقلا، وهو كما ترى.
وأما التزام غلبة جهة العبادية في مورد الاجتماع على المنقصة الثابتة فيه
41

الناشئة من جهة العنوان المنهي عنه على تقدير استكشافها من النهي، فلأنه لو لا غلبة هاتيك على تلك - بل تكونان متساويتين - فلا معنى لترجيح جهة العبادية المقتضية للأمر وثبوت مقتضاها لها دون العكس.
ثم إنه لا يخفى أنه بعد إحراز منقصة في ذلك الفرد يكون ذلك أدنى مرتبة وأقل ثوابا من سائر أفراد المأمور به، لاشتمالها على المصلحة المحضة واشتمال ذلك على المصلحة المقرونة بمنقصة ذاتية وان كانت تلك المصلحة غالبة عليها، إلا أن الغلبة توجب ضعف جهة النهي بحيث لا يقتضي معها ما كان يقتضي بدونها من النهي، لكنها لا توجب تساوي مواردها [مع] سائر (2) الأفراد.
نعم لا بد أن تكون المصلحة الموجودة فيه بمقدار المصلحة الثابتة لأصل الطبيعة المأمور بها الداعية إلى الأمر بها ويكون المقدار الزائد القائم بسائر الأفراد من المصلحة زائدا على تلك المصلحة، وإلا لا ينطبق ذلك الفرد على المأمور به، فلا يقع امتثالا عنه، لعدم كونه محصلا للغرض المقصود منه، فافهم.
هذا تمام الكلام في القسم الثالث. وأما القسم الأول من تلك الأقسام: فلا بد من حمل النهي فيه على الإرشادي، بتقريب أن للطبيعة لا مأمور بها كالصلاة - مثلا - مقدارا من المصلحة أوجبت توجه الأمر إليها وتعلق الطلب بها، لكنها قد يعتريها في بعض أفرادها عنوان آخر غير محبوب للشارع في نفسه، ويتحد معه في ذلك الفرد، فيحدث فيها في ضمن ذلك الفرد منقصة بالإضافة إلى سائر الأفراد، لكن لا يرتفع عنها ذلك المقدار من المصلحة، فيكون الطلب المتعلق بها باعتبار ذلك الفرد لأجل ذلك أضعف من الطلب المتعلق بها باعتبار سائر الأفراد، وقد تكون مجردة عن ذلك العنوان، لكنها غير مقرونة بشيء من المزايا القائمة ببعض

(1) في الأصل: لسائر.
42

الأفراد أيضا، كما في الصلاة في البيت - مثلا -، فيكون الطلب المتعلق بها باعتبار ذلك آكد منه على الفرض الأول، وأضعف منه بالنسبة إلى الفرض الآتي، وقد تكون مع تجردها عن ذلك العنوان مقرونة بجهة زائدة راجحة قائمة ببعض أفرادها، فيكون الطلب المتعلق بها باعتبار هذا الفرد آكد منه على الفرضين السابقين، وهذا كما في الصلاة في الأمكنة المشرفة كالمساجد والبقاع المشرفة، ويكون الثواب في الفرض الثاني أكثر منه على الفرض الأول، وفي الفرض الثالث أكثر منه على الفرض الثاني والأول، ومحل النهي فيما نحن فيه من قبيل الفرض الأول، فإنه لما كان مقرونا بمنقصة مقتضية لنقصان الثواب على فعله طلب الشارع طلبا إرشاديا تركه إلى بدل خال عن تلك المنقصة، فإنه - بعد إحراز مقدمتين: إحداهما صحة تلك العبادة، وأخراهما امتناع اجتماع الأمر والنهي - لا بد من خصوص هذا التصرف، لعدم سبيل لغيره [في] المقام، (1) فإنه - بعد إحراز تينك المقدمتين - يدور الأمر بين رفع اليد عن النهي بالمرة، وبين حمله على الإرشاد، لأنه لا يمكن فيه ما صنعنا في القسم الثالث، إذ المفروض انحصار مورده في مورد الاجتماع فإخراجه منه عين طرحه.
وكيف كان، فلا يمكن حمل النهي في القسم المذكور على الكراهة المصطلحة ولو مع قطع النظر عن المقدمتين أيضا، إذ المفروض أن المطلوب به الترك إلى بدل، وهو ليس من معنى الكراهة المصطلحة في شيء، فإنها عبارة عن طلب الترك على الإطلاق. هذا.
وأما القسم الثاني من تلك الأقسام الثلاثة، وهو العبادة المكروهة التي لا بدل لها كالصوم في اليوم العاشر من المحرم، فبعد القطع فيه بصحة العبادة، كما هو كذلك في المثال المذكور، والقطع بامتناع اجتماع الأمر والنهي لا بد من

(1) في الأصل: إلى المقام..
43

حمل النهي فيه على الإرشادي، بتأويل أن العبادة فيها مصلحة توجب رجحانها، لكنها قد عرضها عنوان آخر ذو مفسدة مقتضية الأرجحية تركها بالنسبة إلى فعلها، بمعنى أن تلك المفسدة الثابتة لذلك العنوان المتحد مع تلك العبادة ليست بحيث تزيل مصلحة العبادة وتحدث فيها حزازة، بل هي مع اتحادها مع ذلك العنوان ذات مصلحة وحسنة من غير حزازة فيها أصلا، بحيث لو أتى بها فقد أتى بمحبوب الشارع ومطلوبه، ويستحق الثواب على فعله، إلا أن مفسدة ذلك العنوان المتحد معها اقتضت أرجحية تركها بالنسبة إلى فعلها، نظرا إلى كونها أقوى من تلك المصلحة، فيكون دفعها أرجح من جلب تلك المصلحة فنهي الشارع إرشادا عن فعل الصوم كنهيه عن غير الأهم في كل واجبين متزاحمين يكون أحدهما أهم من الآخر، فإن طبيعة الصوم فيها مصلحة موجبة لرجحانها على الإطلاق، إلا أنها في اليوم العاشر من المحرم اتحدت مع عنوان آخر ذي مفسدة، وهو النسبة [إلى] بني (1) أمية - لعنهم الله تعالى -، ولما كان ترك ذلك العنوان أرجح من فعل الصوم مع كون الصوم راجحا أيضا، فنهي الشارع عنه بها إرشاديا مطابقا لحكم العقل الإرشادي بتقديم الأهم في كل عنوانين متزاحمين أحدهما أهم.
وبالجملة: الحال في المقام نظير الحال في القسم المذكور من المتزاحمين.
هذا، ويشكل هذا بأن تلك المفسدة العارضة لتلك العبادة من جهة اتحادها مع ذلك العنوان إن كانت مساوية لمصلحة نفس تلك العبادة، فلا يعقل كون تركه أرجح حتى يكون النهي لأجله للإرشاد، وإن كانت أقوى منها فلا بد أن تغلب عليها، فتكون تلك المصلحة مضمحلة في جنبها، ومعه لا يعقل بقاء الأمر بالعبادة، بل يستتبع الحكم للجهة الغالبة.

(1) في الأصل: ببني..
44

اللهم إلا أن يقال: إن أرجحية الترك ليست مسببة عن قوة المفسدة، بل هي أضعف من تلك المصلحة، لكنه قد وجد هناك عنوان آخر متحد مع ترك تلك العبادة، وأوجد لأجل الاتحاد مصلحة ناقصة في ترك العبادة، فتلك
المصلحة الناقصة مع تلك المفسدة الناقصة الآتية من قبل العنوان الآخر بأجمعهما أقوى من مصلحة فعل تلك العبادة، مع كون كل واحدة منهما وحدها أضعف منهما، فيصح بقاء الأمر بالعبادة، لعدم جهة غالبة على جهتها، إذ العبرة في استتباع الحكم للجهة الغالبة على الجهة الغالبة بنفسها، لا الغالبة بسبب انضمامها إلى جهة أخرى موافقة لها.
والحاصل: أن الحكم الفعلي يستتبع الجهة الواحدة لا المتعددة، وإذا كانت جهة العبادة أقوى من كل واحدة من تينك الجهتين فالحكم يستتبع تلك دون شيء منهما أو كليهما، وأرجحية تركها الحاصلة من انضمام الجهتين إنما أوجبت مجرد النهي الإرشادي عنها، دون الشرعي، فتأمل.
ومنها: الواجبات التخييرية الشرعية والعقلية المجتمعة مع الاستحباب العيني، ووجه الاستدلال بها ما مر في العبادات المكروهة.
ويتجه على الاحتجاج بها أيضا ما أوردناه على الاحتجاج بتلك من أن هذا استدلال بالظواهر في المسألة العقلية.
هذا مضافا إلى أن الثابت في تلك الأمثلة ليس الاستحباب المصطلح جدا، حيث إنه ملازم لجواز ترك مورده لا إلى بدل، وهذا متعذر فيها لكون المستحب بعض أفراد الواجب، فلا يجوز تركه على الإطلاق، بل إنما يجوز تركه إلى بدل من سائر أفراد الواجب، وما يكون كذلك لا يعقل أن يثبت له الاستحباب المصطلح الذي [هو] ملازم لجواز الترك مطلقا، وإلا لزم التناقض بين الحكم وبين موضوعه كما لا يخفى.
نعم ربما أمكن أن يقال: إن ذلك الفرد من الواجب الذي ادعي
45

استحبابه وإن لم يمكن اتصافه بالاستحباب المصطلح، إلا أنه لما كان مشتملا على مزية بالنسبة إلى سائر الأفراد فتلك المزية دعت إلى صدور طلب آخر غير إلزامي مماثل للوجوب التخييري الثابت له جنسا وفصلا بمعنى أنه طلب منفصل بجواز الترك إلى بدل، ولا منافاة بينه وبين الوجوب التخييري لعدم المضادة بينهما بوجه، بل [هما] متماثلان من جميع الوجوه.
لكنه مدفوع: بأنه كما يكون التضاد مانعا من الاجتماع كذلك يكون التماثل مانعا منه أيضا، ضرورة امتناع اجتماع المثلين في محل واحد لما حقق في محله من أن المحل من مشخصات العرض القائم به، ويمتنع أن يكون الشيء الواحد مشخصا لشيئين.
وربما يتخيل اندفاع ما ذكرنا - من امتناع ثبوت الاستحباب المصطلح فيما نحن فيه من جهة التناقض بينه وبين موضوعه - بأن موضوعه إنما هو اختيار ذلك الفرد على غيره، لا نفس ذلك الفرد حتى يلزم التناقض، وعنوان الاختيار مما يجوز تركه على الإطلاق، فإنه لا يلزم منه ترك الواجب، إذ غاية الأمر أن يفعل واحدا من الأفراد لا بعنوان اختياره على غيره وترجيحه عليه ولو كانت ذلك وهو الفرد الراجح، بل بعنوان كونه أحد أفراد الواجب.
وإن شئت قلت: إن المتوجه إلى ذلك الفرد طلبان: أحدهما وجوبي ملحوظ فيه البدلية لمورده، والآخر ندبي لم يلحظ فيه ذلك. وعدم جواز تركه على الإطلاق إنما هو مقتضى الطلب الأول، وإلا فمقتضى الثاني جواز تركه كذلك.
والحاصل: أنه قد عرض له مانع عن العمل بما يقتضيه الاستحباب المصطلح، وهو لا يستلزم انتفاءه.
هذا، لكنه مدفوع أيضا: بأن عنوان الاختيار وإن كان مغايرا لفعل ذلك الفرد بحسب المفهوم، لكنه متحد معه في المصداق بحيث لا مصداق له سواه، فيعود المحذور، فافهم.
46

ثم بعد البناء على امتناع اجتماع الوجوب والاستحباب في تلك الأمثلة فلا بد من تصرف في ظواهر الأدلة:
وأوجه وجوه التصرف - بل المتعين - حمل ما دل على الاستحباب في الواجبات التخييرية الشرعية على الطلب الإرشادي الكاشف عن تأكد ذلك الطلب الوجوبي التخييري المتعلق بالفرد الراجح، لا كونها طلبا آخر شرعيا مماثلا لذلك الطلب الوجوبي أو مضادا له، لما عرفت من امتناع كليهما معه، بناء على عدم جواز اجتماع الوجوب والتحريم إن كان مع تعدد الجهة، أو مطلقا إن كان مع وحدتها مع أنه لا يصح النقض بتلك الأمثلة على القائلين بامتناع الاجتماع على تقدير اتحادها كما عرفت سابقا.
قال دام ظله: ولعل الغالب أن المزية الموجودة في ذلك الفرد ليست جهة مغايرة لجهة الوجوب الموجودة فيه، بل من سنخها، بمعنى أن جهة الوجوب فيه أقوى منها في غيره، فتلك القوة أوجبت تأكد طلبه.
ولا يخفى أن المزية المذكورة على تقدير مغايرتها لجهة الوجوب فهي ممحضة لجهة الاستحباب، ومقتضية له إلا أن المانع منع من ترتب مقتضاه، فلا بد حينئذ أن تكون هي مؤكدة لجنس الوجوب الثابت لذلك الفرد، وهو الطلب، دون فصله أو المركب منهما، إذ لا يعقل أن تكون جهة الاستحباب مؤكدة لجهة الحتم والإلزام التي هي فصل الوجوب.
نعم على تقدير أن يكون الوجوب أمرا بسيطا عقلا، لا مركبا مشتملا على الجنس والفصل، فلا يجري فيه هذا الكلام، فإنها حينئذ مؤكدة لذلك الأمر البسيط لا محالة.
هذا، وكيف كان، فالحال فيما نحن فيه نظير الحال في الواجبين المتزاحمين اللذين أحدهما أهم من الآخر، فإنه كما لا توجب المزية الموجودة في الأهم منهما
47

صدور طلب آخر مولوي من الشارع، بل إنما توجب تأكد الطلب الابتدائي، وصدور طلب إرشادي كاشف عن الاهتمام في شأن ذلك الواجب، فكذلك المزية المفروضة فيما نحن فيه.
والحاصل: أن الحال فيما نحن فيه نظير الحال في الواجبين المتزاحمين اللذين أحدهما أهم من الآخر، لكن لم يبلغ الاهتمام فيه إلى حد التعيين، بل أوجبت المزية الموجودة فيه مجرد رجحان فعله بالنسبة إلى الآخر واختياره عليه، لا وجوب تقديمه عليه.
هذا كله في الواجبات التخييرية الشرعية.
وأما الواجبات التخييرية عقلا التي دلت الأدلة على استحبابها، فلا بد فيها من حمل ذلك الطلب المستفاد من تلك الأدلة على الإرشادي الكاشف عن أرجحية ذلك الفرد بالنسبة إلى سائر أفراد المأمور به، لكن المزية الموجودة فيه ليست مؤكدة لطلب آخر، لعدم تعلق الطلب بخصوص الأفراد أصلا، بل يتوجه لأرجحية ذلك الفرد في وقوعه امتثالا عن ذلك الفرد المتعلق بأصل الطبيعة المأمور بها بالإضافة إلى سائر أفرادها. هذا.
ومنها: تداخل الأغسال الواجبة والمندوبة، ووجه الاستدلال به أيضا نظير ما مر، وكذا الجواب عنه، فإن ذلك لو كان من مقولة اجتماع الأمر والنهي، فمن يمنع منه عقلا لا بد أن يؤول تلك الموارد إلى شيء آخر، لعدم معارضة بين القطع والظاهر بوجه.
والتحقيق في الجواب: أن تداخل الأغسال الواجبة والمندوبة على تقدير ثبوته شرعا ليس من مقولة اجتماع الوجوب والاستحباب على النحو الذي هو محل النزاع في المقام في شيء أصلا، فإنا إن بنينا على كون كله غسل حقيقة مغايرة للآخر - كما لعله الظاهر من الأدلة - أو أن الغسل حقيقة واحدة غير متكثرة بالوجوب
والاستحباب أو بتكثر الأسباب واختلافها، مع اعتبار الإيجاد
48

في متعلق كل من الطلبين المتعلقين بها الذين أحدهما وجوبي، والآخر ندبي، بأن يكون موضوع كل منهما إيجاد واحد لتلك الطبيعة، بمعنى كون المطلوب إيجادين لها: أحدهما واجب، والآخر مندوب، فلا ريب حينئذ أن معنى تداخلها إنما هو سقوط أحد الأمرين بإيجاد متعلق الأمر الآخر، وهذا ليس من اجتماع الوجوب والاستحباب أصلا.
* * *
49

الثالث من وجوه المجوزين لاجتماع الامر والنهي
وبعبارة أخرى: أنه على أحد التقديرين المذكورين يكون متعلق كل من الطلبين مغايرا لمتعلق الآخر ذهنا وخارجا أيضا، فلا اتحاد في متعلقهما ولا تصادق بينهما بوجه، حتى يكون مورد الاجتماع متصفا بهما ومسقطا عنهما لصدق متعلقهما عليه.
وإن بنينا على اتحاد حقيقة الأغسال الواجبة والمندوبة - مع عدم اعتبار الإيجاد في متعلق الوجوب والاستحباب - يكون (1) متعلقهما حينئذ شيئا واحدا من غير تعدد الجهة أيضا، والقائل بجواز الاجتماع في المقام لا يقول به، فيلزم على كلا الفريقين علاج ذلك (2)، فلا يصح للقائل بجواز الاجتماع في المسألة المتنازع فيها النقض على المانعين بذلك لاشتراك وروده بينهما.
هذا، مع أن السقوط على التقدير الأول ليس من باب التداخل المصطلح المتنازع فيه في مسألة التداخل، فإن النزاع ثمة إنما هو فيما إذا تعلق طلبان بطبيعة واحدة، فيقال حينئذ: أنه هل يكفي امتثالهما بإيجاد واحد من تلك الطبيعة، أو لا؟ نعم يمكن النزاع في التداخل وعدمه فيما إذا كان الطلبان متعلقين بطبيعتين بينهما عموم من وجه إذا أتى بمورد الاجتماع بعقد مبحث آخر، بل يمكن إدخاله في

(1) في الأصل: فيكون..
(2) في الأصل: من علاج في ذلك..
50

محل النزاع في تلك المسألة المعهودة، بتقريب أن النزاع فيها إنما هو في أنه إذا أتى بشيء يكون مصداقا لمتعلقي الطلبين ومحصلا لهما فهل يجوز الاكتفاء به عنهما، أو لا؟ ولا يبعد.
وكيف كان، فمسألة تداخل الأغسال خارجة عن تلك المسألة على التقدير الأول، بل على الثاني أيضا، لعدم التصادق بين متعلقي الطلبين على كل منهما بوجه، بل يباين كل منهما الآخر مطلقا، فافهم.
الثالث
أن السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب، ونهاه عن الكون في مكان مخصوص، فخاطه فيه، فلا ريب في أنه يعد في العرف مطيعا وعاصيا باعتبار الجهتين، وكذلك الحال فيما إذا أمره بمشي خمسين خطوة في كل يوم، ونهاه عن الدخول في الحرم، فمشى المقدار المذكور في داخل الحرم.
وجه الاستدلال: أن الإطاعة والعصيان لا تتحققان في الخارج إلا بالأمر والنهي، فصدقهما على شيء واحد كاشف عن وجود الأمر والنهي فيه، فثبت وقوع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد، فثبت به المطلوب، وهو إمكان الاجتماع، حيث إن الوقوع أخص من الإمكان فيستلزمه هذا.
قال دام ظله: كون المثال الأول مماثلا للمقام مبني على كون متعلق الأمر نفس تلك الحركات، وهي إدخال الإبرة وإخراجها عن الثوب مع كون متعلق النهي هو الكون بمعنى التصرف، لا وجود المكلف أو تحيزه الجسمي، وإلا لم يكن مماثلا ولا شاهدا له على تقدير ثبوته بوجه، فإنه إذا كان متعلق الأمر هي الصفة الحاصلة للثوب من تلك الحركات، حيث إنه يجوز الأمر بها لكونها مقدورة بالواسطة سواء كان متعلق النهي والكون بمعنى التصرف، أو وجود المكلف أو التحيز الجسمي، أو كان متعلق النهي هو الكون بمعنى وجود المكلف أو تحيزه
51

الجسمي (1)، وإن كان متعلق الأمر هي نفس تلك الحركات لا (2) يتحد موضوعاهما في الخارج حتى يلزم اجتماع الأمر والنهي في أمر واحد، بل يتعددان فيه، ويتمايز (3) كل منهما عن الآخر.
والظاهر أن المراد بالخياطة إنما هو تلك الحركات، لأنها الظاهرة منها، كما أن من المعلوم أن المراد بالكون هو التصرف، لا أحد المعنيين الآخرين له، لعدم صلاحية شيء منهما لتعلق التكليف به كما لا يخفى، فيكون منطبقا على المقام ومماثلا له كمماثلة المثال الثاني له، فيكون كل منهما - على تقدير ثبوته - دليلا عليه. هذا.
وقد أجيب عن الاحتجاج المذكور: تارة بأن الأمر بالخياطة إنما تعلق بتحصيل الخياطة بأي وجه اتفق، وأخرى أنه مع تسليم ذلك نمنع من كونه الكون المنهي عنه جزء من مفهوم الخياطة، وثالثة أنه مع تسليم ذلك نمنع من صدق الامتثال والحال هذه. هذا.
ولا يخفى ما في الجوابين الأولين من الضعف:
أما الأول منهما فلأن الظاهر منه كما استظهره المحقق القمي - رحمه الله - أيضا تعلق الأمر بطبيعة الخياطة غير مقيدة بشيء ولا بخصوصية من خصوصيات الأفراد، وليس هذا إلا تسليما لمطلب المستدل، لا ردا عليه، إذ لا نعني بالاجتماع إلا عدم تقيد الطبيعة المأمور بها بالنسبة إلى الفرد المحرم وكونه

(1) كذا في الأصل والظاهر نقص العبارة لجواب الشرط المتقدم: (فإنه إذا كان متعلق الأمر هي الصفة.. الخ) وتقدير الجواب: يتحد موضوعهما في الخارج، فليزم اجتماع الأمر والنهي في أمر واحد.
(2) في الأصل: فلا يتحد.
(3) كذا في الأصل، والأصح: يمتاز..
52

مصداقا وواقعا امتثالا عنها.
والتوجيه الذي يذكره بعض المتأخرين - من أن غرض المجيب لعله حمل الخياطة في المثال المذكور على الأمر القائم بالثوب دون نفس الفعل الذي هو مقدمة لحصوله من غير تقييد لذلك الأمر بحصوله من مقدمة جائزة، فعلى هذا لا يكون المثال مماثلا للمقام كما عرفت - لا شاهد عليه، بل مخالف لظاهر كلامه.
نعم [هو] محتمل من كلامه كاحتمال أن يكون مراده من تعلق الأمر بالخياطة هو تعلق الغرض بها وصدق الإطاعة من جهة انطباق ذلك الفرد المحرم على ما هو الغرض من الأمر بناء على أن الإطاعة لا تتوقف على الأمر، فيكون الدليل أعم من المطلوب، لعدم استلزام صدق الإطاعة حينئذ للأمر، فيصح وقوعه جوابا عن المستدل.
والتحقيق في الجواب: منع صدق الإطاعة أولا، ثم على تقدير تسليم تحققها بدون الأمر، منع استلزامه للمطلوب، لكونها أعم منه، فلا ينفع ثبوتها للمستدل في شيء بوجه. هذا خلاصة الكلام في أدلة الجواز ودليل المنع أيضا بما فيه.
والحق هو جواز الاجتماع كما عرفت سابقا، والمعتمد فيه على الوجه الأول. وأما حجة المفصل بين ثبوت الجواز عقلا وامتناعه عرفا فقد أشير إليها في أول المسألة على كلا الاحتمالين فيه.
وتوضيحها: أن دليل الجواز عقلا عند المفصل هو ما ذكر.
وأما حجة الامتناع عرفا: فإن كان المراد بعدم الجواز عرفا هو فهم تخصيص الأمر بالنسبة إلى مورد الاجتماع، فهي فهم العرف - الذي هو المعتمد في الأحكام - المستفاد من الخطابات، وإن كان هو الامتناع بالنظر المسامحي
53

فالوجدان (1) أو الرجوع إلى أنظار العرف وتحصيل ما عندهم، ويترتب عليه (2) ما يترتب على الامتناع
العقلي، نظرا إلى ما أشرنا إليه هناك من أن الأحكام الشرعية ليست مبنية على الدقائق الحكمية، بل على الأنظار العرفية المبنية على المسامحة، فتحمل الخطابات الشرعية عليها.
هذا، لكن لا يخفى أن ذلك التفصيل ليس تفصيلا في هذه المسألة، بل القائل موافق لغيره من القائلين بالجواز، وانفهام (3) تخصيص أحد [من] الأمر والنهي بالنسبة إلى مورد الاجتماع، أو الامتناع بالنظر إلى الأنظار العرفية كل منهما دعوى أخرى ونزاع آخر لا ربط له بالمسألة في شيء، ومع ذلك كله فالجواب عنه: منع الامتناع بكلا الاحتمالين فيه.
خاتمة (4):
قد عرفت أن النزاع في المسألة المذكورة في جواز اجتماع الوجوب والتحريم - في شيء واحد في زمان واحد مع تعدد جهتهما - وعدمه، وعلمت ما هو الحق فيها.
بقي من الوجوه المتصورة لاجتماعهما وجوه اخر قد علم حكم بعضها في مطاوي الكلمات المتقدمة في تلك المسألة إجمالا، لكنه ينبغي التعرض لجميع تلك الوجوه، وتحقيق الكلام في كل منها على التفصيل، فنقول:
منها: اجتماع الوجوب والتحريم في شيء واحد في زمان واحد مع اتحاد جهتيهما بمعنى كون متعلق كل منهما عين ما تعلق به الآخر.
ومنها: الوجه المتقدم بحاله إلا أن زمني الأمر والنهي مختلفان.

(1) أي فالحجة هي الوجدان..
(2) أي على الامتناع بالنظر المسامحي.
(3) سبق بيان عدم تأتي (الانفعال) من هذه المادة.
(4) أي (خاتمة المسألة) هكذا جاء في هامش الأصل.
54

ومنها: اجتماعهما في شيء واحد وفي زمان واحد مع تعدد جهتيهما وانحصار مصداق المأمور به في المحرم.
ومنها: الوجه المتقدم بحاله إلا أن زمني الأمر والنهي مختلفان.
ومنها: الوجه الثالث بحاله إلا أنه لم ينحصر فرد المأمور به المحرم، ولم يتحد زمنا الأمر والنهي.
فإذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا شبهة في امتناع اجتماع الأمر والنهي على الوجه الأول والثالث مطلقا - سواء كان متعلقهما من ذوات الأسباب مع اتحاد سببها الموجب للاضطرار إلى ارتكابها، أو لا - لاستلزام اجتماعهما في كل منهما التكليف بالمحال، بل التكليف المحال، نظرا إلى امتناع تعلق الكراهة والإرادة بشيء واحد، فلا يمكن للمجوزين للتكليف بالمحال التزام جواز الاجتماع في شيء منهما، فكيف بغيرهم النافين له، وقد عرفت أيضا أن القائلين بالجواز في المسألة المتقدمة لا يقولون به في أمثال ذلك مما لا مندوحة فيه للمكلف في امتثال الأمر.
وأما الوجه الثاني: فالتحقيق فيه التفصيل بين ما كان متعلقهما من ذوات الأسباب - بعد ارتكاب سببها الموجب لاضطرار المكلف إلى فعلها، أو قبله - وبين ما كان من غيرها، فيجوز الاجتماع على الثاني، فإن الطلب المتقدم المرتفع في الزمان اللاحق إن كان هو النهي فقد وقع مخالفته من قبل، ولا يكون الإتيان بالفعل في الزمان الثاني مخالفة وعصيانا له، فلا مانع من تعلق الأمر به في الزمان الثاني، لعدم استلزامه لاجتماع الإرادة والكراهة، لانتفاء الكراهة عنه حينئذ، لأن موضوعها هو العصيان، وقد تحقق من قبل، وليس ذلك الإتيان عصيانا، ولا للتكليف بالمحال أو المحال أيضا، لعدم إرادة ترك الفعل منه حينئذ بالفرض، وإن كان المرتفع هو الأمر فكذلك أيضا، إذ بعد مخالفته الموجبة لرفعه لا يبقى محبوبية بعده للفعل حتى يكون النهي عنه مستلزما لاجتماع الإرادة والكراهة، فلا يلزم التكليف المحال لذلك أيضا ولا التكليف بالمحال، لفرض ارتفاع الطلب السابق.
55

هذا كله على فرض وقوع مخالفة الطلب السابق، وأما على فرض إطاعته فالأمر أوضح.
وأما على الأول: فلا شبهة في امتناع الاجتماع على أول شقيه، وهو صورة ارتكاب سبب الفعل، فإن النهي السابق وإن ارتفع بعد الاضطرار إلى فعل المنهي عنه الناشئ عن اتحاد سببه، بل لا يعقل بقاؤه، إلا أن أثره - وهو وقوع ذلك الفعل عصيانا - باق على حاله، وذلك لأن التكليف المتعلق بفعل إنما تتحقق مخالفته بارتكاب ذلك الفعل في وقت وجوب الاجتناب عنه إذا كان ذلك التكليف نهيا، أو بتركه في وقت وجوب الإتيان به إذا كان ذلك التكليف أمرا، ومن المعلوم أن الأفعال - التي هي من مقولة ذوات الأسباب - إذا تعلق بها أمر أو نهي يكون وقت الإتيان بها أو تركها بعد زمن إيجاد أسبابها، فكما أن امتثالها إنما يتحقق في ذلك الزمان لا غير، فكذلك عصيانها لا يقع إلا فيه لا قبله، بحيث لو فرض أن المكلف أتى بشيء قبل ذلك الزمان بسوء اختياره موجب لسلب قدرته على امتثالها في ذلك الزمان، فلا يكون إتيانه بذلك الشيء مخالفة حقيقية للتكليف المتعلق بها، بل إنما هو مخالفة حكمية، بل المخالفة الحقيقية إنما هي بترك تلك الأفعال أو ارتكابها في ذلك الزمان ولو كان ذلك بسبب سلب اختياره عن نفسه قبله بسوء اختياره، ولما كان المفروض فيما نحن فيه كون متعلق النهي من مقولة تلك الأفعال وإتيان المكلف بما أوجب اضطراره إلى ارتكابه في وقت وجوب الاجتناب عنه، فيكون ارتكابه له في ذلك الوقت عصيانا لذلك النهي، وإن كان النهي لا يعقل بقاؤه بعد الاضطرار إلى ارتكاب متعلقه ولو كان بسوء اختيار المكلف، إلا أن مخالفته لا تتحقق في مثل تلك الأفعال إلا على هذا النحو ولو لا ذلك لزم أن لا يعصي أحد بارتكاب المحرم الذي هو من مقولة ذوات الأسباب، نظرا إلى ان الإتيان بما أوجب ارتكابه ليس عصيانا له، فإذا فرض عدم تحقق العصيان بارتكاب نفس المحرم بعد ارتكاب ذلك السبب بتوهم أن
56

النهي قد ارتفع، ومعه لا عصيان، فلم يعص في ارتكاب ذلك المحرم من وجه، وهو خلاف الضرورة من دين سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الطاهرين -.
والحاصل: أن مخالفة النهي في غير ذوات الأسباب تقارن وجود النهي وفيها لا يعقل تقارنها له - كما عرفت - بل إنما تقع بعد ارتفاعه، فإذا ثبت أن ارتكاب الفعل في الزمن الثاني عصيان لذلك النهي السابق فلا يعقل تعلق الأمر به في الزمن الثاني، لما مر من امتناع تعلق الإرادة والكراهة بشيء واحد.
هذا كله مع فرض كون التكليف السابق هو النهي.
وأما إذا كان هو الأمر فقد علم مما حققنا امتناع اجتماعه مع النهي اللاحق أيضا.
ثم هذا الذي ذكرنا إنما هو على أول الشقين من الشق الأول من شقي الوجه الثاني.
وأما على ثانيهما: فالوجه جواز الاجتماع، وذلك لأن المفروض فيه عدم ارتكاب المكلف لما يوجب اضطراره إلى مخالفة التكليف السابق، فيكون ارتفاعه حال قدرته على امتثاله، والارتفاع - حينئذ - لا يعقل (1) إلا على نحو البداء الحقيقي الذي لا يجوز في حقه تعالى، أو المجازي الذي هو النسخ، ومن المعلوم أنه بكلا قسميه إبطال للتكليف السابق، ومعه لا يؤثر في كون الإتيان بالفعل أو تركه بعد ارتفاعه معصية له، فلا مانع من توجه الطلب المناقض للطلب السابق المرتفع على هذا الوجه، وامتناع الاجتماع على الشق الأول من ذينك الشقين أيضا مبني على عدم ارتفاع التكليف السابق على هذا الوجه، وأما معه فلا مانع من الاجتماع فيه أيضا.

(1) وذلك لأن ارتفاع كل تكليف إما بامتثاله أو بمخالفته، والمفروض عدمهما، وإما برفعه على نحو البداء على أحد الوجهين فيه، ولما كان ارتفاعه على نحو البداء الحقيقي ممتنعا في حقه تعالى، فيتعين أن يكون بالنسخ، فيبطل ذلك الطلب به، فلا يقتضي ما ذكر. لمحرره عفا الله عنه.
57

وأما الوجه الرابع: فالحق فيه أيضا التفصيل المتقدم: من أنه إذا كان الفعل من ذوات الأسباب (1) بعد إيجاد سببه - الموجب لاضطرار المكلف إلى تركه فيما يجب (2) فعله، أو العكس - يمتنع الاجتماع إلا على نحو البداء لعين ما مر.
وأما إذا كان من غيرها أو منها قبل إيجاد سببه فيجوز لما مر، وتعدد الجهة بعد انحصار فرد المأمور به في
المحرم مثل اتحادها من غير فرق أصلا إنما يجدي إذا لم ينحصر فيه، مثال ما إذا كان من ذوات الأسباب (3) بعد إيجاد ما أوجب اضطراره إلى المخالفة، إلقاء المكلف نفسه اختيارا في بئر الغير عدوانا ولم يصل بعد (4) إلى ماء البئر، فأراد الارتماس فيه حينئذ بعنوان الغسل - بالضم -، فعلى ما حققنا لا يصح منه ذلك فإنه وإن كان غير مضطر إلى الوصول إليه من باب الغسل، بل يقدر عليه من باب عنوان آخر، فلا مانع من الأمر بذلك الارتماس من هذه الجهة، إلا أن النهي السابق اقتضى حرمة جميع أفراد المنهي عنه التي منها ما صادف الارتماس بعنوان الغسل واتحد معه، فتكون ذات (5) ذلك الارتماس معصية، فلا يصح تعلق الأمر [به]، فلا يجدي ولا يصح منه ذلك بوجه، لأن الصحة تتوقف على وجود الأمر، بل على القول بعدم توقفها عليه أيضا لامتناع وقوع الطاعة بالمعصية، وأما على جواز الاجتماع فالوجه أيضا عدم الصحة، لما ذكرنا من امتناع وقوع الطاعة بالمعصية، فتنفى الثمرة بينهما.

(1) أي.. كان الفعل من الأفعال ذات الأسباب..
(2) في الأصل: فيما إذا يجب فعله..
(3) أي.. كان الفعل من الأفعال ذات الأسباب..
(4) أي إلى الآن.
(5) استعملت الذات - استعارة - بمعنى عين الشيء، واستعملت بهذا المعنى مفردة ومضافة، وليس ذلك من كلام العرب مفردات الراغب: 263. بتصرف.
58

نعم تظهر الثمرة بينهما فيما إذا كان المكلف غافلا عن الغصبية - أو ناسيا لها أو جاهلا بحكمها جهلا يعذر معه - فقصد الغسل يصح (1) منه ذلك على جواز الاجتماع، إذ لا مانع حينئذ من وقوع الطاعة لانتفاء المعصية، لتوقفها على الالتفات، بل القوي حينئذ هو جواز الاجتماع لذلك، لأن المانع منه: إما المعصية، والمفروض عدمها، وإما التضاد بين الحكمين، وقد عرفت اندفاعه في المسألة المتقدمة مع تعدد الجهة.
هذا بالنسبة إلى العبادات.
وأما في غيرها فيصح منه مطلقا، لعدم توقفها فيها على تحقق الطاعة، بل يتوقف على انطباق الفعل على الغرض، وهو لا ينافي المعصية، فافهم.
وأما الوجه الخامس: من الوجوه الخمسة المتقدمة، فعلى ما اخترناه من جواز الاجتماع في المسألة المتقدمة فهو فيه أولى، لانتفاء احتمال اجتماع الضدين فيه على تقدير الاجتماع، أو ضعفه بالنسبة إليه في تلك المسألة.
وأما على القول بامتناعه ثمة، فينبغي القول بجوازه هنا، إذ مع تسليم استلزام الاجتماع ثمة لاجتماع الضدين فهو ممنوع فيما نحن فيه لتعدد زمنهما.
فإذا عرفت ذلك كله، فاعلم أنه قد يجعل من مصاديق الوجه الرابع الخروج عن المكان المغصوب بعد توسط المكلف فيه بسوء اختياره بتقريب: أن النهي السابق على التوسط فيه اقتضى حرمة جميع أنحاء التصرف - في مكان الغير - التي منها التصرف الخاص الذي هو الخروج بعنوان التخلص عن المقدار الزائد منه من الغصب، فيكون ذلك التصرف منهيا عنه بالنهي السابق، وبعد التوسط يكون مأمورا به لكونه تخلصا عن المقدار الزائد.
لكنه - دام ظله - أشكل في انطباق ذلك المثال على ذلك الوجه:

(1) في الأصل: فيصح..
59

بدعوى أن تعلق الأمر بذلك التصرف الخاص المتصف بعنوان التخلص، إنما كان حين النهي لا بعده، لأن موضوع التخلص واجب أزلا وأبدا، فيكون منطبقا على الوجه الثالث.
نعم زمن امتثال ذلك الأمر متأخر عن زمان توجهه نحو المكلف، لأنه لا يكون إلا بعد الدخول في المكان المغصوب.
لكنه مدفوع: بأن الحكم قد يلاحظ بالنسبة إلى الفعل، وقد يلاحظ بالنسبة إلى المكلف، والذي ذكره - دام ظله - من أن عنوان التخلص واجب أزلا وأبدا إنما هو بالاعتبار الأول، وأما بالاعتبار الثاني فلا، فإن الحكم لا يتوجه نحو المكلف إلا بعد دخوله في موضوع ذلك الحكم، ومن المعلوم أن موضوع وجوب التخلص ليس ذات المتوسط في المكان المغصوب، بل إنما هو عنوان المتوسط فيه، فلا يتوجه إليه الأمر إلا بعد دخوله في ذلك العنوان، وهو لا يكون إلا بعد التوسط فيه الذي هو متأخر عن زمن النهي، فيكون منطبقا على الوجه الرابع، فتأمل بعين الإنصاف، وجانب التقليد والاعتساف.
نعم لا يختلف حكم المثال المذكور باعتبار دخوله في الوجه الرابع أو الثالث، لأنك قد عرفت امتناع الاجتماع على الوجه الثالث مطلقا، وكذلك على الوجه الرابع إذا كان الفعل من ذوات الأسباب بعد إيجاد سببه الموجب للاضطرار إلى ارتكابه.
ومن المعلوم أن التصرف الخاص في المثال المذكور من ذوات الأسباب بعد ارتكاب سببه الموجب للاضطرار إليه، فيمتنع اجتماع الأمر والنهي فيه على التقديرين.
ثم إنه لا بأس بالتعرض لتحقيق الحال في حكم المثال المذكور فنقول:
قد اختلفوا فيه على أقوال أربعة: القول بأن المتوسط مأمور بالخروج
60

ومنهي عنه، وأنه عاص لفعله وتركه، وهو المنسوب إلى القاضي (1) وإلى جماعة من أصحابنا، واستقربه المحقق القمي (2) رحمه الله.
والقول بأنه مأمور به وليس منهيا عنه ولا معصية عليه أيضا، وقد نسب هذا إلى قوم آخرين.
والقول بأنه مأمور به ليس منهيا عنه حال كونه مأمورا به لكنه عاص به بالنظر إلى النهي السابق، وقد اختاره بعض متأخري المتأخرين (3).
والقول بأنه منهي عنه وليس مأمورا به أصلا، وقد حكي هذا عن بعض متأخري المتأخرين (4).
حجة القول الأول: بأن الأمر والنهي دليلان تواردا، فلا بد من إعمالهما، إذ المانع منهما: إما العقل فليس إلا لكونه تكليفا بالمحال، وهو لا يصلح مانعا لجوازه إذا كان من قبل المكلف، وإما العرف فلا دلالة عليه.
وأجيب عنه: بأن الخروج أخص من الغصب، وتوارد الأمر والنهي على العام والخاص يفيد عرفا تخصيص ما تعلق منهما بالعام بغير الخاص، وهو هنا النهي، فيخصص بغير الخروج.
وهو بمكان من الفساد، إذ العموم والخصوص كسائر النسب الأربعة إنما

(1) الفصول:
(2) القوانين 1 / 153 عند قوله: (الثالث: إنه مأمور به ومنهي عنه.. وهو الأقرب).
(3) (وهو صاحب الفصول - قدس سره) على ما جاء في هامش الأصل. راجع الفصول: وكذا اختاره المولى النراقي - قدس سره - في مناهج الأصول في مبحث اجتماع الأمر والنهي في الفائدة الخامسة.
(4) جاء في هامش الأصل: (وهو الحاج محمد إبراهيم الكرباسي - قدس سره - في كتابه المسمى بالإشارات، على ما حكي عنه). وإليك لفظه: (والحق أنه لا أمر بالخروج هنا، بل الواجب عليه عدم التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والخروج هنا مقدمة له، وليس واجبا). ص: 114.
61

يلاحظان بالنسبة إلى مفهوم متعلقي الحكمين، لا بالنسبة إلى مصاديقهما، فانحصار مصداق أحد العامين من وجه في مورد الاجتماع لا يجعله أخص مطلقا من العام الآخر، والحال فيما نحن فيه كذلك، فإن الخروج بحسب مفهومه أعم من وجه من الغصب، وإنما انحصر مصداقه في مورد الاجتماع.
والتحقيق في الجواب:
أولا - أن المسألة عقلية لا مساس بملاحظة أحكام التعادل والترجيح فيها (1).
وثانيا - مع جواز التكليف بالمحال مطلقا الذي هو مبنى الحجة المذكورة.
وثالثا - أنه على تقدير تسليمه لا يكفي ولا ينهض - حجة على مطلب المستدل، لأن ذلك من قبيل التكليف المحال، نظرا إلى امتناع اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد.
حجة القول الثاني: أن المتوسط في المكان المغصوب أمره دائر بين البقاء فيه إلى آخر عمره وبين الخروج عنه، لا سبيل إلى الأول، لاستقلال العقل بتقديم الأقل من المحذورين بعد الاضطرار إلى ارتكاب أحدهما. ومن المعلوم أن حرمة الخروج على تقديرها إنما هي من باب كونه غصبا وتصرفا في مال الغير، ولا ريب أن التصرف في مال الغير على التقدير الأول أكبر منه على الثاني، فيكون الثاني أقل من الأول، فيدخل فيما يستقل
به العقل من وجوب ارتكاب الأقل من المحذورين بعد الاضطرار إلى ارتكاب أحدهما، فيجب، ومعه لا يعقل كونه منهيا عنه، لما مر من استلزامه للتكليف المحال، فيكون مأمورا به فقط، وأما عدم المعصية عليه فلأنها فرع ثبوت النهي، والمفروض عدمها.
حجة القول الثالث: على كون الخروج مأمورا به لا غير هي ما مر في

(1) كذا في الأصل، والصحيح في العبارة:.. لا مساس لها بأحكام التعادل والترجيح.
62

القول الثاني.
وأما على كونه معصية للنهي السابق فبما حاصله: أن النهي السابق على الدخول قد اقتضى جميع أنحاء التصرف في ملك الغير التي منها التصرف الخاص المتصف بعده بعنوان الخروج، إلا أن المانع - وهو لزوم التكليف بالمحال أو المحال - منع من بقائه حال الأمر، وهو لا يقتضي عدم وقوعه معصية له.
ويتجه عليه: أن المدعى إنما هو إثبات كونه معصية له، ومجرد عدم المنافاة لا ينهض دليلا عليه، وكان الحري بالاحتجاج عليه - بعد ثبوت النهي سابقا بالنسبة إلى ذلك التصرف الخاص كما جعله المستدل مفروغا عنه ومسلما - ما حققنا سابقا في الوجه الرابع من الوجوه الخمسة المتقدمة من أنه إذا كان المنهي عنه من ذوات الأسباب لا يعقل عصيانه إلا بعد إيجاد سببه الموجب للاضطرار إلى ارتكابه، ومعه يرتفع النهي لاستلزام بقائه التكليف بالمحال، فيقع الفعل معصية حال ارتفاع النهي عنه، وما نحن فيه من ذلك الباب، فيجري عليه حكمه، فافهم.
حجة القول الرابع: ما يبنى عليه القائل به من عدم وجوب مقدمة الواجب، لأن وجوب الخروج على تقديره إنما هو لترك التصرف الزائد عنه من الغصب الذي هو واجب.
وفيه: منع كون الخروج مقدمة لترك التصرف الزائد، بل من مصاديقه ومتحد معه من باب اتحاد الكلي مع الفرد، فليس من مقولة مقدمة الواجب في شيء حتى يمنع وجوبه بمنع وجوبها.
هذا مضافا إلى أنا قد حققنا في محله: أن إنكار وجوبها مكابرة للوجدان.
ثم الحق في المقام ما حققه - دام ظله على مفارق الأنام - من أن ذلك التصرف الخاص - وهو الخروج - مبغوض ذاتا، لكونه من أفراد طبيعة الغصب المبغوضة على الإطلاق من حيث هي، لكنه قد عرضه عنوان آخر حسن، وهو
63

التخلص عن الغصب، والحكم العقلي يستتبعه، لما مر في بيان حجة القول الثاني، فيكون مأمورا به بهذا الاعتبار، ومعه لا يعقل تعلق النهي به - كما عرفت - ولا يقع معصية أيضا، لتوقفها على النهي، ولو كان هو النهي السابق إذا كان المنهي عنه من ذوات الأسباب - كما عرفت آنفا - ولا يعقل النهي عن التخلص من أول الأمر، لوجوبه على الإطلاق، ولأنه على تقديره موجب لصيرورة الفعل معصية، فيكون الأمر به أمرا بها، وقد عرفت امتناعه، فتعين كونه مأمورا به لا غير.
وبعبارة أخرى أوضح: أنه لا ينبغي الارتياب في وجوب التخلص عن المقدار الزائد عن ذلك التصرف الخاص من الغصب، وهذا الحكم ثابت لهذا الموضوع من حيث ثبوت الحرمة للغصب.
ومن المعلوم أن هذا الموضوع لا يتحقق إلا بعد الغصب والدخول فيه، فلا يعقل تعلق النهي به ولو كان هو النهي السابق، لاستلزامه للتناقض، فإن النهي عن الذي لا يتحقق إلا بالغصب يناقض الأمر به، فيجب رفع التناقض، ويتعين رفعه برفع النهي مطلقا لعدم إمكان رفع الأمر، فيتحقق أنه مأمور به لا غير، وأنه نفسه ليس معصية لعدم النهي عنه أصلا. نعم هو بذاته مبغوض للشارع لاشتماله على مفسدة الغصب، لكن عروض عنوان التخلص له المقتضي للأمر به من توجه النهي إليه (1) مطلقا، فيكون مرتكبه عاصيا ومعاقبا بمقدار عقاب ذلك التصرف الخاص على تقدير حرمته من جهة أخرى، وهي أن إيقاع النفس في المبغوض الذاتي محرم ولو كان سبب الإيقاع فعلا مباحا، فكيف بما إذا كان محرما كما فيما نحن فيه؟ فإنه أوقع نفسه في ذلك المبغوض الذاتي بارتكابه للدخول في ملك الغير عدوانا، فبالدخول فيه يتحقق عصيانان:

(1) ضميرا (له) و (به) راجعان على (الخروج)، والضمير في (إليه) عائد على (الغصب).
64

أحدهما عصيان النهي عن الغصب، والآخر عصيان النهي عن إيقاع النفس في المبغوض الذاتي، فالمرتكب لذلك التصرف الخاص لم يكن عاصيا بذلك التصرف، وإنما هو عاص من تلك الجهة، وحرمة إيقاع النفس وجعلها مضطرة إلى ارتكاب المبغوض الذاتي ليست غيرية - كما لعلها ربما تتوهم - بل نفسية، وحكمتها السلامة عن مفسدة المبغوض الذاتي، ولا يجب أن يكون الحرام النفسي لمفسدة في نفسه، بل يمكن كونه كذلك لمفسدة حاصلة من غيره، كما أن الواجب النفسي أيضا لا يجب أن يكون وجوبه لمصلحة في نفسه، بل يمكن أن يكون لمصلحة حاصلة في غيره، كما في وجوب تعليم الغير أحكام دينه، إذ لا يعقل أن يقال: إنه واجب غيري، لأنه عبارة عما يجب التوصل به إلى امتثال ما يجب على نفس ذلك المكلف لا غير.
فبهذا اندفع توهم: أن حرمة إيقاع النفس في المبغوض الذاتي لا توجب وقوعه معصية، لما تقرر في محله من أن الحرمة الغيرية لا توجب وقوع موضوعها عصيانا.
وبالجملة: تحقق أن المتوسط في المكان المغصوب مأمور بالخروج لا غير، لكن عليه معصية إيقاع النفس في ذلك المبغوض الذاتي، فعليه من العقاب مقدار ما على ذلك التصرف الخاص على تقدير حرمته أيضا، كما هو الشأن في سائر موارد إيقاع النفس في المبغوض، فإن من جعل نفسه مضطرا إلى شرب الخمر - مثلا - فمع الاضطرار لا يعقل النهي عنه لعدم قابلية المورد، لكنه مبغوض ذاتا، فيعاقب المكلف عقاب شرب الخمر.
والحاصل: أن هنا مقدمات ثلاثا لا محيص لإنكار شيء منها:
أحدها: كون الخروج واجبا من باب التخلص لا غير.
وثانيها: عدم إمكان تحقق المعصية على الخروج.
وثالثها: أنه معاقب بمقدار عقاب الخروج على تقدير حرمته.
65

والجمع بين تلك المقدمات لا يمكن إلا على النحو الذي اخترناه، ولعل القائلين بالقول الثاني يسلمون لما ذكرنا من ثبوت العقاب عليه بمقدار ما على الخروج على تقدير حرمته، فلا يكون ما اخترناه قولا خامسا.
ثم (1) إنه يتفرع على ما اخترناه من كون الخروج مأمورا به لا غير وعدم كونه معصية توجه أيضا (2) صحة صلاة المتوسط حال الخروج من غير جهة فعل الصلاة، أو لا؟ وجهان مبنيان على أن الخروج من مقدمات التخلص عن التصرف الزائد أو من أفراده، فعلى الأول لكونه واجبا غيريا فلا يقع إطاعة حتى يستحق بفعله الثواب.
وعلى الثاني نعم لكونه واجبا نفسيا، فيمكن إيقاعه على وجه الطاعة، فيستحق عليه الثواب، ونحن لما قوينا الثاني - كما عرفت في دفع حجة القول الرابع - يستحق عليه الثواب.
ثم إن ما ذكرنا من كون المتوسط عاصيا - من جهة إيقاع نفسه في المبغوض الذاتي، وهو الخروج - مختص بصورة تعمده للتوسط (3) في المكان المغصوب، كما هو المفروض في مورد الأقوال المذكورة، إذ مع عدمه لا يتحقق العصيان بالنسبة إلى ذلك التكليف لعدم تنجزه عليه.
إيقاظ: كلما ذكرنا في المسألة المعروفة المتقدمة والمسائل المتأخرة عنها أيضا إنما هو على تقدير كون الأمر والنهي كليهما نفسيين.
وأما إذا كانا غيريين أو مختلفين فالأقرب جواز اجتماعهما مع تعدد

(1) من هنا إلى آخر المبحث الآتي غير موجود في نسخة الأصل، وأخذناه من النسخة المستنسخة عنها التي نوهنا عنها في مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب.
(2) العبارة تستقيم بحذف الكلمتين (توجه أيضا).
(3) في النسخة المستنسخة: على التوسط..
66

جهتيهما وعدم انحصار فرد المأمور به في المنهي عنه، سواء كان ذلك الاجتماع بالنسبة إلى زمان واحد أو في زمنين، لما عرفت من أنه لا مانع منه حينئذ إلا تخيل اجتماع الضدين، وقد عرفت بطلانه.
وأما في غير الصورة المذكورة فالأقرب ذلك أيضا فيما إذا كان النهي غيريا أو كلاهما غيريين مع تعدد زمنيهما، لانحصار ما يتوهم من المانع حينئذ في كون الأمر متعلقا بالمعصية، وهو مدفوع بأن النهي الغيري لا يقتضي وقوع متعلقه معصية.
وأما مع اتحاد زمنيها فلا، لاستلزامه اجتماع الإرادة والكراهة في شيء واحد وفي زمن واحد.
وأما فيما إذا كان الأمر غيريا والنهي نفسيا فالأقرب الجواز أيضا فيما إذا لم يكن متعلق الأمر معصية، وذلك فيما إذا تعدد زمناهما مع عدم اقتضاء النهي وقوع متعلقه معصية في الآن الثاني، بأن لا يكون من ذوات الأسباب، وأما مع وقوعه معصية كما في صورة اتحاد زمنيها أو مع اختلافهما مع كون الفعل من ذوات الأسباب فالحق الامتناع.
ويظهر وجه ذلك كله من التأمل فيما حققنا في المسائل المذكورة، فراجع، والله الهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.
67

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
القول في مسألة دلالة النهي على فساد المنهي عنه.
وتنقيحه يقتضي رسم أمور:
الأول:
لا يخفى أن للنهي اعتبارات يصلح لوقوعه محلا للبحث بالنظر إلى كل منها:
فمنها: ملاحظة وضعه لغة للدلالة على فساد متعلقه وعدم وضعه لها.
ومنها: ملاحظة وضعه لها شرعا وعدمه.
ومنها: ملاحظة انفهام الفساد منه عرفا مع قطع النظر عن وضعه لغة وشرعا وعن ثبوت الملازمة بين مدلوله وبين الفساد، فيكفي لمدعي دلالته عليه إثبات دلالته عليه بأحد [تلك] الوجوه، كما أنه يلزم على النافي نفيها بجميع تلك الوجوه.
ومنها: ثبوت الملازمة بين مدلوله وبين فساد متعلقه عقلا وعدمها.
ومنها: ملاحظة ثبوت تلك الملازمة شرعا وعدمها، فالمسألة على غير الأخيرين لفظية، كما أنها على ما قبل الأخير وعلى الأخير شرعية.
ثم إنها على ما قبل الأخير من المبادئ الأحكامية بالبيان المتقدم في المسألة المتقدمة، وكذلك على الأخير أيضا، لأن لوازم الأحكام المبحوث عنها في المبادئ الأحكامية لا تختص بالعقلية منها، فعليه تدخل المسألة في المبادئ الأحكامية بذلك البيان.
ثم الظاهر - من التفاصيل المذكورة في المسألة بالأدلة الآتية فيها - أن النزاع فيها ليس من جهة أحد الاعتبارين الأخيرين بخصوصه، ولا الأعم
69

الشامل لكليهما المقابل لغيرهما من تلك الاعتبارات، فإن القول بدلالة النهي على الفساد لغة، وكذلك احتجاج بعضهم عليها بفهم العرف ينافيان ذلك، كما لا يخفى، فهل النزاع راجع إلى أول الثلاثة الأول، أو الثالث منها أو إلى أوسطها؟ الظاهر بل المقطوع به عدم رجوعه إلى شيء من الأول والأوسط، فإن ثبوت القول بدلالة النهي على الفساد شرعا ينافي رجوعه إلى الأول، وكذلك ثبوت القول بدلالته عليه لغة ينافي رجوعه إلى الأوسط، فوجود ذينك القولين يكشف عن عدم اختصاص محل النزاع بشيء منهما.
ثم الظاهر أن النزاع في المسألة ليس في تشخيص ما وضع له النهي بأحد الوجهين - أعني وضعه للفساد لغة أو شرعا (1) على سبيل منع الخلو - لوجود القول فيها بدلالته على الفساد مع نفي وضعه له مطلقا.
نعم النزاع في ذلك إنما هو نزاع آخر واقع بين القائلين بالدلالة.
فتلخص أن الذي انعقدت له المسألة إنما هو البحث عن النهي بالاعتبار الثالث من تلك.
الثاني:
الظاهر أن المراد بالنهي المبحوث عن دلالته على الفساد إنما هو التحريمي فقط، كما أن الظاهر أن المراد به هو التحريم بالقول، لا مطلقا، فتخرج النواهي الشرعية مطلقا عن محل النزاع، كخروج التحريم الثابت بدليل غير لفظي عنه، فهل المراد به النفسي الأصلي، أو الأعم؟ الظاهر منه الأول عند الإطلاق، كما هو الحال فيه في المقام، ونحن سنتعرض لتحقيق الحال على نحو الإجمال فيما استظهرنا خروجه عن محل الخلاف في تنبيهات المسألة - إن شاء الله - فانتظر.
ثم المراد بالفساد ما يقابل الصحة، والصحيح في اللغة ما يعبر عنه

(1) في النسخة المستنسخة: عقلا، والصحيح ما أثبتناه.
70

بالفارسية ب‍ (درست)، ومقابله الفساد، وهو المعبر عنه فيها ب‍ (نادرست)، والظاهر عدم ثبوت نقل فيهما عن معنييهما اللغويين، إذ الظاهر أنهم يريدون من صحيح كل شيء وفاسدة ذينك المعنيين، والتعاريف المذكورة لهما إنما هي تعبيرات عنهما ببعض لوازمهما الشرعية، فاختلاف تلك التعاريف غير راجع إلى المعنى، بل إنما هو راجع إلى اختلاف لحاظ أنظار المعرفين لهما، بمعنى أن كل واحد لاحظ بعض آثارهما الشرعية، فعبر عنه بذلك الأمر.
ثم إن الصحة والفساد ليسا من مقولة الإيجاب والسلب، بل الفساد عدم الصحة فيما من شأنه الاتصاف بها، بأن يوجد في نوعه ما يتصف بهما، فيكون الفساد من مقولة العدم والملكة بالنسبة إلى الصحة، فالأمور الغير القابلة للاتصاف بالصحة لا تتصف بالفساد.
ثم إنهما من الأمور الإضافية المختلفة باختلاف ما أضيف إليه، فقد يكون الشيء صحيحا [باعتبار، وفاسدا] (1) باعتبار آخر.
وتوضيح ذلك أن موردهما إما من الأفعال، أو من الجواهر والأعراض، وهما على الأول قد يلاحظان باعتبار كون الفعل مطابقا لغرض الجاعل له الداعي إلى جعل نوعه - إن كان من الموضوعات الجعلية - وعدم مطابقته له، فيتصف بالصحة على الأول، وبالفساد على الثاني، وقد يلاحظان باعتبار كونه مطابقا لغرض نوع الفاعلين المرتكبين لنوعه الداعي إلى ارتكابهم له وعدمه، فيتصف بالأول على الأول، وبالثاني على الثاني.
ثم إنه إذا كان من الموضوعات المجعولة فمع وحدة جاعله مع اتحاد غرضه من جعله أيضا، فالملحوظ في
اتصافه بواحد منهما إنما هو مطابقته لغرضه المذكور وعدم مطابقته له، ومع تعدد غرضه فالملحوظ في الاتصاف إنما هو المطابقة

(1) إضافة يقتضيها السياق.
71

وعدمها بالإضافة إلى واحد من الأغراض، فقد يكون صحيحا باعتبار مطابقته لواحد منها، وفاسدا باعتبار مخالفته لآخر، ومع تعدد جاعله [و] تعدد (2) الأغراض بتعددهم فالملحوظ فيه مطابقة غرض واحد منهم وعدم المطابقة له، فقد يكون الفعل صحيحا باعتبار مطابقته لغرض واحد منهم، وفاسدا باعتبار عدم مطابقته لغرض غيره، ومع اتحاده مع تعددهم فإن اتصف بالصحة بملاحظة مطابقته لغرض واحد منهم فيتصف بها مطلقا، وكذلك اتصافه بالفساد، كما لا يخفى.
ثم إنهما إن كانا باعتبار مطابقته لغرض الجاعل وعدم المطابقة فينسبان إلى ما ينسب إليه الجاعل، فإن كان هو الشارع فيوصفان بوصفه فيعبر عنهما بالصحة والفساد الشرعيين، أو غيره بوصفه وإن كان باعتبار مطابقة غرض نوع الفاعلين وعدم المطابقة له فينسبان إلى ما ينسب إليه ذلك النوع.
فعلى هذا فقد يكون الشيء صحيحا عرفا - مثلا - وفاسدا غير صحيح شرعا، وذلك مثل شرب الخمر - مثلا - إذا وقع مطابقا على نحو المتعارف المجعول له وهو وقوعه مسكرا، فإنه صحيح باعتبار مطابقته لغرض جاعله من أهل العرف، ولا يتصف بالصحة شرعا، لعدم تعلق غرض من الشارع بشر به له، فكيف بمطابقته له أو عدمها.
وأما على الثاني، أي على تقدير كون موردهما من الجواهر والأعراض فالملحوظ في الاتصاف بواحد منهما إنما هو مطابقة المورد لغالب أفراد نوعه، بمعنى عدم نقصانه عنها في الجهة (3) المطلوبة منها وإن اشتمل على مزية بالنسبة إليها، وعدم مطابقته لها بالمعنى المذكور.
هذا، وقد ظهر مما ذكرنا من اعتبار الجعل في الموضوعات المجعولة

(1) في النسخة المستنسخة: مع تعدد..
(2) كان في المستنسخة: في الجملة. والصحيح ما أثبتناه في المتن.
72

بالنسبة إلى نوعها ومن اعتبار كون الغرض المقصود له من نوعها - أن مثل القمار وصوم الزمان يتصفان بالفساد لتعلق جعل من الشارع بنوعهما، وهو مطلق المعاوضة والإمساك وتعلق غرضه منه بنوعهما في الجملة، فيكون من شأن نوعهما الاتصاف بالصحة، فيتصفان بالفساد باعتبار عدم إفادتهما لذلك الغرض من نوعهما.
ثم إنه لا بأس بالتعرض لما عرفوا الصحة والفساد الشرعيين على نحو الإجمال، فنقول:
قد اتفقت كلمتهم في تعريفهما في المعاملات على أن الصحيح منها ما يترتب عليه الأثر، أي ما يكون بحيث يفيد الأثر المقصود من جعل نوعه كنقل العين كما في البيع والصلح، أو المنفعة كما في الإجارة، أو حصول العلقة ورفع البينونية (1) كما في الأنكحة، أو حصول البينونية (2) كما في الطلاق، ومقابله الفساد، وإنما اختلفوا في تعريفهما في العبادات، فالمتكلمون بأن الصحيح ما وافق الشريعة، والفقهاء أنه ما أسقط القضاء، ومقابله الفاسد في كلا التعريفين.
وقد عرفت ما أشرنا إليه سابقا أن ذلك الاختلاف غير راجع إلى المعنى، وإنما التغاير بينهما إنما هو بحسب المفهوم.
ومع الجمود في مفهومهما قالوا: يظهر الثمرة بينهما فيمن صلى بالطهارة المستصحبة، ثم انكشف عدمها حال الصلاة، فإنها صحيحة على الأول وفاسدة على الثاني.
وفيه ما أورده بعض المتأخرين من المحققين (3): من أنه إن أراد من موافقة الشريعة وإسقاط القضاء موافقتها وإسقاطه بالنظر إلى الواقع فلم يبق فرق

(1) و (2) كذا في النسخة المستنسخة، والمناسب: البينونة..
(3) القوانين: 157.
73

بينهما، فإنه بهذا الاعتبار فاسد على كلا التعريفين، أو بالنظر إلى مرحلة الظاهر فكذلك، فإنه صحيح بهذا الاعتبار على كليهما.
ودعوى اختلاف اللحاظ بينهما مدفوعة بأنه خلاف الظاهر.
هذا، والأجود أن يجعل مورد الثمرة بينهما صلاة ناسي بعض الأجزاء الغير الركنية، كما أفاده - دام ظله - فإنه قد حقق في محله أنه غير مأمور بالصلاة الفاقدة لتلك الأجزاء المنسية، فلا تكون موافقة للشريعة، مع أنها مجزية ومسقطة للقضاء إجماعا، فتتصف بالصحة على التعريف الثاني دون الأول.
ثم المراد بإسقاط القضاء في الثاني كون الفعل بحيث يسقط على تقدير ثبوته، فلا ينقض الحد في طرفي الصحيح والفاسد بصحيحة العيدين وفاسدتهما (1).
فإذا عرفت ذلك فاعلم أن النزاع في المسألة إنما هو في الأمور القابلة للاتصاف بوصفي الصحة والفساد بحسب نوعهما، وأما التي لا تقع في الخارج إلا صحيحة محضة - بمعنى أن وجودها ملازم للصحة كعنوان الإطاعة لله (2) والخضوع والسجود له بحيث لو وجدت وجدت بوصف الصحة، وإن لم توجد لم توجد أصلا - أو فاسدة (3) كذلك، فهي خارجة عن محل النزاع، ضرورة عدم تأثير النهي في الأول في شيء بعد إحراز وجودها في شيء، وثبوت الفساد قبله في الثاني.
وقد يقع الإشكال في بعض الأمور من جهة كونه من الأمور القابلة

(1) حيث إن القضاء ساقط في صحيحة العيدين وفاسدتهما، وعدم النقض بذلك على تعريف الصحيح والفاسد عند الفقهاء لعدم ثبوت القضاء في صلاة العيدين.
(2) في النسخة المستنسخة: (منه)، والصحيح ما أثبتاه.
(3) في النسخة المستنسخة: وفاسدة..
74

للاتصاف بهما أو من غيرها (1) فيشكل الحكم بدخوله في محل النزاع، وأيضا يشكل إجراء أصالة الصحة فيه إذا دار الأمر بين كونه من الأمور القابلة للاتصاف بهما وبين كونه مما لا يوجد في الخارج إلا صحيحا، نظرا إلى أن الأصل المذكور إنما شأنه إحراز وصف الصحة بعد إحراز وجود موردها، فيختص مورده بما إذا شك في أصل الوصف، فلا يجري فيما إذا رجع الشك في الوصف إلى الشك في وجود الموضوع، ومن الأمور المشتبهة المشكوك في كونها مما يقبل الاتصاف بالصحة والفساد الغسل - بالفتح - والاستنجاء أيضا.
وقد حكى - دام ظله - عن شيخنا الأستاذ - قدس سره - أنه أشكل في إجراء أصالة الصحة في الغسل إذا شك في صحته معللا بأنه إن لوحظت بالنسبة إلى حقيقة الغسل أو إلى التطهير أو إلى رفع الخبث، فلا سبيل لها إلى شيء منها، لعدم وقوع شيء منها في الخارج على قسمين، بل وجود كل منها ملازم للصحة.
أما الأول: فواضح.
وأما الثاني: فلأنه ليس معناه إيجاد طبيعة الغسل حال كون الفاعل في صدد تحصيل الطهارة بها، حتى يمكن تفكيكه عن الطهارة في الخارج، ويكون من باب قولهم: علمته فلم يتعلم، بل مجاز فيه، وحقيقة إنما هو إيجاد الطهارة، فإن أحرز وجودها فلا مجرى للأصل المذكور، للعلم بصحتها حينئذ أيضا لملازمتها لوجودها، وإن شك فيها لم (2) يحرز الموضوع، حتى يثبت له صفة الصحة.
وأما الثالث: فهو أيضا واضح كالأول.
هذا، والإشكال بعينه جار في الاستنجاء أيضا كما لا يخفى.

(1) في النسخة المستنسخة: غيره..
(2) في النسخة المستنسخة: فلم.
75

هذا، لكن الظاهر كما اختاره - دام ظله - أيضا كون الغسل مما يقبل الاتصاف بهما، فإنه من حيث إنه وإن لم يقع في الخارج على قسمين، لكنه باعتبار سببيته لرفع الخبث يقع فيه على قسمين، والصحيح منه ما يفيد رفعه، والفاسد منه ما لا يفيده، فموضوع الأصل المذكور إنما هو الغسل حال كون الفاعل في صدد رفع الخبث،
وهو غير ملازم لرفع الخبث، فيجري فيه الأصل المذكور، فاندفع الإشكال، وبه يندفع الإشكال عن الاستنجاء أيضا.
والظاهر أنه - أيضا - كالغسل من حيث اتصافه بالصحة والفساد ووقوعه في الخارج على قسمين.
ويظهر اختيار ذلك من شيخ الطائفة - قدس سره - على ما حكي عنه في مسألة الاستنجاء، حيث إنه حكم بفساد الاستنجاء الواقع بالعظم والروث محتجا عليه بورود النهي عنه، وهو يقتضي الفساد.
وكيف كان، فلا ينبغي الإشكال في إجراء الأصل المذكور في الغسل والاستنجاء، نظرا إلى التوجيه المذكور، ولولاه لانسد باب الرجوع إلى ذلك الأصل في أبواب العقود والإيقاعات أيضا كما لا يخفى على المتأمل لجريان الإشكال المذكور فيها بعينه فيقال - في مثل البيع -: إن الأصل المذكور إن لوحظ فيه بالنسبة إلى طبيعة البيع - وهو الإيجاب والقبول - فيكون حاله حال طبيعة الغسل، وإن لوحظ بالنسبة إلى أثره فيكون حاله حال رفع الخبث، وإن لوحظ بالنسبة إلى عنوان نقل الملك فحاله حال التطهير.
ويندفع الإشكال المذكور عنها أيضا بالتوجيه المتقدم، فعليك بالتطبيق، فلا نطيل الكلام بإعادته.
ثم إن الصحة والفساد في العبادات من الأحكام العقلية بناء على تفسيرهما بموافقة الأمر وعدم الموافقة له، فإن الموافقة والمخالفة من الأمور الواقعية [التي] يدركها العقل، ولا سبيل للجعل إلى شيء منهما بالضرورة.
76

وأما بناء على تفسيرهما بإسقاط القضاء وعدم إسقاط القضاء، فقد يكونان منها، وقد يكونان من أحكام الوضع التي لا يتحقق إلا بالوضع والجعل:
إما مستقلا، أو تبعا للأحكام التكليفية على اختلاف القولين فيها.
توضيح ذلك: أن موارد إسقاط الفعل للقضاء مختلفة:
فمنها: ما يلزمه ذلك عقلا، وذلك كما فيما إذا أتى بالعبادة بجميع الأمور المعتبرة فيها واقعا.
ومنها: ما لا يلزم ذلك عقلا، لكن الشارع اجتزأ بالفعل واحتسبه عن الواقع، وذلك كما في صورة مخالفة العبادة المأتي بها للواقع مع ثبوت كونها مجزية عنها، كصلاة ناسي الأجزاء الغير الركنية، حيث إنها مجزية عن الواقع إجماعا، وليس مأمورا بها أو بدلا عن المأمور به الواقع - كما حقق في محله - حتى يقال:
إنه بعد ثبوت البدلية يلزمها سقوط القضاء عقلا، فالملزوم مجعول، واللازم عقلي غير قابل للجعل.
وأما في المعاملات: فإن لوحظا بالنسبة إلى كلياتها - كصحة عقد البيع الكلي، أو فساد بيع الربا كذلك - فهما من أحكام الوضع، إذ معنى صحتها إنما هو كونها بحيث يفيد الأثر المقصود من جعل نوعها، وهذا إنما هو معنى سببيتها لإفادة ذلك الأثر، ومن المعلوم أن السببية أمر مجعول من الشارع، وكذلك فسادها.
وإن لوحظا بالنسبة إلى مصاديق تلك الكليات - وهي الجزئيات الحقيقة منها - فهما من الأحكام العقلية، إذ معنى صحة تلك المصاديق وفسادها إنما هو مطابقتها لتلك الكليات وانطباقها عليها وعدم انطباقها عليها، ومن المعلوم أن الانطباق وعدمه من الأمور الواقعية الغير القابلة للجعل، المدركة بالعقل، هكذا
77

أفاد - دام ظله - (1).
وأقول: في كون الفساد من أحكام الوضع - فيما إذا كان الصحة منها إشكال، فإنه في تلك الموارد إنما يتحقق بعدم إحداث الشارع سبب الصحة من الإجزاء أو السببية، ولا يتوقف على إحداثه بسبب عقلي له، ومن المعلوم أن عدم حدوث سبب الصحة أزلي غير قابل للجعل والوضع، فينبغي أن يكون الفساد في تلك الموارد أيضا من الأحكام العقلية.
اللهم إلا أن يقال: إنه وإن كان يتحقق بمجرد عدم إحداث سبب الصحة في المورد، إلا أن عدم إحداثه إنما هو بيد الشارع واختياره، بحيث لو شاء لقطع ذلك العدم بإيجاد أمر وجودي في مورده، وهو سبب الصحة، وهذا النحو من العدميات ليس من العدم الأزلي، بل هو من قبيل العدم الحادث، فيكون من الأمور المجعولة بهذا التقريب، فافهم.
وأشكل من ذلك كون إسقاط القضاء في صلاة ناسي الأجزاء من أحكام الوضع، فإنه لا يكون منها إلا على أحد الوجوه المتصورة فيها، والالتزام بذلك الوجه دونه خرط القتاد.
وتوضيح ذلك: أن سقوط القضاء بفعل تلك الصلاة الفاقدة لبعض الأجزاء: إما لكونها من أفراد الصلاة الواقعية المأمور بها، بأن يعتبر متعلق الأمر الواقعي على وجه يعم تلك الصلاة في تلك الحال وإن كانت خارجة عنه في غير الحالة المذكورة، نظير الصلاة مع التيمم، فإنها من أفراد متعلق الأمر الواقعي، وبدليته إنما هي بالإضافة إلى سائر أفراد ذلك المتعلق، لا إليه، فتكون تلك

(1) لا حظ قوله (ره): (هكذا أفاد - دام ظله - وأقول..)، فإنه صريح في أن هذا الكتاب تصنيف لنفس الكاتب، لا تقرير لبحث أستاذه (قده)، وإن كان (ره) ذكر كثيرا من آراء أستاذه العظيم (قده) في كتابه هذا.
78

الصلاة الفاقدة للأجزاء في تلك الحال بدلا عن الصلاة الجامعة لها التي هي فرد آخر من متعلق الأمر الواقعي.
وإما لأن الشارع قد اكتفى بها مع عدم اشتمالها على مصلحة أصلا تفضلا على المكلف.
وإما لأنها وإن لم تكن من أفراد المأمور به لكن الغرض الملحوظ فيه الداعي إلى الأمر به يحصل بها أيضا في تلك الحال - بمعنى أن الغرض من المأمور به أعم منه - فكونها مسقطة للقضاء لقيامها بذلك الغرض، نظير التوصليات الساقطة بغير ما امر به مما هو منطبق على الغرض ومحصل له.
لا سبيل إلى الأول، لما مرت الإشارة إليه من أنه لا يعقل كون تلك الصلاة الناقصة مأمورا بها بوجه مع أنه على تقديره يستلزم كون الإسقاط من اللوازم العقلية.
ويشكل المصير إلى الثاني أيضا، إذ لا يعقل أن يكتفى الشارع ويجتزئ بما يكون وجوده كعدمه مع عدم اكتفائه بعدمه لاشتراكهما في عدم اشتمالهما على مصلحة، بل يجب - على تقدير رفع الأمر بالقضاء مع ثبوت المقتضي له من باب التفضل - رفعه في كلا المقامين، ولا يعقل التفكيك بينهما، لعدم مزية لأحدهما على الآخر فيما يكون منشأ التفضل، فعدم رفعه في صورة نسيان أصل الصلاة ربما يكشف عن أن رفعه في تلك الصورة ليس من باب مجرد التفضل، فتعين أن يكون رفعه لكون تلك الصورة الناقصة في تلك الحال قائمة بالغرض من المأمور به الواقعي، وأن عدم تعلق الأمر بها إنما هو لقصور لسان الأمر لعدم قابلية المورد، لا لقصور (1) المقتضي في الفعل في تلك الحال، ومن المعلوم أن ترتب سقوط القضاء على ما يكون مطابقا للغرض عقلي غير قابل للجعل.

(1) في النسخة المستنسخة: لقصر.
79

نعم هو على الوجه الثاني من الأمور الجعلية، فإن رفع الأمر من باب التفضل عين إسقاط القضاء، ومن المعلوم أن رفعه بجعله ووضعه، لكنه لا يمكن المصير إليه.
فتحقق أن إسقاط القضاء في المثال المذكور من الأحكام العقلية.
وهذا الذي ذكرنا - من أن صلاة الناسي للأجزاء الغير الركنية إنما هي مسقطة للقضاء، لكونها منطبقة على الغرض المقصود من المأمور به الواقعي مع عدم تعلق أمر بها - إنما هو مقتضى الجمع بين مقدمات ثلاث لا محيص عن واحدة منها:
إحداها: كون تلك الصلاة مجزئة ومسقطة للقضاء إجماعا.
وثانيها: أنه لا يعقل كونها مأمورا بها، كما حقق في محله.
وثالثها: أنه لا يعقل أن يكون الإسقاط من باب التفضل المحض، لما عرفت، والجمع بين تلك المقدمات لا يمكن إلا على الوجه الذي حققناه، فتدبر.
ثم إنه بعد الإغماض عن بطلان الوجه الثاني وإن كان الإسقاط من أحكام الوضع لكن الفعل لا يتصف بكونه مجزيا، لأن الإجزاء غير مستند إليه بوجه، كما لا يخفى.
ثم إنا قد أشرنا سابقا إلى أن النزاع في المقام إنما هو في الأمور القابلة للاتصاف بالصحة والفساد بحسب نوعها وإن لم يكن هناك عموم أو إطلاق من الشارع يقتضيان صحة المنهي عنه مع قطع النظر عن النهي.
لكن يظهر من المحقق القمي (1) - قدس سره - تخصيصه لمورد النزاع بما إذا كان هناك أحد الأمرين المقتضيين لصحته مع قطع النظر عن النهي، حيث قال: النزاع فيما وصل له جهة صحة من الشارع، وعلله [بأنه] إن

(1) قوانين الأصول: 1 / 155 / والنص منقول بالمضمون.
80

لم يكن كذلك لا فائدة في البحث عن دلالة النهي عليه.
هذا، ولا يخفى ما فيما ادعاه وفيما علله به من الضعف:
أما الأول: فلأن غاية الأمر عدم ظهور ثمرة للخلاف فيما استثناه، ومن المعلوم أنه لا يصلح لتخصيص النزاع بغيره، بل الصحيح أن النزاع في أن مقتضى النهي ما ذا؟ مع قطع النظر عن مقتضى بعض الأمور الأخرى اللاحقة لخصوص بعض الموارد الخاصة، فيعم النزاع جميع الموارد (1).
هذا، مضافا إلى أنا نمنع انتفاء الثمرة رأسا فيما استثناه، بل هناك فوائد اخر مترتبة على دلالة النهي على الفساد:
منها: أنه بناء على دلالته عليه فيكون فساد المورد ثابتا بدليل اجتهادي، فلو ورد بعده دليل آخر اجتهادي يقتضي صحته لوقع التعارض بينه وبين النهي، فيعمل بمقتضاه، وأما فيما لو ثبت الفساد بمقتضى الأصل فإنه لا يصلح للمعارضة مع ذلك الدليل.
ومنها: تعاضد الأصل المذكور [مع] النهي (2)، بناء على دلالته على الفساد على القول بعدم سقوط الأصل في مرتبة الدليل الاجتهادي إذا كان موافقا له.
ومنها: أنه لعل الأصل المذكور لا يقوم حجة عند أحد على إثبات الفساد، لعدم قيام دليل عنده على اعتباره، فيكون النهي - بناء على دلالته على الفساد - دليلا له.
وأما الثاني: فلأنه (3) من القائلين بالبراءة - في مسألة الاشتغال والبراءة -، ومن المعلوم أن أصالة البراءة عند القائلين بها حاكمة على سائر

(1) في النسخة المستنسخة: لجميع الموارد.
(2) في النسخة المستنسخة: بالنهي..
(3) أي صاحب القوانين (قده).
81

الأصول العملية الجارية في موردها، ولا إشكال في أن مقتضاها الصحة لا الفساد، فتكون واردة على استصحاب عدم الصحة.
ويحتمل أن يكون مراده بالأصل المقتضي للفساد - الذي يرجع إليه قبل أصالة البراءة ومع قطع النظر عن اعتبارها - هو استصحاب عدم الصحة.
ويتجه عليه حينئذ: أن مقتضاه وأن كان الفساد إلا أنه لا يرجع إليه بعد رفع اليد عن مقتضى الدليل الاجتهادي - وهو النهي عند القائلين باعتبار أصالة البراءة - بل المرجع بعده إنما هي أصالة البراءة المقتضية للصحة.
وبالجملة: الموارد الخالي عن العموم والإطلاق المقتضيين لصحته لو لا النهي كالواجد لأحدهما عند القائلين بالبراءة من حيث الحكم بالصحة مع قطع النظر عن النهي، فلا يبقى ثمرة للخلاف فيه، فيفيد تعليل تخصيص مورده بغيره بانتفائها فيه.
اللهم إلا أن يكون مراده من مقتضى الصحة الأعم من العموم والإطلاق الشامل لأصالة البراءة - وإن كان يأباه ظاهر كلامه - فيختص ما استثناه بما لا يجري فيه أصالة البراءة، فحينئذ صح دعوى انتفاء الثمرة، لكن يتجه عليه ما مر من أنه لا يصلح لتخصيص النزاع.
هذا خلاصة الكلام في معنى الصحة والفساد، وقد ظهر أن المراد بالفساد في محل النزاع ما ذا.
وأما لفظ المنهي عنه فالمراد به إنما هو ما تعلق النهي بنفسه، كما هو الظاهر منه أيضا.
نعم لا يختص النزاع بما كان علة ثبوت النهي له نفسه، بل يعم ما تعلق به النهي لعلة جزئه أو شرطه أو وصفه (1) الداخل أو الخارج، أو الأمر مباين له

(1) يحتمل أن الكلمة في النسخة: بوصفه..
82

متحد معه في الوجود، أو مفارق عنه فيه، بأن يكون تلك الأمور واسطة لثبوت النهي له لا واسطة في عروضه، فإن الواسطة في العروض حقيقة لا تصير موجبة لتعلق النهي بذيها، كما لا يخفى على التأمل، بل إطلاق المنهي عنه عليه إنما هو من باب المسامحة، وإلا فبدقة النظر ترى أنه ملازم للحرام، لا حرام.
وبالجملة: النزاع - في المسألة - إنما هو في دلالة النهي على فساد ما تعلق هو بنفسه بعد الفراغ عن تعلقه به كذلك ومع قطع النظر عن أن سبب تعلقه به ما ذا؟ نعم يمكن هنا نزاع آخر بين القائلين بدلالة النهي على الفساد من أنه هل يختص دلالته عليه بما إذا كان علته نفس ما تعلق به أو يعم غيره؟ فالبحث عن دلالة النهي على فساد شيء لتعلقه بجزئه أو شرطه أو غير ذلك خارج عن محل النزاع، نعم نفس ذلك الجزء أو الشرط باعتبار أنه منهي عن نفسه داخل فيه.
وكذلك البحث عن فساد الشيء بفقد جزئه أو شرطه رأسا، أو لفسادهما ولو من جهة تعلق النهي بهما أنفسهما خارج عنه.
والحاصل: أن النزاع إنما هو في فساد الفعل بالنظر إلى تعلق النهي بنفسه، فالنزاع فيه بالنظر إلى فقد جزئه أو شرطه أو بالنظر إلى تعلق النهي بشرطه أو جزئه خارج عن محل النزاع في المقام ومباين له جدا.
أما على الأول: فواضح.
وأما على الثاني: فلأن البحث فيه ليس في دلالة النهي على الفساد، بل إنما هو على تقديره بعد الفراغ عن دلالته على فساد متعلقه، فمرجعه إلى أن الجزء أو الشرط الفاسدين هل يوجبان فساد الكل أو المشروط، أو لا؟ وإن كان لا يعقل هذا النزاع على إطلاقه، وإنما يمكن مع تخصيص مورده بما إذا لم يكتف
83

المكلف بهما، بل أتى بالجزء والشرط الصحيحين، وهما الغير المنهي (1) عنهما.
ويشهد لما ذكرنا - من أن النزاع إنما هو في دلالة النهي على فساد ما تعلق هو بنفسه، مضافا إلى دلالة لفظ المنهي عنه عليه، حيث إنه ظاهر أو صريح في كون المبحوث عنه (2) دلالة النهي على فساد ما تعلق هو بنفسه وما تعلق هو بجزئه أو شرطه ليس منهيا عنه حقيقة بل منهي عن جزئه أو شرطه - تمثيلهم (3) للمنهي عن جزئه - الذي هو أحد أفراد النزاع - بالصلاة مع قراءة العزائم وكان السورة واجبة فيها (4)، إذ لا ريب أن قراءة العزائم ليست منهيا عنها في نفسها، بل المنهي عنه إنما هو الصلاة معها، ولعل بعض أمثلتهم لسائر الأقسام أيضا يفيد ذلك، فتأملها.
نعم بعض أمثلتهم غير منطبق على ما مثل له، لكن بعد ظهور لفظ المنهي عنه بل صراحته - مضافا إلى شهادة بعض الأمثلة الأخرى - لا [مناص] (5) عن حمله على غفلة من مثل به عن عدم انطباقه على ما مثل له به.
والعجب من بعض المحققين من متأخري المتأخرين (6) أنه غفل عن حقيقة الحال وجعل المنهي عنه لجزئه أو شرطه أو غير ذلك بمعنى: المنهي عنه

(1) هذا من الخطأ الشائع حيث إن الإضافة المحضة - وهي ما لم تكن من إضافة الوصف المشابه للفعل المضارع إلى معموله - منافيه ومعاقبة للألف واللام، فلا يجمع بينهما. راجع شرح ابن عقيل: 2 / 44 و 46.
(2) في النسخة المستنسخة: المبحوث عن.
(3) فاعل (يشهد) المتقدم في أول الفقرة، لكن في النسخة المستنسخة: (لتمثيلهم)، والظاهر أنه من اشتباه الناسخ.
(4) أي حال كون السورة واجبة فيها.
(5) في النسخة المستنسخة: مجال.
(6) القوانين: 156.
84

جزؤه أو شرطه إلى آخر ما ذكره.
ثم إنا قد أشرنا إلى أن المنهي عنه ينقسم إلى أقسام: وهي المنهي عنه لنفسه، والمنهي عنه لجزئه، أو لشرطه، أو لوصفه الداخل - وقد يعبر عنه بالوصف اللازم - أو لوصفه الخارج - المعبر عنه أيضا بالمفارق - أو لأمر مباين له متحد معه في الوجود، أو غير (1) متحد معه فيه، وهو بجميع أقسامه المذكورة داخل في محل النزاع، لإطلاق عنوان المتقدمين المعنونين للمسألة من غير تعرض لتقسيم المنهي عنه أيضا وعدم تصريح من تعرض لتقسيمه من المتأخرين بخروج واحد منها عنه.
ثم المراد بالقسم الأول ما كان منشأ تعلق النهي به نفسه، بمعنى أنه - من حيث هو من غير ملاحظة آخر - مبغوض للشارع منهي عنه لنفسه.
وبالقسم الثاني ما كان منشأ تعلقه به مبغوضية جزئه.
وبالثالث ما كان منشأ تعلقه به شرطه، والشرط يحتمل أمرين:
أحدهما: هو الأمر الخارج عن المأمور به الذي اعتبر تقيده في المأمور به.
وثانيهما: هو وصف التلبس، أي تلبس المأمور به بكونه مع ذلك الأمر.
وبالرابع ما كان منشأ تعلقه وصفه الداخل، وهكذا الحال إلى آخر الأقسام، فلا نطيل الكلام.
ثم المراد بالوصف الداخل يحتمل أن يكون هو الوصف الذي لا ينفك عن الفعل في الخارج ويكون من مقومات شخصيته، كالجهر والإخفات بالنسبة إلى القراءة، وكالكون في اليوم في الصوم، كما مثل به بعض المحققين (2) مع تفسيره للوصف الداخل بما ذكر.

(1) في النسخة المستنسخة: لا متحد.
(2) القوانين: 156 - 157.
85

لكن يشكل انطباقه عليه، لأن اليوم في الصوم من مقومات طبيعة الصوم، فإن الإمساك من الأمور المعلومة لا يكون صوما حقيقة إلا بوقوعه في اليوم، فلا يصح قياسه بالجهر والإخفات، فإنهما ليسا من مقومات حقيقة القراءة، بل من مشخصاته ومقومات شخصيته.
ويحتمل أن يكون المراد به هو الوصف الذي اعتبر في المأمور به، أي الوصف الداخل في المأمور به، وهذا هو الظاهر منه، ويقابله الوصف الخارج في كل واحد من الاحتمالين فيه، لكن على الاحتمال الثاني لا بد أن يكون المراد بالشرط هو نفس الأمر الخارج، لا الوصف المنتزع منه الداخل في المشروط، وإلا لما صح عدهما قسمين، بل يرجعان إلى واحد.
والمراد بالأمر المباين ما لم يكن جزءا أو شرطا أو وصفا للفعل (1).
ومثال المتحد منه مع الفعل كالغصبية المتحدة مع الصلاة في قوله: لا تصل في المكان المغصوب، فإن الغصبية ليس لها وجود مغاير في الخارج، بل متحد مع الصلاة فيه.
ومثال الغير المتحد منه معه فيه كالنظر إلى الأجنبية، فإن وجوده ممتاز عن وجود الصلاة بحيث يعدان في الخارج موجودين بوجودين، ولا ريب أن الكون في المكان المغصوب والنظر إلى الأجنبية ليس شيء منهما بشيء من الأمور المذكورة.
أما عدم كونهما شرطا أو جزء أو وصفا داخلا بكلا الاحتمالين فيه فواضح.
وأما عدم كونهما وصفا خارجا، فلأن الوصف لا بد أن يكون مما يصح اتصاف الموصوف به، وهو هنا غير معقول، كما لا يخفى:
أما بالنسبة إلى النظر فواضح.
وأما بالنسبة إلى تاليه، فلأنه لا ريب أن الصلاة من حيث هي لا يصح

(1) في النسخة المستنسخة: جزؤه أو شرطه وصفا، والصحيح ما أثبتناه.
86

اتصافها به، نعم يصح اتصاف بعض أفرادها المتحد معه به، لكنه باعتبار كونه فردا منه متحد معه، لا باعتبار كونه فردا من الصلاة، كما لا يخفى.
هذا، ثم إنه لما كان من أقوال المسألة التفصيل بين دلالة النهي على الفساد في العبادات دون المعاملات، فينبغي التعرض على نحو الإجمال لمعنى العبادة والمعاملة، فنقول:
المعاملة إنما هي مقابلة للعبادة، فمعرفتها تعرف بالمقابلة، فالحري التعرض لتعريفها خاصة.
فاعلم أنهم عرفوها بتعاريف:
أجودها: أنها ما يتوقف صحتها على نية القربة، ومرادهم بالقربة ليس مجرد عدم الرياء، بل إنما هي أمر وجودي وهو إيقاع الفعل لداعي جهة من الجهات المضافة إلى الله تعالى وهذا التعريف كغيره من التعاريف إنما هو للماهيات المخترعة من العبادات، وإلا فمن المعلوم أن منها ما يلازم وجود موضوعها في الخارج لصحتها من غير توقف على أمر آخر وراء ما اعتبر في تحقق موضوعها، كالخضوع لله تعالى والسجود والركوع له تعالى وغير ذلك مما اعتبرت القربة في تحقق موضوعها، فإنها لا تحتاج في وقوعها صحيحة إلى نية قربة أخرى كما لا يخفى، والحد المذكور لا يشملها، وهذا النحو من العبادات غير مجعولة عبادة لأنها بأنفسها عبادة. ومنها: ما لا يتوقف صحتها ولا تحقق موضوعها على القربة مع توقف وقوعها عبادة عليها، بمعنى أنها بالنظر إلى نوعها ليست مجعولة عبادة، وليست مما تكون بنفسها كذلك، ولا يتوقف ترتب الأثر المقصود من نوعها عليها على القربة، بل يتوقف وقوعها عبادة عليها، كما في الأمور المعاملية التي يفعلها المكلف قاصدا بها القربة، فإنها بمجرد ذلك القصد تقع عبادة بلا شبهة، مع عدم صدق الحد المذكور عليها، لعدم توقف صحتها عليه، كما عرفت.
87

ثم إن من العبادات المخترعة ما لا يتوقف انعقادها عبادة على الأمر بها ومنها ما يتوقف انعقادها كذلك عليه، والأمر المتعلق بالقسم الأول كاشف عن عباديتها، والمتعلق بالثاني جاعل ومحقق لعباديتها.
والظاهر أن الصلاة والصوم من قبيل الأول، نظرا إلى ظاهر بعض الآثار المروية عن أهل العصمة عليهم السلام كقوله عليه السلام: «الصلاة معراج المؤمن» (1)، وأنها، قربان كل تقي» (2)، وكقوله عليه السلام: «الصوم جنة من النار» (3)، ومن المعلوم أن ثبوت تلك الآثار لهما إنما هو بالنظر إلى جهة عباديتهما، والظاهر من تلك الأخبار ثبوت تلك الآثار لذاتيهما، فيستكشف من ذلك كونهما من رسوم العبودية بأنفسهما، وأن الشارع إنما كشف عن ذلك بالأمر بهما، لا أنه جعلهما كذلك بالأمر، ويحتمل أن يكون العبادات كلها من هذا القبيل، فافهم.
إيقاظ: ربما يتوهم أنه على القول بوضع ألفاظ العبادات للصحيحة منها لم يوجد من العبادة ما يكون مصداقا للحد
المذكور لها، فيبقى بلا مورد، إذ تصير العبادات المخترعة أيضا مما أخذت القربة في موضوعها، إذ المفروض حينئذ أن الصحة داخلة فيه، وهي لا تكون إلا بقصد القربة، فيكون هو محققا لموضوعها، لا شرطا لصحتها.
لكنه مدفوع: بأن القائلين بوضعها للصحيحة لا يريدون بها

(1) لم نعثر عليه في كتب الحديث، وقد ذكر مضمونه في الجواهر: 7: 2.
(2) الكافي: 3 / 265 / كتاب الصلاة / باب فضل الصلاة / ح: 6، والفقيه: 1 / 136 باب فضل الصلاة / ح: 16.
(3) الكافي: 4 / 62 / كتاب الصيام / باب ما جاء في فضل الصوم والصائم / ح: 1، والفقيه: 2 / 44 / باب فضل الصيام / ح: 1.
88

ما تكون ملزومة للصحة، بل مرادهم إنما هي التي تقع موضوعة للأمر بحيث لا تنفك عن الصحة بانضمام قصد القربة إليها، كما حققنا ذلك في مسألة الصحيح والأعم، فراجع، فلم يبق مجال للتوهم المذكور.
الأمر الثالث:
قد يتوهم أن هذه المسألة من مصاديق مسألة بناء المطلق على المقيد المنافي له، لفرض أن متعلق النهي المبحوث عن دلالته على الفساد إنما هي أخص مطلقا من متعلق الدليل المقتضي للصحة، وهو في العبادات الأمر، وفي المعاملات هو أو غيره، كقوله تعالى أحل الله البيع (1)، وأوفوا بالعقود (2)، وقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم» (3) وأمثالها، ومن المعلوم أن مدعي دلالتها على الفساد يحمل ذلك الدليل المقتضي للصحة على غير مورد النهي ويقيده به، فيؤول النزاع إلى أنه هل يبنى ذاك الدليل المطلق على الدليل المقيد - وهو النهي - ويقيد بغير مورده، أو لا؟ فيتوجه على هذا إشكالان:
أحدهما: أنه بعد كون هذه المسألة من مصاديق تلك المسألة فالبحث عن تلك يغني عن البحث عن خصوص هذه، ولا وجه لإفرادها ببحث مستقل.
وثانيهما: أنه لا خلاف ظاهرا في تلك المسألة في بناء المطلق على [المقيد] المنافي له، وهو ينافي الخلاف الموجود هنا، بل المنكرون لدلالة النهي على الفساد بأجمعهم من البانين في تلك المسألة على بناء المطلق على المقيد، وبناؤهم على ذلك هناك ينافي إنكارهم لهذا هنا.

(1) البقرة: 275.
(2) المائدة: 1.
(3) الاستبصار: 3 / 232 / باب من عقد على امرأة وشرط لها أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى / 4، وهو حديث نبوي شريف، والتهذيب: 7 / 371 / كتاب النكاح / باب المهور والأجور / ح: 66 (1503).
89

لكنه مدفوع: بأن النزاع - في المقام إنما هو صغروي راجع إلى أنه إذا تعلق النهي بشيء هل يدل على فساد متعلقه - حتى يكون منافيا لذلك الدليل المقتضي بإطلاقه لصحة ذلك الفرد المنهي عنه، حتى يدخل المورد في تلك المسألة، ويكون من مصاديقهما، فيقيد ذلك الدليل بغير مورد النهي - أو لا يدل عليه فلا ينافيه، فيخرج عن كونه من مصاديق تلك، فلا يبنى ذلك الدليل؟ وثمة كبروي (1) راجع إلى أنه إذا ورد مطلق ومقيد متنافيا الظاهر - بعد الفراغ عن كونهما كذلك - فهل يبنى ذلك المطلق على المقيد إذ العمل بالمطلق في جميع أفراده التي منها موضوع ذلك الدليل المقيد يطرح ذلك المقيد رأسا - أو يؤول إلى ما لا ينافي المطلق؟ وهذا في المعاملات في غاية الوضوح، ضرورة أن النزاع فيها إنما هو في أنه إذا تعلق النهي بفرد خاص من المعاملة، فهل هو يقتضي فساد متعلقه - حتى يكون منافيا لما يقتضي صحته من الأدلة المطلقة - أو لا؟ وأما في العبادات فكذلك - أيضا - بعد التأمل، فإن المتأمل في أدلة الطرفين يقطع به فيها - أيضا - فإن مدعي دلالة النهي على الفساد فيها - أيضا - يدعى التلازم بينه وبين الفساد، فيكون منافيا للأمر بمطلق العبادة، و [إن] بنينا في دلالته عليه بنفي ذلك التلازم، فلا يكون منافيا له.
نعم مشارب النافين للتلازم مختلفة:
فمنهم: من ينفيه محتجا بأن الفساد سلب أحكام الشيء عنه، ولا ملازمة بينه وبين النهي، كما حكي هذا عن الحاجبي (2) والعضدي (3).
ومنهم: من ينفيه بأن النهي عن المقيد - يعني عن مجموع القيد والمقيد -

(1) أي والنزاع تتمة كبروي..
(2) و (3) شرح المختصر: 209 - 210.
90

لا يوجب خروج ذات المقيد - الذي هو جزء من ذلك المجموع - عن كونه من مصاديق الطبيعة المأمور بها، أو مما ينطبق عليها، فيمكن بقاء الأمر بالنسبة إليه، فلا ملازمة بينه وبين الفساد، إذ مع وجود الأمر يقع ذات المقيد صحيحا أو أنه لا حاجة في صحة العبادة إلى وجود الأمر، بل يكفي وجود الجهة المقتضية له في المأتي به، والنهي لا يلازم ارتفاعها عن ذات المقيد.
وهذان الأخيران نقلهما - دام ظله - عن المحقق القمي (1) - قدس سره - ولم يكن حينئذ كتابه موجودا عندي، وسيأتي تمام الكلام في تلك المشارب بما فيها، فانتظر.
وكيف كان، فلا ينبغي الارتياب في مباينة المسألة هذه لتلك المسألة وعدم الاتحاد بينهما بوجه.
قال دام ظله: ويمكن الفرق بين المسألتين أيضا بأن النزاع في المقام إنما هو في أن النهي المتعلق بالشيء، هل هو متعلق به بالنظر إلى ذاته وأن موضوعه واقعا هو الذات، أو أنه متعلق في الحقيقة بعنوان متحد معه خارج عن حقيقته، والنزاع - في تلك المسألة - بعد الفراغ عن تعلقه بالذات، إذ بدونه ينتفي المنافاة بين المطلق والمقيد بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي مع تعدد الجهة، فيكون النزاع في المقام صغرويا راجعا إلى أن المقام من مصاديق مسألة اجتماع الأمر والنهي، أو أنه من مصاديق مسألة بناء المطلق على المقيد، فمن ذهب إلى أن النهي متعلق بالذات - بما هي - يقول بالثاني، ومن ذهب إلى الثاني يقول بالأول.
أقول: لا يخفى عدم تمامية هذا الوجه:
أما أولا: فلأن من أفراد محل النزاع في المقام تعلق النهي بذات الشيء

(1) القوانين 1: 162، وقد عثرنا على القول الأول من الأخيرين دون نسبته إلى الحاجبي والعضدي، كما لم نعثر على القول الثاني منهما.
91

بما هو، ويعبر عنه بالمنهي عنه لنفسه، ولا مساس لهذا الوجه فيه بوجه، كما لا يخفى.
وأما ثانيا: فلأن بعض العناوين المتحدة مع المنهي عنه في سائر أقسام محل النزاع مما لا يعقل إرجاع النهي إليه وجعله موضوعا، لعدم كونه من قبل المكلف، كما يظهر للمتأمل في أمثلتها، وأيضا من أمثلة المنهي عنه لجزئه - الذي هو أحد أقسام محل النزاع - الصلاة مع قراءة العزائم فيها، ومن المعلوم عدم تعلق النهي بقراءة العزائم، فلا يمكن إرجاع النهي إليها.
هذا، ثم إنه قد علم في المسألة المتقدمة الفرق بينها وبين هذه المسألة.
وربما يتوهم الفرق بينهما، بأن النزاع في تلك المسألة صغروي بالنسبة إلى هذه، إذ على القول بامتناع الاجتماع يخرج المورد عن كونه من مصاديق هذه، وعلى القول بجوازه يدخل فيها.
ويتجه عليه: أنه على القول بجواز الاجتماع لا يكون الموضوع للحرمة حقيقة هو الذي كان موضوعا للأمر، بل عنوان آخر متحد معه، ومن المعلوم أنه واسطة في العروض، وهي لا تصلح ليسري (1) الحكم المعلق عليها إلى غيره مما اتحد معها - كما عرفت سابقا - فلا يتحقق بمجرده موضوع هذه المسألة.
وأيضا لو سلمنا صلاحيتها لذلك، فموضوع هذه المسألة متحقق معها على القولين في تلك المسألة، إذ المفروض على كل منهما كون العنوان المتحد مع المأمور به منهيا عنه، فلا يدور تحققه مدار القول بجواز الاجتماع.
اللهم إلا أن يقال: إنه على القول بامتناع الاجتماع لا يلزم القائل به رفع الأمر عن مورد الاجتماع، بل يدور رفع أحد من الأمر والنهي مدار ما

(1) في النسخة المستنسخة: (لتسري)، ولكن لا يوجد في اللغة هذا المصدر بمعنى السراية، فالصحيح ما أثبتناه.
92

يرجحه، وربما يحصل الترجيح لرفع النهي.
هذا بخلاف القول بجواز الاجتماع، إذ عليه يكون النهي ثابتا للمورد لعدم منافاته مع الأمر على هذا القول، فتحقق موضوع هذه المسألة لازم هذا القول دون القول الآخر، فتأمل.
والذي يقتضيه النظر تعكيس المقال المذكور، كما اختاره - دام ظله - أيضا من أنه على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي يتحقق موضوع هذه المسألة لكنه بعد البناء على تقديم جانب الحرمة كما هو المعروف المشهور.
وأما بناء على جوازه فلا، لما قد عرفت من أن النهي حينئذ إنما هو متعلق بعنوان متحد مع الأمور به، لأنه لما قد عرفت أن القائل بجوازه إنما يجوزه لإرجاع كل من الطلبين إلى عنوان مغاير للآخر ولم يجعل متعلقهما الفرد ولو بعنوان سرايتهما من المتعلقين إليه حتى يلزم اجتماع الضدين، فافهم.
وكيف كان، فالمعتمد في مقام الفرق على الوجه الأول.
وربما يشكل - أيضا - بأنه لا ريب أن من مصاديق محل النزاع في المقام قوله: أعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة، ضرورة تعلق النهي ببعض أفراد المأمور به في هذا المثال، فلا بد أن يكون منافاة النهي للأمر فيه - أيضا - داخلة في محل الخلاف مع أنهم مثلوا للمطلق والمقيد المنافي ظاهرهما بذلك، وهذا يدل على انتفاء الخلاف في خصوص هذا المثال، وهو ينافي رجوع الخلاف في المقام إلى ثبوت المنافاة وعدمها، لعدم خصوصية لهذا المثال بالنسبة إلى سائر أمثلة المقام، ضرورة عدم الفرق بينه وبين قوله: - صل، ولا تصل في المكان المغصوب - بوجه. هذا تقرير الإشكال.
ويمكن دفعه أما أولا: فبما أفاده - دام ظله - من أن مرادهم في مقام التمثيل هناك أن هذا مثال لمحل البحث هناك مع فرض التنافي فيه، بمعنى أنه لو فرض التنافي بين حكمي المطلق والمقيد - في هذا المثال - يكون من أمثلة
93

المطلق والمقيد المتنافي (1) ظاهرهما، لكن هذا خلاف ظاهر اتفاقهم [على] التمثيل (2) به [في المقام] (3) فإن ظاهره تسليم المنافاة فيه، لا فرضها.
وأما ثانيا: فبأن لكل من الأمر والنهي مدلولين: أحدهما الطلب، والآخر الصحة والفساد، ولما كان المثال المذكور مما يمنع فيه اجتماع الأمر والنهي اتفاقا - لكونه من اجتماعهما مع اتحاد الجهة - فالمنافاة بين المطلق والمقيد فيه ثابتة من جهة مدلوليهما الأول لا محالة، فيكون هو من هذه الجهة من أمثلة محل البحث ثمة، ولا يتوقف كونه من أمثلته على ثبوت المنافاة من جهة مدلوليهما الثاني، كما لا يخفى، فتسليمهم المنافاة فيه منزل على الجهة الأولى مع السكوت عن الثانية، فاندفع الإشكال، فافهم.
الأمر الرابع:
لا يخفى أنه لا أصل في المسألة يقتضي البناء على أحد طرفيها من اقتضاء (4) النهي للفساد أو عدمه عند انقطاع اليد عن الأدلة الاجتهادية المقتضية لأحدهما، فلا مساس لتأسيس الأصل في أصل المسألة بوجه.
نعم يمكن تأسيسه حينئذ بالنسبة إلى نفس الصحة والفساد بأنه: هل الأصل فيما نهي عنه الصحة أو الفساد؟ لكنه ليس من الأصل في المسألة في شيء، إلا أنه لا بأس بالتعرض له على نحو الإجمال:
فاعلم أنه إن كان المورد مما وصل فيه ما يقتضي بعمومه أو إطلاقه صحته فالمعتمد على عدم ثبوت دلالة النهي على الفساد هو ذلك الإطلاق أو العموم،

(1) في النسخة المستنسخة: المنافي..
(2) في النسخة المستنسخة: للتمثيل.
(3) إضافة يقتضيها السياق.
(4) في النسخة المستنسخة: اختصاص والصحيح ما أثبتناه.
94

فيكون الأصل هو الصحة.
وإن كان مما لم يصل فيه ذلك:
فإن قلنا بأصالة البراءة حينئذ فالأصل هو الصحة، فإن مقتضى استصحاب عدمها واستصحاب شغل (1) الذمة وإن كان الفساد. إلا أنهما مقطوعان بأصالة البراءة على القول بها، فإنها على تقدير اعتبارها حاكمة على غيرها من الأصول العملية.
لا يقال: إنه لا مساس لأصالة البراءة - في المقام - بوجه، فإنها إنما تجري مع الشك في أصل التكليف، والمفروض ثبوته في المقام وهو النهي، غاية الأمر أنه لم يعلم اقتضاؤه للفساد، وهو لا يوجب ارتفاع أصله، فلا مجرى لها بالنسبة إلى نفس التكليف.
وأما بالنسبة إلى شرطية إتيان المأمور به في غير ذلك الفرد المحرم، فكذلك أيضا، فإنها وإن كانت مشكوكة، إلا أن أصالة البراءة ليس من شأنها إحراز المكلف به، بل شأنها إنما هو نفي التكليف المشكوك فيه.
لأنا نقول: عدم جريانها بالنسبة إلى نفس التكليف مسلم لفرض ثبوته، لكنها جارية بالنسبة إلى الشرطية، فإن مرجعها حينئذ إلى نفي التكليف بإتيان المأمور به في ضمن غير هذا الفرد، وهو مشكوك فيه، لا إلى تعيين المأمور به.
والحاصل: المعلوم إنما هو ثبوت التكليف بنفس الطبيعة المأمور بها التي تحصل بالفرد المحرم، وأما ثبوته بها مقيدة بإتيانها في ضمن غير ذلك الفرد فلا يقتضي، فإن كان المكلف به الواقعي نفس الطبيعة المطلقة فامتثاله حاصل بالفرد المحرم البتة، وإن كان هي الطبيعة المقيدة فالتكليف بها غير معلوم منفي بالأصل، والإتيان بالفرد المحرم رافع للعقاب الآتي من قبل الأمر إليه وان كان

(1) في هامش النسخة المستنسخة ذكر فوق هذه الكلمة كلمة: (اشتغال)، والظاهر أنها تفسير للشغل المذكور في المتن.
95

موجبا للعقاب الآتي من قبل النهي. هذا.
وإن قلنا بأصالة الاشتغال فالأصل هو الفساد، كما لا يخفى.
ومما حققنا ظهر ما في كلام المحقق القمي (1) رحمه الله من أن الأصل هو الفساد مطلقا، فإنه من القائلين باعتبار أصالة البراءة في مقام الشك في الجزئية والشرطية، فيكون المرجع - بعد انقطاع اليد عن دلالة النهي - هي لا غير، إن (2) كان المورد مما لم يصل فيه عموم أو إطلاق - يقتضيان صحته - وإن (3) كان المورد مما وصل فيه أحدهما، فعلى أي تقدير يكون الأصل هو الصحة، فلا يصح دعوى أن الأصل هو الفساد بوجه.
ولعل مراده من الأصل ما مرت الإشارة إليه سابقا من أنه هو الأصل الأولي السابق على أصالة البراءة المقطوع بها، وهو مع كونه خلاف ظاهر كلامه لا فائدة في التعرض له بوجه، إذ على تقدير أن يكون مقتضاه الفساد لا يصار إليه، ولا يعمل بمقتضاه، بل المصير إلى أصل البراءة، وقد عرفت أن مقتضاه الصحة. وكيف كان، فإذا عرفت ما قدمنا لك فاعلم
أنهم اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهي عنه على أقوال:
أحدها: القول بالدلالة مطلقا في العبادات والمعاملات لغة وشرعا، حكي عن الرازي (4) نسبته إلى بعض أصحابنا وعن النهاية (5) إلى جمهور فقهاء

(1) قوانين الأصول: 1 / 155 / المقدمة الثانية من مقدمات مبحث دلالة النهي على الفساد.
(2) كان في النسخة المستنسخة: وإن كان. والصحيح المتن.
(3) كان في النسخة المستنسخة: أو أحدهما ان كان المورد مما وصل فيه أحدهما وعلى اي تقدير. والصحيح ما أثبتناه.
(4) الحاكي هو العلامة في المنتهى: 80 والمعتمد 1: 171 عن بعض أصحاب أبي حنيفة والشافعي.
(5) النهاية 1: 80.
96

الشافعية ومالك وأبي حنيفة والحنابلة وأهل الظاهر كافة وجماعة من المتكلمين.
وثانيها: القول بعدمها مطلقا، حكي عن النهاية (1) نسبته إلى جماعة من الأشاعرة كالغزالي وغيره وجماعة من الحنفية وجماعة من المعتزلة - أيضا - كابني عبد الله البصري، وابني الحسن الكوفي، والقاضي عبد
الجبار.
وثالثها: القول بها فيهما شرعا - لا لغة - حكي (2) عن الحاجبي (3) والسيد (4) - قدس سره -.
رابعها: القول بها في العبادات مطلقا - دون المعاملات مطلقا - ذهب إليه صاحب المعالم (5) - قدس سره - وجماعة (6)، وحكي اختياره عن الرازي (7).
خامسها: القول بها فيها شرعا - لا لغة - إلا إذا رجع النهي في المعاملة إلى أمر مقارن للعقد غير لازم، كالنهي عن البيع وقت النداء، وحكي القول به عن الشهيدين (8) - قدس سرهما -.
سادسها: القول بها في العبادات مطلقا، وفي المعاملات شرعا خاصة، اختاره بعض المتأخرين من أصحابنا (9).

(1) النهاية للعلامة 1 / 80.
(2) نسبه إليه العلامة في النهاية 1 / 80 وفي الفصول: 139.
(3) شرح المختصر للعضدي: 209 - 210.
(4) الذريعة 1: 180.
(5) المعالم: 102.
(6) الفصول: 139 نسبه للعلامة والمحقق (قده)، والقوانين 159 قال: مذهب أصحابنا وبعض العامة.
(7) المحصول في أصول الفقه للرازي 1: 344 المسألة الرابعة من القسم الثالث في النواهي.
(8) الشهيد الأول في القواعد والفوائد 1: 199، قاعدة 57 والشهيد الثاني في تمهيد القواعد قاعدة 42.
(9) الفصول: 140.
97

سابعها: القول بها فيهما مطلقا إن راجع النهي إلى العين أو الجزء أو اللازم وصفا كان أو غيره، دون الوصف الخارجي الغير اللازم، وحكي القول به عن الشيخ في العدة (1)، وعن الرازي (2) في المعاملة.
ثامنها: القول بها في العبادات مطلقا، وفي المعاملات شرعا، بشرط أن يكون تعلق النهي بالمنهي عنه بعينه أو بوصفه اللازم دون غيرهما، حكي عن الشهيد - قدس سره - في القواعد (3) وعن الكركي - في شرح القواعد (4) - أن كلام الفقهاء في كثير من الفروع يعطي ذلك.
تاسعها: القول بها فيهما شرعا خاصة، ويشترط رجوع النهي إلى العين أو الجزء أو اللازم، وحكي القول به عن البيضاوي في المنهاج (5).
عاشرها: القول بها في العبادات شرعا خاصة، وقد عزي ذلك إلى أكثر الأصحاب.
والظاهر من الدلالة الشرعية أو اللغوية هي الدلالة الناشئة من وضع اللغة أو الشرع النهي للفساد، لكن الظاهر أن المراد بالدلالة اللغوية أعم منها شاملة للعرفية العامة أيضا، فيكون المراد ما يقابل الشرعية.

(1) عدة الأصول: 101.
(2) لم نعثر على هذا القول في محصول الرازي والموجود فيه هو القول الرابع والظاهر وقوع السهو في العبارة.
(3) القواعد والفوائد 1: 199 - قاعدة: 57، وإليك نص عبارته - قدس سره -: (النهي في العبادات مفسد وإن كان بوصف خارج كالطهارة بالماء المغصوب، والصلاة في المكان المغصوب، وفي غيرها - أي غير العبادات - مفسد إذا كان عن نفس الماهية، لا لأمر خارج، فالبيع المشتمل على الربا فاسد... والبيع وقت النداء صحيح، لأن النهي في الأول لنفس ماهية البيع، وفي الثاني لوصف خارج).
(4) لا حظ جامع المقاصد 1: 99، 2: 89 و 90، 4: 17.
(5) الإبهاج في شرح المنهاج 2: 68.
98

وأيضا الظاهر عدم اعتبارهم استناد الدلالة إلى الوضع - أيضا - بل مراد القائلين بالدلالة اللغوية الدلالة العرفية المقابلة للشرعية ولو كانت مستندة إلى قرينة عامة، كما يظهر من بعض أدلتهم الآتية إن شاء الله تعالى.
- وأيضا - الظاهر من كل واحدة من الدلالتين - أعني اللغوية والشرعية - ما يعم العقلية أيضا، كما لا يخفى، فإنهم حصروا الدلالة المدعاة - في المقام - في اللغوية والشرعية مع أن بعضهم ادعى دلالة النهي على الفساد، عقلا، فلا بد من إرجاع ذلك إلى أحدهما، لئلا ينافي حصرهم ذلك، ولما كانت الدلالة العقلية اللفظية ناشئة من إدراك العقل التلازم بين المعنيين بينا أو غير بين، فإن كان المعنى الملزوم للفساد مما وضع له النهي لغة يكون (1) تلك الدلالة داخلة في اللغوية، أو شرعا فداخلة في الشرعية، كما لا يخفى.
نعم دعوى ثبوت الحقيقة الشرعية في النهي لما يلازم الفساد دونها خرط القتاد.
ولعل مراد القائلين بالدلالة على الفساد شرعا نفي الدلالة عقلا، بمعنى أنه لا ملازمة بين النهي الذي هو طلب الترك وبين الفساد، إلا أن الشارع حكم بفساد ما نهي عنه، فالملازمة شرعية، لا عقلية.
ولكن لا يخفى أنه لا يصح حينئذ جعل الدلالة الشرعية مقابلة للغوية.
وكيف كان، فالمهم توجه المقال بما يسعه المجال إلى تحقيق في المسألة على ما يقتضيه النظر، وترك الالتزام بتقليد واحد من تلك الأقوال. شعر:
خلق را تقليدشان بر باد داد اى دو صد لعنت بر اين تقليد باد فاعلم أن الذي يقتضيه التأمل والإنصاف بعد تجانب طريق التقليد والاعتساف ما حققه - دام ظله - من نفي وضع النهي للفساد مطلقا - لغة وشرعا -

(1) في النسخة فان كان معنى اللزوم للفساد مما وضع له النهي لغة فيكون والصحيح ما أثبتناه.
99

على وجه يكون هو تمام الموضوع له أو جزءه، بل هو موضوع لمجرد طلب الترك لغة، ولم ينقل منه إلى الفساد شرعا جدا.
نعم لازمه عقلا في العبادات هو الفساد إذا ثبت تعلقه بذاتها، وأما في المعاملات فلا.
نعم الظاهر منه في الخطابات الشرعية بواسطة القرينة العامة هو الفساد.
وتوضيح ذلك: أن النهي المتعلق بعبادة إما [أن يكون] بدليل مجمل محتمل لرجوعه إلى عنوان خارج عنها، وأما بدليل صريح وظاهر في رجوعه إلى ذاتها.
فإن كان من القسم الأول، فلا ملازمة بينه وبين الفساد عقلا، لاحتمال رجوعه إلى عنوان خارج عن العبادة متحد معها، ومعه يدخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي التي لا مقتضي فيها للفساد مطلقا على ما حققناه، إذ قد عرفت صحة العبادة معه في صورة السهو والنسيان على كلا القولين ثمة، وفي جميع الصور على القول بجواز الاجتماع، مع التأمل الذي عرفت فيه، وفي الحقيقة لم يحرز في هذا القسم كون المورد من مصاديق هذه المسألة.
وإن كان من القسم الثاني فلازمه الفساد عقلا، وهذا هو الذي قد أحرز اندراجه في عنوان هذه المسألة بمقتضى ظاهر الخطاب، ولا يفرق فيه بين أن يكون علة النهي مبغوضية ذات العبادة أو غيرها.
لنا: أن الصحة في العبادات متوقفة على وقوع الفعل وانعقاده عبادة، وهذا إن لم نقل بتوقفه على الأمر بالفعل، فهو متوقف على جهة مقتضية له لا محالة، ومن البديهي أنه إذا كان الفعل، بذاته مبغوضا منهيا عنه، فلا يعقل كونه مأمورا به ولا محبوبا وذا مصلحة - أيضا -، فلا جهة مصححة له بوجه، فيفسد، ولم نقف على من أنكر ذلك عدا الحاجبي (1) والعضدي (2) على ما حكي، فإنهما في

(1) و (2) شرح المختصر: 209 - 210.
100

المحكي عنهما قد أنكرا تلك الملازمة، محتجين بأن الفساد عبارة عن سلب الأحكام، ولا ملازمة بينه وبين النهي، وهذا منهما بزعم أن الفساد في العبادات من الأحكام الوضعية كما في المعاملات وقد عرفت ما فيه آنفا.
وكيف كان، فلما كانت النواهي اللفظية المتعلقة بالعبادات ظاهرة في مبغوضية ذوات متعلقاتها فلازمها الفساد.
نعم لما كان الملزوم قد ثبت بمقتضى تلك الظواهر الظنية يكون (1) الفساد ظنيا، لا قطعيا، إلا أنه قائم مقامه بمقتضى أدلة اعتبار تلك الظواهر.
وأما النواهي الثابتة بالإجماع ونحوه من الأدلة اللبية المجملة، فلا ملازمة بينها وبين الفساد، لتطرق الاحتمال المتقدم فيها الذي لا يلازم الفساد، وفي الحقيقة هذه خارجة عن محل النزاع في المقام، لما قد عرفت من أن النزاع في النهي بالقول، فيختص بالقسم الثاني، فيكون ما اخترناه قولا باقتضاء النهي للفساد عقلا مطلقا في العبادات في محل النزاع لا تفصيلا، هذا خلاصة الكلام في العبادات.
وأما المعاملات، فالنهي المتعلق بها إما بأن يكون متعلقا بها بعنوان كونها فعلا من الأفعال، بحيث يكون عناوينها الخاصة ملغاة في النهي وغير منظور إليها بوجه، وإما أن يكون متعلقا بها بعناوينها الخاصة، بحيث لا يحرم الإتيان بها مطلقا، بل إنما يحرم إيجادها بعناوينها الخاصة، كإيجاد الإيجاب والقبول بعنوان كونهما بيعا أو صلحا أو إجارة وهكذا، وإيجاد لفظ الطلاق - مثلا - بعنوان كونه طلاقا.
وهذا يتصور على وجوه، فإن النهي عن تلك العناوين الخاصة إما لأجل

(1) في الأصل: فيكون.
101

مبغوضية نفسها بحيث لا بغض لمسبباتها، وهي الآثار المقصودة منها، ولا لترتيب (1) تلك المسببات عليها،
وإما لأجل مبغوضية ذوات تلك المسببات مع عدم مبغوضية الأسباب، وترتيب المسببات عليها، وإن كان تصور مبغوضية ذوات المسببات من دون مبغوضية ترتيبها على الأسباب دونه خرط القتاد، بل الظاهر استلزام الأول للثاني، كما لا يخفى على المتأمل، وأما لأجل مبغوضية ترتيب تلك المسببات مع عدم البغض لغيره من ذوات الأسباب أو المسببات.
والنهي على الوجه الأول وأول الوجوه الثلاثة في الوجه الثاني نفسي، وعلى الأخيرين من الثلاثة يتصور على وجوه:
أحدها: أن يكون نفسيا، وهذا يتصور بوجهين:
الأول: أن يتصرف في المادة المعروضة لهيئة النهي بإرادة المسبب منها مجازا، بأن يراد من البيع - في قوله: لا تبع - تبادل المبيع (2) وترتيب آثار الملكية عليه.
الثاني: أن يقال: إن البيع - مثلا - حقيقة عرفا في التمليك العرفي، وهو عبارة عن ترتيب آثار الملكية على العوضين.
وثانيها: أن يكون غيريا بإرادة نفس السبب وهو العقد من مادة النهي، فيستكشف منه نهي آخر نفسي متعلق بالمسببات أو ترتيبها على السبب، ويكون هذا من باب الكناية، إذ الغرض منه حينئذ الانتقال إلى ذلك النهي النفسي.
وثالثها: أن يكون عرضيا بأن يؤخذ (3) متعلقه السبب المقيد بترتيب الآثار عليه إذا كان المبغوض حقيقة هو ترتيب الآثار أو المجموع من السبب والمسبب إذا كان المبغوض ذات المسبب، أو حرمة ترتيبه على السبب.

(1) في النسخة المستنسخة: لا يقتضي بمسبباتها... ولا يترتب. والصحيح ما أثبتناه.
(2) في النسخة المستنسخة:... لا بيع تبادل عن المبيع.
(3) كذا ولعله من سهو من القلم في كتابة يؤخذ بدل يوجد.
102

رابعها: أن يكون غيريا إرشاديا، لا شرعيا، ويكون هذا - أيضا - من باب الكناية، إذ الغرض منه التنبيه على حرمة شيء آخر بالحرمة النفسية الشرعية.
والحاصل: أنه إذا فرض أن منشأ النهي عن السبب إنما هو مبغوضية مسببه [أو] ترتيب ذلك المسبب عليه، يكون (1) الحرام النفسي الشرعي حقيقة هو ذلك المسبب أو ترتيبه على السبب، فأوجب (2) ذلك النهي - المتعلق بالسبب ظاهرا - [نهيا] نفسيا، فهما منهي عنهما بنهي آخر غير ذلك النهي قد كشف الشارع عنه بذلك النهي، والمراد بالمسبب (3) إنما هو ما كان من فعل المكلف من تناول أخذ العوضين في العقود وترتيب آثار الملك عليه بالمعنى الأخص التي [هي] بمعنى العلقة الحاصلة بين أحد المتبايعين وأحد العوضين، أو من الأحكام الوضعية على اختلاف القولين فيها، وعلى التقديرين لا يصح إيراد النهي عليها:
أما على كونها من أحكام الوضع فلأنه من فعل الشارع، ولا يعقل إيراد النهي على فعله.
وأما على القول الآخر فلأنها من الأوصاف المقابلة للأفعال، وموضوع التكليف لا بد أن يكون من فعل المكلف بلا واسطة أو معها.
نعم هي ملازمة شرعا لذلك المسبب نفيا وإثباتا، فإذا أثر العقد فيه أثر فيها، وإذا لم يؤثر فيه لم يؤثر فيها أيضا، والغرض الأصلي من المعاملات إنما هو ترتيب تلك المسببات بالمعنى الذي عرفت، فالصحيح منها ما يجوز ترتيبها عليه، والفاسدة ما لا يجوز فيها ذلك.

(1) في النسخة المستنسخة: فيكون.
(2) في النسخة المستنسخة: فأوجد، والصحيح ما أثبتناه.
(3) في النسخة المستنسخة: بالسبب..
103

ثم الظاهر من النواهي المتعلقة بالعناوين (1) الخاصة من المعاملات - كالبيع والصلح والطلاق والعتق والظهار وأمثالها - إنما هو حرمة تلك العناوين بما هي تلك العناوين، لا بعنوان كونها فعلا، فإن أسبابها - التي هي معروضة لهيئة أخرى - ظاهرة في ذلك جدا.
ثم الظاهر منها ابتداء إنما هو حرمة تلك العناوين لذاتها، لأن النهي عن كل شيء ظاهر في مبغوضية ذات ذلك الشيء دون شيء آخر يرتبط [به] (2).
إلا أن الذي يقتضيه النظر في النواهي الشرعية المتعلقة بتلك العناوين إنما هو ظهورها في حرمة تلك العناوين لترتيب مسبباتها عليها، فموضوع الحرمة هو إيجاد تلك العناوين لترتيب تلك المسببات عليها، ومنشأ المعهودية إنما هو أن أهل العرف والعادة يقصدون بفعل تلك العناوين دائما أو غالبا ترتيب تلك الآثار عليها والتوصل بها إليه، وغرضهم الأهم من فعلها إنما هو هذا لا غير، فهذا صار موجبا لمعهودية ما ذكر من بين وجوه وقوع تلك العناوين في الخارج، فيحمل عليه النواهي الشرعية، ولما كان الغالب في تلك النواهي أن علة النهي إنما هي مبغوضية ترتيب تلك الآثار - دون مبغوضية ذوات الأسباب، بل لم نجد منها ما كان على غير هذا الوجه - يكون (3) تلك النواهي عرفية كاشفة عن ترتيب (4) تلك الآثار شرعا ونفسا أيضا.
ثم إنها لما كانت في مقام إمضاء المعاملات العرفية المتعارفة بينهم وردها - من غير سبق رد أو إمضاء من الشارع فيها - تكون (5) مقتضية لفساد متعلقاتها،

(1) في النسخة المستنسخة: المتعلقة على العناوين..
(2) في النسخة المستنسخة: يرتبط إليه..
(3) في النسخة المستنسخة: فيكون..
(4) كذا في النسخة المستنسخة، والصحيح: كاشفة عن مبغوضية ترتيب..
(5) في النسخة المستنسخة: فيكون..
104

ضرورة أن الصحة فيها إنما تتحقق بإمضاء الشارع، فإذا فرض عدمه - بل رده - لا يعقل (1) معه الصحة، فإن تلك النواهي المتعلقة بترتيب تلك الآثار عين رفع تلك الآثار وسلبها، وهل هذا إلا الفساد؟ والحاصل: أنه بعد إحراز تعلق النهي بترتيب تلك الآثار مع عدم سبق إمضاء من الشارع لها، فيكون هذا ملازما للفساد، بل عينه - كما عرفت - ولا يتوقف اقتضاء النهي للفساد حينئذ على كون المبغوض هو نفس الآثار أو ترتيبها، بل إذا كان متعلقا بترتيب تلك الآثار مطلقا - أصالة أو تبعا - فهو موجب لرفع تلك الآثار، بل عينه، ومعه لا يعقل الصحة.
نعم كون المبغوض غير ذوات تلك الأسباب إنما يوجب كون النهي المتعلق بها مقيدا بترتيب الآثار أو منضما إلى نفس تلك الآثار عرضيا، فإن حرمة المركب مطلقا - عقليا كان كما هو الحال في صورة التقييد، أو خارجيا كما هو الحال في صورة الضم - عرضية إذا كان المبغوض حقيقة هو التقيد أو الجزء الخارجي.
والحاصل: أنه بعد إحراز مقدمتين - وهما تعلق النهي بترتيب الآثار ولو في ضمن مركب عقلي أو خارجي، وكون تلك النواهي في مقام الرد أو الإمضاء - فلا بد من الفساد.
مع أنا قد استظهرنا أن الحرام حقيقة إنما هو ترتيب الآثار دون غيره - كما عرفت - فيكون هو جزء بالاستقلال وإن كان ظاهر الخطاب مع قطع النظر عن الخارج حرمة المقيد به، وهو إيجاد السبب لترتيب تلك الآثار عليه والتوصل به إليها.
وبالجملة: لازم المقدمتين المذكورتين عقلا إنما هو الفساد، فما يرى في

(1) في النسخة المستنسخة: فلا يعقل.
105

بعض الموارد من ثبوت الصحة مع النهي، كما في الظهار، حيث إنه منهي عنه وان كان قد ثبت العفو عنه، مع أنه إذا وقع يترتب عليه أثره وهو حرمة الوطء ما دام لم يكفر، فلا بد من التزام انتفاء إحدى المقدمتين فيه بقرينة قيام الإجماع على صحته، فنلتزم في مثل الظهار: إما بأن الحرام إنما هو إيجاد نفس السبب دون ترتيب سببه، وإما بسبق إمضاء من الشارع فيه.
أقول: بعد ما ثبت حرمة ترتيب الأثر على السبب فهي بنفسها كافية في تحقق العبادة وملازمة له (1) عقلا من حينها إلى [ما] بعدها إلى أن ورد من الشارع إمضاء له فيما بعد، لما عرفت من أنها إما ملازمة لسلب (2)
أحكام المسبب، أو عينه، وعلى التقديرين يلزمها الفساد من حينها إلى ما بعدها إلى الغاية المذكورة، إذ الفساد في المعاملات ليس إلا سلب أحكام المسبب، فلا دخل لورود النهي في مقام الرد والإمضاء الغير المسبوقين برد أو إمضاء آخرين بوجه، فإن كان المورد مما لم يصل فيه قبل النهي إمضاء له فهو فاسد أزلا وأبدا، أو مما وصل فيه قبله فمن حينه، ويكون النهي حينئذ إبطالا للإمضاء السابق وفسخا له من حينه، فالنهي عن الطهارة وإن كان مساقه مساق سائر النواهي من حيث ظهوره في حرمة ترتيب الأثر، وهو فيه ترك الوطء، ولازمها الفساد، إلا أنه بعد قيام الإجماع على صحته لا بد من صرفه إلى أن الحرام إنما هو إيجاد نفس السبب.
نعم ذلك الأثر وترتيبه ظاهر [في] مبغوضيتها (3) ذاتا، لكنا قد استكشفنا من الإجماع على الصحة أن حكمة دعت إلى إمضاء الشارع للظهار والرضا بترتيب ذلك الأثر المبغوض ذاتا، كما وقع نظيره في مواضع كثيرة من الموارد

(1) في النسخة المستنسخة: وملازمة معه..
(2) في النسخة المستنسخة: ملازمة مع سلب..
(3) في النسخة المستنسخة: الظاهر مبغوضيتها..
106

الشرعية.
هذا، ثم إن الذي ذكرنا لا يفرق فيه بين العقود والإيقاعات وبين سائر الأمور المعاملية، كغسل الثوب لأجل تحصيل الطهارة وأمثاله من الأمور المقصود منها أثر شرعي، كما لا يخفى على المتأمل، فإن صحتها أيضا إنما هو بحكم الشارع بترتيب تلك الآثار المقصودة عليها، ومع نهيه عن ترتيبها لا يعقل جواز ترتيب تلك الآثار [عليها] (1)، فافهم.
ثم إنك قد عرفت أن الفساد إنما هو لازم تعلق النهي بترتيب الآثار مستقلا فيكون هو خارجا عن محل النزاع في المسألة، إذ قد عرفت أن النزاع في النهي المتعلق بالعبادة أو المعاملة إنما هو فيما تعلق بأنفسهما حقيقة.
نعم يكون داخلا فيه بحسب ظاهر الدليل مع قطع النظر عن الخارج، لكن لا ينفع بعد خروجه عنه حقيقة، بل الظاهر خروجه عنه على تقدير إرجاعه إلى المقيد بترتيب الآثار أيضا، إذ الظاهر أن النزاع إنما هو في النهي المتعلق بالعبادة أو المعاملة مستقلا، لا بهما مقيدين بقيد آخر.
ثم إنه لا بأس بالتعرض لحكم (2) سائر الوجوه المتصورة للنهي المتعلق بالمعاملات المتقدم ذكرها، فنقول:
أما صورة تعلقه بذاتها بعنوان كونها فعلا من الأفعال - كما لعله الحال في مثل النهي عن البيع وقت النداء، إذ لا يبعد أن يكون المراد النهي عن الاشتغال بشيء اخر غير الصلاة - فهي في الحقيقة خارجة عن محل النزاع في مسألة النهي عن المعاملات، إذ الظاهر أن النزاع فيها إنما هو في النهي المتعلق بها بعناوينها الخاصة مع أنه لا ملازمة بين النهي فيه وبين الفساد، لإمكان حرمة

(1) في النسخة المستنسخة: (.. ترتيب تلك الآثار من الفساد)، والصحيح ما أثبتناه.
(2) في النسخة المستنسخة: يتعرض حكم..
107

شيء وجواز ترتيب أمور اخر عليه، كما لا يخفى.
وأما صورة تعلقه بذاتها بعناوينها الخاصة مع عدم مبغوضية آثارها أو (1) ترتيب تلك الآثار، فهي وإن كانت داخلة فيه إلا أنه لا ملازمة بين النهي فيه وبين الفساد.
وأما صورة تعلق النهي حقيقة بذوات المسببات، فهي خارجة عن محل النزاع، وأما حكمها فحكم (2) صورة تعلق النهي بترتيب المسببات، لأن النهي عن تناولها ملازم لسلبها، بل عينه، فتكون المعاملة المنهي عنها على ذلك الوجه فاسدة لذلك.
فخلاصة الكلام: أنه إذا ثبت حرمة نفس الأسباب وهي نفس تلك العناوين الخاصة فهو غير ملازم للفساد، سواء كانت محرمة بعناوينها الخاصة أو بعنوان كونها فعلا، وإذا حرم ذوات الأسباب أو ترتيبها على الأسباب فلازم الحرمة حينئذ الفساد، لما عرفت، ونحن بعد ما أحرزنا حرمة ترتيب تلك المسببات من النواهي الشرعية فهي مقتضية للفساد.
هذا، ثم إنه قد يستدل على اقتضاء النهي الفساد في المعاملات بأخبار واردة في موارد خاصة:
منها: ما رواه رواه زرارة في الحسن أو الصحيح على اختلاف فيه قال: «سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده.
فقال عليه السلام: ذاك (3) إلى سيده إن شاء أجازه (4) وإن شاء فرق

(1) في النسخة المستنسخة: (إذا)، والصحيح ما أثبتناه.
(2) في النسخة المستنسخة: وأما حكمها حكم..
(3) في النسخة المستنسخة: في النسخة: ذلك.
(4) في النسخة المستنسخة: أجاز..
108

بينهما.
فقلت (1): أصلحك الله، إن الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد، ولا تحل له إجازة السيد.
فقال [أبو جعفر] (2) عليه السلام: إنه لم يعص الله، وإنما عصى سيده، فإذا أجازه (3) فهو له جائز.» (4).. وفي روايته الأخرى بعد أن ذكر حكمه عليه السلام بصحة النكاح مع لحوق الإجازة قال: «فقلت لأبي جعفر عليه السلام: فإنه في أصل (5) النكاح كان عاصيا، فقال: [أبو جعفر] (6) عليه السلام: إنما أتى شيئا حلالا، وليس بعاص لله وإنما عصى سيده، ولم يعص الله (7) إن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله (8) من نكاح في عدة وأشباهه (9) (10).
وتقريب الاستدلال بهاتين الروايتين على ما ذكره بعض المتأخرين أنه قد علل صحة النكاح من العبد الغير المأذون مع لحوق الإجازة: بأنه لم يعص

(1) كذا في النسخة المستنسخة وفي الرواية (قلت).
(2) هذه الزيادة أثبتناها من المصدر ولم ترد في النسخة المستنسخة.
(3) في النسخة المستنسخة: أجاز..
(4) الوسائل: 14 / 523 / كتاب النكاح / أبواب نكاح العبيد والإماء / باب: 24 / ح: 1.
(5) في المصدر: فإن أصل..
(6) ما بين المعكوفين أثبتناه من المصدر، ولم يرد في النسخة المستنسخة.
(7) في النسخة المستنسخة: الله تعالى..
(8) في النسخة المستنسخة: ليس كإتيانه ما حرم الله تعالى..
(9) في النسخة المستنسخة: أو شبهة.
(10) الوسائل: 14 / 524 / كتاب النكاح / أبواب نكاح العبيد والإماء / باب: 24 / ح: 2.
109

الله، ومقتضى مفهوم العلة ثبوت الفساد مع تحقق العصيان، فيستفاد منه قاعدة كلية، وهي أن كل ما حرم ونهي عنه شرعا على وجه يكون مخالفته عصيانا لله تعالى يكون ملازما للفساد، وبعد ثبوت تلك الملازمة بهاتين الروايتين فيكون النواهي الشرعية مقتضية للفساد.
هذا، وقد نوقش في الاحتجاج بهما بوجهين متقاربين:
أحدهما: ما ذكره المحقق القمي رحمه الله (1) من أن المراد بالمعصية فيهما إنما هو مجرد عدم الرخصة من الشارع، [وإلا] فمخالفة السيد أيضا معصية.
وتوضيح كلامه: أنه لا يمكن حمل المعصية في قوله عليه السلام: «لم يعص الله، أو ليس عاصيا لله» على حقيقتها، إذ معه لا يمكن نفيها بالنسبة إلى الله تعالى وإثباتها بالنسبة إلى السيد، فإن مخالفة السيد أيضا مخالفة لله وعصيان له لوجوب متابعته على العبد شرعا، فمع فرض ثبوت عصيان السيد يلزم ثبوت عصيان الله تعالى أيضا، إذ معه لا يمكن نفيه بالنسبة إليه تعالى، فلا بد أن يكون المراد بالمعصية غير معناها الحقيقي من المعاني المجازية، وأقربها هو عدم الإذن والرخصة في الجملة ولو بعد إذن السيد وإمضائه، فيكون معنى الروايتين أنه لم يأت بشيء لم يأذن الله له فيه ولم يرض به، بل أتى بما أذن له فيه ورضي به ولو بضميمة إجازة السيد، فيكون مفهوم العلة على هذا هو فساد ما لم يأذن الله فيه، ومن المعلوم أن فساد ما لم يأذن الله فيه إنما هو لعدم إمضائه، لا للنهي والعصيان.
والحاصل: أن المراد بالمعصية إنما هو الإتيان بما لم يرض الشارع بصحته ومضيه ولو بضميمة الإجازة، لا الإتيان بما نهى الشارع عنه، وإلا فهو ثابت حينئذ بمخالفة السيد أيضا - كما عرفت - فلا يصح نفيه، فيكون مفهوم العلة

(1) قوانين الأصول: 1 / 162.
110

حينئذ هو فساد ما لم يرض الله تعالى بمعصيته، فإن مراده - قدس سره - من عدم الرخصة هو عدم الرضاء بمقتضى العقد، بقرينة إثباته الرخصة في نكاح العبد الغير المأذون بما دل على صحة ذلك النكاح ومضيه بعد إجازة السيد، فالروايتان دالتان على فساد ما لم يمضه الشارع من غير نظر إلى النهي أصلا، وهذا وجه ما قاله (1) - قدس سره - من أن الرواية على خلاف المطلوب أدل.
ثانيهما: ما ذكره في الفصول الغروية (2) من أن الظاهر من العصيان فيهما بقرينة المقام الإتيان بما لم يمض أو لم يرض بصحته، فالمعنى أن العبد لم يأت بنكاح لم يمضه الله تعالى أو لم يرض بصحته على تقدير الإجارة، وإنما أتى بنكاح لم يضمه السيد أو لم يرض بصحته على تقدير عدم الإجازة، ووجه إطلاق العصيان على ذلك وقوع التعبير عنه غالبا بالنهي.
ثم قال: (ومما يدل على ما قررناه حكمه بعصيان العبد لسيده المحمول على صورة المنع، مع أن الظاهر اختصاص المنع بالنكاح الصحيح دون الفاسد، وهو غير حاصل حال المنع، ويؤكده قوله عليه السلام: «فإذا أجازه فهو له جائز» (3) فإن المراد إذا رضي بصحته فهو له صحيح). انتهى.
والظاهر أن مراده من قرينة المقام أن مورد السؤال - وهو نكاح العبد الغير المأذون - يدور صحته مدار إمضاء الشارع ورضائه بمقتضى العقد، لا عدم عصيان الله تعالى بل مع تحقق الإمضاء يصح ولو مع تحقق العصيان، كما هو الحال في المثال، لاستلزام عصيان السيد العصيان لله تعالى، فلا يصح تعليل الصحة مع لحوق الإجازة بعدم تحقق العصيان حقيقة لفرض ثبوته، فلا بد أن

(1) صاحب القوانين 1: 162.
(2) الفصول: 144.
(3) مر تخريجه الصفحة 109.
111

يكون المراد بالعصيان ما يصح كونه علة للصحة، وهو لا يكون إلا بإمضاء الشارع ورضاه بمقتضى النكاح مع لحوق الإجازة، فيخرج الروايتان عن الاحتجاج بهما على اقتضاء النهي للفساد، إذ مفهوم العلة حينئذ استلزام عدم الإمضاء للفساد، وهو ليس مربوطا بالمطلوب بوجه.
قوله: (وقوع التعبير عنه) أي عن عدم الإذن.
قوله: (حكمه بعصيان العبد لسيده) هذا شاهد آخر على إرادة عدم الإتيان بما لم يمضه الله من العصيان، وحاصله:
أن العصيان إنما يتحقق بأمرين:
أحدهما: المنع من ارتكاب العمل.
وثانيهما: ارتكاب ذلك الفعل الممنوع منه، وحقيقة العصيان متقوم بهذين، وبانتفاء أحدهما ينتفي، وبعد التصرف في عدم الإذن - بحمله على المنع بقرينة قوله: «عصى سيده» حيث إن العصيان في معناه المتوقف على المنع أظهر من لفظ عدم الإذن في الأعم - من المنع - لا يمكن حمل العصيان في قوله:
«عصى سيده» على حقيقته، لانتفاء الأمر الآخر فيه، وهو ارتكاب الفعل الممنوع منه، فإن السيد على تقدير منعه إنما يمنع من النكاح الصحيح وبعد منعه من النكاح لا يمكن صدور النكاح الصحيح من العبد فيمتنع منه عصيان السيد، فلا يمكن حمل العصيان على حقيقته، فيحمل على عدم الرضا بمقتضى العقد هذا.
وكيف كان، فهذا الوجه متحد مع الوجه السابق في المعنى، وإنما الاختلاف في كيفية استظهار القرينة على الدلالة عليه، وأيضا هما متحدان من جهة أنه قد اعتبر في كل منهما من حيث القرينة امتناع حمل العصيان على حقيقته، بل العمدة في التصرف في كل منهما إنما هو ذلك، فافهم.
112

وقد يجاب عنهما: بأن الموجب للتصرف [في] العصيان (1) في قوله: «لم يعص الله» إلى [آخر] (2) ما ذكر - كما مر - إنما هو استلزام عصيان السيد المفروض ثبوته في الروايتين لعصيان الله، لكنه ممنوع، لمنع اختيار السيد على لسان العبد وتملكه لتلفظه شرعا، فعلى هذا يتحقق عصيان السيد دون عصيان الله تعالى فيحمل العصيان على حقيقته فيتم الاستدلال. انتهى.
وهذا كما ترى بمكان من الضعف، لظهور الأدلة في تملك السيد للعبد بجميع ما يصدر منه من الأفعال والأقوال.
والذي يقتضيه التأمل في الروايتين - بقرينة قوله: - عليه السلام - في ذيل الثانية منهما (3): «إن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله (4) عليه من نكاح في عدة وأشباهه» (5) - أن المراد بالعصيان من المنفي إنما هو العصيان بالنظر إلى أهل المعاملة في حد نفسها مع قطع النظر عما يتحد معها من العناوين كمخالفة السيد في مورد الرواية، فإن تمثيله بما يتحقق معه العصيان بالنكاح في العدة يفيد ذلك حيث إنه محرم في أصله، والعصيان بهذا المعنى منتف في نكاح العبد الغير المأذون، لأن تزويج المرأة الخالية عن الموانع - من كونها في عدة أو ذات بعل - جائز في أصله، فيكون نفيه في محله، فالروايتان بمفهوم التعليل تدلان على فساد ما عصى فيه بالنظر إلى أصله من المعاملات، وهو ليس إلا نهي عن نفسه، ونحن لما استظهرنا من نفس النواهي تعلقها

(1) وفي النسخة المستنسخة: لتصرف العصيان..
(2) وفي النسخة المستنسخة: إلى ما ذكر..
(3) الوسائل 14: 235 - 524 / كتاب النكاح / أبواب نكاح العبيد والإماء / باب: 24 / ح: 2.
(4) في النسخة المستنسخة: (كإتيانه ما حرم الله - تعالى - عليه..) وقد أثبتناه الرواية طبقا للمصدر.
(5) في النسخة المستنسخة: وشبهة.
113

بالمعاملة من حيث ترتب مسبباتها عليها، فيكون هاتان الروايتان مفيدتين لما أفاده الوجه المتقدم من اقتضاء النواهي المتعلقة بالمعاملات من الجهة المذكورة للفساد، فلا يتعدى إلى غير ذلك القسم من النواهي.
والحاصل: أن الروايتين دلتا على فساد ما نهي عن نفسه لا على فساد ما اتحد مع شيء آخر منهي عنه من دون النهي عنه في نفسه، والنهي محمول على المعهود المتعارف، وهو القسم المذكور منه، فتكونان دالتين على تمام المدعى والمختار، غير مبينتين (1) لأزيد منه.
لا يقال: على تقدير تسليم دلالتهما فيهما إنما تدلان على ذلك في خصوص النكاح، ولا يتعدى منه إلى غيره.
لأنا نقول: إن مورد التعليل إنما هو النكاح، والمورد لا يصلح لتخصيص عموم العلة، فيؤخذ بعمومه، فيتم المطلوب.
هذا مضافا إلى الإجماع على الملازمة بين النكاح وغيره في الحكم المذكور على تقدير ثبوته.
فإن قلت: إنهما على تقدير تماميتهما إنما تفيدان فساد المعاملة إذا وقعت على وجه العصيان، ومن المعلوم أن العصيان أخص موردا من الحرمة، فلا ينهضان حجة على تمام المدعى، وهو فساد المعاملة المحرمة مطلقا.
قلنا: الظاهر من العصيان فيهما إنما هو الثاني منه، وهو الإتيان بما يحرم الإتيان به في أصله، لا الفعلي منه حتى يكون أخص موردا، وذلك لأن الظاهر منهما أن الاستدلال بالنهي على الفساد كان متعارفا وشائعا عند المتشرعين، وأنه عليه السلام نبه السائل على ما هو المتعارف عندهم، وفهمه مقتضيات النواهي الشرعية، ونحن لما استظهرنا أن مقتضاها هو فساد المعاملة مطلقا

(1) في النسخة المستنسخة: غير مبين..
114

- لظهورها في حرمة ترتيب الآثار - فهاتان الروايتان إنما تفيدان ذلك الذي استظهرناه، لا [أكثر] (1)، فافهم.
ثم إن في قول صاحب الفصول - مع أن الظاهر اختصاص المنع بالنكاح الصحيح دون الفاسد وهو غير حاصل حال المنع - ما لا يخفى على المتأمل، فإن منعه إنما هو يتعلق بما لا يصلح للاتصاف بالصحة والفساد شرعا، وهو نفس إيجاد العقد لا تخصيص الصحيح، ومعه يتحقق العصيان مع إيجاد الفاسد أيضا، وهذا الإشكال منه
نظير الإشكال الذي أورد [ه‍] بعض في النذر والأيمان والعهود على ترك شيء من العبادات في موارد انعقادها، من أن متعلقها إنما هو الصحيح، ومعها يمتنع وقوع الصحيح من المكلف، فيمتنع في حقه الحنث بفعل ما نذر أو حلف على تركه.
والجواب عنه عرفت - أيضا - والعجب منه - قدس سره - أنه قد أجاب عن ذلك الإشكال في غير هذا الموضع، ولم يلتفت إليه فيه.
وكيف كان، فملخص ما حققناه إلى هنا: أن النهي مقتض للفساد في العبادات دال عليه استلزاما - كما عرفت - فيصح أن يقال: إنه دال عليه لغة، حيث إن الفساد من لوازم مدلوله اللغوي، وأما في المعاملات فلا يدل عليه بالدلالة الالتزامية اللغوية، لأنه ليس من لوازمه مطلقا بحيث يدور مداره، وإنما هو من لوازمه على بعض الوجوه، وهو ما إذا تعلق بنفس الآثار كما عرفت.
ومما حققنا يظهر الجواب عن سائر الأقوال - في المسألة - فلا نطيل الكلام بالتعرض إلى أدلتها والجواب عن كل منها مستقلا، فتدبر.
وبذلك يظهر الكلام في سائر الروايات المستدل [بها] في المقام.

(1) في النسخة المستنسخة: (لا أنهما)، والظاهر أنه من خطأ الناسخ، وقد صححنا العبارة بما في المتن.
115

ثم إنه قد ينسب إلى المولى البهبهاني قول آخر في المعاملات غير الأقوال المتقدمة، وهو أنه إذا كان الدليل المقتضي لصحة المعاملة مناقضا للتحريم فالنهي يقتضي فسادها، وإن كان غير مناقض له فلا، إذ مع مناقضته للتحريم يرتفع بورود النهي عن مورده، فيبقى المورد بلا دليل يقتضي صحته، وعدم الدليل على الصحة يكفي في الفساد. هذا.
ويتجه عليه: أن الدليل المقتضي للصحة - كقوله تعالى: أحل الله البيع (1) وقوله تعالى: أوفوا بالعقود (2) ونحوهما - إن كان متعلقا بنفس المسبب، أي ذات المعاملة، دون آثارها، أو ترتيبها عليه، فالنهي وإن كان يناقضه إلا أنه غير مقتض للصحة - كما لا يخفى - لعدم الملازمة بين علية ذات المعاملة ووجوب الإتيان به أو استحبابه - مثلا - وبين وجوب ترتيب الآثار عليها بوجه الذي هو معنى الصحة، فلا معنى لتسميته بالدليل المقتضي للصحة، وإن كان متعلقا بترتيب الآثار فهو وإن كان مقتضيا لها إلا أنه حينئذ كسائر الأدلة المقتضية لها الغير المناقضة لتحريم المعاملة، فلم يبق وجه لهذا التفصيل أصلا.
والتحقيق أن يقال: إن الدليل المقتضي لصحة المعاملة إنما هو متعلق بترتيب آثارها عليه، فحينئذ إن كان النهي متعلقا بنفس المعاملة فهو غير مناقض لذلك الدليل بوجه، لعدم المنافاة بين تحريم الإتيان بسبب وبين وجوب ترتيب الآثار عليه أو جوازه فلا يقتضي الفساد، وإن كان متعلقا بالآثار أو ترتيبها على المعاملة، فهو يناقض ذلك الدليل ويقتضي فساد المعاملة، وهذا عين ما حققناه سابقا، وأقمنا الحجة عليه، فافهم.

(1) البقرة: 275.
(2) المائدة: 1.
116

وينبغي التنبيه على أمور:
الأول:
كلما حققناه في مقتضى صيغة النهي - المتعلقة بالعبادات أو المعاملات - جار في مادة [النهي] المتعلقة بواحدة منهما، وكذا في الحرمة المتعلقة بواحدة منهما المستفادة من غيرهما من الأدلة اللبية، لاتحاد المناط في الكل، فإن الفساد في الكل إنما هو ملازم لحرمتها، لا لحرمتها الثابتة بالصيغة، أو بمطلق اللفظ الشامل للمادة، فإذا حرمت تكون فاسدة مطلقا، أو معاملة فكذلك إذا كانت الحرمة متعلقة بآثارها، أو بترتيب تلك الآثار عليها، فتدبر.
الثاني:
كلما ذكرنا إلى هنا إنما هو على تقدير كون النهي نفسيا، فهل يجري في الغيري أيضا ما جرى فيه؟ ألحق، نعم:
أما في العبادات: فواضح، حيث إن صحتها متوقفة على انعقادها عبادة، وذلك يتوقف على الأمر، ومع وجود النهي لا يعقل بقاء الأمر واجتماعه معه ولو كان النهي غيريا، والقائلون بجواز الاجتماع بينهما إنما يجوزونه فيما إذا تعددت جهتاهما، وأما مع اتحادها - كما هو الحال فيما نحن فيه - فهم أيضا مانعون عنه ولو كان النهي غيريا، فإذا انتفى الأمر ينتفي (1) الجهة المصححة لها، كما في صورة تعلق النهي النفسي بها.
وأما في المعاملات: فلأنه إذا تعلق بنفس الأسباب فهو لا يزيد على النفسي، فلا يقتضي الفساد جدا، وأما إذا تعلق بالمسببات أو بترتيبها فهو كالنفسي مقتض له البتة، فإن ثبوت تلك المسببات إنما هو بأمر الشارع وإمضائه، ومع رده ولو غيريا لا يعقل ثبوتها، وعدمه يكفي في ثبوت الفساد. هذا.
نعم بناء على كفاية الجهة في انعقاد الفعل عبادة من دون توقف على وجود

(1) في النسخة المستنسخة: فينتفي.
117

الأمر فعلا، كما هي ليست ببعيدة، لا يجري في النهي الغيري المتعلق بالعبادات ما جرى في النفسي المتعلق بها من اقتضاء الفساد، فإن الغيري لا يوجب مبغوضية متعلقه ذاتا ولا صيرورته ذا مفسدة، فيمكن في متعلقه فرض مصلحة داعية للأمر لو لا المانع من توجهه، ومعها يقع الفعل عبادة، فيكون صحيحا إذا أتى بداعيها.
لا يقال: إنا لو بنينا على كفاية جهة الأمر - من دون توقف على نفسه - فهو إنما يجدي فيما إذا لم يكن هناك مانع آخر من انعقاد الفعل عبادة، ومن المعلوم أن كون الفعل عصيانا مانع منه، فإنه يمنع اجتماعه معه، وما نحن فيه كذلك، فإن فعل المنهي عنه الغيري إن لم نقل بوقوعه معصية بالنسبة إلى النهي الغيري، بناء على أنه لا يتحقق معصية ولا طاعة بالنسبة إلى التكاليف الغيرية نفسها، لكنه معصية لذلك التكليف الآخر النفسي، فإن ارتكاب ما يوجب فوت واجب أو ارتكاب حرام نحو من أنحاء مخالفة ذلك الواجب أو الحرام.
لأنا نقول: وقوعه معصية حقيقة لذلك التكليف ممنوع، بل إنما هو مخالفة حكمية له، لأن المخالفة حقيقة إنما تتحقق بترك الواجب أو فعل الحرام في وقت الفعل أو الترك، وأما قبله فلا، وإنما هو مجرد شيء مفض إلى المخالفة في وقتها، فافهم.
ثم إنك قد عرفت أن اقتضاء النهي الغيري للفساد في العبادات إنما هو لأجل منافاته للأمر وامتناعه معه، فمع فرض ثبوته ينتفي الأمر، فتنتفي الجهة المصححة للعبادة بناء على توقفها على الأمر، لكن هذا إنما هو فيما إذا كان الأمر المفروض في مرتبة ذلك النهي بمعنى اتحاد زمن امتثالهما وتنجز كل منهما على نحو الإطلاق، بأن يقول الشارع - مثلا -: (لا تفعل، وافعل)، وأما إذا كان مرتبا عليه ومعلقا على عصيانه فلا منافاة بينهما بوجه، فيجتمع معه، فيكون مصححا للعبادة، كأن يقول: لا تفعل ذلك الشيء لأجل أدائه إلى ذلك المحرم، وافعله على تقدير عصيانك لذلك المحرم.
118

ونحن وإن أشبعنا الكلام في تصوير الأمر الترتبي وتحقيق إمكانه في مسألة مقدمة الواجب، لكن لا بأس [بذكره] (1) هنا - أيضا - على نحو الإجمال، والمحتاج إليه في المقام وإن كان توضيح المقال في الأمر المرتب على النهي الغيري، لكن لا بأس بتعميم المقال إلى تعرض الأمر المرتب على أمر آخر متعلق بالضد الأهم:
فاعلم أن الذي يتخيل مانعا منه أن الأمر بكل شيء إنما يقتضي امتثاله، ويستلزم إرادة ذلك الشيء والحب له
وكونه ذا مصلحة داعية إليه وكونه حسنا أيضا - بمعنى مدح فاعله - ويستلزم أيضا كراهة ضده العام - بمعنى تركه - وكراهة ضده الخاص أيضا على القول بكون الأمر بالشيء مقتضيا للنهي عن ضده الخاص، وأيضا يستلزم البغض لضده العام والخاص على القول المذكور، وأن النهي عن كل شيء إنما يقتضي - أيضا - امتثاله، ويستلزم كراهة ذلك الشيء والبغض له وكونه ذا مفسدة داعية إليه، وكونه قبيحا - بمعنى ذم فاعله - وإرادة ضده الخاص والعام أيضا على القول المتقدم، والأمر بالأول وبالثاني - أيضا - على القول المذكور، فإن القائلين به إنما يقولون باقتضاء النهي عن شيء الأمر بضده الخاص، ومن المعلوم - أيضا - عدم قدرة المكلف على الجمع بين امتثال الطلبين المتعلقين بالضدين أو النقيضين في آن واحد، ومن البديهيات الأولية ثبوت التضاد بين الإرادة والكراهة، وبين الحب والبغض، وبين المصلحة والمفسدة، وبين الحسن والقبح.
فظهر من ذلك عدم قدرة المكلف على الجمع بين امتثالي الأمر والنهي المتعلقين بشيء واحد في آن واحد، أو شيئين متضادين كذلك، وثبوت التضاد بين لوازمهما - أيضا -، فحينئذ لو فرض الأمر بشيء مع تعلق النهي به حال الأمر

(1) إضافة يقتضيها السياق.
119

أو بأحد الضدين بعد فرض تعلقه بالآخر مع [اتحاد] زمني الأمرين يلزم التكليف بالمحال أو المحال في كلا الموضعين:
أما كونه محالا فلاستلزام الأمر حال النهي أو حال الأمر بالضد الآخر للمحال، وهو اجتماع الضدين، ومستلزم المحال محال.
أما الكبرى فواضحة.
وأما الصغرى في الموضع الأول: أعني صورة تعلق الأمر بالشيء حال النهي فكذلك، ضرورة لزوم كون الشيء مرادا ومكروها، ومحبوبا ومبغوضا، وحسنا وقبيحا.
وأما في الموضع الثاني: فلأن إرادة الضدين كنفس الضدين، فيمتنع حصولهما في النفس في آن واحد، كما أنه يمتنع اجتماع نفس الضدين في الخارج، وأيضا على القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص يلزم اجتماع الأمر والنهي في كل من الضدين، يكون الحال في كل منهما كما في الموضع الأول من حيث لزوم اجتماع الإرادة والكراهة، والحب والبغض، وغير ذلك في شيء واحد.
وأما كونه تكليفا بالمحال فلعدم قدرة المكلف على الجمع بين مقتضى الأمرين، أو الأمر والنهي، وهو الامتثال - كما عرفت - وتعلق الأمر المذكور على عصيان النهي أو الأمر المفروضين في الموضعين غير مجد في شيء، إذ المفروض عدم وقوع العصيان بعد، فالتكليف الثاني باق على تنجزه غير مرفوع عن المكلف بوجه، فإن رفع كل طلب إما بامتثاله، والمفروض عدمه في المقام، وإما بعصيانه فكذلك، فإن وقوعه فيما بعد لا يوجب سقوط التكليف قبله، بل لا يعقل، فيكون التكليف اللاحق حال بقاء ذلك التكليف تكليفا محالا أو بالمحال، لفرض تنجزه وتوجهه نحو المكلف حال ذلك التكليف، فإن النزاع إنما هو في جواز الأمر حال التكليف السابق مطلقا، لا مشروطا بعصيان التكليف السابق، بحيث
120

لا يكون وجوب قبله أصلا، فإنه مما لا يعقل النزاع في إمكانه، بل في وقوع نظيره، بل مثله في الشريعة، كما يظهر للمتتبع في أبواب الفقه، فإن كفارات الحج وإفطار صوم رمضان من هذا القبيل هذا غاية ما يتخيل مانعا في المقام.
لكن الذي يقتضيه دقيق النظر اختصاص المنع بما إذا كان الأمران المتعلقان بالضدين أو الأمر والنهي المتعلقين بشيء واحد في مرتبة واحد، [لا] (1) مع اختلاف مرتبتي الأمر والنهي مع كون كليهما نفسيين، وأما إذا كان الأمران المتعلقان بالضدين في مرتبتين - بأن يكون أحدهما معلقا على عصيان الآخر سواء كانا غيريين أو نفسيين أو مختلفين أو كان أحد من الأمر والنهي غيريا، مع اختلاف مرتبتهما على الوجه المذكور، مع كون المعلق منهما هو النفسي - فلا.
وتوضيح ذلك يقتضي التكلم في موضعين:
أحدهما: في تحقيق الحال في الأمر بالضدين.
وثانيهما: في تعلق الأمر والنهي بشيء واحد.
فنقول: أما الأول منهما فتوضيح المقال فيه أن الممنوع منه الملازم للمحاذير المتقدمة إنما هو الأمر بالضدين على الإطلاق بأن يقول افعله وافعل ضده - على نحو الإطلاق، وأما إذا علق أحدهما على عصيان الآخر - بأن يقول:
افعله وافعل ضده إذا عزمت على ترك ذلك، ولو خالفت ذلك الضد وتركته مع تركك للأول وعصيانه أعاقبك عليه أيضا، ولست معذورا في مخالفته على تقدير عصيانك الأول - فلا.
أما أولا - فلما نشاهد في طريقة العقلاء من أنه لو أمر مولى عبده على هذا الوجه لم يقدم أحد على تقبيحه، بل يجوزون منه ذلك، ويجوزون منه مؤاخذة العبد على عصيان ذلك الضد المأمور به على وجه المعلق إذا عصاه مع عصيانه

(1) وفي الأصل: إذ..
121

للضد الآخر الأهم، فهذا يكشف إجمالا عن جواز ذلك عقلا وعن أن الشبهة فيه شبهة في مقابلة البديهة.
وأما ثانيا: فلأن ما نجد من عقولنا مع قطع النظر عن ملاحظة طريقة العقلاء - أيضا - أن الممتنع إنما هو التكليف بالضدين في آن واحد في مرتبة واحدة، بأن يكون كل منهما منجزا على كل تقدير من غير تعليق أحدهما على الآخر، وأما مع تعليق أحدهما على عصيان الآخر فلم نجد منافاة ما بينهما بوجه، لا من حيث لوازمهما، ولا من حيث مقتضاهما، وهو الامتثال.
والسر فيه: أن اللوازم لكل منهما إنما يتبع ملزومها، فإن كان هو على الإطلاق فهي كذلك، أو على تقدير فعلى تقدير، وكذلك الحال في مقتضاهما، ومن المعلوم أنه إذا فرض تعليق تنجز أحدهما على عصيان الآخر لا مطلقا، بحيث لو ترك المكلف امتثاله بفعل الآخر الأهم ليس عليه شيء، وإنما يستحق المؤاخذة لو تركه مع ترك الآخر، فلا يلزم منه التكليف بغير المقدور أصلا، ولا اجتماع الضدين جدا، فإن لوازم الطلب التعليقي كنفسه - أيضا - تعليقية، لأنها تابعة له لكونها ناشئة منه، ولما كان المفروض اختلاف مرتبة ملزومها مع مرتبة ملزوم اللوازم الاخر المضادة لها فلا يلزم اجتماعها مع تلك، ولما كان النهي المقدمي الناشئ من الأمر المتعلق بالآخر - بناء على اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده - مانعا لما ينشأ منه ويلزمه، فالحال فيه - أيضا - إنما هو الحال في ملزومه، فإذا جاز نفس الملزوم على وجه التعليق فلازمه أيضا كذلك، فلا يلزم اجتماع الأمر والنهي الممنوع، وسيجئ لذلك مزيد توضيح في الموضع الثاني، لكونه داخلا فيه، فانتظر.
والحاصل: أنه إن فرض ورود الأمر بالضدين على الإطلاق فيمتنع الجمع بينهما بجميع لوازمهما ومقتضاهما، كما مر في تقرير وجه المنع، وأما إذا كان أحدهما
122

في غير مرتبة الآخر فيجوز الجمع بينهما بجميع لوازمهما ومقتضاهما، فكما أن التعليق مصحح لهما من حيث
مقتضاهما فكذلك مصحح لهما من حيث لوازمهما المضادة أيضا فلا منافاة بين إرادة أحد الضدين والحب له وحسنه والنهي عن ضده على الإطلاق وبين إرادة الضد الآخر والحب له وحسنه على تقدير عصيان الآخر.
هذا، مع أن الحب للضدين وحسنهما على الإطلاق - أيضا - مما لا ينبغي الارتياب في جوازه، ولم نجد فيه مخالفا - أيضا - وإنما الخلاف في إرادتهما لذلك، وقد عرفت امتناعها إلا على وجه التعليق، وأما النهي المقدمي فلا يعقل أن ينشأ منه بالنسبة إلى ذلك الضد الأهم، فلم يبق لذلك النهي موضوع حينئذ أصلا.
وبعبارة أخرى: إن تقدير ترك الآخر المأخوذ في ملزومه إنما هو تقدير عدم كون ذلك الضد مانعا، فإن المانع إنما هو وجوده فلا يقتضي ذلك الأمر الملزوم له النهي عن ذلك الضد.
فمن هنا ظهر بطلان إيراد اجتماع الأمر والنهي في كل من الضدين، بل إنما هو مختص بأحدهما، وهو الغير الأهم منهما، فيكون داخلا في الموضع الثاني من اجتماع النهي الغيري المنجز على الإطلاق مع الأمر التعليقي على مخالفته، نظرا إلى أن ملزوم ذلك النهي إنما هو الأمر بالأهم على وجه الإطلاق، فإذا جاز الأمر بالضد الغير الأهم على ذلك الوجه جاز الأمر بالأهم على الإطلاق، فيمكن فيه الصحة، لإمكان حمل الأمر به على تقدير وقوعه عليه، فيكون هو مصححا له وموجبا لانعقاده عبادة.
لا يقال: إنا لم نقل بوقوع الحرام الغيري معصية للنهي المتعلق به، لكنه يقع معصية لذلك الغير، ومعه لا يعقل وقوعه عبادة.
لأنا نقول: إن إيجاد ما يوجب ترك واجب ليس عصيانا له حقيقة، وإنما العصيان عبارة عن تركه، وهو ملازم لعلة الترك، لا مصادق معها، حتى يلزم نفس
123

الفعل معصية.
هذا خلاصة الكلام في الموضع الأول.
وأما الثاني: فخلاصة المقال فيه: أن الأمر والنهي إما أن يكونا نفسيين، أو غيريين، أو مختلفين، بأن يكون أحدهما نفسيا والآخر غيريا، وعلى أي تقدير، فإما أن يكون كلاهما منجزين على الإطلاق، أو أحدهما معلق على عصيان الآخر.
فنقول: إنه إذا كان كلاهما نفسيين منجزين على وجه الإطلاق، فيلزم التكليف المحال، لاستحالة إرادة النقيضين على الإطلاق، وامتناع الحب والبغض بالنسبة إلى شيء واحد في مرتبة واحدة وامتناع كونه حسنا وقبيحا كذلك، لما مر من استلزام الأمر لإرادة متعلقة والحب له وكونه حسنا إذا كان نفسيا لا محالة إن لم نقل باستلزام الغيري لتلك الأمور، ومن استلزام النهي لأضداد إذا كان نفسيا لا محالة، إن لم نقل باستلزام الغيري لها، فاجتماع الأمر والنهي النفسيين المنجزين على الإطلاق مستلزم لاجتماع تلك الأمور المضادة، فيمتنع، فيكون تكليفا محالا، بل قد يدعى استلزامه لاجتماع الضدين بالنسبة إلى المصلحة والمفسدة اللازمتين لهما - أيضا - كما مرت الإشارة إليه في تقرير المنع.
والظاهر أنه كذلك فيما [إذا] اتحدت جهتا المصلحة والمفسدة، وأما مع تعددها - بأن يرجع كل من المفسدة والمصلحة إلى إحداهما، بأن تكون هي موردها وموضوعها حقيقة - فلا، وما نحن فيه من القسم الأول، لفرض تعلق الأمر والنهي بشيء، فتكون المفسدة والمصلحة اللازمتان لهما كذلك.
هذا، وأيضا يلزم من اجتماعهما التكليف بالمحال، لعدم قدرة المكلف على الجمع بين امتثالهما، لامتناع الجمع بين الفعل والترك في آن واحد.
وأما إذا كانا نفسيين: أحدهما منجزا على الإطلاق والآخر معلقا على عصيان ذلك المنجز على الإطلاق فيلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء
124

مع اتحاد الجهة لا محالة، وأيضا يناقض البغض له وكراهته على الإطلاق - إذا كان الطلب المنجز كذلك هو النهي - للحب وإرادته حال ذينك البغض والكراهة ولو على وجه التعليق على عصيان النهي والعزم على ارتكاب الفعل، فإن الحال هنا ليس كما في الضدين، لاتحاد متعلق الأمور المتناقضة أو المتضادة هنا، بخلاف الضدين، والتعليق المذكور بالنسبة إلى تلك المتضادة إنما ينفع مع تعدد المورد لا غير، وهكذا الحال في صورة العكس، أعني صورة كون الطلب المنجز على الإطلاق هو الأمر.
وأيضا إيجاد الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت المضروب للأمر والنهي المعلق عليه في الصورة الأولى عصيان لذلك النهي، ولا يعقل إرادة العصيان والحب له والتحريك إليه باعتبار من الاعتبارات، لكون العصيان مبغوضا ومكروها على الإطلاق بالفرض، وليس الحال هنا كما في الضدين من هذه الجهة أيضا، فإن فعل أحد الضدين - كما عرفت - لا يقع معصية للتكليف المتعلق بالطرف الآخر.
وكذلك تركه في أي جزء من أجزاء الوقت المذكور في الصورة الثانية معصية لذلك الأمر، فلا يعقل الطلب له للشارع (1) باعتبار من الاعتبارات، لعين ما مر في الصورة الأولى.
وأيضا طلب أحد طرفي النقيضين معلقا على عصيان الطلب المتعلق بالآخر مما لا يعقل في نفسه، فإن عصيان الطلب الآخر إنما يحصل بارتكاب ذلك الطرف المذكور، فيؤول ذلك التعليق بالأخرة إلى التعليق على حصول متعلق ذلك الطلب التعليقي، ويكون معناه طلبه معلقا على تقدير حصوله، فيكون طلبا للحاصل، فافهم.

(1) كذا في النسخة المستنسخة، والأسلم في العبارة هكذا: فلا يعقل طلب الشارع له..
125

وأما إذا كانا مختلفين فيتصور منها أربع صور:
إحداها: أن يكون الأمر نفسيا والنهي غيريا مع كون المنجز على الإطلاق منهما هو الأمر، ويكون النهي معلقا على عصيانه.
وثانيتها: الصورة بحالها إلا أن المنجز على الإطلاق إنما هو النهي.
وثالثتها: أن يكون النهي نفسيا والأمر غيريا مع كون المنجز على الإطلاق هو النهي.
ورابعتها: الصورة الثالثة بحالها إلا أن المنجز على الإطلاق هو الأمر.
لا شبهة في عدم المانع من اجتماعهما من جهة محذور لزوم اجتماع الضدين بالنظر إلى المصلحة والمفسدة والحب والبغض والحسن والقبح في جميع تلك الصور مطلقا، ولا من جهة محذور لزوم التكليف بالمحال أيضا في جميعها إذا كان أحدها مرتبا على الآخر:
أما الأول: فلأن الطلب الغيري لا يلازم وجود مصلحة في متعلقه، ولا الحب له نفسه، ولا كونه حسنا كذلك إذا كان أمرا، ولا أضداد تلك الأمور إذا كان نهيا فلا يلزم المحذور الأول، لفرض كون أحد الطلبين في جميع الصور غيريا.
وأما الثاني: فلأنه وإن كان يلزم على تقدير كون كلا الطلبين منجزين على الإطلاق كما لا يخفى، إلا أنه مرتفع على تقدير تعلق أحدهما على عصيان الآخر وترتبه عليه، والطلب الغيري أيضا وإن كان ملازما لإرادة متعلقه إذا كان أمرا ولكراهته إذا كان نهيا، لكن الإرادة في كل طلب لما كانت تابعة لذلك الطلب فإذا فرض كون ذلك الطلب تعليقيا فتكون هي أيضا كذلك، فإذا جاز الجمع بين نفس الطلبين على التعليق جاز الجمع بين تابعيهما من
الإرادة والكراهة على هذا الوجه - أيضا - لاختلاف مرتبتهما، فلا يكون الجمع بينهما كذلك اجتماعا
126

للضدين حتى يكون ملزوما هما (1) - وهما الطلبان - تكليفا محالا، لاستلزامهما للمحال.
وإن أبيت إلا عن تسمية هذا أيضا باجتماع الضدين فنطالبك بدليل بطلانه وامتناعه، وأنى ذلك؟ بل المنصف المتأمل المراجع لوجدانه يجد من نفسه جوازه، بل وقوعه أيضا.
نعم الطلب الغيري على وجه التعليق المذكور غير معقول في نفسه - سواء كان مزاحما لذلك النهي النفسي [أو] مرجوحا (2) بالنسبة إليه على تقدير سببية إيجاد الفعل المتعلق للنهي النفسي - فإنه لا يتحقق عصيانه إلا بذلك، فيؤول هذا إلى طلب الشيء على تقدير وجوده، وهو طلب للحاصل، وإذا كان نهيا فمعنى تعليقه على عصيان الأمر النفسي: إنما هو طلب ترك الفعل المأمور به بالأمر النفسي مقدمة لترك حرام نفسي كان مزاحما لذلك المأمور به على تقدير تركه، فإنه لا يتحقق عصيانه إلا به، فيكون هذا - أيضا - طلبا للحاصل.
فعلى هذا فينحصر الجائز من الطلب التعليقي في النفسي - أمرا كان أو نهيا - مع كون المعلق عليه هو عصيان الغيري بالصورة الصحيحة الحاصلة من انضمام الصور الأربع المتقدمة إلى كون الطلبين في كل منهما على الإطلاق وإلى كون أحدهما في كل منهما معلقا [وهي] (3) اثنتان:
إحداهما: أن يكون الأمر نفسيا والنهي غيريا مع تعليق الأمر على مخالفة النهي.
وثانيتهما: أن يكون النهي نفسيا والأمر غيريا مع تعليق النهي على مخالفة

(1) في النسخة المستنسخة: (ملزوماتهما..)، وما أثبتناه هو الصحيح.
(2) في النسخة المستنسخة: (ومرجوحا...)، والصحيح ما أثبتناه.
(3) إضافة يقتضيها السياق.
127

ذلك الأمر، ولا محذور في شيء منهما من المحاذير المتقدمة ولا من غيرها مما يتصور مانعا من الاجتماع.
والذي مر - في الأمر والنهي النفسيين - من أن تعليق أحدهما على عصيان الآخر آئل إلى طلب الحاصل غير جار في هاتين الصورتين، فإن معنى تعليق الطلب النفسي على عصيان الغيري إنما هو تعليقه على عصيان ذلك الغير الذي هو واجب نفسي أو حرام كذلك، فإن عصيان الطلب الغيري إنما هو حقيقته مخالفة ذلك الغير، فعلى هذا يغاير ذلك الطلب النفسي المعلق لمورد ما علق هو على عصيانه، فلا يتحد تقدير عصيانه مع تقدير حصول متعلق ذلك المعلق.
فمن هنا ظهر وجه اختصاص النهي الغيري بالتوجيه، لعدم اقتضائه للفساد.
ثم إن تصوير مورد هاتين الصورتين بأن يفرض واجب وحرام نفسيان مزاحمان مع عدم قدرة المكلف على الجمع بين امتثالهما، ويدور أمره بين فعل الواجب أو ترك الحرام مع فرض أحدهما أهم من الآخر حينئذ، فينشأ من ذلك الأهم طلب غيري إلى فعل الآخر إن كان ذلك الأهم هو الحرام، أو إلى ترك الآخر إن كان هو الواجب، والمنجز على الإطلاق في الموردين هو التكليف بالأهم، وأما غيره فتوجيه اجتماعه معه إنما هو بالتعليق المتقدم ذكره بأن يكون حاصل المراد منه أنه لو عصى الأهم ليس معذورا في عصيان غيره، بل يلزمه على تقدير عصيان الأهم الإتيان بغيره ولا يجوز الإخلال به - أيضا - وهذان الطلبان متوجهان على هذا النحو نحو المكلف في آن واحد، ولا مانع منه كما عرفت.
نعم قد يتأتى فيه الإشكال من جهة تعليق الأمر بغير الأهم على العصيان المتأخر عنه مع فرض وجوده قبله، لكنا قد بينا في مطاوي مسألة مقدمة الواجب جواز التعليق على الشرط المتأخر، فراجع، إذ لا مجال لنا الآن لإعادة ما ذكرنا ثمة.
ثم إنه يظهر الحال في الأمر والنهي الغيريين بملاحظة ما حققنا في الصور
128

المتقدمة، فلا نطيل الكلام بالتعرض له مع عدم الحاجة إليه بوجه، وتصوير اجتماعهما بأن يفرض كون فعل مقدمة لواجب وعلة لارتكاب محرم.
لكن لا يخفى عدم إمكان اجتماعهما - أيضا - كالنفسيين فإن ذينك الواجب والحرام إن كانا متساويين عند التزاحم - بأن لا يكون امتثال أحدهما أهم من الآخر - يكون الحكم التعليقي المنجز، فإن اختار امتثال الواجب يكون (1) ذلك الفعل مقدمة له لا غير، أو امتثال الحرام يكون (2) تركه مقدمة له لا غير، وليس في حقه الآن كلا الطلبين حتى يقتضيا وجوبه وتحريمه معا مقدمة، بل أحدهما مع تفويض التعيين إلى المكلف، بمعنى أن أيهما عينه واختاره كان حكما فعليا له، فيتعين في حقه، وإن كان أحدهما أهم من الآخر فلا يعقل بقاء غير الأهم حينئذ إلا على وجه التعليق، وقد عرفت أنه لا يصلح لأن ينشأ منه طلب غيري إلى ما يتوقف عليه، لرجوعه إلى طلب الشيء على تقدير حصوله، فافهم، والله أعلم.
زيادة متعلقة بمقام الفرق بين مسألة دلالة النهي على الفساد ومسألة بناء المطلق على المقيد: وهي أنه قد مر - في مطاوي كلماتنا المتقدمة في وجه الفرق - تسليم أن قوله: - أعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة - من أفراد محل النزاع في مسألة دلالة النهي على الفساد، فيسأل حينئذ: ما الفرق بين قوله:
- صل ولا تصل في المكان المغصوب - حيث إنهم حكموا بصحة الصلاة حال الغفلة عن الغصبية، أو نسيانها، أو الجهل بها جهلا يعذر فيه المكلف، وبفساد عتق الكافرة في جميع الأحوال مع أنهما من باب واحد.
لكنه مدفوع: بأن كون كل منهما مثالا لتلك المسألة إنما هو بالنظر إلى ظاهر الخطاب من كون النهي متعلقا ببعض أفراد الطبيعة المأمور بها، وكل منهما

(1) و (2) في النسخة المستنسخة: فيكون.
129

على تقدير بقائه على ظاهره - بمعنى كون المراد منه ذلك - مساو في جميع الأحكام للآخر على تقدير بقائه على ظاهره، فقوله: - صل ولا تصل في المكان المغصوب - إن كان المراد ظاهره من تعلق النهي بالصلاة الواقعة في المكان المغصوب التي هي فرد من أفراد مطلق الصلاة المأمور بها فيمتنع فيه الصحة كامتناعها في المثال الآخر إن كان الحال فيه هكذا.
لكنهم حكموا بالصحة فيه لقيام الإجماع فيه عليها، فبقرينة ذلك الإجماع يستكشف عن أن متعلق النهي إنما هو عنوان الغصب المتحد مع بعض أفراد الصلاة، لا الفرد من الصلاة الواقعة في المكان المغصوب، فحينئذ يدخل في مسألة اجتماع الأمر والنهي، وقد عرفت فيها ثبوت الصحة حال النسيان والغفلة والجهل الذي لا يعذر فيه، فالفارق بين المثالين إنما هو ذلك الإجماع، فإنه لما منع في المثال المذكور أخرجه عن ظاهره إلى مسألة اجتماع الأمر والنهي، بخلاف قوله: - أعتق ولا تعتق رقبة كافرة - لعدم قيام دليل عليه فيه على الصحة، فيستكشف منه ذلك ويخرجه عن ظاهره، والله أعلم بحقائق الأمور.
زيادات متعلقة بمسألة اجتماع الأمر والنهي (1):
أولاها: أنه قد يسأل: أنه ما الفرق بين التخصيص في تلك المسألة - بناء على امتناع الاجتماع - وبينه في التخصيصات اللفظية والتقييدات كذلك فيما إذا كان هناك دليلان عامان أو مطلقان يكون النسبة بينهما هي العموم من وجه - كقوله: أكرم العلماء ولا تكرم الفساق - حيث إنه إذا بنى على إخراج مورد التعارض عن موضوع الأمر فيهما - وتخصيص الأمر أو تقييده بغيره - لا يقع ذلك المورد امتثالا بوجه وفي حال؟ هذا بخلاف التخصيص في تلك المسألة، حيث إنه مع التخصيص فيها

(1) راجع مسألة اجتماع الامر والنهي: 16.
130

أيضا يقع المورد المستثنى امتثالا في بعض الأحوال، كما في صورة الغفلة عن النهي أو نسيانه أو الجهل به
جهلا يعذر فيه، كما ثبت ذلك في مثل الصلاة في المكان المغصوب، حيث إنهم حكموا بصحتها في الأحوال المذكورة - كما مرت الإشارة إليه في ثمرات تلك المسألة - ولم يحكموا بها في شيء من المثالين المذكورين، فإن كان المانع من الصحة فيهما هو وجود النهي الواقعي الثانوي في تلك الأحوال، فهو بعينه موجود في الصلاة في المكان المغصوب في الأحوال المذكورة، وإن كان هو فعلية النهي فمن المعلوم انتفاؤه في الكل في تلك الأحوال.
وكيف كان، فلا يرى بين الأمثلة الثلاثة فرق أصلا، فلم يبق وجه لاختلاف حكم بعضها مع بعض.
هذا، مع أن هنا إشكالا آخر: وهو أن الثاني من المثالين من أفراد محل النزاع في تلك المسألة، لكون متعلقي الأمر والنهي فيه طبيعتين بينهما عموم من وجه، كما في قوله: (صل، ولا تغصب) مع أنهم لم يختلفوا في ثبوت التنافي بين الأمر والنهي في ذلك المثال، بل اتفقوا على التنافي بينهما من غير بنائهم التنافي على امتناع اجتماع الأمر والنهي، واختلفوا في ثبوت التنافي في مثل (صل، ولا تغصب)، وبنوه على تلك المسألة.
هذا مجمل تقرير الإشكالين.
والجواب عن الأول منهما: أنه فرق واضح بين قوله (أكرم العلماء، ولا تكرم الفساق) وبين قوله (صل ولا تغصب)، حيث إن الأمر والنهي في الأول، واردان على خصوص كل واحد من الأفراد، لكون متعلقهما من العمومات الاستغراقية، والفرد الذي هو مورد الاجتماع للعامين ورد (1) النهي عنه، فيكون المنهي عنه ذاته من غير اعتبار جهة فيه أصلا، بمعنى أن المنهي عنه إنما هو تمام

(1) في الأصل: ورود..
131

هذه الحصة، فتكون هذه الحصة - تمامها - مبغوضة ذاتا، ومع ذلك لا يعقل كونها ذات (1) مصلحة - أيضا - كما أنه لا يعقل ورود الأمر بها، فيكون النهي عنها مانعا عن الأمر وعن الجهة المقتضية له، فلم يبق لها جهة موجبة لانعقاده عبادة في شيء من الأحوال حتى في الأحوال المتقدمة.
هذا بخلاف الصلاة في المكان المغصوب، حيث إن متعلق الأمر والنهي إنما هما العنوانان الصادقان عليها، لا نفسها، فالنهي وارد على الجهة الموجودة فيها وهي جهة الغصبية، ولازمها مبغوضية تلك الجهة وحدها، وأما مبغوضية جهة أخرى موجودة معها في تلك الصلاة فلا.
نعم النهي عنها مانع عن اقتضاء الجهة المذكورة في ورود الأمر بناء على امتناع الاجتماع، فيمكن حينئذ وجود الجهة المقتضية للأمر في تلك الصلاة مع ارتفاع الأمر بنفسه، فتكون هي المصححة له والموجبة لانعقادها عبادة في الأحوال المذكورة، فظهر الفرق بين المثالين.
لا يقال: إن مقتضى ذلك صحة تلك الصلاة في جميع الأحوال، حتى في حال الالتفات والعلم بالحرمة، لفرض وجود تلك الجهة فيها مطلقا، وفرض كفاية الجهة في انعقاد الفعل عبادة كذلك.
لأنا نقول: إن تلك الجهة، وإن كانت موجودة فيها في جميع [الأحوال] (2)، لكن ليست موجبة لانعقاد الفعل عبادة مطلقا، بل إذا لم يكن هناك مانع آخر، كوقوع الفعل عصيانا حيث إنه لا يجتمع مع وقوعه عبادة، ومن المعلوم وجوده حال العلم والالتفات، فعدم انعقاد الصلاة المذكورة عبادة حينئذ لوجود ذلك، لا لعدم المقتضي له.

(1) في الأصل: ذا.
(2) إضافة يقتضيها السياق.
132

وأما الفرق بين قوله: (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق) (1) وبين قوله (صل ولا تغصب) فبأن العرف يفهمون من الأول ورود الأمر والنهي على أفراد الطبيعتين وأشخاصهما، وأن الطبيعتين فيه أحدثتا (2) على وجه كونهما عنوانين ومرآتين لمتعلقات الأمر والنهي، فيكون الحال فيه ما تقدم في قوله: (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق)، فيتضح الفرق بينهما حينئذ.
فإن قلت: ما الفارق بينهما في نظر أهل العرف، حيث إنهم يفهمون ذلك في الأول دون الثاني؟ قلنا: أولا - ليس علينا تعيين الفارق، بل يكفينا إحراز أنهم يفهمون ذلك في أحدهما دون الآخر.
وثانيا - يبدو (3) الفرق بينهما: أن مساق الأول من قوله: (أكرم العلماء، ولا تكرم الفساق) من حيث اتحاد متعلقي الأمر والنهي فيه، وهي طبيعة الإكرام، وإنما الاختلاف بين المتعلقين باعتبار ما أضيفا إليه، ونسبة العموم من وجه بينهما إنما هي بهذا الاعتبار، لا بالنظر إلى ذاتيهما، كما هو الحال في قوله: (أكرم العلماء، ولا تكرم الفساق) أيضا.
هذا، بخلاف قوله: (صل، ولا تغصب) لاختلاف متعلقيهما فيه بالذات، ضرورة كون كل واحد من الصلاة والغصب طبيعة مغايرة للآخر، فمتعلقاهما فيه عنوانان متغايران غير مندرجين تحت عنوان واحد، ومتعلقاهما في الأول مندرجان تحت عنوان واحد.
وأما الجواب عن ثاني الإشكالين المتقدمين، فقد اتضح بما ذكرنا الآن

(1) في النسخة المستنسخة:.. ولا تكرم الفاسق.
(2) كذا في النسخة المستنسخة: ويحتمل: أجريتا..
(3) في النسخة المستنسخة: يبدأ..
133

من الفرق بين المثالين من حيث كون متعلقي الأمر والنهي في قوله: (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق) (1) [تحت] عنوان واحد (2)، ولكون الأمر والنهي فيه واردين على طبيعة واحدة.
هذا بخلاف قوله: (صل، ولا تغصب)، فتوهم دخول الأول في محل النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي غلط واشتباه، بل هو داخل في محل النزاع في مسألة دلالة النهي على الفساد، وتسليم التنافي بين الأمر والنهي في الأول إنما هو من جهة متعلقي الأمر والنهي، وهو مما يعترف القائل بجواز الاجتماع في تلك المسألة بامتناعه فيه، فتوهم - أنه كان ينبغي بناء التنافي فيه على القول بالامتناع في تلك المسألة - بمكان من الفساد، لخروجه عن مورد الخلاف فيها، فافهم.
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

(1) في النسخة المستنسخة: أكرم العالم ولا تكرم الفاسق.
(2) في النسخة المستنسخة: من عنوان واحد..
134

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في المفاهيم
وقبل الخوض فيها ينبغي التعرض [لتعريف] المنطوق (1)
والمفهوم على نحو الإجمال:
فاعلم أنهم قد عرفوا الأول: بأنه ما دل عليه اللفظ في محل النطق، والثاني بما دل عليه اللفظ لا في محل النطق.
والمراد بالموصول إنما هو الحكم، والظاهر أن قولهم: (في محل النطق) ظرف لغو (2) متعلق ب‍ (دل)، وأن المراد بالنطق إنما هو النطق باللفظ أي التلفظ به، فالمراد أن المنطوق هو المفهوم من اللفظ بحسب التلفظ به، والمفهوم هو المنفهم منه في غيره (3) بحسب التلفظ، فمنطوق قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) ما يعبر عنه في الفارسية بقولنا: (اگر آمد زيد تو را گرامى بدار أو را)، ومفهومه ما يعبر عنه فيها بقولنا: (اگر نيامد تو را زيد بر تو نيست گرامى داشتن أو)، حيث إن الأول هو المفهوم التحت اللفظي للكلام دون الثاني.
لا حال (4) من الضمير العائد إلى الموصول كما استظهره بعض، ولا من

(1) في النسخة المستنسخة: التعرض لذي المنطوق...)، والصحيح ما أثبتناه.
(2) الظرف اللغو: هو ما كان العامل فيه مذكورا نحو: زيد حصل في الدار التعريفات للشريف الجرجاني.
(3) أي من اللفظ في غير محل النطق.
(4) أي لا أن قولهم: (في محل النطق) حال من الضمير..، فقوله: (لا حال من الضمير..) معطوف على قوله السابق: " قوله: (في محل النطق) ظرف لغو متعلق ب‍ (دل)... ".
135

اللفظ كما حمله عليه بعض آخر، لاحتياج كل منهما [إلى] (1) ارتكاب أمر مخالف للأصل لا يصار إليه إلا
بشاهد قوي، إذ لا بد في كل منهما من إضمار متعلق من أفعال العموم للظرف المذكور، كما لا يخفى، بل يلزم على الأول [من] هذين التزام آخر مخالف للأصل، وهو الاستخدام (2)، لما عرفت أن المراد بالموصول إنما هو الحكم، ومن المعلوم أن الذي في محل النطق باللفظ إنما هو الدلالة، لا المدلول الذي هو الحكم، فلا بد من حمل الضمير الرابط للحال العائد إلى الموصول على الدلالة على الحكم لا نفسه، وهل هذا إلا الاستخدام؟ ثم إن مقتضى ما استظهرنا ثبوت الفرق بين المنطوق والمفهوم بكون الأول عبارة عن حكم مذكور، والثاني عبارة عن حكم غير مذكور، بل على كل من الاحتمالين الأخيرين أيضا كذلك، فإن الفرق المذكور مبني على حمل الضمير المجرور على الحكم.
وقد يفرق بينهما: بأن الأول عبارة عما يكون حكما من أحكام موضوع مذكور أو حالا من أحواله، والثاني عبارة عما يكون حكما من أحكام موضوع غير مذكور، أو حالا من أحواله، فمبنى الفرق على هذا على كون الموضوع مذكورا وعدمه، وعليه لا بد من الاستخدام في الضمير المجرور بحمله على الموضوع كما لا يخفى.

(1) في الأصل: في.
(2) الاستخدام هو أن يذكر لفظ له معنيان، فيراد به أحدهما ثم يراد بالضمير الراجع إلى ذلك اللفظ معناه الآخر، وذلك كقوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا أراد بالسماء الغيث، وبضمير (رعيناه) الراجع إلى (السماء) أراد النبت، والسماء يطلق عليهما.
وله شق آخر غير محتاج إليه في المقام، راجعه في مظانه، ومنها التعريفات للشريف الجرجاني: 9.
136

ثم إنه لا خفاء في عدم اطراد حد المفهوم وعدم انعكاس حد المنطوق - أيضا - لخروج المناطيق الغير الصريحة بأسرها عن الثاني، ودخولها كذلك في الأول، حيث إنها من المداليل الالتزامية (1) التي تفهم من اللفظ، وينتقل منه إليها في غير محل النطق.
والفرق المذكور لا يجدي في إصلاحهما، كما لا يخفى على المتأمل، إذ عليه - أيضا - يخرج دلالة الإشارة التي هي من أقسام المنطوق الغير الصريح عن حد المنطوق، وتدخل في حد المفهوم، لعدم كون الموضوع فيها مذكورا أصلا، بل وعليه ينتقض حد المنطوق طردا - أيضا - بمفهوم الموافقة، لكون الموضوع فيها مذكورا.
ولو فرق بينهما بأن المفهوم ما كان مخالفا للمنطوق نفيا وإثباتا فهو تحكم بحت، إذ المفهوم بالطريق الأولى الذي يعبر عنه بمفهوم الموافقة من المفاهيم جدا من غير شبهة تعتريه، مع أنه موافق للمنطوق نفيا وإثباتا.
وكيف كان فإطالة الكلام بالنقض والإبرام في تصحيح الحدود خالية عن الطائل جدا بعد عدم ترتب فائدة مهمة عليها، مع أن الأهم يشغلنا عنه، فالحري بذل الجهد في طلب الأهم مستعينا بالله العظيم الأعظم والنبي الأكرم وآله وأوصيائه أئمة الأمم صلواته عليه وعليهم إلى يوم يعود ما في اللوح المحفوظ مما حفظه من القلم.
فاعلم أن المراد بالحجة المتنازع فيها في باب المفاهيم: إنما هو ثبوت أصل المفهوم، وهو الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء، لا اعتباره وصحة الاعتماد عليه بعد الفراغ عن أصله.

(1) وقد ظهر مما ذكرنا: أن المفهوم والمنطوق وصفان للمدلول، لا الدلالة كما توهمه بعضهم. منه طاب ثراه.
137

وظاهر قولهم: - أن مفهوم الشرط أو الوصف مثلا حجة، أو لا - يعطي الثاني، وينطبق عليه، لكنه ليس بمقصود قطعا.
وربما يتوهم من ظاهر القول المذكور: أن النزاع إنما هو في اعتبار ذلك المقدار من إشعار اللفظ بالانتفاء عند الانتفاء في مقام تعليق الحكم على شرط أو وصف أو غيرهما، وقد ظهر اندفاعه.
والمراد بالمفهوم -، كما أشرنا إليه - إنما هو دلالة اللفظ على الانتفاء عند انتفاء المعلق عليه - من الشرط أو الوصف أو غيرهما - لا مجرد انتفاء الحكم عند انتفاء ما علق عليه، فإنه لا يقبل لوقوع النزاع فيه جدا، ضرورة عدم شمول الحكم المعلق على شيء - ولو كان هو الموضوع المعبر عنه باللقب - لغير مورد المعلق عليه، بل لا بد من ثبوته لغير مورده من دليل آخر غير ذلك الخطاب.
ثم النزاع في باب المفاهيم إنما هو في مصاديق ما اختلف في حجية مفهومه لا في حجية مادته، لعدم الخلاف من أحد في دلالة مادة الشرط والوصف والغاية واللقب والحصر على انتفاء الحكم عن موارد انتفائها، لعدم الخلاف في ظهور قولنا: الشرط في وجوب إكرام زيد مجيئه، أو أن غاية إكرامه اليوم الفلاني، أو أكرم زيد الموصوف بالعلم، أو اللقب الفلاني، أو إكرامي منحصر في زيد.
وأيضا النزاع فيها إنما هو مع قطع النظر عن القرائن اللاحقة لبعض الموارد الخاصة، كما في الأوقاف والوصايا والأقارير وأمثالها، حيث إن الظاهر من حال الواقف والموصي والمقر إذا علق الحكم على شيء من شرط أو وصف أو غيرهما إرادة انتفائه عند انتفاء المعلق عليه، والمنكرون لمفهوم الشرط أو الوصف مسلمون له ومعترفون به في أمثال تلك الموارد، ولذا صرح العلامة (1) - قدس سره - على ما حكي عنه بأن الكل متفقون على ثبوت المفهوم لقوله عليه السلام:

(1) المختلف: 4 / كتاب الطهارة / المسألة الثانية من الفصل الثاني، وكذا نسبه إليه في المدارك: 5.
138

«إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» (1)، فإن مراده إنما هو الإجماع على ثبوته في الحديث المذكور للقرينة، وإليه ينظر استثناء الشهيد (2) - قدس سره - الوصايا والأوقاف ونحوهما عن محل النزاع في باب المفاهيم (3).
ومن هنا يظهر دفع ما أورده البهائي (4) - قدس سره - على القوم من المنافاة بين اتفاقهم على حمل المطلق على المقيد وبين اختلافهم في حجية مفهوم الوصف، بل ذهب الأكثر إلى منعها.
وتوضيح الدفع: أن استظهار انتفاء الحكم هناك عن غير مورد القيد إنما هو لمكان القرينة اللاحقة لخصوص المقام، وهي فهم اتحاد الحكمين، لا من نفس [القيد] (5) حتى يلزم التنافي المذكور.
والذي يقتضيه النظر في دفعه: أن حمل المطلق على المقيد خارج عن دلالة القيد على انتفاء الحكم عند انتفائه التي هي المتنازع فيها في باب المفاهيم، إذ غايته أن استظهار حكم المطلق متحد مع حكم المقيد، وليس حكما آخر وراءه.
وأما استظهار انتفاء سنخ ذلك الحكم ولو بخطاب آخر خاص بغير مورد

(1) الكافي 3: 2 / كتاب الطهارة / باب الماء الذي لا ينجسه شيء / ح: 1 و 2، وفيه اختلاف يسير.
(2) وهو الشهيد الثاني في تمهيد القواعد، القاعدة الخامسة والعشرون، حيث قال: (ولا إشكال في دلالتهما - أي الشرط والصفة على نفي الحكم عند انتفائهما) في مثل الوقف والوصايا والنذور.. إلخ).
(3) قال المحقق التقي - قدس سره - في هدايته: (من التأمل فيما قررنا يظهر أن ما ذكره الشهيد الثاني في التمهيد حاكيا له عن البعض من تخصيص محل النزاع بما عدا مثل الأوقاف والوصايا والنذور والأيمان.. غير متجه، إذ ليس ذلك من حجية المفهوم في شيء.. إلخ). الهداية: 281.
(4) زبدة الأصول: 104.
(5) إضافة يقتضيها السياق.
139

القيد الذي هو معنى المفهوم المتنازع فيه، بحيث لو ورد دليل خاص على ثبوته في غير مورد القيد لوقع التعارض بينه وبين ذلك الدليل، فلم يبق وقع للإيراد أصلا.
وأيضا النزاع فيها إنما هو فيما إذا كان القيد - وهو الشرط أو الوصف أو غيرهما - قيدا للحكم، لا الموضوع، كما ينادي به تحريرهم للخلاف فيها، بأن تعليق الحكم على شرط أو وصف - مثلا - يدل على انتفائه عند انتفاء ذلك الشرط أو الوصف أو لا؟ هذا، مع أنه لا يعقل النزاع في دلالة كل واحد من تلك القيود على تقدير كونه قيدا للموضوع وجزء منه على انتفاء ذلك الحكم عند انتفائه عقلا، فالنزاع في قولهم: (صم إلى الليل) - مثلا - في ثبوت المفهوم له وعدمه إنما هو على تقدير تعلق الطلب بالصوم المطلق، وكون الغاية غاية للطلب، لا له، فإن انتفاءه عن الصوم المقيد بكونه إلى الليل بعد ارتفاع قيده - وهي الغاية المذكورة - الموجب لارتفاع الموضوع مما لا يعقل المرية فيه من ذي مسكة، إذ لا يعقل طلب الصوم المقيد بكونه في النهار إلى أول الليل.
وكيف كان، فهذا ليس من المفهوم المتنازع فيه في شيء أصلا، إذ النزاع إنما هو في دلالة اللفظ على انتفاء الحكم عن مورد فقد القيد مع صلاحيته بذاته لاتصافه بذلك الحكم، بحيث يكون انتفاؤه عنه لانتفاء علته، لا لانتفاء نفس ذلك المورد. فإذا عرفت ذلك فهاهنا مقامات:
الأول: في مفهوم الشرط:
وقد اختلف عباراتهم في تحرير الخلاف فيه:
فمنهم: من حرره بأن الأمر المقيد بشرط هل ينتفي بانتفاء ذلك الشرط؟ ومنهم: من حرره بأن الحكم المقيد بشرط هل ينتفي بانتفائه؟
140

ومنهم: من حرره بأن التعليق [على] الشرط (1) هل يقتضي الانتفاء عند انتفائه؟ ومنهم: من حرره بأن التقييد (2) بالشرط هل يقتضي الانتفاء عند انتفائه؟ لكن المراد من الكل واحد، وهو أن تعليق الحكم مطلقا - أمرا كان أو نهيا أو غيرهما - على شرط هل يقتضي انتفاءه عند انتفاء ذلك الشرط، أو لا؟ وذلك لأن تخصيص الأمر بالذكر في الأول إنما هو من باب المثال، لا من جهة تخصيص النزاع به، والنكتة في تمثيله به أن الذي قرره هكذا إنما أورد البحث عن مفهوم الشرط في باب الأوامر.
لا يتوهم: أن غاية ما ذكرت إرجاع الأول إلى الثاني، لكنه مع ذلك لا يوافق الأخيرين، كعدم مطابقة الثاني لهما أيضا، فإن صريح الأخيرين أن النزاع إنما هو في اقتضاء التعليق [على] الشرط (3) للانتفاء عند انتفائه وعدمه، وظاهر الأولين أن النزاع إنما هو في مجرد إثبات انتفاء الحكم عن غير مورد الشرط، ولو لدليل آخر غير اقتضاء التعليق له.
لاندفاعه: بأن الظاهر من الأولين - أيضا - إنما هو إثبات الانتفاء عند انتفاء الشرط بالنظر إلى التقييد بالشرط، - كما لا يخفى على المتأمل - لا مطلقا.
هذا مضافا إلى أن النزاع في باب المفاهيم - كما مرت الإشارة إليه - في إثبات دلالة اللفظ على الانتفاء عند الانتفاء، إذ المراد بالمفهوم المتنازع فيه في الباب، إنما هو هذا، لا غير، فبملاحظة ذلك لا مجال لتوهم خلاف المقصود من الأولين، ضرورة أنهما تقريران للنزاع المعهود بينهم، لا لنزاع آخر.

(1) في النسخة المستنسخة: التعليق بالشرط..
(2) في النسخة المستنسخة: التقيد..
(3) في النسخة المستنسخة: التعليق بالشرط..
141

ثم إن الظاهر من إسناد الاقتضاء إلى التعليق والتقييد أن المراد به الاستلزام عقلا، فمقتضاه كون المسألة عقلية، لكن بملاحظة ما تقدم من العلم بأن النزاع في المقام إنما هو في إثبات الدلالة للفظ على الانتفاء عند الانتفاء يعلم أن المراد [به] أن أدوات الشرط هل هي تدل على تعليق التالي على المقدم على وجه يلزمه الانتفاء عند الانتفاء، فتكون دالة عليه بالاستلزام البين، أو لا؟ وكان الأليق بمقصودهم تحرير الخلاف بهذه العبارة.
والمراد بالشرط هنا إنما هو الشرط النحوي المعبر [عنه] في اصطلاح أهل الميزان بالمقدم، وهو الجملة التالية لكلمة (إن) وأخواتها من أدوات الشرط، لا ما هو المصطلح عليه عند أهل المعقول وعند الأصوليين - أيضا - وهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، ضرورة أن التعليق عليه ملازم عقلا للانتفاء عند الانتفاء، فلا يعقل كونه محلا للنزاع بعد الفراغ عن كون الشرط هكذا، لرجوعه إلى التناقض، ولا الشرط اللغوي - أيضا - لعدم ارتباطه بالمقام بوجه، كما لا يخفى، ولا الذي بمعنى السبب حيث إنه قد يطلق عليه، ضرورة أن مجرد التعليق على سبب لا يستلزم انتفاء المسبب عند انتفائه، لجواز قيام سبب آخر مقامه، فلا يعقل النزاع فيه أيضا، فإن ذلك إنما هو لازم السبب المنحصر.
وكيف كان، فتوهم خلاف المقصود في موضع الخلاف أو الشك فيه يدفعه ما علم من الخارج، من أن الكلام إنما هو في دلالة أدوات الشرط على الانتفاء عند الانتفاء، لا إثباته ولو بالبرهان العقلي.
ويعضدنا ما حكي (1) عن جماعة من تحريرهم لموضع الخلاف بالتعليق

(1) قال المحقق التقي - قدس سره - في هدايته: (وقد يوهم بعض تعبيراتهم في المقام اختصاص الحكم بالتعليق بكلمة «إن» بخصوصها: حيث قرروا المسألة في خصوص التعليق بها، كما في المحصول وفي التهذيب والزبدة وغيرها، وليس كذلك، بل إنما عبروا بذلك على سبيل التمثيل). الهداية: 387.
142

[على] كلمة (1) (إن).
وقد ظهر مما ذكرنا - من أن النزاع في إثبات دلالة أدوات الشرط على الانتفاء عند الانتفاء - أن محط النظر في المقام - كسائر مقامات باب المفاهيم - إنما هو الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء فحسب، وأما تعليق الوجود على الوجود فليس من محل النزاع هنا في شيء.
نعم المثبت للمفهوم لا بد له من إثبات ذلك أيضا، لتوقف ثبوت مدعاه عليه، والنافي له قد ينفيه بمنع إفادة أدوات الشرط لتعليق التالي على المقدم أيضا، بدعوى أنها لا تفيد إلا عدم الانفكاك بين الوجودين.
ثم إن النزاع لا يختص بكلمة (إن) من بين أدوات الشرط، كما قد يوهمه المحكي عن الجماعة المشار إليهم، بل يعم جميع الأدوات من الحروف والأسماء المتضمنة لمعنى الشرط: كمن، وما، ومتى، ومهما، وحيثما، وغيرها إذا تضمنت معنى الشرط، وهو التعليق، ومن أدوات الشرط أيضا لفظ الكل المضاف إلى نكرة كقولك: (كل رجل جاءك أو عالم فأكرمه).
والذي يدل على تعميم النزاع بعد القطع به أمور:
الأول: تصريح جماعة من المحققين به.
الثاني: إطلاق الشرط في تحرير كل من حرر الخلاف بالتعليق على الشرط، أو التقييد به، فإن المراد ليس مادة الشرط - كما عرفت سابقا - بل. إنما هو مصداقه، وإطلاقه يقتضي دخول سائر الأدوات في مورد الخلاف أيضا.
الثالث: لا شبهة أنهم لم يتعرضوا لدلالة سائر الأدوات على الانتفاء عند الانتفاء في موضع آخر، ومن المقطوع [به] أنهم لم يهملوها أيضا، ولازم هاتين المقدمتين دخولها في مورد الخلاف في المقام، فعلى هذا فالتحرير المحكي المتقدم

(1) في النسخة المستنسخة:.. بالتعليق بكلمة (إن).
143

محمول على التمثيل لا التخصيص، فافهم.
وهل النزاع في دلالة تلك الأدوات على الانتفاء عند الانتفاء وضعا، أو في الأعم منها (1) الشاملة لما ينشأ من القرائن العامة؟ الظاهر هو الثاني، فإن من [المحققين] (2) من يعترف بعدم وضعها لذلك، لكنه يدعيه من جهة الانصراف.
ثم إن النزاع في المقام هل يختص بما إذا كان الجزاء من الجمل الإخبارية، أو يعم ما إذا كان من الإنشائية؟ الظاهر - بل المقطوع به من إطلاق كلماتهم وأدلتهم وعدم نقل الأول من أحد منهم - هو الثاني.
نعم قد يشكل (3) ذلك بناء على كون الموضوع له لهيئة الأمر خاصا، وتقريره بتقريب وتوضيحه منا:
أن المعلق على الشرط - في القضايا الشرطية المتنازع فيها - إنما هو ما وضعت له الجملة الخبرية، وإذا فرض كونها إنشائية - وقلنا بوضعها لخصوصيات الطلب، وأشخاصه - يكون (4) المراد بها حينئذ هو الطلب الخاص الشخصي، وهو الذي حصل بهذا الكلام، فيكون المعلق على الشرط ذلك الطلب الخاص.
ومن المعلوم أن من مشخصاته وجوده معلقا على الشرط المذكور في القضية، كما أن منها - أيضا - كونه حاصلا بهذا الكلام، ومن البديهي أن كل شيء مقيد بخصوصية ينتفي عند انتفاء تلك الخصوصية، إذ الموجود بدونها لا يعقل

(1) أي: أو النزاع في الأعم من دلالة تلك الأدوات وضعا..
(2) في النسخة المستنسخة: فإن من المتين.
(3) أورد الإشكال المذكور صاحب هداية المسترشدين: 281.
(4) في النسخة المستنسخة: فيكون..
144

كونه ذلك الشيء، بل إنما هو أمر مباين له بالضرورة (1)، فانتفاء الجزاء بانتفاء الشرط على القول المذكور بديهي لا يتمكن أحد من إنكاره، فلا يعقل وقوعه محلا للنزاع، كما أنه لا يتمكن من دعوى انتفاء سنخ الطلب
- أيضا - بانتفاء الشرط، إذ المعلق عليه هو الطلب الشخصي بالفرض، ومقتضى التعليق انتفاء ذلك الشخص عند انتفاء الشرط، لا انتفاء مطلق الطلب، فإن جزئيته - من حيث كونه معلقا على الشرط المذكور في الكلام، ومن حيث كونه حاصلا بذلك الكلام - ترفع المنافاة بين انتفائه وثبوت طلب آخر معلق على شرط آخر، أو حاصل لغير ذلك الكلام، ضرورة عدم المنافاة بين السالبة والموجبة الجزئيتين، فلا استلزام بين انتفاء ذلك الشخص وبين انتفاء سنخ الطلب، فلا يعقل وقوع ذلك - أيضا - إذا كان الجزاء معنى عاما قابلا لتحققه في غير مورد الشرط - أيضا - كما في مفاد الجمل الإخبارية، فيختص النزاع بها.
فإن قيل: إن ما ذكر إنما هو إثبات الانتفاء عند الانتفاء لضرورة العقل، والنزاع في باب المفاهيم إنما هو في دلالة اللفظ عليه، كما مرت الإشارة إليه.
قلنا: بعد ما كان الانتفاء عند الانتفاء ضروريا فإثبات دلالة اللفظ عليه خال عن الفائدة - كما لا يخفى - فيكون البحث عنه عبثا.
وبالجملة: على القول المذكور لا يقدر النافي للمفهوم على إنكار انتفاء

(1) لا يقال: إن الشيء وإن كان ما لم يتشخص لم يوجد، لكن لو فرض محالا وجوده بدون مشخص فلا يخرج هو عن كونه ذلك الشيء، فكيف يدعى أنه - حينئذ - مباين له؟ لأنا نقول: هذا إنما هو في الطبائع، وما ذكرنا إنما هو في الأشخاص. ومن المعلوم أن المشخص للأشخاص مقوم لها لانتفاء المائز بين الأشخاص بدونه، فهو بمنزلة الفصل بالنسبة إلى الطبائع، فكل متشخص متشخص بخصوصية مباين للفاقد لتلك الخصوصية، كما أن كل طبيعة متفصلة بفصل مباينة للفاقدة لذلك الفصل. منه طاب ثراه.
145

الجزاء عند انتفاء الشرط، كما أنه لا يقدر المثبت له على دعوى انتفاء مطلق الطلب عند انتفاء الشرط، إذ المفروض أن المعلق عليه، إنما هو شخص من أشخاصه ومقتضى التعليق انتفاء ذلك الشخص عند انتفائه لا انتفاء ما لم يكن معلقا عليه أصلا، فلا منافاة بين انتفاء ذلك الشخص عند انتفاء الشرط وبين ثبوت مطلق الطلب حينئذ في ضمن شخص آخر منه وهو الحاصل لكلام آخر.
لا يقال: هب أن الطلب الشخصي المذكور لتعلقه بالشرط المذكور في القضية من مشخصاته، وأنه قد وجد في الخارج على هذه الخصوصية، لكن مع قطع النظر عن تلك الخصوصية يمكن تحققه في موضع آخر.
لأنا نقول: الجزئي الحقيقي جزئيته مانعة عن تحققه في صورة انتفاء الخصوصيات الموجودة معها ولو مع قطع النظر عن تلك الخصوصيات، إذ قطع النظر عنها مع كونه من مشخصاته واقعا لا يصيره كليا، بل باق معه على ما كان عليه من الجزئية والتشخص، ومعه لا يعقل تحققه بدون مشخصاته، إذ الموجود بدونها مباين له لا عينه كما مر.
وقد مر أن من مشخصاته كونه حاصلا بهذا الكلام، فلا يعقل تحققه بكلام آخر، كما أن منها تعلقه بالشرط المذكور في القضية، فلا يعقل تحققه بدونه.
هذا خلاصة الكلام في تقرير الإشكال، ولا يخفى أنه بعينه جار في سائر المقامات من تعلق الحكم على الغاية أو الوصف أو اللقب، كما تفطن [له] (1) المستشكل أيضا، وعليه لا بد من تخصيص النزاع فيها أيضا بالجمل الإخبارية، إذ على القول المذكور يكون المعلق على الغاية أو الوصف أو اللقب هو ذلك الطلب الشخصي المتشخص بما علق عليه، ومن المعلوم انتفاؤه بانتفاء ما فرض مشخصا له، من غير فرق بين كونه هو الشرط أو غيره، بل لعل الحال بالنسبة

(1) في النسخة المستنسخة: تفطن به..
146

إلى الوصف واللقب أوضح. هذا.
والجواب عنه:
أولا - منع ابتنائه على وضع هيئة الأمر لأشخاص الطلب، بل إنما هو لازم لاستعمالها في الأشخاص، وهو أعم من الوضع بل القائلون بوضعها لطبيعة الطلب الظاهر أنهم معترفون بأنها لا تستعمل إلا في الخصوصيات، فلذا أورد عليه بأن وضعها للطبيعة مع عدم استعمالها إلا في الأشخاص مستلزم للمجاز بلا حقيقة.
وثانيا - إن الذي نجد من أنفسنا عند تعليقنا الطلب على أمر - من شرط، أو وصف، أو غاية، أو لقب - أن النظر في التعليق إنما هو إلى سنخ الطلب المتعلق بمادة مخصوصة من غير نظر إلى خصوصية حصوله بكلام خاص أو تعلقه بشرط خاص أو وصف أو غاية أو لقب كذلك، نعم تلك الخصوصيات من لوازم وجوده في الخارج، فالمعلق [على] (1) مجيء زيد في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) إنما هو طلب الإكرام المطلق، لا المقيد بما يحصل من هذا الكلام، أو بوصف تعلقه بالشرط المذكور، مع أنه لا يعقل تعليقه بعد أخذ تعليقه [عليه] (2) قيدا له، وكذلك المعلق على الوصف أو الغاية أو اللقب في قولنا: (أكرم العالم، أو أكرم إلى العيد، أو أكرم زيدا) هو طلب الإكرام المطلق بالنسبة إلى حصوله بالكلام الخاص، أو تعلقه بأمر خاص من تلك الأمور الثلاثة، فيكون المعلق في الجزاء أمرا قابلا لتحققه في غير مورد ما علق عليه، ولحصوله لغير الكلام الذي علق فيه على أمر من الأمور المذكورة حينئذ، فيكون الحال فيه نظير الحال في الجمل الإخبارية، وهذا الذي ذكرناه لا يتوقف على كون المستعمل فيه لهيئة الأمر عاما - وهو ما

(1) في النسخة المستنسخة: فالمعلق في مجيء زيد..
(2) في النسخة المستنسخة: تعليقه به..
147

استظهر (1) كونه هو المعلق والمجعول جزاء - بل يجري على تقدير كونه هي الأشخاص أيضا، إذ على الثاني نقول: إن الاستعمال وإن وقع على شخص من أشخاص ذلك الأمر العام، لكن الذي تعلق غرض الآمر بتعليقه على الشرط أو غيره إنما هو نفس ذلك الأمر العام، ولا منافاة، فإن معنى استعمال الإنشاءات في معانيها ليس إلا إيجاد تلك المعاني بها، لا الحكاية عنها بها كما في الإخبارات.
ومن المعلوم أن إيجاد الطبائع من حيث هي غير مقدور، وإنما المقدور إيجاد أشخاصها، فاستعمال الإنشاءات في الأشخاص مع فرض تعلق الغرض بنفس الطبيعة المشتركة بينها من جهة اللابدية والضرورة، لعدم إمكان استعمالها في نفس تلك الطبيعة، فيكون استعمالها في الأشخاص حينئذ من باب المقدمة لإيجاد تلك الطبيعة المقصودة بها، وتلك الطبيعة حال ملاحظة تعليقها على الشرط ليست إلا هي، وإنما يعرضها الخصوصية بعد إيجادها في الخارج.
والحاصل: أن المعلق على الشرط أو غيره إنما هو الطبيعة بخصوصياتها اللاحقة لها مع قطع النظر عن الاستعمال سواء كان طلبا أو غيره من مفاد الجمل الإخبارية، وأما الخصوصيات اللاحقة لها بنفس الاستعمال فهي غير ملحوظة في مقام التعليق بوجه.
ثم إن المستشكل - (2) قدس سره - بعد ذكره الإشكال المذكور قال:
(وحله: أن الوجوب الملحوظ في المقام الذي وضعت الصيغة لإفادته وإنشائه هو الوجوب المطلق المتعلق بالمادة المعينة، لا خصوص ذلك الوجوب المخصوص الحاصل بالإنشاء المفروض، كما هو قضية كلام القائل بكون الموضوع [له] (3)

(1) في النسخة المستنسخة: وهو ما استظهره..
(2) وهو الشيخ محمد تقي الأصفهاني (ره) في هدايته: 281.
(3) أثبتناه ما بين المعقوفين من المصدر، ولم يرد في النسخة المستنسخة.
148

في وضع الهيئات المذكورة خاصا، إذ قد عرفت أن الأوفق بالتحقيق كون كل من الوضع والموضوع له فيها عاما وإن كان الحاصل من استعمالها في معانيها أمرا خاصا، فكما أن مدلول المادة أمر كلي يتشخص بفعل المأمور (1)، ويكون الخصوصيات الشخصية خارجة عن المكلف به، فكذلك مدلول الهيئة هو الإيجاب المطلق المتعلق بالمادة المفروضة المتشخص بفعل الآمر من جهة استعمال اللفظ فيه وإيجاده به، وخصوصياته الشخصية خارجة عن الموضوع له، فإذا كان مدلول الصيغة مطلق الإيجاب المتعلق بالمادة كان الشرط المذكور في [الكلام] (2) قيدا لذلك المعنى) (3). انتهى موضع الحاجة من كلامه - قدس سره -.
وفي كلامه موضعان للمناقشة، بل ثلاثة:
أحدها قوله: (وحله): فإنه - قدس سره - قد أورد الإشكال على تقدير كون الموضوع له للهيئات خاصا مع كون المستعمل فيه الهيئة هو الخاص، حيث إنه جعله لازم ذلك القول، وأجاب عنه بدعوى كون المستعمل فيه عاما، وجعل ذلك حلا له، وأنت ترى أنه لا يكون حلا له، بل إنما هو التزام حقيقة، فإن حله إنما يكون بدفعه على تقدير كون المستعمل فيه هو الخاص الذي هو منشؤه، لا بالخروج عن تقدير لزومه إلى تقدير آخر.
ثانيها: أن كون المستعمل فيه خاصا مشترك اللزوم بين القول بكون الموضوع له للهيئات خاصا والقول بكونه عاما، لاتفاق الفريقين عليه، فإن القائلين بالأول إنما ذهبوا إليه حذرا من لزوم المجاز بلا حقيقة كما مرت الإشارة إليه.

(1) في النسخة المستنسخة: بفعل المأمور به..
(2) أثبتناه ما في المتن من المصدر، أما في النسخة المستنسخة فورد: المذكور في المقام..
(3) هداية المسترشدين: 281.
149

وثالثها: أن الذي ذكره - حجة على دعوى كون المستعمل فيه الهيئة هو العام - الظاهر أنه غير مثبت لها، فإن مجرد تعلق الغرض بإيجاد الطلب المطلق [غير] (1) المقيد مع فرض كون الموجود شخصا لا يوجب كون الهيئة مستعملة في ذلك الطلب المطلق، بل ليس هذا من استعمالها فيه في شيء، بل هذا معنى استعمالها في الخصوصية، إذ استعمال الإنشاءات في معانيها ليس إلا إيجادها بها.
ومن المعلوم أن الإيجاد الأولي بها إنما هو متعلق بالأشخاص، ويكون إيجاد الطبائع معها من باب الملازمة، فالذي استعملت فيه الهيئة هو الأشخاص وإن كان الغرض وجود ذلك الطلب المطلق، فالذي حققه وجعله حجة على دعواه منشأ لخلاف مدعاه.
هذا مضافا إلى أنا لو سلمنا كونه استعمالا في العام فلا يخفى أنه لا يقع استعمال الهيئات في الخاص أصلا، فإن استعمالها في المحاورات لا يقع إلا على النحو المذكور، مع أنك قد عرفت اتفاق الفريقين في تلك المسألة على انها لا تستعمل إلا في الخاص.
ومن البديهي أنهم لا يتفقون على أمر غير واقع أصلا، فيكشف ذلك عن أن مرادهم من الاستعمال في الخاص هو استعمالها على النحو المذكور، فيكون نزاعه - قدس سره - مع هؤلاء لفظيا.
ومن هنا ظهر: أن الذي جعله حلا للإشكال حل له حقيقة، موافق لما حققنا، لعدم خروجه عن الفرض حقيقة، وإنما هو خروج عنه بمقتضى تسمية ذلك الاستعمال استعمالا في العام، فافهم.
وإذا عرفت محل النزاع في المقام فاعلم: أنهم اختلفوا فيه على قولين، فالأكثر على اقتضاء أدوات الشرط لانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، ونسب

(1) إضافة يقتضيها السياق.
150

إلى جماعة المنع.
ثم الأولون: منهم: من يقول بذلك وضعا من باب الاستلزام.
ومنهم: من يقول به وضعا من باب التضمن.
ومنهم: من يقول به من باب الانصراف.
ومنهم: من يقول به من باب اقتضاء الإطلاق.
ومنهم من يقول به من جهة دليل الحكمة.
ومنهم من يقول به من جهة الأصل.
والحري أن نذكر جميع الطرق المنصوبة لإثبات المفهوم مما قيل، أو يمكن أن يقال، وتوضيح الحال فيها على نحو الاختصار (1) والإجمال، ثم تحقيق الحق منها بعون الملك المتعال، فنقول:
منها: ما نسب إلى بعض (2) من وضع الأدوات لمجموع الأمرين: من تعليق وجود الجزاء على الشرط، وانتفائه عند انتفائه، فيكون دلالتها على الانتفاء عند الانتفاء تضمنية.
ومنها: ما ادعاه بعض (3) من وضعها لمعنى يستلزم الانتفاء عند الانتفاء، فيكون دلالتها على ما ذكر التزامية.
ومنها: ما اختاره بعض من متأخري المتأخرين (4) من أن أدوات الشرط ظاهرة في تعليق الجزاء على الشرط على وجه التعيين، نظرا إلى إطلاق التعليق، بمعنى عدم ذكر بدل للشرط المذكور في القضية الشرطية يقوم مقامه عند انتفائه،

(1) في النسخة المستنسخة: (الاقتصار..)، والظاهر أنه تصحيف.
(2) و (3) الفصول: 147.
(4) (وهو الشيخ محمد تقي - قدس سره -) على ما جاء في هامش النسخة. راجع هداية المسترشدين: 282 و 284 و 286 و 287 و 288 و 289 و 290.
151

كما أن قول: (هذا واجب) ظاهر في التعييني () لذلك، أي لأجل عدم ذكر بدل له، كما هو شأن الواجبات التخييرية.
وتوضيحه: أن أدوات الشرط بحسب وضعها اللغوي لمطلق التعليق الأعم من التعييني الشامل له على وجه البدلية، بحيث لو استعملت فيه على وجه البدلية - كأن يقال - مثلا -: (إن جاءك زيد أو أضافك فأكرمه) - لا ينافي ذلك وضعها، لكن إذا اقتصر في اللفظ على ذكر شرط وأحد ولم يذكر معه غيره، فهي بملاحظة ذلك ظاهرة في التعليق التعييني، وكون المعلق عليه هو المذكور في القضية لا غير.
والسر في إيجاب ذلك: ظهورها فيما ذكر فإن إيراد الكلام على ذلك الوجه إنما هو منطبق على كون المذكور في القضية معلقا عليه على وجه التعيين، بمعنى ان الكلام على ذلك الوجه إنما هو قالب لهذا المعنى، بحيث لو أريد إفادة التعليق على وجه التخيير والبدلية لا بد من إيراده على وجه آخر بأن يذكر فيه البدل، ولا يجوز للمتكلم الاكتفاء به على الوجه المذكور، وهذا للظهورات الحالية الغير المتوقفة على إحراز كون المتكلم في مقام البيان، كما هو الحال في المطلقات، فتدبر.
هذا هو السر في ظهور الوجوب، وكذا ظهور الهيئة الدالة عليه في التعييني عند عدم ذكر متعلق آخر (1)، مع وضعها للأعم منه، بحيث لو استعملها [في] التخييري لما كان مجازا جدا، فإذا كانت الأدوات الشرطية ظاهرة

(1) وهذا هو السر أيضا في ظهور العقود والإيقاعات أيضا في تعيين المذكور في متعلقاتهما فإن قولك:
- بعت الفرس، أو آجرته، أو صالحته - ظاهر في كون المبيع أو متعلق الإجارة أو الصلح هو خصوص الفرس، وكونه تمام المبيع لا جزءه، وكذا الحال في الإيقاعات. منه طاب ثراه.
152

في التعليق التعييني، فيدل على الانتفاء عند الانتفاء التزاما، فإن لازم كون المذكور في القضية شرطا على التعيين انتفاء ما علق عليه عند انتفائه.
هذا خلاصة الكلام في توضيح مرامه - قدس سره - وهو مبني على ثبوت وضع الأدوات للتعليق ومعه يتجه ما ذكره - قدس سره -.
ومنها: ما اختاره أخوه (1) - قدس سره - وحاصله: أن أدوات الشرط ظاهرة بمقتضى وضعها اللغوي في لزوم الجزاء للشرط، فإن قولنا: (إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود) - مثلا - يفيد - وضعا - كون النهار لازما لطلوع الشمس، واللزوم عند الإطلاق ظاهر في اللزوم المسببي، أي كون اللازم هو المسبب، فإن له مزيد اختصاص به، نظرا إلى أن المسبب لا يمكن انفكاكه عن السبب بأن وجد السبب بدونه، بل هو لازم له على الإطلاق دون العكس، لإمكان وجود المسبب بسبب آخر غير ذلك السبب، فوجوده غير ملازم لوجود سبب خاص، فلا يكون السبب لازما له على الإطلاق، فمطلقه ينصرف إليه، فبذلك ثبت كون الجزاء مسببا وكون الشرط سببا، وإذا ثبت أن الشرط سبب فظاهر السببية عند الإطلاق هو سببيته العينية المنحصرة
بتقريب ما مر في ظهور التعليق في التعييني، فإذا ثبت كون الشرط سببا منحصرا، فلازمه انتفاء الجزاء عند انتفائه فثبت المطلوب.
ومنها: ما ذكره - دام ظله - من أن أدوات الشرط ظاهرة بمقتضى الوضع في التلازم بين الشرط والجزاء، فهي بظهورها الوضعي تنفي المقارنات الاتفاقية، لعدم اللزوم بينها بوجه، ولما كانت ظاهرة في لزوم الجزاء للشرط بمقتضى الوضع فهي بمقتضى إطلاق ما يفيده من لزوم الجزاء للشرط تنفي كونهما معلولين لثالث،

(1) وهو صاحب الفصول راجع الكتاب: 148 و 149.
153

أو كون الشرط مسببا فإن معنى إطلاق لزومه له لزومه له عند وجوده سواء وجد معه - أي مع الشرط - شيء آخر في العالم أو لم يوجد، ومن المعلوم أنهما لو كانا مشتركين في العلة أو كان الجزاء سببا للشرط لم يصدق هذه القضية، أعني أنه لازم للشرط المذكور في القضية الشرطية على الإطلاق، سواء وجد معه شيء آخر في العالم أو لم يوجد، بل تكون كاذبة فيلزم تقييدها الذي هو مخالف للأصل، ولا يصار إليه إلا لدليل، وذلك لأن كل أمرين متلازمين مشتركين في العلة لو فرض محالا وجود أحدهما فلا يكون الآخر لازما له، بل إنما يكون ذلك إذا وجد لوجود علته المشتركة بينه وبين ذلك الآخر، ضرورة عدم الارتباط بين نفس المعلولين لثالث، بل إنما هو من جهة أن وجود كل منهما لازم لوجود علته التي هي علة الآخر أيضا، ومن المعلوم أيضا أن المسبب وإن كان لازما للسبب عند وجوده على الإطلاق سواء وجد مع السبب شيء آخر في العالم أولا، لكن لا عكس كليا لعدم استلزام مجرد وجود المسبب له، بل لا بد في وجوده من وجود علة، فلا يصدق أنه لازم للمسبب ولو لم يوجد شيء غيره في العالم، فتعين أن يكون الشرط سببا والجزاء مسببا، لأنه هو الذي لازم للشرط على الإطلاق، فإذا ظهر أن الشرط سبب فظاهر السببية بمقتضى إطلاقها - بمعنى عدم ذكر بدل للمذكور في القضية - هو السببية المنحصرة بالتقريب المتقدم، ولازمها الانتفاء عند الانتفاء، فثبت المطلوب، فهنا إطلاقان:
أحدهما: إطلاق لزوم الجزاء للشرط يثبت به سببية الشرط للجزاء.
وثانيهما: إطلاق سببية الشرط يثبت به انحصار السبب فيه المستلزم للانتفاء عند الانتفاء، فافهم.
ومنها: دليل الحكمة: الذي يستدل به في مفهوم الوصف أيضا، وتقريره:
أن تعليق الحكم على شيء من شرط أو وصف لا بد أن يكون لفائدة
154

الفوائد وإلا لغا (1)، وأظهر فوائده هو التنبيه على انتفاء الحكم عند انتفاء ما علق عليه.
ومنها الأصل: ذكره بعض المتأخرين تأييدا.
والذي يمكن أن يوجه به أن يقال: إن أدوات الشرط تفيد سببية الشرط المذكور في القضية للجزاء - إما وضعا، أو من باب الانصراف، أو الإطلاق - بالتقريبات المتقدمة، ومعنى السبب هو المؤثر في المسبب، ولازم تأثيره في المسبب كون المسبب محتاجا إليه في الجملة، إذ لو لم يكن محتاجا إليه في حال، فلا بد أن يكون موجودا بدون شيء من الأسباب وقبل وجوده، ولازم ذلك كون الشيء المفروض سببيته له مؤثرا فيه مع تحققه ووجوده، وهو محال.
وبعبارة أخرى: أن سبب شيء إنما هو المؤثر في وجوده، فلو فرض عدم احتياج ذلك الشيء إلى مؤثر في وجوده لزم أن يكون موجودا قبل وجود المؤثر فيه، فيلزم أن يكون المؤثر فيه مؤثرا فيه على تقدير وجوده، وهو محال، لامتناع إيجاد الموجود، فإذا ثبت احتياجه إلى سبب في الجملة يلزمه احتياجه إلى السبب مطلقا، بمعنى أنه لا يوجد بغير سبب، بل لا بد له من سبب ولو غير ما ذكر في القضية الشرطية، ولازم ذلك انتفاؤه بانتفاء جميع ما يكون سببا له في الواقع، فإذا فرض انتفاء السبب - المفروض في القضية هو الشرط المذكور فيها - وشككنا في قيام سبب آخر مقامه، يجري (2) في نفيه الأصل، فإذا أحرز عدمه به يثبت (3)

(1) في النسخة المستنسخة: (لغي)، ويحتمل لغي يلغى بمعنى أخطأ، ولكن الأنسب ما أثبتناه، لغا يلغو بمعنى بطل.
(3) في النسخة المستنسخة: فيجري..
(4) في النسخة المستنسخة: فيثبت..
155

عدم الجزاء حينئذ، فإنه لازم لانتفاء جميع الأسباب كما ذكر، وقد أحرزنا انتفاء بعضها بالفرض وانتفاء البواقي بالأصل.
فإذا عرفت ذلك كله فاعلم: أن الحق ثبوت المفهوم لأداة الشرط، لتبادره منها عرفا، وهو الحجة في أمثال المقام. نعم كونه من جهة الوضع ومن باب الالتزام أو من جهة أخرى غير الوضع محل نظر.
أما كونه من جهة وضعها له على وجه التضمن فينبغي القطع بعدمه، فإن لازمه دلالة الأدوات على الانتفاء عند الانتفاء في تحت اللفظ (1)، فإن المعنى المطابقي إنما يفهم منه كذلك، فإذا كان مركبا لا بد أن يكون جميع اجزائه مفهوما منه كذلك، ومن المعلوم أن المتبادر عرفا خلافه.
هذا مضافا إلى أن إثبات ذلك ليس إثباتا للمفهوم المصطلح المتنازع فيه، بل إنما هو إثبات للدلالة على الانتفاء عند الانتفاء من جهة المنطوق، فإن الدلالة التضمنية من المناطيق، فأخذ المدعي إثبات المفهوم المتنازع فيه مع إثبات ما هو مباين له كما ترى.
وبالجملة: فأطراف التردد منحصرة في اثنين:
أحدهما: كون ذلك التبادر من جهة وضع الأدوات لمعنى يستلزم الانتفاء عند الانتفاء.
وثانيهما: كونه من غير هذه الجهة من الجهات المتقدمة، بأن يكون إحدى تلك الجهات قرينة عامة موجبة لظهورها في معنى يستلزم الانتفاء عند الانتفاء، فإن المتبادر منها هو الانتفاء عند الانتفاء في غير محل النطق، وهو ينافي كونه من باب التضمن.
ثم الذي يقتضيه النظر والتأمل في استعمال الأدوات في العرف في تعليق

(1) أي أن هذه الدلالة من نفس جملة الشرط ولفظها.
156

الجزاء على أمور كثيرا كثيرة غاية الكثرة على نحو الاستقلال - أي استقلال كل منهما في السببية - عدم وضعها لما يستلزم الانتفاء عند الانتفاء، إذ من المعلوم أنه إذا علق الجزاء على أمور متعددة على وجه البدلية لا يستلزم انتفاء واحد منها انتفاء الحكم المعلق عليه، وقضية وضعها له لا يستلزم مجازية استعمال الأدوات في أمثال تلك المقامات، والحكم بها فيها مع كونها في غاية الكثرة دونه خرط القتاد.
اللهم إلا أن يقال: إن أدوات الشرط إنما تقتضي انتفاء الجزاء بانتفاء ما علق عليه، فإن كان هو متحدا فيقتضي انتفائه بانتفائه، أو متعددا - بأن يجعل الشرط أمورا على نحو البدلية - فيقتضيه بانتفاء الجميع، إذ المعلق عليه حينئذ إنما هو أحد هذه الأمور لا على وجه التعيين، وهو لا ينتفي إلا بانتفاء تلك الأمور جميعا.
لكن يشكل الأمر حينئذ بالنظر إلى استعمالها في العرف والشرع فيما لم يرد فيه انتفاء الحكم بانتفاء ما علق عليه كقوله: إن بلت فتوضأ، وإن نمت فتوضأ، وأمثال ذلك مما يكون للجزاء أسباب متعددة في الواقع، مع أنه اقتصر في الموارد الخاصة على ذكر واحد منها، وعلق الجزاء عليه، فإن استعمالها على هذا الوجه أيضا بمثابة من الكثرة لا يمكن الالتزام بمجازيته.
فإن قلت: إذا علمنا من الخارج أن للجزاء أسبابا متعددة، فيستكشف أن المعلق عليه إنما هو كل واحد منها على وجه البدلية، فيرجع الحال فيها إلى ما تقدم.
قلنا: إن التعليق ليس له واقع مشكوك حتى يستكشف أنه وقع مما لم يعلم واقعه، بل يتحقق بمجرد ذكر الجزاء بعد شيء وجعله جزاء له في اللفظ، فالتعليق حقيقة في تلك الموارد وقع على خصوص الأمر المخصوص
المذكور في المورد الخاص.
نعم التعليق قد يلاحظ بالنسبة إلى الإرادة، فيمكن فيه الشك، وأما
157

بالنسبة إلى اللفظ فلا، وكلامنا فيه، وهو لم يقع إلا على خصوص المذكور في القضية الشرطية، لا على ما أريد تعليق الجزاء عليه في عالم الإرادة، فورود دليل على تعليقه على أمر آخر غير ما ذكر فيها لا يوجب رجوعه إلى ما تقدم، فإنه كاشف عن تعليقه عليه - أيضا - في عالم الإرادة، وليس محققا للتعليق اللفظي (1).
وبالجملة: الحكم بأن ظهور تلك الأدوات في الانتفاء عند الانتفاء من باب الوضع مشكل غاية الإشكال، إلا أن إثباته لا يهمنا، إذ لا ثمرة بينه وبين كونه من جهة أخرى من القرائن العامة، إذ كما أن مقتضى الوضع الحمل على المعنى الحقيقي عند عدم قرينة على الخلاف، فكذلك مقتضى القرائن العامة الحمل على ما تفيده عند عدم قرينة على الخلاف، بحيث لو كان خلافه معنى حقيقيا لا يصار معها إليه إلا لقرينة وإن كان استعمال اللفظ فيه حينئذ قرينة، إذ القرينة شرط التفهيم.
وكيف كان، فالمتبادر من أدوات الشرط عرفا هو انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط المذكور في القضية - إن كان واحدا فبانتفائه، أو متعددا فبانتفاء الجميع - وهو الحجة، ومجرد ثبوت ذلك يفيد ما هو الغرض من الوضع أيضا، فلا داعي إلى تفتيش الحال فيه، كما أنه لا يوجب تفتيش أن ذلك على فرض عدم استناده إلى الوضع مستند إلى أي الطرق المتقدمة، لكن لا بأس بالتعرض لذلك، وتشخيص صحيح تلك الطرق من فاسدها، فنقول:

(1) وبعبارة أخرى: إن المدعى أن أدوات الشرط ظاهرة في تعليق الجزاء على خصوص ما ذكر من الشرط في القضية الشرطية وهو ينافي تعليقه على الأعم منه، فلو كان ذلك من باب الوضع فيستلزم المجازية فيما إذا ورد دليل على تعليقه على أمر آخر أيضا لم يذكر هو في القضية الشرطية، لكنه لا ينافي جعل الشرط المذكور فيها أمورا متعددة، فافهم. منه طاب ثراه، وجعل الجنة مثواه.
158

الكلام يقع فيها من جهتين:
إحداهما: أنها على فرض تسليم صحتها (1) هل تفيد المطلوب - وهو ثبوت المفهوم للأدوات - أو لا؟ وثانيهما: أنه - مع الإغماض عن الجهة الأولى - هل تصح هي في أنفسها، أو لا؟ فلنقدم الكلام في الجهة الأولى وإن كان النظم الطبيعي يقتضي العكس.
فاعلم أن الصحيح من تلك الطرق الذي يفيد المطلوب - على تقدير تمامية مبنى (2) أولاها - ثالث الطرق السبعة المتقدمة لإثبات المفهوم الذي حكيناه عن بعض المحققين من متأخري المتأخرين (2)، إذ بعد ثبوت وضع الأدوات لمطلق إرادة تعليق الجزاء على خصوص الشرط المذكور في القضية الشرطية بالتقريب المتقدم، ومن المعلوم أن لازم ذلك بينا انتفاء ما علق على الشرط بانتفائه، ومن المعلوم أن لوازم الماهية (3) لمعنى مراد من لفظ تكون (4) مرادة من ذلك اللفظ أيضا ومقصودة منه، ويكون هو دالا عليها بالالتزام، فيكون الأدوات دالة على الانتفاء عند الانتفاء بالاستلزام (5) الذي هو من الدلالات المقصودة، وهو المطلوب، إذ ليس المطلوب إلا إثبات دلالتها على ما ذكر على نحو الالتزام البين.
والظاهر أن مراد من ذهب إلى وضع الأدوات لمعنى يستلزم الانتفاء عند الانتفاء أنها موضوعة لتعليق الجزاء على خصوص الشرط المذكور في القضية،

(1) هذه الكلمة غير واضحة في النسخة المستنسخة، وقد أثبتناه استظهارا.
(2) في النسخة مباينة. والظاهر ما أثبتناه في المتن.
(3) في النسخة المستنسخة: اللوازم المهية..
(4) في النسخة المستنسخة: أن يكون..
(5) في النسخة المستنسخة: لا بالاستلزام..
159

فإن هذا هو الذي يستلزم ذلك، مع احتمال أن يكون مراده وضعها للسببية المنحصرة، بزعم أنها أيضا مستلزمة له، كما زعمه جماعة وهم أصحاب الطرق المتأخرة عن الطريق المذكور غير ما قبل الأخير منها، لما عرفت من أنهم فرعوا الانتفاء عند الانتفاء على ما أثبتوا من انحصار السبب في الشرط المذكور في القضية وإن كان وقع الاختلاف بينهم على طريق إثبات السببية المنحصرة، لكن ستعرف أنها غير مستلزمة له.
وبالجملة: معنى تعليق شيء على شيء خاص معناه أنه محتاج في تحققه إلى ذلك الشيء الخاص في جميع الموارد، ولازمه بينا انتفاؤه بدونه.
لا يقال: إن البناء على هذا وإن كان مبينا للمفهوم، لكنه يجري [في] المنطوق (1)، فإن المعنى الملزوم للانتفاء عند الانتفاء إنما هو المنطوق، فإذا جعلتموه عبارة عن التعليق، فأين دلالة الأدوات على سببية الشرط للجزاء التي يعرفون بها، إذ مجرد تعليق شيء على خصوص شيء ليس عين جعل ذلك الشيء سببا تاما لوجوده، أو مستلزما له، إذ غاية ما يفيده أن لذلك الشيء مدخلية في وجوده، وأما أنه سبب تام له إذا وجد فكلا.
لأنا نقول: ليس الغرض دعوى إفادة الأدوات لمجرد تعليق الجزاء على خصوص الشرط المذكور في القضية، بل المراد منها ما يفيد ذلك مع سببية الشرط للجزاء، وإنما تعرضنا لذلك وحده لكونه هي الجهة الملزومة للانتفاء عند الانتفاء، وعليه يحمل كلام المحقق المشار إليه أيضا.
فإن قيل: إن تعليق (2) شيء على شيء معناه انتفاؤه بدون ذلك الشيء،

(1) في النسخة المستنسخة: (يجري للمنطوق..)، ويحتمل أنها في نسخة الأصل: (يجزئ المنطوق..)، فتأمل.
(2) في النسخة المستنسخة: تحقق.
160

لا أنه مغاير له وملازم له (1)، وقولك: - إن معناه احتياجه إليه - إنما هو عبارة أخرى عن ذلك.
ويؤيد هذا ما أورده بعض المتأخرين (2) [عن] (3) صاحب المعالم، حيث احتج على إثبات مفهوم الشرط: بأن قولنا: - إن جاءك زيد فأكرمه - بمنزلة قولنا: - الشرط في وجوب إكرامه مجيئه إياك - يعني أنه يفيد ذلك الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء، كما أن مادة الشرط ظاهرة في الانتفاء عند الانتفاء بحسب المنطوق، ولازم المقايسة المذكورة كون دلالة الأدوات عليه أيضا كذلك، فبان بذلك (4) ما هو بصدد إثباته من المفهوم المصطلح.
ووجه التأييد: أن مادة الشرط ظاهرة في تعليق الوجود على الوجود فحسب وليس مفادها بحسب المنطوق سواه، وحينئذ لو لم يكن ذلك عين معنى الانتفاء عند الانتفاء فلا وجه لقول المورد من أنها ظاهرة فيه بحسب المنطوق.
قلنا: تعيين مادة الشرط وحصره في طرف المنطوق في خصوص التعليق فقط إنما هو بمقتضى اجتهاد ذلك القائل، وهو لا يوجب حمل كلام المورد المذكور عليه، لاحتمال أن يكون الانتفاء عند الانتفاء جزء من المعنى المطابقي لمادة الشرط لا نفسه.

(1) في النسخة المستنسخة: وملازم معه.
(2) الفصول: 150.
(3) في النسخة المستنسخة: على.
(4) في النسخة المستنسخة: فبان ذلك.
161

ويقوي ذلك ما ادعاه بعض من أن مادة الشرط ظاهرة في المصطلح عند الأصوليين، وهو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، ومع هذا الاحتمال يبطل دعوى التأييد، ومع تسلم أن يكون مراد المورد ما ذكر، فلا يكون هو حجة على أحد، فالحري حينئذ التأمل في نفس مفهومي التعليق والانتفاء عند الانتفاء من حيث [إنهما] متغايران ومتعددان في عالم القصد والإرادة كتغاير هما وتعددهما في عالم التصور، أو متحدان في القصد وإن كانا متعددين في الذهن.
والذي يقتضيه دقيق النظر والتأمل التام في الوجدان هو الأول، وهذا وإن كان لا يمكن إلزام الخصم به، إلا أنه دليل إغنائي (1) للغناء [به]، وكفى به معتمدا ودليلا.
هذا خلاصة تقريب المرام وتحقيق الكلام في الطريق المذكور الذي هو أول الطريقين المذكورين الصحيحين لإثبات المفهوم من غير جهة الوضع.
وأما ثانيهما: فهو ما قبل الأخير من الطرق المتقدمة، وهو دليل الحكمة، إذ بعد ثبوت كون الانتفاء عند الانتفاء من أظهر فوائد التعليق يكون هو قرينة عامة على إرادة الانتفاء عند الانتفاء ما لم يقترن الكلام بقرينة على خلافه.
وأما الطرق الثلاثة الاخر - وهي ما بين الطريقين المذكورين (2) وما بعد ثانيهما - فهي مع تسليم تماميتها في أنفسها لا تفيد المطلوب بوجه:

(1) كذا في النسخة المستنسخة، والظاهر أنه يعني: أنه دليل تام يغني عما سواه.
(2) في النسخة المستنسخة: المذكور..
162

اما أولا - فلأن غاية ما يفيده إنما هو كون الشرط سببا منحصرا للجزاء، وذلك لا يستلزم انتفاء الجزاء بانتفائه، إذ معنى كونه سببا منحصرا له أنه على تقدير احتياج الجزاء في التحقق والحصول إلى علة يكون علته منحصرة فيه، وأنه لا يؤثر فيه غيره حينئذ، ومن الممكن أن يكون الشيء محتاجا إلى سبب في وقت غير محتاج إليه في وقت آخر، ومن المعلوم أنه على تقدير عدم احتياجه إليه لا يلزم من انتفائه انتفاؤه، فلا يلزم من انتفاء ذلك السبب المنحصر انتفاؤه مطلقا ولو ادعوا استلزام احتياج شيء إلى مؤثر فيه في وقت لاحتياجه إليه مطلقا، فيردهم على إغفالهم لوقوع التفكيك [أنه] أخص (1) من إمكانه، فغفلوا نادمين.
ألا ترى أن عدم التنجيس - الذي علقه الشارع على بلوغه إلى مقدار الكر - قد يكون محتاجا إلى بلوغه إلى مقدار الكر، وهو فيما إذا حدث فيه سبب التنجيس، وهو ملاقاته مع النجس، وقد لا يكون محتاجا إلى سبب أصلا، لا إلى البلوغ إلى مقدار الكر ولا إلى غيره، وهو فيما إذا لم يحدث فيه سبب التنجيس، فإن عدم حدوثه فيه يكفي في عدم تنجسه من غير حاجة إلى شيء أصلا، وهذا هو الشأن في جميع القضايا الشرطية التي يكون الجزاء فيها عدميا والشرط وجوديا، فإن غاية ما تفيد القضية الشرطية أن علة العدم على تقدير احتياجه إلى علة هو ذلك الشرط، وهذا بنفسه غير كاف في إثبات الانتفاء عند الانتفاء، بل لا بد من ضم مقدمة أخرى، وهي استلزام احتياجه إلى علة في وقت لاحتياجه إلى العلة مطلقا، ودعوى ذلك في أمثال تلك المقامات مكابرة للذوق السليم، وانحراف عن الصراط المستقيم، إذ من البديهي أن العدميات إنما تحتاج إلى علة

(1) في النسخة المستنسخة: الذي.
163

إذا طرأ على محلها مقتضي الوجود الذي لو لا مانع منه لقلبها إلى الوجود، وأما إذا لم يطرأ على محلها ذلك فكلا، ضرورة كفاية عدم طروه وحدوثه في استمرارها، فهل لأولئك عن ذلك كله من محيص؟ كلا، ثم كلا.
نعم تتجه دعوى الاستلزام المذكور بالنسبة إلى الأمور الوجودية، لكنه لا يصحح دعوى استلزام النسبة المنحصرة للانتفاء مطلقا كما هو مدعاهم، بل لا بد حينئذ من التفصيل بالنظر إلى الموارد.
وأما ثانيا - فلأنها على تقدير تسليم استلزامها للانتفاء عند الانتفاء غير مناسبة للمدعى، وهو المفهوم المصطلح المتنازع فيه في المقام، لما مر غير مرة من أنه ليس مجرد إثبات انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط، بل إنما هو إثبات دلالة الكلام عليه، وهي غير موجبة لذلك.
وأما الأخير منها - وهو الأصل (1) - فواضح، إذ غاية ما يترتب عليه هو انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط في مرحلة الظاهر، وأين هذا من دلالة الجملة الشرطية عليه؟ وأما الأولان منها: فلا بتناء كل منهما على مقدمات عديدة فيؤول الأمر في كل منهما إلى إثبات الانتفاء عند الانتفاء بالبرهان، إذ كل منهما مبني على أربع مقدمات:

(1) ولو قيل: إن الأصل وإن لم يثبت المفهوم المصطلح لكنه يثمر ثمرته، فيتجه عليه أن من ثمراته - بل الثمرة المقصودة منه هنا - إنما هي معارضة القضية الشرطية لما تدل على ثبوت حكم بالمنطوق عند انتفاء الشرط على تقدير وروده، فلا بد من إعمال القواعد المقررة لتعارض الدليلين، ومن المعلوم أن الأصل لا يترتب عليه ذلك. منه طاب ثراه.
164

إحداها: أن الشرط علة منحصرة للجزاء.
وثانيتها: أن لازم العلة المنحصرة توقف المعلول عليها على الإطلاق.
وثالثتها: أن لازم التعليق كذلك انتفاء المعلول بانتفائها.
ورابعتها: أن لازم ما هو لازم لشيء لازم لذلك الشيء، فينتج منها حينئذ لزوم انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط، واللزوم على هذا الوجه غير مستلزم لدلالة اللفظ على الانتفاء عند الانتفاء، فإنه من دلالة الإشارة المعتبرة المقصودة التي يدركها العقل.
هذا خلاصة ما حققه - دام ظله - بتوضيح منا.
أقول: لأحد أن يقول: بجريان الإشكال بعينه في الطريق الأول - من الطريقين (1) المفروض صحتهما من بين الطرق - بتقريب: أن مجرد تصور كون شيء معلقا عليه على الإطلاق لا يوجب تصور انتفاء ما علق عليه بانتفائه كما هو الشأن في اللوازم البينة، بل لا بد من ملاحظة شيء آخر، وهو أن كل ما كان كذلك فيلزمه الانتفاء عند الانتفاء، فهو بمجرده لا يوجب الانتقال إلى الانتفاء عند الانتفاء، فيتوقف الانتقال إليه إلى ترتيب قياس: وهو أن هذا الشرط مما علق عليه الجزاء على الإطلاق وعلى سبيل اليقين، وكل ما كان كذلك يلزمه (2) انتفاء ما علق عليه بانتفائه، فيكون هذا - أيضا - إثباتا للانتفاء عند الانتفاء بالبرهان، فيدخل ذلك أيضا في دلالة الإشارة.

(1) في النسخة المستنسخة: الملازمين صحتاهما.
(2) في النسخة المستنسخة: فيلزمه...
165

نعم الفرق بينه وبين الطريقين المذكورين: أن المقدمات المأخوذة فيهما أزيد مما أخذت فيه، ومن المعلوم أن انحصار المقدمات في مقدمتين لا يوجب دخول النتيجة في اللوازم البينة كما لا يخفى، وإلا لزم كون وجوب مقدمة الواجب أيضا منها، ضرورة عدم توقفه على أزيد من مقدمتين.
إحداهما: أن هذا مقدمة لواجب.
وثانيتهما: أن كل مقدمة للواجب واجبة. فينتج منهما: أن هذا واجب، واللازم باطل، للاتفاق على دخوله في اللوازم الغير البينة وكونه من دلالة الإشارة، فالملزوم مثله.
ومن هنا ينقدح الإشكال - أيضا - في صلاحية دليل الحكمة المتقدم للقرينة وظهور اللفظ في إرادة الانتفاء عند الانتفاء منه، لابتنائه - أيضا - على مقدمات عديدة كما لا يخفى على المتأمل، فغاية ما يترتب عليه تسليم إثبات أن الغرض من التعليق نفي الحكم عن غير مورد التعليق، وأين هذا من إثبات كونه مرادا من اللفظ؟ ومن هنا يقوى القول بدلالة الأدوات على الانتفاء عند الانتفاء من باب التضمن، لعدم تصور معنى آخر - غير السببية المنحصرة أو التعليق كذلك - للمنطوق، و [لا] يلزمه ذلك بينا، حتى تصح دعوى دلالتها عليه من باب الاستلزام البين.
ويمكن منع جريان الإشكال المتقدم في الطريق المذكور من باب الانتقال من التعليق على الإطلاق إلى الانتفاء عند الانتفاء وإن كان ناشئا من القياس المذكور، لكن كبرى ذلك القياس مركوزة في الأذهان وحاضرة عندها، وصغراه مستفادة من القضية الشرطية، فبمجرد التلفظ بالقضية الشرطية يحضر مقدمتا ذلك القياس في الذهن من غير حاجة إلى النظر، وينتقل إلى النتيجة وهي انتفاء
166

الجزاء بانتفاء الشرط، واللازم البين ليس إلا ما ينتقل إليه على هذا، (1) وإلا (2) فما هو لازم، وإلا (3) يكون الانتقال إليه ناشئا عن مقدمتين لا محالة، فلو بنى على عدم كون اللازم على الوجه المذكور بينا لم يكن له مصداق في العالم أصلا، واللازم الغير البين هو ما لم يمكن الانتقال إليه إلا بالنظر وترتيب مقدمتين لا محالة، ومن البين أن الانتقال إلى الانتقال عند الانتفاء في غير ذلك الطريق لا يمكن إلا بالنظر وترتيب مقدمات كما عرفت.
ومن هنا يندفع النقض بوجوب مقدمة الواجب - أيضا فإنه وإن كان أيضا - ناشئا من مقدمتين لكن الثانية منهما، وهي أن كل مقدمة للواجب واجبة ليست حاضرة في الأذهان ومركوزة فيها، بل يحتاج إلى تأمل وفكر، ويكشف عن ذلك وقوع الخلاف العظيم فيها، بخلاف المقدمة الثانية لما نحن فيه، لعدم الخلاف فيها من أحد.
ويشهد لما ذكرنا - من كون الانتفاء عند الانتفاء لازما بينا للتعليق على الإطلاق، بعد شهادة وجداننا عليه وقضائه بالفرق بين كيفية لزومه له وبين كيفية لزومه للسببية المنحصرة، وكذا بين لزوم مقدمة الواجب لوجوب الواجب - توهم بعض اتخاذه في المعنى [مع] التعليق (4) على الإطلاق - كما عرفت - فإنه إنما ينشأ من الملازمة ووضوحها عنده، فافهم.
هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.
وأما الثانية منهما: فالإنصاف عدم سلامة الطرق المذكورة بالنظر إليها:

(1) أي على هذا الشكل الآنف الذكر.
(2) أي وإلا ينتقل إلى الذهن هكذا فما هو بلازم.
(3) أي وإن كان لازما يكون...
(4) في النسخة المستنسخة: للتعليق..
167

أما أولها (1): فلأن مجرد مزية اختصاص معنى بفرد لا يوجب انصرافه (2) إليه عند الإطلاق.
ثم إنه على تقدير تسليمه لا يوجب إرادة كون الشرط سببا للجزاء، بأن يكون الكلام بمنزلة قوله: هذا سبب له، حتى يؤخذ بإطلاقه ويثبت به السببية المنحصرة، بل غاية ما يفيده ثبوت وصف السببية له في الجملة.
وأما ثانيها (3): فيتجه عليه أن الخطابات إنما تحمل على مجاري (4) العادات، بحيث لو كان بعض مداليلها على خلاف العادة لا تحمل عليه جدا، ومن المعلوم أن وجود السبب المذكور في القضية الشرطية بدون شيء آخر معه في العالم على خلاف العادة إن لم نقل بامتناعه، فالقضية الشرطية [ليست] على الإطلاق بالنسبة إليه، بل تنصرف على طبق العادة (5)، وهو وجوده مع شيء آخر، ويحمل عليه، ومعه لا يثبت كون الشرط المذكور في القضية هو السبب للجزاء، لعدم منافاتها حينئذ لاشتراكهما في العلة، ولا يكون المسبب هو الجزاء لصدق لزوم الجزاء للشرط على تقدير اشتراكهما في العلة، إذ لم يؤخذ في معنى اللزوم كون الملزوم مؤثرا في اللازم، وكذا على تقدير كون الجزاء هو المسبب إذا كان الشيء الآخر الموجود مع الشرط سببا لوجود الجزاء واقعا، ومع تسليم ذلك فيتجه عليه ما مر في الطريق السابق - من عدم اقتضاء ذلك لإرادة كون الشرط سببا حتى يؤخذ بإطلاقه - في إثبات انحصار السبب.
وأما ثالثها: وهو الأصل، فيتجه عليه:

(1) وهو الطريق الرابع الذي اختاره صاحب الفصول انظر: 153.
(2) وهو عبارة عن الطريق الذي ذكره، انظر: 153.
(3) في النسخة المستنسخة: فلا فيتجه.
(4) الكلمة في النسخة المستنسخة غير واضحة، فأثبتناها استظهارا.
(5) كذا في النسخة المستنسخة، والأصح في العبارة هكذا: بل تنصرف إلى ما هو على طبق العادة...
168

أولا - أنه قد يكون تحقق السبب المحتمل قيامه مقام الشرط عند انتفائه موافقا للأصل، وذلك فيما إذا كان عدميا، كما في قولك: إن لم يكرمك زيد فأهنه، فأكرمه زيد، نشك في أن عدم مدح زيد إياه - أيضا - سبب للإهانة، (وأنه على تقدير كونه سببا هل هو مدحه، أو لم يمدحه)؟ فلا يجري الأصل في نفي عدم المدح بالضرورة.
وثانيا - أن الجزاء قد يكون من الأمور العدمية، فيكون تحققه موافقا للأصل، لا انتفاؤه كما في قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» (1).
لا يقال: إنا نستفيد في تلك الموارد - مما علق فيها العدم على أمر وجودي - وجود المقتضي لقلب ذلك الجزاء العدمي إلى ما يقتضيه، وإن ذلك الأمر الوجودي من موانع ذلك المقتضي، فإذا فرض انتفاؤه وشككنا في قيام شيء آخر مقامه ننفيه (2) بالأصل، فيثبت به عدم المانع من المقتضي المذكور، فيؤثر حينئذ أثره، وهو نقيض الجزاء، ففي المثال المذكور نستفيد أن الملاقاة مع شيء نجس مقتض للتنجس وأن الكرية مانعة منه، فإذا انتفى الكرية وشككنا في قيام مانع آخر منه مقامه ننفيه بالأصل، فيؤثر المقتضي أثره.
لأنا نقول: إن الاقتضاء ليس حكما شرعيا ثابتا للشيء، وإنما هو صفة ثابتة (3) له، وليس هناك عموم دليل أو إطلاق (3) يؤخذ به في مورد الشك، فهو بمجرده لا يترتب عليه المقتضى - بالفتح - وهو التنجس في المثال المذكور،

(1) الكافي 3: 2 / كتاب الطهارة / باب الماء الذي لا ينجسه شيء / ح: 1 و 2، وفيه اختلاف يسير.
(2) في النسخة (أ) فينفيه...
(3) في النسخة (أ) (تامة)، والصحيح ما أثبتناه.
(4) في النسخة (أ) (إطلاقه...) والأقوم ما أثبتاه.
169

وإجراء الأصل في نفي مانع آخر - حتى يحرز به العلة التامة للتنجس - مثبت لا تساعد عليه أدلة اعتباره - كما حققنا في محله - فإن ترتب التنجس عليه إنما هو بواسطة أمر عقلي ثابت به وهو وجود العلة التامة اللازم من عدم قيام مانع آخر مقام الكرية.
فإن قيل: إن لازم ذلك عدم العمل بالأصل في الشبهات الموضوعية أيضا، فيما إذا شك في شرط من شروط المأمور به كما إذا شك في إطلاق الماء واحتمل صيرورته مضافا، فإن الواجب هو الوضوء بالماء المطلق، فإثبات هذا القيد له عند الشك لا يترتب عليه جواز الوضوء به شرعا، فإنه بتوسط أمر آخر.
قلنا: فرق بين المقامين لا يخفى على من له أدنى تأمل، فإن القيد المشكوك فيه هناك قد ثبت من الشارع له حكم الشرطية - وهو جواز ارتفاع ما هو متوقف على المشروط به معه، وبعبارة أخرى: جواز التطهير بالماء المتصف به - فيدخل في أدلة اعتبار الاستصحاب الدالة على ترتب الآثار الشرعية الثابتة للمستصحب واقعا.
هذا بخلاف ما نحن فيه، فإن الشارع لم يعلم جعله - لوجود المقتضي مع عدم المانع منه - الحكم المناقض للمنطوق حتى يرتب عليه عند الشك - بمقتضى إجراء الاستصحاب في إحراز جزء العلة، وهو عدم المانع - بل إنما يراد بالأصل استكشاف صدور حكم مناقض للمنطوق في مرحلة الظاهر بإجرائه في إحراز علته.
والحاصل: أنه فرق ظاهر بين إجراء الأصل لإثبات موضوع حكم الشارع له بحكم - حتى يترتب عليه حال الشك ذلك الحكم - وبين إجرائه لإحراز علة هي - على تقدير ثبوتها واقعا - موجبة لصدور ما تقتضيه من الحكم، ومن المحقق في محله أن مقتضى أدلة اعتبار الاستصحاب ليس إلا ترتب أحكام المستصحب - المفروغ عن ثبوتها له واقعا - عليه عند الشك، وأما إفادتها للبناء
170

على صدور أحكام من الشارع على مقتضى المستصحب مع الشك في صدورها منه فلا.
هذا مضافا إلى أن وجود المعلول ولو كان ذات المعلول شرعيا عند وجود علته وإن كانت جعلية (1)، إذ بعد جعلها علة تكون كالعلة العقلية لازم عقلي، وليس حكما شرعيا حتى يترتب على العلة بمقتضى إحرازها بالأصل، كما أن انتفاءه مطلقا - بانتفائها كذلك - لازم عقلي.
ومن هنا يتضح فساد إثبات نقيض المنطوق إذا كان هو وجوديا بإجراء الأصل في نفي سببه بعد انتفاء السبب المذكور في القضية الشرطية.
هذا تمام الكلام في توضيح ضعف تلك الطرق السقيمة من الجهة الأولى أيضا.
واما المتسالمان صحتهما (2) من تلك الجهة فالظاهر عدم سلامة ثانيهما - وهو دليل الحكمة - من الجهة الثانية، إذ قد عرفت أن مبتناه (3) على أظهرية السببية في الانتفاء عند الانتفاء من بين القواعد، وهي محل تأمل بل منع.
وأما أولهما فالإنصاف تماميته من هذه الجهة - أيضا - إذ قد عرفت ابتناءه على مقدمتين:
إحداهما: ظهور الأدوات في تعليق الجزاء على الشرط.
وثانيهما: أنها عند الإطلاق وعدم ذكر شرط آخر ظاهرة في التعليق التعيني، والمنصف المتأمل يلزمه تصديق
كل منهما:
أما المقدمة الثانية فلما عرفت هناك.

(1) في النسخة المستنسخة: وإن كانت جعله...
(2) في النسخة المستنسخة: وأما الملاك صحتاهما، والصحيح ما أثبتناه استظهارا.
(3) في النسخة المستنسخة: في النسخة المستنسخة: معناه..
171

وأما الأولى فلتبادر ذلك منها عرفا عند الإطلاق وعدم القرينة.
ويكشف عن ذلك التبادر أنه لو قال أحد: إن جاءك زيد فأكرمه، ثم قال: وإن لم يجئك فأكرمه - يفهم العرف التنافي بين الكلامين، ولو لا ظهور الأول في تعليق وجوب الإكرام على المجيء لما كان بينهما تناف أصلا.
ويؤيده تسمية أهل العربية لتلك الأدوات بأدوات الشرط، فإن الظاهر أن مرادهم أنها تفيد معنى الشرط، ومن المعلوم أن مادة الشرط ظاهرة في التعليق، ويقويه حكاية الاتفاق عنهم على وضعها للتعليق.
وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في ظهور الأدوات في سببية الشرط المذكور في القضية للجزاء مع تعليق الجزاء عليه، وبضميمة إطلاق التعليق يتم المطلوب، وهو دلالتها على انتفاء الجزاء بانتفاء ما ذكر من الشرط في القضية بالتقريب المتقدم، فإن كان المذكور فيها شرطا واحدا فيفيد انتفاءه بانتفائه، أو متعددا فبانتفاء الجميع، فإن قضية الإطلاق المذكور تعين المعلق عليه في تلك الأمر والمتعددة الذكورة في القضية بالإضافة إلى غيره مما لم يذكر فيها وإن كان مقتضى تعدد المذكور فيها بدلية كل من تلك الأمور عن الآخر.
ثم إن القول بإفادة الأدوات للانتفاء عند الانتفاء وضعا من باب الالتزام يستفاد من صاحب المعالم (1) - قدس سره - واختاره غيره - أيضا - على ما حكى عنه، واحتج عليه: بأن قولنا: - إن جاءك زيد فأكرمه - بمنزلة قولنا: - الشرط في وجوب إكرامه مجيئه إياك - فكما أن ذلك يفيد (2) الانتفاء عند الانتفاء فكذا هذه.
وأورد (3) عليه تارة: بأن ظهور ذلك [في] انتفاء الإكرام بانتفاء المجيء إنما
172

هو لأجل تعريف المبتدأ - وهو قولك: الشرط - فإنه يفيد انحصار الخبر في المبتدأ، ولازمه الانتفاء عند الانتفاء.
وفيه: أنه لو قيل: - شرط في وجوب إكرام زيد مجيئه إياك - يفيد ذلك - أيضا - عرفا، فلا يكون متوقفا على تعريف المبتدأ.
وأخرى: بأن مادة الشرط ظاهرة في الشرط الأصولي، فهو يفيد الانتفاء عند الانتفاء من باب التضمن، ومقتضى قياسه ما ذكره من المثال عليه كونه مفيدا له كذلك، مع أنه لا يقول به، فإنه ليس من باب المفهوم المتنازع فيه.
وقد يجاب عن ذلك تارة: بأن تنظيره المثال عليه ليس ناظرا إلى جميع حيثيات المقيس عليه. بل إنما هو بالنظر إلى جهة دلالته على الانتفاء عند الانتفاء.
وأخرى: بأن مادة الشرط ظاهرة عرفا في السببية المنحصرة الملزومة للانتفاء عند الانتفاء، فلا يخالف المقيس مع المقيس عليه.
وفيه ما عرفت سابقا من أنها ظاهرة في مجرد التعليق لا السببية، فكيف بإفادتها الانحصار أيضا؟ هذا مع ما عرفت من أن انحصار السبب لا يوجب إثبات ظهور المصطلح ().
وقد يورد عليه - أيضا - بأن مادة الشرط ظاهر في التعليق على وجه الانحصار والتعيين، وهو عين الانتفاء عند الانتفاء في المعنى، فتكون دالة عليه بالمنطوق وبالمطابقة - أيضا - فيخالف المقيس عليه، ويتضح جوابه عما مر، والحق أن قياسه ما ذكره من المثال على مادة الشرط في محله وأنه ظاهر فيما يظهر منها. وأما كون ذلك من جهة الوضع فمشكل حتى في مادة الشرط، بل لا يبعد كون ذلك في كليهما لأجل ظهور الإطلاق في التعليق التعيني الملزوم للانتفاء عند
173

الانتفاء.
وهذا خلاصة الكلام في المقام، والصلاة والسلام على محمد وآله البررة الكرام.
وينبغي التنبيه على أمور.
الأول:
المفهوم إنما هو رفع المنطوق، وهو نقيضه، لا الأمر الوجودي المنافي له، وهو ضده - كما ربما يتوهم - والضابط [في] () أخذه بقاء القضية على حالها بجميع الاعتبارات والقيود الملحوظة فيها في طرف المنطوق، التي يرد عليها النفي في المنطوق، إن كان قضية سالبة، أو الإثبات إن كان قضية موجبة، سواء كانت تلك القيود من القيود الراجعة إلى الشرط أو إلى الجزاء، وسواء كان القيد الراجع إلى أحدهما أيضا شرطا أو وصفا أو حالا أو غيرها من القيود، وسواء كانت تلك الاعتبارات من قبيل العموم والخصوص في أحدهما أو كليهما، أو من قبيل الإطلاق والتقييد كذلك، إلا إذا كانت تلك الاعتبارات حاصلة من النفي أو الإثبات في طرف المنطوق، ثم تغييره من حيث كيفية الإيجاب والسلب، فإن كانت الجملة الشرطية والجزئية كلتاهما موجبتين فتنتقلان إلى سالبتين، أو سالبتين فإلى موجبتين، أو كانتا مختلفتين فكل واحدة إلى نقيضها، ثم ينظر إلى أن مفاده مع هذا التغيير ما ذا؟ فما استفيد منها حينئذ هو المفهوم، وهو واضح لا غبار عليه بوجه، إلا أنه قد يقع الاشتباه في بعض الاعتبارات من حيث كونها مما اعتبرت في جانب المنطوق حتى يعتبر في طرف المفهوم - أيضا - أولا، فلا يعتبر فيه.
منها: العموم البدلي في الشرط أو الجزاء أو في شيء من متعلقاتهما إذا لم يكن بواسطة أداة العموم البدلي بكلمة (أي)، بل بواسطة وقوع الطبيعة في حيز الإثبات.
174

ومنها: العموم الاستغراقي في أحدهما أو في شيء من متعلقاتهما إذا لم يكن بواسطة أدوات العموم، بل من جهة وقوع الطبيعة في حيز النفي، لكن لا ينبغي التأمل في أن الملحوظ في مورديهما إنما هو نفس الطبيعة لا غير، وإنما عرض ذلك العمومان فيها من جهة نفي الطبيعة أو إثباتها.
وبعبارة أخرى: إنهما من لوازم نفي الطبيعة من حيث هي، أو إثباتها كذلك عقلا من غير تعلق القضية بهما من المتكلم في ذلك الكلام، بأن يكونا مرادين له منه، بل المراد منه إنما هو نفس الطبيعة لا غير، فعلى هذا فلا بد من إبقائهما في جانب المفهوم واعتبار نفس الطبيعة من حيث هي فيه، فإنها هي التي قد لوحظت في جانب المنطوق، ولذلك قيدنا القيود والاعتبارات بما يرد عليها النفي أو الإثبات في المنطوق.
ومن هنا يظهر أن مفهوم قولنا: - إن جاءك زيد فأكرم عالما - يخالف مفهوم قولنا: - إن جاءك زيد فأكرم أي عالم - وكذا يخالف مفهوم قولنا: - إن جاءك زيد فلا تكرم عالما - مثلا مفهوم قولنا: إن جاءك زيد فلا تكرم العلماء أو كل عالم.
أما الأولان: فلأن الملحوظ في الجزاء في أولهما لما كان نفس الطبيعة من حيث هي في جانب المنطوق فيكون المأخوذ في جانب المفهوم - أيضا - هي كذلك، ولما كان المنطوق موجبا فيكون المفهوم منفيا، ولازم نفي الطبيعة من حيث هي انتفاء جميع أفرادها على نحو الاستغراق، فيكون المفهوم عموم سلب الجزاء عند انتفاء الشرط، هذا بخلاف الثاني منهما، إذ الملحوظ في الجزاء فيه في جانب المنطوق إنما هي الأفراد على نحو
العموم البدلي، فيكون المأخوذ في جانب المفهوم هي - أيضا - كذلك.
ومن المعلوم أن نفيها كذلك لا يستلزم عموم نفي الجزاء عنها على نحو الاستغراق، لتحققه بنفيه عن خصوص بعض الأفراد - أيضا - كما لا يخفى،
175

فيكون المفهوم حينئذ هو سلب ذلك العموم الأعم من عموم السلب.
وأما الثانيان: فلأن الملحوظ في أولهما - أيضا - لما كان نفس الطبيعة من حيث هي (1) وكان المنطوق نفي الجزاء عنها كذلك عند وجود الشرط وكان العموم بالنسبة إلى أفرادها من لوازم وقوعها في حيز النفي - كما عرفت - فيكون المأخوذ في طرف المفهوم - أيضا - هي كذلك، فيكون مفهومه إثبات الجزاء لها كذلك عند انتفاء الشرط ومن المعلوم أن ذلك يتحقق بإثباته لها بالنسبة إلى بعض أفرادها أيضا، فيكون المفهوم إثباته لها على نحو القضية المهملة الصادقة بالجزئية، فلا عموم فيه أصلا.
هذا بخلاف الثاني منهما، إذ الملحوظ فيه في طرف المنطوق إنما هي الأفراد على نحو الاستغراق، بمعنى أن المقصود إنما هو نفي الجزاء عن كل واحد واحد عند وجود الشرط.
وبعبارة أخرى: إن موضوع الحكم إنما هو كل واحد واحد منهما على نحو الاستقلال، بحيث يكون تلك القضية الواحدة في مقام قضايا متعددة، وبمقدار تعدد الأجزاء، نظرا إلى أن الظاهر من أدوات العموم إنما هي السورية للقضية - كما سيأتي تحقيقه لا الموضوعية - فيكون الموضوع هذا الفرد أو ذاك وذلك وهكذا، فيكون القضية في مقام قولنا: لا تكرم زيدا - مثلا - ولا تكرم بكرا، ولا تكرم

(1) إذ النكرة أيضا طبيعة، فإنها هي الطبيعة الملحوظة فيها فردها، وهي ليست بفرد.
وبعبارة أخرى: إنما () هي حصة من الطبيعة اللا بشرط محتملة لحصص كثيرة: منها إطلاقها على كل واحدة منها على حد سواء، وحكمها حكم الطبيعة اللا بشرط من حيث كفاية أخذ الأفراد في كل منهما في جانب الوجود وتوقف انتفاء كل منهما على انتفاء جميع الأفراد. منه طاب ثراه.
176

خالدا، وهكذا، فيكون المفهوم فيه إثباته لكل واحد واحد منها عند انتفائه، بمعنى إثباته لهذا الفرد وذلك إلى غير ذلك، فيكون موجبة كلية، ومن هنا ظهر أن مفهوم قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» () إنما هو الموجبة المهملة الصادقة بالجزئية، لا الموجبة الكلية، فيكون مفهومه: إذا لم يبلغ الماء قدر كر ينجسه شيء، لا أنه ينجسه كل شيء.
الثاني:
قد عرفت أن المفهوم إنما هو رفع المنطوق، لكنهم بعد اتفاقهم على ذلك اختلفوا في بعض الموارد فيما يتحقق به الرفع، وذلك فيما إذا كان المنطوق عاما من حيث الشرط أو الجزاء أو من كلتا الجهتين، فاختلفوا في أن رفع عموم ذلك العام، سواء كان هو الشرط أو الجزاء أو كلاهما، هل هو بسلب العموم الأعم من عموم السلب أو بعموم السلب خاصة؟ فذهب إلى كل فريق، وجعلوا من فروعه قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء... إلخ»، بالنظر () إلى كون الجزاء فيه عاما، فمن ذهب إلى الأول جعل مفهومه مهملة، ومن ذهب إلى الثاني جعله موجبة كلية، لكن سيأتي ما في هذا التفريع، وتقدم وجهه في الأمر السابق.
وكيف كان، فمنشأ ذلك الخلاف - وإن لم يذكره أحد منهم فيما نعلم، لكن الذي يقتضيه التأمل ودقيق النظر أنه لا بد أن يكون هو الاشتباه فيما هو الملحوظ في المنطوق في مقام التعلق ()، فإنه إذا كان متعلق الفعل المجعول شرطا أو جزاء عاما، فإن كان الملحوظ - حينئذ - في مقام التعلق () هو عمومية ثبوته
177

لأفراد متعلقه - بمعنى جعل المتكلم الشرط أو الجزاء المعلق على الشرط هو ذلك، لا نفس ثبوته لكل واحد واحد من آحاد متعلقه - فمن المعلوم ارتفاع تلك العمومية بالجزئية وكفايتها في رفعها، ضرورة منافاتها لها، فلا بد أن يكون المفهوم هو سلب العموم لا غير، وإن كان الملحوظ نفس ثبوته لكل واحد من آحاد متعلقه على نحو الاستقلال، بأن يكون أداة العموم ثابتة لها في الكلام لمجرد السورية وسهولة اللفظ، فيكون القضية الواحدة في مقام قضايا جزئية متعددة بتعدد متعلق آحاد ذلك الفعل، فيكون قوله (1): إن جاءك زيد فأكرم العلماء أو كل عالم - مثلا - في مقام: إن جاءك زيد فأكرم عمرا العالم، وخالدا العالم، وبكرا العالم، وهكذا، إذ لا ينبغي الارتياب أن الرفع حينئذ لا يكون إلا برفع ذلك الفعل عن كل واحد واحد من آحاد متعلقه، فإن المرفوع عن بعضها إنما هي صفة العمومية الغير الملحوظة في مقام التعلق () في جانب المنطوق بالفرض.
وبعبارة أخرى: إنه لا بد في أخذ المفهوم من رفع ما هو ثابت في المنطوق، فإذا فرض أن الثابت فيه إنما هو إكرام زيد وإكرام بكر وإكرام خالد وهكذا، فيتوقف رفعه على نفيه عن زيد وعن بكر وعن خالد وهكذا.
وبعبارة ثالثة: لو قيل - مقام قولنا: أكرم العلماء -: أكرم زيدا، وأكرم عمرا، وأكرم بكرا، وأكرم خالدا، وغير ذلك [لكان] () هنا قضايا متعددة، ومن المعلوم أنه إذا كان الجزاء قضايا متعددة فكل واحدة منها مجعولة جزاء على نحو الاستقلال من غير اعتبار الضميمة أصلا، فلا بد أن ينتفي كل واحدة واحدة بانتفاء الشرط، إذ تحقق واحدة منها حينئذ ينافي تعليقها على الشرط على الوجه

(1) هذا مثال لما إذا كان الجزاء عاما، ومنه يظهر الحال فيما إذا كان الشرط كذلك، وكذا فيما إذا كان كلاهما كذلك. منه طاب ثراه.
178

المذكور، فلا يكفي في رفع الجزاء، بل لا بد من الكلية، فيكون رفعه متوقفا على عموم السلب، فإذا كان ذلك منه متوقفا على عموم السلب، فكذلك ما هو بمنزلته - وهو قولنا: أكرم العلماء - لعدم صلاحية تعدد اللفظ واتحاده للفرق، إذ مبنى التوقف عليه - كما عرفت - إنما هو على تعليق إكرام كل واحد واحد من افراد العلماء على نحو الاستقلال، بمعنى تعليق خصوص إكرام زيد على الشرط، وكذا تعليق خصوص، إكرام عمرو عليه، وهكذا، فإن ثبوت إكرام واحد منها حينئذ عند انتفاء الشرط ينافي تعليقه عليه على الوجه المذكور.
وبالجملة: لا محيص لأحد عن ذلك الذي ذكرنا، ولا أظن بأحد إنكاره ممن له مسكة، فكيف بأولئك الأعلام؟ فالحاسم للإشكال - حينئذ في المقام - هو التأمل التام في تشخيص ما هو الملحوظ في جانب المنطوق، فيتبع حكمه.
والظاهر أن الغرض من وضع أدوات العموم إنما هو سهولة اللفظ والتعبير عن أفراد مدخولها في مقام إرادة تعليق حكم على كل واحد واحد من أفراد مدخولها على نحو الاستقلال، وأن الغالب في المحاورات - أيضا - الإتيان بها لأجل ذلك الغرض، فهي بملاحظة تلك العلة ظاهرة في مجرد السورية للقضية إذا لم يكن قرينة صارفة لها عن ذلك، فعلى هذا فيكون الظاهر في المقام أن الملحوظ في مرحلة التعليق هو نفس ثبوت المجعول شرطا أو جزاء لكل واحد واحد من أفراد متعلقه، لا عمومية ثبوته لها، فيكون أدوات العموم لمجرد السورية، لا الموضوعية، فيظهر بملاحظة ذلك أن المفهوم في المقام - حينئذ - إنما هو عموم السلب خاصة (1).

(1) لا يقال: إن الذي اخترتموه مخالف لما اتفق عليه أهل الميزان من أن نقيض الموجبة الكلية هي السالبة الجزئية، ونقيض السالبة الكلية هي الموجبة الجزئية، فإن معنى ذلك أن رفع العام إنما هو بسلب العموم، لا بعموم السلب.
لأنا نقول: نحن نسلم أن نقيض كل من الموجبة والسالبة الكليتين إنما هي الجزئية المخالفة
لهما في الكيفية، لكن المعتبر في مقام أخذ المفهوم ليس أخذ نقيض المنطوق فحسب، بل لا بد فيه من رفع ما لوحظ في المنطوق في مقام التعلق، فإذا فرض أن الملحوظ أمور متعددة كل واحدة على نحو الاستقلال فلا بد من رفعها في جانب المفهوم أيضا كذلك، منه طاب ثراه.
179

ثم إن قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كر..... إلخ» () قد عرفت أن الملحوظ في الجزاء فيه إنما هو انتفاء التنجس بواسطة الكرية عن الماء مع ملاقاته للشيء المطلق، وهي الطبيعة الغير الملحوظة فيها خصوصية شيء من الأفراد وعمومها، فلا يكون الملحوظ في الحديث كل واحد واحد من أفراد الشيء الملاقي للماء ولا عمومية عدم التنجس بالنظر إليها، فلا ربط له بالمقام المتنازع فيه أصلا.
نعم لما كان الملحوظ فيه في طرف المنطوق هي الطبيعة مع فرض انتفاء تأثيره فيما يلاقيه لوجود الشرط يكون () مفهومه تأثيره فيما يلاقيه بانتفائه، وذلك يتحقق بالجزئية من غير توقف على الكلية أصلا، فيوافق في الثمرة القول بأن المفهوم - في المقام المذكور - هو سلب العموم. هذا.
أقول: النكرة المنفية وإن كانت ظاهرة بالنظر إلى الوضع الإفرادي الأولي في إرادة أصل الطبيعة - وهي
الحصة المنتشرة - لكن لا يبعد دعوى ظهورها عرفا في إرادة الأفراد على نحو الاستغراق. بمعنى تعلق الإرادة الأولية بها كذلك لا التبعية الثانوية، بل الذي يقتضي به التأمل في المحاورات ذلك، فإن المتبادر من قوله: لا تكرم أحدا - ابتداء ومن غير توسط ملاحظة ورود النفي على الطبيعة - إنما هو إرادة عدم إكرام كل واحد واحد من آحاد الرجال، بحيث يكون ذلك القول في مقام قضايا، جزئية متعددة بتعدد الأفراد.
180

والحاصل: أن الإنصاف أن المتبادر من النكرة المنفية هو المتبادر من سائر ألفاظ العموم من دون فرق أصلا، والمراد منها عرفا هو المراد من غيرها وهي الأفراد على وجه الاستغراق، ثم الظاهر منها هي السورية (1) كسائر أدوات العموم، فإنها بمنزلة (لا) التي لنفي الجنس مع مدخولها لعدم الفرق عرفا بين قولنا: لا شيء من الإنسان بحجر - مثلا - وقولنا: ليس أحد من الإنسان بحجر.
فمن هنا يتجه دعوى أن مفهوم قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» () هو عموم السلب خاصة.
ثم إنه لا بأس بالتعرض على نحو الإجمال للحديث () المذكور وتوضيح ما هو الظاهر منه.
فاعلم: أن المراد بالشيء الظاهر أنه هو المقتضي للتنجيس، لا كل شيء، إذ لا معنى لتعليق عدم تنجس () الماء بملاقاة ما لا يقتضي التنجيس على بلوغه حد الكر، فإن عدم تنجسه بملاقاته - حينئذ - غير متوقف على بلوغه حد الكر، بل هو حاصل في نفسه من غير توقف على سبب من الأسباب، لكفاية عدم كون ذلك الشيء مقتضيا للتنجيس في بقاء طهارته وعدم تنجسه به.

(1) اعلم أن سورية ألفاظ العموم لا تختص بالقضايا، بل تجري في غيرها من الجمل الإنشائية، فإنها إنما يؤتى بها لأجل ضبط موضوع الحكم - عند تنكيره - على وجه الاختصار تسهيلا، سواء كان ذلك الحكم إنشاء أو إخبارا، فلا تغفل. منه طاب ثراه
181

ثم إن المراد عدم تنجس الماء إذا بلغ قدر كر بملاقاته مع المقتضي للتنجيس، بمعنى أن المعلق على بلوغه حد الكر إنما هو عدم تنجسه بملاقاته مع المقتضي له، لا عدم تنجسه بمجرد وجود المقتضي له ولو مع عدم الملاقاة، ضرورة عدم توقف التنجس مع عدم الملاقاة على سبب.
والمراد بالماء الظاهر أنه طبيعة الماء الغير الملحوظ فيها شيء من أفرادها أصلا، فيكون معنى منطوق الحديث - على ما استظهرناه - أن طبيعة الماء إذا بلغت مقدار كر لم ينجسها شيء مما يقتضي التنجيس عند الملاقاة، وأما مفهومه فقد عرفت في الحديث الشريف على عمومية السلب في مفهومه وهكذا في أمثاله ولو مع البناء على أن المفهوم هو سلب العموم إذا كان المنطوق عاما، وذلك لأنه إذا يلي العام جملة الجزاء - كما في الحديث المذكور - فلا بد أن يكون الشرط سببا لعموم حكم الجزاء لا محالة، فإنه أول مرتبة سببيته للجزاء وأول مرتبة تعليقه عليه، بحيث لو لم يعلق عليه هذا المقدار - أيضا - خرج عن كونه معلقا عليه بالمرة، مع أن الكلام نص في كونه معلقا عليه الجزاء في الجملة، ومقتضى إطلاق تعليق عموم حكم الجزاء عليه وعدم ذكر شيء آخر معه انحصار التعليق فيه، بمعنى كونه هو المعلق عليه عموم الجزاء لا غير، وهذا لا يكون إلا مع كون السبب للجزاء في كل مورد هو ذلك المذكور في الكلام لا غير، بأن يكون المانع عن التنجيس - في كل مورد من الموارد ملاقاة الماء للمقتضى له - منحصرا فيه، إذ لو كان السبب المؤثر في الجزاء في بعض الموارد هو وغيره لزم أن لا يكون هو وحده سببا لعموم حكم الجزاء، بل هو مع ذلك الغير - يعني المركب منهما - وقد فرضنا أن الكلام بمقتضى الإطلاق ظاهر في حصر سبب العموم فيه، فيثبت بذلك أن المؤثر - والمعلق عليه حكم الجزاء - في كل مورد إنما هو ذلك الذي ذكر في الكلام، فلا بد أن يكون الرفع في جانب المفهوم بالنظر إلى كل مورد - أيضا - وليس هذا إلا عموم سلب حكم الجزاء الثابت في
182

المنطوق.
وربما يختفي الفرق بين الحديث الشريف ونحوه وبين سائر الأمثلة، نظرا إلى أن الداعي للبناء على سلب العموم في المفهوم إذا كان المنطوق عاما إنما هو قيام احتمال أن يكون الشرط المذكور في الكلام هو الجزء الأخير للعلة التامة لعموم حكم الجزاء في المنطوق، بأن يكون سببه في بعض الموارد غير ذلك المذكور، ويكون ذلك سببا له في بعض آخر من الموارد، ويجب إذا صار ذلك سببا في ذلك المورد، ويتحقق سبب حكم الجزاء () في كل مورد، فيسأل حينئذ عن الفرق فيما ذكرنا وغيره من الأمثلة، من أن ما ذكر في الدليل على رفع ذلك الاحتمال فيه يجري في غيره من الأمثلة - أيضا - فإذن لا بأس بالإشارة الإجمالية إلى الفارق بين المقامين إزالة للشبهة عن البين:
فاعلم أن المتكلم قد يكون في مقام بيان ما تعلق بالأمور الكلية بحيث ليست الجزئيات الحقيقية مطوية في نظره بوجه - كما في الحديث المذكور وما يليه من هذه الجهة - وقد يكون في مقام بيان ما تعلق بالجزئيات الحقيقية، بحيث ليست المطوية في نظره، إلا هي، وفي المقام الثاني يمكن وجود المقتضي للحكم فعلا في بعض الخصوصيات حال التكلم، فيجعل المتكلم الشرط المذكور في الكلام حينئذ مقتضيا له في البعض الآخر منها، الفاقد لما يقتضيه حال التكلم، فيكون ذلك المذكور وحده هو الجزء الأخير للعلة التامة لعموم الحكم بالنسبة إلى كل مورد.
هذا بخلاف المقام الأول، لامتناع تحقق المقتضي له في الكليات قبل وجودها في الخارج، فضلا عن تحققه فيها على التدريج إلى حال التكلم، ضرورة
183

أن وصف الاقتضاء من عوارض المقتضي، فيمتنع اتصاف تلك الكليات بكونها مقتضية فعلا قبل تحققها في الخارج، فاستناد السببية أو المانعية إليها مؤول إلى القضية الفرضية، فيجب على المتكلم إذا كان في مقام البيان في ذلك المقام التنبيه على المقتضى الآخر للحكم لو لم ينحصر المقتضي في ذلك المذكور في الكلام، خصوصا إذا كان هو الشارع الحكيم، وخصوصا إذا كان الخطاب مرجعا للغائبين عن مجلس الخطاب، بل للمعدومين في زمان الخطاب الذين يوجدون بعده - أيضا - فإذا لم ينبه () - ولم يذكر سببا آخر - يفيد () ذلك انحصار المقتضي في ذلك في كل مورد، إذ لولاه لما كان هو وحده سببا لعموم الحكم، وقد فرض أن ظاهر الخطاب - بالتقريب المذكور - انحصاره فيه، فيلزمه عموم السلب في جانب المفهوم بالتقريب المتقدم.
والحاصل: أن الفارق بين المقامين إنما هو جريان قاعدة قبح الخطاب بلا بيان في أولهما دون الثاني، إذ من المعلوم عدم قبح إيراد الخطاب مطلقا مع كون المراد هو المقيد في الواقع إذا كان القيد حاصلا حال الخطاب، فإذا فرضنا أن المقتضي لحكم الجزاء هي الأمور الجزئية، مثل مجيء زيد، وقيام عمرو، وقدوم بكر، وهكذا، وفرضنا أن وجوب إكرام العلماء - مثلا - غير معلق واقعا على خصوص مجيء زيد، بل عليه وعلى قيام عمرو وقدوم بكر بحيث يكون السبب لوجوب إكرام العلماء على وجه العموم هو مجموع الثلاثة من حيث المجموع، وفرضنا - أيضا - تحقق الأخيرين حال التكلم، فيصح أن يقال حينئذ: - إن جاءك زيد فأكرم العلماء - من غير شائبة قبح فيه أصلا، فلا يصح التمسك حينئذ بإطلاق النسبة وتعليق () عموم وجوب الإكرام على مجيء زيد على انحصار سبب عمومه
184

فيه ليترتب عليه انتفاء الاحتمال المانع من المصير في المفهوم إلى عموم السلب، فتدبر.
إعلام: قد نقل عن بعض (): أنه إن كان سور القضية الكلية في المنطوق كلفظي (كل) و (لا شيء)
فالظاهر () أن المفهوم حينئذ سلب العموم، فيكون في الأول سالبة مهملة، وفي الثاني موجبة كذلك، وأما لو كان غيرهما من ألفاظ العموم كالجمع المحلى والنكرة المنفية وغيرهما، فالحق أنه على عموم السلب.
انتهى.
وفيه: أنه لا فرق بين المقامين بوجه، فإن سائر ألفاظ العموم قائمة مقام لفظي (كل) و (لا شيء) فلا بد أن يكون المفهوم في الكل شيئا واحدا: إما سلب العموم، أو عموم السلب. نعم القضية المصدرة بهما في كونها موجبة كلية أو سالبة كذلك أظهر منها إذا صدرت بغيرهما من ألفاظ العموم، فالتفاوت بينهما وبين سائر الألفاظ إنما هو بالأظهرية والظهور، وكذا بين مفهوميهما لكونهما تابعين للمنطوقين الذين أحدهما أظهر.
هذا خلاصة الكلام فيما يتعلق بالحديث المذكور من القواعد الأصولية، فإذن لا بأس بالإشارة الإجمالية - أيضا - إلى بعض الموارد الفقهية:
فاعلم أن الموارد المستدل عليها بذلك الحديث على ما في بالنا الآن ثلاثة مواضع، فلنقتصر على ذكرها لعدم المعرفة الآن بغيرها من تلك الموارد.
فالأول منها: مسألة اعتبار الكرية في الماء الجاري كالراكد في عدم انفعاله بملاقاته للنجاسة وعدمه، فاختلفوا فيها على قولين:
فذهب العلامة () - قدس سره - إلى اعتبار الكرية فيه وجعله كالراكد،
185

محتجا بعموم لفظ الماء في الحديث، فيكون مفهومه: كل ما لا يبلغ حد الكر ينجسه شيء أو كل شيء مما يقتضي التنجيس، فيشمل الجاري الغير البالغ إلى حد الكر.
وذهب الأكثرون () إلى عدم اعتباره فيه.
وحجتهم على ما ذكره صاحب المدارك () - قدس سره - أنه ليس في المقام ما يدل على العموم، إذ المفرد المعرف للجنس، لا له. انتهى.
والأظهر هو الأول، فإن المفرد المعرف وإن لم يكن للعموم بالوضع إلا أنه يفيده إذا كان المقام مقام البيان، كما هو الظاهر في مورد الحديث.
ثم إن ذلك لا يتوقف على كون المفهوم هو عموم السلب لكفاية الموجبة الجزئية للعلامة - قدس سره - قبال الأكثرين من المدعين للسلب الكلي والثاني منها: مسألة تنجس () الماء القليل بمجرد ملاقاته للنجاسة وعدمه به - بل يتوقف على تغيره به بأحد أوصافها الثلاثة - فالمشهور على الأول، والمحكي عن العماني () - قدس سره - هو الثاني.
حجة المشهور مفهوم الحديث مع دعوى عموم الماء، ويكفيهم ذلك في مقابل العماني، مع عدم عموم السلب في المفهوم - أيضا -.
وأما حجة العماني فكأنه أصالة الطهارة واستصحابها بعد منع إرادة المفهوم في الحديث لمعارضته لمنطوق أخبار كثيرة.
والثالث: مسألة نجاسة الغسالة بملاقاتها للنجاسة وعدمها، فاختلفوا فيها على ثلاثة أقوال:
186

ثالثها: التفصيل بين ما إذا كانت النجاسة واردة على الماء فينفعل بها، وبين العكس فلا.
وقد أجاب عنه السيد بحر العلوم - قدس سره - في المفاتيح () على ما حكي عنه - بعد تسليم أن مفهوم الحديث المذكور هي الموجبة الجزئية لعموم لفظ الشيء الوارد فيه - بتقريب: أنه في جانب المنطوق [شامل] () لصورتي ورود النجاسة على الماء والعكس، فيكون المفهوم: أنه إذا بلغ الماء قدر كر ينجسه شيء () من النجاسات سواء كان ذلك الشيء واردا عليه أو مورودا، وهذا مع جزئيته يكفي في المطلوب، انتهى.
ويتجه عليه: أن النكرة المنفية إنما هي للعموم الأفرادي لا الأحوالي، إذ ورود النفي عليها يقتضي العمومية بالنسبة إلى أفراد الطبيعة المرادة منها، ومن المعلوم أن أفرادها إنما هي ذوات النجاسات لا أحوالها.
اللهم إلا أن يدعى عمومها بالنسبة إلى الأحوال من جهة إطلاق اللفظ وتجريده عن ذكر القيد مع كون المقام مقام البيان، فيتجه القول به لذلك، كما يقول بالعموم في لفظة الماء - أيضا - لذلك، ويقويه أن مورد السؤال في الحديث خاص، حيث إن السائل سأله عليه السلام عن الماء الراكد المكيف بكيفيات مخصوصة، فأجابه عليه السلام على وجه الإطلاق، فإنه لو كان في مقام بيان حكم مورد السؤال فقط لأجابه على طبقه، فإطلاقه دال على عموم الحكم موضوعا ومحمولا شرطا وجزاء.
هذا، وكيف كان، فالاستدلال بالحديث الشريف لا يتوقف على عموم
187

السلب في مفهومه في شيء من الموارد الثلاثة، بل يكفي سلب العموم الذي هو في قوة الجزئية، مع ما ضموا إليه في بعض تلك الموارد، كالأول والثالث منها، وهو عموم الماء في المنطوق في الأول وعموم الشيء بالنسبة إلى الحالتين المذكورتين فيه في الثالث، فافهم.
تتميم مقال:
ما ذكرنا من أن المفهوم إنما هو عموم السلب إذا كان المنطوق عاما فيما إذا كان العام مقدما - على الشرط إذا كان موضوع الشرط عاما، أو على الجزاء إذا كان موضوعه كذلك أظهر منه فيما إذا كان مؤخرا عن الشرط أو عن الجزاء، وذلك كقولنا: كل عالم أو أي عالم إن جاءك فأكرمه، وكقولنا: إن جاءك زيد فأي عالم أو كل عالم أكرمه، حيث إن الكلام في صورة عموم موضوع الشرط كالنص في استقلال كل واحد واحد من أفراد العام في سببيته لترتب الجزاء عليه، وكذا في صورة عموم موضوع الجزاء، فإنه حينئذ () كالنص في أن المعلق على الشرط - مثلا - إكرام كل واحد واحد من العلماء وكذلك بنى شيخنا الأستاذ - قدس سره - على عموم السلب في صورة تقدم العام، مع بنائه على سلب العموم في صورة التأخر، وذلك لا يختص بلفظي (كل وأي) بل يجري في سائر ألفاظ العموم، وفيهما - أيضا - إذا ضممنا معنى الشرط عند إضافتهما إلى النكرة، كقولك: كل عالم جاءك أو أي عالم جاءك، فلا تغفل.
إيقاظ:
إذا قيد متعلق الجزاء في جانب المنطوق بقيد من القيود التي لها مفهوم إذا وردت في كلام مستقل كالشرط، والغاية، والاستثناء، والوصف - على القول بإفادته للمفهوم -، كما إذا قيل: إن جاءك زيد فأكرم العلماء إن كانوا عدولا، أو فأكرمهم إلا عمرا، أو فأكرم العلماء العدول، فلا مفهوم لشيء من تلك القيود حينئذ، إذ الغرض منها حينئذ إنما هو مجرد تشخيص متعلق الجزاء
188

وموضوعه من غير نظر إلى تعليق حكم عليها في المنطوق حتى يكون مقتضى ذلك [انتفاء] الحكم - أيضا - في جانب المفهوم، فإنا إنما نأخذ المفهوم من القضية لأجل تعليق الحكم المذكور فيها في جانب المنطوق على القيد المذكور فيها في المنطوق، فإذا فرض اشتمالها على قيد لم يعلق عليه الحكم المذكور فيها ولا غيره فلا يعقل المفهوم بالنسبة إلى ذلك القيد بوجه بالنسبة إلى ذلك الحكم المذكور، ولا بالنسبة إلى غيره من الأحكام، إذ
قولنا: - إن جاءك زيد فأكرم العلماء إلا عمرا - لم يقصد منه تعليق وجوب إكرام غير عمرا من العلماء على مجيء زيد، ومقتضاه انتفاء وجوب إكرام غير عمرو من العلماء بانتفاء مجيء زيد إذ عدم وجوب إكرام عمرو أو وجوبه، لم () يعلق شيء منهما على ذلك الشرط حتى يقتضي انتفاؤه انتفاءه، فيكون مفهومه ثبوت نقيض الحكم المعلق عليه في جانب المنطوق.
ومن هنا ظهر اندفاع ما لعله يتوهم من أن قولنا: - أكرم العلماء إلا عمرا - يفيد حكمين: أحدهما وجوب إكرام غير عمرو، وثانيهما عدم وجوب إكرام عمرو، فإذا علق ذلك على شرط فقد علق عليه هذان الحكمان المستفادان منه في غير مقام التعليق، فيكون المعلق على مجيء زيد في المثال المتقدم عدم وجوب إكرام عمرو - أيضا - فيكون [مفهوم] () المثال المذكور انتفاء عدم وجوب إكرام عمرو - أيضا - فيثبت إكرامه بانتفائه، لأن عدم عدم الوجوب عين الوجوب، وهكذا الحال فيما إذا علق على غير الشرط من سائر القيود.
وتوضيح الاندفاع: أنه فرق بين بين ذكر القول المذكور مستقلا - بمعنى عدم تعليقه على قيد - وبين ذكره معلقا على قيد، إذ الظاهر منه في الأول أن القيد المأخوذ فيه إنما جيء به لإخراج غير مورده عن حكم العام، هذا بخلافه في
189

الثاني، فإنه قيد ظاهر أو صريح في أن الغرض من القيد المأخوذ فيه إنما هو مجرد تشخيص موضوع الحكم المتعلق بالعام وتميزه عن غيره، لا إخراج غير مورده عن ذلك الحكم.
نعم هذا مستلزم لإخراجه عن ذلك الحكم - بوصف تعليقه على الشرط المذكور - لا عن سنخ ذلك الحكم رأسا، فغاية ما يستفاد من هذا الكلام أن وجوب إكرام عمرو على تقديره غير معلق على ذلك الشرط، وهو مجيء زيد، فلا ينافي عدم وجوب إكرامه عند عدم مجيء زيد، وقس على ذلك الكلام في سائر القيود، لاتحاد وجه الدفع في الكل، فلا تغفل.
الثالث:
إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء اتحادا نوعيا أو شخصيا، فإن كان ذلك في كلام واحد كان مقتضاه () سببية كل واحد من تلك الشروط المذكورة فيه للجزاء على البدل وانتفاؤه بانتفاء الجميع، وأما إذا كان في خطابات متعددة - بأن علق الجزاء في كل منها على شرط غير ما علق عليه في الآخر - فيقع التعارض حينئذ بين مفهوم كل من تلك الخطابات وبين المنطوق الآخر، إذ مقتضى كل منها سببية الشرط المذكور فيه للجزاء وترتبه عليه إذا وجد، وانتفاؤه بانتفاء ذلك الشرط مطلقا، سواء () وجد شيء آخر، أو لا.
ومن المعلوم أن إطلاق الانتفاء عند الانتفاء في كل منها بالنسبة إلى صورة وجود الشرط المذكور في الآخر ينافي سببية ذلك الشرط المستفاد من منطوقه، وأيضا يقع التعارض بينها بحسب المنطوق فيما إذ اتحد الجزاء شخصا، إذ مقتضى كل منها سببية الشرط المذكور فيه للجزاء فعلا، بمعنى كونه بحيث يترتب عليه الجزاء متى وجد ويؤثر فيه كذلك، ومن البديهي أنه لا يعقل تأثير أسباب متعددة
190

في واحد شخصي على نحو استقلال كل منها في التأثير، فلا يجامع سببية كل واحد من الشروط المذكورة على هذا الوجه مع سببية الآخر كذلك، فلا بد أن يختص واحد منها بالسببية، فيقع التعارض بينها كذلك، فالتعارض بين الخطابات المذكورة مع وحدة الجزاء شخصا من وجهين.
فلنقدم الكلام في علاجه من الوجه الأول المشترك بين الصورتين - أعني تعارض مفهوم كل من الخطابات المذكورة مع منطوق الآخر - ويعلم علاجه من الوجه الثاني المختص بصورة وحدة الجزاء في ضمن ما سنذكره من العلاج في ذلك الوجه:
فاعلم أن المتصور في الجمع بين الخطابات المذكورة بالنظر إلى تعارضها من الوجه الأول وجوه:
أحدها: حمل كل منها على إفادة مجرد سببية الشرط المذكور فيه لوجود الجزاء من غير إرادة انحصار السببية فيه في منطوقه الملزوم للانتفاء عند الانتفاء، فلا مفهوم لشيء منها أصلا - حينئذ - حتى يعارض المنطوق الآخر، ولازم ذلك عدم المنافاة بينها وبين خطاب آخر متضمن لسببية شرط آخر لوجود الجزاء.
وثانيها: تخصيص مفهوم كل منها بمنطوق الآخر، بمعنى أن المراد من كل منها إنما هو سببية الشرط المذكور فيه للجزاء وانتفاؤه بانتفائه فيما لم يخلفه الشرط المذكور في الآخر، ولازم ذلك منافاة كل من تلك الخطابات لخطاب غيره متضمن لسببية شيء آخر غير ما ذكر فيها للجزاء، إذ المفروض تخصيص مفهوم كل منها بإخراج صورة وجود شرط آخر من الشرائط المذكورة في تلك الخطابات، وأما بالنسبة إلى غير تلك الشروط فهو باق على عمومه فينافيه، فجميع تلك الخطابات متفقة من جهة المفهوم في نفي سببية ذلك الشيء المذكور في ذلك الخطاب المعبر عنها.
191

هذا، لكن الإشكال كله في تصور التخصيص في المفهوم، فإنه ليس من مقولة الألفاظ حتى يقال: إنه لفظ عام فيخصص إذا ثبت ما يوجبه، بل إنما هو معنى لازم لمعنى بسيط مراد من اللفظ في جانب المنطوق، وهو مرتبة من التعليق ليس له أجزاء حتى العقلية، فيخرج ما ذكر عن التخصيص المصطلح.
ويؤكد خروجه أن المفهوم ليس مدلولا مستقلا للكلام، بل إنما هو من توابع ولوازم معنى أريد من تحت لفظه، ولا يعقل التصرف في لازم معنى مع إبقاء ذلك المعنى على ما كان عليه أولا، بل لا بد من التصرف في ذلك المعنى الملزوم بجملة على وجه لا يقتضي ذلك اللازم إلا فيما فرض تخصيص اللازم به، ومعه لا حاجة إلى تخصيص المفهوم، لحصول الاختصاص له بالمورد المذكور قهرا، فإخراج بعض الصور عن المفهوم لم يكن تصرفا فيه أصلا فضلا عن كونه تخصيصا فيه.
ومن هنا ظهر: أن فرض التعارض المذكور بين مفهوم كل من الخطابات ومنطوق الآخر لا يستقيم، لأن التعارض حقيقة بينها بحسب المنطوق، فإنه إنما نشأ لأجل ظهور كل منها في إرادة معنى منه في المنطوق لازمه الانتفاء عند الانتفاء على الإطلاق، فالتعارض حقيقة وابتداء بين الملزومات - وهي المناطيق - فلا بد في مقام علاجه من التصرف في المناطيق، مع أن التصرف في المفاهيم لا يعقل مع بقائها على حالها الأولي - كما عرفت - فالتصرف في المناطيق لا بد منه على أي تقدير.
نعم قد يأتي الإشكال في تصوير التصرف فيها على وجه يلزمها الانتفاء عند الانتفاء في غير مورد التخصيص.
وما ربما يتخيل - من أن المفهوم إنما هو لازم انحصار السببية في الشرط المذكور في القضية المستفادة منها بحسب المنطوق، وهو تابع لها إطلاقا وتقييدا،
192

فيخصص () انحصار السببية في الشرط المذكور فيها في غير صورة وجود تلك الشروط الاخر المذكورة في الخطابات الاخر المفروضة، فتفيد القضية انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط المذكور فيها في غير صورة وجود تلك الشروط، فيختص المفهوم بغير تلك الصورة بالتخصيص في ملزومه الذي هو أحد طرفي العلاقة والربط والطرف الآخر هو نفس المفهوم أيضا - مشكل، لأن الانحصار أيضا - من لوازم المعنى المراد من اللفظ مطابقة، فإنه مرتبة بسيطة من الربط والعلاقة بين الشرط والجزاء يلزمها انحصار التعليق الذي يلزمه الانتفاء
عند الانتفاء مطلقا، فلا بد من التصرف في ذلك المعنى، وهو غير قابل لذلك لبساطته، فعلى هذا لا بد من طرحه رأسا وحمل اللفظ على معنى آخر مثله ملزوم للانحصار في غير الصورة المتقدمة، نظرا إلى كونه أقرب إلى مدلول اللفظ الأولي من سائر المعاني، كحمل الأمر على الاستحباب بعد قيام الصارف عن الوجوب، لأن الوجوب - أيضا - معنى بسيط لا تركب فيه أصلا. نعم التعدد إنما هو في لوازمه المعبر عنها بطلب الفعل والمنع من الترك، وكذلك الاستحباب، والاستحباب أقرب إلى الوجوب من الإباحة وغيرها، فبعد قيام الصارف عن الوجوب يحمل الأمر عليه لذلك، لكن بيان ذلك المعنى الآخر تفصيلا في غاية الإشكال. هكذا قال - دام ظله -.
أقول: لا أرى إشكالا في تصور ذلك المعنى بوجه، فإنه عبارة عن النسبة على البدل التي تراد بالنسبة إلى كل واحد من الشروط المتعددة المذكورة في خطاب واحد، الملزومة للانتفاء عند انتفاء الشروط المذكورة، إذ حاصل التصرف في كل من الخطابات المتعددة حملها على وجه تفيد بأجمعها الانتفاء عند انتفاء الشروط المذكورة في جميعها، بحيث تنافي هي بأجمعها خطابا آخر متضمن
193

لسببية شرط آخر غير تلك الشروط، وهذا لا يكون إلا بحمل كل منها على إفادة كون الشرط المذكور فيه سببا للجزاء على البدل بالنسبة إلى سائر الشروط المذكورة في الخطاب الآخر دون غيره، فافهم.
وثالثها: إبقاء كل من الخطابات المذكورة على ظاهره، لكن مع التصرف في وجه صدورها بحمل كل منها على التوطئة مع كون الغرض من المجموع من حيث إفادة كون كل واحد من الشروط المذكورة فيها سببا للجزاء على البدل على نحو دلالة الإشارة.
وبعبارة أخرى: إنه يقال: إن المراد من كل منها ما () هو ظاهره - بمعنى استعماله فيه - لكن إرادته ليست على نحو الواقع، بل من باب التوطئة وإيكال إفادة الغرض - وهو إفادة كون كل واحد من الشروط المذكورة فيها سببا على البدل - إلى العقل، فإنه بملاحظة ورود جميعها كذلك يستفيد - من باب الإشارة - هذا المعنى - كما قد يقال ذلك في العمومات الحقيقية من أن لفظ العام قد استعمل في معناه الحقيقي - وهو تمام الأفراد - من باب التوطئة مع إيكال إفادة الغرض - وهو كون موضوع الحكم هو الباقي بعد التخصيص - إلى العقل، فإنه بعد ملاحظة التخصيص يشخص () من الخطاب هذا المعنى.
ورابعها: حمل كل منها على بيان جزء السبب للجزاء لا تمامه، بأن يجعل السبب التام له هو المجموع المركب منها، ويكون الغرض من الجميع تعليق الجزاء على ذلك المجموع من حيث المجموع، فيفيد حينئذ - أيضا - نفي سبب آخر فيقع التعارض بين مجموعها وبين دليل آخر دل على سببية شيء آخر للجزاء.
وخامسها: تقييد سببية كل من الشروط المذكورة فيها بكونه مع الشروط
194

الاخر المذكورة في الخطابات الاخر بمعنى حمل كل من الخطابات على إرادة ذلك.
وهذا يتجه في الثمرة مع الوجه الرابع، فإنه إنما يفارقه من حيث إن الشروط الاخر قد أخذت في كل من الخطابات على نحو الجزئية على الوجه الرابع [و] على وجه القيدية والشرطية [على هذا الوجه].
هذا خلاصة الكلام في علاج التعارض بين الخطابات المذكورة من حيث الوجه الأول.
لكن لا يمكن المصير إلى الأخير من تلك الوجوه، لاستلزامه التناقض، إذ مقتضاه كون كل من الشروط المذكورة مقتضيا للجزاء وشرطا للاقتضاء - أيضا -، إذ المفروض جعل كل منها سببا بشرط انضمام البواقي إليه، ومن المعلوم أنه لا يعقل كون شيء واحد مقتضيا لشيء مع كونه شرطا للمقتضي، إذ معنى المقتضي إنما هو المؤثر في ذلك الشيء، ومعنى كونه شرطا أن التأثير غير مستند إليه، بل إلى غيره إلا أن له دخلا في تأثير الغير فيه، فينحصر الوجوه التي يمكن جعلها وجها للعلاج في الأربعة المتقدمة، وأقربها هو الوجه الثاني، لكونه أقرب من غيره بالنسبة إلى ظاهر القضية الشرطية، وبعده الثالث، بل يمكن أن يقال بالعكس، بمعنى أن الأقرب هو الثالث. لكون الغرض من كل واحد ما هو الغرض من الآخر، لكن التصرف في وجه الصدور أهون من التصرف في الدلالة، ولو تنزلنا فلا أقل من الثاني، وبعدهما هو الوجه الأول، فإنه أبعد منهما عن ظاهر القضية لطرح المفهوم فيه رأسا، لكنه أقرب من الوجه الرابع إليه، فإن الوجه الرابع ما كان قد اعتبر معه المفهوم في الجملة مع طرحه في الأول رأسا إلا أنه لما كانت القضية أقوى دلالة بالنسبة إلى السببية من دلالتها على المفهوم، فيكون التصرف فيها - في دلالة القضية - () أهون، فيقدم.
195

والحاصل: أنه إذا دار الأمر بين طرح المفهوم رأسا مع إبقاء ظهور السببية على حاله وبين طرح السببية وإبقاء المفهوم في الجملة تكون الأول هو المعين () إذ ظهور القضية الشرطية في إفادة السببية كالنص، وفي إفادة المفهوم ظاهر، فيكون التصرف فيها من الوجه الثاني أولى وأقدم ()، فيقدم، ولأجل ذلك ترى أنه لو قام قرينة على عدم إرادة الوجوب من الأمر لا يحكم بعدم إرادة مطلق الطلب بل يحملونه على الاستحباب الذي هو أحد فرديه ويتصرفون فيما يكون دلالة الأمر عليه أضعف من دلالته على مطلق الطلب، وهو المنع من الترك، فإن دلالته عليه أضعف من دلالته على الطلب المطلق.
هذا مجمل الكلام في الوجوه المتصورة لعلاج التعارض في المقام من جهة الوجه الأول.
وأما علاجه من جهة الوجه الثاني المختص بصورة وحدة الجزاء شخصا فينحصر في أحد أمرين:
أحدهما: الوجه الرابع المتقدم في علاجه من جهة الوجه الأول.
وثانيهما: حمل كل من الخطابات على السببية المقيدة بعد قيام الشروط المذكورة في الخطاب الآخر مقام الشرط المذكور فيه، بأن يراد من كل منها أن ذلك الشرط المذكور فيه مؤثر في وجود الجزاء إذا لم يخلفه أحد من سائر الشروط المذكورة في الخطاب الآخر، فتدبر. هذا خلاصة الكلام في المقام الأول من المقامات الموضوعة للمفاهيم، وسنختمه بذكر القول في مثله بتداخل الأسباب، فانتظر.
والله الهادي إلى سواء السبيل وله الحمد، وعلى نبيه صلى الله عليه وآله الثناء الجميل وسلام الجليل.
196

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
[في تداخل الأسباب]
فائدة: قد عنون جماعة من متأخري الأصوليين أن الأصل في الأسباب هل هو التداخل إلى أن يقوم على عدمه دليل، أو عدمه حتى يقوم على ثبوته دليل؟ وقبل الخوض في المسألة لا بد من بيان مرادهم من تداخل الأسباب، وأن المراد بالأسباب ما ذا؟ فاعلم أن المراد بالأسباب هنا إنما هي الشرعية، وهي المقتضيات للأحكام الشرعية التي بها [تدخل] () تلك الأحكام في الأدلة الشرعية لا العقلية، ولا الأعم، لعدم تعلق غرضهم بالعقلية بوجه، ولأنه لا يعقل هذا النزاع بالنسبة إليها، ضرورة امتناع تداخلها بجميع معاني التداخل المحتملة منه، هذا بخلاف الأسباب الشرعية، لأن سببيتها إنما هي بمقتضى ظواهر الأدلة الشرعية، فيمكن عدم كونها أسبابا واقعية ومؤثرات حقيقية كالعقلية، فيمكن فيها التداخل، فلا يكون عدم التداخل فيها بديهيا، حتى لا يقبل
النزاع.
ثم الظاهر من تحرير الخلاف أن المراد تداخل ذوات الأسباب الشرعية، وحيث إن عدمه ضروري غير قابل للإنكار، فلا بد أن يكون المراد: إما تداخلها من حيث التأثير، بمعنى إفادة الجميع أمرا واحدا، فإن ذلك - أيضا - نوع
197

تداخل لها ولو بنوع من التوسع في لفظ تداخل، وإما تداخل مسبباتها بأن يكون قضاء تلك الأسباب بتعدد التكاليف مفروغا عنه، ويكون النزاع في أن تلك التكاليف المتعددة المسببة عنها هل يحصل امتثالها بإيجاد واحد من الطبيعة المتعلقة لها أو لا؟ فيكون المراد بالأسباب المسببات عنها توسعا، مع احتمال إضمار لفظ المسببات - أيضا - فلا يكون لفظ الأسباب مستعملا في المسببات، أو ما يعم الوجهين المذكورين بأن يكون المقصود أن تعدد الأسباب الشرعية هل يقتضي بتعدد مسبباتها في الخارج - بمعنى اقتضاء كل منها وجودا من الطبيعة المفروضة لمسبباتها مغايرا لما يقتضيه الآخر من وجود تلك الطبيعية - أو لا؟ فيعم ذلك الوجهين المتقدمين، إذ القائل بالتداخل بهذا المعنى قد يقول به حينئذ لعدم اقتضاء نفس الأسباب المتعددة تعدد المسببات، وقد يقول به لعدم اقتضاء تعدد المسببات تعددها في الخارج.
نعم المانع منه لا بد له من دعوى الاقتضاء في المقامين والدليل عليه في كليهما، وعلى هذا ليس لفظ الأسباب مستعملا في المسببات، ولا يلزم إضمار لفظ المسببات - أيضا - فإنه مبني على حمل التداخل على عدم اقتضاء تعدد المسببات في الخارج من غير حاجة إلى تصرف في لفظ آخر أصلا.
والذي يقتضيه ويشهد له أدلة الطرفين: أن المراد في موضع الخلاف في المسألة إنما هو الاحتمال الأخير لا غير، فإن القائلين بالتداخل قد يدعونه بمنع اقتضاء الأسباب الشرعية المتعددة لتعدد التكاليف، وقد يدعونه بمنع اقتضاء تعدد التكاليف الواجب في الخارج - كما سيأتي تفصيله إن شاء الله -، [و] هذا أقوى شاهد على أن المراد بالتداخل المتنازع فيه إنما هو هذا الاحتمال - لا شيء من سابقه - بالتخصيص ()، وإلا لاقتصر أولئك على منع الاقتضاء في أحد
198

المقامين فقط.
ويقوي ذلك - بل يشهد له - أن البحث عن هذه المسألة والتعرض لها لم يكن معهودا من أحد من متقدمي الأصوليين وإنما أحدث البحث عنه المتأخرون منهم - كما أشرنا إليه - والظاهر - بل المعلوم - أن هؤلاء أخذوا ذلك من الفقهاء - رضوان الله عليهم - في بعض الموارد الخاصة من الفقه كمسألة تداخل الأغسال والوضوءات ونحوهما من سائر الموارد التي اجتمعت فيها أسباب متعددة مع اتحاد مسبباتها نوعا فعنونوه على نحو الكلية.
ومن المعلوم للمراجع في كلمات الفقهاء في تلك الموارد أن مقصودهم في مسألة الأغسال مثلا أنه إذا وجد أسباب متعددة لإيجاب الغسل، كالجنابة والحيض، ومس الميت، وغيرها، فهل يقتضي تعددها تعدد الواجب - وهو الغسل في الخارج - أو لا؟ فإن النافين للاقتضاء ثمة - أيضا - قد ينفونه بمنع اقتضاء تعدد الأسباب لتعدد التكاليف، وقد ينفونه بمنع اقتضاء التكاليف تعدد المكلف به في الخارج، وهكذا الحال في سائر الموارد الخاصة، فراجع وتأمل بعين الإنصاف وقد حكى - دام ظله - عن السيد الجليل بحر العلوم - قدس سره - أنه قال: النزاع في المقام إنما هو في تداخل المسببات، والنكتة في تعبيرهم عنه بتداخل الأسباب التنبيه على مبنى المسألة. انتهى.
أقول: ما ذكره - قدس سره - إنما يتم لو كان عدم تداخل المسببات على تقدير عدم [تداخل] () الأسباب متفقا عليه بينهم، وليس كذلك، لما قد أشرنا إليه وستعرف تفصيلا - إن شاء الله - من أن القائلين بتداخل المسببات قد يدعونه بمنع اقتضاء تعددها لتعدد الامتثال مع تسليم اقتضاء تعدد الأسباب
199

لتعدد المسببات، فلا يدور تداخل المسببات مدار تداخل الأسباب نفيا وإثباتا، حتى يكون الثاني مبنى الأول، ويصح جعل ذلك نكتة لتعبير عنه به.
فالحري حمل كلامهم على ما استظهرنا، لانطباق احتجاجات الطرفين عليه تمام الانطباق دون غيره.
ويتضح بما سنذكر فيه من الأدلة والأجوبة حال كل من المقامين - أعني تداخل الأسباب وتداخل المسببات - من غير حاجة إلى إفراد كل منهما بالبحث، كما صنعه بعض المحققين من متأخري المتأخرين ().
ثم إن النزاع في تداخل الأسباب - بأي معنى كان من المعاني المحتملة - إنما هو فيما إذا كان معروض مسببات تلك الأسباب - وهو الفعل المكلف به - حقيقة واحدة.
وأما إذا كان معروض كل منها حقيقة مغايرة لمعروض مسبب الآخر فلا، سواء كانت النسبة بين تلك الحقائق هو التباين الكلي، أو العموم من وجه، أو مطلقا:
أما إذا كانت النسبة بينها هو التباين الكلي، فلبداهة عدم التداخل في أسباب التكاليف المتعلقة بها، وعدم تداخل نفس تلك التكاليف - أيضا - ولم يقل أحد من القائلين بالتداخل في أحد الموضعين أو في كليهما به على شيء منهما حينئذ.
وأما إذا كانت النسبة هي العموم من وجه أو مطلقا فلا يعقل النزاع حينئذ في عدم تداخل نفس الأسباب، كما أنه لا يعقل الخلاف في جواز تداخل مسبباتها إذا أتى المكلف بمورد الاجتماع، لعدم منافاة ذلك لشيء من القواعد
200

العقلية أو اللفظية، فإن غاية ما يفيده أدلة الأسباب إنما هي سببية كل منها لوجوب إيجاد الطبيعة المتعلق وجوبها عليه، وأما تقييد كون ذلك الإيجاد غير مقرون بإيجاد طبيعة أخرى أو بخصوصية زائدة فلا، لكون المطلوب عند وجود كل منها إيجاد الطبيعة المعلق وجوبها عليه لا بشرط، فيجتمع مع إيجاد عنوان أو خصوصية زائدة، فإذا فرض إتيان المكلف بمورد الاجتماع فقد أتى بالطبيعتين الواجبتين عليه لا بشرط، لصدق إيجادهما على ذلك الإيجاد الشخصي، والعقل - أيضا - لا يأبى عن وقوع إيجاد كذلك امتثالا عن التكليفين، بل يستقل به كاستقلاله بعدم وقوع إيجاد واحد امتثالا عنهما إذا لم يكن متعلقاهما صادقين على ذلك الإيجاد.
ومن هنا ظهر ضعف ما زعمه بعض المحققين من متأخري المتأخرين من دخول الصورتين المذكورتين - بالنظر إلى تداخل المسببات فيهما - في محل النزاع بينهم في مسألة تداخل المسببات التي أفرادها بالبحث عنها، وظاهر كلمات بعض القائلين بتداخل المسببات - كما ستعرف - تسليم أنه مخالف لظواهر أدلة الأسباب، إلا أنه يدعيه من جهة ثبوت الصارف عنده عن تلك الظواهر.
وهذا - أيضا - أقوى شاهد على ما ذكرنا من خروج الصورتين المذكورتين عن النزاع في تداخل المسببات، لما قد عرفت أن تداخلها فيها لم يكن مخالفا لشيء من الأصول والقواعد بوجه.
وقد ظهر مما حققنا - أيضا - خروج الأسباب للمسببات التي تشترك معروضاتها في الصورة مع تباين حقائقها كالأغسال - بناء على كونها حقائق متعددة بتعدد الأسباب - لرجوعها حينئذ إلى صورة التباين التي عرفت خروجها عن محل النزاع بالنظر إلى كلا المقامين فيها - أعني تداخل الأسباب
201

والمسببات - لبداهة عدم كل منهما، كما عرفت.
ثم إن هذا النزاع إنما هو بالنظر إلى مفاد القضايا الشرطية بحسب المنطوق، وهو سببية الشرط لحكم الجزاء، فلا يتوقف على ثبوت المفهوم لأدوات الشرط فيجري على القول بعدمه - أيضا -.
بل يظهر من بعض القائلين بالتداخل عدم توقفه على ظهورها في سببية الشرط للجزاء - أيضا - حيث إنه احتج عليه بمنع ذلك الظهور.
ثم إن الكلام في أصالة التداخل وعدمها - في المقام - إنما هو بالنظر إلى مجرد تعدد السبب ومن حيثيته من غير نظر إلى الجهات الأخر أو الخصوصيات اللاحقة لبعض الموارد الخاصة المقتضية للتداخل أو عدمه، فالقائل بالتداخل - في المقام - ربما تمنعه من البناء عليه - في بعض الموارد - جهة أخرى لاحقة لذلك الموارد، وذلك كما إذا كانت للمسببات تلك الأسباب على تقديرها تكاليف غيرية مقدمية، بأن يكون متعلقها على تقدير وجوبه مقدمة لواجب آخر نفسي مفروغ عن وجوبه، وكأن القائل المذكور من القائلين بالاحتياط في مسألة الشك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به من مسائل البراءة والاحتياط، إذ يجب عليه حينئذ البناء على عدم التداخل بمقتضى قاعدة الشغل والعمل على مقتضاه، وهو تعدد الامتثال والإيجاد.
ثم إن الحري في تحرير الخلاف - بملاحظة وجود القول بمنع ظهور أدوات الشرط في السببية - عنوانه: بأن الأصل في الأمور المجعولة شروطا في القضايا الشرطية المستفادة من الأدلة الشرعية - كوجوب شيء واحد بالنوع - هل هو التداخل أو عدمه؟ إذ التعبير عنها بالأسباب يفيد المفروغية عن ظهور تلك الأدلة في سببيتها، وهو ينافي القول المذكور.
اللهم إلا أن ينزل ذلك لشذوذه وفساده منزلة العدم، فيجوز التعبير عنها
202

بالأسباب بملاحظة ظهور الأدلة في سببيتها حينئذ، فيحرر الخلاف حينئذ: بأن الأصل في الأسباب الشرعية بمقتضى ظواهر الأدلة الشرعية هل هو التداخل أو عدمه، بجعل قولنا: - بمقتضى ظواهر الأدلة - قيدا للأسباب، أي سببيتها بمقتضى تلك الظواهر؟ فإذا عرفت ذلك كله فاعلم: أن المعنونين لهذه المسألة اختلفوا فيها على أقوال:
فمنهم: من ذهب إلى الأصل - وهو التداخل - إلى أن يقوم على عدمه دليل.
ومنهم: من اختار عكس ذلك.
ومنهم: من فصل بين ما إذا كان الأسباب المتعددة من حقائق مختلفة وبين ما إذا كانت من نوع واحد، فاختار التداخل على الثانية وعدمه في الأولى، ونسبه - دام ظله - إلى ابن إدريس - قدس سره () -.
والذي يقتضيه دقيق النظر في أدلة سببية تلك الأسباب، أنها:
ان كانت مجملة () في إفادة سببيتها بالنسبة إلى صورة اجتماعها كما هي المفروضة () في المقام:
إما من [جهة] عدم () ظهور أدوات الشرطية بالذات في السببية أصلا، أو في إطلاقها بالنسبة إلى صورة الاجتماع، كما هو المظنون من المانع من ظهورها الذي أشرنا إليه، لبعد منعه من إفادتها السببية في الجملة.
وإما من جهة عروض الإجمال على نفس تلك الأدلة بالنسبة إلى الصورة
203

المذكورة من جهة اكتنافها ببعض الأمور الموجبة له، فمقتضى الأصل حينئذ هو التداخل، إذ لا يثبت منها حينئذ أزيد من تكليف واحد، فيكفي الواحد عن الجميع، وهو المطلوب.
وفي حكم إجمالها بالنسبة إلى صورة الاجتماع اكتنافها بقرينة دالة على عدم إرادة السببية مطلقا، أو بالنسبة إلى الصورة المذكورة، بل هذا أولى بالحكم المذكور من الإجمال، بل التداخل حينئذ بمقتضى الدليل، كما سيتضح وجهه عن قريب.
وإن كانت ظاهرة في إطلاق سببيتها بالنسبة إلى الصورة المفروضة: - إما من جهة ظهور الأدوات في ذلك بالوضع، أو بواسطة القرينة العامة الملازمة لها التي في حكم الوضع - فمقتضى أصالة عدم القرينة على إرادة الخلاف إنما هو عدم التداخل.
وتوضيحه: أن الظهور المذكور كسائر الظواهر اللفظية معتبر ومتبع بمقتضى دليل اعتبار الظواهر اللفظية - وهو بناء العقلاء - إلى أن يقوم صارف عنه، ومعنى اعتباره واتباعه وجوب جعله طريقا في مؤداه مطلقا، سواء كان مدلوله مطابقة أو تضمنا أو التزاما، ويترتب جميع مداليله عليه، كما هو الحال في سائر الظواهر، فإذا كان المفروض كون مؤداه سببية تلك الأسباب لمسبباتها في صورة الاجتماع فيجب الحكم بسببيتها لها في تلك الصورة ويترتب لوازمها عليها عقلا، إذ بعد جعلها أسبابا - كما هو قضية ظهور الأدلة بالفرض - تكون منزلة منزلة الأسباب العقلية والمؤثرات الحقيقية، فإن هذا معنى السببية الجعلية.
ومن المعلوم لكل أحد: أن من لوازم تعدد السبب الواقعي والمؤثر الحقيقي تعدد مسببه - أيضا - إذا كان المورد قابلا للتعدد والتأثير - كما هو المفروض في المقام - فلازم تلك الأسباب عند اجتماعها تعدد مسببها حينئذ - أيضا - وهو التكليف، فتثبت بذلك هناك تكاليف متعددة بتعدد الأسباب.
204

ومن المعلوم - أيضا - أن تعدد التكليف مستلزم لتعدد المكلف به، إذ بدونه لا يعقل تعدده إلا على وجه التأكيد، وهو ليس تعددا حقيقة، بل في صورة التعدد، ولازم تعدد المكلف به - وهو الواجب - تعدد امتثاله - أيضا - ما لم يثبت من الشارع الاكتفاء بالواحد ().
فإذا ظهر أن لازم الظهور المذكور بالأخرة تعدد الامتثال ما لم يثبت الاكتفاء بواحد فيما لم يقم صارف عنه، وثبوت الاكتفاء بالواحد ليس من التداخل في شيء، بل إنما هو عدم إرادة امتثال بعض من الواجبات، فعدم التداخل صادق على تقديره مع تعدد المسببات، إذ التداخل إنما هو وقوع إيجاد واحد من الفعل امتثالا عن الجميع، فيكون مقتضى أصالة عدم ذلك الصارف عند الشك فيه عدم تداخل تلك الأسباب في الخارج، فإنه لو كان عدم الصارف معلوما لكان عدم التداخل معه ثابتا بواسطة البرهان العقلي المتقدم، فإذا فرض الشك فيه فيحرز عدمه الذي هو بعض مقدمات البرهان المذكور بأصالة عدمه، فيكون عدم التداخل حينئذ بمقتضى الأصل لاستتباع النتيجة لأخس المقدمات، فإذا ثبت أن الأصل على تقدير ظهور أدلة السببية في إطلاقها بالنسبة إلى صورة اجتماع الأسباب إنما هو التداخل فعلى المدعي خلافه إبداء الصارف عنه، فإنه هو المعول عند الشك في الصارف فلا يجوز العدول عنه إلى خلافه إلا لشاهد قوي من العقل أو النقل.
وأوجه ما قيل أو يمكن أن يقال في مقام إبدائه وجوه:
الأول أنه لا يعقل كون الأسباب الشرعية من العلل الحقيقية، فإنها إما أن تلاحظ بالنسبة إلى الطلب - كما هو الظاهر من أدلته - أو بالنسبة إلى الفعل المطلوب، لا سبيل إلى الالتزام بشيء منهما، إذ العلل الحقيقية منحصرة في أربع:
205

الفاعلية، والغائية، والمادية، والصورية، ولا يعقل كون تلك الأسباب في شيء منها سببا من تلك الأربع.
أما الأول وهو الطلب، فلأن علة الفاعلية هو المكلف الطالب، ومن البديهي - أيضا - عدم كونها علة المادية
أو الصورية، أما علة الغائية، فهي أيضا تصور مصلحة الفعل المأمور به.
وأما في الثاني، فأوضح من ذلك بحيث لا يحتاج إلى التوضيح، فإذن لا بد من حملها على المعرفات للحكم الشرعي، ومعه لا يقتضي تعددها تعدد الامتثال.
ويمكن الذب عنه: بأن الذي لا يعقل فيها إنما هو كونها إحدى تلك الأربع في شيء منها ابتداء أو بلا واسطة، لكنه لا يستلزم حملها على المعرفات، لإمكان كونها عللا غائية للطلب بواسطة، بمعنى كونها عللا لعللها الغائية واقعا ومؤثرة فيها حقيقة، أو كونها عللا فاعلية للفعل جعلا، بمعنى حكم الشارع بوجوب ترتيب الفعل عليها عند وجودها، وعدم التفكيك بينه وبينها، كما هو الشأن في العلل الفاعلية الحقيقية، أو كونها عللا غائية للفعل بواسطة.
وتوضيح كونها عللا غائية - بواسطة - للطلب وتصويره: أنها في الشريعة على ضربين:
أحدهما: أن يكون سببا لحدوث حالة في المكلف يمنعه من الدخول في عبادة كما في أسباب الأحداث.
وثانيهما: ما لا يكون كذلك، بمعنى أنه لا يكون محدثا لتلك الحالة.
فنقول في الأول: إنه إذا صار علة لوجود تلك الحالة المانعة يكون علة لعلية () العلة الغائية لطلب الغسل أو الوضوء، وهي رفع تلك الحالة، فإنه هي العلة الغائية لإيجاب الغسل أو الوضوء، ورفع تلك الحالة وإن لم يكن في نفسه معلولا
206

ومسببا لأسباب الأحداث ولو مع الواسطة، نظرا إلى أنها إنما يحدث نفس الأحداث لا رفعها إلا أن صيرورته علة غائية لإيجاب الغسل أو الوضوء مسببة عنها مع الواسطة، ضرورة أن رفع الحدث إنما يكون داعيا إلى طلب الوضوء أو الغسل إذا تحقق الحدث، وأما مع انتفائه فلا حدث، حتى يكون رفعه غاية للطلب.
وبعبارة أخرى: الغاية إنما هي رفع الحدث الفعلي، وهو لا يتحقق له مورد أصلا إلا إذا كان هناك حدث، فوجود الحدث الموجود بسببية تلك الأسباب سبب لاتصاف رفعه بكونه علة غائية، فيكون تلك الأسباب علة لعلية العلة الغائية للطلب.
وأما ثانيها: فتوضيح المقال فيه [أنه] إنما يحدث بسببيته مصلحة في فعل الجزاء لم تكن متحققة فيه قبله، فتكون المصلحة داعية وغاية لطلب الشارع ذلك الفعل من المكلف، مثاله في العرفيات مجيء زيد بالنسبة إلى إكرامه - مثلا - فيقال فيه: إنه يحدث فيه بسبب مجيئه مصلحة في إكرامه لم تكن حاصلة فيه قبل المجيء، فإذا فرض كون المولى عالما بتلك المصلحة المسببة عن المجيء، فيأمر عنده بإكرام زيد عند مجيئه، فيكون المجيء علة للعلة الغائية لوجوب الإكرام وهكذا الكلام في نظيره من الأمثلة الشرعية.
أقول: للأسباب الشرعية قسم ثالث: وهو ما يكون محدثا لحالة مبغوضة [في] المكلف () يكون رفعها غاية لطلب الشارع ما يرفعها () من غير توقف عبادة على رفعها أصلا، وهذا كما في الكفارات، فإن الظاهر أن الأسباب الموجبة لها من هذا القبيل.
207

والتعبير الجامع بينه وبين القسم الأول من القسمين المتقدمين أن يقال:
ما كان محدثا لحالة مبغوضة في المكلف يكون رفعها غاية لطلب الشارع ما يرفعه، فإن هذا أعم من توقف عبادة على رفعها، والكلام في هذا القسم هو ما مر في القسم الأول، فلا نعيد.
وأما تصوير كونها عللا غائية للفعل () المأمور به بواسطة فهو مبني على مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الكامنتين في الأفعال قبل ورودها، فيقال حينئذ: إذا أمر الشارع بفعل - بعد حدوث أمر وتحققه - فلا بد حينئذ من ارتباط واقعا بين وجود ذلك الأمر وبين الفعل المأمور به قبل أمر الشارع بحيث يكون الأمر كاشفا عنه، بأن يكون ثابتا في الواقع قبل الأمر على وجه لو اطلع عليه العقل قبله لحمل المكلف على الفعل لذلك، وهو لا يكون إلا بكون الأمر المذكور محدثا لمصلحة بعد حدوث الفعل () المأمور به بحيث لو فرض اطلاع العقل عليها () لحمل المكلف على الفعل تحصيلا لها، فيكون أمر الشارع بذلك الفعل كاشفا عن تلك المصلحة، وانكشافها - بعد العلم بها من أمر الشارع - يكون هو علة غائية للفعل داعية للفاعل نحو الفعل، فيكون الأسباب الشرعية عللا للعلة الغائية للفعل المأمور به بمقتضى هذا البيان.
وأما تصوير كونها عللا فاعلية بمقتضى جعل الشارع فقد عرفت، فلا داعي لإعادة الكلام فيه.
إذا عرفت ذلك فيقال: إنه إذا أمكن حمل الأسباب الشرعية على واحد من الوجوه الثلاثة المذكورة - بعد قيام القرينة على عدم كونها أسبابا بلا واسطة،
208

كما هو ظاهر أدلتها - فلا داعي إلى حملها على المعرفات، بل المتعين حملها على أحد تلك الوجوه، فإنها أقرب إلى حقيقة الأسباب () بعد صرفها عن ظاهرها من الحمل على المعرف، كما لا يخفى على المتأمل، فيجب حينئذ حمل أدلة تلك الأسباب على إرادة أحد تلك الوجوه.
ولا يخفى أنه على تقدير إرادة أي منها يتم المطلوب من بقائها على ظاهرها وهو أصالة عدم التداخل، فإن تعدد علة الغائية للطلب أو للفعل يقتضي تعدد العلة الغائية لأحدهما عقلا، وتعدد العلة الغائية للطلب يقتضي تعدد الطلب كذلك، وتعدده يقتضي تعدد الواجب كذلك، وتعدد الواجب يقتضي تعدد الامتثال، وكذا تعدد العلة الغائية للفعل يقتضي تعدده بلا توسط شيء آخر، فيكون الأصل على إرادة أي من الاحتمالات المتقدمة هو عدم التداخل، وهو المطلوب.
أقول: أقربية تلك الاحتمالات - بالنسبة إلى ظاهر القضية الشرطية - إنما توجب حملها عليها عند قيام صارف عن ذلك الظهور بناء على كون ذلك من باب الوضع - بمعنى إفادتها لسببية الشرط للجزاء بلا واسطة من باب الوضع، كما هو الظاهر.
وأما بناء على إفادتها إياها من باب الانصراف، بل إفادتها أصل السببية لذلك - كما عرفته من بعض من المتأخرين في المسألة المتقدمة في مقام بيان الطرق لإثبات المفهوم لأدوات الشرط - فمشكل غاية الإشكال، لأن سبب الانصراف حينئذ إنما هو متحقق بالنسبة إلى السببية الخاصة فلا يوجب انصراف اللفظ إلى غيرها عند قيام صارف عنها، فحينئذ لا بد من سبب آخر موجب لانصرافه إلى غيرها، ودون دعوى ثبوته خرط القتاد، فلا تغفل.
209

ثم إن شيخنا الأستاذ - قدس سره - قد تصدى لتصحيح أصالة عدم التداخل على تقدير كون الأسباب الشرعية معرفات: بأن الأدلة حينئذ قاضية بسببية كل منها للعلم بالطلب على نحو الاستقلال، ولازم تعدد سبب العلم تعدد العلم على وجه يكون هناك علوم متعددة يمتاز كل منها عن الآخر، حيث إنه معلول بالفرض، وتعدد العلة مستلزم لتعدد المعلول كذلك، وتعدد العلم مستلزم لتعدد المعلوم، وهو الطلب، وقد مر أن تعدده مستلزم لتعدد الامتثال، فيكون الأصل على هذا التقدير - أيضا - عدم التداخل، وهو المطلوب.
لكنه مشكل من وجهين:
أحدهما: أن استلزام تعدد العلة لتعدد المعلول ليس على كليته، بل إنما هو فيما إذا كان المعلول من غير الكيفيات
القابلة للشدة والضعف، وأما إذا كان منها فلا، ألا ترى أن تعدد أسباب الألوان أو الأمراض لا يوجب تعدد اللون والمرض.
نعم يوجب تأكدهما بمعنى أن الحاصل منهما بواسطة الأسباب المتعددة آكد وأشد مما يحصل من واحد من تلك الأسباب (1).
ومن المعلوم أن الفرد الشديد ليس فردين وموجودين يمتاز كل منهما عن الآخر، فإن الضعيف الممتاز عنه إنما هو الذي لم يكن في ضمنه.

(1) لا يقال: إن على تقدير كون تلك الأسباب معرفات إنما يلزم ما ذكر من عدم استلزامها حينئذ لتعدد المعلوم لجواز التأكيد في مسبباتها - وهي العلم - بناء على ثبوت معرفها بدليل قطعي، وأما إذا ثبت ذلك بطريق ظني فلا يتم ذلك، لعدم إفادتها حينئذ العلم، حتى بتداخل العلم الحاصل من بعض مع الحاصل من الآخر.
لأنا نقول: إذا ثبت ذلك بطريق ظني يكون () كل واحد من تلك الأسباب سببا للعلم بالحكم الظاهري مع الحاصل من الآخر. منه طاب ثراه، وجعل الجنة مثواه.
210

ومن المعلوم أن العلم من مقولة الكيفيات فيمكن فيه ما يمكن في غيره، بل المتأمل في نفسه يجد فيها وقوعه، فحينئذ لا يثبت من الأسباب المتعددة للعلم أزيد من معلوم واحد وهو الطلب، فيكفي الامتثال مرة.
وثانيهما: أن القائل - بكون تلك الأسباب معرفات - الظاهر أنه لا يريد كون الجزاء في أدلتها هو العلم كما هو مبنى ما ذكره - قدس سره - بأن يكون المراد من قوله: «إن نمت فتوضأ» () أنه إن نمت فاعلم أنه يجب عليك الوضوء، بل الظاهر أنه أراد أن القضايا الشرطية في تلك الأدلة إنما استعملت في مجرد التلازم بين الشرط والجزاء، وأن الجزاء هو المذكور في القضية.
وبعبارة أخرى: إن سيقت لمجرد بيان ربط اللزوم بين الشرط ونفس الجزاء واستفيد سببية الشرط للعلم بالجزاء استلزاما، إذ كل من المتلازمين كاشف عن الآخر وموجب للعلم به، فحينئذ لا يقتضي تعدد الأسباب المذكورة تعدد الطلب المجعول جزاء في كل من أدلة تلك الأسباب، إذ يصير كل منها لازما للطلب لا مؤثرا فيه، ومن المعلوم أن تعدد اللوازم لا يقتضي بتعدد الملزوم، لإمكان أن يكون لشيء واحد ألف لازم، فتدبر.
أقول: ما ذكرت سابقا - من الإشكال في كون أقربية الاحتمالات الثلاثة المتقدمة إلى مدلول أدوات الشرط من احتمال المعرفية موجبة لحملها على أحد تلك الاحتمالات بناء على عدم إفادتها للسببية المطلقة بالنسبة إلى صورة اجتماع الأسباب وضعا مع إفادتها لأجل السببية من باب الوضع - يندفع بذلك البيان، إذ قد عرفت أن مبنى حمل الأسباب على المعرفات على حمل الأدلة على مجرد بيان ربط اللزوم بين الشرط والجزاء، ومن المعلوم أنه إلغاء
211

للسببية رأسا بخلاف حملها على أحد تلك الاحتمالات، لكون السببية مأخوذة في كل منها في الجملة، فيكون كل منها أقرب إلى حقيقة الأدوات من مجرد التلازم، فلا يصار إليه مع إمكان الحمل على أحدها، بل كل واحد منها عين حقيقة الأدوات على ذلك القول بناء على خروج عدم التوسط من حقيقتها حينئذ، بأن يقال: إنها حقيقة في سببية الشرط للجزاء في الجملة، أعم من أن يكون الشرط سببا بلا واسطة، لكنها عند الإطلاق ينصرف إليه.
وكيف كان، فلا إشكال على القول المذكور في تقديم تلك الاحتمالات على احتمال المعرفية، فيبقى الإشكال بالنسبة إلى القول بوضعها لمجرد التلازم بين الشرط والجزاء، وكون أصل السببية مستفادا من باب الانصراف، فافهم.
الثاني: أن المفروض وحدة متعلق الطلبات المسببة عن الأسباب المفروضة نوعا وكونه حقيقة واحدة، فيلزم على تقدير كون تلك الأسباب أسبابا واقعية - كما هو ظاهر أدلتها - تعلق أشخاص من الطلب بحقيقة واحدة، اللازم باطل، لكونه من اجتماع الأمثال في شيء واحد الذي هو كاجتماع الأضداد فيه من حيث الامتناع، إذ كما يمتنع اجتماع ضدين أو أضداد في شيء واحد ولو بالنوع - إذا لم يعتبر ذلك الشيء على وجه يرجع إلى أمور متعددة - فكذلك يمتنع اجتماع مثلين أو أمثال فيه كذلك، إذ الطبيعة الواحدة ما لم يطرأ عليها اعتبار أزيد فهي شيء واحد، إذ هي حينئذ ليست إلا هي، ومن المعلوم أنها في حد نفسها لا تعدد فيها أصلا، بل أمر وحداني كالشخص الواحد، وتكثرها إنما هو باعتبار زائد على أصلها، وهو اعتبارها بالنظر إلى وجوداتها الخارجية التي هي الأفراد فيما لم يطرأ عليها ذلك الاعتبار، فلا يعقل اجتماع مثلين أو أمثال فيها كاجتماع ضدين أو أضداد فيها، لعدم الفرق بينها حينئذ وبين الواحد الشخصي فيما هو مناط امتناع الاجتماع، فإن مناطه إنما هو وحدة متعلق المثلين أو الضدين من غير مدخلية للنوعية والشخصية فيه أصلا، فإذا بطل اللازم بطل
212

الملزوم - أيضا - فيكشف ذلك عن أن المراد بالأدلة - خلاف ما هو الظاهر منها - المعرفية. وأما إرادة السببية للطلب المستقل مع قابلية المورد له، وبعبارة أخرى:
إنه لما كان سببية تلك الأسباب للطلب على وجه الإطلاق مستلزمة لذلك المحذور، فلا بد إما من حملها على المعرفات للطلب، وإما من حملها على السببية المقيدة، وهي سببيتها للطلب المستقل مع قابلية المورد له مع إيكال فهم التقييد إلى العقل.
وعلى الثاني إذا فرض اجتماعها دفعة واحدة مع فرض وحدة متعلق مسبباتها، فلازمها حينئذ طلب واحد مسبب عن الجميع، لامتناع اجتماع طلبات متعددة في واحد نوعي كاجتماعها في واحد شخصي، لما مر، فلا يعقل حينئذ إلا طلب واحد، ولامتناع الترجيح بلا مرجح، فلا بد أن يكون ذلك مستندا إلى جميع الأسباب، فإذا فرض اجتماعها على التعاقب فلازمها حينئذ - أيضا - طلب واحد، لما مر، لكنه مستند إلى الأسبق منها، فإنه عند وجوده لم يكن مانع من تأثيره في المورد أثره، وهو الطلب، فيكون بمجرد وجوده مؤثرا فيه ومحدثا للطلب، ومعه لا يصلح الأسباب الاخر للتأثير لاستلزامه اجتماع الأمثال في مورد واحد كما مر، وإذا فرض وجود واحد منها فقط في المورد فلازمه طلب واحد، ووجهه ظاهر.
أقول: الظاهر أنه على تقدير حملها على المعرفات - أيضا - الحكم فيها ما عرفت بناء على حملها على السببية المقيدة، فإنها حينئذ - أيضا - إذا اجتمعت لا تفيد إلا طلبا واحدا سواء اجتمعت دفعة أو متعاقبة.
نعم في صورة اجتماعها دفعة يكون وجود الحكم مستندا إلى الجميع، وفي صورة التعاقب إلى الأسبق منها لعين ما مر، ومع وجود واحد منها بدون البواقي - أيضا - يفيد ذلك طلبا واحد، ومن المعلوم أن وحدة العلة لا تستلزم أزيد من
213

معلول واحد، وهو الطلب. هذا.
والجواب عن ذلك: أن المحذور المذكور - وهو لزوم اجتماع المثلين أو الأمثال في شيء واحد - لا يوجب المصير إلى خلاف ظاهر الأدلة المذكورة مطلقا، بل إنما يوجبه على تقدير كون الطلبات المسببة عن تلك الأسباب - على تقديرها - متوجهة إلى الحقيقة الواحد من حيث هي وفي حد نفسها، لما قد عرفت أنه إنما يلزم على هذا التقدير، فمع اعتبار التكثر في تلك الحقيقة - بأن يكون متعلق كل طلب وجود منها مغاير لمتعلق الطلب الآخر، بأن يكون موضوع كل طلب شخصا من أشخاصها ووجودا من وجوداتها الخارجية - لا مانع من تعدد الطلب أصلا، كما اعترف به المورد أيضا.
نعم لما كانت المادة المعروضة للطلب ظاهرة في إرادة الطبيعة من حيث هي، فظهورها ينافي تعدد الطلب، لما مر من استلزام إرادتها كذلك مع تعدد الطلب لاجتماع الأمثال في شيء واحد، فيقع التعارض بين ظهور المادة
وبين ظهور أدوات الشرط في الأدلة في سببية كل من تلك الأسباب لطلب مستقل، ويتوقف رفعه على أحد أمرين على سبيل منع الخلو:
أحدهما: التصرف في ظهور الأدوات في تلك الأدلة.
وثانيهما: التصرف في المادة المذكورة المعروضة للطلب المجعول جزاء في كل من تلك القضايا بتقييدها في كل منها ببعض من وجوداتها غير ما قيدت به في الأخرى، فيقال في قولنا: - إن جاءك زيد فأكرمه، وإن أضافك فأكرمه، وإن أعانك فأكرمه -: إن المطلوب في القضية الأولى إنما هو إكرام زيد عند مجيئه الذي هو غير إكرامه عند إضافته أو إعانته، وفي الثانية إنما هو إكرامه الذي هو غير إكرامه عند مجيئه أو إعانته، وفي الثالثة إنما هو إكرامه الذي [هو] غير إكرامه عند مجيئه أو إضافته.
لكن الذي يقتضيه الإنصاف أن التصرف الثاني أهون من الأول،
214

الظاهر أن ظهور أدوات الشرط في السببية على الوجه المذكور أقوى من ظهور المادة في الطبيعة من حيث هي، فيكون حاكما على ظهور المادة وصارفا عنه (1)، فإذا اندفع المحذور المذكور تقضي () الأدلة بتعدد الطلب بتعدد الأسباب، لعدم المانع منه حينئذ، فيتم المطلوب، وهو عدم التداخل، لما مر غير مرة من استلزام تعدد الطلب تعدد الامتثال.
ثم إنه قد حكى - دام ظله - عن بعض أفاضل المتأخرين - وظني أنه الفاضل النراقي - قدس سره - في عوائده () -: أنه استشكل في التقييد المذكور بأنه مستلزم لاستعمال المادة في معنيين، ولم ينقل - دام ظله - وجهه، ولم يتعرض لتوجيهه بوجه، بل اكتفى بمجرد حكاية ما ذكر، فطفر إلى ما هو الأهم للمحصلين.
أقول: كأن نظره - قدس سره - فيما ذكره إلى أن الموجب لإشكاله () المذكور إنما هو لزوم اجتماع المثلين أو الأمثال في شيء واحد، وقد عرفت أنه يختص بصورة اجتماع الأسباب، إذ مع وجود واحد منها لا يكون إلا طلبا واحدا، وهو غير مستلزم له، فلا مانع من إرادة نفس الطبيعة بالنسبة إلى حال وجود واحد منها، ووجود المانع في غير تلك الصورة لا يوجب المنع فيها، فلا يكون التقييد بالنسبة إلى غير تلك الصورة مستلزما له فيها، ولازم ذلك أن يراد

(1) وإن شئت قلت: إن المستفاد من القضايا الشرطية تعدد الطلب بتعدد الشرط، وتعدد الطلب ظاهر في تعدد المطلوب، فيكون هذا قرينة على تقيد المادة في كل من تلك القضايا ببعض وجودات الطبيعة، لتعدد المطلوب، فإن ظهور تعدد الطلب في تعدد المطلوب أقوى من ظهور المادة في الطبيعة من حيث هي، فيكون حاكما على ظهور المادة وصارفا عنه. منه طاب ثراه.
215

بالمادة الطبيعة من حيث هي بالنظر إلى تلك الحال، وهي باعتبار بعض وجوداتها بالنسبة إلى غيرها ()، فتكون المادة مستعملة في نفس الطبيعة من حيث هي، وفيها باعتبار بعض وجوداتها الذي هو فرد منها، وما هذا إلا استعمالها في معنيين.
هذا، لكن لا يخفى على المتأمل ضعفه، فإن استعمال اللفظ إن كان جائزا فلا محذور في لزومه، وإلا فهو محذور آخر يوجب اعتبار التقييد المذكور بالنظر إلى حال انفراد الشروط - أيضا - بمعنى أن المتكلم يريد من المادة الطبيعة المقيدة بالنسبة إلى تلك الحال - أيضا - ولو لتوطئة الخروج عن محذور استعمالها في معنيين، مع فرض عدم تفاوت في غرضه ومقصوده، لكفاية المقيد على تقدير كفاية المطلق أيضا.
الثالث: أن ظاهر أدوات الشرط كون الشرط في القضية الشرطية بنفسه علة تامة لوجود الجزاء، لكن لا يمكن حملها على ذلك في الأدلة الشرعية، لبداهة أن الشروط والأسباب الشرعية على تقدير عليتها ليست إلا العلة الغائية للطلب التي هي أحد أجزاء العلة التامة، فيدور الأمر بين حملها على إفادة سببية تلك الأسباب للمعرفية وبين تقيد تلك الأسباب بصورة اجتماع سائر أجزاء العلة التامة، وهي العلل الثلاث الاخر - الفاعلية، والمادية، والصورية -، فحينئذ إن لم تحمل على إفادة المعرفية فلا تحمل على إفادة سببية تلك الأسباب لنفس الطلب مع تقيدها، فيكون الأدلة مجملة ساقطة عن مرحلة الاستدلال لا محالة.
وفيه: منع ظهور الأدوات في ذلك، بل الظاهر منها أن سائر الجهات التي لها مدخلية في وجود الجزاء - وهو الطلب - مفروغ عنها، وإنه ليس لترتبه وتحققه حالة منتظرة بالنسبة إلى شيء إلا على وجود الشرط، بحيث إذا وجد الشرط
216

يلزمه وجود الجزاء جدا، فتكون هي مفيدة لكون الشرط هو الجزء الأخير للعلة التامة للجزاء.
فعلى هذا لا يلزم التقيد في الأسباب بوجه، حتى يرد الأمر بينه وبين سائر التصرفات المولدة للأصل.
هذا خلاصة الكلام في النقض والإبرام في المقدمة الأولى من مقدمات دليل عدم التداخل، وهي ظهور الأدلة في السببية بعد تسليم الظهور.
وقد يمنع عدم التداخل بمنع أصل الظهور - كما مرت الإشارة إليه سابقا - لكنه بمكان من الضعف.
ثم إنه قد يناقش في المقدمة الثالثة من تلك المقدمات - وهي استلزام تعدد الأسباب تعدد الواجب بعد تسليم الأولى -: بأن اقتضاء تعدد الأسباب لتعدد المسببات مسلم لكن المسبب للأسباب المفروضة ليس إلا الإيجاب، فتعددها يقتضي تعدده، ومن المعلوم أن تعدد الإيجاب غير مستلزم لتعدد الواجب، لانتقاض دعوى استلزامه له بموضعين:
أحدهما: موارد يراد من تعدد الإيجاب [فيها] تأكيد الوجوب.
وثانيهما: ما إذا كان الفعل المأمور به مما لا يقبل التعدد كالقتل، مع أنه يصح أن يقال: إن جاءك عمرو فاقتله، وإن شتمك فاقتله، وإن آذاك فاقتله.
وفيه: أنه ناشئ عن عدم فهم الواجب المشروط وأن المشروط بالشرط ما ذا؟ فلنمهد مقالا في كشف غطاء الإجمال عن وجود حاله.
فاعلم أن المشروط بالشرط والمعلق عليه في الواجب المشروط إنما هو الوجوب، وهو اشتغال ذمة المكلف فعلا بالفعل المأمور به، بحيث ليس له تأخير الامتثال عن أول زمن الاشتغال إن كان وجوبه فوريا، وعن الوقت المضروب له إن كان موقتا بوقت موسع، لا الإيجاب، وهو إنشاء الطلب باللفظ، فإنه مقدم على زمن وجود الشرط، فلا يعقل تعليقه عليه مع تحققه قبله.
217

وبعبارة أخرى: إن المعلق على الشرط إنما هو تنجز المنشأ بذلك الإنشاء وصيرورته بعثا وتحريكا فعليا، بحيث يستتبعه استحقاق العقاب على مخالفته في الوقت المضروب لأداء متعلقه، فإن الآمر إذا التفت إلى أن للفعل مصلحة عند وجود أمر، فيكون ذلك داعيا له - قبل تحقق ذلك الأمر - إلى إنشاء طلب شأني الآن معلق بلوغه إلى مرتبة البعث والتحريك الفعلي على وجود ذلك الأمر في الخارج، بحيث إذا وجد يكون المحرك والباعث له نحو الفعل حينئذ هو ذلك الطلب الشأني من غير حاجة إلى طلب جديد أصلا، فهذا الطلب والتحريك الفعلي إنما هو ذلك الشأني، بمعنى أن أصله ومادته إنما هو ذلك، وإنما وجود الشرط صار سببا لنموه وكثرته، فمثله كمثل الزرع، حيث إن أصله إنما هو من البزر () الذي ألقاه الزارع، ونموه من قبل المربيات له من الماء وغيره، ولذا لو أمر مولى عبده بشيء على هذا الوجه، ثم حضر زمن وجود الشرط وكان المولى غافلا عن أنه أمره من قبل أو عن وجود الشرط لكان () ذلك الطلب محركا للعبد حينئذ نحو الفعل، بحيث لو ترك الامتثال حينئذ معتذرا - بأن ذلك الطلب لم يكن منجزا، ولم يصدر منه طلب منجز بعده - لاستحق الذم والعقاب
.
والحاصل: أن المعلق على الشرط إنما هو تنجز ذلك الطلب الشأني، وهو - أي التنجز - حالة بين الآمر والمأمور: إذا أضيفت إلى الآمر تسمى بعثا وتحريكا فعليا، وإذا أضيفت إلى المأمور تسمى اشتغالا فعليا.
فإذا عرفت ذلك فقد ظهر لك فضاحة () حال المناقشة المذكورة، إذ بعد
218

ما تبين أن المعلق على الشرط هو اشتغال ذمة المكلف - فعلا - بفعل المأمور به، فلا محيص عن التزام اقتضاء تعدد الأسباب الشرعية لتعدد الواجب.
219

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنه الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
[في القطع] ()
في المراد من المكلف في عبارة الشيخ (ره)
قول المصنف - قدس سره -: (فاعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي) ().
مراده - قدس سره - من المكلف ليس الذي تنجز عليه الخطاب كما هو الظاهر، - لامتناع كونه مقسما بين الملتفت وغيره، إذ لا بد في تنجز الخطاب من الالتفات لا محالة، فهو لا يكون إلا الملتفت، فيمتنع انقسامه إليه وإلى غيره بل إنما هو الجامع لشرائط الخطاب الذي هو المقسم بينهما، لأن ظاهر قوله: (إذا التفت.). هو تقسيمه إليهما الظاهر في كونه قيدا احترازيا، لا توضيحيا محققا لموضوع المكلف، كما قد يتوهم وهو أن يناسب ذلك (). نعم هو محقق لموضوع القاطع والظان والشاك، إذ لا يتحقق تلك العناوين إلا به، فهو من قبيل: (إذا رزقت ولدا فاختنه) من حيث كونه محققا لنفس الجزاء.
هذا، مضافا إلى تصريحه - قدس سره - بذلك منذ قرأنا عليه هذا الموضوع من الرسالة.
وأيضا يدفع احتمال كونه توضيحيا وإرادة الذي تنجز عليه الخطاب: أنه - قدس سره - أراد جميع أصناف الملتفت: من القاطع، والظان، والشاك، سواء
221

كان في التكليف، أو في المكلف به، مع أن الملتفت الشاك في التكليف معذور عقلا ونقلا - كما اختاره (قدس سره) في مسألة البراءة والاحتياط - فلا يصح إدخاله في المكلف إلا بإرادة ما ذكرناه فيه.
وأما لفظ الحكم: فالمراد به إنما هو الحكم الشرعي الكلي كما صرح به - قدس سره - حين قرأنا عليه، فما يتعرض [له] في مطاوي مسألة البراءة والاحتياط من حكم الشبهات الموضوعية إنما هو من باب التطفل والاستطراد.
وهل المراد به خصوص ما كان أحد الأحكام الخمسة التكليفية أو ما يعم الوضعية أيضا؟ قد صرح المصنف - قدس سره - بالأول، فتعرضه في بعض المواضع لحكم الشك في الأحكام الوضعية خارج عن وضع الرسالة، وإنما هو من باب التطفل.
وهل يمكن تقسيم مجاري الأصول إليها وإن لم يكن مرادا، أو يمتنع؟ قال - دام ظله -: يمكن بتقريب أنه إذا كان الشك في شيء منها، فإن لوحظ الحالة السابقة عليه فهو مورد الاستصحاب، وإن لم يلحظ فيه ذلك فلما لم يكن قاعدة أخرى غير الاستصحاب مثبتة للحكم الوضعي أو نافية له في مورد الشك فيه والمفروض عدم جريانه في المورد، فإن غيره من الأصول الثلاثة إنما هو مثبت أو منفي () التكليف لا غير، فينظر إلى الحكم التكليفي في ذلك المورد: فإن كان هو مشكوكا من أصله فيكون المورد مجرى البراءة لكونه شكا في التكليف، وإن علم في الجملة وشك في متعلقه فيكون مورد الاحتياط مع إمكانه، ومع امتناعه يكون موردا للتخيير، فالمورد المشكوك في حكمه الوضعي كونه مجرى للأصول الأربعة المذكورة بهذا الاعتبار.
أقول: الاعتبار المذكور لا يصحح ذلك بالنظر إلى الشك في الحكم
222

الوضعي من حيث كونه شكا في الحكم الوضعي، كما لا يخفى، بل غاية ما يصححه جريان الأصول الثلاثة الاخر - غير الاستصحاب في مورده - بملاحظة حيثية أخرى، وهي حيثية الشك في التكليف أو في المكلف به، بل المصحح لجريانها حقيقة إنما هو تلك الثلاثة لا غير، فالذي يصح جريانه في مورد الشك في الحكم الوضعي من غير توقف على ملاحظة حيثية أخرى إنما هو الاستصحاب، وأما غيره فلا، فإن أصالة البراءة - سواء أخذت من العقل أو الشرع - إنما هي نافية للمؤاخذة والتكليف على ما لم يقم حجة عليه، وأصالة الاحتياط إنما هي حكم إرشادي لأجل تحصيل الأمن من تبعة ما قام حجة عليه، وكذلك التخيير إنما هو حكم عقلي للمتخير في مقام الامتثال من غير معين ومرجح، وكلها مختصة بالشك في الحكم التكليفي، فلا تغفل.
وكيف كان، فحاصل ترجمة عبارته - قدس سره -: أن الجامع لشرائط الخطاب إذا خطر بباله محمول من المحمولات الشرعية بالنسبة إلى فعل عام من أفعال المكلف، فحالاته بمقتضى الحصر العقلي منحصرة في ثلاث، فإنه حينئذ: إما أن يرجح في نظره ثبوت ذلك المحمول للفعل المتصور، أو انتفاؤه عنه، أو لا يرجح شيء منهما أصلا، والثاني هو الشك، وعلى الأول: إما أن يكون الرجحان في نظره مانعا من احتمال النقيض، أو لا يكون، الأول هو القطع، والثاني هو الظن.
ثم إن البحث عن حجية الأمارات كالبحث عن الشبهات الموضوعية، وعلى تقديره - إنما هو من باب التطفل، إذ المقصد الأصلي - كما عرفت - إنما هو بيان حكم القطع والظن والشك بالنظر إلى الأحكام الكلية.
في وجه حصر مجرى الأصول
قوله - قدس - سره -: (وهي منحصرة في أربعة... إلخ) ()
223

ظاهره حصر نفس الأصول العملية في الأربعة، وظاهر ما فيه من التقسيم أيضا إنما هو التقسيم الأصلي، فيكون حاصل ما يستظهر منه أن الأصول العملية منحصرة عقلا في الأربعة، وهو لا يستقيم، ضرورة إمكان أزيد منها، إذ لا امتناع عقلا أن يحكم الشارع في مورد الشك بملاحظة الحالة السابقة - مثلا - في مرحلة الظاهر بحكمين: أحدهما وجوب البناء على طبق الحالة السابقة، والثاني وجوب البناء على نقيضها، مع اختلاف مواردهما، إلا أن الواقع إنما هو الأول، وهو لا ينافي إمكان الثاني.
فالحري () - مع بقاء التقسيم على ظاهره - إرادة حصر مجاري الأصول في الأربعة، كما صرح به - قدس سره - في التقسيم الذي ذكره في مسألة البراءة ()، وإرادة حصر نفس الأصول بالنظر إلى الواقع، بأن يراد من التقسيم المذكور تقسيمها من حيث الوقوع، لكن سيأتي [أنه] () من حيث دورانه بين النفي والإثبات - يأبى عن ذلك، فإنه كالصريح - بل صريح - في إرادة تقسيم مجاريها، فالأوفق - بل المتعين - حمل قوله: (وهي منحصرة في أربعة) على إرادة مجاريها.
ويشهد له - مضافا إلى عدم استقامة ظاهره الغير اللائق نسبته إلى من دونه، وإلى بعد حمله على إرادة حصر نفس الأصول بالنظر إلى الوقوع - ما صرح به في مسألة البراءة، فإن الظاهر أن ذلك الذي ذكره هنا إنما هو
الذي ذكره هناك.
224

ويرشد إليه أيضا قوله في التقسيم () المذكور: (والأول () مجرى الاستصحاب، والثاني مجرى أصالة البراءة) () إلى آخر ما ذكره - قدس سره -.
قوله - قدس سره -: (إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة... إلخ) ()
المراد بالملاحظة إنما هو ملاحظة الحكم () باعتبار الأصل العملي، وهو العقل في الأصول العقلية العملية، والشرع في الشرعية منها، لا ملاحظة المكلف - بالفتح -، لعدم العبرة بملاحظته في شيء من الأحكام، ومنه يعلم عدم صحة إرادة الأعم أيضا.
قوله - قدس سره -: (وبعبارة أخرى: الشك إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة... - إلى قوله -: والثاني مجرى أصالة البراءة... - إلى قوله -: والرابع مجرى قاعدة التخيير) ()
هذا أجود من العبارة الأولى من وجوه ():
أحدها: أن ما ذكره في الأولى من قوله: (والثاني مجرى أصالة البراءة... - إلى قوله -: والرابع مجرى قاعدة التخيير) لا ينطبق على ما ذكر فيها من التقسيم إلا بتكلف، كما لا يخفى، فالأوفق بقاعدة التقسيم من هذه الحيثية إنما هي الثانية.
وثانيها: أنه قد أخذ في الأولى إمكان الاحتياط في المقسم () بين مجرى
225

أصالة البراءة والاحتياط، ومقتضاه اختصاص أصالة البراءة بما أمكن فيه الاحتياط، مع أنها قد تجري فيما لم يمكن فيه الاحتياط - أيضا - كما إذا دار الأمر في مورد بين الوجوب والتحريم ()، والإباحة - مثلا - في شيء واحد، فإنه من مواردها على مختاره - قدس سره - أيضا، مع خروجه عما ذكره تعريفا لمجراها، بل تجري فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم في شيء واحد مع القطع بعدم الثالث - أيضا - مع عدم إمكان الاحتياط فيه بالضرورة، فتأمل.
والحاصل: أنه - قدس سره - في مقام ضبط مجاري الأصول، فلا بد من أن يكون () تعريف منها لجميع المصاديق ()، فلا يكفي الصدق في الجملة، هذا بخلاف العبارة الثانية، لعدم أخذ إمكان الاحتياط في مجرى البراءة فيها.
ويمكن التفصي عن الإشكال المذكور: بالنظر إلى صورة الشك في الوجوب والتحريم مع احتمال الإباحة، بتكلف أنها - أيضا - من موارد إمكان الاحتياط، بأن المراد من إمكان الاحتياط إمكانه في الجملة ولو بالإضافة، فإن الذي لا يمكن فيها إنما هو الاحتياط التام ومن جميع الجهات، وأما في الجملة فممكن، فإن فعل ذلك المشكوك المحتمل للوجوب والحرمة والإباحة، لاحتمال وجوبه، أو تركه لا لذلك، بل لاحتمال الإباحة، فيكون أحوط، فيمكن فيه هذا المقدار من الاحتياط.
وبالجملة: المكلف في الصورة المذكورة وإن لم يكن [ملزما] بشيء () من الفعل أو الترك إلا أن إقدامه على أحدهما لاحتمال الوجوب أو الحرمة أحوط
226

من إقدامه عليه لاحتمال الإباحة، فتأمل.
وأما بالنظر إلى صورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة مع القطع بعدم الثالث، فيمتنع كونها من موارد البراءة، بل إنما هي من موارد التخيير.
وثالثها: أن المأخوذ في مجرى التخيير بمقتضى العبارة الأولى أمران:
أحدهما: عدم ملاحظة الحالة السابقة على الشك.
وثانيهما: عدم إمكان الاحتياط من غير إشارة فيها إلى اعتبار أزيد منها فيه، ولا ريب أنه بإطلاقه شامل لبعض الصور من موارد الشك في التكليف التي هي مجرى أصالة البراءة، كالصورة الأولى من الصورتين المذكورتين في الوجه الثاني، بخلاف العبارة الثانية، فإن المعتبر فيها في مجرى التخيير أمور ثلاثة:
ثالثها كون الشك في المكلف به فلا يشملها.
اللهم إلا أن ينصف () في دفع هذا الإشكال - أيضا - بما ذكر، وهو كما ترى، فالعبارة الثانية أجود، بل سنبينه () بالإضافة إلى الأولى.
ثم إنه - دام ظله - قال [ها هنا] مناقشتان: إحداهما مختصة بالعبارة الأولى، والأخرى مشتركة بينهما ():
أما المختصة بالأولى: فهي أن المذكور فيها ضابطا لمجرى أصالة البراءة هو أن يكون الشك في التكليف مع إمكان الاحتياط في مورد الشك - مثلا - نظرا إلى ظهورها في أخذه واعتباره في المقسم بين مجرى البراءة والاحتياط، ولمجرى أصالة التخيير أن يكون الشك غير ملحوظ فيه الحالة السابقة، مع عدم إمكان الاحتياط في مورده، من غير اعتبار كون الشك في المكلف به، كما مرت
227

الإشارة إليه سابقا.
ومن المعلوم أن صورتي دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء واحد - مع القطع بعدم الثالث أو مع احتماله - لا يشملهما () حد مجرى أصالة البراءة المذكورة في العبارة الأولى باعتبار أخذ إمكان الاحتياط فيه ولو مع إرادة النوع الخاص من التكليف مع أنهما من مواردها على مختار المصنف في مسألة البراءة والاحتياط - كما هو المختار عندنا أيضا - ويشملهما حد () مجرى التخيير المذكور فيها، سواء أريد بالتكليف جنس الإلزام أو نوعه الخاص، إذ اللازم على التقدير الثاني كون الصورتين المذكورتين كلتيهما من صور الشك في التكليف، وعلى التقدير الأول كون الثانية منهما () وكون الأولى من صور الشك في المكلف به، والمفروض عدم اعتبار كون الشك راجعا إلى المكلف به في مجرى التخيير، فيشملها على كل من التقديرين، مع أنها ليست من موارده، مع أنه يشتمل الصورة الأولى على التقدير الأول مع اعتبار القيد المذكور أيضا، كما سيأتي بيانه.
وكيف كان، فالكلام في المناقشة في العبارة المذكورة بالنظر إلى عدم اعتبار القيد المذكور في حد مجرى التخيير، وإلى اعتبار إمكان الاحتياط في مجرى البراءة، واللازم من احتمال الأولى () في الأول انتقاض طرده بالصورتين المذكورتين، ومن اعتبار الثاني في الثاني انتقاض عكسه بهما ().
228

ولا يجري هذه المناقشة في العبارة الثانية بالنظر إلى الثانية من الصورتين مطلقا، وإلى أولاهما () بناء على إرادة النوع الخاص من التكليف، إذ الثانية لم يعلم فيها الإلزام مطلقا - لا نوعه ولا جنسه - فلا تكون من موارد الشك في المكلف به مطلقا، فلا يشملها حد مجرى التخيير المذكور في تلك العبارة، لاعتبار رجوع الشك فيها إلى المكلف به، ويشملها حد مجرى أصالة البراءة المذكور فيها كذلك، لأنها على التقديرين من موارد الشك في التكليف المذكور فيها حدا لمجراها.
وأما أولى الصورتين فلأنها إن تكن من صور الشك في التكليف - بناء على إرادة جنس الإلزام من التكليف المذكور في تلك العبارة - يتجه () المناقشة المذكورة والنقض بها على ذلك التقدير، وأما بناء على تقدير إرادة
النوع الخاص منه فلا، كما لا يخفى.
وأما المناقشة المشتركة بين العبارتين: فهو أن المصنف قد حدد مجرى أصالة البراءة في أولاهما بكون الشك في التكليف مع إمكان الاحتياط، فيتجه عليه أن مراده بالتكليف المذكور فيهما إما النوع الخاص من الإلزام، أو جنسه، وعلى التقديرين لا يستقيم شيء من الحدين المذكورين لمجرى أصالة البراءة في العبارتين:
أما على الأول: فلانتقاض طرد كل منهما بصورة دوران الأمر بين وجوب أحد الشيئين بالخصوص وبين حرمة الآخر كذلك، بأن يقطع بصدور إلزام من الشارع، ويشك في أنه هل هو وجوب الصلاة - مثلا - أو حرمة الخمر؟ لأن القدر المعلوم في تلك الصورة إنما هو جنس الإلزام، فيكون الشك فيها على التقدير
229

المذكور راجعا إلى الشك في التكليف المأخوذ في مجرى أصالة البراءة في كل من العبارتين.
ومن المعلوم إمكان الاحتياط فيها - أيضا - بفعل ما يحتمل الوجوب وترك ما يحتمل الحرمة، فيصدق عليها كل من حدي أصالة البراءة، مع أنها من موارد الاحتياط على مختار المصنف في مسألة البراءة والاحتياط أيضا.
وأيضا ما يلزم على هذا التقدير انتقاض عكس حد مجرى الاحتياط المذكور فيها بتلك الصورة، فإن المذكور في كل منهما ضابطا له قد أخذ فيه رجوع الشك إلى المكلف به.
وأما على الثاني: فلانتقاض عكسها بصورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء واحد مع القطع بعدم الثالث، إذ عليه تدخل تلك الصورة في صورة الشك في المكلف [به]، فلا يشملها الحدان، مع أنها من موارد أصالة البراءة على مختاره أيضا.
أقول: ويمكن الذب عن المناقشة الأولى بالتكليف المقدم، وهو دعوى إمكان الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم في شيء واحد مع احتمال الثالث، لكنه على تقدير تماميته لا ينفع في الذب عنها بالنظر إلى دوران الأمر بينهما مع القطع بعدم الثالث.
ويمكن الذب عنها بالنسبة إليها بالتزام كونها من موارد التخيير لا البراءة، والمصنف اختار فيها - في مطاوي مسألة البراءة والاحتياط - القول بالتوقف في مقام الحكم، والتخيير في مقام العمل، فلا يرد عليه بالنسبة إليها المناقشة المذكورة.
والذي يوهم اختياره هناك الرجوع فيها إلى أصالة البراءة حكمه فيها بنفي الحرج عقلا من الفعل والترك، فيحتملان، هذا هو معنى الرجوع إلى أصالة البراءة، وهو فاسد، لأن التخيير والبراءة من حيث النتيجة - وهو نفي
230

الحرج عن الفعل والترك - موافقان، وإنما يختلفان من حيث المدرك، فإنه إمكان الحكم بنفي الحرج من جهة عدم البيان المأخوذ في دليل أصالة البراءة عقلا ونقلا أيضا، فيكون ذلك هي أصالة البراءة، وإن كان من جهة الاضطرار إلى أحد من الفعل والترك مع عدم مرجح لأحدهما بالخصوص، فيكون ذلك هو التخيير، والمصنف حكم هناك من الجهة الثانية بتعريف الحكم به من جهة أدلة البراءة. فراجع.
والحاصل: أن التخيير - قد يكون بين الحكمين، وقد يكون بين الفعلين، وقد يكون بين الفعل والترك - واحد ()، ومدركه في الكل الاضطرار إلى الإقدام إلى أحد الأمرين مع العجز عن الجمع بينهما مع عدم مرجح لخصوص أحدهما ومعين له على المكلف، سواء كان الاضطرار والعجز كلاهما عقليين كما في الصورة المذكورة، أو شرعيين كما إذا وجب شرعا شرب أحد من الفقاع أو الخمر - مثلا - دواء عن مرض يخاف منه على نفسه، فإن اضطراره إلى أحدهما شرعي، وكذا العجز عن الجمع بينهما، أو مختلفين كما في المتزاحمين المتساويين عن المكلف، فهو لا ينحصر فيها إذا كان طرفاه فعلين أو حكمين، بل يجري في فعل شيء واحد.
وقوله: ويغاير أصالة البراءة من أنه مبني على المقدمات الثلاث المذكورة، وأصالة البراءة مبناها عدم البيان.
ومما ذكرنا - أن النظر في التخيير إنما هو إلى المقدمات الثلاث المذكورة التي ليس شيء منها الجهل - أنه حقيقة () خارج عن القواعد المقررة للشك، بل إنما هو من الأصول العقلية المقررة للمضطر العاجز الذي لا ترجيح له لأحد
231

الطرفين، ولذا يجري في المتزاحمين المتساويين مع عدم الشك في حكم كل منهما في نفسه، وكذا في حكمها () عند التزاحم.
نعم قد يتحقق مقدماته في مورد الشك، فيجري فيه لذلك، فمدركه فيه بعينه هو الذي في المتزاحمين، فلا يخفى ما في عده من الأصول المقررة للشك من المسامحة.
وأما المناقشة الثانية: فيمكن الذب عنها باختيار الشق الثاني من الشقين المذكورين في أولاهما - وهو إرادة جنس الإلزام من التكليف - وضع () اللازم - وهو انتقاض عكس الحدين المذكورين بصورة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة في شيء واحد مع القطع بعدم الثالث - بما مر في توضيح الجواب عن المناقشة الأولى بالنظر إلى تلك الصورة من أنه اختار فيها التخيير، فلا () هي على مختاره من موارد أصالة البراءة، بل هذا هو الذي ينبغي اختياره على القول بالبراءة فيها، وقد صرح المصنف بإرادة جنس الإلزام من التكليف حين قرأنا عليه هذا الموضع من الرسالة.
نعم هو - قدس سره - قد صرح في التقسيم الذي ذكره لمجاري الأصول في أول المسألة: بأن المراد بالتكليف النوع الخاص منه، وهو ينافي ما اختاره هنا.
وتصريحه به هناك يوهم إرادة النوع الخاص منه هنا أيضا، فيرد عليه انتقاض طرد الحدين المذكورين.
ثم إنه بقي أمران ينبغي التنبيه عليهما:
الأول: أن مراد المصنف من المجرى يحتمل أمورا:
232

أحدها: ما يمكن أن يجري فيه أحد الأصول الأربعة، فيجري أصالة البراءة - مثلا - أو ما يمكن جريانها فيه ولو لم يجر فيه فعلا، إما لقاعدة حاكمة عليها، أو معارضة لها، أو لعدم قيام دليل على اعتبارها فيه في نفسها.
وثانيها: ما يكون حكمه الظاهري فعلا أحد تلك الأصول، فمجرى أصالة البراءة معناه ما يكون حكمه الفعلي من البراءة ().
وثالثها: ما يكون محلا لجريان واحد مخصوص منها على تقدير قيام دليل على اعتباره، بمعنى أنه على تقدير اعتباره إنما يجري فيه لا غيره ()، فلا ينافي ذلك كالأول، [أي] عدم قيام دليل على اعتبار الأصل، بل يجامع () مع امتناع اعتباره أيضا.
لا سبيل إلى شيء من الأولين:
أما أولهما: فلاستلزامه عدم انضباط مجاري الأصول لإمكان جريان كل منها في مورد الآخر، ضرورة إمكان جريان الاحتياط في موارد الشك في التكليف التي هي مجرى لأصالة البراءة، وكذا جريان أصالة البراءة في موارد الشك في المكلف به ولو بحكم الشارع، غاية الأمر - أيضا - لم يقعا، وعدم الوقوع لا ينافي الإمكان.
وأما ثانيهما (): فإن تلك الأصول إنما تكون أحكاما فعلية لمجاريها إذا لم تعارضها قاعدة أخرى أو تحكم عليها، مع أن كل قاعدة جارية في مورد إذا حكمت عليها قاعدة أخرى أو عارضتها لا يخرج - بذلك - ذلك المورد من كونه مجرى لها، فأصالة البراءة - مثلا - إذا عارضتها قاعدة أخرى في مورد أو حكمت
233

عليها لا يخرج ذلك المورد بذلك عن كونه مجرى لها في الاصطلاح قطعا، فتعين الثالث.
الثاني: أن الغرض الأصلي للمصنف [قدس سره] من وضع رسالة البراءة والاستصحاب - المشتمل عليهما كتابه هذا - إنما هو بيان الأصول والقواعد العامة الأولية الشرعية أو العقلية المقررة للشك المنحصرة في الأربعة المشار إليها، فلما لم ينسب المجاري الأربعة المذكورة إلا إليها، مع أن غيرها من الأصول، العملية الخاصة ببعض موارد الشك لا يخرج مجراها عن أحدها - كقاعدة الشك في عدد الركعات، وهي البناء على الأكثر، فإن موردها متحد مع الاستصحاب في خصوص عدد الركعات - فتعرضه لبعض تلك القواعد الخاصة في مطاوي الرسالتين إنما هو من باب التطفل، كتعرضه لقاعدة التخيير بين () الخبرين المتعارضين، فإن مراده بالتخيير الأولي العام المحكوم عليه بالعقل، لا ما يعم ذلك التخيير الخاص لخصوص الخبرين المتعارضين، وقد صرح رحمه الله في موضع من رسالة البراءة: أن التخيير حكم عقلي، ومن المعلوم أن التخيير بين الخبرين حكم شرعي خاص، بمورد كذلك، وتحديده لمجرى التخيير بما لم يمكن فيه الاحتياط شاهد على ذلك أيضا، لجريان التخيير بين الخبرين فيما أمكن فيه الاحتياط أيضا، فتعرضه للتخيير بين الخبرين في موارد كون الشك ناشئا من تعارض النصوص إنما هو لأجل استيفاء الحكم العقلي لتلك الموارد، بمعنى الحكم الآخر () الذي لا يكون بعد حكم ظاهري معارض له أو حاكم عليه.
قوله - قدس سره -: (وما ذكرناه هو المختار في مجاري الأصول... إلخ) ().
234

إشارة إلى ما ذهب إليه الأخباريون: من عدم جريان أصالة البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية، وأنها مجرى الاحتياط، مع أنها من الشك في التكليف الذي جعله - قدس سره - مجرى لأصالة البراءة.
في بيان المراد من الحجة في باب الدلالة الشرعية
قوله - قدس سره -: (لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه ما دام موجودا) ().
مراده من وجوب المتابعة إنما هو وجوبها عقلا من باب الإرشاد، لا الوجوب الشرعي، لما سيأتي من امتناع توجه الأمر والنهي شرعا إلى العمل بالقطع.
قوله - قدس سره -: (لأنه بنفسه طريق إلى الواقع.) ()..
توضيحه: أن الحجة المبحوث عنها في باب الأدلة الشرعية هي ما كانت () طريقا إلى الواقع، بمعنى كونه كاشفا عن متعلقه وعن جميع لوازمه الشرعية والعقلية، وهذا المعنى إنما هو من الآثار القهرية للقطع يمتنع عقلا انفكاكه عنه، فإنه إذا قطع بشيء فلازمه انكشاف ذلك الشيء للقاطع وانكشاف جميع لوازمه - عقلية أو شرعية - فلا يكون قابلا للجعل، لا نفيا لفرض امتناع () نفي هذه الصفة عنه، ولا إثباتا لكونه تحصيلا للحاصل، وإنما يمكن جعل شيء طريقا إذا كان نفي طريقيته باختيار الجاعل، والمفروض امتناعه في المقام.
هذا مع أن ما ذكرنا - من أن لازم القطع بشيء انكشافه - مسامحة، فإن حقيقة القطع بشيء إنما هي انكشافه للقاطع، نعم استكشاف لوازم ذلك الشيء من لوازم انكشافه، ولأجل أن القطع بشيء إنما هو انكشافه لا يطلق عليه الحجة
235

حقيقة اصطلاحا، فإنها عبارة عن الوسط الذي يكون واسطة لانكشاف ثبوت الأكبر للأصغر، فلا يطلق على نفس الانكشاف حقيقة.
وبالجملة: إذا حصل القطع بشيء يترتب () عليه بمجرده جميع لوازمه وآثاره الشرعية والعقلية - أيضا - بعد الالتفات إلى الملازمة بينهما، سواء كان ذلك الأمر المقطوع به موضوعا من الموضوعات أو حكما من الأحكام، إذ ليس الترتب إلا الانكشاف، ومن البديهي أن انكشاف شيء ملازم عقلا لانكشاف جميع لوازمه بعد العلم والالتفات بالملازمة بينهما، فإذا قطع بكون مائع معين خمرا، ينكشف () له حرمته ونجاسته اللتان هما من الآثار الشرعية للخمر بعد الالتفات إلى الملازمة، وكذا لزوم إطاعة ذلك النهي الذي هو من الآثار العقلية، وكذا إذا قطع بوجوب شيء فيكشف () به له بمجرده وجوب إطاعته الذي هو من آثاره العقلية ووجوب مقدمته وحرمة ضد ذلك الشيء بعد العلم والالتفات إلى الملازمة بينه وبين تلك اللوازم من غير حالة منتظرة بعده، ولا احتياج في ترتبها عليه إلى قيام طريق آخر، فإنه بمجرد القطع المذكور يحصل له صغرى وجدانية، وهو قوله: هذا خمر، وكبرى كذلك إذا كان قاطعا بلزوم تلك اللوازم، وهو قوله: كل خمر يجب الاجتناب عنها، ويحرم شربها، أو كل واجب يجب مقدمته ويحرم ضده.
أو مشروعيته () بناء على ثبوت اللزوم عنده بدليل تعبدي، أو آثاره كذلك، وبضم تلك [إلى] تينك () المقدمتين ينتج منها ثبوت تلك اللوازم للأمر المقطوع به: إما قطعا كما إذا قطع بالملازمة المذكورة، أو تعبدا كما إذا ثبت بطريق
236

تعبدي، نظرا إلى اتباع النتيجة لأخس المقدمات، فلا يمكن إزالة الصفة المذكورة عن القطع، كما يمتنع إيجادها فيه - أيضا - لكونه إيجادا للموجود، لكونها من اللوازم القهرية له، ولا فرق بين اللوازم التي ثبت لزومها للأمر المقطوع به بالقطع، وبين التي ثبت لزومها له بطريق تعبدي في ترتب كل منها عليه بعد القطع به، إذ الكلام في ترتب اللوازم بعد الفراغ عن لزومها له، فإذا ثبت لزوم شيء له - ولو تعبدا - فهو يترتب عليه بعد القطع جدا، ونهي الشارع عن ترتيبه عليه - بعد بقاء الأمر بالسلوك على مقتضى ذلك الطريق العلمي المسبب للأمر () على إطلاقه - ممتنع، لرجوعه إلى التناقض.
نعم يجوز له أن يخصص أمره بالسلوك على مقتضاه بغير ذلك المورد، فيخرج المورد عن محل الفرض، لرجوعه إلى انتفاء اللزوم وعدم ثبوته عند القاطع، لا واقعا لفرض شكه فيه، ولا ظاهرا لفرض عدم اعتباره الطريق المثبت له.
وبالجملة: اللوازم - التي يثبت لزومها للأمر المقطوع به - لزومها له قطعي في مرحلة الظاهر، وأن الشك في لزومها بالنظر إلى الواقع، وهو لا يضر بترتيبها عليه بعد القطع، فهي كالتي ثبت لزومها له بالقطع من حيث استلزام القطع به القطع بها بالنظر إلى الحكم الفعلي للقاطع، مع بقاء التعبد بطريق لزومها على حاله.
ثم إنه كما لا يجوز جعل الطريق طريقا أو نفي الطريقية عنه، كذلك لا يجوز النهي عن السلوك على مقتضاه، بل وكذا الأمر به أيضا.
أما النهي فلكونه مناقضا في نظر القاطع لما انكشف له بالقطع، ومع وجود
237

قطعه - كما هو المفروض - فلا يؤثر ذلك في حقه من شيء ()، فإن قطعه وإن أمكن كونه جهلا مركبا، لكنه غير محتمل له، فمع بقائه يقطع القاطع بكذب ذلك النهي، وأنه مجرد لفظ لم يرد منه ترك ما قطع بلزوم فعله، فلا يفيد في حقه المنع منه، فيلغى. هذا إذا كان القاطع مطيعا.
وأما إذا كان عازما على العصيان فامتناع النهي حينئذ أظهر، لحصول الغرض منه، وهو ترك السلوك، وإلا لو فرض كون الترك - على تقديره - تعبديا فلا يفيد ذلك النهي في حقه أيضا، إذ المفروض أنه قاطع بالخلاف، فتحقق الترك منه () - حينئذ - لا يمكن إلا على وجه العصيان للأمر المقطوع به، فالداعي إلى الترك إنما هو تشهي نفسه، ولا يعقل أن يكون هو النهي، فيمتنع تحقق الترك منه - حينئذ - على وجه التعبد، فيلغى النهي المذكور بالنظر إلى تلك الفائدة أيضا.
وأما الأمر فلأن فائدته إنما هو تحريكه إلى إطاعة المقطوع به، ومع فرض قطعه قبله يتوجه أمر إليه بكون المحرك له هو قطعه بذلك الأمر، فلا يؤثر هذا الأمر في التحريك شيئا، فيلغى. هذا إذا كان القاطع عازما على الإطاعة.
وأما إذا كان عازما على العصيان فلا يفيد ذلك في حقه بعثا وتحريكا أيضا، فيلغى هو من جهة هذه الفائدة.
ولو كان الأمر المذكور لأجل تمامية الحجة عليه كما في تكليف الكفار، فهو - أيضا - غير محتاج إليه لتماميتها بقطعه بكونه مكلفا.
ولو كان لأجل فائدة الإجزاء فقد حققنا في محله أنه يدور مدار الإتيان
238

على ما هو عليه من غير مدخلية الأمر () على طبق الطريق المؤدي ولو كان لأجل فائدة [تدارك] ما يفوته من () مصلحة الواقع بالعمل بقطعه، فلا ريب أن لزوم التدارك حكم عقلي مبني على استناد فوت المصلحة إلى أمر الشارع، ومع قطعه بكونه هو المحرك للعمل على طبقه (لو كان مطيعا) () فلا يستند فوت المصلحة إلى الشارع بوجه، فظاهر امتناع الأمر () من الشارع - بالعمل عليه - كالنهي عنه أيضا.
نعم يجوز الأمر به من باب الإرشاد والموعظة فيمن لم يكن عازما على العصيان أو على الإطاعة، بل في عازمه - أيضا -، فإنه ربما يوجب ردعه عما عزم إليه () من العصيان.
وكيف كان فصحة الأمر به لا تضرنا فيما نحن بصدده، إذ الغرض الأصلي إنما هو إتيان () لزوم العمل بالقطع وعدم جواز المنع عنه، وهما حاصلان بما غير متوقف على امتناع المأمور ().
وقد ظهر بما مر عدم جواز التفصيل في لزوم العمل بالقطع بين أسبابه وأزمانه ومتعلقاته لجريان الدليل المذكور في كل قسم على حد سواء.
قوله - قدس سره -: (ومن هنا يعلم أن إطلاق الحجة عليه ليس كإطلاق الحجة على الأمارات المعتبرة شرعا.) ()..
239

بيانه: أن الحجة في المبادي المنطقية عبارة عن مطلق الوسط الذي يحتج به على إثبات الأكبر للأصغر بمعنى ما يتوقف إثبات الأكبر للأصغر على توسيطه، لا مطلق ما يصح توسيطه، وفي باب الأدلة الشرعية عبارة عن الوسط المخصوص، وهو ما كان واسطة لإثبات أحكام متعلقه التي ثبتت لذات المتعلق، فلذا لا يطلق الحجة حقيقة على العلم المأخوذ موضوعا لحكم أو جزء لموضوعه - في اصطلاح الأصوليين - وإن كان إطلاقها عليه حقيقة بالنظر إلى اصطلاح أهل الميزان.
وكيف كان، فالاحتياج إلى التوسيط مأخوذ في معنى الحجة في كل من الاصطلاحين، ومن المعلوم أن القطع الذي هو طريق إلى أحكام متعلقه - لا جزء لموضوع تلك الأحكام - لا يتوقف إثبات تلك الأحكام المتعلقة () على توسيطه، بأن يقال للمائع المقطوع بكونه خمرا: إن هذا معلوم الخمرية، وكل معلوم الخمرية حرام، بعد فرض أن الحرمة إنما هي من أحكام ذات الخمر وإن جاز توسيطه كذلك لكونه صادقا، نظرا إلى أن معلوم الخمرية خمر عند القاطع، وكل خمر حرام، فالمترتب على القطع بكون مائع مخصوص خمرا ليس إلا انكشاف مصداق ذلك المائع لكلي الخمر التي حكمها الحرمة، والواسطة لإثبات الحرمة له إنما هو الخمر، لفرض أن حرمته لكونه من أفراد الخمر، لا القطع بكونه خمرا.
والحاصل: أن القطع إنما هو طريق إلى ذات الأصغر والواسطة لإثبات الأكبر له غيره وهو العنوان العام الذي ثبت له الأكبر أولا وبالذات.
وما ذكرنا من صحة توسيطه أيضا محل تأمل، بل لا يبعد استهجانه في نظر العقلاء، إذ ليس كل ما له دخل في حكم واقعا يصح توسيطه ودخله في موضوعه إذا كان صادقا.
240

ألا ترى أنه إذا أوقد سراج في مسجد داج، فانكشف به أن فيه كلبا، يصدق أن يقال حينئذ: إن هذا انكشف كونه كلبا بالسراج، وكل ما كان كذلك يجب إخراجه عن المسجد، مع أنه مستهجن جدا، نظرا إلى أن أحكام الكلب إنما هي ثابتة لذات الكلب، لا لما انكشف كونه كلبا بالسراج.
هذا بخلاف الأمارات المعتبرة شرعا، فإنها بالنظر إلى [إثبات] الأحكام الواقعية لمتعلقاتها وإن لم يكن لها دخل أصلا، حيث إنها ثابتة [لذات] الأفعال من غير مدخلية طريق إليها، لكنها بالنظر إلى الحكم الظاهري كالتغير بالنسبة إلى الحدوث من حيث كونها مأخوذة في موضوعه، فيكون إثبات الأحكام الظاهرية لمتعلقاتها متوقفا على توسيطها لذلك.
وبعبارة أوضح: إن الحرمة الواقعية للخمر - مثلا - إنما هي ثابتة لذات الخمر الواقعية، فلا تثبت لمشكوك الخمرية لعدم إحراز صدق الخمر عليه، والحكم على ذلك المشكوك بالحرمة ظاهرا لا يكون إلا بعد قيام أمارة على كونه خمرا، فيتوقف الحكم بها عليه في الظاهر على توسيطها، بأن يقال: إن هذا ما قامت البينة على كونه خمرا، وكل ما كان كذلك فهو حرام في مرحلة الظاهر، فهذا حرام في مرحلة الظاهر.
فصار حاصل الفرق بين القطع الذي هو طريق إلى أحكام متعلقة وبين الأمارات: أنه لما لم يكن مأخوذا في موضوع أحكام متعلقة - لا واقعا، لفرض أن الأحكام الواقعية إنما [هي] لذات متعلقه، ولا ظاهرا، لفرض كونه.. (). - غير مأمور بالعمل على مقتضاه شرعا، فلا يقع وسطا لإثبات أحكام متعلقة مطلقا، فلا يطلق عليه الحجة بوجه.
هذا بخلاف الأمارات المعتبرة لكونها مأخوذة في الأحكام الظاهرية،
241

فيطلق عليها الحجة بهذا الاعتبار.
هذا توضيح ما أفاده المصنف.
أقول: لا يخفى على المتأمل أن الأمارات المعتبرة بالنسبة إلى أحكام متعلقاتها ليست كالتغير بالنسبة إلى الحدوث من حيث كونه موضوعا له، حتى يصح توسيطها في إثبات تلك الأحكام لمتعلقاتها كذلك.
أما بالنظر إلى الواقع فظاهر، وأما في الظاهر () فلأن الحكم على متعلقاتها بتلك الأحكام في الظاهر يتوقف على ثبوت مصداقية تلك المتعلقات للعناوين الكلية التي هي الموضوعات لتلك الأحكام في الواقع ولو بطريق شرعي، فالحكم عليها بأحكام الواقع لأجل كونها محرزة لصغرى تلك الأحكام، فإن المائع المشكوك في خمريته لا يجوز الحكم عليه بحكم الخمر، وهي الحرمة واقعا، لعدم إحراز صدق الخمر عليه، والحكم عليه بها في الظاهر يتوقف على ثبوت خمريته بطريق شرعي، والأمارات القائمة على كونها خمرا مبينة لمصداقيته للخمر
بمقتضى دليل اعتبارها الدال على وجوب تصديقها وإلغاء احتمال مخالفتها للواقع، فإذا قامت بينة على خمرية مائع مشكوك الخمرية - مثلا - فهي محرزة لصغرى، وهي قولنا: هذا خمر، وثبوت الحرمة له - حينئذ - إنما هو بتوسيط الخمر، فيقال حينئذ: إن كل خمر حرام، فهذا حرام، لا بتوسيط البينة، بأن يقال: إنه ما قامت البينة على كونه خمرا، وكل ما كان كذلك فهو حرام، فهذا حرام، فتوقف الحكم بالحرمة عليه ظاهرا على قيام أمارة على خمريته إنما هو من حيث ثبوت مصداقية الخمر بها، لا لأجل كونها واسطة لإثبات الأكبر - وهو قولنا: حرام - للأصغر الذي هو ذلك المائع المشكوك في خمريته.
ويكشف عن ذلك: أن الأحكام الثابتة لمتعلقات الأمارات إنما يحكم
242

عليها بعنوان كون تلك المتعلقات مصاديق للعناوين الكلية الواقعية التي هي الموضوعات الأولية في الواقع لتلك الأحكام، لا بعنوان كونها موضوعات اخر () في قبال تلك العناوين، وإلا لزم التصويب وخروج تلك الأحكام عن كونها أحكاما ظاهرية.
والحاصل: أن ما كان طريقا إلى شيء - سواء كان هو القطع أو غيره من الطرق الغير العلمية المعتبرة - ليس من شأنه التوسط لإثبات أحكام ذلك الشيء، بل غاية ما يترتب عليه إنما هو ثبوت مصداقية متعلقة للعناوين الكلية التي هي الموضوعات الأولية لتلك الأحكام، فلا فرق من تلك الجهة بين القطع والأمارات بوجه.
نعم في إثبات مصداقية متعلقات الأمارات لتلك العناوين يحتاج إلى توسيط الأمارات، فإنها ما لم يعلم مصداقيتها لها فلا يحكم بكونها مصاديق لها واقعا، والحكم عليها بمصداقيتها لها في الظاهر إنما هو لأجل قيام تلك الأمارات على مصداقيتها لها، فإذا كان المطلوب مصداقيتها لها في الظاهر فيتوقف إثباتها على توسيط الأمارات، بأن يقال: هذا المائع قامت البينة على خمريته، وكل ما كان كذلك فهو خمر في الظاهر، فهذا خمر في الظاهر، وهذا بخلاف القطع، فإن حقيقة القطع بكون مائع خمرا انكشاف مصداقيته للخمر، فلم يبق بعد تحققه حالة منتظرة في الحكم بكون ذلك المائع خمرا واقعا أو ظاهرا إلى ملاحظة مقدمة أخرى، وهي أن كل معلوم الخمرية خمر، بل يحكم - حينئذ - بكونه خمرا واقعا وظاهرا.
هذا مضافا إلى أنه لا يصح توسيطه - أيضا - لأن القطع ليس مقوما للخمر، لا واقعا ولا ظاهرا.
243

أما واقعا فظاهر، وأما ظاهرا فلفرض عدم تعبد من الشارع بالعمل بالقطع لكونه طريقا منجعلا بنفسه، ولذا لو قيل: - هذا معلوم الخمرية، وكل معلوم الخمرية خمر - يكون الكبرى كاذبة بالنظر إلى الواقع والظاهر:
أما بالنظر إلى الواقع فلعدم كون العلم مقوما للخمرية، لإمكان كونه جهلا مركبا، فيكذب القول بكون معلوم الخمرية خمرا في الواقع.
أما بالنظر إلى الظاهر فلعدم حكم الشارع بالبناء على مؤدى القطع في الظاهر.
نعم كل معلوم الخمرية خمر عند القاطع واقعا ما دام قاطعا بخمريته.
فظهر أن الفرق بين القطع والأمارات: إنما هو في الاحتياج إلى توسيط الأمارات في إثبات مصداقية متعلقاتها للعناوين الكلية في الظاهر، وعدم الاحتياج إلى توسيط القطع وإثبات مصداقية متعلقة لتلك العناوين مطلقا وأن منشأ ذلك الفرق إنما هو سببية الأمارات لمصداقية متعلقاتها لتلك العناوين ظاهرا، وعدم سببية القطع لمصداقية متعلقه لها مطلقا، فكان الأجود أن يفرق المصنف - قدس سره - بينهما بالاحتياج إلى التوسيط وعدمه بالنظر إلى مصداقية متعلقاتها لموضوعات الأحكام الواقعية.
ثم إن قوله - قدس سره -: (ليس كإطلاق الحجة على الأمارات المعتبرة شرعا) ().. إن أريد به أن إطلاق الحجة على الأمارات الشرعية حقيقة في اصطلاح الأصوليين لكونها أوساطا لإثبات أحكام متعلقاتها ففيه:
بعد الغض عما مر - من منع كونها أوساطا لها - أنه ليس كل ما كان وسطا
244

حجة في اصطلاحهم، وإنما هو وسط مخصوص، وهو ما كان طريقا لإثبات أحكام متعلقه كما اعترف به قدس سره.
وقد عرفت أن توسيط تلك الأمارات - على تقديره - إنما هو بالنظر إلى إثبات متعلقاتها لها في مرحلة الظاهر، لا الواقع، لقيام احتمال مخالفتها له.
وقد عرفت أن ذلك من جهة دعوى كونها مأخوذة في موضوع تلك الأحكام وهو - قدس سره - قد اعترف بأن ما كان مأخوذا في موضوع حكم لا يطلق عليه الحجة في اصطلاحهم وإن كان يصح توسيطه، ويطلق عليه الحجة في اصطلاح أهل الميزان، ولذا أخرج القطع المأخوذ في موضوع الحكم عن كونه حجة في اصطلاحهم، فلازم ما اعترف به عدم صحة إطلاق الحجة على الأمارات حقيقة في اصطلاحهم، لمساواتها للقطع المأخوذ في موضوع الحكم.
وإن أريد أن إطلاق الحجة على الأمارات حقيقة في اصطلاح أهل الميزان وإن لم يكن حقيقة في اصطلاح الأصوليين فيتجه عليه: أنه - قدس سره - يعترف بكونها حجة في اصطلاحهم.
والحاصل: أن وجه صحة إطلاق الحجة على الأمارات كونها أوساطا لإثبات أحكام متعلقاتها في الظاهر، ووجه توسيطها في إثباتها إنما هو كونها مأخوذة في موضوع أحكام متعلقاتها، كما يظهر من قياسه لها على التغير بالنسبة إلى الحدوث، فيكون المصحح لإطلاق الحجة عليها بالأخرة هو كونها مأخوذة في موضوع تلك الأحكام في الظاهر، فيكون دعوى إطلاق الحجة عليها حقيقة في اصطلاح الأصوليين مناقضة لما بنى عليه تلك الدعوى من كونها مأخوذة في موضوع تلك الأحكام، لعدم صحة إطلاق الحجة على ما يكون كذلك حقيقة في اصطلاحهم بمقتضى اعترافه.
ودعوى إطلاقها عليه كذلك في اصطلاح أهل الميزان وإن لم يكن مناقضة له، بل متوقفة عليه، إلا أن الاعتراف بكونها مأخوذة في موضوع تلك الأحكام
245

مناقض لاعترافه بكونها حجة في اصطلاح الأصوليين، نظرا إلى ما ذكره من أن الطريق المأخوذ في موضوع الحكم لا يطلق عليه الحجة في اصطلاح الأصوليين، فلا تغفل.
والتحقيق: ما ذكرنا من عدم كونها مأخوذة في موضوع أحكام متعلقاتها، فلا تكون أوساطا في إثباتها بوجه، لأن الوسط لإثبات حكم لا يقع وسطا إلا بكونه مأخوذا في موضوعه، ولازم ذلك عدم كونها حجة في تلك الأحكام بالنظر إلى اصطلاح أهل الميزان، وإنما تكون كذلك بالنظر إلى إثبات مصداقية متعلقاتها لتلك الأحكام لكونها أوساطا في إثباتها، كما مر.
لكن ذلك لا يقدح بإطلاق الحجة عليها حقيقة بالنظر إلى اصطلاح الأصوليين إن كانت هي في مصطلحهم عبارة عما ذكره المصنف - من أنها ما كانت طريقا إلى إثبات أحكام متعلقه، فإن كون شيء طريقا إلى إثبات أحكام شيء آخر [لا] يتوقف على التوسيط، بل ينافيه، ويحصل طريقية الأمارات لإثبات أحكام متعلقاتها بكونها معينة لمصداقية متعلقاتها لموضوعات الأحكام الواقعية، فيخالف اصطلاح الأصوليين اصطلاح أهل الميزان في الحجة، ولا بد أن يكون كذلك، إذ التوسيط المأخوذ في اصطلاحهم لا يحصل إلا بكون الطريق مأخوذا في
موضوع الأكبر الذي هو المحمول للأصغر في النتيجة، فينافي ما اعتبر فيها في اصطلاح الأصوليين من كونها طريقا لإثبات أحكام متعلقها، أي الأحكام الثابتة لذات متعلقها.
وبذلك ظهر بطلان ما مر سابقا في توضيح كلام المصنف: من أن الحجة في اصطلاح الأصوليين عبارة عن وسط مخصوص، فعلى هذا لا بد أن يكون لفظ الحجة في مصطلح الأصوليين منقولا عن معناه اللغوي، لا عن معناه المصطلح عند أهل الميزان، لعدم المناسبة بينهما بوجه من الوجوه.
هذا، لكن الظاهر أن الحجة عند الأصوليين ليست عبارة عما ذكره
246

المصنف، بل إنما هي ما كان قاطعا للعذر فيما بين العبد وبين الله تعالى وهو ما لو عمل العبد على طبقه ليس لله تعالى المؤاخذة عليه على تقدير استلزام العمل به لمخالفة الواقع وارتكاب مبغوضيته تعالى، ولو لم يعمل به له المؤاخذة عليه على تقدير مصادفته للواقع، مع تضمنه الحكم الإلزامي.
والذي يكشف عن ذلك أن الحجة عندهم تطلق على الأمارات والأدلة والأصول العملية على حد سواء، بحيث لا يكون إطلاقها على الأصول والأدلة مجازا عندهم قطعا، وليس ذلك لأجل اشتراكها لفظا بين الموارد الثلاثة، بل إنما هو لأجل أنها عبارة عندهم عن معنى عام يصدق على كل منها على حد سواء، وهو ليس إلا ما ذكرنا، إذ لا يعقل جامع بينها غيره، ضرورة أن الأصول العملية ليست طرقا أصلا، فضلا عن كونها مبينة لأحكام متعلقاتها، فكيف يمكن كون ذلك جامعا بين الكل؟ وهذا المعنى لا تناسب بينه وبين المعنى المصطلح عند أهل الميزان بوجه كالمعنى السابق، فلا بد أن يكون لفظ الحجة منقولا عن معناه الأصلي إليه، والعلاقة المصححة للنقل إنما هي علاقة السببية، فإن كان قاطعا للعذر بنى عليه ()، وسد مجال المؤاخذة والسؤال.
ثم إن حجية القطع بهذا المعنى - أيضا - لا اعتبار عليها () بوجه، لاستقلال العقل بقبح مؤاخذة العامل بقطعه على تقدير تخلفه عن الواقع.
نعم يجوز الأمر على تقدير انكشاف الخلاف له بالتعبد بالواقع على ما هو عليه أداء وقضاء.
قوله - قدس سره -: (والحاصل: أن كون القطع حجة غير معقول،
247

لأن الحجة ما يوجب القطع بالمطلوب، فلا يطلق على نفس القطع.) ()..
يعني أن إطلاق الحجة على القطع حقيقة غير معقول، لأنها حقيقة فيما يوجب القطع بالمطلوب. هذا.
أقول: ما ذكره حاصلا لما ذكره سابقا فيه ما لا يخفى، إذ ما ذكره سابقا كان مبنيا على اعتبار التوسيط في الحجة المفقود في القطع، لا على اعتبار إيجابها القطع بالمطلوب.
نعم هذا فرق آخر بين القطع وغيره من الطرق والأمارات، حيث إنها موجبة للقطع بالمطلوب في مرحلة الظاهر بمعنى أنه يكون مؤدياتها مقطوع التعبد بها من الشارع.
قوله - قدس سره -: (وحكمه أنه يتبع في اعتباره مطلقا أو على وجه خاص دليل ذلك الحكم) ()
وذلك لأنه لم يكن لمتعلقه أثر حتى يترتب عليه من غير توقف على اعتباره شرعا أصلا، والحكم المعلق على المقيد به كسائر الأحكام الشرعية المعلقة على الموضوعات، وهو باعتبار كونه مأخوذا في موضوعه كسائر الأوصاف المأخوذة في موضوعات الأحكام، سواء كان اعتباره كذلك من حيث صفته الخاصة به () أو من حيث كشفه وطريقيته، فيدور أخذه فيه - مطلقا، أو على وجه خاص - مدار اعتبار الشارع إياه على أحد الوجهين.
في القطع الموضوعي والطريقي
قوله - قدس سره -: (ثم من خواص القطع الذي هو طريق إلى الواقع قيام الأمارات الشرعية وبعض الأصول العملية مقامه في
248

العمل بخلاف المأخوذ في الحكم على وجه الموضوعية) ().
لا بحيث يكون ذلك لازما له، بل قد يكون على وجه يقوم مقامه الأمارات وبعض الأصول، كما إذا كان جعله موضوعا للحكم من حيث جهة كشفه عن متعلقه وكونه طريقا إليه، وقد لا يكون كذلك، كما إذا أخذ فيه من حيث كونه صفة خاصة، فالقطع الذي هو طريق إلى الواقع مشارك في الحكم المذكور المأخوذ في موضوع الحكم من جهة كشفه وطريقيته، فلا ثمرة بينهما من تلك الجهة.
وإنما يظهر هذه الثمرة بين كل منهما وبين القطع المأخوذ في موضوع الحكم بعنوان كونه صفة خاصة، كما أن كلا قسمي المأخوذ منه في موضوع الحكم مشاركان في حكم آخر مختص بهما يفارقان فيه عما هو طريق إلى الواقع، وهو الإجزاء، فإنه إذا كان القطع ببولية شيء طريقا محضا إلى الواقع من دون مدخلية له في حكم البول، وهو النجاسة، وقلنا: إن الطهارة من الخبث من الشرائط الواقعية للصلاة - مثلا - فأتى المكلف بها مع ملاقاة بدنه أو لباسه بالبول () في الواقع مع الشك فيه وعدم قيام أمارة من الأمارات - القائمة مقام القطع - على ملاقاة بدنه أو لباسه له، فظهر بعد العمل أنه صلى معه، لا يجزيه ما أتى به حينئذ، لانكشاف عدم إتيانه بالمأمور به على ما هو عليه، وإذا كان مأخوذا في موضوع حكم النجاسة - بأن لا يكون حكم ذات البول هي النجاسة، بل يكون موضوعها هو البول المعلوم - فلازمه الإجزاء في الفرض المذكور، فإنه - حينئذ - قد صلى مع عدم النجاسة واقعا، ضرورة عدم الحكم المعلق على عنوان مقيد بقيد بانتفاء ذلك القيد.
249

ثم إن هذين القسمين يفترقان فيما إذا صلى مع البول مع الشك فيه، لكن قام أمارة على بولية ما لاقاه من المائع المشكوك في بوليته، وقلنا: إن النجاسة من أحكام معلوم البول، لا ذات البول، وإن الطهارة فيها من الشرائط الواقعية للصلاة، فحينئذ إن كان اعتبار العلم في موضوع النجاسة من حيث طريقيته إلى متعلقه فهو قد صلى مع النجاسة الواقعية في الفرض المذكور لقيام الأمارة المفروضة مقامه - حينئذ - في جزئية لموضوع النجاسة، فلا يجزيه هذه الصلاة بعد انكشاف كون ما لاقاه بولا بالعلم واقعا، بل عليه الإعادة في الوقت مع بقائه أو القضاء مع خروجه، وكذا لا يجزيه قبل انكشاف بوليته - أيضا - بمعنى أنه لا يجوز له الاكتفاء بتلك الصلاة في مرحلة الظاهر قبله.
وإنما وصفنا عدم الإجزاء قبله بكونه ظاهريا، لأن المفروض أن موضوع النجاسة واقعا هو ذات البول مطلقا، لا من أحكام ما قام طريق على بوليته كذلك، فلو فرض قيام طريق على بولية شيء على القول المذكور مع عدم كونه بولا في الواقع لا يكون نجسا في الواقع، بل إنما هو محكوم بالنجاسة ظاهرا، فقبل انكشاف بولية ما قامت الأمارة على بوليته، لما لم يعلم ببوليته واقعا، يكون () ذلك في تلك الحال محكوما بالنجاسة في الظاهر، فيترتب عليه أحكام النجاسة ظاهرا.
وإن كان اعتباره فيه من حيث كونه صفة خاصة فالصلاة المذكورة مجزية له واقعا قبل انكشاف بوليته وبعده، لعدم صلاحية قيام الأمارات - حينئذ - مقامه حتى يكون محصلة للقيد المأخوذ في موضوع النجاسة.
وهذا الفرق إنما هو بالنظر إلى أدلة اعتبار الأمارات، وإلا فيمكن ورود دليل آخر على تنزيل مشكوك البولية منزلة معلومها في الحكم بالنجاسة في
250

الثمرة بين القسمين بالنظر إلى ذلك الدليل.
وسيأتي في بيان وجه قيام بعض الأصول العملية مقام القطع المأخوذ في موضوع الحكم ما يوضح ذلك، فانتظر.
فلنرجع إلى توضيح وجه قيام الأمارات مقام القطع الذي هو طريق محض إلى الواقع والذي أخذ في موضوع حكم على وجه الطريقية:
تمهيد مقال: الغرض من قيام الأمارات وبعض الأصول مقام القسمين المذكورين من القطع إنما هو قيامها في ترتيب حكم المقطوع على مواردها بحيث لا يتوقف ترتبه عليها على () دليل ثالث دل على تنزيل المشكوك منزلة المقطوع في الحكم، بمعنى أنا إذا لاحظنا دليل ذلك الحكم في المقطوع مع ملاحظة أدلة اعتبار الأمارات أو الأصل الذي يقوم مقام القطع يكفينا في ترتيب حكم المقطوع على مواردها من غير حاجة إلى دليل ثالث أصلا، وإلا فلا شبهة في جواز قيامها مقام القطع المأخوذ في موضوع الحكم بعنوان كونه صفة خاصة بمقتضى دليل ثالث دال على تنزيل مواردها منزلة واشتراكها معه في الحكم، كدليل تنزيل التراب منزلة الماء، فلا فرق بالنظر إليه بين الأقسام الثلاثة للقطع من حيث قيامها مقامه.
ثم إن المقصود من كون القطع مأخوذا في موضوع الحكم على وجه الطريقية إلى متعلقه ليس أخذه فيه على وجه الطريقية المطلقة - التي هي القدر المشترك بين القطع والظن، بأن يكون الغرض من الدليل الدال على حرمة مقطوع الخمرية مثلا هو حرمة ما يرجح كونه خمرا في نظر المكلف، إذ على تقدير أخذه فيه كذلك لا حاجة في ترتيب ذلك الحكم على موارد الأمارات إلى أدلة اعتبارها بوجه لقيامها مقامه حينئذ مع عدم دليل على اعتبارها أصلا، بل ومع
251

الدليل على عدم اعتبارها أيضا، لأنه بعد فرض أخذ تلك الطبيعة المشتركة بين القطع والظن في موضوع الحرمة يكون تلك الأمارات الظنية مساوية للقطع في دخولها في ذلك الدليل، لصدق تلك الطبيعة على الجميع على حد سواء، نعم يمكن تقييد تلك الطبيعة ببعض أفرادها كالقطع أو هو مع بعض أفراد الظن من حيث الجزية لموضوع الحكم، لكن لا بد أن يكون ذلك بدليل آخر غير ما دل على عدم () اعتبار الظن الخارج من حيث الطريقية - بل المقصود أخذه فيه من حيث كشفه مقابل جهة كونه صفة خاصة، بأن يكون موضوع الحكم في قوله لا تشرب الخمر المعلوم - مثلا - هو الخمر المنكشف، ومن المعلوم أن حقيقة انكشاف أمر إنما هي ظهوره على وجه لا غبار ولا غطاء عليه، ومصداقها منحصر في العلم، لأن الظن وإن كان له جهة إراءة وحكاية عن متعلقه، إلا أنه لعدم منعه من احتمال النقيض لا يظهر معه ما يحكي عنه على الوجه المذكور.
لا يقال: إنه إذا كانت حقيقة انكشاف المأخوذ في موضوع الحكم عبارة عما ذكر مع فرض انحصار مصداقها في القطع، فيؤول اعتبارها في الموضوع إلى اعتبار الصفة الخاصة للعلم، لعدم تحققها في غير مورد تلك الخصوصية.
لأنا نقول: معنى اعتبار الانكشاف على الوجه المذكور - في موضوع الحكم في مقابل الصفة الخاصة للقطع - أن النظر في جعل الحكم وإيراده على الخمر المعلوم - مثلا - إنما هو إلى تلك الحيثية، أعني حيثية كشف العلم عن متعلقة الذي هو الخمر من غير ملاحظة حيثية كونه صفة قائمة بنفس المكلف بحيث لو فرض محالا وجود فرد آخر للكشف لكان مساويا للعلم في تحقق موضوع الحكم به بالنظر إلى غرض الشارع، وقائما مقامه من غير حاجة إلى دليل آخر غير ما دل على حرمة معلوم الخمرية، وانحصار مصادقة في العلم لا
252

يوجب كون الموضوع للحكم هي خصوصية العلم، بل لا يعقل، إذ المفروض إلغاء تلك الخصوصية في مقام جعل الحكم، فهو يناقض اعتبارها في الموضوع.
ثم إن اعتبار الأمارات الغير العلمية يتصور على وجوه:
أحدها: أن يجعل الشارع إياها بمنزلة الكاشف الحقيقي وتنزيلها منزلته في جميع ماله من الآثار المترتبة عليه من حيث طريقيته وحكايته عن آثار متعلقه ومن حيث جزئيته لموضوع الحكم، وتنزيلها منزلته من الحيثية الأولى آئل إلى إلغاء الشارع احتمال المخالف لمؤداها والحكم بالبناء على كونها صادقة في حكايتها عن مؤدياتها، ومن الحيثية الثانية آئل إلى حكمه - في الموارد التي لو انكشف بالعلم لكان لها باعتبار انكشافها وتقييدها به حكم عن الأحكام - بمثل ذلك الحكم إذا قامت تلك الأمارات في تلك الموارد فيكون اعتبارها من هذه الحيثية حقيقة راجعا إلى إعطاء الشارع إياها حكم الجزئية لموضوع ذلك الحكم وتشريكها مع الكشف الحقيقي في حكم الجزئية.
وثانيها: أن يجعلها بمنزلته من الحيثية الأولى فقط.
وثالثها: أن يحكم في مواردها في مرحلة الظاهر بمؤدياتها وبتعبد المكلف ابتداء بتلك المؤديات من دون تقييد بطريقيتها ولا بجزئيتها لموضوع الحكم الذي كان الكاشف مأخوذا في موضوعه أصلا.
وحاصل اعتبارها على هذا الوجه إنما هو تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع لا تنزيل أنفسها منزلة الكاشف أصلا، فيكون حالها على هذا الوجه حال الاستصحاب من حيث كون مؤدياتها أحكاما ظاهرية غير مجعولة مرآة للأحكام الواقعية.
ثم إن الوجه الأخير غير محتمل من أدلة اعتبارها جدا، فينحصر الاحتمال في تلك الأدلة في الأوليين، والأظهر منهما هو أولهما.
فإذا عرفت ذلك فقد ظهر لك وجه قيام الأمارات مقام القطع الذي هو
253

طريق محض والذي هو مأخوذ في موضوع حكم من حيث كشفه عن متعلقه.
وتوضيحه: أنه إذا كان المفروض أن الشارع جعل تلك الأمارات بمنزلة الكاشف في جميع ما له من الآثار - كما هو الظاهر من أدلة اعتبارها - فهي تقوم مقامه في جميع أحكامه وآثاره التي منها الطريقية إلى أحكام متعلقه إذا كان لمتعلقه بنفسه أحكام كما في القسم الأول من القسمين المذكورين منه، ومنها جزئيته باعتبار كشفه عن متعلقه لموضوع حكم غير مجعول لذات متعلقه كما في القسم الثاني من القسمين، فلا يبقى بعد قيامها في مورد - على كونه هو الذي من مصاديق ما كان حكمه بنفسه الوجوب أو الحرمة أو غيرهما من الأحكام التكليفية أو الوضعية، أو أنه من مصاديق ما كان محكوما بأحد تلك الأحكام على تقدير انكشافه للمكلف - حالة منتظرة على ترتب تلك الأحكام جميعا إلى دليل آخر، إذ على الأول هي محرزة لصغرى بمقتضى حكم الشارع بتصديقها وإلغاء احتمال خلافها وهو كون المائع المشكوك في خمريته خمرا فيقال: إن هذا خمر، فيضم إلى كبرى كلية ثابتة بقوله (لا تشرب الخمر) وهي أن كل خمر حرام، فيستنتج من هاتين المقدمتين حرمة ذلك المائع من غير توقف على دليل آخر.
وعلى الثاني هي محققة لصغرى وهي قولك هذا المائع يحكم بمكشوف الخمرية فيضم إلى كبرى كلية وهي قولك كل ما كان كذلك فحكمه حكم مكشوف الخمرية وهي الحرمة، فيستنتج من هاتين المقدمتين أن هذا المائع حكمه الحرمة.
وإن شئت قلت إنه إذا كان المفروض أن الشارع علق الحرمة في قوله (لا تشرب الخمر المعلومة) على مكشوف الخمرية وأنه نزل البينة مثلا منزلة الكاشف في جميع آثاره التي منها جزئيته لحكم الحرمة في المثال المذكور في قوله (صدق البينة) فيستفاد من هذين الخطابين أن موضوع الحرمة عنده هو القدر المشترك بين مكشوف الخمرية وبين ما قامت البينة على خمريته وهو ما
254

حجة على خمريته فيكون البينة بعد اعتبارها مصداقا حقيقيا لما اعتبر جزء لموضوع الحرمة ومساوية للكشف الحقيقي في صدقه عليها، فيقال حينئذ إن هذا المائع مما قامت الحجة على خمريته، وكل ما كان كذلك فهو حرام، فهذا حرام.
هذا بخلاف ما إذا كان القطع مأخوذا في حكم بعنوان كونه صفة خاصة، فإن أدلة اعتبار الأمارات حينئذ غير وافية بترتب ذلك الحكم على موردها، فإن غاية ما يفيده بالفرض إنما هو تنزيلها منزلة الكاشف، فإذا كان المفروض أن الشارع قطع النظر - في جعل القطع قيدا في موضوع حكم - عن جهة كشفه واعتبر خصوصيته، فلا يقتضي أدلة اعتبار الأمارات بترتب ذلك الحكم على مواردها، فإن ترتبه عليها على تقديره لا بد أن يكون لتنزيل الشارع تلك الأمارات منزلة نفس تلك الخصوصية المخصصة بالقطع المأخوذة في موضوع ذلك، لأن نفس تلك الخصوصية ممتنعة الوجود في غيره، والمفروض أن الأدلة المذكورة لا يدل عليه، والذي يدل عليه لا يجدي، لفرض أن جهة الكشف ليس لها مدخلية في ذلك الحكم أصلا.
هذا خلاصة الكلام في الثمرة المتقدمة بالنظر إلى الأمارات.
وأما الأصول العملية فما يمكن أن يقال فيه بذلك إنما هو الاستصحاب، لا غيره من الأصول الثلاثة الأخر العامة، ولا الأصول الخاصة - أيضا - كأصالة الطهارة وأصالة الحل وأصالة الصحة بناء على كونها حكما تعبديا لا أمارة من جهة ظهور الحال وإلا دخلت في الأمارات كالاستصحاب بناء على اعتباره من باب الظن.
أما وجه قيام الاستصحاب مقام القطع المأخوذ في الدليل بعنوان الطريقية المحضة فواضح، فإن دليل اعتباره وهو قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين بالشك) يفيد تنزيل مورده - وهو المشكوك الذي علم حالته السابقة على الشك - منزلة نفس المتيقن في الآثار، والمفروض أن الحكم - في قوله (لا تشرب
255

الخمر المعلوم) مثلا - إنما هو لذات الخمر فهو يقتضي البناء على حرمة مشكوك الخمرية المعلوم كونه خمرا من قبل.
نعم قيامه يغاير قيام الأمارات مقامه، فإن الأمارات مبينة لموضوع الحكم، فيكون الحكم على مواردها بحكم الخمر مثلا من جهة كون تلك الموارد محكومة بالخمرية بحكم الشارع، بخلاف الاستصحاب، إذ ليس شأنه إثبات الموضوع أصلا، فإن دليل اعتباره إنما يقتضي تنزيل مورده منزلة ذات المعلوم سابقا، ويفيد الحكم عليه بمثل حكمه، لا الحكم بكونه هو المتيقن السابق حتى يثبت به موضوع الحكم.
وبالجملة إذا كان المفروض أن الحكم لذات الخمر في قوله (لا تشرب الخمر المعلوم) فلا إشكال في أنه - بعد ملاحظة قوله ذلك وملاحظة قوله (لا تنقض اليقين) الدال على ترتب حكم المعلوم على المشكوك - لم يبق حالة منتظرة في الحكم - على المائع المشكوك الخمرية المعلوم كونه خمرا سابقا - بالخمرية إلى دليل ثالث.
وأما قيامه مقامه على تقدير أخذه في موضوع حكم من جهة كشفه عن متعلقه فقد يشكل بأن مقتضى دليل اعتباره إنما هو تنزيل مورده منزلة المتيقن في الأحكام الثابتة لذات المتيقن و () الحكم الذي - يراد إثباته بذلك الدليل - ليس لذاته في محل الفرض، فلا يشمله ذلك الدليل فلا مساس فيه () بالاستصحاب.
ويمكن التفصي عنه بوجهين.
أحدهما: أن دليل اعتبار الاستصحاب على تقدير إفادته لتنزيل مورده
256

منزلة المتيقن في الأحكام الثابتة لذاته لا يختص بالأحكام التكليفية الثابتة له، بل يعم الوضعية أيضا.
ومن المعلوم أن ذات المعلوم في محل الفرض وإن لم يكن له الحكم التكليفي المفروض، بل إنما هو له مقيدا بكونه منكشفا لكن جزئيته لموضوع ذلك الحكم من الأحكام الوضعية المجعولة فذلك الدليل الدال على تنزيل () المشكوك منزلته فيما له من الحكم يفيد جزئيته لموضوع ذلك الحكم على نحو جزئية ذات ذلك المتيقن له بحيث إذا لحقه الجزء الآخر الذي يلحق ذات ذلك المتيقن وهو الانكشاف يترتب عليه ذلك الحكم، فقوله عليه السلام (لا تنقض اليقين بالشك) يفيد تنزيل مشكوك الخمرية المعلوم كونه خمرا في السابق مقام ذات الخمر في كونه جزء لموضوع الحرمة بحيث إذا علم وانكشف للمكلف مثل انكشاف ذات الخمر يترتب عليه حكم الحرمة.
ومن المعلوم أن مشكوك الخمرية بعنوان كونه كذلك أمر وجداني لا يعقل للمكلف الشك فيه، بل هو معلوم له، إذ لو فرض كونه غافلا لما كان شاكا أيضا، لتوقف الشك على الالتفات - كما مر في أول المسألة - ومع التفاته وشكه عالم بكونه شاكا في خمرية المائع، والمفروض كونه مشكوك الخمرية، فمشكوك الخمرية المنزل مقام ذات الخمر في جزئيته لموضوع الحرمة ملازم للجزء الآخر له، وهو العلم، بخلاف ذات الخمر، لإمكان الشك فيه حينئذ بعد ملاحظة قوله (لا تشرب الخمر المعلوم) وقوله عليه السلام (لا تنقض اليقين بالشك) المفيدة لما ذكر وأن مشكوك الخمرية بعنوان كونه كذلك معلوم للمكلف [و] () لم يبق له حالة منتظرة في الحكم عليه بالحرمة إلى ملاحظة دليل ثالث.
257

وثانيهما: قوله (لا تنقض اليقين بالشك) يفيد جعل المكلف متيقنا بأن يعامل مع نفسه حال الشك ما كان يعامل معها حال اليقين وجعل مشكوكه منزلة المتيقن من غير اختصاص له بإفادة تنزيله منزلته في الآثار الثابتة لذاته، بل يعم ما كان له باعتبار اليقين أيضا.
لا يقال: إنه إذا كان عاما للآثار الثابتة له باعتبار اليقين، فيلزم انتفاء الثمرة المذكورة بالنسبة إلى الاستصحاب، فإن لازمه قيامه مقام القطع المأخوذ في موضوع حكم من جهة خصوصيته أيضا.
لأنا نقول: الظاهر من قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين بالشك) ليس هو العموم إلى ذلك المقدار، بل الذي يظهر منه هو العموم بالنسبة إلى الآثار الثابتة للمتيقن من حيث كون اليقين طريقا إليه وكاشفا عنه، وأما بالنسبة إلى أزيد منه فلا أقل من إجماله فيه إن لم يكن ظاهرا في نفيه.
ثم إن المصنف لما بنى في مسألة الاستصحاب على اعتباره بالنسبة إلى الآثار الثابتة لنفس المتيقن، فالذي ينفعه في دفع الإشكال المذكور هو الوجه الأول لكنه (دام ظله) اختار عموم دليل اعتباره لما يكون له باعتبار اليقين وليس ببعيد، بل الظاهر ذلك بعد تعذر حمل قوله عليه السلام (لا تنقض اليقين بالشك) على حقيقته، لأنه حينئذ أقرب إليها من إرادة عدم نقض آثار ذات المتيقن فقط، فلا تغفل.
قوله - قدس سره -: (ومما ذكرنا يظهر أنه لو نذر أحد أن يتصدق كل يوم بدرهم ما دام متيقنا بحياة ولده فإنه لا يجب التصدق عند الشك في الحياة لأجل استصحاب الحياة بخلاف ما لو علق النذر بنفس الحياة، فإنه يكفي في الوجوب الاستصحاب) ().
258

أقول: مراده (قدس سره) أخذ اليقين في المثال المذكور باعتبار كونه صفة خاصة وإلا فقد عرفت حكم قيام
الاستصحاب مقامه على تقدير أخذه في موضوع الحكم من حيث الكشف والطريقية المطلقة، لكن لا يخفى أن () الحكم بوجوب التصدق لأجل استصحاب الحياة على تقدير تعليق النذر على نفس الحياة لا يستقيم، بل مقتضى القاعدة عدم وجوبه حينئذ أيضا (1).
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول:
إن ما ذكرنا من أن القطع قد يكون مأخوذا في موضوع حكم - بمعنى كونه جزء منه - لازمه انتفاء الحكم المعلق على المقيد به واقعا بانتفائه أو انتفاء ذات المقيد - الذي هو متعلقه -، فإذا فرض أن الحرمة علقت على الخمر المعلومة واقعا، فتنتفي بانتفاء العلم بها، وكذا بانتفاء الخمرية - أيضا - وإن كان العلم حاصلا بأن قطع بخمرية مائع مع عدم كونه خمرا في الواقع، ضرورة انتفاء الحكم المعلق على مقيد بانتفاء كل من جزئي ذلك المقيد، فالخمر المجهولة رأسا أو المائع المقطوع بكونه خمرا مع عدم كونه خمرا في الواقع لا حرمة لشيء منهما واقعا على الفرض المذكور من غير فرق في ذلك بين ما إذا أخذ العلم جزء لموضوع الحكم من حيث كونه صفة خاصة وبين ما إذا أخذ من حيث كشفه عن متعلقه.
نعم فرق بينهما من جهة أخرى وهي أن الحرمة الواقعية على الثاني يتوقف انتفاؤها فيما إذا كان المائع المفروض خمرا في الواقع على عدم قيام أمارة أو أصل على خمريته أيضا، لما مر من أن القيد المأخوذ في الموضوع أعم من القطع

(1) مراده من قوله قدس سره: لكن لا يخفى... إلى آخره غير واضح الا على القول هكذا: وان احتمل ان لا يكون مقصودا له وهو انه ان كان الموضوع لوجوب التصرف هو اليقين بحياة الولد على وجه الصفتيه فبانتفائه ينتفي الحكم بخلاف ما لم يكن كذلك وان كانت مأخوذة بنحو الموضوعية على وجه الطريقية.
259

وهو مما لا ينتفي إلا بانتفاء جميع مصاديقه، فلو لم يحصل العلم في الفرد المذكور بكون المائع المذكور خمرا مع فرض قيام أمارة أو أصل على الخمرية فهو حرام واقعا.
هذا بخلاف ما إذا أخذ القطع جزء لموضوع الحرمة بعنوان كونه صفة خاصة، إذ عليه لا يقوم غيره مقامه من الأمارات أو الأصول بمقتضى أدلة اعتبارها فيلزم من انتفائه حينئذ عدم الحرمة واقعا ولو مع قيام أمارة أو أصل على خمرية ذلك المائع المشكوك الذي هو خمر في الواقع.
اللهم إلا أن يدل دليل آخر على قيام الأمارات في المورد مقامه، والكلام مع قطع النظر عنه.
وكيف كان، فإذا لم يكن المائع - المقطوع بكونه خمرا، أو الذي قامت أمارة أو أصل على خمريته - خمرا في الواقع مع عدم قيام حجة على خمريته (1) من العلم أو غيره من الأمارات والأصول على كلا الوجهين. فعلى هذا إذا قطع بخمرية مائع أو قامت أمارة أو أصل على كونه خمرا - بناء على قيام دليل على قيامها مقامه - مع عدم كونه خمرا في الواقع، فيكون الحرمة له حينئذ مجرد حكم ظاهري.
ثم [إن] ها هنا إشكالين:
أحدهما: أن أخذ العلم جزء لموضوع الحكم على الوجه المذكور غير معقول، فإنه آئل إلى تعليق الحكم على موضوع لا طريق للمكلف إليه، فإن غاية ما يكون أنه يقطع بكون المائع خمرا أو يقوم أمارة أو أصل على خمريته، وأما كون ذلك المائع في الواقع خمرا، بأن يكون القطع أو الأمارة والأصل مصادفة للواقع

(1) أي مع عدم قيام حجة بالخصوص بعنوان دليل آخر كما أشار إليه عند قوله بسطرين قبل هذه العبارة حيث قال: اللهم إلا أن يدل دليل آخر وكما تقدم الإشارة إليه سابقا أيضا.
260

فلا طريق له إليه.
وثانيهما: أنه بعد الغض عن الإشكال الأول يشكل الأمر في أدلة اعتبار الأمارات والأصل الذي يقوم مقام القطع على تقدير أخذه في موضوع الحكم من حيث الكشف، فإن المراد من تلك الأدلة إما جعل حكم ظاهري للمكلف الشاك في مرحلة الظاهر، وإما جعل حكم واقعي ثانوي، وإما الأعم من الأمرين.
لا سبيل إلى الثاني للقطع بشمولها للموارد التي يكون الأحكام المشكوكة في تلك الموارد على تقديرها أحكاما لذات تلك الموارد وأن البناء على طبق الأمارات فيها إنما هو حكم ظاهري لا يترتب عليه أثر الواقع بعد انكشاف تلك الأمارات.
ولا إلى الثالث أيضا، لاستلزامه لاستعمال الخطاب في معنيين، لعدم الجامع بين الحكمين حتى يكون هو المراد منه، إذ النظر في الحكم الظاهري إنما هو إلى الشك في الواقعي وفي الواقعي إلى ذات الشيء من غير ملاحظة العلم والجهل أصلا، وبين جهتيهما تناقض ظاهر، ولا جامع بينهما حتى يكون هو المراد فيتعين الأول، وعليه تختص تلك الأدلة بما إذا كان الحكم المشكوك فيه على تقديره لذات المشكوك، فلا تشمل صورة يكون الحكم له مقيدا بقيام طريق عليه، فلا تقوم الأمارات مقام القطع المأخوذ قيدا لموضوع الحكم بمقتضى أدلة اعتبارها، بل لا بد من أدلة أخرى تفيد تنزيلها منزلته.
هذا، لكن يندفع الإشكال الأول فيما إذا كان المكلف قاطعا بأن قطعه بخمرية شيء ملازم لقطعه بمصادفة ذلك القطع للواقع، بل هو عليه، إذ القاطع لا يكون إلا قاطعا وجازما بانتفاء احتمال الخلاف، فقطعه المذكور طريق إلى موضوع الحكم المأخوذ فيه القطع أيضا، وفيما إذا لم يكن قاطعا مع قيام أمارة أو أصل على خمرية مائع مشكوك الخمرية فإن الاحتياج إلى الطريق إلى موضوع الحكم إنما هو لأجل ترتب ذلك الحكم على مورد يراد ترتبه عليه ومن المعلوم
261

حصول ذلك الغرض بتعبد الشارع المكلف بترتبه على ما يشك كونه هو الموضوع الواقعي له، فعلي تقدير ذلك التعبد لا حاجة إلى طريق إليه أصلا، ومحل الفرض من هذا القبيل، فإن قضية أدلة اعتبار الأمارات والأصول () إنما هو التعبد بمقتضاها وجعل مؤدياتها هو الواقع في ترتيب الآثار المجعولة له، فيترتب على مواردها جميع أحكام () ذوات تلك المقامات والآثار المجعولة لها واقعا والتي جعلت لها بشرط قيام طريق عليها في مرحلة الظاهر فإن صادفت هي للواقع فيكون الأحكام المترتبة عليها في الظاهر واقعية أيضا وإلا فهي ظاهرية محضة.
هذا مضافا إلى أن الأمارات بعد اعتبار الشارع إياها وجعل الاحتمال المخالف لها بحكم العدم يكون كالقطع في مرحلة الظاهر فهي حينئذ طريق إلى إحراز الموضوع للحكم المذكور.
وأما الإشكال الثاني: فيدفعه أنه على تقدير تسليم التناقض بين جهتي الحكم الظاهري والواقعي لا يلزم منه استعمال الخطاب في معنيين، إذ المقصود بالإفادة منه لي الا تعليق الحكم المذكور فيه على ما ذكر فيه من الموضوع من غير قصد فيه إلى إفادة جهة به وإنما هي على تقديرها ببيان آخر لا به، إذ المفروض أنها جهة الحكم والقضية فلا يجب إفادتها بما يفيد به الحكم حتى يلزم منها استعمال الخطاب في معنيين مع تعدد جهة الحكم المذكور فيه لفرض عدم جامع بينهما.
وأما نفس الحكم الظاهري والواقعي فلا تناقض () بينهما ولا بين موضوعيهما حتى يلزم منه استعمال الخطاب المقصود به إفادة كليهما في معنيين، فإن كلا من الأحكام الخمسة التكليفية والوضعية قدر مشترك بين الظاهري
262

والواقعي ويكون تعدده بمجرد الاعتبار والحيثية.
وكذا موضوعات الأحكام الظاهرية وهي المشكوك والمظنون والمقطوع به أمور مشتركة بين () كونها موضوعات الأحكام الواقعية وتعددها بتعدد () أحكامها إنما هو بمجرد الاعتبار الملحوظ في أحكامها، فقوله (
لا تنقض اليقين بالشك) أريد منه تنزيل وجوب المشكوك فيه منزلة المتيقن والمعاملة معه معاملته، والوجوب حكم صالح لأن يكون واقعيا ولأن يكون ظاهريا، وكذلك المشكوك صالح لأن يكون موضوعا له على كل من التقديرين فالمذكور فيه الحكم والموضوع مشتركان بين الجهتين وإن كانت الجهتان متناقضتين، فالذي استعمل فيه الخطاب - وهو وجوب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن - يمكن أخذه على وجه عام يصلح لكل من الجهتين مع كون الداعي له في كل مورد شخص () إحداهما فنفس الحكم الظاهري وموضوعه لا يناقضان نفس الحكم الواقعي وموضوعه، بل الجامع بين أنفسهما وموضوعيهما متحقق - كما عرفت - والمستعمل فيه الخطاب ليس إلا الحكم وموضوعه، فإذا كان الفرض إنشاء كلا الحكمين معا فيمكن إنشاء القدر المشترك بينهما بخطاب واحد والمفروض عدم التناقض بين موضوعيهما، فيمكن إرادة القدر المشترك بينهما - وهو مطلق المشكوك - فلا يلزم من إرادة كلا الحكمين معا استعمال الخطاب في معنيين.
وهذا نظير إنشاء القدر المشترك بين الوجوب والندب الصالح لأن يكون وجوبا ولأن يكون ندبا، فيقع في كل مورد أحدهما بحسب ما يقتضيه ذلك المورد نعم على تقدير تسليم التناقض بين جهتي الحكم الظاهري والواقعي يتجه
263

إشكال آخر غير ما تقدم وهو أن غاية ما يترتب على ما مر من عدم لزوم استعمال الخطاب في معنيين إذا كان المقصود منه كلاهما لكن يلزم اجتماع النقيضين في قصد الآمر، إذ المنشأ بخطاب واحد شخصي ليس إلا إنشاء واحد كذلك.
ومن المعلوم أن الواحد الشخصي لا يعقل أن يستند وجوده إلى جهتين متناقضتين مفروض تحققهما في نفس الفاعل وفي قصده لاستلزامه اجتماع النقيضين في قصده.
ويمكن دفعه بأنه لا امتناع في استناد وجود شخصي إلى متناقضين معا كعدم امتناع استناده إلى ضدين كذلك، وإنما ينشأ الامتناع على تقديره من اجتماع نفس العلتين اللتين () هما ضدان أو نقيضان كما في مورد الفرض في مورد واحد فمنشؤه في مورد الفرض إنما هو تحقق النقيضين معا في آن واحد في قصد الآمر كما ذكر في بيان الإشكال أيضا.
ومن المعلوم أن اجتماع النقيضين كاجتماع الضدين إنما يمتنع مع تحقق الوحدات الثمانية المعتبرة فيه التي منها الإضافة، والاتحاد من جهتها منتفية في المقام كما لا يخفى، فإن ذلك الإنشاء المفروض وإن كان واحدا شخصيا لكنه بالإضافة إلى كل مورد يغاير نفسه بإضافته إلى مورد آخر، فإذا لوحظ بالنسبة إلى مورد مشكوك الواقعة حكم من الأحكام غير مقيد بالعلم والجهل مثلا يكون ظاهريا، وإذا لوحظ بالنسبة إلى مورد لا يكون له حكم آخر واقعا فيكون واقعيا، فاستناده إلى تلك الجهتين المتناقضتين لا يكون بالإضافة إلى مورد واحد، بل إنما هو بتعدد الإضافة، فاذن لم تتحقق الجهتان المذكورتان في نفس الآمر بالإضافة إلى مورد واحد حتى يلزم اجتماع النقيضين الممتنع هذا.
والذي يقتضيه دقيق النظر انه لا تناقض بين جهتي الحكم الظاهري
264

والواقعي بوجه وتوضيحه:
أن الملحوظ في الأحكام الظاهرية إنما هو اعتقاد المكلف نفيا - كما في الأصول العملية - أو إثباتا - كما في مورد الأدلة والأمارات - بمعنى أنها مجعولة للوقائع باعتبار اعتقاد المكلف أو عدم اعتقاده فجهتها إنما هي اعتقاد المكلف بالموضوع أو الحكم أو عدم اعتقاده بهما أصلا، وأما الأحكام الواقعية فلا ينحصر جهتها في ذات الشيء مع قطع النظر عن تعلق العلم أو الجهل به، قد تكون هي وقد تكون هي ما تعلق العلم أو الجهل به كالظن بالقبلة في يوم الغيم والعلم بالأعيان النجسة عند من يجعل النجاسة معلقة على العلم بها وكالشك في النجاسة مع عدم العلم بالنجاسة السابقة في جواز الدخول في الصلاة مثلا وإن كانت النجاسة متحققة واقعا في الثوب والبدن، فإذن لا منافاة بين الجهتين لإمكان اجتماعهما وتصادقهما على مورد واحد، فلا حاجة حينئذ إلى الجواب عن الإشكال المذكور بها مر، لعدم وروده حينئذ أصلا كما لا يخفى.
الثاني:
قد يؤخذ العلم جزء لموضوع حكم من حيث الكشف والطريقية المطلقة على وجه آخر مغاير لاعتباره جزء كذلك على الوجه المتقدم، وهو أن يكون أخذه كذلك بعنوان كونه معرفا لخصوصية في مورده مقصودة لا تعلم أصلا فيكون المأخوذ في موضوع الحكم حينئذ حقيقة هي الخصوصية المعرفة به () على نحو الإجمال لا هو.
وهذا أسلم من اعتباره جزء للموضوع على الوجه السابق من المناقشة المذكورة في قيام الاستصحاب مقامه، بل لا يتوجه تلك المناقشة عليه حينئذ أصلا إلا أن الحكم المأخوذ فيه العلم حينئذ ليس لمتعلقه باعتبار العلم أصلا () حتى يقال
265

إن دليل اعتبار الاستصحاب تقتضي ترتيب آثار المتيقن الثابتة له لا باعتبار اليقين مع المشكوك فلا يشمل الآثار الثابتة له باعتباره.
ثم إن الفرق بين اعتبار العلم على هذا الوجه وبين اعتباره على الوجه المتقدم أنه على تقدير اعتباره على الوجه المتقدم يتوقف ثبوت الحكم الذي أخذ العلم في موضوعه على حصول العلم بمعنى أنه لا يتوجه ذلك الحكم في الواقع إلى المكلف قبل حصوله أصلا.
هذا بخلاف اعتباره على هذا الوجه فإنه عند حصوله يكشف عن ثبوت الحكم لموارده قبله، فإن المفروض أنه معرف حينئذ لخصوصية هي مأخوذة في موضوع الحكم والمعرف ليس حجة لتحقق المعرف بالفتح من حينه بل هو حاصل قبله وإنما هو علة لتحقق المعرفية به.
ومن هنا يظهر بينهما فرق آخر بالنسبة إلى زمن زوال العلم، فإنه على تقدير اعتباره على هذا الوجه يكون مورده محكوما بما حكم عليه حال العلم واقعا لما ذكر بخلاف ما اعتبر على الوجه المتقدم، فإنه بعد زوال حينئذ يقطع بعدم ذلك الحكم لمورده إن لم يقم مورد العلم أمارة أو أصل.
وأما الفرق بين اعتباره على هذا الوجه وبين كونه طريقا محضا فإنما هو ثبوت الحكم لمورده واقعا على الثاني وإن لم يعلم ولم يقم أمارة أو أصل عليه أصلا.
هذا بخلاف اعتباره في الموضوع على هذا الوجه فإنه على تقديره إذا لم يعلم مورده أصلا لم يكن محكوما بذلك الحكم واقعا أزلا وأبدا.
ثم ان العلم قد يؤخذ نفسه موضوعا لحكم كان يكون الحرمة مثلا لما علم أنه خمر وإن لم يكن خمرا في الواقع ولازمه كون ذلك الحكم واقعيا في جميع موارده واعتباره على هذا الوجه أيضا قد يكون من حيث الكشف فيقوم غيره من الأمارات والأصول مقامه وقد يكون من باب صفته الخاصة به فلا يقوم غيره مقامه إلا بدليل ثالث غير أدلة اعتباره.
266

الثالث:
إذا أخذ العلم في دليل في موضوع حكم من حيث الكشف والطريقية المطلقة أو أخذ نفسه موضوعا له كذلك فلا يلزم في شيء من المقامين استعمال لفظ العلم في أعم منه وما يقوم مقامه، إذ الغرض حينئذ وإن كان أعم لكن يمكن إفادة عمومه بدليل آخر، ومع فرض كون الغرض هو الأعم لا بد ان يكون ذكر الأخص وهو العلم لنكتة ويكفي فيها كونها هو التنبيه على كون العلم فردا له بنفسه من غير حاجة إلى جعل أصلا وأنه لا بد أن يقتصر في الحكم المفروض على مورد العلم ما لم يقم دليل على إقامة الظن () مقامه بمعنى عدم جواز التعويل على الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل كما هو الظاهر في وجه إناطة جواز صلاة الزوال باليقين في قوله عليه السلام «إذا استيقنت الزوال فصل» فإن الظاهر أن النكتة فيها إنما هو التنبيه على عدم الاعتبار () بالظن الغير المعتبر.
وقد يكون النكتة هو التنبيه على زمان تنجز التكليف ولأن العلم سبب لتنجزه وفعليته على المكلف كما هو الظاهر من قوله عليه السلام «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» وقوله عليه السلام «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر».
الرابع:
إذا ورد دليل علق فيه الحكم المذكور على العلم فالظاهر أن اعتبار العلم فيه ليس من باب أخذه في موضوع ذلك الحكم بوجه، بل إنما هو من باب الطريقية المحضة إلى إثبات ذلك الحكم لمتعلقه.
والنكتة في اعتباره في الدليل مع أنه بنفسه طريق إلى حكم متعلقه إنما هي التنبيه على كيفية إطاعة ذلك الحكم، والمنشأ لذلك الظهور إنما هو غلبة إرادة هذا المعنى من أمثال هذه التراكيب في العرف كقوله (إذا علمت بقدوم زيد
267

فاستقبله) وأمثاله ونظيره في الشرع قوله عليه السلام «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر».
والحاصل أن تلك التراكيب وإن كانت بنفسها ظاهرة في اعتباره في موضوع الحكم المذكور فيها، بل ظاهرة في اعتباره في الموضوع بما هو صفة خاصة أيضا، لكون العلم ظاهرا فيه، لكنها بغلبة استعمالها فيما ذكر صارت ظاهرة فيه عرفا فيكون دلالتها على ما ذكر من الظواهر العرفية.
ومن هنا ظهر ضعف تمسك بعضهم بالحديث المذكور على أن النجاسة إنما ثبت للأعيان النجسة بشرط العلم بتلك الأعيان - بمعنى أنها ليست نجسة مع الجهل بها واقعا - بتقريب أن قوله عليه السلام «فقد قذر» فعل ماض وهو دال على الحدوث فيدل الحديث على أنه إذا حصل العلم بها يحدث النجاسة من حينه.
ويدفعه أن الشرط في ظاهر الرواية إنما هو العلم بالقذارة وهي النجاسة لا العلم بكون الشيء المشكوك من تلك الأعيان. ومن المعلوم تقدم المعلوم على العلم طبعا، فلا بد أن يكون النجاسة ثابتة لها واقعا قبل العلم بها، فيكون ذلك قرينة على حمل الطهارة فيها على الظاهرية فيكون الرواية حينئذ حجة على خلاف مطلب المستدل.
ثم إنه على تقدير عدم ظهور الدليل المعلق فيه الحكم على الشيء المعلوم في اعتباره العلم بعنوان الطريقية المحضة لا بد في تشخيص اعتباره كذلك أو على وجه الموضوعية بأحد الوجوه فيها من الرجوع إلى دليل آخر، فإن ظهر منه اعتباره كذلك كأن علق فيه تلك الحكم على نفس المتعلق من دون أخذ العلم فيه بوجه أو اعتباره على وجه الموضوعية فيتبع حكم ما ظهر منه.
268

وإن لم يظهر ذلك من دليل آخر إما لأجل انتفائه رأسا أو لإجماله [يرجع] () إلى الدليل الأول، فإن انحصر الاحتمال فيه في اعتباره فيه كذلك وفي اعتباره على وجه الموضوعية بعنوان الطريقية المطلقة فيقوم غيره من الأمارات والاستصحاب مقامه، لما عرفت سابقا من التوافق بين اعتباره على هذين الوجهين في ذلك وإن احتمل اعتباره على وجه الموضوعية بعنوان كونه صفة خاصة فلا يقوم غيره مقامه أصلا، بمعنى أنه لا حكم على متعلقه بذلك الحكم في غير صورة العلم به سواء قامت عليه أمارة أو أصل أو لم يقم عليه أحدهما أصلا لتوقفه على اعتباره بأحد الوجهين المذكورين وهو غير ثابت لفرض قيام الاحتمال الثالث المنافي له.
الخامس:
إذا علم المكلف باندراج موضوع خاص في أحد العناوين الكلية يتحقق عنده صغريان كما إذا قطع بخمرية مائع فإنه يتحقق عنده حينئذ صغريان إحداهما قوله (هذا خمر) والآخر قوله (هذا معلوم الخمرية) فحينئذ يلاحظ ذلك العنوان الكلي من حيث ثبوت الحكم له في الأدلة الشرعية، فحينئذ يتحقق له إحدى كبريات ثلاث على سبيل امتناع الجمع والخلو ففي ملاحظة نوع الخمر في الأدلة الشرعية وكيفية ثبوت حرمتها بالنظر إليها لا يخلو الحال من أنه إما أن يكون الحرمة ثابتة لها بالنظر إلى الدليل المثبت لها لذاتها من غير تقييدها بالعلم أصلا وإما أن يكون ثابتة لها باعتبار حصول العلم بها مطلقا.
فعلى الأول يتحقق له كبرى وهي قوله (كل خمر حرام).
وعلى الثاني يتحقق له كبرى أقوى وهي قوله بعض الخمر المعلومة حرام.
وعلى الثالث يتحقق له كبرى وهي كل معلوم الخمرية حرام.
لا إشكال في الحكم على ذلك الموضوع الخاص الخارجي المفروض
269

حصول العلم به بحكم ذلك العنوان على الأول والثالث كليهما لاندراجه على كل منهما في الموضوع في الكبرى المحكوم عليه بذلك الحكم.
وأما على الثاني ففي الحكم عليه به مطلقا إشكال، بل الظاهر منعه لأنه إنما يحكم على الأصغر بحكم الوسط الثابت له في الكبرى لأجل اندراجه فيه ومن المعلوم أنه على تقدير جزئية تلك الكبرى فلا يلزم اندراجه فيه، بل لا يعقل إلا فيما إذا كان العلم بذلك الجزئي الخارجي حاصلا من الوجه الذي اعتبر في تلك الكبرى، فلا بد من الحكم عليه بذلك الحكم حينئذ على تلك الصورة فلا تغفل.
ثم إن هاهنا مطالب اخر لطيفة لا يسعني مجال لتعرضها فينبغي التعرض لها في رسالة القطع بعنوان الزيادات إن شاء الله.
قوله - قدس سره -: (ثم إن هذا الذي ذكرنا في القطع مأخوذا تارة على وجه الطريقية وأخرى على وجه الموضوعية جار في الظن أيضا) ().
لا يخفى أن الظن باعتبار كشفه عن متعلقه - على الوجه المحتمل للنقيض كالعلم باعتبار كشفه عن متعلقه على الوجه المانع منه - غير قابل للجعل بوجه، فإنه من صفاته الذاتية اللازمة له غير قابل للإيجاد كونه تحصيلا للحاصل، ولا للنفي لفرض لزومه له، إلا أنه لا يترتب على هذا الوجه من الكشف بمجرده أحكام متعلقه وآثاره مع قطع النظر عن تعبد الشارع بإلغاء الاحتمال المخالف له: فمجرد ورود دليل على حرمة الخمر مثلا لا يصح الحكم على مظنون الخمرية بالحرمة، لفرض كون الظن محتملا للخلاف، ومعه لا يحرز صغرى القياس حتى يستنتج من ضمها إلى تلك الكبرى حرمة المظنون الخمرية، بل يتوقف تلك على ورود دليل آخر على
اعتبار ذلك الظن وتنزيله
270

منزلة العلم.
ثم إنه قد يكون مأخوذا في موضوع الحكم في الدليل على وجه الطريقية المطلقة، وقد يكون مأخوذا فيه بعنوان كونه صفة خاصة، وقد يؤخذ نفسه موضوعا له كما في الظن بالقبلة يوم الغيم، فإن جواز الصلاة إنما هو مع نفس الظن بها واقعا وإن لم يكن الجهة المظنونة هي القبلة.
وأما مثال ما أخذ منه في الدليل على وجه الطريقية المحضة، لا الموضوعية بوجه هو الظن الواقع حال الانسداد في الدليل العقلي المعروف بدليل الانسداد، ولأجل ذلك يقع الإشكال في خروج بعض الظنون عنه كالظن القياسي وغيره من الظنون، الغير المعتبرة.
في تصوير وجوه المخالفة القطع
قوله - قدس سره -: (لكن الكلام في أن قطعه هذا هل هو حجة عليه من الشارع وإن كان مخالفا للواقع في علم الله تعالى فيعاقب على مخالفته) ().
يعني أن يكون العمل بالقطع كأحد الواجبات الشرعية موردا للتكليف به من الشارع فيكون مخالفته عصيانا له موجبا لاستحقاق العقاب [عليه].
فمراده بالحجة ليس ما يراد بها في مباحث حجية الأدلة الظنية والأمارات، إذ المراد بها في تلك المباحث إنما هو اعتبار الشارع لتلك الأدلة والأمارات طرقا للواقع في مقام امتثال تكاليف الواقعية وقاطعة للعذر فيما بينه وبين العباد بحيث يكون منجزة للتكاليف الموجودة واقعا في مواردها على المكلف ومراده بها في المقام كما عرفت إنما هي الموضوعية للتكليف الشرعي.
لكن لا يخفى ما في التعبير عنها بها من الركاكة لعدم المناسبة ولو صح إطلاق الحجة بهذا الاعتبار يصح إطلاقها على سائر الموضوعات للأحكام
271

الشرعية من الواجبات والمحرمات كالصلاة وشرب الخمر ونحوهما بأن يقال الصلاة حجة أو شرب الخمر حجة واللازم باطل بالبديهة فالملزوم مثله، والملازمة واضحة، فكان عليه - قدس سره - أن لا يعبر عنه بالاعتبار المذكور بها، ويحرر النزاع هكذا: فهل العمل بالقطع واجب شرعا فيكون مخالفته معصية موجبة لاستحقاق العقاب أولا وإن كان في تصور وجوبه الشرعي أيضا إشكال تقدمت الإشارة إليه في حجية القطع من حيث الطريقية وسيأتي له مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.
ثم إنه ينبغي قبل الخوض في المقام تمهيد مقال.
فاعلم أن البحث عن مخالفة القطع يتصور على وجوه واعتبارات فيختلف نسبته بالنظر إلى بعضها مع نسبته إلى بعض آخر من تلك الوجوه:
فإنه إن وقع باعتبار حرمة مخالفة القطع وجوب العمل به شرعا فيدخل بهذا الاعتبار في المسائل الفقهية لصدق حدها عليه حينئذ، لكونها عبارة عما يبحث فيه عن أحوال فعل المكلف شرعا بمعنى أحكامه الشرعية المجعولة له من الخمسة التكليفية أو الوضعية.
وإن وقع باعتبار قبح مخالفته كقبح الظلم ونحوه فيدخل في المسائل الكلامية لأنه من شأن المتكلم.
وإن وقع باعتبار إدراك العقل لقبح مخالفته وعدم إدراكه له فيدخل في المسائل الأصولية العقلية، لأن المسألة الأصولية ما كان موضوعها أحد الأدلة الأربعة المعروفة التي منها العقل سواء كان البحث فيها كبرويا كالبحث عن حجية الخبر أو عن حجية العقل أو صغرويا كالبحث عن حكم العقل بالملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها وبين الأمر بالشيء والنهي عن ضده، وما نحن فيه على التقدير المذكور من قبيل الثاني كما لا يخفى.
وعلى جميع الاعتبارات الثلاثة إما أن يكون الملحوظ ومحط النظر عنوان
272

مخالفة القطع من حيث هي مع قطع النظر عن اتحادها مع عنوان آخر، وإما أن يكون الملحوظ هي بالنظر إلى اتحاده مع بعض العناوين الأخر.
في حكم التجري
وعلى الثاني إما أن يجعل العنوان الآخر عنوان التجري على المولى وإما أن يجعل عنوان الإقدام على ما قطع بكونه قبيحا وإن لم يكن كذلك في الواقع.
لا سبيل إلى الأول أعني فرض محط النظر في البحث عن مجرد مخالفة القطع من حيث هي، ضرورة أنها بمجردها لا قبح فيها ولا حرمة شرعا أيضا، وإنما يمكن دعوى ثبوت أحدهما أو كليهما فيما إذا اتحدت مع عنوان آخر فاللائق بحال المحصلين البحث عنها بأحد الوجهين الآخرين، ومورده على أولهما أخص منه على ثانيهما، إذ التجري عبارة عن الإقدام على ما علم بكونه مبغوضا للمولى وعصيانا له، ومن المعلوم أن العصيان قسم من القبح وهو أعم منه، إذ التجري مختص بمورد الطاعات بخلاف الإقدام على ما علم بكونه قبيحا، لأن ذلك القبح قد لا يكون موردا للنهي من المولى.
ثم إن ذلك وإن كان أعم موردا من التجري لكنه لا يجري في جميع موارد القطع، ضرورة أن متعلقه قد يكون من الأمور التي لا يقبح تركه أو فعله.
وكيف كان فالبحث عن مخالفة القطع باعتبار اتحادها مع أحد من ذينك العنوانين في الحقيقة راجع إلى البحث عن حكم أحدهما شرعا أو عقلا وهذه المسألة غير معنونة في كتب السابقين.
وإنما أحدث البحث عنها بعض متأخري المتأخرين () وتبعه المصنف وغرضهما كما يظهر من أدلتهم الآتية ومن بعض أمثلتهم في مقام الاحتجاج إنما هو البحث عنها بعنوان التجري وعن حرمته بهذا الاعتبار شرعا كما يظهر ذلك من الأدلة () والأمثلة ومن قوله قدس سره فيعاتب على مخالفته أيضا ونحن نشير
273

إلى حكمها باعتبار العنوان المتقدم إن شاء الله في تتمة المسألة فانتظر.
ثم النزاع فيها إن فرض في حكم مخالفة القطع باعتبار أحد العنوانين المذكورين شرعا فيصح التمسك فيها بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع على تقدير كشفه عن رأي المعصوم قطعا كصحة التمسك فيها بالعقل فيكفي للمثبت حينئذ قيام أحد الأدلة الأربعة على مدعاه كما أنه لا بد للنافي من دعوى عدم قيام شيء منها عليه.
وإن فرض في حكمها بملاحظة أحد الوجهين عقلا فالمرجع فيها هو العقل لا غير.
نعم لو ورد دليل شرعي قطعي من جميع الجهات على أحد طرفيها كالكتاب أو السنة القطعية الصدور والدلالة معا، أو علم اتفاق جميع الأمة أو جملة منهم يعلم بدخول المعصوم عليه السلام فيهم على أحد طرفيها فهما - من جهة كشفهما عن رأي المعصوم من الخطأ - يكونان دليلين على مؤداهما ويصح التمسك بهما عليه بل يجب.
ولا ينافي ذلك ما ذكرنا من انحصار المرجع على الفرض المذكور في العقل، إذ التمسك بهما حقيقة راجع () إلى التمسك بالعقل السليم عن شوائب الأوهام بل يخالفه تعالى () فيما إذا كان الدليل الشرعي القطعي هو الكتاب.
والحاصل: أن الغرض أن المسألة على الفرض المذكور مما لا يدخله التعبد وهو ينافي الرجوع إلى الأدلة الشرعية الغير العلمية لعدم إفادتها العلم بحقيقة مؤدياتها واقعا حتى يؤخذ بها من تلك الجهة لرجوعها إلى اللحاظ المذكور في العملية منها والذي يفيده من العمل وإن كان يجب التعبد به في مرحلة الظاهر لكنه غير
274

مقصود من البحث في المسألة.
هذا بخلاف العلمية منها، فإنها تفيد العلم بالواقع والعمل كليهما، فيصح التمسك بها بالاعتبار الثاني، وهذا في الحقيقة ليس تمسكا بها، بل إنما هو تمسك بالقطع وإنما هي أسباب موجبة له.
ثم إنا قيدنا جواز التمسك بالإجماع في المسألة في الفرض الأول بكونه كاشفا عن رأي المعصوم عليه السلام قطعا للتنبيه على عدم العبرة فيها في ذلك الفرض أيضا باتفاق طائفة لم يعلم بدخول المعصوم عليه السلام فيهم وإنما يراد به استكشاف رأيه من باب الحدس لأجل أنه لا عبرة به مع فرض كشفه عن رأيه عليه السلام، لقيام احتمال أن يكون قول كل واحد من المجمعين عن رأيه وعقله لا عن تعبد المعصوم عليه السلام له به، وعلى تقدير حصوله لا حجية فيه فينحصر مورد صلاحيته لذلك فيما لم يكن إليه سبيل لعقول غير أهل العصمة.
فمن هنا ينقدح الإشكال في الإجماع في جميع المسائل الفرعية المماثلة للمقام وهي ما للعقل إليها سبيل، كمسألة حرمة الظلم أو الغصب مثلا الذي هو قسم منه، بل وفي جميع المسائل الأصولية الشرعية المماثلة له أيضا، كمسألة حجية الخبر أو مطلق الظن شرعا عند الانسداد وكمسألتي البراءة والاحتياط، وكذا مسألة الاستصحاب.
والحاصل: أنه إذا كانت المسألة مما انحصر طريقها في البلوغ عن المعصوم عليه السلام مع فرض اتفاق من عداه إلى حد يمتنع تواطؤهم على الكذب على أحد طرفيها والقول بغير علم فيقال إن هؤلاء يمتنع تواطؤهم بأجمعهم على الكذب والقول بغير علم فجملة منهم صادقون فيما قالوا وقاطعون به لا محالة وطريق قطعهم فيها منحصر في البلوغ من المعصوم عليه السلام فما قالته تلك الجملة واصل منه عليه السلام فنستنتج من هاتين المقدمتين ونستكشف منهما أن ما اتفقوا عليه واصل منه عليه السلام، ومن المعلوم ان المقدمة الأخيرة منتفية
275

فيما إذا كانت المسألة مما للعقل إليها سبيل، والأولى بمجردها غير وافية بالمطلوب.
ومن هنا يظهر عدم صلاحية الاتفاق للكشف عن المطلوب المذكور أيضا.
ثم إنه على تقدير جعل النزاع في قبح التجري أو في حرمته شرعا قد يجعل محط النظر فيه مطلق التجري وقد يجعل قسما خاصا منه وهو الذي لا يصادف الحرام الواقعي المعبر عنه بالمعصية الحكمية، كالتعبير عن الانقياد الغير المصادف لواجب واقعي بالطاعة الحكمية وعلى الثاني مجال للإنكار على مثبت الحرمة باستلزام قوله لتعدد العقاب فيما إذا صادف التجري حراما واقعيا ويكون معصية حقيقية من هذه الجهة، لأن المعصية الحكمية التي يقول هو بحرمته لا يعقل اجتماعها مع الحقيقية، لتفصلها بعدم مصادفة الحرام الواقعي التي هي فصل الحقيقية حتى يقول النافي إن المعصية الحقيقية وهي الإتيان بالحرام الواقعي سبب مستقل لاستحقاق العقاب، والتجري سبب آخر، وهما مجتمعان في صورة الإتيان بالحرام الواقعي عالما به، ولازمه استحقاق عقابين فينكر ببطلان اللازم على المثبت، فلا يحتاج إلى تكلف بالجواب بتداخل العقابين أيضا.
هذا بخلاف الأولى إذ عليه لا يمكن () الإنكار عليه بما مر، لفرض أخذ مطلق التجري - الصادق على المعصية الحقيقية أيضا - سببا مستقلا لاستحقاق العقاب وإن كان يمكن منعه بمنع سببه غير عنوان التجري للعقاب في المعصية الحقيقية من العناوين المتحققة فيها، فإنه إذا كان السبب لاستحقاق العقاب هو عنوان التجري لا غير، فلازمه استحقاق عقاب واحد في المعصية الحقيقية أيضا، لأنه فيها أيضا لم يتعدد وجوده، بل له في كل منها ومن الحكمية وجود واحد فلا
276

يقتضي في شيء منهما إلا عقابا واحدا.
والمصنف ومن سبقه إلى عنوان هذه المسألة قد جعله محط النظر فيها مطلق التجري فإنهما قد تذاكرا للإشكال المذكور ولم يجيبا عنه بعدم اجتماع السببين، بل أجاب عنه ذلك الشخص المتقدم على المصنف بتداخلهما والمصنف قد التزم به على القول بحرمة التجري وكونه سببا مستقلا إلا أنه قد استراح عنه بمنع أصل السببية.
فحاصل ما يظهر منهما جعل النزاع في المسألة في حرمة مخالفة القطع باعتبار التجري شرعا من غير اختصاص له بالغير المصادف معه الحرام الواقعي.
لكن دعوى الحرمة الشرعية للتجري دون إثباتها خرط القتاد، لعدم ما يصلح للدلالة عليها من الكتاب أو السنة أو الإجماع، فالدخولي منه أي الاتفاق المشتمل على المعصوم عليه السلام معلوم العدم، والحدسي منه على تقديره قد عرفت حاله في أمثال المسألة.
وأما العقل فغاية ما يحكم به على تقدير حكمه إنما هو قبح التجري والانتقال من القبح إلى النهي الشرعي إنما يصح ويكون فيما إذا علم بصلاحية المورد للنهي كما أن الانتقال من الحسن إلى الأمر الشرعي إنما هو فيما إذا علم كون المورد مما يصلح للأمر به.
وما اشتهر من أن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع لا ينافي ذلك، لأن المراد به إنما هو توافق الشرع للعقل فيما كان صالحا للخطاب، فليس ما ذكرنا تخصيصا له نعم ينتقل منهما إلى مبغوضية الشيء للشارع أو محبوبيته له - كما في الإطاعة والمعصية الحقيقيين - فإن العقل مستقل بحسن الأولى وقبح الثانية على وجه يعلم منه محبوبية الأولى ومبغوضية الثانية له مع عدم كشفه عن الأمر والنهي لعدم صلاحيتهما لذلك، لما تقرر - في محله - من أن الأمر بالأولى
277

والنهي عن الثانية على تقديرهما مستلزمان للتسلسل أو الترجيح بلا مرجح، والتجري وإن لم يكن حاله كحالهما من حيث وضوح عدم الصلاحية للخطاب إلا أن الإنصاف [أن] كونه مما يصلح له أيضا غير معلوم، بل مظنون عدمه نظرا إلى أن فائدة الخطاب إنما هو تحريك المكلف نحو الفعل أو الترك، والمفروض ان المتجري قاطع بحرمة ما يتجري به وقطعه ذلك كاف في تحريكه نحو الترك إن كان ممن يطيع إذا خوطب، والفوائد الاخر التي أشرنا إليها في طريقية القطع قد عرفت عدم صلاحية بعضها له والبعض الآخر منها كالتأكيد أيضا بعد محل تأمل.
هذا مضافا إلى أن التجري - ولو كان المحض منه - من مقولة العصيان والنهي عنه كالنهي عن العصيان مستلزم للمحال وهو التسلسل أو الترجيح من غير مرجح فيكون النهي عنه محالا لذلك بعد الإغماض عن استحالته لما مر، لأنه إذا فرض ان المكلف إذا قطع بحرمة شيء فارتكابه لذلك الشيء تجر جدا فإذا فرض النهي عن هذا التجري فيكون مخالفة ذلك النهي أيضا تجريا بالضرورة فحينئذ إما ان ينهى عن ذلك التجري أيضا أو لا.
وعلى الثاني يلزم الترجيح من غير مرجح لمساواته للأول، وعلى الأول فيكون مخالفة النهي الثالث أيضا تجريا فننقل الكلام إليه بعينه وهكذا إلى أن بلغ ما بلغ، فإن اقتصر في النهي على مرتبة خاصة يلزم الترجيح بلا مرجح والا يلزم التسلسل.
هذا إذا كان النهي على تقديره متعلقا بالتجري على وجه الإطلاق لا بخصوص المحض منه كما هو المفروض عند المصنف ومن سبقه إلى تحرير المسألة.
[و] أما إذا كان متعلقا بخصوص المحض منه فحينئذ وإن أمكن أن يقال إنه إذا تعلق النهي به فمخالفة ذلك النهي يكون عصيانا حقيقا فينتفي المساواة
278

بينها وبين متعلقه، فلا يلزم على تقدير اختصاص النهي بمتعلقه ترجيح بلا مرجح حتى يقال إنه يلزم النهي عن مخالفة ذلك النهي أيضا فإذا نهى عنها فننقل الكلام إلى مخالفة النهي الثاني، فيقال إما ينهى عنها أيضا أو لا، وعلى الثاني يلزم الترجيح بلا مرجح لمساواتها لمخالفة النهي الأول في كونهما عصيانين حقيقيين وعلى الأول يلزم التسلسل لنقل الكلام بعينه إلى كل مرتبة بالتقريب المتقدم.
لكن يرد الإشكال المذكور من جهة أخرى وهي أن مخالفة النهي المتعلق بالتجري المحض وإن لم تكن مماثلة أو مساوية له إلا أنها أقوى منها، لكونها معصية حقيقية على تقدير النهي عنها ومع النهي عنه يلزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو أقبح من الترجيح بلا مرجح فإن نهى عنها أيضا فننقل الكلام إلى مخالفة النهي الثاني فيقال إنها كمخالفة النهي الأول وحينئذ إما أن لا ينهى عنها، فيلزم الترجيح بلا مرجح أو ينهي عنها فيلزم التسلسل لنقل الكلام بعينه إلى كل مرتبة من مراتب المخالفة.
وأيضا توجه النهي عن التجري المحض إلى القاطع الذي يكون قطعه مخالفا للواقع إما أن يكون بعنوانه الخاص بأن يقال أيها القاطع المخطئ لا تتجر، أو لا تخالف قطعك وإما أن يكون بعنوانه العام الشامل لغيره أيضا بأن يقال أيها القاطع لا تخالف قطعك ولا تتجر.
وعلى الثاني: قد عرفت عدم الفائدة فيه لكونه تحصيلا للحاصل بالنسبة إلى فائدة التحريك لكفاية قطعه فيه ولا نرى له فائدة سواها.
وعلى الأول: يلزم خروجه عن مورد النهي بمجرد النهي لأن نهيه بذلك العنوان يوجب التفاته إلى خطئه وزوال قطعه فلا يبقى له قطع حتى يعمل به فلا فائدة في ذلك النهي أيضا إن كان الغرض منه عمل القاطع بقطعه ذلك.
نعم يصح إذا كان الغرض تنبيهه على خطئه ولم يكن المقصود عمله بقطعه المذكور، وليس الكلام فيه الآن.
279

هذا مضافا إلى أن القاطع، ما دام قاطعا - كما هو المفروض - لا يتمكن من تمييز موارد خطأ قطعه عن غيرها، لأن احتمال الخطأ في بعضها ينافي قطعه فيه، فكيف يقطعه بالخطإ فيه إذ القاطع لا يكون قاطعا الا بكونه جازما لعدم الخطأ فهو ما دام قاطعا لا يحتمل توجه النهي - عن التجري المحض المأخوذ فيه الخطأ - إليه فلا يعقل كون المحرك له إلى العمل في تلك الحال ذلك النهي فيلغو () توجيهه فيها وبعد زوال قطعه قد قضى الأمر لانقضاء زمن العمل فيلغو () توجيهه إليه بعد الزوال أيضا لأنه حال القطع الذي هو زمن العمل إما يعمل به أو يخالفه.
وعلى الأول يلزم من النهي بعد زواله طلب الحاصل، لحصول الغرض منه قبله.
وعلى الثاني يلزم طلب المحال، لامتناع قلب ما صدر إلى نقيضه بعد تحققه فيمتنع توجه النهي المذكور إليه في جميع الحالات فتبين أن التجري ليس من مقولة ساير العناوين كالظلم والكذب لأن يصلح للنهي عنه وإنما هو من مقولة العصيان الغير القابلة له.
ومن هنا يظهر أيضا أن قبحه على تقديره ليس كقبح الظلم والكذب فإن قبحه إنما هو من جهة كونه تضييعا لحق المولى، لأن من حقه على العبد أن لا يهتك العبد حرمته وهو هتك لحرمته وقبحه من هذه الجهة لا يختص بمولى دون مولى ولا بعبد دون عبد، ولا بما إذا لم يكن الفعل المتجري به في نفسه أمرا ذا مصلحة بل هو ثابت فيما إذا كان ذا مصلحة أيضا بل العبد مذموم عند العقلاء من تلك الجهة مطلقا.
280

الا ترى أنه لو عصى العبد سيده عصيانا حقيقيا يذم ويستحق العقاب ولو مع كون ما نهى عنه السيد أمرا حسنا في نفسه أو كون ما أمر به أمرا قبيحا كذلك كأن أمر بالظلم مثلا غاية ما هناك حينئذ أنه يذم المولى أيضا من جهة نهيه عن الحسن وأمره بالقبح وهو لا ينافي ذم العبد وقبح ما ارتكبه من هتك حرمته.
والحاصل: أن التقبيح والذم قد يكون على الفعل في نفسه، فيدوران مدار قبحه كذلك، وقد يكون عليه من جهة اتحاده مع عنوان هتك حرمة من يجب على ذلك الشخص طاعته عند العقلاء وحفظ حرمته فلا يختصان بموارد عدم حسن ما ارتكبه في نفسه، بل يدوران مدار اتحاده مع ذلك العنوان نفيا وإثباتا.
ومن هنا ظهر ما في التفصيل الآتي ممن سبقه أي المصنف إلى تحرير المسألة من تخصيصه قبح التجري بما إذا لم يصادف عنوانا ذا مصلحة خصوصا مع اعترافه بعد اتصاف ذلك العنوان بالحسن وعدم وقوعه موردا للمدح عليه للجهل بعنوانه حيث اعترف بمعذورية الفاعل في تركه ذلك العنوان بسبب عمله بقطعه.
وتوضيح فساده أنه بعد الاعتراف بكون التجري مقتضيا للتقبيح والذم لا بد من أن يكون المانع - من تأثيره فيهما فعلا في بعض الموارد - ما ينافيهما، ومن المعلوم أن مجرد كون الفعل المتجري به في الواقع أمرا ذا مصلحة لا ينافيه، فلا يعقل تأثيره في منع اقتضائه لما كان يقتضي بدونه، وإنما المنافي لهما إنما هو التحسين والمدح.
وقد اعترف أن الفعل المذكور لا يكون موردا لهما، لعدم كونه واقعا عن اختياره لمكان الجهل بعنوانه وهما مختصان بالأفعال الاختيارية كاختصاص التقبيح والذم بها أيضا.
هذا إنما هو من باب المماشاة والتنزل وإلا فيمكن أن يقال بعدم كونهما
281

متنافيين لهما أيضا مع تعدد الجهة فتأمل.
ثم إن الأولى وإن لم يكن متعينا أن يجعل النزاع في استحقاق العقاب على التجري وكونه سببا له من غير النظر إلى كونه منهيا عنه وعدم كونه كذلك لإمكان القول به على تقدير كونه منهيا عنه وعدم كونه كذلك أيضا، فإن استحقاق العقاب من المولى لا يدور مدار نهيه لتحققه بدونه فيما إذا علم العبد بكون شيء مبغوضا لسيده أو محبوبا ضمنيا له ففعله أو تركه حينئذ مع عدم إظهار من المولى بعد أصلا ()، إذ لا ريب أن العبد لو اعتذر حينئذ بعد إظهار السيد له ما في ضميره بعد الاعتراف بعلمه بما فيه لم يسمع منه العقلاء ويذمونه ويجوزون عقابه، وبعد جعل النزاع في ذلك فليس إتيانه ممتنعا أو صعبا () كإثبات النهي عنه، لأنه يدور مدار استقلال العقل بقبحه في نفسه أو بالنظر إلى كونه ملازما لبعض العناوين القبيحة.
ودعوى ذلك أمر غير منكر لسهولته وقربه من الاعتبار إن لم يكن واضحا كوضوح الملازمة بين القبح واستحقاق العقاب.
تتميم مقال: إذا كان المقصود إثبات سببية التجري مطلقا أو المحض منه لاستحقاق العقاب - بعد فرض انحصار طريقه في العقل - فكيفية استفادة ذلك منه أن يرجع إليه فإن استقل بقبح مطلق التجري أو المحض منه وصحة العقاب عليه () - من غير حاجة إلى اتحاد التجري مع بعض العناوين الأخر، بأن يحكم بأنه من حيث هو قبيح يستحق العقاب والذم عليه - فهو، وإلا فيمكن استفادته منه بوجه آخر وهو أن يلاحظ المعصية الحقيقية بالعناوين
الموجودة فيها،
282

فيلاحظ بطريق الترديد والدوران أن أيا من تلك العناوين سبب لاستحقاق العقاب، فإذا اتضح () مناطه على ذلك الوجه مع وجوده في التجري بأن يكون هو نفس التجري أو عنوانا ملازما معه فيستكشف من ذلك استحقاق العقاب على التجري مع عدم مصادفته للمعصية الحقيقية أيضا.
والعناوين الموجودة في المعصية أمور.
أحدهما: ارتكاب ما ينهى عنه المولى واقعا.
وثانيها: ارتكاب ما هو مبغوض.
وثالثها: ارتكاب العناوين المركب من ذينك العنوانين.
ورابعها: ارتكاب الأول مع العلم به.
وخامسها: ارتكاب الثاني كذلك.
وسادسها: ارتكاب المركب منهما كذلك.
وسابعها: ارتكاب ما علم بكونه منهيا عنه من المولى من غير اعتبار كونه كذلك في الواقع.
وثامنها: ارتكاب ما علم أنه مبغوض من غير اعتبار كونه كذلك في الواقع.
وتاسعها: التجري على المولى بفعل ما علم أنه مبغوضه أو منهي عنه من غير اعتبار اتحاده مع عنوان آخر.
وعاشرها: هتك حرمة المولى الملازم مع التجري في جميع موارده.
لا سبيل إلى توهم كون أحد الأولين وكذلك المركب منهما سببا لاستحقاق العقاب لاستقلال العقل بمعذورية مرتكب المنهي عنه والمبغوض الواقعيين للمولى مع جهل الفاعل بالحال في الجملة وقبح العقاب عليه كذلك
283

مع أنه لا مدخلية للنهي في استحقاق العقاب أصلا لثبوته فيما إذا علم العبد بمبغوضية شيء عند المولى مع عدم نهي المولى عنه () بعده فارتكبه في تلك الحال كما مرت الإشارة سابقا.
ومن هنا يعلم عدم صلاحية الرابع أيضا للسببية وكذلك السادس من حيث تركبه مع النهي، فانحصر الاحتمال في الخمسة الأخر وسببية أي منها مستلزمة لسببية التجري للعقاب.
أما على تقدير كون السبب هو عنوان التجري من حيث أنه تجر فهو عينه.
وأما على تقدير كونه هتك حرمة المولى فهو ملازم مع التجري ().
وأما على تقدير كونه هو ارتكاب ما علم أنه مبغوض المولى أو منهي عنه من غير اعتبار الواقعية منهما فكذلك أيضا، لأن المتجري يعلم في جميع الموارد بكون ما ارتكبه مبغوضا ومنهيا عنه من المولى إلا أنه قد لا يصادف قطعه الواقع والمفروض عدم اعتبار المصادفة في العنوانين المذكورين.
وأما على تقدير كونه هو الخامس من الأمور العشرة المذكورة، أعني ارتكاب مبغوض المولى واقعا مع العلم به، فلأن هتك حرمة المولى ملازم مع التجري في جميع الموارد بالضرورة، وهو مبغوض للمولى واقعا بالبديهة، والمتجري أيضا عالم بذلك، فهو مرتكب في جميع الموارد لما هو مبغوض واقعي له عالما به.
ومن هنا يعلم أن المبغوض أعم من الهتك وكان السبب هو ارتكاب المبغوض الواقعي له مع العلم بكونه كذلك ().
284

وكيف كان فبعد ثبوت كون السبب أحد تلك الأمور الخمسة لا محيص عن القول باستحقاق العقاب على الفعل المتجري به.
والقوي في النظر ذلك فمن هنا يتقوى القول بسببية التجري للعقاب مطلقا ولو من جهة اتحاده مع بعض العناوين الملازمة له في جميع موارده التي منها صورة خطأ القطع وعدم مصادفة للواقع.
وقد يظهر مما ذكرنا أيضا فساد ما قد يقال من أن الذمة على التجري إنما هو لكشف التجري غير سوء سريرته لا على الفعل المتجري به.
وتوضيح الفساد أن عنوان هتك حرمة المولى إنما هو عنوان متحد مع الفعل المتجري به لا محالة، ومن المعلوم أنه قبيح يذم عليه عند العقلاء فيذم على الفعل المتجري به ولو لأجل ترتبه على المتجري وحده.
فإذا عرفت تلك المقالة بما فيها فتقدر على تمييز ينقسم ما ذكر في المسألة من الأدلة والأجوبة من صحتها ولعلك تستغني بها غني معرفة الحال فيها ومع ذلك كله ينبغي التعرض تفصيلا لبعض ما وقع من المصنف وغيره في المسألة.
قوله: ويمكن الخدشة في الكل ().
أما الإجماع فالمحصل منه غير حاصل، وقد عرفت أن الذي ينفع منه إنما هو المشتمل منه على المعصوم عليه السلام وهو غير معلوم إن لم يكن معلوم العدم، والحدس من على تقدير حصوله غير مجد في المسألة، لكونها إما عقلية محضة أو لكونها مما يدخله العقل - بناء على جعل النزاع فيها في حرمة التجري شرعا - وإليه أشار المصنف بقوله والمسألة عقلية، يعني أنه بعد الإغماض عن منع الإجماع المحصل وتسليم حصوله يتجه على الاحتجاج به أن المسألة عقلية لا مساس لها للإجماع الذي هو اتفاق أهل الشريعة، وإنما المجدي اتفاق جميع
285

العقلاء الذين أهل الشرع بعضهم، وهو معلوم العدم، لوجود الخلاف الصريح من بعض هؤلاء () القادح في دعوى الإجماع أيضا.
ومراده من الإجماع إنما هو الحدسي منه لا الدخولي لما عرفت من أنه على تقدير حصوله حجة على المسألة:
قوله: خصوصا مع مخالفة غير واحد ().
هذا تأكيد لمنع حصول الإجماع المذكور وقد صرح في دعواه وكان الأنسب ذكره بعد قوله (فالمحصل منه غير حاصل) ثم ذكر قوله (والمسألة عقلية) لأنه على الترتيب الذي ذكره منع للإجماع المذكور بعد التسليم وهو خارج عن طريقة المناظرة كما لا يخفى.
ثم إنه كان الأنسب بجعله النزاع في حرمة التجري شرعا أن يقول بدل قوله (والمسألة عقلية) والمسألة مما يدخله العقل وله طريق إليها، إذ بعد جعل النزاع فيها في حرمة التجري تكون شرعية لا عقلية.
نعم العقل أحد الطرق وهو بمجرده لا يوجب كونها عقلية.
قوله - قدس سره -: (حيث إن هذا الفعل يكشف عن وجود صفة الشقاوة فيه إلى آخره) ()
مراده بصفة الشقاوة التي يذم الفاعل عليها إنما هي عزمه على معصية مولاه الذي هو من أفعاله العملية الاختيارية له كأفعاله الظاهرية الاختيارية له، أو إحدى صفاته الخبيثة النفسانية التي حصلت له بسوء اختياره غير العزم على المعصية.
ومن هنا يندفع توهم الإشكال على المصنف بأنه كيف يصح مذمة أحد
286

على صفاته النفسانية الغير الاختيارية له.
نعم ظاهر العبارة يعطي إرادة الحالة السببية النفسية للفاعل من صفة الشقاوة التي هي من () الصفات الغير
الاختيارية فلا تغفل.
قوله - قدس سره -: (وأما بناء العقلاء فلو سلم إلى قوله - كمن انكشف لهم من حاله أنه بحيث لو قدر على قتل سيده لقتله.). ()
فيه - ما عرفت سابقا - من ثبوت المذمة من العقلاء على الفعل المتجرى به، لكونه هتكا لحرمة السيد لا محالة، ومنه يظهر فساد المقايسة المذكورة.
وتوضيح الفساد أنا سلمنا ذمهم للعبد في المقيس عليه أيضا ولأنه لأجل انكشاف سوء سريرته، لكن اختصاص الذم في المقيس بتلك الجهة ممنوع، بل المتجري مذموم من تلك الجهة ومن جهة كون فعله هتكا لحرمة السيد أيضا، فهو مذموم على سوء سريرته وعلى هتكه المتحد مع الفعل المتجري به فالمذمة على الفعل والفاعل كليهما.
قوله - قدس سره -: (وأما ما ذكره من الدليل العقلي فنلتزم باستحقاق من صادف قطعه الواقع، لأنه عصى اختيارا) ()
لا يخفى ما في قوله (لأنه عصى) من المسامحة، لأن العصيان لا يقع في الخارج على قسمين، لأنه إنما يتحقق بارتكاب الحرام الواقعي اختيارا، بمعنى كونه عالما [به] عازما عليه، فالاختيار محقق لأصل العصيان ومقوم له، فلا يمكن تحققه بدونه حتى يجعل قيدا ممنوعا له أو مصنفا، وكأنه (قدس سره) أتى به للتأكيد لا الاحتراز.
287

وكيف كان فحاصل مراده أن سبب استحقاق العقاب إنما هو ارتكاب الحرام الواقعي اختيارا - بأن يقدم عليه عالما به عازما عليه - وهو متحقق في حق من صادف قطعه الواقع دون من لم يصادف قطعه له، لعدم ارتكابه له اختيارا، وكما أنه لم يصدر منه شرب الخمر الاختياري كذلك لم يصدر منه شرب الماء كذلك، فإن المائع الذي اعتقد كونه خمرا وإن كان ماء في الواقع لكن لم يشربه عالما به عازما عليه بعنوان كونه ماء، فالذي قصد لم يقع والذي وقع لم يقصد، فلم يكن له فعل اختياري أصلا.
وكيف كان فلم يصدر عنه شرب الخمر الاختياري، فلا يستحق العقاب لذلك.
وبالجملة استحقاق من صادف قطعه للواقع للعقاب ليس من جهة المقدمات الاختيارية حتى يقال إنها بعينها صادرة ممن لم يصادف قطعه للواقع، بل لأجل صدور الحرام الواقعي منه اختيارا، وهو منتف في حق من لم يصادف قطعه للواقع، وعدم العقاب لأجل الأمر الغير الاختياري غير قبيح، بل يقبح العقاب لأجله.
نعم الفعل الاختياري المتحقق منه إنما هو عزمه على شرب الخمر ولا يمتنع من استحقاقه العقاب عليه كما ذهب إليه جمع من المتكلمين ().
قال في التجريد نية المعصية معصية يعني العزم عليها. ومثله المنقول عن الصدوق (قدس سره) في اعتقاداته.
هذا توضيح مراد المصنف كما أفاده حين قرأنا عليه هذا الموضع.
288

والأجود أن يقرر الجواب عن الدليل المذكور على نحو ما قرره (دام ظله) وهو أن المصادفة وعدمها قد يلاحظان بالنسبة إلى القطع فمعنى مصادفته مطابقته للواقع، وقد يلاحظان بالنسبة إلى المائع المقطوع بخمريته فمعنى مصادفته للواقع كونه خمرا في الواقع، وقد يلاحظان بالنسبة إلى فعل القاطع وهو شربه للمائع المقطوع بخمريته فمعنى مصادفته له كونه شربا للخمر لا شربا للماء أو الخل وعدم المصادفة في كل من تلك الملاحظات نقيضها.
فنقول حينئذ ما المراد بالمصادفة وعدمها في الدليل المذكور؟ فإن كان المراد بهما بإحدى الملاحظتين الأولتين فكونهما أمرين غير اختياريين مسلم لكن إناطة استحقاق العقاب وعدمه بهما ممنوع وإن كان المراد بهما بالملاحظة الأخيرة فإناطتهما بها حينئذ مسلمة، لكن كون المصادفة بهذا الاعتبار أم غير اختياري ممنوع، إذ هي بهذا الاعتبار عنوان منتزع من صدور شرب القاطع للمائع المقطوع بخمريته عند شربه () للخمر حقيقة، ومن المعلوم أن شربه له شرب للخمر اختيارا إذ الفعل الاختياري ليس إلا ما فعله الفاعل عامدا عالما بعنوانه مع كونه مصداقا لذلك العنوان في الواقع.
والمصادفة بالملاحظتين الأولتين من مقدمات الفعل الاختياري، ولا منافاة بين كونها مقدمة كذلك وبين عدم كونها اختيارية، لأن وجود الفاعل من مقدمات الفعل الاختياري مع أنه في نفسه أمر خارج عن اختيار الفاعل، ولو بنى على اعتبار الاختيار في جميع المقدمات لزم انتفاء الفعل الاختياري رأسا.
نعم عدم المصادفة بهذا الاعتبار أمر غير اختياري لمن لم يصادف قطعه للواقع، فإن عدم شربه للخمر - الذي هو محل انتزاعه - لم يتحقق منه باختياره
289

وذلك غير مضر، لأن عدم استحقاق العقاب على [عدم] () شرب الخمر كما قد يتحقق في ضمن عدم شربها اختيارا كذلك يتحقق في ضمن عدم شربها اضطرارا.
والحاصل أنه إذا جعلنا المناط في استحقاق العقاب هو شرب الخمر اختيارا فالفارق إنما هو تحققه في حق من صادف قطعه للواقع وانتفائه في حق من لم يصادف قطعه له.
وهذا الذي ذكرنا إنما هو مناقشة في دليل المستدل المذكور وإلا فنحن قد قوينا المدعي بالوجوه المتقدمة ().
قوله - قدس سره -: (كما يشهد به بعض الأخبار) ().
أي بالتفاوت في الثواب والعقاب لأمر غير اختياري، إذ ليس غرضه تطبيق تلك الأخبار على محل الكلام، بل إن غرضه الاستشهاد بها، لمجرد إثبات أن الثواب والعقاب يتفاوتان بتفاوت العمل من جهة كونه اختيارا وعدم كونه كذلك، لرفع الاستبعاد المدعي في الدليل المذكور.
بيان ما لعله يحتاج إلى البيان في تلك الأخبار.
فاعلم أنه قد يتوهم أن عدم استحقاق من قد كثر العامل بسنته السيئة أو الحسنة للمقدار الزائد من الثواب أو العقاب مسلم لأن الاستحقاق له كاستحقاق أصل الثواب والعقاب لا بد له من سبب اختياري له، فإذا ليس فليس، لكن استحقاق من كثر العامل بسيئته له () غير معقول بعد مساواته للأول في الفعل الاختياري وهو إحداث السيئة والعمل الزائد لسيئته بالنسبة إلى العمل بسيئة الآخر أمر خارج عن اختياره لفرض كونه من فعل الغير، فلا
290

يعقل كونه سببا لاستحقاقه أو دخيلا في السببية.
والحاصل: أن السبب له إن كان أصل إحداث السيئة أو الحسنة فهما متساويان فيه، فاستحقاق أحدهما له دون الآخر ترجيح بلا مرجح، وإن فرض كونه العمل بها المفروض صدوره من غيرهما أو هو منضما إلى إحداث السيئة، فهو فرض أمر محال، لامتناع مدخليته في الاستحقاق بوجه، وقياسهما بالشخصين القاطعين بخمرية المائعين أحدهما خمر في الواقع والآخر غير خمر، مع شرب كل منهما لما قطع بخمريته باطل، للفرق بين
المقامين بأن الذي لم يصادف قطعه للواقع هناك غير مساو لمن صادف قطعه له في سبب استحقاق العقاب وهو الفعل الاختياري للمستحق له لتحققه من الثاني دون الأول أصلا، هذا بخلاف المقام، لفرض مساواة المحدثين للسيئة في الفعل الاختياري وعدم اختصاصه بواحد منهما فيكون تلك الأخبار مخالفة لحكم العقل، فيلزم طرحها إن لم يكن تأويلها إلى ما لا ينافيه ولا يكاد يتصور لها تأويل، إذ غاية ما يتصور في بادئ النظر حمل المقدار الزائد على التفضل، وهو باطل بالضرورة إذا كان هو العقاب إذ لا يعقل العقاب تفضلا، بل يقبح مع فرض عدم () سبب موجب له.
وأما بالنسبة إلى الثواب ففي غاية الإشكال أيضا، لأن التفضل ليس إعطاء خير مع عدم صدور أمر من المفضل بالفتح أصلا، بل معناه أن يكون العطاء زائدا على مقدار استحقاق المعطي بحسب ما صدر منه، والمفروض أنه لم يصدر من الذي كثر العمل بسيئته أو حسنته أمر موجب لاستحقاقه له في الجملة غير صادر من الآخر، فيكون تخصيص أحدهما بذلك المقدار الزائد ترجيحا بلا مرجح، والمقدار الزائد من عمل الغير سيئة لا يصلح لكونه مرجحا لخروجه عن
291

اختياره، إذ سبب التفضل لا بد أن يكون من مقولة سبب استحقاق أصل الثواب.
هذا خلاصة بيان ما ربما يتوهم في المقام.
والتحقيق: اندفاعه بالتزام [كون] () عمل الغير بالسيئة فعلا اختياريا لمن سنها، غاية الأمر أنه لا يكون فعله على نحو المباشرة، لكنه فعله على نحو التسبيب والتوليد كسائر الأفعال التوليدية، ففاعله على نحو المباشرة إنما هو الغير، وعلى نحو التسبيب ذلك الذي سن السيئة، فالمقدار الزائد من العمل بإحدى السيئتين فعل اختياري لمن سن تلك السيئة فاختصاصه بالمقدار الزائد عن الثواب أو العقاب في الفعل الاختياري على نحو المباشرة [ليس بصحيح] () بل هو على التسبيب أيضا سبب لاستحقاقها، كيف لا () وكثير من العبادات في الشريعة من الثاني، واستحقاق الثواب () عليها أمر ضروري لا يعتريه الريب () كبناء المسجد والمنازل والقناطير العابرين مع أنها غالبا تقع على نحو التسبب.
قوله - قدس سره -: (وقد اشتهر أن للمصيب أجرين وللمخطئ أجر واحد) ()
غرضه (قدس سره) من ذكره ذلك أيضا ما مر في الاستشهاد بتلك الأخبار، والاستشهاد به وإن كان في محله، بمعنى أنه لا يخلو عن المناسبة، لما
292

هو في صدده ولكنه ظاهر في تسليمه إياه وهو ينافي في منعه العقاب على التجري، لأن صحة ذلك الذي اشتهر منه على كون الانقياد سببا مستقلا للثواب والأجر وراء تحصيل الواقع اختيارا حتى يقال إن المصيب قد حصل الواقع باختياره لأنه استنبطه عالما عازما عامدا فله أجر من هذه الجهة وأيضا وطن نفسه وانقاد للأمر بالاجتهاد والتفقه فله أجر آخر من تلك الجهة والمخطئ إنما انقاد لذلك الأمر من [دون] () تحصيل الواقع أصلا فله أجر واحد.
والالتزام بكون الانقياد سببا مستقلا لاستحقاق الثواب مستلزم للقول بكون التجري أيضا سببا مستقلا لاستحقاق العقاب، لأنه في جانب العصيان كالانقياد في جانب الامتثال من غير فرق أصلا كما أن التزام كون تحصيل الواقع اختيارا سببا مستقلا للثواب مستلزم للقول بكون ارتكاب الحرام الواقعي كذلك أيضا سببا مستقلا للعقاب لكونه كالإطاعة الحقيقية من تلك الجهة، فيلزمه القول بتعدد العقاب في المعصية الحقيقية لتحقق العنوان فيها وهو كما ترى.
ومن هنا ظهر ما في ذلك الذي اشتهر فتدبر.
وكيف كان فالتحقيق أنه على تقدير سببية التجري المحض والانقياد كذلك للعقاب والثواب لا بد من الالتزام بكون السبب لهما في الإطاعة والمعصية الحقيقيين أيضا أمرا مشتركا بأن يكون السبب للثواب في الإطاعة الحكمية على تقدير استحقاق الثواب عليها بعينه هو السبب له في المعصية الحقيقية، للإجماع على عدم تعدد العقاب في المعصية الحقيقية فتأمل.
وتعدد الثواب في الإطاعة الحقيقية وإن لم يكن كتعدد العقاب في المعصية الحقيقية أمر مبين العدم إلا أن التحقيق عدم الفرق بينهما من تلك الجهة كما عرفت فيلزم اتحاده فيها أيضا.
293

قوله - قدس سره -: (لأجل التشفي المستحيل في حق الحكيم تعالى فتأمل) ().
أقول كان الأمر بالتأمل إشارة إلى أن تأكد الذم في المبغوضات العقلائية بالنسبة إلى من صادف قطعه الواقع لا يكون إلا استحقاقه العقاب، ضرورة قبحه المانع من صدوره من العقلاء لولاه، ومجرد كون الغرض منه هو التشفي غير موجب لاستحقاقه ولا مجوز له بالضرورة، فإذا ثبت استحقاقه [في] المبغوضات العقلائية ثبت في المبغوضات الشرعية لاتحاد المناط في الكل، لعدم صلاحية التشفي لكونه فارقا بين المقامين ولا فارق سواه.
قوله - قدس سره -: (وقد يظهر من بعض المعاصرين التفصيل في صورة القطع بتحريم شيء غير محرم واقعا فرجح استحقاق العقاب بفعله إلا أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة) ()
أقول: حاصل حجة المفصل المذكور على ما صار إليه بتوضيح منا أن سببية التجري لاستحقاق العقاب إنما هي لقبحه، فيدور فعلية الاستحقاق لأجل مدار فعلية قبحه، وقبحه ليس ذاتيا حتى يتحقق موضوعه كيف ما اتفق، فيكون فعليا في جميع الحالات والموارد، بل إنما هو يختلف بالوجوه والاعتبار، بمعنى أنه مقتضى له لا علة تامة، فيمكن عدم تأثيره فعلا فيه إذا اقترن بما يمنع من اقتضائه له في مورده، فإذا اتحد مع عنوان ذي مصلحة في الواقع فيمكن تأثير ذلك العنوان من جهة اشتماله على المصلحة في تضعيف قبحه وتقليله أو دفعه رأسا بحسب اختلاف مراتب قوة تلك المصلحة وضعفها بالإضافة إلى مفسدة جهة التجري ومساواتها له فيقل قبحه فيما إذا كانت تلك المصلحة أضعف من
294

مفسدته، فإن المفسدة المزاحمة بالمصلحة الضعيفة أضعف من السليمة من المزاحم جدا، وترتفع رأسا إذا كانت تلك المصلحة مساوية أو غالبة عليها فيكون مباحا في الأول وواجبا أو مندوبا في الثاني.
ومن هنا ظهر أنه إذا اتحد مع عنوان خال عن المفسدة والمصلحة يكون قبحه ومفسدته أعظم منهما فيما إذا اتحد مع عنوان ذي مصلحة ضعيفة، وأقل منهما فيما إذا اتحد مع عنوان مكروه، وأنهما في تلك الصورة أعظم منهما () فيما إذا اتحد مع عنوان محرم فيكون قبيحا وذا مفسدة في الصورة الأخيرة من جهتين فإذا أمكن ذلك فيمكن - فيما إذا اعتقد تحريم واجب غير مشروط بنية القربة فتجرى وفعله - أن لا يقع قبيحا لمعارضة جهة ذلك الواجب لجهة التجري - كما عرفت - فيمكن عدم استحقاق العقاب على التجري في تلك الصورة.
نعم إذا كان الواجب الذي اعتقد تحريمه من العبادات فمجرد كونها واجبات في الواقع لا ينفع في رفع قبح الإتيان بها بعنوان التجري لأن المزاحم لقبحه إنما هي مصلحة الفعل المتجري به في حد نفسه، ومن المعلوم أن العبادات وإن كانت مشتملة على المصلحة ومتضمنة لها إذا وقعت في الخارج، ولكن وقوعها فيه ممتنع () مع
قصد المعصية الموجودة في التجري، فضلا عن امتناعه بدون قصد القربة التي هي شرط فيها الممتنعة في التجري هذا خلاصة احتجاجه.
ويدفعه ما مر في المقالة السابقة من أن مجرد المصلحة الواقعية لا يعقل تأثيرها في منع اقتضاء التجري القبح بعد الاعتراف بكونه مقتضيا له فإن تلك المصلحة مع الجهل بها لا يوجب المدح على الفعل كعدم إيجابها الذم بتركه فإن شئت توضيحه فراجع ثمة.
295

ومنه يظهر ما في توجيه ذلك بأن الفعل الذي يتحقق به التجري وإن لم يتصف بحسن ولا قبح لكنه لا يمتنع أن يؤثر في قبح ما يقتضي القبح.
قوله - قدس سره -: (وعليه يمكن ابتناء منع الدليل العقلي السابق في قبح التجري) ()
يعني على منع عدم مدخلية الأمور الخارجة عن الاختيار، وإنما أتى بلفظ الإمكان مع أن الابتناء عند ذلك الوجه قطعي، بمعنى أن منع الدليل السابق بزعمه يتوقف على إمكان مدخلية الأمور الاضطرارية في استحقاق المدح والذم، لأن مبناه - وهو مدخلية الأمور الاضطرارية - لما ثبت عنده على وجه الإمكان حيث إنه ادعى إمكانه لا وقوعه ففرع عليه المنع كذلك.
قوله - قدس سره -: (مضافا إلى الفرق بين ما نحن فيه وبين ما تقدم من الدليل العقلي كما لا يخفى على المتأمل)
المراد بالدليل العقلي إنما هو ما إشارة إليه المصنف بقوله: (وقد يقرر دلالة العقل على ذلك بأنا إذا فرضنا شخصين قاطعين) إلى آخر ما ذكره.
ثم إن الفرق بين المقامين: أن غرض المستدل بذلك الدليل العقلي إنما هو إثبات كون التجري مقتضيا لاستحقاق العقاب، ومن المعلوم أن منع أصل الاقتضاء لا يتوقف على مدخلية الأمور الغير الاختيارية في استحقاق المدح والذم بحيث لو لم يثبت هذه لم يصح ذلك لصحته بوجه آخر، وهو ما ذكرنا سابقا من أن () سبب الاستحقاق إنما هو الفعل الاختياري المحض لمن صادف قطعه الواقع، لا أنه أمر اضطراري حتى يتوقف إثبات كونه سببا على مدخلية الأمور الغير الاختيارية في المدح والذم وسببيته للعقاب والثواب، بل المتعين في منعه إنما
296

هو ذلك الوجه كما لا يخفى على المتأمل.
هذا بخلاف ما بصدده هذا المفصل، فإنه - بعد الاعتراف بكون التجري مقتضيا لاستحقاق العقاب في () صدد إثبات عدم اقتضائه له في بعض الموارد لمزاحمة بعض الأمور الغير الاختيارية في المدح والذم فافهم.
إيقاظ: لا يتوهم أن هذا المفصل () موافق مع الشهيد () (قدس سره) في الواجبات المشروطة بنية القربة المقطوع بتحريمها.
لأن المفصل إنما احتمل العقاب على أصل الفعل المتجري به والشهيد (قدس سره) فيما يأتي من كلامه إنما يحتمله على نية المعصية المقرونة بالعمل، لا على العمل المقرون بها فهما متعاكسان فلاحظ.
تنبيه: المصنف بعد أن استشكل - في استحقاق العقاب على الفعل المتجري به في المتن - قال في حاشية منه على هذا الموضع:
نعم يظهر من بعض الروايات حرمة الفعل المتجري به بمجرد الاعتقاد مثل موثقة سماعة () عن رجلين قاما إلى الفجر، فقال أحدهما هو هذا، وقال الآخر لا أرى شيئا. قال عليه السلام فليأكل الذي لم يبين له وحرم على الذي زعم أنه طلع الفجر، إن الله عز وجل قال: كلوا واشربوا حتى الآية () انتهى.
أقول: بعد الإغماض عما ذكره في المقالة المتقدمة - من عدم صلاحية
297

المتجري به () للنهي عنه - لا ظهور في الرواية بنفسها في حرمته أيضا، فإن لفظ الحرام وإن كان ظاهرا في ذلك، لكن الظاهر من مجموع الرواية وسياقها كون التحريم إرشاديا لا مولويا، وذلك بقرينة استشهاد الإمام بالآية المذكورة فإنه ظاهر في إرادته من التحريم ما هو المراد منها والظاهر منها () أن جعل تبين الفجر غاية لجواز الأكل إنما هو لنكتة التنبيه على كيفية إطاعة الأمر بالصيام وأن مبدأه إنما هو نفس الفجر والعلم طريق إليه وأن المكلف إذا علم به لا بد له من الإمساك.
ولو سلمنا عدم ظهورها في ذلك لا بد من حملها عليه، للعلم من الخارج بأن مبدأ الصوم هو نفس الفجر لا تبيينه فلا تغفل.
تذكرة الثمرة المتفرعة على القول بقبح التجري وكونه عصيانا بالنسبة إلى ما يتعلق بأفعالنا الحكم بفسق المتعاطي لما يعتقد كونه محرما في الواقع مع عدم كونه كذلك فيه.
لا يقال: إن الحكم بفسقه لا يختص بذلك القول، بل يجري على القول الآخر أيضا، فإن التجري يكشف عن عدم الملكة الرادعة عن المعصية في فاعله لا محالة، ولا يختص كشفه عنه بكون نفسه معصية أيضا، بل إنما هو من خواص ذاته، فلا بد من الحكم بفسقه على القول الآخر أيضا.
لأنا نقول: نحن في صدد إثبات الثمرة المذكورة بينهما في الجملة الغير المتنافية لتحققها بالموجبة الجزئية، ومن المعلوم أنها على النحو الموجبة الجزئية ثابتة بينهما فيمن ثبت له تلك الملكة قبل التجري، فإنه حينئذ لا يكشف عن
298

ارتفاعها بعد ثبوتها فيتوقف الحكم بفسقه على كون نفس التجري فسقا ومعصية، نعم انتفائها مسلم فيمن لم يثبت له تلك الملكة فيه فافهم.
قوله - قدس سره -: (وقد قال بعض العامة نحكم بفسق المتعاطي ذلك، لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي ويعاقب في الآخرة ما لم يثبت عقابا متوسطا بين الصغيرة والكبيرة وكلاهما تحكم وتخرص على الغيب انتهى) ()
أقول: كون الثاني تخرصا على الغيب مسلم لأن المحرمات المعلومة بالضرورة من الدين لا يجوز القطع بفعلية العقاب عليها، لأن فعل المحرم مع عدم التوبة لا يكون علة تامة له، نعم التوبة علة لعدمه، فكيف بالقطع بكيفية ذلك، والبحث المتقدم إنما هو في كونه علة لاستحقاق العقاب فحسب.
وأما كون الأول تحكما ففيه منع، لما مر من أن التحقيق كون التجري معصية.
نعم تعليل الحكم بفسق متعاطيه - بكونه كاشفا عن عدم مبالاته بالمعاصي الذي هو معنى انتفاء ملكة العدالة فيه - لا يتم مطلقا كما عرفت، فالصحيح تعليله بكونه معصية، فإن ذلك القائل ذاهب إلى كونه معصية بمقتضى حكمه بالعقاب عليه في الآخرة، فإن كان مراد المصنف كونه تحكما بالنظر إلى تعليله بما ذكر فهو جيد إكمال: التجري كما يتحقق بمخالفة القطع بالحكم الواقعي كذلك يتحقق بالقطع بالحكم الظاهري كمؤدى الأصول والطرق الظاهرية، والحكم في المقامين واحد لاتحاد المناط فيهما كما لا يخفى.
خاتمة: كلما ذكرنا في حكم مخالفة القطع إنما هو بالنظر إلى اتحادها مع
299

عنوان التجري كما عرفت، فهل الحكم فيها من حيث اتحادها () مع عنوان الإقدام على ما قطع بقبحه متحد مع
حكمها من تلك الجهة أو لا ()؟ الحق الثاني، لأن القطع بقبح شيء لا يصير بمجرده قبيحا مع عدم قبحه في نفسه، فلا يصح الذم على الإقدام عليه ليكون موجبا لاستحقاقه للمؤاخذة والعقاب من المولى.
نعم يوجب الذم على الفاعل من حيث كشفه عن شقاوته فلا يكون الإقدام عليه ما لم يتحد مع عنوان التجري موجبا له ومع اتحاده معه يكون الاستحقاق مستندا إلى التجري لا إليه.
هذا مضافا إلى أن الإقدام على القبح الواقعي مع العلم بقبحه لا يصح العقاب عليه من حيث كونه إقدام عليه اختيارا وإن كان يصح الذم عليه من العقلاء، وإنما يصح العقاب عليه إذا كان مبغوضا للمولى مع العلم بكونه مبغوضا له.
ألا ترى أنه لو فرض مولى لا يبغض ارتكاب القبيح مطلقا أو ارتكاب قبيح خاص فارتكبه العبد عالما بأنه لا يبغضه، لا يجوز للمولى المؤاخذة عليه، بحيث لو أراد مؤاخذته يذمه العقلاء معللين ذمه ذلك بأن ذلك العبد لم يفعل بالنسبة إليك شيئا نعم يذمون العبد أيضا بارتكاب القبيح.
فتلخص أن المناط في استحقاق العقاب إنما هو الإقدام على مبغوض المولى اختيارا.
لا يقال: لا يجوز مؤاخذة المولى من حيث العصيان، بمعنى أنه لا يجوز له ذلك عند العقلاء لو علله بالعصيان، لعدم تحققه في الفرض المذكور، وإنما هي
300

من باب التأديب فيجوز قطعا.
لأنا نقول: مخالفة الآداب () أيضا من الأمور القبيحة فهو إما لا يبغضه فيرجع إلى الكلام الأول، وإما يبغضه فيخرج عن الفرض، لأنه حينئذ آت بمبغوضه اختيارا ويكون سببا لاستحقاق المؤاخذة لذلك.
محاكمة الأخباري في عدم اعتماده على بعض أقسام القطع
قوله - قدس سره -: (وينسب إلى غير واحد من أصحابنا الأخباريين عدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدمات العقلية القطعية الغير الضرورية) ()
حاصل هذا التفصيل التفصيل في اعتبار القطع من حيث كونه طريقا إلى متعلقه من حيث أسبابه بأنه إذا كان حاصلا من المقدمات العقلية النظرية لا يجوز العمل به وإذا كان حاصلا من غيرها من المقدمات المحسوسة () أو العقلية القريبة من الإحساس يجوز العمل به، كما أن التفصيل الآتي في الأمر الثالث تفصيل في اعتباره كذلك من حيث الأشخاص.
وأنت بعد ما ذكرناه في اعتباره من أنه لا يعقل المنع عنه بوجه من الوجوه () ولا يعقل اختصاص اعتباره بسبب دون آخر أو بشخص دون آخر أو بزمان دون آخر يظهر لك فساد هذين التفصيلين.
نعم يجوز النهي عن الخوض في بعض المقدمات المحصلة له بحيث لو خالف وخاض فيها وقطع بخلاف الواقع وعمل بقطعه ذلك لا يعذر في مخالفة الواقع بل يجوز عقابه عليها لاستنادها بالآخرة إلى اختياره.
نعم لا يعقل النهي عن العمل به بعد حصوله، وهو لا ينافي جواز العقاب،
301

لما عرفت.
وكيف كان فالكلام في العمل به حال () حصوله وبقائه وقد عرفت عدم جواز النهي عنه حينئذ بوجه.
ثم إن الذاهب إلى هذا التفصيل بين من علله بكثرة المخالفة للواقع في القطع الحاصل من المقدمات النظرية، كالمحدث الأسترآبادي () وبعض من وافقه من الأخباريين، وبين من علله بعدم تمامية الحجة بمجرده، إذ لا بد فيها من بلوغ الحكم عن المعصوم عليه السلام بالنقل عنه أو السماع منه، كالسيد الصدر () (قدس سره).
وبعبارة أخرى إن التكليف بشيء لا يتنجز على المكلف بحيث يستحق العقاب على مخالفته إلا بتبليغ حجة سمعية عليه من المعصوم عليه السلام فحكم العقل به واستقلاله بواسطة المقدمات النظرية لا ينهض حجة عليه وكذلك إذا انضم إليه حجة سمعية منهم عليهم السلام واصلة إلى المكلف ولو بالعقل ().
ولا يخفى أن ذلك ليس إنكارا لقاعدة التطابق بين العقل والشرع، فإن معناها أن حكم العقل بأمر هل هو كاشف عن حكم الشارع به على نحو ما حكم به العقل أو لا، ومبنى الكشف على ثبوت الملازمة - بين قبح شيء وبين نهي الشارع عنه، وبين حسنه التام الملزم عند العقل وبين أمره به - بأنه بعد ثبوتها كذلك إذا قطع العقل بقبح شيء فيتحقق عنده صغرى وهي أن هذا قبيح فينضم
302

إلى تلك، الكبرى، أعني (كل قبيح حرام من الشارع) فيستنتج منها حرمته، وكذلك إذا قطع بحسنه الملزم ومن المعلوم أن القطع بحكم الله تعالى الواقعي () بمقتضى المقدمات العقلية إنما يكون بعد ثبوت الملازمة عند قطع القاطع، فالسيد المذكور إنما يمنع من الاعتماد على القطع الحاصل على ذلك الوجه بعد تسليم حصوله وفرض وجوده المتوقف على تلك الملازمة، وإلا لكان الوجه على تقدير إنكاره لتلك الملازمة إنكار حصول القطع من المقدمات النظرية رأسا فتأمل.
وكيف كان، فما ادعاه غير مبني على إنكار تلك الملازمة وغير متوقف عليه بوجه.
ثم إن التعليلان مضافا إلى أنهما شبهتين في مقابلة البديهة غير تامين في أنفسهما أيضا.
أما الأول، فلوجوده في المقدمات الشرعية أيضا كما أشار إليه المصنف فيكون المنع لأجله تعليلا بالعلة المشتركة وهو كما ترى.
وأما الثاني، فلما أشار إليه المصنف من أنه إذا قطع من المقدمات العقلية بحكم فهو كاشف عن صدور مثله من الشارع أيضا، بناء على أن حكم كل شيء ورود بعض ما لم يصل إلينا مخزون عند أهله فهم فيه الحجة.
اللهم إلا أن يمنع من صدور كل حكم أو يدعى عدم تمامية الحجة بمجرد العلم بصدوره من الشارع من أي سبب يحصله، بل إنما يتم إذا وصل البيان بطريق سمعي وكلاهما في محل المنع.
قوله - قدس سره -: (وقد عثرت بعد ما ذكرت هذا على كلام يحكي عن المحدث الأسترآبادي) ()
303

أقول: أول من اختار هذا التفصيل وأقدمهم زمانا هو ذلك المحدث، ولا بأس بتوضيح مراده على نحو الاقتضاء.
فاعلم أن مراده أنه إذا كان العلم النظري منتهيا إلى مادة قريبة من الإحساس فلا يقع فيه الخطأ من العلماء من حيث نتائج أفكارهم المنكشفة بها ولا الخلاف منهم في ذلك، إذ الخلاف إنما يكون فيما إذا كان المطلوب من الأوامر النظرية الخفية القابلة للخطأ فيها فما لم يقع فيه الخطأ منهم لوضوح طريقه كما فيما ينكشف من المقدمات القريبة من الإحساس لا يقع فيه الخلاف بينهم.
وتوضيح عدم وقوع الخطأ فيها أن الخطأ في الفكر إما من جهة الخطأ في مادة القياس وإما من جهة الخطأ في صورته، وكلاهما منفيان فيها.
أما الأول فلان الحس كافل له وعاصم عن الخطأ فيه.
وأما الثاني فلأن ما ارتكز في أذهانهم من قواعد الاستدلال وكيفية ترتيب القياس عاصم عن الخطأ من جهته أيضا، فإن قواعد القياس مركوزة في أذهان العوام بل الحيوانات وعاصمة لهم عن الخطأ من جهة الصورة، فكيف
بالعلماء.
لا يقال: إن الحس قد يخطئ فليس كافلا للخطأ من جهة المادة.
لأنا نقول: إنه على تقديره في غاية الندرة، واحتماله عند العقلاء في غاية البعد، بحيث يكون في حكم المعدوم، بل هو عندهم مجرد تجويز العقل بحيث لا يشكون فيما أخبر به عن حس بعد العلم بعدم تعمد الكذب، وانحصار سبب كذب الخبر في حكايته عن حسه.
ألا ترى أنهم لا يفرقون بين الإخبار عن إحساس شيء وبين الإخبار عن نفس المحسوس، كأن يقول الراوي سمعت أن الصادق عليه السلام قال كذا أو يقول قال الصادق عليه السلام كذا.
هذا بخلاف ما إذا لم ينته إلى مادة قريبة من الإحساس، لعدم ما يكفل عن الخطأ فيه من جهة المادة، فلا بد فيه من الرجوع إلى الصادقين
304

السلام لعصمتهم عن الخطأ.
والمراد بالمادة إنما هو الوسط في القياس باعتبار التلازم بينه وبين طرفي المطلوب وهما الأكبر والأصغر، وبالهيئة إنما هي صورة القياس وكيفيته المتحققة له بملاحظة القواعد المقررة له في علم الميزان من كلية الكبرى، وإيجاب الصغرى مثلا كما في الشكل الأول، وهكذا إلى آخر الشرائط المقررة للأشكال الأربعة في ذلك العلم، ومن المعلوم أنه لا قاعدة تفيد كون أمر لازما للأصغر، بمعنى كونه محمولا له وملزوما للأكبر حتى لا يقع الخطأ لأجلها في المادة وطريق ذلك منحصر في الحس، هذا خلاصة مرامه بتوضيح منا.
وقد عرفت الجواب عنه إجمالا، وإن شئت تفصيله فنقول:
إن أراد بعدم الاعتماد على القطع الحاصل من المقدمات العقلية الغير الضرورية عدم جواز ركون القاطع إلى قطعه الحاصل منها ما دام باقيا كما هو الظاهر من كلامه وكلام من وافقه أيضا، فقد عرفت أنه لا يعقل ذلك فيما إذا كان القطع كاشفا محضا، ولو أمكن يجري في القطع الحاصل من المقدمات الشرعية أيضا.
هذا مضافا إلى أنه إذا قطع العقل بحكم فيستكشف منه صدور مثل ذلك () الحكم عن الحجة عليه السلام، نظير استكشاف ذلك من الخبر المتواتر والإجماع، فيكون العمل بالأخرة بقوله عليه السلام، لا بالعقل، والعمل بقوله عليه السلام واجب بضرورة المذهب، فافهم.
وإن أراد بذلك عدم جواز الخوض في المطالب العقلية لاستنباط الأحكام الشرعية لكثرة وقوع الخطأ فيها، فبعد تسليم كثرة الخطأ فيها له وجه، لو لا جريان التعليل في المقدمات الشرعية أيضا، فإن العلم الإجمالي بوقوع الخطأ،
305

فضلا عن العلم بكثرة وقوعه، يوجب التحرز عن تلك المطالب عقلا، نظير العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة، إلا أن الشأن أولا إثبات كثرة الخطأ وثانيا اختصاصها بالمطالب العقلية فتأمل.
قوله - قدس سره -: (والعجب مما ذكره في الترجيح عند تعارض العقل والنقل كيف يتصور الترجيح في القطعيين.). ()
أقول: كيف يتصور أصل التعارض بينهما فضلا عن ترجيح أحدهما على الآخر، إذ كلما حصل القطع بأمر يمتنع حصوله بنقيضيه، بل يمتنع احتمال نقيضه، فإذا حصل القطع من طريق النقل بحكم لا يعقل احتمال العقل خلافه فضلا عن قطعه بخلافه أو العكس.
نعم يمكن التعارض بين النقليين القطعيين من حيث السند فقط، كالخبرين المتواترين سندهما، وبين نقليين ظنيين أحدهما يفيد الظن النوعي والآخر يفيد الظن الشخصي والعقل ليس مما يتصور في حكمه القطع الشخصي والنوعي، لأن حكمه إنما هو استقلاله جزما () إذ لو لا ذلك لما حصل الانتقال منه إلى الحكم الشرعي إلى الكلام فيما ينقل إليه من الأحكام العقلية ()
قوله - قدس سره -: (فنجزم () من ذلك بأن ما استكشفنا بقولنا صادر عن الحجة عليه السلام) ()
306

أقول: هذا نظير استكشافنا ذلك عن الخبر المتواتر والإجماع، فإذا استكشفنا من العقل ذلك فيكون الطاعة بواسطة الحجة كما مرت الإشارة إليه.
تنبيه: حكي عن السيد نعمة الله في شرحه للتهذيب () أنه يتفرع على القول بحجية العقل في غير الضروريات طرح ما ورد من الأخبار الدالة على جواز السهو والنسيان في النبي صلى الله عليه وآله وأوصيائه عليهم السلام حيث إن العقل يحكم بامتناعهما في حقهم وعلى القول بعدم حجيته فيها الأخذ بها والالتزام [بها] انتهى.
أقول: فيه أنه كيف يتصور الأخذ بتلك الأخبار مع فرض القطع من جهة العقل بامتناع السهو والنسيان منهم عليهم السلام، مع أن الأخذ بها في إثبات السهو والنسيان في حقهم مستلزم للدور كما لا يخفى، فإنه إذا جوز السهو والنسيان في حقهم فيمكن صدور تلك الأخبار عنهم من باب السهو أيضا فيكون إثبات السهو بها إثباتا للسهو بالسهو فلا تغفل.
في قطع القطاع
قوله - قدس سره -: (وأما قطع من خرج قطعه عن العادة فإن أريد بعدم اعتباره عدم اعتباره في الأحكام التي يكون القطع موضوعا لها، كقبول شهادته وفتواه ونحو ذلك فهو حق، لأن أدلة اعتبار العلم في هذه المقامات لا تشمل هذا قطعا) ()
أقول: عدم اعتبار قطع القطاع من جهة الموضوعية من الأمور الواضحة الغير القابلة للنزاع، بحيث لو أغمضنا عما ذكره المصنف - من انصراف أدلة اعتبار العلم موضوعا عنه - يظهر ذلك من السابقين أيضا فإنهم وإن لم يتعرضوا لخصوص القطاع، لكن يعلم حكمه من اتفاقهم على عنوانين عامين بتنقيح
307

المناط، بل بالأولوية بالنظر إلى أحدهما ().
وتوضيحه: أنهم اتفقوا على اشتراط الضبط في الراوي، معللين ذلك بعدم الوثوق والاطمئنان بخبر من لا يكون ضابطا لكثرة خطائه.
وهذا التعليل دال على عدم اعتبار قطع القطاع بطريق أولى، لأنه آكد فيه إذ الخطأ فيه أكثر منه في غير الضابط.
وأيضا اتفقوا على عدم اعتبار قول الوسواس وإخباره والقطاع قسم منه لعدم انحصار الوسواس في كثير الشك والظن.
فتحقق أن قطع القطاع لا عبرة به فيما أخذ القطع موضوعا لحكم، ولا يفرق فيه بين أحكام نفس القطاع المعلقة على العلم وبين أحكام الغير المعلقة عليه، إذ يجب على القطاع أيضا عدم ترتيب ذلك الحكم على قطعه.
وهذا ليس كالقطع الذي هو طريق محض في عدم قابليته للمنع منه كما لا يخفى.
هذا كله في قطعه من حيث الموضوعية.
وأما اعتباره باعتبار طريقيته إلى متعلقه فقد عرفت غير مرة أنه لا محيص عنه ما دام قاطعا، لعدم صلاحيته
للمنع من العمل به حينئذ، وأما بعد زواله:
فإن كان زواله بالقطع بالخلاف يجب عليه نقض جميع الآثار المترتبة على قطعه، فيعيد، أو يقتضي العبادة إذا أحدثها مع فرض قطعه بصحتها، فإن نقض الآثار السابقة بعد القطع بالخلاف يجري في غير القطاع، فيجري فيه بطريق أولى.
وأما إذا كان زواله بالشك واحتمال الخلاف ففي وجوب نقض الآثار
308

السابقة وعدمه وجهان:
أحدهما: إطلاق أدلة الشك بعد الفراغ، فإنه يقتضي البناء على صحة ما مضى منه أيضا مع الشك في صحته وعدم العلم بالخلاف بالفرض.
وثانيهما: دعوى انصراف تلك الأدلة، ولعل الأول أقوى، لأن الحكم بالصحة بعد الفراغ في تلك الأدلة لم يؤخذ فيه أزيد من الشك بعد الفراغ مع عدم حدوثه حال العمل من غير أن يقيد بالقطع بالصحة حاله، ولذا يعملون بها في حق غير الملتفت إلى الصحة والفساد حاله، فلا وجه لانصرافها عن القطاع.
وبعبارة أخرى الحكم بالصحة في تلك الأدلة لم يقيد بالعلم بها حال العمل حتى يقال إنه منصرف إلى العلم المتعارف فيخرج عنه قطع القطاع وإنما قيد بالشك بعده مع عدمه حاله، وهما متحققان في القطاع.
هذا بالنسبة إلى الآثار السابقة.
وأما الآثار المستقبلة، فلا يجوز ترتيبها لغير القطاع، فلا يجوز له بطريق أولى لأن قاعدة الاشتغال يقتضي نقض الآثار السابقة أيضا، إلا أنها بالنسبة إلى الآثار السابقة إنما يترك العمل بها لأجل قاعدة الشك بعد الفراغ الحاكمة عليها، وأما الآثار اللاحقة فهي غير داخلة في تلك القاعدة، لكون الشك فيها على تقديره شكا قبل العمل، فقاعدة الشغل محكمة فيها، لسلامتها () عن مزاحمة ما يعارضها أو يحكم عليها، هذا.
ثم إنه قد ظهر مما ذكرنا - من عدم اعتبار قطع القطاع باعتبار الموضوعية لحكم أخذ في موضوعه الاعتقاد - أنه إذا قطع في يوم الغيم بكون جهة خاصة قبلة، فصلى، ثم ظهر خطؤه يجب عليه الإعادة والقضاء، هذا بخلاف غير القطاع فإنه إذا قطع بذلك وعمل به يجزيه مطلقا، وذلك لأن الإجزاء في حق
309

غير القطاع إنما ثبت بالأولوية () المنتفية في القطاع، فإنه قد علق الصحة في الغيم [في] الأدلة الشرعية على ظن القبلة وهو منصرف إلى الظن المتعارف فثبت حكمه للقطع المتعارف للأولوية.
وأما قطع القطاع فلا يأتي فيه تلك الأولوية فإنه أقل من الظن المتعارف، بل مثل الشك أو أقل منه أيضا، إذ قد يكون قطعه حاصلا من أمور غير صالحة لإحداث الشك في المتعارف من الناس، نعم هو ما دام قاطعا لا يجوز نهيه عن العمل بقطعه، لأن الصلاة إلى الجهة المظنون كونها قبلة في الغيم رخصة لا عزيمة لجواز الصلاة إلى القبلة الواقعية لمن انكشف له، ومن المعلوم أنه حينئذ جازم بأن ما قطع كونها قبلة من الجهات هي القبلة الواقعية وإن لم يكن واقعا، فيتحقق عنده صغرى، وهي أن هذه الجهة هي القبلة الواقعية، فيضمها إلى كبرى، وهي أنه يجوز الصلاة إلى القبلة الواقعية، بل يتعين لمن انكشف له، فيستنتج من هاتين المقدمتين جواز الصلاة إليها بل تعيينها.
ثم إنك قد عرفت أنه لا يجوز لغير القطاع أيضا العمل بقطع القطاع فيما إذا كان القطع موضوعا لحكم الغير أيضا وبقي شيء وهو أنه هل يجب على الغير ردعه فيما إذا كان القطع طريقا محضا.
قوله - قدس سره -: (والعجب أن المعاصر مثل لذلك بما إذا قال المولى.). ()
وجه الاستعجاب أن الذي ذكره مثالا من أفراد المتنازع فيه، فإن الكلام في أن من قطع بتكليف من مولاه - سواء كان هو الشارع أو غيره من الموالي العرفية الذي يجب طاعته عليه عند العقلاء - فهل يجوز لمولاه عقلا نهيه عن
310

العمل بقطعه مطلقا أو من سبب خاص، سواء كان العبد قطاعا أو غيره، بحيث لا يقبح منه ذلك النهي عند العقلاء، أو لا؟ فإن جاز ذلك جاز من أي مولى كان، وإن لم يجز لم يجز مطلقا فليس حكم المثال المذكور مفروغا عنه حتى يحتج به على أحد طرفي المسألة فتأمل.
تنبيه: بعد ما قيد هذا المفصل - عدم حجية قطع القطاع بما إذا احتمل اشتراط حجية قطعه بعدم كونه قطاعا أو علم به - أخذ في التوجيه فقال:
(يشترط في حجية القطع عدم منع الشارع عنه وإن كان العقل أيضا قد يقطع بعدم المنع إلا أنه إذا احتمل المنع يحكم بحجية القطع ظاهرا) () انتهى.
أقول: لا يخفى ما بين توجيهه الذي عرفت وتقييده عدم حجية القطع بما إذا احتمل اشتراط عدم حجيته بعدم كونه قطاعا من التنافي فإن قوله في التوجيه: (إلا إنه إذا احتمل المنع يحكم بحجية القطع ظاهرا) اعتراف منه بحجية قطع القطاع عند احتماله منع الشارع من العمل به مع أنه قيد حجيته بعدم احتماله له ونفى حجيته عند احتماله في أول كلامه.
اللهم إلا أن يكون مراده بالحجية التي اشتراطها بعدم احتمال منع الشارع هو جواز الحكم بمؤدى القطع وأنه حكم الله تعالى ويكون مراده بها في قوله (إلا أنه إذا احتمل المنع يحكم بحجية القطع ظاهرا) مجرد جواز العمل على طبقه وقبح المؤاخذة عليه على تقدير أدائه إلى مخالفة الواقع، فيكون حكم العقل بذلك نظير حكمه بعدم المنع في الأصول العملية المقررة للشك، وهذا وإن كان يدفع التنافي المذكور إلا أن المنع من الحكم بمؤدى القطع وكونه هو حكم الله تعالى ولو كان هو قطع القطاع يناقض نفس القطع، ومعنى القطع بوجوب شيء مثلا شرعا ليس إلا الجزم بكون المقطوع حكم الله تعالى.
311

[الكلام في العلم الإجمالي]
قوله - قدس سره -: (الرابع إن المعلوم إجمالا هل هو كالمعلوم تفصيلا في الاعتبار أم لا؟ والكلام فيه قد يقع تارة في اعتباره من حيث إثبات التكليف به) ()
أقول: جعله (قدس سره) الكلام في اعتبار العلم الإجمالي - من حيث الطريقية وإثبات التكليف [به] - من تنبيهات مسألة القطع إنما هو لكونه فردا خفيا منها، إذ ليس حال العلم الإجمالي كالتفصيلي في وضوح اعتباره وكونه مقتضيا للزوم العمل به.
ومن هنا ظهر عدم () مناسبة الكلام في العلم الإجمالي من حيث لزوم موافقته قطعا وعدمه للمسألة، فإنه راجع إلى عذرية الجهل عقلا عند الشك في المكلف به وعدمه بعد الفراغ عن اقتضاء العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية أيضا، لأن اقتضاءه لذلك لا ينافي عدم فعليته فيما يقتضي لمانعية الجهل عن اقتضائه معه فعلا: فإنه ليس علة تامة فبعد الفراغ عن اقتضائه له يبقى مجال البحث عن مانعية الجهل التي هي موضوع مسألة البراءة والاحتياط المبحوث عنها فيها فلذا أوكل الكلام فيه من هذه الجهة إليهما، هذا.
لكن الإنصاف عدم رجوع البحث عن لزوم الموافقة القطعية وعدمها إليهما مطلقا لكونه أعم فإن لزوم الموافقة
القطعية فعلا يتوقف على ثبوت أمرين:
أحدهما: كونه مقتضيا له في حد ذاته.
312

وثانيهما: عدم مانع عن اقتضائه في المورد، فالبحث عن أحدهما لا يغني عنه في الآخر، بمعنى أن المثبت لأحدهما من دون إثباته للآخر بعد لا يجوز له دعوى لزوم الموافقة القطعية نعم النافي له يكفيه نفي أحدهما، فحينئذ:
إن كان المقصود بالبحث عن لزوم الموافقة القطعية هو إثبات لزومها فعلا بأي دليل كان، فهو خارج عن مسألتي البراءة والاحتياط قطعا، نعم هذا من المبادئ التصديقية لهذه المسألة حينئذ.
ومنه يظهر خروجه عن مسألة حجية القطع أيضا، إذا الكلام فيها في اقتضائه للزم العمل، فيكون هو أيضا من المبادئ التصديقية لها.
وإن كان المقصود به إثبات مجرد اقتضائه لها في نفسه فيكون داخلا في مسألة حجية القطع، فلا ربط له بمسألتي البراءة والاحتياط أيضا، فهو إنما يدخل فيهما إذا كان المقصود به إثبات مانعية الجهل وعدمها كما عرفت، وقد عرفت أنه بعد الفراغ عن أصل اقتضاء القطع للزوم الموافقة القطعية.
فمن هنا ظهر ورود الإشكال على المصنف على جميع تلك التقادير الثلاثة فإنه:
إن كان نظره في إرجاع البحث عن لزوم الموافقة القطعية إلى تينك المسألتين من الجهة الأولى والثانية فيتجه عليه أنه من الجهة الأولى خارجة عنهما وعن مسألة حجية القطع أيضا وهكذا بالنظر إلى الجهة الثانية.
وإن كان نظره في ذلك إلى الجهة الثالثة، فيتجه عليه أنه مبنى على إثبات أصل اقتضاء العلم الإجمالي للموافقة القطعية مع أنه (قدس سره) أهمل البحث عنه في مسألة حجية القطع لاقتصاره فيها على البحث عن اعتبار العلم التفصيلي وعن اقتضاء العلم الإجمالي لمجرد حرمة المخالفة القطعية وعدمها من غير تعرض لاقتضائه لوجوب الموافقة القطعية أصلا.
والظاهر أن نظره (قدس سره) إلى الجهة الثالثة.
313

ثم إن المراد بالعلم الإجمالي المبحوث عن كونه مثبتا للتكليف إنما هو العلم الإجمالي بالخطاب لا العلم بالتكليف، لأن فرض الكلام في العلم بالتكليف يناقض إنكار كونه مثبتا له صريحا فلا يعقل فيه النزاع.
مع أنه ذهب بعضهم في المقام إلى جواز المخالفة القطعية وجعل المعلوم الإجمالي كالمشكوك رأسا كما ستعرف.
والحاصل: أن الكلام في العلم الإجمالي بطلب من الشارع هل هو كالعلم التفصيلي في كونه منجزا لمتعلقه على المكلف على وجه يستحق العقاب على مخالفته قطعا لا محالة أو أنه كالمجهول رأسا فلا يوجب تنجزه عليه أصلا.
في كفاية الموافقة الإجمالية وعدمها
قوله - قدس سره -: (وأخرى في أنه بعد ما ثبت التكليف إلى قوله فهل يكتفي في امتثاله بالموافقة الإجمالية) ()
أقول: قبل الشروع في المسألة ينبغي تمهيد مقال:
فاعلم أن الشك في كفاية الموافقة الإجمالية قد ينشأ من الشك في اعتبار قصد وجه المأتي به، بمعنى جعله داعيا إلى الإتيان به، فإن ذلك - أيضا - لا يتحقق إلا بالموافقة التفصيلية ومعرفة أن ما يأتي به هو الواجب، وقد ينشأ من الشك في اعتبار كلا الأمرين معا، وذلك لأنه لا يعقل الشك في كفاية الموافقة مع القطع بعدم اعتبار شيء من ذينك الأمرين، لأن معنى الموافقة التفصيلية المبحوث عن لزومها وعدمه إنما هو الإتيان بالمأمور به على وجه يمتاز المكلف به في وجوده الخارجي عن غيره بأن يعرف الفعل الشخصي الصادر منه المنطبق على () الواجب، بأن يعلم أنه هو فرد ذلك الواجب الكلي، وذلك عين معرفة وجه المأتي به تفصيلا، فاحتمال اعتبارها يناقض القطع بعدم اعتبار معرفة الوجه
314

تفصيلا وعدم اعتبار قصد الوجه المتوقف عليها معا، بمعنى القطع بعدم اعتبار شيء منهما.
فظهر أن مرجع النزاع في اعتبار الموافقة التفصيلية وعدمه إلى اعتبار أحدهما أو كليهما.
ومن هنا ظهر - أيضا - أن المدعي لاعتبارها يكفيه إثبات اعتبار أحد الأمرين من غير توقف () على إثبات كليهما معا، لأنه إن أثبت اعتبار معرفة الوجه تفصيلا من حيث هي، لا من جهة كونها مقدمة لقصد الوجه فقد عرفت أنه عين المدعي، وإن أثبت اعتبار قصد الوجه فقد عرفت أنه مستلزم لاعتبار معرفة الوجه تفصيلا من باب المقدمة، فاعتباره بالأخرة يرجع إلى اعتبار معرفة الموافقة التفصيلية التي هي المدعي.
ولكن المنكر لاعتبارها لا يكفيه نفي اعتبار أحد الأمرين خاصة، بل لا بد له من نفي اعتبار كليهما معا.
وظهر أيضا أن النزاع في المسألة غير راجع إلى شرطية الموافقة التفصيلية للمأمور به أو جزئيتها له بوجه، لما عرفت من رجوعه إلى النزاع في اعتبار أحد الأمرين المذكورين أو كليهما، ومن المعلوم أنهما على تقدير اعتبارهما لا يعقل أخذهما في المأمور به شرطا أو شطرا، لاستلزامه الدور كما حققنا في محله، ووجهه واضح، بل هما من قبيل نية القربة، راجعان إلى كيفية الإطاعة، الغير الصالحة لأخذها في المأمور به، فالنزاع في اعتبار أحدهما أو كلاهما يرجع إلى النزاع في اعتبارهما في تحقق الإطاعة المعتبرة في العبادات [وأنه] () هل تتحقق بالموافقة الإجمالية أو تتوقف على الموافقة التفصيلية من حيث توقفها على واحد ذينك
315

الأمرين أو على كليهما معا.
فمن هنا ظهر أن القول بالبراءة في مقام الشك في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته له لا يلازم القول بها في المسألة، لعدم رجوعها إلى تلك المسألة.
ثم إن النزاع في المسألة إنما هو فيما إذا تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي، و () مع تعذره عليه يكفيه الامتثال الإجمالي اتفاقا، مع أنه لا يعقل القول بعدم كفايته حينئذ لاستقلال العقل حينئذ بكفايته في تلك الحال بالبديهة وعده طاعة عنده بالضرورة.
وأيضا النزاع فيها فيما إذا كان الامتثال الإجمالي لغرض عقلائي بحيث لا يعد عبثا وسفها عند العقلاء واستهزاء على المولى.
ومن هنا ظهر أنه لا وجه للنقض على القائل بكفاية الموافقة الإجمالية بما إذا عدت سخرية واستهزاء على المولى، فإن عدم كفايتها حينئذ متفق عليه بين الفريقين ولا يعقل الشك في عدم انعقادها طاعة في تلك الحال.
ثم إنه لما كان مرجع النزاع فيها إلى النزاع في تحقق الطاعة بالموافقة الإجمالية وعدمه فالحاسم له إنما هو الرجوع إلى العقلاء في موارد طاعتهم، فيستعلم منهم أن الموظف عندهم - فيما كان غرضهم هو إيقاع المأمور به على وجه الطاعة - ما ذا؟ لأنا نعلم بالإجماع بل بالضرورة أن الشارع لم يأت بطريقة جديدة في باب الطاعة، بل غرضه في العبادات إنما هو إيقاعها على الوجه المقرر عند العقلاء في موارد قصد بها الطاعة.
فإذا عرفت ذلك كله فاعلم أن الحق كفاية الموافقة الإجمالية في إطاعة ما قصد به الطاعة، بمعنى تحقق الطاعة بها إذا () وقعت بداعي الأمر مع كون
316

الاقتصار عليها لغرض عقلائي كما هو المفروض في محل البحث من غير توقف تحققها على معرفة المأمور به تفصيلا بوجه.
لنا أن لو أمر مولى من الموالي العرفية عبده بشيء مع كون غرضه هو إيجاده على وجه الطاعة، فأتى به العبد بداعي أمره به في أمور لا يعلم بنفس الواجب فيما بينه وبينها وإنما يعلم حصوله في ضمنها، لا يتوقف أحد من العقلاء في كونه مطيعا للمولى، ولا في خلاص ذمته عن ذلك الأمر بحيث لا أخذه المولى على ترك الموافقة التفصيلية لذموه، وكفى به حجة في أمثال المقام.
وربما يناقش في ذلك بأن تحقق الطاعة - في الأوامر العرفية حتى في التعبدية فيها بمجرد الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر - ليس لأجل أنها عندهم () عبارة عن الإتيان بالمأمور به على وجه تحصل بمجرد الإتيان به () بداعي الأمر فلذا تحققنا () الإطاعة بها بمجرده، ولو فرض كون الغرض في واجب من واجباتهم - على وجه يتوقف الإتيان به بداعي الأمر مع معرفته تفصيلا - لما يحكمون الطاعة وفراغ ذمة العبد بمجرد الإتيان به بداعي الأمر، والإطاعة بهذا المعنى لا يختص لزومها بالعبادات، بل يعم التوصليات أيضا، لأنها لو لم يؤت بها على وجه يحصل بها الغرض لم يسقط معه الأمر بها أيضا، إلا أن الغرض منها لما كان على وجه يحصل بمجرد الإتيان بذات الفعل من غير توقف على كون الداعي للإتيان هو الأمر، فضلا عن توقفه على معرفتها تفصيلا فتحقق الطاعة فيها بمجرد الإتيان بذواتها كيف ما اتفق إنما هو لذلك.
وإن شئت توضيح ذلك فنقول: إن الإطاعة () في العرف وكذا في ألسنة
317

الفقهاء () قد يطلق على عدم العصيان، وقد يطلق على الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر، وامتياز العبادات عن () غيرها إنما هو باختصاصها بذلك، بمعنى اعتبار كون الداعي إلى الإتيان بها هو الأمر.
والإطاعة بالمعنى الأول إنما يحصل بالإتيان بالمأمور به على وجه يحصل غرض الآمر ولازمه عقلا فراغ الذمة وسقوط الأمر.
وأما كونه منشأ للثواب أيضا، فإنما هو فيما إذا كان الداعي للإتيان هو الأمر، كما أن أصل تحققه يتوقف على ذلك في العبادات، فإن الإتيان بها لا يكون محصلا للغرض منها إلا مع كون الداعي له هو الأمر.
والظاهر () أن إطلاق الإطاعة على المعنى الثاني - أعني الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر - إنما هو [فيما] إذا حصل معه فراغ الذمة للمأمور، فعلى هذا ليكون () الإطاعة بالمعنى الثاني أخص منها بالمعنى الأول، أعني يقابل العصيان مطلقا، وحيث اعتبر فيها على المعنى الثاني تحقق الفراغ معها تكون () هي بذلك المعنى ملزومة للثواب وسقوط العقاب أيضا بخلاف الإطاعة بالمعنى الأول حيث إنها ملزومة للثاني وأما الأول فإنما هو يلزمها فيما إذا اتحدت مع الإطاعة بالمعنى الثاني.
فإذا عرفت ذلك فاعلم أن اللازم بحكم العقل - في كل واحد على كل أحد مع كون الآمر ممن يجب أتباعه على المأمور - إنما هو الإطاعة بالمعنى الأول، فإن الذي يلزم به المأمور إنما هو تحصيل الأمن من العقاب الناشئ من العصيان، وأما الثواب فلا يحكم بلزوم تحصيله عليه وإن كان يحكم بحسنه، فلا
318

يحكم بلزوم الإطاعة بالمعنى الثاني إلا إذا توقفت هي بالمعنى الأول عليها بذلك المعنى، فإنه حينئذ يستقل بلزومها حينئذ مقدمة () لتحصيلها بالمعنى الأول، وكل آمر يأمر بشيء إنما يقصد الإطاعة بهذا المعنى فيطلب ما يحصلها تحصيلا لغرضه المقصود منها من الأمر ولو بأمر آخر غير الأمر بالأجزاء والشرائط المعهودة.
والمعتبر في تحقق الإطاعة بالمعنى الأول والمحصل لها - على ما هو المقرر عند العقلاء وأهل العرف في أوامرهم - إنما هو الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل غرض الآمر كما أشرنا إليه.
ومعين ثبوت الموافقة بين الشرع والعرف في باب الإطاعة إنما هو لزوم الإتيان بالواجبات الشرعية أيضا على ذلك الوجه، فإن علم كفاية الإتيان بذواتها كيف ما اتفق في تحصيل الغرض منها - كما هو الحال في التوصلية منها - فتحقق إطاعتها المفرغة للذمة عنها بمجرد الإتيان بها كيف ما اتفق، وإلا علم عدم كفاية الإتيان بها كذلك إذا احتمل، فيجب إيقاعها على وجه يقطع معه بحصول الغرض بأن يأتي بها مشتملة على جميع ما علم أو احتمل مدخليته في حصوله، لأن محتمل المدخلية على تقدير اعتباره واقعا يتوقف عليه حصوله، فالإتيان بها لا معه يمنع من القطع بالإطاعة اللازم بعد اشتغال الذمة بالتكليف.
والذي علم اعتباره في العبادات الشرعية إنما هو كون الداعي إلى الإتيان بها هو الأمر كما علم ذلك في العبادات العرفية أيضا، لكن يحتمل في العبادات الشرعية اعتبار أمر زائد يتوقف عليه حصول الغرض منها وإن لم يحتمل في العبادات العرفية وهو معرفتها تفصيلا فيجب الإتيان بها مشتملة عليها أيضا تحصيلا للفراغ اليقيني المتوقف على الإتيان بها على وجه يقطع معه بحصول الغرض بعد ثبوت الاشتغال اليقيني.
319

لا يقال: المتيقن من الاشتغال إنما هو بالنسبة إلى القدر المعلوم، وأما المحتمل اعتباره فيها فهو بالنسبة إليه غير متيقن، فيكون المورد من موارد إجمال المكلف به وتردده () بين الأقل والأكثر، فيعمل فيه بقواعده المقررة له، وحيث إن المختار في محله الرجوع فيه إلى أصالة البراءة فيكون المرجع هنا أيضا هي البراءة ().
فإن الذي شك في اعتباره في المقام وهو معرفة الواجب تفصيلا وإن لم يكن قابلا لاعتباره في الأمر الابتدائي بالعبادة. لكونه من مقولة الطاعة الممتنع اعتبارها فيه - كما مرت الإشارة إليه - إلا أنه يمكن طلبه بأمر آخر يؤخذ في موضوعه ذلك الأمر فهو على تقدير اعتباره شرط في المطلوب، والمناط في الرجوع إلى أصالة البراءة إنما هو قبح التكليف بلا بيان من غير فرق بين أن يكون التكليف مما يمكن بيانه بأمر واحد أو يتوقف على أمرين.
وبالجملة المعهود من الجزء والشرط المبحوث عنهما - في مسألة الشك في جزئية شيء أو شرطيته للواجب - وإن كان هو القسم الأول منهما لكن المناط فيه بعينه موجود في القسم الثاني منهما أيضا.
لأنا نقول: الكلام في المقام بعد الفراغ عن إحراز سائر أجزاء المطلوب وشرائطه وتشخيصها من الأدلة وبعد الفراغ عن اعتبار كون الداعي للإتيان في العبادات الشرعية هو الأمر. وأما معرفتها تفصيلا فاعتبارها على تقديره إنما هو بعنوان كونها محصلة للغرض بمعنى أن المعتبر في جميع العبادات شرعية كانت أو عرفية إنما هو كون الداعي إلى الإتيان بها هو الأمر مع كون الإتيان بها على وجه يحصل معه الغرض إلا أن الأغراض يختلف بحسب العرف والشرع،
320

فيختلف بسببه اعتباره الأمور المحصلة لها قلة وكثرة، فيكون المطلوب فيها هو الإتيان بداعي الأمر على وجه يحصل معه الغرض، وهذا مفهوم مبين، فلو شك في اعتبار شيء في حصوله فهو راجع إلى الشك فيما يتحقق به المطلوب دون نفسه، ومن المقرر في محله أنه إذا كان المطلوب أمرا مبينا يجب تحصيله قطعا حتى فيما إذا تردد ما يتحقق هو به بين الأقل والأكثر كما هو الحال في المقام، فإن التردد إنما هو في محققه وهو مردد بين
الأقل والأكثر.
وخلاصة المناقشة المذكورة أن المعتبر في الأوامر العرفية تعبدية كانت أو توصلية إنما هي الإطاعة المقابلة للعصيان الرافعة له وهي الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل غرض الآمر وهي تختلف في الموارد باختلاف الأغراض الموجب لاختلاف الأسباب المحصلة لها من حيث القلة والكثرة، ومحققها في كل مورد إنما هو الإتيان بالمأمور به بجميع ما له مدخلية في تحصيل الغرض المقصود في ذلك المورد، ومن المعلوم أن نفس المأمور به لو فرض كونه مبينا، لأن الكلام في المقام بعد الفراغ عن تشخيصه وما اعتبر معه وهو كون الإتيان به على وجه يحصل به الغرض أيضا مبين، فيكون تمام المكلف به مبينا، فيكون الشك في اعتبار شيء في تحصيل الغرض بعد الفراغ عن تشخيص المأمور به راجعا إلى الشك فيما يحقق المكلف به، فيجب الاحتياط بالإتيان بالمأمور به مشتملا عليه.
والواجبات التوصلية مطلقا لما علم عدم توقف حصول الغرض منها على أزيد من إيجاد فرد منها فيكتفى فيها بمجرد () الإتيان بها كيف ما اتفق.
وأما الواجبات التعبدية العرفية وإن علم اعتبار كون الداعي للإتيان بها هو الأمر في حصول الغرض منها، لكن علم عدم توقف الغرض منها على أزيد من ذلك أيضا، للقطع بأن غرضهم فيها إنما يتعلق باستعلام حال العبد أو إظهار
321

حاله للغير من حيث عدم كونه بالنسبة إلى مولاه في مقام التمرد والعصيان وعدم كونه تابعا لهواه في شهوة نفسه، ومن المعلوم أن هذا الغرض يحصل بمجرد الإتيان بها مع عدم كون الداعي للإتيان هو الأمر، فلذلك تراهم يكتفون بمجرد ذلك.
وأما العبادات الشرعية فلما لم يكن الغرض منها ذلك، بل الغرض منها إنما هو تكميل العبد وتقربه إلى حضرة الملك الجليل، فلا يعلم حصول ذلك الغرض بمجرد الإتيان بها بداعي الأمر، لإمكان توقفه على أزيد من ذلك فيحتمل ومعه لا يحكم العرف بتحقق الطاعة المعتبرة لما عرفت من أنها إنما يكون مع الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل به الغرض، وهم لا سبيل لهم إلى أن غرض الشارع يحصل بمجرد الإتيان بها بداعي الأمر، كما أنه لا سبيل لهم إلى أغراضه أيضا، لو لا ورود الأدلة الشرعية المبينة لها في الجملة فيجب الاحتياط بالإتيان به مشتملا على ذلك المحتمل الاعتبار أيضا.
والحاصل: أن الإطاعة بمعنى الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل الغرض لازمة بحكم العقل، وكل آمر بشيء يطلب الإتيان به على ذلك الوجه تحصيلا لغرضه المقصود من الأمر، سواء كان هو الشارع أو غيره، وسواء كان ما يطلبه ويأمر به من التعبديات أو التوصليات، غاية الأمر أنه إذا كان غرضه في بعض الموارد متوقفا على أمر لا يمكن اعتباره في الأوامر الابتدائي يطلبه بأمر آخر.
وكيف كان فمطلوبه في كل مورد إنما هو إيجاد المأمور به على وجه يقوم بغرضه وهذا مفهوم مبين لا شك فيه بوجه والشك في اعتبار شيء في حصول غرضه بعد فرض تشخيص المأمور به إنما يرجع إلى الشك فيما يتحقق به المطلوب، فيجب الاحتياط بإتيان المشكوك أيضا من غير فرق في ذلك بين الأوامر الشرعية والعرفية، فإنهم أيضا لو فرض حصول الشك لهم في بعض الموارد في ذلك يحكمون بالاحتياط ولا يعذرون التارك له على تقدير مخالفة
322

الواقع.
هذا تمام الكلام في بيان المناقشة المذكورة.
ويتجه: عليها أنه على تقدير تسليم أن الطاعة المعتبرة عند العقلاء وأهل العرف حتى في واجباتهم التعبدية إنما هو الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل غرض الآمر نمنع من كون مورد البحث من موارد تبين مفهوم المطلوب ورجوع الشك إلى ما يتحقق به.
وتوضيحه: أن الذي يعتبره الآمر في مطلوبه ليس هو عنوان المحصل لغرضه، بل إنما هي العناوين الخاصة المحصلة له، فعلى تقدير توقف غرضه على كون الداعي للإتيان هو الأمر أو هو معرفة الواجب تفصيلا [لا بد من] () أن يقصد خصوص عنوان الإتيان به بداعي الأمر مع معرفته تفصيلا، وعنوان المحصل إنما هو عنوان منتزع من تلك الأمور باعتبار توقف الغرض عليها.
والشاهد على ذلك هو الوجدان، فإنا في مقام طلبنا شيئا لغرض إنما نطلب ذلك الشيء بعنوانه الخاص إلا أن الداعي إلى طلبه هو كونه محصلا لغرضنا المقصود، فإذا كان المعتبر هي العناوين الخاصة فالشك في اعتبار شيء منها في المطلوب يوجب إجماله وحيث أنه في مورد البحث مردد بين الأقل والأكثر يكون المرجع فيه هي أصالة البراءة.
ولو كان العبرة في أحكام الشك بالمفاهيم المنتزعة لما صح الرجوع إليها في مقام الشك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به لإمكان انتزاع مفهوم مبين هناك أيضا ولو كان هو عنوان المطلوب، فيقال إنا قد علمنا باشتغال ذمتنا بالمطلوب من الشارع والشك في جزئية شيء أو شرطيته راجع إلى ما يتحقق به المطلوب فيجب الاحتياط وهو كما ترى.
323

وبالجملة العبرة إنما هي بتبين نفس ما اعتبر في مقام التكليف والطلب لا بتبين المفاهيم المنتزعة منه.
والحاصل: أنه بعد تسليم إمكان أخذ الإطاعة وما يرجع إليها في المطلوب ولو بأمر آخر غير الأمر بسائر الأجزاء والشرائط لا محيص عن التزام رجوع الشك في اعتبار أصل الطاعة أو خصوصية فيها بعد ثبوت اعتبار أصلها في الجملة إلى الشك في المكلف به وإجماله فلا بد معه من إعمال قواعد إجماله ومن المقرر في محله أن مع تردده بين الأقل والأكثر يكون المرجع في الزائد المشكوك هي أصالة البراءة لا الاحتياط كما في مقام الشك في جزئية شيء أو شرطيته للمأمور به بالأمر الابتدائي إلا أن العقل لا يفرق بينه وبين ما كان على تقدير اعتباره معتبرا بأمر آخر غير ذلك الأمر، إذ العبرة في نظره إنما هو بقبح المؤاخذة والتكليف من غير بيان له من غير فرق بين أن يكون التكليف على تقديره بأمر واحد أو بأمرين.
والإطاعة بمعنى الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل به الغرض إنما نسلم وجوبها فيما إذا تمت الحجة من المولى فيما يحصل الغرض، لعدم دلالة شرعية على وجوب تحصيل الغرض فضلا عن دلالته على وجوبه مطلقا.
وغاية ما يحكم به العقل إنما هو تحصيل الأمن من العقاب على مخالفة التكليف المجمل وبعد فرض استقلاله بقبح التكليف بلا بيان لا يبقى احتمال العقاب حتى يجب الاحتياط تحصيلا للأمن منه.
هذا بالنظر إلى حكم العقل بالبراءة.
وأما بالنظر إلى الأدلة فالأمر واضح لوضوح عدم الفرق في أدلة البراءة بين المقامين بوجه، فلو فرض توقف العقل في اتحادهما في الحكم يكفي في تحصيل الأمن من العقاب ظهور إطلاق تلك الأدلة في الاتحاد، فاللازم
بحكم العقل إنما هو الإتيان بمطلوب الشارع على تقدير تمامية الحجة منه عليه دون
324

غرضه.
نعم لو فرض كون الأغراض عناوين للأوامر الشرعية في الحقيقة لا الغايات، بأن يكون تلك الأوامر المتعلقة بما يحصلها غيرية، فلا بد حينئذ من رعاية قواعد الشك بالنسبة إلى تلك الأغراض وحيث إن الغرض في كل واجب معنى بسيط لا يجري فيه قواعد الأقل والأكثر بل لا بد من الاحتياط بالإتيان بجميع ما يحتمل مدخليته فيه سواء كان ذلك المعنى معلوما أو مشكوكا مرددا بين أمرين، إذ على الثاني يكون المورد من موارد تردد المطلوب بين المتباينين، وعلى الأول يكون من موارد تبين نفس المكلف به مع الشك فيما يحققه وعلى كل حال لا سبيل للمصير إلى أصالة البراءة.
لكن التحقيق خلافه، لأن الأوامر المتعلقة بنفس الواجبات المحصلة لها ظاهرة في كونها متعلقة بها مطلوبة نفسا وليس وراؤها أوامر أخر متعلقة بالأغراض حتى ينكشف بها كون تلك الأوامر غيرية بالنسبة إليها.
هذا كله بناء على إمكان أخذ الإطاعة وما يرجع إليها في المطلوب النفسي الشرعي ولو بأمر آخر كما هو المفروض في المناقشة المتقدمة.
لكن الظاهر امتناع أخذها فيه مطلقا:
أما بأمر واحد فقد عرفت الإشارة إلى وجه الامتناع فيه.
وأما بأمرين، فلأن الأمر الثاني على تقديره يكون هو الأمر النفسي الشرعي حقيقة، ويكون الأمر الأول المتعلق بسائر الأجزاء والشرائط غيريا ومن المقدمات الوجودية لمتعلق الأمر الثاني، لأن متعلقه إنما هو إطاعة الأمر الأول في متعلقه، ومن المعلوم أنه يتوقف إطاعة متعلق الأمر الأول على الأمر به، وبدونه يمتنع إطاعته، فأمر الشارع أولا بسائر الأجزاء والشرائط توطئة للأمر الثاني ومحقق لموضوعه وإعطاء للقدرة والتمكن للمكلف في امتثال الأمر الثاني.
وبالجملة: الأمر النفسي هو الحاوي لجميع أجزاء المطلوب ولو إجمالا،
325

والإطاعة على تقدير أخذها في المطلوب لا يحويها وغيرها إلا الأمر الثاني، فيكون الأمر النفسي هو الأول () ومن المعلوم للمتأمل عدم صلاحية الإطاعة - ولو كانت هي إطاعة أمر خاص - للأمر النفسي المولوي الذي هو منشأ للثواب والعقاب.
أما أولا، فلأنها لو كانت مرتبة منها صالحة لعلية () الأمر بها لكانت كافة مراتبها كذلك، لعدم مزية لمرتبة منها على أخرى، فيجب أن يؤمر بها في كل مرتبة، فإذا صلحت إطاعة الأمر بسائر الأجزاء والشرائط في مورد البحث للأمر، فلا شبهة في أن لذلك الأمر الثاني أيضا إطاعة أخرى مساوية لإطاعة الأول، فيجب الأمر بها أيضا، ثم ننقل الكلام إلى الأمر الثالث والرابع وهكذا فيتسلسل الأوامر، واللازم باطل، فالملزوم مثله.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الإطاعة بمعنى الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل الغرض وبين أن يكون الإتيان بداعي الأمر، إذ لكل () أمر إتيان لمتعلقه على وجه يحصل الغرض أو بداعي الأمر بمعنى أنه يمكن في كل مرتبة الإتيان بالمأمور به على كل من المعينين، فكل منهما متحقق في جميع المراتب والمتحقق منهما () في مرتبة مساو للمتحقق منها في سائر المراتب.
وأما ثانيا، فلأن لازم الأمر بالإطاعة نفسا بالأمر الشرعي المولوي تعدد الثواب، لأن الإطاعة من الأمور التي لازمها الثواب عقلا ولو لم يؤمر بها أصلا، فإن سائر الواجبات المشروطة بها وإن كانت تعبدية بالنسبة إليها ويتوقف الثواب عليها على الإتيان بها على وجه الطاعة لكن نفس الإطاعة لا يعتبر فيها
326

أمر آخر في صحتها أو ترتب الثواب عليها، بل الصحة والثواب فيها يدوران مدار تحقق موضوعها في الخارج فهي - كعنوان التقرب والخضوع لله والركوع والسجود له - من العناوين التوصلية الغير المعتبر فيها نية القربة، والإطاعة كأن القربة مأخوذة في موضوعها، والمتوقف عليها إنما هو تحقق موضوعها في الخارج، فإذا تحققت هي فيه فلا يتوقف صحتها ولا الثواب عليها على نية قربة أخرى، فإذا كان المفروض ورود أمر شرعي بها أيضا فلا بد أن يكون لذلك الأمر ثواب آخر، بمعنى استحقاق ثواب آخر على إطاعة المصادفة مع إطاعة الأمر الأول، وهو كما ترى لوضوح أن العبادات الشرعية ليس عليها إلا ثواب واحد.
ولو سلمنا عدم وضوح ذلك، فلا شبهة في بعده جدا.
هذا مع أن الوجه الأول كفى حجة على المدعي من غير حاجة إلى الثاني أصلا.
فإذا ثبت امتناع أخذ الإطاعة في المأمور به مطلقا ولو بأمرين، فاعتبارها مطلقا أو على وجه خاص على تقديره لا بد أن يكون لأجل مدخليتها في الغرض المقصود من الأمر، بمعنى تمامية المأمور به بدونها من حيث كونه مأمورا به.
وبعبارة أخرى: إنها ليست كسائر الأجزاء والشرائط الداخلية للمأمور به من حيث تقوم المأمور به بها في الذهن، بل هي كالمقدمات الخارجية له غير داخلة في حقيقته ويكون اعتبارها على تقديره لأجل مدخليتها في حصول الغرض منها، لأن المأمور به بعد ثبوت الأمر به يتوقف إسقاطه والخروج عن العهدة على الإتيان به على وجه يحصل الغرض المقصود منه من غير فرق بين كونه واجبا تعبديا أو توصليا إلا أن الغرض في التوصلي منه لما لم يتوقف على أزيد من ذات الفعل فيحصل الفراغ منه بمجرد الإتيان بذاته كيف ما اتفق.
فمن هنا يشكل المصير إلى أصالة البراءة عند الشك في اعتبار الإطاعة في المأمور به مطلقا أو على وجه خاص بعد إحراز سائر الأجزاء والشرائط
327

للمأمور به وتشخيصها من الأدلة الشرعية - كما هو المفروض في محل البحث -، لأن المركب من سائر الأجزاء والشرائط حينئذ تمام المأمور به، والمفروض قيام الحجة عليه بإحراز الأمر به، فيرجع الشك في اعتبار الإطاعة مطلقا أو على وجه خاص إلى الشك في إسقاطه والخروج عن عهدته بالإتيان به بدونها مطلقا أو على وجه خاص بعد قيام الحجة عليه مع تبينه.
فمن المعلوم أنه بعد العلم باشتغال الذمة بشيء كذلك يجب تحصيل الفراغ منه على سبيل الجزم، وهو لا يحصل إلا بالإتيان به على وجه يقطع بحصول الغرض المقصود من الأمر، والقطع بكونه محصلا له يتوقف على الإتيان به مشتملا على ما احتمل اعتباره في الغرض.
والحاصل: أنه إذا كان تمام المأمور به هو المركب من سائر الأجزاء والشرائط والمفروض تشخص تلك الأجزاء والشرائط فيكون المورد من موارد العلم بالمأمور به مع تبين مفهومه، فيكون الشك في اعتبار الإطاعة مطلقا أو على وجه خاص راجعا إلى الشك في طريق إسقاطه، ومن المعلوم أنه لا مساس لأصالة البراءة بتلك الموارد فيجب الاحتياط بإتيانه مشتملا على ما شك في اعتباره تحصيلا للعلم بالسقوط والفراغ عن عهدته اللازم بحكم العقل بعد العلم باشتغال الذمة بواجب كذلك.
ومن هنا ظهر أنه إذا دار الأمر في واجب بين كونه تعبديا أو توصليا - بعد تشخيص سائر الأجزاء والشرائط
من الأدلة الشرعية والعلم بها - يكون مقتضى الأصل هو البناء على تعبديته لا () توصليته - نظرا إلى أصالة البراءة - لأن اعتبار وقوعه بداعي الأمر على تقديره لا يجعله قيدا للمأمور به بل يمتنع - كما عرفت - بل لا بد أن يكون لأجل مدخليته في الغرض المقصود منه المتوقف
328

على سقوط الأمر فيكون الشك في اعتباره راجعا إلى سقوط الأمر وتحصيل الفراغ منه بعد فرض تبين المأمور به وإحراز الأمر به، فلا معنى للرجوع فيه إلى أصالة البراءة.
وظهر أيضا اندفاع ما ربما يتوهم من أن فرض كون تمام المطلوب والمأمور به هو المركب من سائر الأجزاء والشرائط المعلومة بالفرض يناقض الشك في اعتبار الإطاعة في سقوط الأمر به، لأن الإتيان بتمام المأمور به يلزم عقلا سقوط الأمر عنه وقبح المؤاخذة من المولى، لأنها إنما يصح منه إذا أخل المأمور بالمطلوب فيؤاخذه ويعاقبه معللا بعدم إتيانه بما أمر به، وأما مع أدائه على وجهه فلا إشكال، ولا يصح منه المؤاخذة والعقاب، لعدم حجة له عليه حينئذ.
والحاصل أنه إن احتمل مدخلية الإطاعة في سقوط الأمر فلا يعقل معه () العلم بكون تمام المأمور به هو المركب من سائر الأجزاء والشرائط، لأن، اعتبارها في سقوطه لا بد أن يرجع إلى اعتبارها في المأمور به شرطا أو شطرا فيكون [الشك] في اعتبارها راجعا إلى الشك في نفس المأمور به، فيكون المورد من موارد إجمال المأمور به لا تبينه وإن علم أن المركب من سائر الأجزاء والشرائط تمام المأمور به هو () ملازم للعلم بكونه مسقطا أيضا فلا معنى معه للشك في اعتبار شيء آخر في إسقاط الأمر.
وتوضيح الاندفاع أنه لا ينحصر جهة اعتبار شيء في جزئيته للمأمور به أو شرطيته له، بل قد يكون جهته مقدميته لحصول الغرض المتوقف عليه سقوط الأمر بعد اشتغال الذمة به مع خروجه عن المأمور به رأسا، فيكون مقولته مقولة إسقاط الأمر لأداء المأمور به، لأن أدائه إنما هو بالإتيان بنفسه وإسقاطه إنما هو
329

بالإتيان به على وجه يحصل الغرض، فقد لا يكون أدائه مسقطا للأمر به لعدم وفائه بالغرض المقصود من الأمر وجهة اعتبار الإطاعة على تقدير اعتبارها منحصرة في الثانية، لما عرفت من امتناع اعتبارها في المأمور به بوجه.
وبتقريب آخر أحسن أنه لا شبهة في اعتبار الإطاعة في العبادات في الجملة بمعنى توقف سقوط الأمر بها عليها كذلك، لأن إتيانها بداعي الأمر معتبر فيها لا محالة، واعتبارها كذلك ليس أمرا مخالفا للعقل بالبديهة، لوقوعه من الحكيم تعالى وكفى به حجة في جوازه عقلا، ومن المعلوم مما مر امتناع أخذها بهذا المعنى في المأمور به أيضا، فلا مناص حينئذ من التزام كون اعتبارها بهذا المعنى لأجل توقف السقوط عليها وكونه إسقاطا للأمر لا أداء للمأمور به، فثبت أن الإتيان بالمأمور به لا يلازم سقوط الأمر عقلا، فلا يناقض فرض كون تمام المطلوب هو المركب من سائر الأجزاء والشرائط الشك في الإطاعة مطلقا أو على وجه خاص في سقوط الأمر.
وما ذكر من عدم حجة للمولى على العبد إذا أتى العبد تمام المأمور به مدفوع: بأن الحجة القاطعة إنما هو الإتيان به على ما به يحصل الغرض لا مطلقا.
ألا ترى أنه إذا أمره المولى بشيء مع كون غرضه الإتيان بداعي الأمر يصح له المؤاخذة وعقابه إذا لم يأت به كذلك، بل أتى بذات الشيء، مع أن ما أتى به [هو] تمام المأمور به لا هو مع تقييده بكون الداعي للإتيان به هو الأمر، لامتناع تقييده به كما عرفت.
ثم إنه دام ظله قد استشهد لما مر - من كون الإطاعة على تقدير اعتبارها إسقاطا للأمر لا أداء للمأمور ومأخوذة فيه بالوجدان - أيضا بتقريب:
أنا نجد من وجداننا في موارد علم اعتبارها في الجملة أن المأمور به هو المركب من غيرها من الأجزاء والشرائط وأنها خارجة عنه وأن الاحتياج إليها إنما هو لأجل توقف السقوط عليها، انتهى.
330

أقول: تمامية هذا مع قطع النظر عن الدليل العقلي المتقدم مشكلة ومع ملاحظته يكون الاعتناء على ذلك الدليل، لا عليه، فلا يكون هذا وجها آخر.
وبيانه أنه مع الغض عن ذلك الدليل يمكن الخدشة في هذا الذي ذكره دام ظله: بأنه قد يشتبه () الوجدان في قضائه بهذا من جهة أنه يرى امتناع اعتبار الإطاعة في الأمر الابتدائي مع أنه يرى أن الأمر لا يسقط بدونها، فيتخيل من هذا أن تمام المأمور به هو المتعلق للأمر الأول وأن اعتبارها إنما هو من جهة توقف الغرض عليها فتكون هي طريق لإسقاط الأمر، لا أداء للمأمور به مع غفلته عن أن امتناع اعتبارها في الأمر الأول لا ينافي إمكان اعتبارها في المأمور به بأمر آخر فيتوقف تمامية هذا الوجه على ثبوت امتناع اعتبارها فيه مطلقا فلا مناص في تتميمه من الالتجاء إلى الوجه المتقدم ومعه لا حاجة إلى هذا التطويل.
وربما يناقش في كفاية الوجه المتقدم في لزوم الاحتياط بأن غاية ما يترتب عليه امتناع أخذ الإطاعة بكلا معنييها مطلقا أو على وجه خاص في المأمور به وأن اعتبارها على تقديره لا بد أن يكون من جهة توقف حصول الغرض عليها، وهذا بمجرده لا ينهض حجة على لزوم الاحتياط، بل يحتاج إثبات لزومه إلى ثبوت مقدمة أخرى وهي لزوم تحصيل الغرض مطلقا حتى مع الجهل بما يحصله، وهو ممنوع، لعدم ما يدل عليه من الشرع، والعقل أيضا لا يساعد عليه، مع أن اختيار الرجوع إلى أصالة البراءة في مسألة الشك في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته يناقض القول بلزوم تحصيل الغرض في محل الفرض، ضرورة أن الجزء المشكوك أو الشرط كذلك على تقدير اعتبارهما يتوقف عليهما حصول الغرض فتجويز تركهما يناقض إيجاب حصول الغرض مطلقا.
331

ولو ادعي اختصاص وجوب تحصيله - في صورة الشك فيها فيما يحصله - بما إذا كان المشكوك على تقدير اعتباره خارجا عن المأمور به فيندفع به التناقض المذكور ليدفعه أن الحاكم بلزوم تحصيل الغرض مع الشك فيما يحصله على تقديره هو العقل ومن المعلوم لمن له أدنى تأمل أن مجرد الاختلاف بين المقامين - بكون المشكوك في أحدهما على تقدير اعتباره معتبرا في المأمور به وفي الآخر خارجا عنه معتبرا في تحصيل الغرض - لا يصلح فارقا عند العقل بينهما، ولا فرق بينهما سواه، فلا معنى لهذا التفصيل بوجه، فلا بد إما من القول بعدم لزوم تحصيل الغرض عند الشك فيما يحصله مطلقا، وإما من القول بلزوم تحصيله كذلك، والثاني يلزم التناقض المذكور على من قال بالبراءة في تلك المسألة والأول يخل بتمامية الوجه - المتقدم - للزوم الاحتياط في المقام كما عرفت.
والجواب عن هذه المناقشة مع توقف تمامية الوجه المتقدم على المقدمة المذكورة:
توضيحه: أن الكلام على تقدير كون الأغراض عناوين للأوامر يكون [في] المطلوب النفسي الذي تعلق به التكليف الشرعي [و] هي الأفعال المحصلة لها كالصلاة والصوم والحج وغيرها فلا وجوب لتحصيل تلك الأغراض شرعا بوجه، والعقل أيضا لا يحكم بلزوم تحصيلها ابتداء بأن يكون موضوع حكمه باللزوم هو عنوان تحصيل الغرض من حيث إنه هذا العنوان حتى يرد على تقدير حكمه، بلزوم () التناقض المذكور، بل إنما
يحكم بلزوم إسقاط الطلب عن الذمة بعد ثبوت اشتغالها به، والمقرر عند العقلاء في جميع موارد التكليف العرفية تعبدية كانت أو توصلية بعد ثبوت اشتغال الذمة بشيء إنما هو أداء ذلك الشيء على وجه يحصل منه غرض المولى - بمعنى أنهم لا يعذرون () العبد إذا لم يؤده كذلك،
332

بل يجوزون المؤاخذة من المولى حينئذ ويذمون العبد على ذلك بخلاف ما لم يثبت اشتغال الذمة به فإنهم حينئذ لا يذمون العبد بأصل حكم العقل فضلا عن الإتيان به على وجه يحصل معه الغرض بل يعذرونه ويقبحون المؤاخذة على مخالفة الغرض على تقديرها.
وهذا هو الحال في الأوامر الشرعية أيضا، لأن الشارع كأحد من الموالي العرفية في باب الإطاعة والمعصية، والموظف عنده هو الموظف عند العرف بالضرورة، وإذا لم يكن العبد معذورا، وجاز عقابه عقلا - إذا لم يؤد التكليف على الوجه المذكور فيما إذا ثبت اشتغال ذمته بتكليف - فاللازم عليه بحكم العقل أن يأتي بالمكلف به في تلك الحال على الوجه المذكور في تحصيل فراغ ذمته وإسقاطه عن رقبته، فلزوم تحصيل الغرض إنما جاء من جهة لزوم إسقاط التكليف وتفريغ الذمة منه لكونه مقدمة له، ومن المعلوم أن لزومه من تلك الجهة في الحقيقة إنما هو لزوم تحصيل ما يتوقف عليه وهو الإسقاط فليس هو من حيث عنوانه الخاص موردا لحكم العقل باللزوم، بل إنما موضوعه الأولي هو عنوان الإسقاط، فإذا كان لزومه من جهة مقدميته للإسقاط فيدور لزومه نفيا وإثباتا، وقد عرفت اختصاص لزوم الإسقاط بصورة ثبوت التكليف وهو بالنسبة إلى الجزء والشرط المشكوك اعتبارهما في المأمور به غير معلوم، فلا يجب تحصيل العلم بسقوطه على تقدير ثبوته واقعا حتى يجب الإتيان بالجزء والشرط المشكوكين مقدمة له.
وبعبارة أخرى: إن الجزء والشرط المشكوك اعتبار [هما] () لما كانا على تقدير اعتبارهما داخلين () في المكلف به ومأخوذين فيه فالشك فيهما موجب للشك
333

في التكليف () فليس هناك تكليف ثابت بأمر مبين حتى يجب الاحتياط بجميع ما يحتمل مدخليته للغرض مقدمة للعلم بسقوطه، هذا بخلاف المقام، فإن المشكوك في اعتباره () هنا على تقدير اعتباره غير قابل لأخذه في المكلف به، والمفروض تشخيص سائر ما اعتبر فيه هو تمام المكلف به وهو أمر مبين والتكليف به معلوم بالفرض فيجب الاحتياط به على وجه يقطع بحصول الغرض منه تحصيلا لإسقاط ذلك التكليف.
فالفارق بين المقامين إنما هو ثبوت التكليف في أحدهما بأمر مبين المقتضى لتفريغ الذمة منه وإسقاطه وعدم ثبوته في الآخر كذلك.
نعم منشأ هذا الفرق إنما هو كون المشكوك في أحدهما قابلا لاعتباره في المكلف به وفي الآخر غير قابل لذلك لكن العبرة إنما هي بنفس هذا الفرق لا بمنشئه.
والحاصل: أنه كلما ثبت التكليف بأمر مبين لا يعذر المكلف في الإتيان بمتعلقه على وجه يفوت معه الغرض، بل يصح عند العقلاء أن يؤاخذه المولى ويعاقبه فيما لم يأت به على وجه يحصل الغرض، وبدونه لا يخرج عن عهده التكليف بل هو باق على حاله، ومن المعلوم لزوم تحصيل الفراغ منه بعد ثبوته كذلك وإسقاطه على سبيل اليقين - المتوقف على الإتيان بمتعلقه على الوجه المذكور - فيجب الاحتياط فيما إذا شك في مدخلية شيء في تحصيل الغرض معه بتحصيل ذلك المشكوك أيضا، هذا بخلاف ما إذا لم يثبت التكليف رأسا أو ثبت في الجملة وتردد متعلقه بين الأقل والأكثر - كما في تلك المسألة - إذ على الثاني يكون أصل التكليف بالنسبة إلى الزائد مشكوكا بدويا أيضا فلا يجب أصل
334

الإتيان بمتعلقه فضلا عن الإتيان به على الوجه المذكور، بل اللازم هناك هو الإتيان بالأقل لتمامية الحجة عليه على تقدير كونه هو المطلوب الواقعي.
فإن قلت: إن التكليف بالأقل هناك معلوم متيقن وهو أمر مبين فيجب تحصيل الفراغ منه على الوجه المذكور - المقتضي للاحتياط - بتحصيل جميع ما يحتمل مدخليته في تحصيل الغرض ومما يحتمل مدخليته في تحصيل الغرض منه هو الجزء المشكوك أو الشرط كذلك فيجب الاحتياط بتحصيلهما أيضا.
قلنا: توقف سقوط الأمر والفراغ منه على الإتيان بمتعلقه على وجه يحصل الغرض إنما هو فيما إذا أمكن تحصيل الغرض على سبيل اليقين وهذا هناك غير ممكن، إذ غاية الأمر أن يأتي المكلف بالجزء والشرط المشكوكين، ومن المعلوم أنه لا يحصل بمجرده العلم بحصول الغرض، لاحتمال توقفه على معرفة الواجب تفصيلا، والمفروض الشك فيه هناك، ومعه لا يمكن معرفته كذلك، فلا يمكن تحصيل الغرض قطعا، فلا يتوقف سقوط الأمر هناك على تحصيله كذلك لاستلزام بقائه للتكليف بما لا يطاق، هذا بخلاف المقام، إذ المفروض فيه تشخيص الواجب من غيره ومعرفته تفصيلا فيتوقف سقوط الأمر على الإتيان به على وجه يقطع معه بحصول الغرض.
فإن قلت: قد يكون المكلف قاطعا بعدم مدخلية معرفة الواجب تفصيلا في حصول الغرض، فيتمكن من تحصيل الغرض على سبيل القطع بإتيان الجزء المشكوك أو الشرط كذلك، فلازم ما ذكرت لزوم الاحتياط عليه حينئذ في الجزء والشرط المشكوكين مع أن القائل بالبراءة في تلك لا يفرق بينه وبين من شك في اعتبارها في الرجوع إلى أصالة البراءة في الجزء والشرط المشكوك في اعتبارهما.
قلنا: نعم لا يفرق القائل بالبراءة هناك بين من احتمل اعتبارها () وبين
335

من علم مدخليتها لكن نقول إن الغرض مما مر () إنما هو نفي اللزوم بتحصيل الغرض قطعا عن الشاك في اعتبارها مع شكه في شرطية شيء أو جزئية المأمور به، لعدم تمكنه من تحصيله كذلك، فنحن جعلنا عدم تمكنه منه علة لنفي لزوم تحصيل الغرض كذلك، ولم نجعل تمكنه منه علة للزومه - بأن يكون سقوط الأمر دائرا مدار التمكن منه نفيا وإثباتا، بأن [يكون] التمكن منه علة لثبوت التوقف - حتى يرد ما ذكر.
وقولنا: (توقف سقوط الأمر إلى قولنا فيما إذا أمكن تحصيل الغرض) () أن المراد به أنه على تقدير توقفه على تحصيل الغرض أن يتوقف عليه في تلك الصورة لا أنه يتوقف عليه فيها مطلقا فتأمل.
والتحقيق في الجواب أن الشاك في جزئيته للمأمور به أو شرطيته له على تقدير كون الواجب عليه واقعا هو الأكثر المشتمل عليهما [يكون] معذورا فيه لمكان الجهل، فهو غير ملزم بالأكثر لا شرعا ولا عقلا حتى يجب عليه تحصيل الفراغ منه، بل ذمته فارغة عنه ابتداء، ومدخلية الجزء والشرط المشكوكين في الغرض على تقديرها إنما هي على تقدير كون الواجب واقعا هو الأكثر المشتمل عليهما، وأما على تقدير كونه هو الأقل فعدم مدخليتهما فيه معلوم، وذلك الشاك إنما هو مكلف في مرحلة الظاهر بالأقل، فحسب، فاللازم عليه الإتيان به على وجه يحصل الغرض على تقدير كونه هو الواجب واقعا لا مطلقا ومن المعلوم أن حصوله بدون ذينك الشرط والجزء على ذلك التقدير معلوم.
والحاصل أنه لم يكلف في مرحلة الظاهر إلا بالأقل فيجب عليه الإتيان به على وجه يحصل الغرض من الأمر به على تقدير كونه هو الواجب عليه واقعا،
336

ومن المعلوم أن حصوله على ذلك التقدير غير متوقف على ذينك الجزء والشرط المشكوكين فيحصل إطاعة الأقل المسقطة للأمر به على تقدير كونه هو الواجب بالإتيان بنفسه من دون ضمه إلى الزائد المشكوك في اعتباره.
فان قلت: ما ذكرت من لزوم الإطاعة بمعنى الإتيان بالمكلف به على وجه يحصل غرض المولى ممنوع، لأنه على تقديره مأخوذ من العقلاء كما ذكرت، ومن المعلوم أنهم لا يبنون على أمر من باب التعبد الصرف فيما لم يمكن () من تعبدهم به - كما هو حالهم في باب الطاعة والمعصية في أوامرهم -، بل لا بد أن يكون مبنيا على حسن الشيء أو قبحه بأن يكون ترك الإطاعة بالمعنى المذكور قبيحا عقليا عندهم، بل مجرد التقبيح أيضا لا يكفي في استحقاق العبد العقاب من المولى، بل لا بد أن يكون هو على تقديره من جهة كون ترك الإطاعة بالمعنى المذكور تضييعا لحق المولى اللازم على العبد عقلا الوفاء به - كما مر في مسألة التجري - وقبح تركها بذلك المعنى ممنوع فضلا عن كونه تضييعا لحق المولى اللازم على العبد.
قلنا: لا ينبغي الارتياب في أن من حق المولى - على العبد - اللازم عليه إذا أمره بشيء إطاعة أمره بالمعنى المذكور بحيث يستحق العقاب منه إذا تركها بعد اشتغال ذمته بالأمر، وكفى به حجة تجويز العقلاء عقابه وذمهم العبد إذا لم يطعه كذلك بعد الاعتراف، فإن بنائهم على أمر لا بد أن يكون مبنيا على الحسن والقبح، فإن تجويزهم العقاب حينئذ كاشف قطعي عن كون الإطاعة بذلك المعنى حقا لازما على العبد.
نعم لا يلزم على العبد تحصيل غرضه إذا لم يثبت اشتغال ذمته بالفعل المحصل له إلا أن يكون نفس الغرض مأمورا به مبينة أو إجمالا () إذا لم يكن مرددا
337

بين الأقل والأكثر والكلام في المقام كما عرفت - على تقدير عدم كونه هو المأمور به، ولكنه يكون الواجب هو نفس الفعل دون تحصيل () الغرض إلا أنه يشترط في حصول الفراغ منه بعد اشتغال ذمة العبد به.
وقد ظهر مما حققنا إلى هنا عدم استقامة الدليل الذي ذكرناه أولا لنفي اعتبار معرفة الواجب تفصيلا، لما أشرنا إليه من أن كفاية الإتيان بالواجب بدونها في الأوامر العرفية إنما هي لأجل العلم بعدم توقف غرضهم في أوامرهم التعبدية على أزيد من الإتيان بمتعلقاتها بداعي الأمر، لا أن الحق اللازم على العبد في تلك الأوامر هو مجرد ذلك، بل اللازم عليه عندهم أيضا في كل أمر هو الإتيان بمتعلقه على وجه يقطع بحصول الغرض منه.
فتلخص مما حققنا أنه إذا شك في اعتبار شيء في حصول الغرض والأمر مع كون ذلك الشيء على تقدير اعتباره غير قابل لاعتباره في المأمور به مطلقا ومع تشخيص سائر الأمور المعتبرة في المأمور به يكون مقتضى الأصل هو لزوم الاحتياط بالإتيان بالمأمور به مشتملا على ذلك الشيء المشكوك في اعتباره تحصيلا للفراغ اليقيني من الأمر المعلوم المتعلق بأمر مبين، المقتضي للزوم الفراغ كذلك، فيجب الاحتياط في مسألة اعتبار معرفة الواجب تفصيلا بالإتيان بالواجب المشكوك اعتبارها فيه مع معرفته كذلك.
فإذا كان مقتضى الأصل في هذه المسألة هو اعتبار معرفة الواجب تفصيلا فهل إلى الخروج منه من سبيل؟ الذي يمكن الالتجاء إليه في ذلك أحد أمور على سبيل منع الخلو:
أحدها: دعوى جريان أصالة البراءة - في نفي اعتبار معرفة الواجب تفصيلا في الغرض - بدعوى وجود المناط لها في مقام الشك في أصل التكليف أو
338

في جزئية شيء أو شرطيته للمكلف به بعد ثبوت التكليف في الجملة بعينه فيما إذا كان المشكوك الاعتبار على تقدير اعتباره معتبرا في الغرض دون المأمور به بتقريب أن المناط في غير المقام إنما هو قبح المؤاخذة على تفويت الواقع مع جهل المكلف به إذا كان دفع الشبهة من شأن الشارع وهو بعينه موجود في المقام، لأنه فيه جاهل بمدخلية المعرفة التفصيلية في الغرض المقصود له، ودفع ذلك الجهل إنما هو من شأن الشارع، لعدم طريق لغيره إليه، إذ لا طريق لأحد إلى معرفة ما يتوقف عليه أغراض غيره إلا بيان ذلك الغير، فليس المقام مما يكون للعرف أو لعقولنا طريق إليه.
والحاصل: أن المناط هو قبح المؤاخذة على فوت الواقع بغير بيان مع كون البيان على تقديره منحصرا في بيان الشارع وهو موجود في المقام على نحو وجوده في سائر الموارد، ولزوم الاحتياط فيما يكون طريقا للإسقاط إنما هو فيما إذا لم يكن بيان المسقط على تقدير اعتباره منحصرا في الشارع.
وبالجملة العقل مستقل بقبح المؤاخذة من المولى على ما فات منه من مطلوبه أو أغراضه مع جهل العبد بالحال وعدم طريق له إلى الواقع إلا بيان المولى، إذ الاحتياط ليس طريقا منجزا للواقع والا لتنجز المشكوكات البدوية عليه ولا طريق له إليه سواه، فيكون فوت الواقع على تقديره مستندا إلى المولى فهو قد أخل بمقصوده فليس له مؤاخذة العبد على فوته في تلك الحال.
هذا غاية ما يمكن أن يوجه به جريان البراءة في المقام.
لكن الإنصاف أنه لا مساس لها بالمقام بوجه، لأنها مختصة بموارد الشك () في التكليف بأن يكون المشكوك على تقدير اعتباره معتبرا في المكلف به وموردا للتكليف الشرعي النفسي، لأن مدركها إنما هو قبح التكليف بلا بيان،
339

وقد مر أن معرفة الواجب تفصيلا على تقدير اعتبارها إنما هي معتبرة في الطاعة وهي غير قابلة للتكليف الشرعي، بل غاية ما يتعلق بها إنما هو الطلب الإرشادي، فعدم التكليف الشرعي بها معلوم لا يحتاج إلى جريان أصالة البراءة، لكن لما كان التكليف الشرعي بنفس الواجب معلوما فيجب الخروج عن عهدته قطعا، وهو لا يكون إلا بالاحتياط بالإتيان ممتازا عن غيره.
ومع الغض عما مر - من امتناع تعلق التكليف الشرعي بالإطاعة وتسليم إمكان تعلقه بها أيضا - لا يجدي أصالة البراءة في دفع الاحتياط المذكور، لأن غاية ما يترتب عليها إنما هي معذورية المكلف في معرفة الواجب تفصيلا على تقدير التكليف بها، وأما معذوريته في مخالفة ذلك الواجب وسقوط الأمر به منه فيها من اللوازم العقلية لعدم اعتبار معرفة الواجب تفصيلا فلا يترتبان على جريان أصالة البراءة في معرفة الواجب فليست هي مؤمنة من العقاب المترتبة على عصيان ذلك الواجب فيجب الاحتياط المذكور تحصيلا للأمن منه.
وهذا نظير ما إذا علم بكون فعل واجب من الواجبات كفارة لمعصية من المعاصي لكن يشك في جزئية شيء أو شرطيته لذلك الواجب، فإنه لا يترتب على أصالة البراءة الجارية في نفي جزئية ذلك الشيء أو شرطيته له سقوط تلك المعصية جدا، بل لو أراد إسقاطها لا بد من الاحتياط في ذلك الواجب بالإتيان به بجميع ما يحتمل مدخليته فيه شرطا أو شطرا.
وثانيها إطلاق دليل بعض العبادات الواردة في مقام البيان وتتميم المطلوب في سائر العبادات بعدم القول بالفصل.
والمراد بالإطلاق هنا ليس هو المعهود في باب المطلق والمقيد وهو عدم تقييد اللفظ الموضوع للطبيعة في مقام البيان الموجب لظهوره في إرادة الطبيعة على الإطلاق، فإن التمسك بذلك الإطلاق إنما يصح في نفي ما يصلح لتقييد المطلق بالنسبة إليه، والمشكوك في المقام غير صالح لذلك كما عرفت غير مرة،
340

بل المراد به إنما هو عدم بيان المشكوك مع كون المقام مقام بيان تمام مقصوده وبيان المشكوك أيضا على تقدير
اعتباره منه بل اقتصر على بيان غيره في ذلك المقام.
وبعبارة أخرى: المراد به عدم بيان آخر مع بيان ما بينه من وجوب العبادة وبعض ما يعتبر فيها مع كونه في مقام بيان تمام مقصوده وغرضه، وكان بيان اعتبار معرفة الواجب على تقدير اعتبارها منه ومن شأنه، لعدم طريق إليه عدا بيانه، والإطلاق بهذا المعنى على تقدير تحققه في مورد بان يحرز فيه تلك المقدمات الثلاث، أعني كون المتكلم في مقام بيان تمام غرضه فيه مع عدم بيانه لما شك في لاعتباره فيه وكون بيان ذلك المشكوك على تقديره من شأنه لا ينبغي الارتياب في ظهوره في عدم اعتبار المتكلم لذلك المشكوك في غرضه أصلا، لأن اعتباره فيه مع كونه في مقام بيان تمام ما له مدخلية في غرضه نقض لغرضه وهو قصده وبيان مقصوده بجميع ما له مدخلية فيه وهو ممتنع الصدور من الحكيم على الإطلاق تعالى شأنه العزيز لكونه قبيحا أشد القبح ولا يختص قبحه بما إذا كان المشكوك مما يجب بيانه عقلا على تقدير إرادته واقعا بحيث يقبح عدم بيانه في حد نفسه مع قطع النظر عن كونه في مقام البيان أيضا كما إذا كان تكليفا فإنه قبيح عقلا بلا بيان له، بل يعم غير ذلك المورد مما لا يجب بيانه في حد نفسه أيضا، لأن القبح المذكور إنما هو من جهة نقض الغرض وهو قصد بيان تمام مقصوده فيدور تحققه مدار تحقق موضوعه وهو نقض الغرض وتحققه لا يختص بمورد بل يتحقق في كل مورد يكون المتكلم في صدد بيان تمام مقصوده مع إخلاله ببيان بعضه.
فظهر أن مدرك الإطلاق المذكور ليس هو مدرك أصالة البراءة بل يعم غير مورد البراءة أيضا كما إذا كان المتكلم في صدد بيان جميع المباحات عنده وأخل ببيان بعضها فإن ذلك على تقديره نقض للغرض وقبيح مع أن بيان المباح لا يجب في نفسه عقلا، فلا يقبح تركه في حد نفسه.
341

وبالجملة الإطلاق بهذا المعنى على تقدير تحققه في مورد من الظهورات الحالية وهي معتبرة عند العرف كالظهورات اللفظية فيكون حجة على مؤداه فإذا تحقق في خطاب بعض العبادات بالنسبة إلى معرفة الواجب تفصيلا بأن علمنا أن الشارع في ذلك الخطاب في صدد بيان تمام مقصوده بجميع ما له دخل فيه ولم يتبين اعتبار معرفة الواجب كذلك، فيكون ذلك الخطاب ظاهرا في عدم اعتبارها في تلك العبادة لذلك وحجة على عدم اعتبارها فيها فإذن ثبت بذلك عدم اعتبارها في سائر العبادات بضميمة عدم القول بالفصل بينهما وبين سائر العبادات.
هذا لكن الإنصاف عدم تحققه في شيء من خطابات العبادات، إذ الظاهر أن كلا منها إنما هو في مقام بيان أصل تشريع العبادة في الجملة، ولم يعلم كون واحد منها في مقام بيان تمام الغرض، مع أنه على تقدير تحققه في بعضها إنما ينتفع في مورده فقط، وأما في سائر العبادات فلا، إذ لم يعلم عدم المفصل المذكور حتى يتم به المطلوب، بل التفصيل تصريح بعض به: حيث صرح بكفاية مجرد نية القربة في الصوم من غير اعتبار معرفة واجبات التروك تفصيلا مع تصريحه باعتبار معرفة الواجب كذلك في غيره من العبادات فراجع.
وثالثها أن يدعى القطع بعدم مدخلية المعرفة التفصيلية في العبادات الشرعية أيضا بتقريب:
أن منشأ احتمال مدخليتها فيها إنما هو الاتفاق المحكي عن المتكلمين على اعتبارها ونحن نعلم أن اتفاقهم على ذلك إنما هو لأجل بعض الاعتبارات العقلية التي لا يصلح لإحداث الشك في أنفسها في اعتبارها فكيف بإيجابها للقطع به.
وبتقريب أوضح: أنه قد يكون حكم المسألة عند أحد معلوما فيريد من الأدلة التي أقامها على مطلوبه توجيه ما اتضح عنده من الحكم فيكون غرضه
342

حينئذ تطبيق المدعى على الدليل.
وقد يكون حكمها عنده مشكوكا ثم يلاحظ بعض الأدلة، فيقطع بها أو يظن بذلك الحكم، فيكون غرضه من ذكر تلك الأدلة التنبيه على مدرك ما اختاره من حكم المسألة.
وقد يكون هو بحيث يقطع بحكم في مسألة مع عدم التفاته إلى بعض الوجوه، ثم يلتفت إلى بعض الوجوه، فيوجب ذلك ظنه أو قطعه بخلاف ما قطع به أولا وكان حاله بحيث لو علم بفساد تلك الوجوه لقطع بكون الحكم الواقعي هو ما قطع به أولا، فيكون ذكره لما عنده من الوجوه الموجبة للظن أو القطع بخلاف ما قطع به أولا لأجل تطبيق الدليل على المدعى كما في القسم الثاني أيضا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن وضوح فساد دليل الحكم في القسم الأول والثاني لا يكشف عن فساد المدعي واقعا، بل يكون المسألة معه كالخالية عن الدليل رأسا فيعمل فيها بقواعد الشك، وأما القسم الثالث فهو يكشف قطعا عن فساد المدعى.
نعم إذا لم يعلم أن المورد من أي تلك الأقسام الثلاثة فحكمه حكم القسمين الأولين من حيث عدم كشف وضوح فساد الدليل فيه عن فساد المدعي لكن بعد القطع بأنه من القسم فذلك كاشف قطعي عن فساد المدعى أيضا ونحن نعلم أن من احتمل اعتبار المعرفة التفصيلية في العبادة إنما هو لأجل التفاته إلى المحكي عن المتكلمين من الاتفاق المذكور بحيث لو علم بفساد مدرك المتكلمين قطع بعدم اعتبارها جدا فيكون المقام من القسم الثالث من تلك الأقسام وكذا المجمعون من المتكلمين على اعتبارها لو اتضح لهم فسادها عندهم من الاعتبارات لقطعوا بعدم اعتبارها أيضا، ونحن لما علمنا بفساد تلك الاعتبارات نقطع بعدم اعتبارها.
343

والإنصاف أن هذا الوجه ينبغي للاعتماد [عليه] بتقريب () أن المجمعين - من المتكلمين - على اعتبارها لم بخصوصها بالعبادات الشرعية، بل ادعوا أن الإطاعة مطلقا لا تتحقق إلا بها، فهم يعترفون بأنه لو تحققت الإطاعة في مورد ولو في الأوامر العرفية بدونها لتحققت بدونها مطلقا وأنت تعلم بعدم توقفها في الأوامر العرفية عليها كما مر التنبيه عليه في أول المسألة.
والحاصل أنهم ذهبوا إلى ما ذهبوا لأجل شبهة حصلت لهم عامة لجميع الموارد حتى الأوامر العرفية، فإذا علمنا نحن بفساد تلك الشبهة في الأوامر العرفية نعلم بفسادها مطلقا، وحيث إنه لا منشأ لاحتمال اعتبار المعرفة التفصيلية إلا تلك الشبهة، فبعد العلم بفسادها مطلقا فقطع بعدم اعتبارها مطلقا.
ومن هنا يتضح الطريق إلى وجه آخر للمطلوب: وهو أنه إذا كان منشأ احتمال اعتبار معرفة الواجب تفصيلا هو ما عند القائلين باعتبار مع اعترافهم بأنه على تقدير فساده لا يتوقف عليها الطاعة واقعا بعد ما علمنا يمكن دعوى الإجماع من الكل حتى من القائلين باعتبارها على عدم اعتبارها واقعا بعد ما علمنا بفساد مدرك اعتبارها، فإن هؤلاء مطبقون على عدم اعتبارها على تقدير فساد المدرك واقعا فإذا أحرزنا نحو ذلك التقدير فقد أحرزنا معقد اتفاقهم على عدم اعتبارهم، ويقال بمثل هذا الإجماع الإجماع التقديري على ألسنة المتأخرين من الأصوليين وهو على تقدير ثبوته - كما في المقام - كاشف قطعي عن رأي المعصوم عليه السلام وعن رضاه بلا شبهة تعتريه.
ومما ذكرنا - من أن العلم بفساد مدركهم بالنسبة إلى الأوامر العرفية مستلزم له بالنسبة إلى الأوامر الشرعية أيضا ويتم هذا المطلوب بالتقريب المذكور - يصح التمسك بما ذكرنا في أول المسألة من تحقق الطاعة بمجرد
344

الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر غاية الأمر أنه بنفسه غير واف بالمطلوب إلا أنه بضميمة ما عرفت يتم به المطلوب هذا ما أفاده دام ظله العالي.
أقول: ويمكن تقريب المدعى بوجه آخر، لعله أحسن مما مر وهو أنا نعلم بالضرورة أن الشارع لم يتعلق غرضه في العبادات بأزيد من إيقاعها على وجه التعبد وأن كل ما كان عنده فيها من الأغراض يحصل بمجرد إيقاعها كذلك، والقائلون باعتبار معرفة الواجب تفصيلا أيضا معترفون بذلك، فإن اعتبارهم إياها إنما هو لزعمهم أن موضوع العبادة لا يتحقق إلا بها، وقولهم إن الطاعة متوقفة عليها يعنون به أن الطاعة اللازمة التي يتوقف عليها فراغ الذمة متوقفة على الإتيان بالواجب على وجه يحصل غرض المولى، وغرض الشارع في العبادات متوقف على وقوعها عبادة، وهو متوقف على معرفة وجه المأتي به تفصيلا، فيجب الإتيان بها كذلك، تحصيلا للفراغ اليقيني مع اعترافهم بأنها لو تحققت وانعقدت عبادة بدونها لكفت في تحصيل الفراغ، فيكون اعتبارهم للمعرفة التفصيلية بالأخرة راجعا إلى اعتبارها في موضوع العبادة كما يظهر للمتأمل في كلماتهم، ونحن نقطع بانعقاد الفعل عبادة بمجرد الإتيان به بداعي الأمر، ومعه لا يبقى شك في [عدم] مدخلية المعرفة التفصيلية في الإطاعة بوجه في العبادات الشرعية أيضا، بل قد حققنا في مطاوي بعض المباحث عدم توقف العبادة على الأمر أيضا.
وكيف كان فلا ينبغي الارتياب في عدم توقفها على معرفة وجه الفعل تفصيلا في العرف والعادة فإذا ثبت عدم توقفها عليها في العادة ثبت في العبادات الشرعية أيضا، للقطع بعدم إحداث الشارع معنى آخر للعبادات وراء ما عندهم وإنما أحدث مصاديق لها لم يكن معهودة عندهم، هذا.
ثم إنه بعد ما أثبتنا عدم اعتبار معرفة الوجه تفصيلا على سبيل العلم ظهر عدم اعتبارها ظنا بطريق أولى، فيجوز ترك الموافقة التفصيلية الظنية مطلقا
345

إلى الموافقة العلمية الإجمالية بطريق أولى.
هذا خلاصة الكلام في المقام.
وينبغي التنبيه على شيء وهو أنه بناء على تقديم الموافقة التفصيلية الظنية على الاحتياط بالتكرار إذا أراد المكلف الجمع بينهما بأن يأتي بما ظنه الواقع بنية الوجوب وبالمحتمل الآخر أيضا لاحتمال كونه هو الواقع - كما إذا علم إجمالا بأن عليه صلاة وشك في أنها هي المقصورة الثنائية أو الكاملة الرباعية مع اقتضاء ما عنده من الأدلة الظنية كونها هي المقصورة مثلا فأراد أن يأتي بها على أنها هي الواقع وبالكاملة من باب الاحتياط - فهل له الجمع بينهما حينئذ كيف شاء أو يتعين تقديم ما ظن أنها هي الواقع؟ ظاهر المصنف [ره] هو الثاني حيث قال في مطاوي كلامه في هذا المقام:
إنه يأتي أولا بمقتضى ظنه لكن لم يذكر له وجها.
واختاره دام ظله محتجا عليه بأنه إذا قدم ما ظن أنه الواقع فقد قصد كونه هو المبرئ الواجب عليه في مرحلة الظاهر فيكون طرف الآخر الذي هو خلاف ظنه ممحضا () للاحتياط فلا يدور الأمر فيه بين الامتثال التفصيلي وبين الإجمالي لعدم إمكان وقوع شيء () منهما.
أما الأول: فلتوقفه على معرفة وجهه والمفروض الجهل به مطلقا فإن وجوبه غير معلوم ولا مظنون لا ظاهرا ولا واقعا.
وأما الثاني فإنه إنما يحصل بكلا الطرفين حينئذ معا، لا به وحده فيكون هو وحده امتثالا احتماليا للواقع.
نعم بضمه إلى الأول يحصل العلم إجمالا بامتثال الواقع أيضا، فإذا لم يكن
346

الأمر فيه دائرا بين الأمرين فلا يعتبر فيه قصد الوجه ومعرفته لأن القائلين باعتبارها إنما يعتبرونها في مقام إمكانها والمفروض امتناعها فيه.
والحاصل أنه إذا فعل كذلك فيقع الأول - وهو مؤدى ظنه - صحيحا وطاعة لفرض قصد وجهه ومعرفته وجعله () هو المبرئ لذمته في مرحلة الظاهر والإتيان به بداعي الأمر به مطلوب () فيكون الحال في الطرف الآخر كما في الشبهات البدوية من حيث كونه احتياطا لاحتمال كونه مطلوبا في الواقع وليس الإتيان به حينئذ مقدمة لتحصيل الواقع المردد مع قصد كون المبرئ هو ذلك الواقع حتى يكون بعضا من الاحتياط بالتكرار، هذا بخلاف صورة العكس بأن أخر ما ظنه الواقع فإنه قد قصد بالجمع مبرئ لا المظنون وحده، بل إنما هو آت به احتياطا لدرك الواقع به وبغير المظنون فلا يقع شيء منهما صحيحا لكونهما معا احتياطا بالتكرار مع التمكن من الامتثال التفصيلي. انتهى ما أفاده دام ظله.
أقول: المفروض أن المكلف آت بما ظنه الواقع بنية الوجوب وجعله هو المبرئ له في مرحلة الظاهر على كل من التقديرين، فليس إتيانه به لتحقق الاحتياط بالتكرار وتحصيله كذلك - مظنة حصول () يقينا بضم الطرف الآخر إليه - إنما هو لازم قهري للإتيان بطرفي المعلوم بالإجمال () من غير توقفه على قصد كونه هو المبرئ، إذ إتيانه بالمظنون بنية الوجوب ظاهرا امتثال ظني تفصيلي مطلقا، لأن الداعي للاحتياط إنما هو إدراك الواقع المشتبه، فلا يكون فعل احتياطا إلا إذا وقع كذلك، والمفروض أن الداعي للمظنون إنما هو وجوبه ظاهرا
347

لاحتمال مطلوبيته واقعا، فالإتيان به على الوجه المذكور لا يقع احتياطا مطلقا، فيصح، والطرف الآخر يبقى ممحضا للاحتياط كالشبهات البدوية - وليس الأمر فيه دائرا () بين الامتثال التفصيلي والإجمالي - فيصح أيضا فتأمل.
ولو قيل: إنه في صورة العكس حيث إنه قصد الجمع بين الطرفين فيكون هذا احتياطا بالتكرار فيبطل.
لقلنا (): بمثله في صورة تقديم المظنون أيضا، فإن قصد الجمع بمجرده لو أخل بالصحة لأخل مطلقا.
ولو وجه تلك الصورة: بأنه وإن قصد الجمع لكن قصد المبرئ هو المظنون في مرحلة الظاهر ويكون إتيانه بالموهوم لاحتمال كونه هو المطلوب، لا بجمعه مقدمة لتحصيل المبرئ وهو نفس الواقع المشتبه فالمصحح في تلك الصورة إنما هو قصد كون المبرئ هو المظنون فيقع هو امتثالا تفصيلا لذلك والموهوم ممحض للاحتياط فيصح لما مر.
لنوجه () صورة العكس أيضا، فإن المفروض أنه فيها قد قصد كون المبرئ هو المظنون فيكون امتثالا تفصيلا لذلك ويصح الموهوم أيضا لكونه ممحضا للاحتياط في مورد احتمال المطلوبية.
والحاصل أنه إنما يتجه الحكم بالبطلان في صورة العكس إذا لم يقصد كون المظنون هو المبرئ ولم يأت به بنية الوجوب الظاهري، بل إنما أتى به لإدراك الواقع به بضميمته إلى الموهوم وقصد كون المبرئ هو نفس الواقع فيكون الداعي لكل منهما هو احتمال كونه هو الواقع فيكون المجموع احتياطا بالتكرار مع التمكن من الامتثال الظني التفصيلي، فلا يصح شيء منهما، ولا يخفى أنه على
348

تقدير الإتيان بالمظنون كذلك لا يفرق فيه بين الصورتين، إذ على تقدير تقديم المظنون أيضا لا يصح شيء منهما إذا أتى به كذلك لعين الدليل المذكور.
وكيف كان فحيث إن المفروض الإتيان بالمظنون بداعي وجوبه الظاهري فالحق هو جواز الجمع كيف شاء.
349

[في إمكان التعبد بالظن]
قوله: (المقصد الثاني في الظن... إلى قوله: والمعروف هو إمكان... إلى آخره) ().
أقول: قبل الخوض في المقام ينبغي تمهيد مقال فاعلم ان المراد بالإمكان المتنازع فيه انما هو الإمكان العام وهو المقابل للامتناع إذ النزاع انما هو مع من يدعي الامتناع، فالغرض إنما هو مجرد نفي الامتناع الأعم من وجوب التعبد بالظن في بعض الموارد، ومرجع القولين إلى دعوى حسن التعبد به وقبحه، لا إلى قدرة الشارع على التعبد به وعدمها، فيرجع النزاع إلى أنه هل يحسن من الشارع التعبد به أو يقبح؟ كما يظهر من دليل مدعي الامتناع، والظاهر أنه إنما يدعي الامتناع العرضي لا الذاتي، كما يظهر من احتجاجه عليه بلزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال، فإنه ظاهر - بل صريح - في أن القبح التعبد بالظن إنما هو من جهة استلزامه لذلك المحذور، لا مطلقا، فعلى هذا لا ينفع مدعي إمكانه إثباته بالنظر إلى ذاته، بل عليه إما دفع ذلك الاستلزام، أو منع قبح اللازم.
ثم المراد بالتعبد بالظن هنا ليس اعتباره والحكم بالأخذ به من باب الموضوعية، لأنه بهذا المعنى لا يرتاب أحد في إمكانه، فإنه - حينئذ - كسائر الأوصاف المأخوذة كذلك، وهو لا يقصر عن الشك من هذه الجهة، بل إنما هو اعتباره على وجه الطريقية لمتعلقه، بمعنى جعله حجة في مؤداه كالعلم وتنزيله
351

منزلته بإلغاء احتمال خلافه في جميع الآثار العقلية الثابتة للعلم من حيث الطريقية.
وبعبارة أخرى جعله طريقا إلى متعلقه كالعلم الذي هو طريق عقلي إلى متعلقه، والمعاملة معه معاملة العلم () الطريقي وترتيب آثار طريقيته عليه من معذورية المكلف معه في مخالفة التكليف الواقعي على تقدير اتفاقها () بسبب العمل به، كما إذا كان مؤداه نفي التكليف مع ثبوته في مورده واقعا، فلم يأت المكلف بذلك المحتمل التكليف استنادا إليه، ومن المعلوم معذوريته وصحته مؤاخذته وعقابه عليها إذا كان مؤداه ثبوت التكليف، وكان الواقع ثبوته - أيضا - ولم يأت المكلف بذلك الذي قام هو على التكليف به، فيكون هو على تقدير اعتباره حجة قاطعة للعذر فيها بين الشارع والعباد على الوجه المذكور كالعلم، ويكون الفرق بينهما بمجرد كون حجية العلم بهذا المعنى بحكم العقل، وكون حجيته بحكم الشارع وجعله، فيكون كالعلم قاطعا لقاعدتي الاشتغال والبراءة العقليتين () إذا قام على خلافهما، فإن العقل إنما يحكم في الأولى بلزوم الاحتياط تحصيلا للأمن من عقاب مخالفة الواقع بعد ثبوت التكليف به، وفي الثانية بجواز تركه، نظرا إلى قبح العقاب بلا بيان الذي هو الواقع () لاحتمال العقاب، وكل واحد من حكميه ذينك تعليقي بالنسبة إلى جعل الشارع للظن المسبب () المشكوك في الموردين طريقا وحجة في إثباته إذ معه يرتفع موضوعا القاعدتين، لأنه بعد اعتباره يكون حجة في إثبات التكليف بمحتمله في الثانية، وبيانا له فلا
352

يعذر (معه) () المكلف في مخالفته على تقديرها، وفي كون الواقع هو خصوص مؤداه في الأولى، فيعذر المكلف في مخالفته على تقدير كونه مع إتيانه بمؤداه فمع إتيانه بمؤداه - حينئذ () - لا يحتمل العقاب على مخالفة الواقع، حتى يحكم العقل بلزوم تحصيل الأمن منه.
وبالجملة: النزاع في المقام إنما هو في إمكان التعبد بالظن على (وجه) () الطريقية بالمعنى الذي عرفت.
ويظهر ذلك - أيضا - من احتجاج منكره باستلزامه لتحليل الحرام وتحريم الحلال، لأنه - على تقدير اعتباره من باب الموضوعية - لا حرمة واقعا فيما إذا كان مؤداه هو الإباحة، ولا إباحة فيه إذا كان مؤداه هو الحرمة، وإنما يبقى الواقع على حاله التي كان عليها بدونه على تقدير اعتباره من باب الطريقية المحضة.
ومن هنا ظهر: أنه لا مجال لرد المنكر بإمكان التعبد بالظن على وجه التصويب لأنه معنى اعتباره من باب الموضوعية، ولا كلام فيه.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أن المعروف هو الإمكان، وهو الحق الذي ينبغي المصير إليه.
في وجوه استحالة التعبد بالظن وأجوبتها
لنا: عدم القبح في التعبد بالظن على الوجه المذكور حتى مع تمكن المكلف من تحصيل نفس الواقع على ما هو عليه، لأن غاية ما يتصور منشأ للقبح أحد أمور على سبيل منع الخلو، والذي يقتضيه النظر عدم صلاحية شيء منها لذلك.
توضيح توهم قبح التعبد به: أنه لا ريب في أن الظن ليس مصادفا للواقع دائما، وإلا لم يكن ظنا فحينئذ إذا تعبدنا الشارع به والسلوك على طبقه على
353

الإطلاق - كما هو المفروض - يلزم فيه فيما إذا خالف الواقع أحد أمور ثلاثة - لا محالة - إن لم يلزم كلها:
أحدها: نقض غرضه من التكليف الواقعي الموجود في محله الذي أدى هو إلى نفيه وتفويت العمل على طبقه، فإن الغرض منه: إما إيجاد خصوص الفعل، فالمفروض تفويته بترخيصه العمل بما أدى إلى عدمه، وإما وصول مصلحة إلى المكلف، فالمفروض - أيضا - تفويتها عليه.
وثانيها: تفويت مصلحة الواقع على المكلف، كما إذا كان الفعل في الواقع واجبا أو مندوبا، وأدى الظن إلى إباحته أو كراهته أو حرمته أو إيقاعه في مفسدة الواقع، كما إذا كان الفعل واقعا حراما، وأدى الطريق إلى إباحته أو وجوبه أو استحبابه، وكلاهما خلاف اللطف، فيكونان قبيحين، والنسبة بينهما وبين الأمر الأول هو العموم من وجه، إذ قد (لا) يكون الغرض خصوص إيجاد الفعل، بل يكون الغرض إيصال المكلف إلى مصلحته () أو صونه عن مفسدته.
وثالثها: التناقض: فإنه إذا كان الظن مخالفا للواقع فيجتمع في مورده حكمان متناقضان: أحدهما مؤدى الظن، والآخر مؤدى الخطاب الواقعي، من غير فرق في ذلك بين أن يكون مؤدى الظن هو الوجوب، مع كون الحكم الواقعي هو الحرمة، أو العكس، وبين أن يكون مؤداه الإباحة أو الاستحباب، مع كون الحكم الواقعي هو الحرمة، أو العكس، لأن الأحكام الخمسة بأسرها متناقضة، يمتنع اجتماع اثنين منها في مورد واحد ولو مع تعدد الجهة، كما هو الحال في المقام، نظرا إلى أن الحكم الظاهري في محل الفرض إنما جاء من جهة قيام الظن فيه
354

عليه.
هذا، وتوضيح الدفع: أن الذي يتعبده الشارع بالظن: إما ممن انسد عليه باب الوصول إلى الواقع: إما بانسداد باب العلم عليه من أصله، وإما يكون عليه جهلا مركبا مخالفا للواقع مطلقا، مع تمكنه من تحصيل ذلك العلم.
وإما ممن انفتح له باب الوصول إليه بالعلم في الجملة، بمعنى أنه يتمكن من تحصيل العلم به مع عدم كون علمه جهلا مركبا مطلقا في جميع الموارد، وعلى الثاني إما أن يكون علمه الذي تمكن من تحصيله أغلب مطابقة للواقع على تقديره من الظن المفروض، أو مساويا له في المصادفة له وعدمها، أو أن الظن أغلب مصادفة منه.
فعلى الأول: لا يعقل منعه من العمل بالظن مع عدم تمكنه من العلم أصلا، لاستقلال العقل بحجيته حينئذ، لانحصار الطريق فيه، ومع تمكنه منه - أيضا - يجوز أمره بالعمل بالظن، بل يجب، نظرا إلى قاعدة اللطف لفرض كون علمه على تقديره مخالفا للواقع مطلقا، بخلاف ظنه، فإنه يؤدي إليه كثيرا بالفرد، ولا أظن المنكر ينكر التعبد به في هاتين الصورتين.
وأما على الثاني: فجواز التعبد به على الشق الثاني منه في غاية الوضوح أيضا، لأن فوت الغرض والوقوع في المفسدة أو فوت المصلحة، كلها لازمة على تقدير العمل بالعلم - أيضا - على مقدار صورة عمله بالظن، فلا يلزم من التعبد به أزيد مما يلزم منها على تقدير عدم التعبد به.
ومنه يظهر: جوازه في الشق الثالث - أيضا - بل هو فيه أولى، كما لا يخفى، بل لعل التعبد بالظن فيه متعين، نظرا إلى قاعدة اللطف، لغرض إدراك الواقع فيه معه أكثر منه على تقدير العمل بالعلم، وإن كان هو على تقدير حصوله لا يعقل المنع من العمل به، لكن الكلام إنما هو قبل حصوله، والظاهر أن المنكر غير منكر للتعبد به في هاتين الصورتين أيضا، وأما على الشق الأول
355

منه كما هو الظاهر في كونه موردا للإنكار، فإن كان التعبد به على تقديره لمجرد مصلحة الطريقية والوصول إلى الواقع، فيمتنع للزم نقض الغرض وتفويت المصلحة والإيقاع في المفسدة، فلا شيء يجبرها، لكن يمكن أن يكون هناك مصلحة أخرى مقتضية للتعبد به غير مصلحة الطريقية جابرة لها غير منافية لاعتبار الظن من باب الطريقية، ويكفي كونها مجرد التسهيل على ذلك المكلف أو على نوع المكلفين، لكن على الثاني لا بد من جبر الشارع تفويت المصلحة أو الوقوع في المفسدة إذا أدى العمل بالظن إليهما لذلك المكلف تسهيلا ()، لأن وجود مصلحة التسهيل في حق غيره لا يصحح تفويت مصلحة الواقع عليه، أو إيقاعه في مفسدته، بل هو مخالف للطف من غير ما يقتضي جواز تركه في حقه، مع إمكان أن يقال بعدم وجوب تداركها في حقه، نظرا إلى أن قاعدة اللطف لا تقتضي إيصال جميع التكاليف والخطابات الواقعية إلى المكلف بحيث لا يفوته شيء منها وإنما يقتضي صدور الخطابات على طبق المصالح والمفاسد وإبلاغها إلى المكلفين على مجاري العادات، ولا يجب أن يقرعها بأسماعهم، فإذا لم يجب إبلاغها كذلك فلا يقبح إخفاء بعضها - بواسطة ترخيصه العمل بالظن - على المكلف () فتأمل.
ويمكن أن تكون هي مصلحة الانقياد، فإنها على تقدير مخالفة الظن للواقع حاصلة لا محالة، فيتدارك بها مفسدة الواقع أو فوت مصلحته، وكل من هاتين - أعني مصلحتي التسهيل والانقياد - على تقديرها قائمة بنفس الأمر بالسلوك على طبق الظن، وحاصلة بالأمر كما لا يخفى، وليست قائمة بنفس السلوك، فلا يرد على شيء منهما شيء من الأسئلة الآتية.
356

ويمكن أن تكون هي مصلحة قائمة بنفس السلوك على طبقه، بأن يكون في السلوك - على مقتضاه وجعل المكلف - بالفتح - إما طريقا () إلى أحكامه الواقعية الصادرة من الشارع في حقه والتدين بمقتضاه في مرحلة الظاهر - مصلحة اقتضت أمر الشارع بالعمل به والسلوك على طبقه كذلك، كأن يكون العمل بقول العادل من جهة كونه احتراما وإعظاما له ذا مصلحة ومحبوبا للشارع اقتضت هي أمره بالعمل بالسلوك على مقتضاه ما لم ينكشف خلافه فتكون هذه المصلحة جابرة لفوت مصلحة الواقع. أو الوقوع في مفسدته على تقدير أداء العمل به إليهما.
وقد يستشكل في ذلك: بأنه مع فرض قيام المصلحة - المصححة للأمر بالسلوك على طبق الظن - بنفس السلوك لا محيص عن التزام التصويب وتبدل الواقع إلى مؤدى الظن، فإن السلوك على طبقه عنوان متحد في الخارج مع ترك الواجب أو فعل الحرام غير ممتاز عنه بوجه، فيلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد شخصي، وهو موارد الاجتماع الذي هو مورد مخالفة الظن للواقع، فلا بد من الكسر والانكسار فيما بينهما، فحينئذ إما أن يغلب مصلحة السلوك على تلك المفسدة أو تغلب هي عليها. لا سبيل إلى الثاني بوجه، إذ معه يقبح الأمر بالسلوك على طبق الظن، لأن المصلحة المعلومة غير قابلة لتدارك المفسدة الغالبة عليها، فتعين الأول، وعليه لا يقتضي تلك المفسدة ما كانت تقتضيه لو لا اتحاد مورده مع عنوان السلوك، لأن المفسدة المعلومة لا أثر لها فعلا، وإنما تؤثر مع عدم مزاحمة ما يغلب عليها.
وإن شئت قلت: إن المفسدة المتداركة كالمعدومة فلا تقتضي ما يقتضيه
357

[سواها] () من النهي فيكون الحكم الفعلي لمورد الاجتماع واقعا هو مؤدى الظن خاصة فيكون الحرام الواقعي المتحد معه () كالكذب المتحد مع عنوان حفظ النفس حلالا واقعا، وهل هذا إلا التصويب؟ ويمكن الجواب عنه بوجهين:
أحدهما: أن سلوك الطريق الذي هو المشتمل على تلك المصلحة ليست عبارة عن الحركات والسكنات بالجوارح المتحدة مع الحرام الواقعي، وإنما هو عبارة عن التدين بمؤداه وإيجاد مقتضاه تدينا () في مرحلة الظاهر، وعمل الجوارح من الحركات والسكنات متأخر عنه ويتفرع عليه، كما لا يخفى، فهو عنوان مغاير لعنوان الحرام الواقعي ذهنا وخارجا - أيضا - لأن التدين في الخارج إنما يحصل قبل العمل، والعمل يحصل بعد تحققه ويتفرع عليه، فلا اتحاد بين العنوانين أصلا، حتى يقال: إنه يلزم التصويب.
وثانيهما: أنا نلتزم بكون مورد تلك المصلحة هو سلوك الطريق على () العمل على طبقه بالجوارح، الذي هو متحد مع الحرام الواقعي، ومع ذلك نمنع من استلزامه التصويب.
توضيحه: أنه لا شبهة في عدم المنافاة بين ذاتي المصلحة والمفسدة حتى في موارد كسر إحداهما للأخرى، كما في الكذب النافع، لأن معنى الكسر ليس هو إزالة الغالبة منهما لذات المغلوبة، بل معناه اختصاص الغالبة منهما بمقتضاها فعلا في موارد الاجتماع وبقاء الأخرى فيه بلا أثر، وإنما المنافاة على
358

تقديرها إنما هي بين () مقتضاهما وآثارهما، فلا بد - حينئذ - من ملاحظة أن بين مقتضاهما تناف، حتى يختص إحداهما بمقتضاها، أو لا، فيترتب على كليهما مقتضاهما، فنقول: إن مقتضاهما في مورد البحث إنما هو الطلب، فإن مقتضى المفسدة إنما هو طلب الترك، ومقتضى المصلحة هو طلب الفعل، وهما أعني الأمر والنهي إنما يتنافيان () ويمنع اجتماعهما في مورد واحد إذا كان موضوع كل منهما في عرض موضوع الآخر وفي مرتبته، فهناك إنما هو مورد كسر مقتضى أحدهما لمقتضى الآخر، كما في الكذب النافع، وأما إذا كان موضوع أحدهما في طول موضوع الآخر فلا، ولو منع فرض اتحاد الموضوعين في الخارج، وما نحن فيه من قبيل القسم الثاني، لأن مقتضى مصلحة سلوك الطريق هو الأمر بسلوك الطريق والعمل بمؤداه على أنه (هو) () الواقع، لا على أنه حكم آخر وراء الواقع ومن المعلوم أن الأخذ بمؤداه والعمل به كذلك إنما هو بعد الفراغ عن الحكم الواقعي الذي هو مقتضى المفسدة المفروضة.
وبعبارة أخرى: إن الكلام في نصب الشارع للطريق الظني طريقا إلى أحكامه الصادرة منه، وفي أمره بتشخيص تلك الأحكام منه بعد فراغه عن جعل تلك الأحكام وتوجيه الخطابات بحسب ما يقتضيها من المصالح
والمفاسد، فعالم أمره بسلوك الطريق مغاير لعالم الخطابات الواقعية، ومتأخر عنه بحسب الجعل، بل موضوعه لا يتحقق إلا بفرض صدور تلك الخطابات قبله، لأن موضوعه هو العمل بالظن بعنوان كونه طريقا إلى واقع مجعول مشترك بين العالم والجاهل، فيتوقف تحققه على صدور حكم مشترك كذلك قبله.
والحاصل: أن الكسر والانكسار بين المصلحة والمفسدة المجتمعين في مورد
359

واحد مختصان بما إذا تنافي مقتضاهما وتناقضا، وأما فيما لا يتناقضان فلا مانع من تأثير كل منهما على مقتضاه، ومورد التنافي بين مقتضاهما إنما هو ما إذا كان مقتضى كل منهما في مرتبة الآخر، وأما كون أحدهما متفرعا على الآخر ومتأخرا عنه فلا، كما هو الحال في المقام، إذا المفروض كون المصلحة على نحو يقتضي وجوب العمل على طبق الظن بعنوان أن مؤداه هو الواقع وحاك عنه، لا وجوب العمل على طبقه بعنوان آخر في عرض الواقع غير ناظر إليه بوجه، فهي غير منافية للمفسدة المفروضة في المورد الثابتة للفعل بعنوانه الخاص، لا بذاتها ولا بمقتضاها.
وسيأتي تمام الكلام في دفع التنافي بين مقتضاهما في دفع إشكال التناقض الذي هو أحد الأمور التي يتوهم كونها مانعة من اعتبار الظن والتعبد به.
وإن شئت قلت: إنا فرضنا وجود مصلحة في نفس السلوك على طبق الظن لا ينافي طريقيته اقتضت هي الأمر به، فحينئذ دعوى منافاتها للمفسدة الواقعية التي أدى الظن إلى خلاف مقتضاها [غير تامة]، لأن منافاتها لها راجعة إلى موضوعية الظن كما لا يخفى.
فالأوفق بقاعدة المناظرة: إنما هو دعوى امتناع مثل هذه المصلحة، وعلى تقديرها نطالب مدعيها بدليل الامتناع وانى له ذلك.
وكيف كان، فالأوجه هو الوجه الأخير، أعني كون الداعي للأمر بسلوك الظن هي المصلحة القائمة بنفس السلوك، بل هذا هو المتعين، لأنه على تقدير كونها قائمة بالأمر دون نفسه، يكون ذلك الأمر نظير الأوامر الابتدائية طلبا صوريا، فلا يفيد للعالم بكونه كذلك شيئا، بل يكون وجوده كعدمه من حيث كونه قاطعا لقاعدتي البراءة والاشتغال في مواردهما، بل العبرة في مواردهما عليها مع قيام الظن المأمور بسلوكه كذلك على خلافهما - أيضا - لأن المعذورية على مخالفة الواقع في مورد الاشتغال وعدمها فيها في مورد البراءة، إنما يلزمان الطلب
360

الحقيقي، إذ معه يكون الظن قاطعا لهما، فمع كونه صوريا لا يلزم منه ذلك أصلا كما لا يخفى.
ثم إن فرض مصلحة في السلوك أو في الأمر به، وبعبارة أخرى: فرض تدارك الشارع لفوت مصلحة الواقع أو الوقوع في مفسدته المستندين إلى أمره بالعمل بالظن سواء كان تداركه إياها بمصلحة نفس السلوك أو بمصلحة خارجية أو تفصيل فيه، إنما يرفع المانع من التعبد بالظن من جهة محذوري نقض الغرض وتفويت الواقع على المكلف أو إيقاعه في مفسدته، لكن لا يرفع شبهة التناقض بين الحكمين في مورد مخالفة الظن للواقع مع أنه لا ينفع في رفع () أول هذين، وهو نقض الغرض على تقدير كون الغرض في مورد متعلقا بخصوص فعل شيء مع أداء الظن إلى خلافه، وإنما ينفع فيما إذا كان الغرض أعم، بأن يكون مطلق إيصال النفع إلى المكلف ولو بغير مصلحة الفعل الذي أدى الظن إلى مطلوبية غيره، لكن لما تبين () تعلق غرض الشارع في جميع الواجبات بإيقاع نفسها، ويحتمل كونه أعم ولو بالنسبة إلى بعضها، لصح () الجواب به عن مدعي امتناع التعبد بالظن من جهة استلزامه لنقض الغرض، فإن الظاهر أنه مدع للسلب الكلي، فيكفي في مقابلة الإيجاب الجزئي، مع أنه يحتمل أن يكون الغرض في الجميع أعم.
وكيف كان، فيكفي قيام احتماله في بعضها نقضا.
والحاصل: أنه يمكن أن يكون مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع أو مفسدته مع كون الغرض أعم من خصوص إيقاع الفعل الواجب واقعا، فلا يرد
361

شيء من المحذورين المذكورين مطلقا.
وأما شبهة التناقض بين الحكمين والتنافي بينهما فأوجه وجوه الذب عنها أنه لا يلزم الاجتماع في غير الصورة التي يكون العلم أغلب مطابقة فيها من الظن أصلا، لأن الظن في غير تلك الصورة حجة بنفسه بحكم العقل.
وبعبارة أخرى: إنه إذا كان التقدير تقدير مساواة الظن للعلم في المصادفة، فضلا عن أغلبيته مطابقة من العلم، فالعقل يحكم بحجية الظن في ذلك التقدير، ويقبح عنده المنع من العمل به، فيكون كالعلم حال حصوله طريقا منجعلا غير محتاج إلى جعل أصلا، فلو فرض أمر الشارع بالعمل به في هذا التقدير لكان إرشاديا محضا، إذ لا يترتب عليه وجوده أزيد مما كان يترتب على صورة عدمه وعدم اطلاع المكلف بكون التقدير هذا التقدير لا يصير ذلك الأمر شرعيا، فإن العقل إنما يستقل بحجية الظن فيه من غير تقييده بعلم المكلف به، فلعل المكلف قد يعتقد كون التقدير غيره، لكنه لا يغير الواقع حتى يكون الأمر المذكور شرعيا.
وبالجملة: حكم العقل بحجية الظن في هذا التقدير نظير حكمه بقبح الظلم معلق على موضوع عام سار في جميع مصاديق الموضوع الواقعية ولو مع عدم علم المكلف في () مورد بكونه من مصاديقه، بل ومع قطعه بعدم مصداقيته له - أيضا - فليس في تلك الصورة حكم آخر وراء الحكم المجعول واقعا، حتى يجتمع حكمان شرعيان متنافيان في مورد.
وأما في الصورة المذكورة - أعني صورة أغلبية مصادفة العلم للواقع من الظن المفروض - فاعتبار الظن فيها وإن كان منوطا بأمر الشارع، فيلزم من اعتباره فيها اجتماع حكمين في مورد واحد إذا أدى الظن إلى خلاف الواقع،
362

لكن امتناع اجتماع حكمين مطلقا ممنوع، بل الذي يقتضيه التحقيق والتعميق جوازه في المقام، نظرا إلى عدم كون الحكمين المذكورين كليهما في مرتبة واحدة، كما أشرنا إليه.
وتوضيحه: أن التنافي بين الأمر والنهي في فرض اجتماعهما في مورد واحد في المقام الذي هو أوضح صور توهم التنافي بين الحكمين إما من جهة أنفسهما، وإما من جهة ما يلزمهما.
لا سبيل إلى الأول مطلقا حتى فيما إذا كانا في مرتبة واحدة، فإن نفس الإنشاءين لا تنافي بينهما بالضرورة.
وعلى الثاني: إما أن يكون التنافي بالنظر إلى ما يلزمهما من المكلف - بالفتح - وإما بالنظر إلى ما يلزمهما من المكلف - بالكسر - لا سبيل إلى أول هذين - أيضا - في المقام، إذ المفروض كون المكلف - بالفتح - معذورا في أحد الطلبين، وهو الطلب الواقعي الذي أدى الظن إلى خلافه، ومعه لا يصح توجيه الطلب المخالف لذلك الطلب إليه وتنجزه عليه فعلا، فإن جهة المنع بالنظر إليه منحصرة في لزوم التكليف بما لا يطاق وهو مندفع باختلاف الطلبين بالنسبة إليه من حيث الشأنية والفعلية.
فانحصر جهة التنافي والمنع فيما يلزمهما من المكلف بالكسر، وغاية ما يتصور أن يقال من المانع من جهته () هي: أن الأمر ملزوم للإرادة، وهي الشوق النفسي المؤكد، والنهي ملزوم للكراهة، وهي البغض النفسي
كذلك، فيمتنع اجتماعهما في مورد واحد، لاستلزام اجتماعهما فيه اجتماع الحب والبغض المتنافيين.
وأوجه ما يدفعه أن غاية ما يلزم في مقام الأمر والنهي إنما هي وجود
363

المقتضي للحب والبغض من المصلحة والمفسدة، وأما فعلية الحب والبغض - أيضا - فغير لازمة جدا.
وبعبارة أخرى: الذي يوجب الإيجاب والتحريم إنما هو وجود ذات المصلحة والمفسدة من غير توقف على تأثيرهما في الحب والبغض الفعليين - أيضا - فربما تؤثران في الأمر والنهي، ولا تؤثران في الحب والبغض معا، بل تؤثر إحداهما في أحدهما () لأجل مانع من تأثير الأخرى في الآخر كاتحاد موردهما، أي مورد الحب والبغض كما في المقام.
وبعبارة ثالثة أوضح: أن الأمر والنهي ليسا معلولين للحب والبغض بأن يكون المؤثر فيهما هما، ويكون المؤثر في ذينك المصلحة والمفسدة فيتوقف صدورهما على تأثير المصلحة والمفسدة في ذينك لذلك، إذ عليه يلزم من صدورهما بدون تحقق الحب والبغض وجودهما بدون العلة الموجدة لهما، ولا مشاركين معهما () في العلة - أيضا - حتى يكون انتفاؤهما أو انتفاء أحدهما ملازما لانتفاء أحدهما أو كليهما، بل هما بالنسبة إليهما من قبيل أمرين مشتركين في المقتضي لهما، المتوقف تأثيره في أي واحد منهما على عدم مانع من تأثيره فيه، فكل واحد من المصلحة والمفسدة يتوقف - في تأثيره الحب أو الأمر أو البغض أو النهي - على عدم مانع في المورد من تأثيرهما، فربما يوجد مانع من تأثيرهما في الحب والبغض دون المانع من تأثيرهما في الأمر والنهي، ولما لم يكن تناف بين نفس الأمر والنهي مطلقا فالمفروض () انتفاء التنافي بينهما - في المقام - من جهة اللوازم - أيضا - نظرا إلى أن الحب والبغض وإن كانا متنافيين لكنهما ليسا ملازمين لهما، وأن التنافي بينهما بالنظر إلى المكلف قد مر عدمه فيما نحن فيه بالاختلاف بينهما
364

من حيث الشأنية والفعلية.
مضافا إلى ما مر من ثبوت الاختلاف في عالم جعلها من أن الحكم الظاهري الذي جاء من جهة الأمر بسلوك الظن على أنه الواقع، وأنه حاك عنه، ومن المعلوم أن ذلك لا يكون إلا بعد الفراغ عن جعل الحكم الواقعي، فلا مانع في المقام من تأثير المصلحة والمفسدة كلتيهما في كليهما معا فعلا، فيؤثران فيهما كذلك.
وأما الحب والبغض لما كانا متنافيين، والمفروض اتحاد موردهما، فيمتنع تأثيرهما في كليهما فعلا، بل لا بد من اختصاص أحد ما بأحد ما مع المرجح، ومع فقده يمتنع تأثير شيء منهما في شيء منهما، ولا يلزم - من عدم فعلية تأثير المفسدة الواقعية أو مصلحتها في الحب والبغض - تصويب أصلا، لفرض فعلية تأثيرهما في الأمر والنهي، والتخطئة. والتصويب يدوران مدار ثبوتهما واقعا لغير العالم أو عدم ثبوتهما كذلك، لا على ثبوت الحب والبغض على حسب ما يقتضيه المصلحة والمفسدة الواقعيتان.
ثم إن الترجيح ثابت لجهة الحكم الظاهري على تقديره لأن المفروض أن الشارع إنما تعبد بمؤدى الظن لمصلحة اقتضت هي أمر المكلف مع تمكنه من دفع مفسدة الواقع بالعمل على مقتضى الظن، المفروض تأديته إلى الوقوع فيها، واقتضت جعل المكلف معذورا في مخالفة التكليف الواقعي المستندة إلى عمله بالظن بعد ما لم يكن معذورا فيها بحكم العقل قبل أمر الشارع بالعمل به، واقتضاء تلك المصلحة لذلك إنما يكون على تقدير غلبتها على مفسدة الواقع ورجحانها عليها، فتكون مؤثرة فعلا في محبوبية الفعل المحرم واقعا، فهو في حال قيام الظن على وجوبه - مثلا - مع عدم تبين خطئه ليس إلا محبوبا.
وكيف كان فقد ظهر مما حققنا دفع الوجهين المحكيين عن مدعي امتناع التعبد بالظن من استلزامه لجواز التعبد به في الإخبار عن الله تعالى ومن
365

استلزامه لتحليل الحرام وتحريم الحلال.
وتوضيح الجواب عنهما: أن الكلام في إمكان التعبد به، ونحن نسلم أن إمكانه مستلزم لإمكان التعبد به في الأخبار عن الله تعالى لكن لا دليل على بطلان اللازم وامتناعه، وإنما الدليل على عدم وقوعه، وكذا نسلم استلزامه لتحليل الحرام ولعكسه، لكن لا محذور فيه بعد فرض قيام مصلحة اقتضت، كما في موارد () الشبهات البدوية من غير قيام ظن فيها على حليتها أصلا لما قد عرفت من أن الوجوه المتصورة التي ربما يتوهم كونها مانعة منه لا ينهض للمنع.
هذا خلاصة الكلام في المقام.
وينبغي التنبيه على أمور:
أحدها:
أن التعبد بالظن على تقدير وقوعه بمعنى الأمر بالسلوك على طبقه بمنزلة خطابات جزئية متعددة بحسب تعدد موارد قيام الظن المتعبد به فإذا قام هو على وجوب امر أو أمور وعلى حرمة أمور وعلى إباحة ثالثة وعلى كراهة رابعة وعلى استحباب خامسة فيجب في مرحلة الظاهر الإتيان بالأولى وترك الثانية ويجوز كلا طرفي الفعل والترك في الثالثة ويرجح الترك في الرابعة والفعل في الخامسة بمقتضى ذلك الأمر الواحد المتعلق بالسلوك على طبق الظن لأن السلوك على طبقه عنوان كلي يختلف مصاديقه باختلاف مؤدى الظن في الموارد الخاصة فإن السلوك على طبقه في الأولى إنما يتحقق بالالتزام بالفعل [و] في الثانية إنما يتحقق بالالتزام بالترك وفي الثالثة بعدم الالتزام بشيء منهما () وعدم ترجيح أحدهما على الآخر وفي الرابعة بترجيح الترك ترجيحا غير لازم وفي الخامسة بعكس ذلك واما صدور خطابات خاصة أيضا في مرحلة الظاهر مماثلة
366

لمؤدى الظن في الموارد فغير لازم جدا لأن ذلك الخطاب العام يغني عنها لإفادة ما يفيده هي فهي على تقديرها مؤكدة له.
وثانيها
ان الأمر بالسلوك على طبق الظن شرعي لا إرشادي كما لعله ربما يتوهم على بعض الإفهام القاصرة في بادئ النظر نظرا إلى دوران استحقاق العقاب مدار مخالفة التكليف الواقعي لا على مخالفته فيتوهم منه ان ذلك الأمر لم يأت بشيء جديد بل يكون وجوده كعدمه فيكون إرشاديا.
ويدفعه ان مجرد عدم العقاب على مخالفته من حيث هي مخالفة لا يلازم كونه إرشاديا والا لا تنقض بالأمر بمقدمة الواجب على القول بوجوبها شرعا إذ على تقدير وجوبها كذلك لا عقاب عليها نفسها اتفاقا والآثار لا تنحصر في العقاب حتى يلزم من انتفائه عنه انتفاء الأمر عنه رأسا فيكون وجوده كعدمه فان معذورية المكلف في مخالفة المواقع المنجز عليه في مورد الاشتغال لو لا قيام الظن على خلافها، وعدم معذوريته في الواقع الغير المنجز عليه في مورد البراءة لو لا قيامه على خلافها من آثار ذلك الأمر فإن المعذورية وعدمها في المقامين أثران جديدان ناشئان منه فكيف يقال لأن وجوده وعدمه سواء.
وان شئت قلت إن انتفاء استحقاق العقاب () على مخالفة التكليف الواقعي في المقام الأول وإثباته عليها في الثاني من آثاره وان لم يكن العقاب على تقديره في الثاني على مخالفة نفسه.
ثم ان مخالفة الظن المعتبر قد يلاحظ بالنسبة إلى العمل بالجوارح وقد يلاحظ بالنظر إلى الالتزام به في مقام الظاهر والتدين به كذلك فهي على الأول مخالفة عملية له، وعلى الثاني مخالفة التزامية وهي على الأول ملازمة لعنوان التجري مطلقا ولمخالفة الواقع إذا كان الظن المفروض مصادفا للواقع. لا شبهة
367

في استحقاق العقاب عليها أي على مخالفة الظن المذكور من حيث العمل من جهة مخالفة الواقع بمعنى أنه إذا كان متضمنا لتكليف في مورد مع مصادفته للواقع فترك الواقع المكلف العمل به فهو مستحق للعقاب على مخالفة التكليف الواقعي اللازمة في ذلك المورد فإنه منجز للواقع عليه لا محالة.
واما استحقاق العقاب عليها من جهة التجري فهو مبني على حرمة التجري كما قويناها في محلها.
واما استحقاقه عليها من حيث هي مع قطع النظر عن تلك () الجهتين فالظاهر عدمه كما أشرنا إليه لأن لزوم العمل على طبق الظن وان كان طلبا شرعيا لكنه مقدمي بالنظر إلى الواقع فان العمل على طبقه من مقولة المقدمات العلمية لتحصيل العمل بالواقع لأن الكلام في الظن المعتبر بعنوان الطريقية المحضة، ومن المعلوم انه لم يؤمر بالعمل لأجل كون العمل به أحد الواجبات الواقعية وفي عرضها فإنه آئل إلى موضوعيته بل إنما أمر به بعنوان كونه طريقا إلى الواقع فوجوب العمل بمتعلقه انما هو بعنوان انه الواقع بمقتضى حكم الشارع وتعبده بطريقية الظن فإذا لم يكن وجوب في الواقع فلا يقتضي ذلك الوجوب الظاهري الحاكي عن الواقع العقاب جدا فهو من هذه الجهة كالطرق العقلية لا يترتب عليه إلا أثر مخالفة الواقع وأما (1) مخالفته من حيث التدين والالتزام فظاهر بعض الأدلة الدالة على اعتبار بعض الأقسام كخبر العادل مما يتضمن الأمر بتصديقه والنهي عن الشك فيه كقوله عليه السلام: لا يحل لأحد

(1) وتظهر الثمرة فيما إذا عمل بذلك الظن لا عن تدين به، بمعنى أنه أوقع العمل على طبقه من غير استناد إليه وأن مؤداه دين له في الظاهر، فبنفي وجوب التدين لعبا مستحق العقاب من جهة تركه إياه في الفرض المذكور وعلى عدم وجوبه كذلك فلا شيء عليه حينئذ من جهته، لمحرره عفا الله عنه.
الحاشية من نسخة «أ».
368

أن يشك فيما يروي عنا ثقاتنا، حرمتها واستحقاق العقاب عليها في ذلك القسم الذي دلت تلك الطائفة من الأدلة على اعتبار فان الأمر بالتصديق والنهي عن التشكيك في خبر العادل الثقة ظاهران في وجوب التدين بما يروي نفسا فمقتضاهما ترتب العقاب على ترك التدين به واما حرمة مخالفة الظن المعتبر مطلقا من حيث التدين فلم يقم دليل عليها.
اللهم الا ان يتمسك بظهور الاتفاق على عدم الفرق بين أقسام الظنون المعتبرة من هذه الجهة بعد إثبات الحرمة في القسم المذكور بما مر.
نعم الظنون المعتبرة في تشخيص الموضوعات الخارجية والحقوق لا يجب التدين بمؤداها قطعا بل لا يعقل التدين بها كما لا يخفى لأن مؤداها ليس حكما شرعيا حتى يتعبد بكونه دينا وانما هي من الأمور الخارجية.
وكيف كان فليس الكلام في المقام فيها وانما هو في الظنون القائمة على الأحكام الكلية والظاهر ثبوت الاتفاق المذكور فيها على نفي الفرق من الجهة المذكورة.
لكن الإنصاف أن الأخذ بظاهر ما مر وهو وجوب التدين نفسا مشكل جدا إذ لم يعهد من أحد - ممن يعلم - القول به وعد التدين بالظنون المعتبرة ولو في الجملة من الواجبات مع ان ما دل عليه من الأخبار قد قرع سمع كل أحد.
وربما ينكر بأنه على تقديره مستلزم لاعتبار الظن من باب الموضوعية ومن المعلوم ان الظنون المعتبرة في باب الأحكام الكلية معتبرة من باب الطريقية وهو ينافي وجوب التدين بها نفسا.
لكنه مدفوع بان الثابت بأدلة اعتبار تلك الظنون انما هو اعتبارها من باب الطريقية بالنسبة إلى مؤدياتها وكذا المراد من اعتبارها من باب الطريقية.
وبعبارة أخرى المراد انما هو جعل الشارع مؤدياتها مرآة حاكية عن الواقع لا أحكاما مستقلة منفردة عنها وفي عرضها حتى يلزم اعتبارها من باب
369

الموضوعية بالنسبة إلى تلك الأحكام التي أدت هي إليها فيلزم التصويب.
واما وجوب التدين بها فهو ليس من مؤدياتها بل انما هو مؤدى لبعض الأدلة الدالة على اعتبارها كما عرفت فكونها معتبرة موضوعا لذلك الحكم لا ينافي اعتبارها من باب الطريقية المحضة بالنسبة إلى مؤدياتها بل مثبت له لأن وجوب التدين بمؤدى طريق ظني مستلزم لجعل مؤداه طريقا إلى الواقع ومثبتا له من غير فرق بين ان يكون وجوب التدين نفسيا أو غيريا فالتحقيق في وجه الإنكار هو الذي ذكرنا.
ثم إنه بعد فرض تعذر حمل ما دل على وجوب التدين نفسا عليه يتعين حمله على أحد وجوه ثلاثة على سبيل منع الجمع والخلو.
أحدها: أن يكون ذلك الدليل مستقلا () في وجوب التدين لكن على سبيل الكناية بأن يكون الغرض منه الانتقال إلى وجوب العمل بالجوارح على طبق الظن.
وثانيها: أن يكون مستقلا () فيه لكن يكون الغرض منه الإرشاد بان يكون طلب التدين إرشاديا قد قصد به التنبيه على عدم معذورية المكلف إذا عمل على طبق الظن فصادف الحرام الواقعي من غير تدينه بمؤدى ذلك الظن أدى () إلى خلاف الحرمة إذ لا يبعد استحقاق العقاب على ذلك الحرام إذا كان موافقا للأصل مع قطع النظر عن الظن بخلافه مع عدم التدين بذلك الظن المخالف له وكذا إذا كان موافقا لدليل محكوم لذلك الظن بان يكون هو بحيث لو لا اعتبار هذا الظن لكان حجة في إثبات الحرام في الظاهر.
وبعبارة أوضح الظاهر ثبوت استحقاق العقاب عقلا على حرام واقعي
370

قد قامت حجة عليه من أصل أو دليل لو لا ذلك الظن الذي أدى إلى خلافها إذا لم يكن ارتكابه استنادا إلى ذلك الظن إذ معه يكون استنادا إلى رخصة الشارع فيقبح العقاب عليه بخلاف ما إذا لم يستند إليه فإنه قد فعل الحرام من غير استناد إلى اذن الشارع.
وإن شئت قلت انه إذا لم يستند فيه إلى ذلك الظن فيكون متجريا، وقد مر في مسألة التجري انه إذا صادف الحرام الواقعي يستحق عليه العقاب وانما الكلام هناك في استحقاق العقاب عليه في صورة مخالفته () للواقع فيكون حاصل الوجه المذكور انه قد قصد بإيجاب التدين الإرشاد إلى طريق التخلص من هذا المحذور والأمن منه.
وثالثها:
أن يكون المراد به وجوب تنزيل الظن المفروض منزلة العلم في جميع آثاره حتى الآثار العقلية من الإطاعة والعصيان في مرحلة الظاهر ولازمه الحكم بفسق من ترك العمل على طبق ذلك الظن إذا تضمن تكليفا وترتيب آثار الفسق عليه في الظاهر إلى أن يكشف عدم التكليف واقعا كما هو الحال في جميع الظنون المعتبرة فإنه لو أدى ظن مجتهد إلى وجوب شيء فتركه أو إلى حرمته فارتكبه يجب على الغير الحكم بفسقه وترتيب آثاره عليه إلى أن يكشف خطأ ظنه، وكذا الحال فيمن قلدوه.
وثالثها (): لا إشكال في وجوب الإعادة وعدم الاجزاء - إذا انكشف خطاء الظن المعتبر مع بقاء زمان من الوقت المضروب للواجب يسع للإتيان به - لبقاء الأمر الأول الواقعي المقتضي للإتيان بمتعلقه على ما هو عليه
، وعدم جريان ما يأتي من توهم تدارك الواجب في هذا الموضع لأن التدارك إنما يجب
371

إذا استند ترك الواجب إلى العمل بالظن والأمر به وذلك لا يتحقق هنا لأن تركه على تقديره مستند إلى سوء اختيار المكلف لا إلى أمر الشارع بالعمل بالظن لفرض بقاء زمان من الوقت يسمع له إذ معه يكون فوته مستند إليه لا إلى الشارع.
وبعبارة أخرى ان المفروض انه عمل بالظن المؤدي إلى خلاف الواقع في أول الوقت فالمستند إليه إنما هو ترك الواجب الواقعي في جزء من الوقت ومن المعلوم أن تركه في جزء منه لا يستلزم فوته حتى يجب تداركه على الشارع فلا يجب عليه تداركه بتركه في ذلك الجزء المستند إليه فيكون الواجب باقيا على حاله وكذلك الأمر به فيجب الإتيان به.
نعم لو كان هناك بعض المصالح المتقومة بذلك الجزء من الوقت يجب تداركه لاستناد فوتها إلى الشارع كفضيلة إيقاع الواجب في أول الوقت لكنه غير فوت الواجب.
هذا كله على تقدير إتيان المكلف بالفعل بمقتضى الظن المفروض في أول الوقت.
وأما مع عدم إتيانه به كذلك أصلا فوجوب الإتيان بالواجب الحقيقي بعد انكشاف خطاء الظن في غاية الوضوح لأن تركه إياه في أول الوقت مستند إلى نفسه لا إلى العمل بالظن المفروض.
وأما وجوب القضاء إذا ظهر خطؤه بعد خروج الوقت مع عدم عمل المكلف على طبق الظن المفروض في الوقت لا ينبغي الإشكال فيه لأنه حينئذ قد ترك الواجب الواقعي بمشتهى نفسه فلا يجب على الشارع تداركه فيكون هو متروكا من غير تدارك له أصلا فيكون مصداقا للفوت على كلا الوجهين فيجب القضاء بمقتضى الأدلة القاضية به المعلقة على الفوت.
واما مع عمله على طبقه في الوقت فعلى القول بأن القضاء بالأمر الأول
372

أيضا لا إشكال في وجوبه لعين ما مر في الإعادة مع بقاء جزء من الوقت يسع لفعل الواجب.
وأما على القول المختار من أنه بأمر جديد فوجهان مبنيان على أن الفوت - المعلق عليه أدلة القضاء - هل هو مجرد ترك الفريضة في وقته حتى يجب في محل الكلام لصدقه عليه، أو أنه الترك الخاص وهو تركه فيه من غير شيء يتدارك () به ويقوم بغرضه ومصلحته فلا يجب لأن تركه في الوقت قد وقع مستندا إلى العمل بالظن المأمور به بسلوكه وقد مر أنه على هذا التقدير يجب على الشارع تداركه ومع تداركه لا يصدق عليه الفوت على هذا الوجه.
ويمكن أن يقال: إنه على الثاني - أعني كون الفوت عبارة عن الترك الغير المتدارك - أيضا [أن] القضاء فيما نحن فيه لا () لأن القضاء بالأمر بل لأنه يمكن أن يكون مصلحة الفريضة المتروكة مبعضة بأن يكون فيه مصلحة متقومة بالوقت لا تحصل إلا به وأخرى غير متقومة به بل تحصل في خارجه أيضا.
وبعبارة أخرى ان المأمور به بالأمر الأول وإن كان هو الفعل المقيد بإيقاعه في الوقت المضروب له لكن يمكن أن يكون لنفس المقيد أيضا مصلحة أخرى تحصل بغير خصوصية الوقت ومن المعلوم أنه إذا كان الحال في الفريضة كذلك فالواجب على الشارع إنما هو تدارك المصلحة المفوتة بالوقت لا جميع مصالحه لأنها هي التي استند تركها إلى أمر الشارع، وأما نفس المقيد فحيث إن المفروض إمكان تحصيل مصلحة في خارجه فيكون فوتها على تقديره مستندا إلى اختيار المكلف، إذ لا أمر بالعمل بالظن المفروض ظهور خطائه في خارج الوقت حتى يستند فوتها إليه فنفس المقيد غير متدارك فيكون مصداقا للفوت على
373

الوجه الثاني فيه أيضا فيشمله أدلة وجوب القضاء.
هذا لكن الإنصاف اندفاعه:
أما أولا (1) فبأن هذا الاحتمال بمجرده غير مجد، إذ لا بد في إثبات وجوب القضاء بالأدلة المعلقة على الفوت من إحراز صدق الفوت على المورد والعلم به وهذا لا يمكن الا بعد العلم بكونه مما لذات المقيد مصلحة تحصل في خارج الوقت ولا ينفع فيه احتمال كونه كذلك بوجه.
وأما ثانيا فبأن التقدير المذكور مع العلم به أيضا لا يدخل في تلك الأدلة المتضمنة للفظ القضاء فإنه ظاهر في تدارك الشيء الفائت ومن المعلوم أن الإتيان بنفس المقيد في خارج الوقت ليس تداركا لفائت بل إنما هو إتيان بنفس الواجب في محله كالإعادة.
والتحقيق أنه على تقدير كون الفوت عبارة عن الترك الخاص أيضا يشمل أدلة وجوب القضاء للمقام لا لما مر، بل لأن مصلحة سلوك الطريق الظني ليس من شأنها أزيد من تدارك الفريضة ما دام الجهل فمع ارتفاعه يبقى الفريضة متروكة بغير تدارك، وتدارك سلوك الطريق إياه نظير ما ورد من تدارك النافلة لنقص الفريضة مع أنه يجب القضاء بعد ظهور النقص فيها اتفاقا.
والسر فيه أن وصول تلك المصلحة حال الجهل بالواقع إلى المكلف ليس تداركا للواقع الفائت عليه حقيقة بل إنما هو من باب عدم خلو هذه عن منفعة

(1) يمكن دفع الجواب الأول بدعوى القطع بقيام مصلحة في نفس المقيد تحصل في الخارج من وجوب القضاء فيما إذا أخل بالواجب في الوقت رأسا بأنه لم يأت بمؤدى الطريق الظني فيه أيضا إذ لو لا ذلك لما صح إيجاب الشارع للقضاء حينئذ وليس إيجابه من باب كونه واجبا آخر في عرض الواجب الفائت بالضرورة بل إنما هو من باب تدارك فوته في الوقت وأنه ذلك الواجب.
ودفع الثاني بمنع ظهور لفظ القضاء فيما ادعى بل انما هو ظاهر عرفا ولغة في فعل الشيء الذي لم يفعله بعد ولم يثبت حقيقة شرعية فيه فيما مر. لمحرره عفي عنه.
374

في تلك الحال فإن التدارك حقيقة لا بد أن يكون بما يسانخ الفائت ويقوم بمصلحته الخاصة به بحيث لا يكون بينهما فرق إلا من جهة الوقت، ومن المعلوم أن سلوك الطريق المخالف للواقع مباين له وهو غير قائم بالمصلحة الخاصة جدا وإنما هو مشتمل على مصلحة أخرى غير تلك نظير النوافل.
ويوضح ذلك () أنه لو كان مجرد وصول مصلحة حال الجهل بالواقع المعذور فيه تداركا له لما كان يجب القضاء فيما إذا صلى نافلة فظهر أن فيما جعله من الفريضة خلل مع أن وجوبه هناك إجماعي وليس هو لدليل خاص عند المجمعين قطعا بل إنهم قالوا به بمقتضى أدلة القضاء.
وكيف كان لا فرق بين سلوك الطريق الظني المعتبر وبين النافلة من هذه الجهة بوجه قطعا فتأمل (1).
أقول: الظاهر أن فوت شيء عبارة عن ترك نفس ذلك الشيء وكذا لفظ القضاء عبارة عن إدراك ما تركه من قبل، فقوله عليه السلام من فاتته فريضة فليقض ما فات منزل على هذا المعنى لعدم اكتنافه بما يصرفه عنه فقوله عليه السلام من فاتته فريضة ظاهر في أن موضوع القضاء انما هو ترك نفس الفريضة مطلقا فيصدق مع تدارك مصلحته أيضا فقوله عليه السلام فليقض لا يقضي بخلافه لما عرفت فالقوي هو الوجه الأول من الوجهين المتقدمين وعليه لا حاجة إلى تلك التكلفات المتقدمة.

(1) وجه التأمل: أن مجرد ثبوت الاتحاد بين المقامين من تلك الجهة لا يلازم ثبوت القضاء في هذا المقام لاحتمال أن يكون ثبوته هناك لعدم ثبوت تدارك الفريضة بالنافلة لعدم نهوض ما دل عليه على إثباته أو لأجل قيام إجماع على خلافه فالاستدلال بالاتحاد انما يصح بعد ثبوت التدارك هناك مع وجوب القضاء وأما مع عدم ثبوت التدارك فلا اتحاد بينهما لأن عدم ثبوته هناك حينئذ وثبوته في المقام لعله لفارق بينهما فتأمل. لمحرره عفا الله عنه. حررت نسخة «أ» عشرين جمادى الأولى 1303.
375

وإن شئت قلت: إن المفروض إنما هو التعبد بالظن على وجه الطريقية المحضة وأن المصلحة المفروضة إنما هي على وجه اقتضت التعبد به كذلك فيكون الظن المعتبر شرعا - كالطرق العقلية - غير قابل للتصرف في مفسدة الواقع أو مصلحته فيكون العمل على طبقه مع فرض مخالفته للواقع وأدائه إلى ترك واجب كترك الواجب مع عدم العمل به رأسا من حيث عدم تصرفه في ذلك الواجب بوجه فيكون ذلك الواجب متروكا بمصلحته القائمة به، ومصلحة ذلك الطريق الشرعي أمر مباين لتلك المصلحة فلا تصلح لأن تقوم مقامها وانما هي قد وصلت إلى المكلف لئلا يخلو يده عن فائدة في تلك الحال فهي متروكة من غير شيء يقوم مقامها فيكون الواجب
المتروك مصداقا للفوت على كلا الوجهين فيه.
376

[في وقوع التعبد بالظن]
قوله: (فيقع الكلام في المقام الثاني في وقوع التعبد به في الأحكام الشرعية مطلقا أو في الجملة وقبل الخوض في ذلك لا بد من تأسيس الأصل الذي يكون عليه المعول عند عدم الدليل على وقوع التعبد بغير العلم مطلقا أو في الجملة) ()
توضيح الحال في المقام يتوقف على تمهيد مقال:
فاعلم أن الركون إلى الظن الذي لم يعلم التعبد به من الشارع: إما أن يكون من حيث عمل الجوارح، بأن يأتي بالفعل إذا تضمن هو وجوبه أو استحبابه من غير اعتناء باحتمال حرمة الفعل على تقدير قيام ذلك الاحتمال في مورده، أو يتركه إذا تضمن هو حرمته أو كراهته مثلا من غير اعتناء باحتمال وجوبه على تقدير قيام احتماله لكن من غير تدين وتعبد بكون مؤداه حكم الله الواقعي أو الظاهري.
وبعبارة أخرى إن العمل بالظن في الموارد الشرعية كعمله به في الأمور العادية التي يكتفي فيها بالظن ولا يعتني باحتمال مخالفته للواقع من غير ادعاء أن المظنون هو الواقع أو منزل شرعا مقامه، بل يكون بحيث إذا سئل عنه يقول أنه يحتمل أن لا يكون مجعولا من الله أصلا وأنه مظنون كونه كذلك.
وإما أن يكون من حيث تشخيص حكم الله تعالى به والتدين بمؤداه عمل على طبقه أو لم يعمل أصلا.
وهذا أيضا يتصور على وجهين:
أحدهما أن يتدين بمؤداه ويعتقد أنه حكم الله الواقعي من غير تدين
377

منه أن نفس الظن طريق مجعول من الله سبحانه وتعالى في تشخيص أحكامه، بل إنما تدين بمؤداه من باب عدم اعتنائه باحتمال مخالفته للواقع كعدم اعتنائه به في المقام الأول كما في الوجه الأول.
وثانيهما أن يتدين بمؤداه على أنه حكم الله الظاهري بأن يعتقد كون نفس ذلك الظن طريقا مجعولا منه تعالى في تشخيص أحكامه من حلاله وحرامه فلأجل ذلك يتدين بكون مؤداه حكما ظاهريا منه لكون ذلك متفرعا على الجعل والاعتبار.
إذا عرفت ذلك فنقول لا ينبغي الإشكال في جواز الركون إليه على الوجه الأول إذا لم يخالف طريقا أو أصلا يجب العمل بهما، لعدم المانع منه حينئذ بوجه لأن جهة الافتراء على الله والقول به بغير علم لفرض [عدم] ادعائه كونه طريقا مجعولا من الله تعالى ولا كون مؤداه حكما له تعالى ولا من جهة التشريع لفرض عدم تدينه بشيء ولا من جهة مخالفة الواقع لفرض معذوريته حينئذ فيها على تقديرها لأن التكليف الذي لم يقم عليه طريق معتبر أو أصل كذلك يكون المكلف معذورا في مخالفته بحكم العقل والشرع أيضا.
هذا إذا لم يكن في المورد طريق معتبر أو أصل كذلك أصلا.
أما مع وجود أحدهما مع موافقته لذلك الظن المفروض، فعدم المنع من الركون إليه حينئذ أوضح، إذ مع أحدهما يتأكد الأمن من العقاب على مخالفة الواقع، هذا إذا كان الظن المفروض مخالفا للاحتياط بأن يكون نافيا للتكليف مع احتماله.
وأما مع موافقته فانتفاء المانع من الركون إليه بديهي عند كل أحد.
وأما إذا خالف طريقا معتبرا أو أصلا كذلك مع وجوب العمل بهما كان يكونا متضمنين للتكليف ومثبتين له بحيث لو عمل بالظن يلزم مخالفتهما فلا، بأن يكون هو نافيا للتكليف عن موردهما فلا يحرم العمل به حينئذ أيضا شرعا بل
378

إنما هو منهي عنه بالنهي العقلي الإرشادي لأن مخالفة الطريق والأصل المعتبرين لا تكون محرمة نفسا بل هما منجزان للواقع على تقديره على المكلف ويجب العمل بهما من باب المقدمة العملية لامتثال التكليف المجمل الذي تنجز في موردهما عليه، فيدور استحقاق العقاب على مخالفتها على مخالفة الواقع حقيقة، فالعقاب على العمل بالظن المذكور دائر مدار مخالفة الواقع بسببه فغاية ما يترتب على النهي الإرشادي لأجل التحرز عن ضرر العقاب المحتمل وتحصيل الأمن منه المتوقف على العمل بالطريق أو الأصل المعتبرين.
نعم على القول بحرمة التجري يستحق العقاب مطلقا لتحقق التجري مع الإقدام بمحتمل () التحريم مع قيام حجة شرعية على تحريمه في الظاهر ()
379