الكتاب: مستند الشيعة
المؤلف: المحقق النراقي
الجزء: ١٨
الوفاة: ١٢٤٤
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - مشهد المقدسة
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٩
المطبعة: ستارة - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
ردمك: ٢-٧٥-٥٥٠٣-٩٦٤
ملاحظات:

مستند الشيعة
في أحكام الشريعة
تأليف العلامة الفقيه
المولى أحمد بن محمد مهدي النراقي
المتوفى سنة 1245 ه‍
الجزء الثامن عشر
تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
1

الطبعة: الأولى - ربيع الآخر - 1419 ه‍
المطبعة: ستارة. قم
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

المقصد الثاني
في الشهادات
وفيه مقدمة وفصول..
5

المقدمة
الشهادة مأخوذة من شهد، وفسره في المحيط والنهاية الأثيرية
والصحاح والقاموس والمجمع بمعنى حضر (1)، ومنه: الشاهد يرى ما لا يراه
الغائب، وقوله سبحانه: * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) * (2) وقوله
تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * (3) والمشهد: المحضر والمجمع.
ونقل بعض المتأخرين من فقهائنا أنه في اللغة يجئ بمعنى: علم
أيضا (4)، وذكره في القاموس أيضا في تفسير: أشهد أن لا إله إلا الله، وفي
تفسير: * (شهد الله) * (5) ومنه الشهيد من أسمائه سبحانه، ومنه قوله
سبحانه: * (نشهد إنك لرسول الله) * (6).
وفسر بمعنى عاين أيضا، قال في المجمع: وشهدت على الشئ:
أي اطلعت عليه وعاينته فأنا شاهد، وشهدت العيد: أدركته، وشاهدته مثل
عاينته (7). وفي القاموس: شاهده: عاينه (8). وذكروا: أن المشاهدة: المعاينة.
وفسره في المجمع بمعنى أخبر أيضا، قال: وشهد بكذا يتعدى بالباء،

(1) النهاية الأثيرية 2: 513، الصحاح 2: 494، القاموس المحيط 1: 316،
المجمع 3: 80 - 81.
(2) النور: 2.
(3) الطلاق: 2.
(4) انظر التنقيح 4: 283، والرياض 2: 423.
(5) القاموس 1: 317. والآية: آل عمران: 18.
(6) المنافقون: 1.
(7) مجمع البحرين 3: 81.
(8) القاموس 1: 316.
7

لأنه بمعنى أخبر (1). ومنه قوله سبحانه: * (وما شهدنا إلا بما علمنا) * (2).
وفي الثاني: الشهادة في الأصل: الإخبار عما شاهده وعاينه (3).
ويمكن أن يكون منه: * (وشهد شاهد من أهلها) * (4).
وفسر في المسالك الشهادة لغة بأنها الإخبار عن اليقين (5). ويمكن
أن يكون منه قوله سبحانه: * (قالوا نشهد إنك لرسول الله) *.
وأما تفسيرها بالخبر القاطع - كما في الثلاثة الأخيرة (6) - فهو ليس
بيانا للمعنى المصدري.
ويحصل من ذلك أن الشهادة المصدرية تفسر في اللغة بالحضور،
والعلم، والمعاينة، والإخبار عن اليقين، والإخبار عما شاهده وعاينه.
وصرح مولانا الرضا في صحيحة صفوان: إن الحضور شهادة، وفيها:
سئل عن رجل طهرت امرأته من حيضها، فقال: فلانة طالق، وقوم
يسمعون كلامه، ولم يقل لهم: اشهدوا، أيقع الطلاق عليها؟ قال: " نعم،
هذه شهادة " (7)، وبه فسر قوله تعالى: * (ولا يأب الشهداء إذا ما
دعوا) * (8) في بعض الأخبار (9).

(1) مجمع البحرين 3: 82.
(2) يوسف: 81.
(3) النهاية لابن الأثير 2: 514 وفيه: وأصل الشهادة الإخبار بما شاهده وشهده.
(4) يوسف: 26.
(5) المسالك 2: 400.
(6) الصحاح 2: 494، القاموس المحيط 1: 316، مجمع البحرين 3: 82.
(7) الكافي 6: 72 / 4، التهذيب 8: 49 / 155، الوسائل 22: 50 أبواب مقدمات
الطلاق وشرائطه ب 21 ح 2.
(8) البقرة: 282.
(9) الوسائل 27: 309 أبواب الشهادات ب 1.
8

ويحتمل أن تكون جميع تلك المعاني حقائق لغوية، وأن يكون
بعضها مجازا مأخوذا من بعض آخر.. وأما تخصيص الحقيقة بواحد منها
فلا دليل عليه.
نعم، الظاهر أن المعنى الأول من المعاني الحقيقية، وكذا الإخبار عما
شاهده وعاينه.
هذا بحسب اللغة.
وأما شرعا، فعرف في المسالك الشهادة بأنها إخبار جازم عن حق
لازم لغيره، واقع من غير حاكم (1). أي من حيث إنه حاكم لا مطلقا.
ولا يخلو التعريف عن نقض طردا وعكسا، لصدقه على الإخبار عن
ثبوت حق الغير على نفسه للغير، وعدم صدقه على الشهادة بالجرح
والتعديل، ورؤية الهلال، والطلاق، والموت، وغير ذلك.
وقد يختلف الأمر باعتبار الموارد في صدق الشهادة عليه وعدمه،
كالإخبار عن مجئ الحاج، فإنه ليس شهادة، فلو نوزع فيه لحق مترتب
عليه يقال: إنه شهادة.
هذا، مع أن الظاهر من قوله: " شرعا " إرادة الحقيقة الشرعية، وإثباتها
هنا مشكل، لعدم دليل على الوضع التعييني.
وأما التعيني، فحصوله يتوقف على كثرة استعمال في المعنى الشرعي
خاصة، بحيث يحصل التبادر فيه، وتحققه فيما نحن فيه غير معلوم، سيما
مع ملاحظة لفظ الشهود والشهادة وما يشتق منهما في غير هذا المعنى في
كلمات الحجج كثيرا، ولو سلم فتحققها في معنى خاص مضبوط يصلح

(1) المسالك 2: 400.
9

لإناطة الحكم عليه غير معلوم لنا.
فاللازم حملها في كلام الشارع على الحقيقة اللغوية، ولعدم تعيينها
من بين معاني معلومة واحتمال تعددها يجب الأخذ بالمتيقن، وهو
الحضور، فيما لم يعلم تضمنه لمعنى الإخبار، نحو قوله سبحانه:
* (وأشهدوا ذوي عدل) * (1) * (وليشهد عذابهما) * (2) ونحو ذلك.
والإخبار عما شاهده وعاينه، أو الإخبار عن اليقين بما شاهده وعاينه
فيما تضمنه، نحو قوله عز جاره: * (شهد شاهد من أهلها) * (3)،
وقولهم (عليهم السلام): " تقبل شهادة الأخ لأخيه، وتقبل شهادة الضيف، وتقبل
شهادة المسلم " إلى غير ذلك (4)، لأنه المترتب عليه الحكم يقينا وغيره
مشكوك فيه، ولذا ذكر الفقهاء أن مستند الشاهد المشاهدة، أو السماع، أو
هما معا.
فإن قيل: فليحمل على الحقيقة العرفية.
قلنا: إن أريد العرفية في زمان الشارع فتحققها غير معلوم، وإن أريد
في الزمان المتأخر عنه فاللغوية متقدمة عليها، مع أن تحققها أيضا غير
واضح، ولو سلم فالمتحقق منها غير منضبط جدا.

(1) الطلاق: 2.
(2) النور: 2.
(3) يوسف: 26.
(4) انظر الوسائل 27: أبواب الشهادات ب 26 و 29 و 38 و 41.
10

الفصل الأول
في بيان شرائط الشاهد وصفاته المعتبرة في قبول شهادته
وهي أمور:
الأول: البلوغ.
فلا تقبل شهادة غير البالغ، بلا خلاف فيه في الجملة - كما قيل (1) -
بل عن الغنية مطلقا (2)، ولكن يجب تقييده أيضا، لتصريحه بعد ذلك في
الشجاج والجراح مدعيا إجماع الطائفة عليه.
وتفصيل الكلام فيه في مسائل:
المسألة الأولى: غير البالغ إما غير مميز أو مميز، والثاني إما لم يبلغ عشر
سنين أو بلغ، وعلى التقديرين إما يشهد في غير الجراح والقتل أو يشهد فيهما.
والأصل الأولي في الكل: عدم قبول شهادته، وعدم نفوذه، وعدم
ترتب الأثر عليه كما في سائر الشهادات.
وكذا الأصل الثانوي، لمفهوم الحصر في مرسلة يونس: " استخراج
الحقوق بأربعة [وجوه]: بشهادة رجلين عدلين " الحديث (3).
ومفهوم الشرط في رواية السكوني: " إن شهادة الصبيان إذا أشهدوهم

(1) انظر الرياض 2: 424.
(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.
(3) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 4، ما بين المعقوفين من المصادر.
11

وهم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها " (1)، وقريبة منها الأخرى (2).
وصحيحة محمد: في الصبي يشهد على الشهادة، فقال: " إن عقله
حين يدرك أنه حق جازت شهادته " (3).
وصحيحة جميل: تجوز شهادة الصبيان؟ قال: " نعم، في القتل
يؤخذ بأول كلامه، ولا يؤخذ بالثاني منه " (4)، فإن الجواب المقيد بعد
السؤال عن المطلق بمنزلة التفصيل القاطع للشركة.
ورواية محمد بن حمران: عن شهادة الصبي، فقال: " لا، إلا في
القتل يؤخذ بأول كلامه، ولا يؤخذ بالثاني " (5).
ويمكن أن يستدل له أيضا بمفهوم مرسلة الفقيه: " وإن شهد رجلان
عدلان على شهادة رجل فقد ثبتت شهادة رجل واحد " (6).
وبمثل رواية المثنى " تجوز شهادة النساء في الرجم إذا كان ثلاثة
رجال وامرأتان " (7).

(1) الكافي 7: 389 / 5، التهذيب 6: 251 / 648، الوسائل 27: 342 أبواب
الشهادات ب 21 ح 2.
(2) الفقيه 3: 28 / 80، التهذيب 6: 250 / 643، الوسائل 27: 343 أبواب
الشهادات ب 21 ح 4.
(3) الكافي 7: 389 / 4، التهذيب 6: 251 / 647، الوسائل 27: 342 أبواب
الشهادات ب 21 ح 1.
(4) الكافي 7: 389 / 2، التهذيب 6: 251 / 645، الوسائل 27: 343 أبواب
الشهادات ب 22 ح 1.
(5) الكافي 7: 389 / 3، التهذيب 6: 251 / 646، الوسائل 27: 343 أبواب
الشهادات ب 22 ح 2.
(6) الفقيه 3: 41 / 135، الوسائل 27: 404 أبواب الشهادات ب 44 ح 5.
(7) الكافي 7: 391 / 9، التهذيب 6: 265 / 706، الإستبصار 3: 24 / 74، الوسائل
27: 354 أبواب الشهادات ب 24 ح 11، وفي الجميع: عن مثنى الحناط، عن زرارة.
12

ورواية الهمداني: امرأة شهدت على وصية، فكتب (عليه السلام): " لا، إلا أن
يكون رجل وامرأتان " (1).
بضميمة الإجماع المركب في الثلاثة.
وبالتعليل الوارد في موثقة محمد، الواردة في رد شهادة السائل بكفه،
بقوله: " لأنه لا يؤمن على الشهادة " (2).
وأما رواية إسماعيل بن جعفر: " إذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره
وجازت شهادته " (3).
ورواية طلحة بن زيد: " شهادة الصبيان جائزة بينهم ما لم يتفرقوا
ويرجعوا إلى أهلهم " (4)..
فمع اختصاصهما ببعض الصور لا تصلحان لمعارضة ما مر، أما
الأولى فلكونها مقطوعة غير مسندة إلى إمام، وأما الثانية فلشذوذها المخرج
لها عن الحجية.
ثم إن بما ذكر تخصص إطلاقات الكتاب والسنة، الشاملة لغير
البالغين أيضا:
كقوله: * (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن

(1) التهذيب 6: 268 / 719، الإستبصار 3: 28 / 90، الوسائل 27: 360 أبواب
الشهادات ب 24 ح 34، وفي الجميع هكذا: امرأة شهدت على وصية رجل لم
يشهدها غيرها، وفي الورثة من يصدقها، وفيهم من يتهمها، فكتب عليه
السلام...
(2) الكافي 7: 396 / 13، التهذيب 6: 243 / 608، الوسائل 23: 382 أبواب
الشهادات ب 35 ح 2.
(3) الكافي 3: 388 / 1، التهذيب 6: 251 / 644، الوسائل 23: 344 أبواب
الشهادات ب 22 ح 3.
(4) الفقيه 3: 27 / 79، الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 22 ح 6.
13

في البيوت) * (1).
وقوله عز شأنه: * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * (2).
وقوله (عليه السلام) في صحيحة الحلبي: " وتجوز شهادة الولد لوالده، والوالد
لولده، والأخ لأخيه " (3).
وبمضمونها أخبار كثيرة، كموثقتي أبي بصير (4) وسماعة (5)، ورواية
السكوني (6).
وقوله في صحيحة الحلبي أيضا: " حد الرجم أن يشهد أربعة أنهم
رأوه يدخل ويخرج " (7)، وبمضمونها أيضا أخبار متكثرة (8).
مع أن في عموم الآيتين - بل الأخبار الأخيرة، بعد التقييد المستفاد
من روايتي المثنى والهمداني - نظرا، سيما مع تقييد الآية بقوله:
* (منكم) *، فإن المراد من ضمير الجمع هو المراد من الضمير في
* (نسائكم) * وفي * (أمسكوهن) *، وهو من الرجال قطعا، ولو منع الظهور
في الرجال يحصل - لا أقل - فيه الإجمال المسقط للاستدلال بالعام، ومنه
يسري الإجمال إلى الآية الثانية أيضا.

(1) النساء: 15.
(2) النور: 4.
(3) الكافي 7: 393 / 3، الوسائل 27: 367 أبواب الشهادات ب 26 ح 1.
(4) الكافي 7: 393 / 1، التهذيب 6: 248 / 632، الوسائل 27: 368 أبواب
الشهادات ب 26 ح 3.
(5) التهذيب 6: 247 / 629، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 4.
(6) التهذيب 6: 286 / 790، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 5.
(7) الكافي 7: 183 / 1، التهذيب 10: 2 / 4، الإستبصار 4: 217 / 815، الوسائل
28: 94 أبواب حد الزنا ب 12 ح 1.
(8) انظر الوسائل 28: 94 أبواب حد الزنا ب 12.
14

وقد تضعف دلالة الإطلاقات باختصاصها بالبالغ من الرجال بحكم
التبادر وغيره، وبمعارضتها بالنصوص الدالة على اعتبار أمور في الشاهد،
مع القطع بعدم وجود شئ منها في الصبي.
وفي الأول: منع الاختصاص في الجميع وإن اختص بعض الموارد
بذكر الرجل، أو تحقق الأمر المخصوص بالمكلفين، وأما في الجميع
فممنوع، وإن أريد التبادر من نفس الشاهد وما بمعناه فإن المنع فيه أظهر.
وفي الثاني: أن ما وجدناه من النصوص متضمن لاعتبار كونه مرضيا،
كرواية السكوني، وفيها: " شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضيا " (1).
أو كونه عفيفا صائنا، كموثقة أبي بصير: " لا بأس بشهادة الضيف إذا
كان عفيفا صائنا " (2).
أو لكونه صالحا، كصحيحة العلاء في شهادة المكاري والجمال
والملاح: " تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء " (3).
أو لكونه مسلما غير معروف بشهادة الزور ولا بالفسق، كصحيحة
حريز: " إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت
شهادتهم جميعا " إلى أن قال: " وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم، إلا أن
يكونوا معروفين بالفسق " (4).

(1) التهذيب 6: 286 / 790، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 5.
(2) الفقيه 3: 27 / 77، التهذيب 6: 258 / 676، الإستبصار 3: 21 / 64، الوسائل
27: 372 أبواب الشهادات ب 29 ح 3.
(3) الكافي 7: 396 / 10، الفقيه 3: 28 / 82، التهذيب 6: 243 / 605، الوسائل
27: 381 أبواب الشهادات ب 34 ح 1.
(4) الكافي 7: 403 / 5، التهذيب 6: 277 / 759، الإستبصار 3: 14 / 36، الوسائل
27: 397 أبواب الشهادات ب 41 ح 18.
15

أو لولادته على الفطرة والمعروفية بالصلاح، كرواية ابن المغيرة:
" كل من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته " (1).
أو للولادة على الفطرة فقط، كالمروي في مجالس الصدوق: " كل من
ولد على فطرة الإسلام تقبل شهادته " (2).
أو لكونه ممن علم منه خير، كما في صحيحة محمد في العبد يشهد
بعد عتقه (3).
ولا شك أن شيئا من هذه الأمور ليس ما يقطع بعدم وجوده في
الصبيان، بل يوجد كل منها فيهم كثيرا، ويصدق عليهم لغة وشرعا وعرفا،
هذا فتكون هذه النصوص أيضا من العمومات المثبتة لقبول
شهادتهم، الواجب تخصيصها بما ذكر.
فإن قيل: تتعارض هذه مع أدلة عدم القبول بالعموم من وجه، وإذ
لا مرجح يجب الرجوع إلى عمومات القبول، ويكون هو الأصل الثانوي.
قلنا أولا: إن ذلك إنما يتم لو خلت العمومات عن المعارض المخرج
لها عن الحجية في محل النزاع، وليست كذلك، لأن مفهوم مرسلة يونس
أعم من وجه من العمومات، لشموله لغير الشهادة أيضا من اليمين والقرعة
وغيرها، فالعمومات لا تكون حجة في محل الاجتماع، ويجب الرجوع إلى
الأصل الأولي، الذي هو عدم القبول.
وثانيا: أن بقاء العمومات على عمومها الموجب لثبوت الأصل

(1) الفقيه 3: 28 / 83، التهذيب 6: 283 / 778، الإستبصار 3: 14 / 37، الوسائل
27: 393 أبواب الشهادات ب 41 ح 5.
(2) أمالي الصدوق: 91 / 3، الوسائل 27: 395 أبواب الشهادات ب 41 ح 13،
بتفاوت.
(3) الفقيه 3: 41 / 139، الوسائل 27: 387 أبواب الشهادات ب 39 ح 1.
16

مخالف للإجماع.
نعم، اعتبرت العدالة في جملة من الأخبار، كصحيحة البجلي:
" لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا " (1).
ورواية محمد: في شهادة المملوك: " إذا كان عدلا فهو جائز
الشهادة " (2).
وفي مكاتبة الصفار: " إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدعي يمين " (3)
إلى غير ذلك.
والعدالة مما يظن أنها تختص بالمدركين، فإن ثبت ذلك فموجبات
اشتراط العدالة أيضا تكون من أدلة عدم القبول، ولكونها أخص من
العمومات يجب تخصيصها بمفهومها، ويثبت الأصل الثانوي في عدم
القبول.
وإن لم يثبت - كما هو المحتمل، بل الظاهر - فيعارض منطوق هذه
أيضا مع أدلة عدم القبول بالعموم من وجه، ولا يفيد الرجوع إلى العمومات
كما مر، ويكون الأصل مع عدم القبول أيضا، للرجوع إلى الأصل الأول.
وعلى هذا، فاللازم في شهادة الصبي العمل بالأصل، إلا فيما أخرجه
الدليل.
المسألة الثانية: لا تقبل شهادة الصبي الغير المميز إجماعا محققا

(1) الكافي 7: 389 / 1، التهذيب 6: 248 / 634، الإستبصار 3: 15 / 42، الوسائل
27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 1.
(2) الكافي 7: 389 / 2، التهذيب 6: 248 / 633، الإستبصار 3: 15 / 41، الوسائل
27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 3.
(3) الكافي 7: 394 / 3، الفقيه 3: 43 / 147، التهذيب 6: 247 / 626، الوسائل 27:
371 أبواب الشهادات ب 28 ح 1.
17

ومنقولا مستفيضا (1)، للإجماع، والأصل المتقدم، وما مر من الأخبار
المعتبرة للأوصاف المنتفية في غير المميز قطعا، والخبر المتقدم المعتبر
لبلوغ عشر سنين (2).
المسألة الثالثة: الصبي المميز والغير البالغ عشرا لا تقبل شهادته في
غير الجنايات إجماعا، كما عن الإيضاح والمهذب والصيمري (3)، بل
محققا، ويدل عليه الأصل المتقدم، وروايتا محمد بن حمران وجميل
المتقدمتان (4)، ورواية إسماعيل، بلا معارض لشئ منها، سوى العمومات
المتقدمة المخصصة، ورواية طلحة (5) في بعض الصور الشاذة.
وفي الجنايات خلاف، فمعظم الأصحاب - كما في المهذب -: عدم
القبول، وهو مذهب الشيخ في النهاية والحلي (6) وجمع آخر (7)، للأصل،
ومفهوم رواية إسماعيل المتقدمة، وبعض العمومات السابقة، والشهرة
المحكية.
وظاهر المسالك: ادعاء الإيضاح الإجماع على عدم قبول شهادة من
له دون العشر مطلقا (8). وليس كذلك، بل صرح في الإيضاح بالخلاف

(1) كما في الإيضاح 4: 417، الدروس 2: 123، المسالك 2: 400، الرياض 2: 424.
(2) أي خبر إسماعيل بن جعفر المتقدم في ص 11.
(3) حكاه عنهم في الرياض 2: 424، وهو في الإيضاح 4: 417، وفي المهذب
البارع 4: 507.
(4) في ص 10.
(5) المتقدمة في ص 11.
(6) النهاية: 331، الحلي في السرائر 2: 136.
(7) كالمحقق في الشرائع 3: 125، وابن سعيد في الجامع: 540، والفاضل الهندي
في كشف اللثام 2: 369.
(8) المسالك 2: 400.
18

فيمن له دون العشر في الجراح والقصاص، ونسب الخلاف إلى الإسكافي
والخلاف (1).
وكذا ما ذكره بعض مشايخنا المعاصرين من نسبة ظهور عدم الخلاف
في المسألة من التنقيح (2)، فإنه ليس كذلك، بل ظاهره ادعاء عدم القول
بقبول شهادة الصبي مطلقا (3).
وعن الإسكافي والخلاف: القبول (4)، وهو ظاهر السيد في الانتصار
وابن زهرة في الغنية، حيث حكما بقبول شهادة الصبيان في الشجاج
والجراح بالإطلاق، مدعيين عليه إجماع الطائفة (5)، لصحيحة جميل ورواية
ابن حمران المتقدمتين، الخاصتين بالنسبة إلى أدلة المنع، المعتضدتين بنقل
الإجماع من العدلين.. وهو الحق، لما ذكر.
وحمل قبول الشهادة فيهما على ما إذا بلغت حد الاستفاضة - أو إرادة
حصول اللوث منها - خلاف الظاهر والحقيقة.
وقد يستدل أيضا بما اشتهر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (6)، وحكى في
الانتصار روايته عن الخاصة والعامة في حكم ستة غلمان (7).
وفيه: أنه قضية في واقعة، مع أن استعمال الغلام في البالغ شائع،

(1) الإيضاح 4: 417.
(2) انظر الرياض 2: 424.
(3) التنقيح 4: 285.
(4) حكاه عن الإسكافي في الإيضاح 4: 417، الخلاف 2: 613.
(5) الإنتصار: 250، الغنية (الجوامع الفقهية): 625.
(6) الكافي 7: 284 / 6، الفقيه 4: 86 / 277، التهذيب 10: 239 / 953، المقنعة:
750، الوسائل 29: 235 أبواب موجبات الضمان ب 2 ح 1.
(7) الإنتصار: 251.
19

وضرب الدية في الواقعة المذكورة على الغلامين والثلاثة على إرادته شاهد.
ثم بما ذكر يدفع الأصل ويخص العام.
وأما رواية إسماعيل فغير حجة، لكونها موقوفة، والشهرة ليست
بحجة، سيما مع معارضتها بدعوى الإجماع، ومظنة الإجماع هنا باطلة،
ولذا استبعده في المسالك (1)، ومنعه في المهذب، وعلى هذا فتردد جماعة
من متأخري المتأخرين في غير موقعه (2).
بقي هنا شئ، وهو أن المذكور في الروايتين: القتل، وفي كلمات
القائلين بالقبول: الشجاج والجراح، فالأخذ بالقتل خروج عن قول
الأصحاب وبقولهم عن الرواية.
قلنا: لا نسلم أن الأخذ بالرواية خروج عن قول الأصحاب، لأن
الظاهر منهم إرادة القتل أيضا، ألا ترى أن السيد - مع أنه عنون المسألة
بالشجاج والجراح - استدل بقبول أمير المؤمنين (عليه السلام) شهادة الغلمان في
الغرق، وكذا ابن زهرة؟!
وألا ترى كلام المهذب؟! حيث قال: إذا ميز الصبي وله دون العشر
لا تقبل شهادته في غير الجراح والقصاص إجماعا.. وهل تقبل في ذلك؟
معظم الأصحاب على المنع، وقال في الخلاف: تقبل، وبه قال أبو علي (3).
انتهى.
وقال في المسالك: ولعله - أي المقتصر على الجراح - ما يشمل
البالغة إلى القتل (4). فذكر القصاص أيضا.

(1) المسالك 2: 400.
(2) كالفيض الكاشاني في المفاتيح 3: 276.
(3) المهذب البارع 4: 507.
(4) المسالك 2: 400.
20

ويمكن أن يكون تعبيرهم بالشجاج والجراح أنه هو العمل الصادر
المشهود به والمحسوس غالبا، وأما زهوق الروح المتحقق به القتل فهو
مسبب به، لا يدركه الصبي غالبا.
وبالجملة: بعد ما ذكرنا تعلم وقوع الخلاف في القتل أيضا،
فلا مناص عن الأخذ بالرواية الدالة عليه.
نعم، يشكل الأمر في الشجاج والجراح اللذين لم يترتب عليهما
القتل. والحق عدم القبول فيهما، اقتصارا فيما يخالف الأصل على موضع
النص، وعدم ثبوت الإجماع المركب، ولا يفيد الاستدلال بإطلاق رواية
طلحة المنجبر ضعفها - لو كان في المقام - بالإجماع المنقول، خرج غير
الشجاج والجراح بالدليل فيبقى الباقي، لخروجهما أيضا بروايتي ابن
حمران وجميل غاية الأمر تعارضهما بالعموم من وجه والرجوع إلى
الأصل.
المسألة الرابعة: الصبي البالغ عشرا إلى أن يبلغ كالمميز الذي له
دون العشر على الأقوى، فلا تقبل شهادته في غير الجنايات، وتقبل فيها.
أما الأول: فهو الأشهر، بل عليه غير من شذ وندر، ويستفاد من
جماعة الإجماع عليه (1).
ويدل عليه الأصل، والإجماع، والأخبار المتقدمة الخالية عن
المعارض، سوى روايتي إسماعيل وطلحة (2)، المعارضتين لها بالعموم من
وجه، المرجوحتين بالشذوذ وغيره، مضافا إلى عدم حجية أوليهما كما مر،
بل الثانية أيضا، للشذوذ.

(1) كما في الإيضاح 4: 417، الرياض 2: 424.
(2) المتقدمتين في ص: 11.
21

خلافا لشاذ نقله جماعة من الأصحاب قائلا أكثرهم بشذوذه (1)، بل
عن عميد الرؤساء أنه قال: إلى الآن لم نظفر بهذا القول (2).
وأما الثاني: فهو في الجملة إجماعي، كما يظهر من الانتصار
والمهذب والغنية وشرح الشرائع للصيمري والتنقيح وكلام التقي والمسالك
والروضة (3)، وغيرها (4).
والخلاف إنما هو فيما يقبل فيه منها، فمنهم من صرح بقبوله في
الجراح والقصاص، كالمفيد والشيخ في النهاية والحلي (5) وجمع آخر (6)،
بل الأكثر كما في المسالك (7) وغيره (8).
ومنهم من ذكر الجراح خاصة، كالفاضلين وابن زهرة والخلاف
والشهيد (9)، وفي الدروس خص الجراح بما لم يبلغ النفس (10).
فإن قلنا بإرادتهم من الجراح ما يشمل القتل أيضا - كما هو المستفاد

(1) كما في المختصر: 286، الرياض 2: 424.
(2) حكاه عنه في الرياض 2: 426.
(3) الإنتصار: 250، المهذب البارع 4: 508، الغنية (الجوامع الفقهية): 625،
التنقيح 4: 285، نقله عن التقي في التنقيح 4: 286، المسالك 2: 400، الروضة
3: 125.
(4) كالخلاف 2: 613.
(5) المفيد في المقنعة: 727، النهاية: 331، الحلي في السرائر 2: 136.
(6) كالسيد في الإنتصار: 250، والعلامة في التحرير 2: 207.
(7) المسالك 2: 400.
(8) كالرياض 2: 424.
(9) المحقق في الشرائع 4: 125، العلامة في القواعد 2: 236، ابن زهرة في الغنية
(الجوامع الفقهية): 625، الخلاف 2: 613، الشهيد في اللمعة (الروضة البهية
3): 125.
(10) الدروس 2: 123.
22

من سياق كلام السيدين، حيث استندا بحديث الغلمان (1)، وهو ظاهر
المهذب، واحتمله في المسالك كما مر - فيكون الاختلاف في مجرد
التعبير، كما يستفاد من كلام بعضهم، وجعل ذلك وجه نسبة المحقق
الاختلاف إلى عبارات الأصحاب (2)، ولكنه لا يتم في كلام الدروس.
وإن قلنا بإرادتهم ما يقابل القتل فيكون الاختلاف في ما تقبل به الشهادة.
ونقل في شرح المفاتيح التعبير بالقتل خاصة أيضا، ونسبه إلى
المشهور بين الأصحاب، وإنا لم نظفر به.
وكيف كان، فلا ينبغي الريب في قبول شهادته في القتل، للخبرين
المتقدمين (3)، المعتضدين بالخبرين الآخرين، وبفتوى جمع من عظماء
الطائفة.
والقول بضعف الروايتين ضعيف، لأن رواية جميل صحيحة - على
المختار - وإن كان فيها إبراهيم بن هاشم، وحسنته حجة كالصحيحة عند
جماعة (4)، مع أن القبول في القتل مذهب الأكثر كما ذكره في المسالك
وجمع ممن تأخر عنه (5).
ومن القائلين بقبوله الحلي (6) الذي لا يعمل بالآحاد، إلا بعد احتفافها
بالقرائن القطعية.
وأما الجراح الغير البالغ حدا القتل فالقول فيه وإن لم يكن مستفادا من

(1) انظر الإنتصار: 251، والغنية (الجوامع الفقهية): 625.
(2) الشرائع 4: 125.
(3) وهما رواية جميل ورواية محمد بن حمران، المتقدمتين في ص 10.
(4) منهم صاحب الرياض 2: 425.
(5) انظر الرياض 2: 424.
(6) السرائر 2: 136.
23

النصوص، إلا أن ظاهرهم الإجماع عليه، فالظاهر أنه أيضا كالقتل.
وخالف فيه فخر المحققين، فاختار عدم القبول فيه (1)، ونسبه
المحقق الأردبيلي إلى غيره أيضا.
لقوله سبحانه: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * (2).
ولحديث رفع القلم (3) الدال على أنه لا عبرة بأقواله وعدم الوثوق به،
لعلمه بعدم المؤاخذة، وعدم قبول إقراره على نفسه.
واشتراط العدالة الغير المتحققة في الصبي.
والكل ضعيف، لاختصاص الأول بغير الجنايات، مع كون الأمر في
الآية للإرشاد، فلا يثبت الاختصاص.
وعدم دلالة رفع القلم على عدم العبرة، وعدم توقف حصول
الاطمئنان بعلمه بالمؤاخذة، وكون الأخير قياسا.
ومنع عدم تحقق العدالة في الصبي - كما ذكره المحقق الأردبيلي - ومنع
" عموم اشتراطها لو لم يتحقق فيه.
وهل يشترط في القبول عدم تفرقهم إذا كانوا مجتمعين حذرا أن
يلقنوا؟ كما نقله في المهذب عن الخلاف وفي التنقيح عن التقي والمحقق
في الشرائع وحكي [عن] (4) الفاضل في جملة من كتبه وعن الدروس
واللمعتين (5).

(1) الإيضاح 4: 417.
(2) البقرة: 282.
(3) الخصال: 93 / 40، الوسائل 8: 249 أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 3 ح 2.
(4) ما بين المعقوفين ليس في " ح " و " ق "، أضفناه لاستقامة المعنى.
(5) الخلاف 2: 613، التنقيح 4: 286، الشرائع 4: 125، الفاضل في التحرير 2:
207، القواعد 2: 236، الدروس 2: 123، اللمعة والروضة البهية 3: 125.
24

الظاهر: نعم، لمفهوم رواية طلحة (1)، وهو وإن كان معارضا لاطلاق
الخبرين بالعموم من وجه، إلا أنه يوجب الرجوع إلى الأصل المانع عن
القبول.
وأما اشتراط كونهم مجتمعين على أمر مباح إذا كانوا مجتمعين - كما
ذكره جماعة أيضا (2) - فلا دليل له في القتل، وأما الجراح فلما كان دليله
الإجماع المخصوص بما تحقق فيه ذلك الشرط يكون الموافق للدليل فيه
الاشتراط، إلا أن ثبوت الإطلاق في القتل وعدم الفصل بينه وبين الجراح
في ذلك يرجح العدم.
ولو اختلف كلامهم في الشهادة يؤخذ بالأول دون الآخر كما صرح به
الأكثر، منهم: المفيد والسيد والشيخ والتقي والمحقق (3)، لخبري جميل
ومحمد بن حمران (4)، بلا معارض لهما.
وهل يشترط في قبول شهادته تحقق غير البلوغ من الشرائط الممكنة
تحققها في غير البالغ، أم لا؟
صرح في المهذب بالاشتراط.
أقول: الوجه: الرجوع في كل شرط إلى دليله، فيلاحظ أنه هل
يشمل الصبي أم لا، ويفتى بمقتضاه.
ولا تلحق الصبية بالصبي - كما صرح به جماعة، كالحلي في السرائر

(1) المتقدمة في ص 11.
(2) منهم المحقق في الشرائع 4: 125، العلامة في القواعد 2: 236، الشهيد في
اللمعة (الروضة البهية 3): 125.
(3) المفيد في المقنعة: 727، السيد في الإنتصار: 250، الشيخ في النهاية: 331،
التقي في الكافي في الفقه: 436، المحقق في النافع: 286.
(4) المتقدمين في ص 10.
25

والفاضل في التحرير وشيخنا الشهيد الثاني في الروضة (1) - اقتصارا فيما
يخالف الأصل على موضع الدليل.
الثاني من الشرائط: كمال العقل.
فلا تقبل شهادة المجنون بلا خلاف كما صرح به كثير (2)، بل إجماعا
محققا ومنقولا (3)، وهو الحجة فيه.
مضافا إلى ما يدل على اشتراط العدالة كتابا وسنة، وتحققها في غير
العاقل غير معقول، وتعارضه مع بعض العمومات لا يفيد، إذ يرجع حينئذ
إلى الأصل، وإلى ما سيأتي في عدم قبول شهادة المغفل ونحوه.
وقد يستدل (4) بقوله تعالى: * (ممن ترضون من الشهداء) * (5)،
والمجنون ليس منه.
مع أن في تفسير الإمام: عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله
تعالى: * (ممن ترضون من الشهداء) * قال: " ممن ترضون دينه، وأمانته،
وصلاحه، وعفته، وتيقظه فيما يشهد به، وتحصيله، وتمييزه، فما كل
صالح مميزا ولا محصلا، ولا كل محصل مميز صالح " (6).
وفيه: أنه إنما يفيد لو كانت في الآية دلالة، على عدم قبول شهادة

(1) السرائر 2: 136، التحرير 2: 207، الروضة 3: 125.
(2) منهم السبزواري في الكفاية: 279، الكاشاني في المفاتيح 3: 277.
(3) كما في الشرائع 4: 126، وكشف اللثام 2: 189، والرياض 2: 425.
(4) كما في المسالك 2: 401، والرياض 2: 425.
(5) البقرة: 282.
(6) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 672 / 375، الوسائل 27: 399 أبواب الشهادات
ب 41 ح 23.
26

غير من ترضون، ولا دلالة لها عليه، إذ قد عرفت أن قوله: * (فاستشهدوا) *
مقدما عليه للإرشاد.
وقد يستدل (1) أيضا بقوله في صحيحة محمد المتقدمة: " إن عقله
حين يدرك أنه حق " (2). وفيه تأمل.
ومقتضى اشتراط العدالة في المجنون عدم القبول ولو وثق الحاكم
بكونه معتادا بالصدق ومطابقة الواقع في خبره كوثوقه بالعاقل.
وإن كان في بعض أفعاله كالمجانين دون بعض - كالخائف بلا سبب،
أو الضاحك بلا عجب، أو المتحرك بلا داع - فهو ليس مجنونا، ولكنه
مريض.
وذو الأدوار تقبل شهادته حال إفاقته مع الوثوق باستكمال فطنه،
بلا خلاف فيه أيضا يوجد، لزوال المانع، وعموم الأدلة.
وصرح المتأخرون من غير خلاف بينهم يعلم - كما صرح به
بعضهم (3) - أن في حكم المجنون: المغفل - كالمعطل - وهو الذي لا يحفظ
ولا يضبط، ويدخل فيه التزوير والغلط. وهو البله - كما صرح به
جماعة (4) - وكذا من يكثر غلطه ونسيانه، ومن لم يتنبه لمزايا الأمور
وتفاصيلها، إلا أن يظهر إلى الحاكم عدم غفلته في خصوص ما يشهد به.
وتدل عليه العلة المذكورة في موثقة محمد المتقدمة (5).

(1) كما في الرياض 2: 10.
(2) راجع ص 11.
(3) انظر الرياض 2: 425.
(4) منهم المحقق في الشرائع 4: 126، الشهيد في الدروس 2: 124، الفاضل الهندي في
كشف اللثام 2: 369.
(5) في ص 2235.
27

وقوله (عليه السلام) في مرسلة يونس: " فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت
شهادته ولا يسئل عن باطنه " (1)، فإن المراد بالمأمون إما المأمون من جميع
الحيثيات، أو من جهة الشهادة، وعلى التقديرين لا يشمل مثل المغفل.
ولو قيل باحتمال كونه مأمونا من الكذب، قلنا: لا شك أنه لا يتعين
ذلك المعنى، فلو احتمل يدخل الإجمال، ويبطل بالعمومات الاستدلال،
ويبقى أصل عدم القبول.
وموثقة سماعة: عما يرد من الشهود، فقال: " المريب، والخصم،
والشريك " (2)، ولا شك أن المغفل ونحوه مريب - أي موقع في الريب - أو
شكيك، أي مورث للشك.
ورواية السكوني: " إن شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضيا ومعه
شاهد آخر " (3).
والمروي في تفسير الإمام (عليه السلام) عند تفسير قوله تعالى: * (ممن
ترضون من الشهداء) * قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحكم بين الناس
بالبينات والأيمان " إلى أن قال: " فإن أقام بينة يرضاها ويعرفها أنفذ الحكم "
الحديث (4).
فإن المراد بالمرضي أو يرضاها إما المختار في الشهادة، أو من جميع

(1) الكافي 7: 431 / 15، الفقيه 3: 9 / 29، التهذيب 6: 283 / 781، الإستبصار
3: 13 / 35، الوسائل 27: 392 أبواب الشهادات ب 41 ح 3 وفيه بتفاوت يسير.
(2) التهذيب 6: 242 / 599، الإستبصار 3: 14 / 38، الوسائل 27: 378 أبواب
الشهادات ب 32 ح 3.
(3) التهذيب 6: 286 / 790، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 5.
(4) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 673 / 375 - 376، الوسائل 27: 239 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 6 ح 1.
28

الوجوه، أو ما فسره الإمام في تفسيره في الخبر الأول، وعلى كل تقدير
لا يشمل نحو المغفل.. واحتمال المعنى الآخر - لو كان أيضا - يوجب
الإجمال المسقط للاستدلال بالعمومات.
الثالث: الإسلام.
فلا تقبل شهادة الكافر مطلقا.
لا لصدق الفاسق والظالم المنهي عن الركون إليه، لاحتمال المناقشة
فيهما بمنع الصدق في الأول، وكونه ركونا في الثاني.
ولا للإجماع، لأنه لا يثبت إلا في الجملة، فلا يفيد في المطلق.
بل للأصل المتقدم، والأخبار، كروايتي السكوني:
أولاهما: " إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان لا يقبل شهادة فحاش، ولا ذي
مخزية في الدين " (1).
والأخرى: " لا تقبل شهادة ذي شحناء، أو ذي مخزية في الدين " (2).
والمروي في مجالس الصدوق: أخبرني عمن تقبل شهادته ومن لم تقبل،
فقال: " يا علقمة، كل من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته " الحديث (3).
والأخبار الدالة على أن مقبول الشهادة إنما هو من ولد على الفطرة (4).
بضميمة صحيحة ابن سنان: عن قول الله تعالى: * (فطرت الله التي

(1) الكافي 7: 396 / 7، التهذيب 6: 243 / 603، الوسائل 27: 377 أبواب
الشهادات ب 32 ح 1.
(2) الفقيه 3: 27 / 73، الوسائل 27: 378 أبواب الشهادات ب 32 ح 5.
(3) الأمالي: 91 / 3، الوسائل 27: 395 أبواب الشهادات ب 41 ح 13.
(4) الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.
29

فطر الناس عليها) * (1) ما تلك الفطرة؟ قال: " هي الإسلام، فطرهم حين أخذ
ميثاقهم على التوحيد، قال: * (ألست بربكم) * (2) وفيهم المؤمن والكافر " (3).
ومفهوم الشرط في رواية السكوني، وفيها: " وكذلك اليهود
والنصارى إذا أسلموا جازت شهادتهم " (4).
والأخرى: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اليهودي والنصراني إذا شهدوا
ثم أسلموا جازت شهادتهم " (5).
وأخبار اشتراط العدالة والصلاح (6) إن قلنا بعدم تحققهما في غير المسلم.
ولكن التحقيق: أن هذه الأخبار تعارض أخبارا أخر مطلقة أو عامة
- مر شطر منها، ومنها ما يتضمن قبول شهادة الضيف والأجير ونحوها (7)،
ومنها ما يتضمن قبول شهادة العدول (8) إن قلنا بتحقق العدالة في غير
المسلم - بالعموم من وجه، الموجب للرجوع إلى الأصل أيضا، فهو الدليل
على عدم القبول مطلقا دون غيره.
مضافا - في عدم قبول شهادة الكافر على المسلم - إلى الإجماع
المحقق، وصحيحة الحذاء: " تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل

(1) الروم: 30.
(2) الأعراف: 172.
(3) الكافي 2: 12 / 2.
(4) الفقيه 3: 28 / 80، التهذيب 6: 250 / 643، الوسائل 27: 389 أبواب
الشهادات ب 39 ح 8.
(5) الكافي 7: 398 / 3، التهذيب 6: 253 / 658، الوسائل 27: 388 أبواب
الشهادات ب 39 ح 5.
(6) الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.
(7) الوسائل 27: 371 أبواب الشهادات ب 29.
(8) الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.
30

الملل، ولا تجوز شهادة أهل الملل على المسلمين " (1).
وموثقة سماعة: عن شهادة أهل الملة، قال: " لا تجوز إلا على أهل
ملتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية، لأنه لا يصلح
ذهاب حق أحد " (2).
وصحيحة ضريس: عن شهادة أهل ملة هل تجوز على رجل من غير
أهل ملتهم؟ فقال: " لا، إلا أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم، فإن
لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصية، لأنه لا يصلح ذهاب حق
امرئ مسلم، ولا تبطل وصيته " (3).
وأما غير هذه الصورة فلا دليل عليه سوى الأصل المذكور، حتى في
الشهادة للمسلمين، لاختصاص الأخبار المخصوصة بالشهادة عليهم، وكذا
الإجماع، لأن المذكور في عبارات الأصحاب هو ذلك، ولا يعلم أن مرادهم
المطلق، لاحتمال الاختصاص، بل يظهر من بعض كلماتهم ذلك، قال في
السرائر: لا يجوز قبول شهادة من خالف الإسلام على المسلمين - إلى أن
قال -: وتجوز شهادة المسلمين عليهم ولهم (4). انتهى.
فإن ذكر القسمين في الأخير وأحدهما في الأول ظاهر في
الاختصاص، فالمناط فيه هو الأصل أيضا.

(1) الكافي 7: 398 / 1، التهذيب 6: 252 / 651، الوسائل 27: 386 أبواب
الشهادات ب 38 ح 1.
(2) الكافي 7: 398 / 2، التهذيب 6: 252 / 652، الوسائل 27: 386 أبواب
الشهادات ب 38 ح 2 وفيه صدر الحديث.
(3) الكافي 7: 399 / 7، التهذيب 6: 253 / 654، الوسائل 19: 309 أبواب أحكام
الوصايا ب 20 ح 1، بتفاوت.
(4) السرائر 2: 139.
31

وعلى هذا، فيجب ترك الأصل فيما كان على خلافه دليل، كما في شهادة
الكافر على أهل ملته، كما اختاره الإسكافي والشيخ في النهاية والخلاف (1)،
ونسبه في الأخير إلى بعض أصحابنا، وهو ظاهر الفاضل في المختلف بل
صريحه (2)، ومال إليه في التنقيح والكفاية (3).
وقد جعل بعض مشايخنا المعاصرين قول الخلاف والمختلف
والتنقيح قولا آخر غير ذلك، بل جعله رجوعا من الشيخ عن ذلك (4)،
حيث قال - بعد اختياره ذلك القول -: والوجه فيه إذا اختاروا الترافع إلينا،
فأما إذا لم يختاروا فلا يلزمهم ذلك (5).
والظاهر أنه ليس قولا آخر، بل هو بيان لذلك القول، يعني: أن عدم
القبول مع اختلاف الملة إذا ترافعوا إلينا، فلا تقبل شهادة غير ملتهم أو
المسلم. وأما إذا لم يختاروا الترافع إلينا فلا يلزمهم إشهاد الموافق أو
المسلم، ولا يشترط في إجراء أحكامهم عليه ذلك، بل يحكم بإجراء
أحكامهم عليهم، كسائر الأحكام من الحلف والطلاق وغيره.
وليس هذا التفصيل مختصا بالخلاف، بل حكمه في النهاية أيضا
كذلك، وكذا كل من يجوز شهادة بعضهم لبعض من أهل ملتهم، ولا يجوز
مع الاختلاف.
وزاد في المختلف والتنقيح على قوله: إذا ترافعوا إلينا، قوله: وعدلوا

(1) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 722، النهاية: 334، الخلاف 2: 614.
(2) المختلف: 722.
(3) التنقيح 4: 288، الكفاية: 279.
(4) الرياض 2: 427.
(5) الخلاف 2: 614.
32

الشهود عندهم (1).
وغرضه بيان اشتراط العدالة في دينهم في قبول الشهادة - أي كونه
عادلا بحسب دينهم - كما ذكره أصحابنا في الشهادة على الوصية أيضا..
وليس قيدا زائدا في ذلك القول، كما توهمه في التنقيح (2)، وحمله على أن
المراد تعديل الشهود عليه أيضا، كما يظهر من استدلاله له بموثقة سماعة
المتقدمة، الخالية عن المعارض رأسا.
واستدل في التنقيح أيضا: بأن بعد تعديل الشهود عندهم يكون قضاء
بالإقرار، لما تقدم من أنه إذا أقر الخصم بعدالة الشاهدين حكم عليه (3).
وفيه أولا: أن المراد من تعديل الشهود عندهم: كونهم عدولا في
ملتهم، لا عدولا بإقرار الخصم.
وثانيا: أن الحكم على المشهود عليه بإقراره بالعدالة لأجل تحقق
تمام السبب من الشاهد العادل، لا لأجل إقراره بالحق، وإلا لزم الحكم لو أقر
بعدالة الشاهد الواحد أيضا، وتمام السبب هنا فرع قبوله شهادة الكافر لمثله.
وثالثا: أن حكم الحاكم بالشاهد العادل باعتراف الخصم إنما هو إذا
لم يعرف الحاكم فسقه، والمفروض هنا عنده أن الحاكم يعلم فسقه.
نعم، قيد في الكفاية بقوله: وكونه مقبول الشهادة باعتقاد المدعى
عليه (4).
ويمكن أن يكون مراده أيضا أن يكون كذلك بحسب دينه وما يعتقده

(1) المختلف: 722، التنقيح 4: 288.
(2) التنقيح 4: 288.
(3) التنقيح 4: 288.
(4) الكفاية: 279.
33

من الدين.
وزاد الإسكافي جواز شهادته على أهل سائر الملل غير المسلمين (1)،
وظاهر الخلاف أنه أيضا مذهب جماعة (2).
ولعل دليله: صحيحة الحلبي ومحمد: وهل تجوز شهادة أهل ملة
على غير أهل ملتهم؟ قال: " نعم، إذا لم يجد من أهل ملتهم جازت شهادة
غيرهم، إنه لا يصلح ذهاب حق أحد " (3).
وجوابها: أنها معارضة مع صحيحة ضريس وموثقة سماعة (4)، فيرجع إلى
الأصل، مع أنهما أخص مطلقا منها، لدلالتها على قبول الشهادة مع عدم الغير
مطلقا، ودلالتهما بمعونة قطع الشركة بالتفصيل على اختصاص ذلك بالوصية.
هذا، مع أنه إن جعل مرجع ضمير: " ملتهم " الثانية وضمير:
" غيرهم " أهل الذمة يفسد المعنى إن أريدت ملة خاصة، إذ يصير المعنى:
أنه تجوز شهادة اليهودي - مثلا - على النصراني إن لم يوجد اليهودي.
وكذا إن أرجع ضمير " ملتهم " إلى ما ذكر، وضمير: " غيرهم " إلى غير
أهل ملتهم مع كونه خلاف الظاهر، إذ يصير المعنى: أنه إن لم يوجد
اليهودي تجوز شهادة النصراني على النصراني.
وإن أريد مطلق الذمي يكون المعنى: إن لم يوجد الذمي تقبل شهادة
غير الذمي، أي الحربي أو المسلم.
والأول خلاف الإجماع منطوقا.

(1) حكاه عنه في المختلف: 722.
(2) الخلاف 2: 614.
(3) الكافي 7: 4 / 2، الفقيه 3: 29 / 84 وفيه: عن عبيد الله بن علي الحلبي، التهذيب
9: 180 / 724، الوسائل 19: 310 أبواب أحكام الوصايا ب 20 ح 3، بتفاوت.
(4) المتقدمتين في ص 29.
34

والثاني مفهوما، إذ يدل على عدم قبول شهادة المسلم إن وجد اليهودي.
وإن جعل المرجعان: الغير، حتى يكون المعنى: تجوز شهادة
اليهودي - مثلا - على النصراني إذا لم يوجد نصراني، يصير مخالفا
للإجماع، إذ لم يقل أحد بذلك.
وظهر مما ذكرنا أنه لم تخرج من الأصل إلا صورة واحدة، وهي
شهادة أهل كل ملة على أهل ملته خاصة.
وهل تقبل له؟
الظاهر: لا، للأصل، إلا إذا كانت عليه أيضا فتسمع، لأن قبول
الشهادة عليه بالدليل، وعدم قبولها له بالأصل، والدليل مقدم على الأصل..
ومنه يعلم قبول شهادة الكافر للمسلم وغيره على أهل ملته أيضا، لما ذكر.
فروع:
أ: لا يختص قبول شهادة الكافر على أهل ملته بالذمي، بل يعم جميع
الكفار، كما هو ظاهر كلام الإسكافي والقاضي والسرائر والمسالك (1)
وغيرها (2)، حيث عبر بعضهم بأهل الملة، وبعضهم بالكافر، وبعضهم بمن
خالف الإسلام.
نعم، عبر بعضهم بأهل الذمة، وصرح أيضا في الإيضاح بالإجماع
على عدم قبول شهادة الحربي مطلقا (3)، ولكنه إجماع منقول ليس بحجة.

(1) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 722، القاضي في المهذب 2: 557، وانظر السرائر
2: 139، المسالك 2: 401.
(2) كالنهاية: 334.
(3) الإيضاح 4: 418.
35

نعم، لو قلنا باختصاص أهل الملة الواردة في الأخبار المتقدمة (1)
بغير الحربي يختص بالذمي، ولكن فيه تأمل.
ب: الكافر المنتحل إلى الإسلام كالمنكر لضروري الدين وكالمجبرة
والمجسمة على القول بكفرهم، لا تقبل شهادتهم، للأصل المذكور،
ولكونهم ذوي مخزية في الدين.. ولا تقبل لمثلهم أيضا، لعدم صدق الملة
عرفا على طريقتهم.
ج: قد خرج من الأصل المذكور أيضا: شهادة الذمي للمسلم وعليه
في الوصية بشروط خاصة تذكر، بلا خلاف يظهر، بل بالإجماع المحقق
والمنقول، نقله ابن زهرة وفخر المحققين والصيمري (2)، لذلك، ولقوله
سبحانه: * (أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم
مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم) *
الآية (3)، على بعض تفاسيرها.
وقال في الخلاف: * (منكم) * أي من أقاربكم، و: * (من غيركم) *
من الأجانب إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم
فاستشهدوا أجنبيين على الوصية (4).
والأول: هو المدلول عليه بالأخبار.
والثاني: مخالف للأصل والظاهر، مع أنه يثبت المطلوب بالإطلاق.
وللنصوص المستفيضة التي مر بعضها، ويأتي بعض آخر.

(1) راجع ص: 29 و 32.
(2) ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625، فخر المحققين في الإيضاح 2: 635.
(3) المائدة: 106.
(4) الخلاف 2: 614، وفيه... ذوا عدل منكم " يعني من المسلمين " أو آخران من
غيركم " يعني من أهل الذمة.
36

لا يقال: ليست هذه الأخبار مخصوصة بالمسلم، بل هي عامة،
فتعارض ما يدل على عدم قبول شهادة الكافر على المسلم - كصحيحة
الحذاء (1) - بالعموم من وجه، فيرجع إلى الأصل.
ولا يتوهم خصوصية صحيحة ضريس لقوله: " لا يصلح ذهاب حق
امرئ مسلم " (2)، لأن هذا المسلم إما الموصي أو الموصى له، والمشهود
عليه هو الوارث، ولم يصرح بكونه مسلما.. ومنه يظهر عدم خصوصية
رواية حمزة الآتية المتضمنة لقوله: " إذا مات الرجل المسلم ".
لأنا نقول: بعد كون الموصي مسلما يكون وارثه أيضا كذلك، لعدم
إرث الكافر من المسلم، فتكون رواية حمزة أخص مطلقا.
ولو سلم العموم من وجه لكان الترجيح أيضا لأخبار القبول،
للموافقة لعموم الكتاب، بل خصوصه بالتقريب المذكور، حيث إن الموصي
فيه مسلم قطعا، كما هو مقتضى الخطاب فيه.
ويشترط في قبولها أمور:
منها: عدم وجود مسلم، والظاهر كونه إجماعيا أيضا، وتدل عليه
صحيحة ضريس وموثقة سماعة المتقدمتين (3)، وصحيحة هشام: في قول
الله تعالى: * (أو آخران من غيركم) * قال: " إذا كان الرجل في أرض غربة
لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية " (4).
ولرواية يحيى بن محمد: عن قول الله تعالى: * (يا أيها الذين

(1) المتقدمة في ص 28.
(2) راجع ص 29.
(3) في ص 29.
(4) الكافي 7: 398 / 6، التهذيب 6: 252 / 653، الوسائل 27: 390 أبواب
الشهادات ب 40 ح 3.
37

آمنوا) * الآية، قال: " اللذان منكم مسلمان، واللذان من غيركم من أهل
الكتاب، فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس " إلى أن قال:
" وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من
أهل الكتاب يحبسان بعد العصر، فيقسمان بالله " إلى أن قال: " وذلك إن
ارتاب ولي الميت في شهادتهما " الحديث (1).
ورواية حمزة بن حمران: عن قول الله عز وجل * (ذوا عدل منكم) *
قال: فقال: " اللذان منكم مسلمان، واللذان من غيركم من أهل الكتاب "
فقال: " إنما ذلك إذا مات الرجل المسلم في أرض غربة، وطلب رجلين
مسلمين ليشهدهما على وصيته، فلم يجد مسلمين، فليشهد على وصيته
رجلين ذميين من أهل الكتاب، مرضيين عند أصحابهما " (2).
وصحيحة أحمد بن عمر، وفيها: " اللذان منكم مسلمان واللذان من
غيركم من أهل الكتاب، فإن لم يجد من أهل الكتاب فمن المجوس " إلى
أن قال: " وذلك إذا مات الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلمين يشهدهما
فرجلان من أهل الكتاب " (3).
ومرفوعة علي بن إبراهيم، وهي طويلة، وفيها: " فأطلق الله تعالى
شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان في سفر ولم يجد
المسلمين " (4)، وبها يقيد إطلاق الآية.

(1) الكافي 7: 4 / 6، الفقيه 4: 142 / 487، التهذيب 9: 178 / 715، الوسائل
19: 311 أبواب أحكام الوصايا ب 20 ح 6.
(2) الكافي 7: 399 / 8، التهذيب 6: 253 / 655، الوسائل 19: 312 أبواب أحكام
الوصايا ب 20 ح 7.
(3) الفقيه 3: 29 / 85، الوسائل 27: 390 أبواب الشهادات ب 40 ح 2.
(4) الكافي 7: 5 / 7، تفسير القمي 1: 189، المحكم والمتشابه: 76، الوسائل
19: 314 أبواب أحكام الوصايا ب 21 ح 1.
38

وهل الشرط عدم وجود مسلم عدل مطلقا ولو امرأة، أو عدم رجل
مسلم كذلك، أو عدم رجلين مسلمين كذلك، أو عدم عدلين مسلمين؟
اختلفت في التعبير في هذا المقام كلمات الأصحاب، فبين مشترط
لعدم المسلم الشامل للواحد والمتعدد الفاسق والعادل، كالنافع والمبسوط (1).
وأظهر منه كلام الشيخ في النهاية في باب الوصايا، قال: ولا تجوز
شهادة من ليس على ظاهر الإسلام في الوصية، إلا عند الضرورة وفقد المسلم،
بأن يكون الموصي في موضع لا يجد فيه أحدا من المسلمين ليشهده على
وصيته، فإنه يجوز - والحال هذه - أن يشهد نفسين من أهل الذمة ممن ظاهره
الأمانة عند أهل ملته، ولا تجوز شهادة غير أهل الذمة على حال (2). انتهى.
وهو الظاهر مما نقل في المختلف عن المقنعة والعماني والديلمي
والحلي والقاضي (3).
ولعدم المسلمين كالإسكافي (4).
والحلبي يشمل العدل المسلم (5) كالشرائع، قال: إذا لم يوجد من
عدول المسلمين من يشهد بها (6).
ولعدم عدول المسلمين، كما في القواعد والإيضاح والمسالك (7).
ولعدم المسلمين العدلين، كبعض شراح المفاتيح.

(1) النافع: 287، المبسوط 8: 187.
(2) النهاية: 612.
(3) المختلف: 722.
(4) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 722.
(5) الكافي في الفقه: 436.
(6) الشرائع 4: 126.
(7) القواعد 2: 236، الإيضاح 4: 418، المسالك 2: 401.
39

ولا يخفى أن مقتضى إطلاق الروايتين الأوليين (1) أن الشرط فقد
المسلم مطلقا ولو كان واحدا أنثى، إلا أن مقتضى ما بعدهما من الأخبار
المعبرة بالمسلم الذي هو حقيقة في الذكر فتخرج الأنثى.
والمستفاد من الأربعة الأخيرة اشتراط فقد رجلين مسلمين، ولكونها
أخص مطلقا من الطائفة الأولى يجب تخصيصها بها، فتقبل مع وجود رجل
مسلم ولو عدل.
وأما اشتراط فقد العدلين من المسلمين، فتقبل مع وجود المسلمين
الفاسقين أيضا، أم لا فلا تقبل مع وجودهما؟
ظاهر إطلاق أكثر الأخبار: عدم الاشتراط، وليست في الآية دلالة
على الاشتراط، إلا أن ظاهر قوله: " ليشهدهما " في رواية حمزة،
و: " يشهدهما " في صحيحة أحمد بن عمر الاشتراط، لأن العدلين هما
اللذان يشهدان فتؤثر شهادتهما.
وحمل الإشهاد على الإحضار وسماع الشهادة - سواء قبلت أم لا -
خلاف الظاهر المتبادر، وكذلك ظاهر التعليل في الروايتين الأوليين، إذ
لو لم تقبل شهادة الكافر مع وجود مسلمين فاسقين - والمفروض عدم
كفاية شهادة الفاسقين أيضا - يذهب الحق.
فإن قيل: فلتقبل حينئذ شهادة الفاسقين دون الكافرين.
قلنا: الظاهر أنه خلاف الإجماع، ولكن المنقول عن التذكرة تقديم
المسلمين المجهولين، بل الفاسقان المتحرزان عن الكذب (2). واحتمله
الأردبيلي (3).

(1) أي موثقة سماعة وصحيحة ضريس المتقدم نصهما في ص 29.
(2) التذكرة 2: 522.
(3) زبدة البيان: 474.
40

وعلى هذا يمكن منع الإجماع، ولكنه خلاف الأصل. ودفعه بالتعليل
عليل، لما يأتي من إجماله.
ومن ذلك يظهر أنه يتجه اشتراط فقد العدلين من المسلمين، اللذين
يعرف الوارث أو الحاكم عدالتهما، أو يمكن إثباتها، وكذا العدلين اللذين
يمكنهما تحمل الشهادة والأداء، فلا يكفي في عدم القبول وجود الأصمين
اللذين لا يسمعان الشهادة، أو الأخرسين الغير المتمكنين من الأداء،
والبعيدين اللذين لا يمكنهما أداء الشهادة على الوارث.
ومنه ظهر أيضا أنه لا يكفي في عدم القبول كون أحد المسلمين
العدلين الموصى له، أو من لا تقبل شهادته في حقه.
وهل يكفي المسلمان اللذان أحدهما عدل، على القول بقبول شاهد
واحد مع اليمين في عدم قبول شهادة الذميين؟
مقتضى قوله: " يشهدهما " (1): لا، وإن لم يجر التعليل هنا، بل يمكن
إثبات الحكم بكل من الذميين والشاهد واليمين.
ولو كان هناك مسلمان عدلان وذميان كذلك، فسمع الجميع الشهادة،
ومات المسلمان أو أحدهما قبل الأداء، أو فسق، أو جن، لم تقبل شهادة
الذميين، للأصل، وعدم شمول الإطلاقات لمثل ذلك.
ولو كان حاكم من المسلمين غير نافذ الحكم على الوارث تقبل
شهادة الكافر، للتعليل، بل الإطلاق.
ولو كان نافذ الحكم متمكنا منه، ففي قبول شهادة الكافر عند حاكم
آخر إشكال، وكذا في قبولها مع وجود أربع مسلمات، والظاهر القبول وإن
أمكن الإثبات بنوع آخر.

(1) في صحيحة أحمد بن عمر، المتقدمة في ص 36.
41

ومنها: أن يكون فقد المسلم حال تحمل الشهادة والاستشهاد،
للأصل، وللأخبار المتقدمة، فلا تقبل مع وجوده حينئذ وإن فقد حال الأداء..
ومنها: الضرورة، فإنه قيد الشيخ في النهاية القبول بالضرورة،
وكذلك صاحب المفاتيح (1) وبعض المعاصرين من مشايخنا (2).
وقيد في شرح المفاتيح بالضرورة وفقد العدلين المسلمين.
فإن كان المراد بالضرورة: عدم إمكان إشهاد الغير ممن تقبل شهادته،
فهو كذلك، ولكن قيد فقد المسلم يغني عنه.
وإن كان لزوم الوصية - كأن يوصي بحق لازم - فلا دليل على
اشتراطه.
ولا يتوهم أن التعليل المتقدم يثبته، فإن مقتضاه الاختصاص بالحقوق
اللازمة الأداء، لأن في التعليل إجمالا لا يصلح بانفراده للاستناد - كما يأتي -
وإن ذكرناه مع غيره تأييدا، مع أن للموصي أيضا حقا في ماله، كما ورد في
الأخبار: إن الإنسان أحق بماله ما دام حيا (3)، فيجري التعليل في غير
الحقوق اللازمة أيضا.
ومنها: أن يكون الكافران من أهل الكتاب أو شبهه، للإجماع،
ولصحيحة أحمد، وروايتي يحيى وحمزة (4)، الدالة كلها على الحصر، وبها
تقيد إطلاقات الآية (5) والأخبار (6).

(1) النهاية: 612، المفاتيح 3: 230.
(2) كصاحب الرياض 2: 64.
(3) انظر الوسائل 19: 296 أبواب أحكام الوصايا ب 17.
(4) المتقدمة جميعا في ص 35 و 36.
(5) المائدة: 106.
(6) انظر الوسائل 27: 389 أبواب الشهادات ب 40.
42

ومنها: أن يكونا اثنين فصاعدا، لصريح الآية، والأخبار الثلاثة
المذكورة (1)، والظاهر أنه أيضا إجماعي.
وهل تقبل شهادة مسلم عدل وذمي كذلك، أم يشترط الذميان؟
الظاهر الأخير، اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد النص..
ودعوى الأولوية ممنوعة، لعدم معلومية العلة.
فإن قيل: العلة بالنص معلومة، وهي عدم صلاحية ذهاب حق أحد.
قلنا: هذا على فرض ثبوت حق لأحد، والكلام بعد فيه، وأيضا
للوارث حق، فلعل في القبول ذهاب.
ومنها: أن يكونا ذكرين، للآية، والأخبار، والأصل، فلا تقبل شهادة
أربع ذميات.
ومنها: أن يكونا عدلين في مذهبهما، ذكره أكثر الأصحاب (2)، بل
قيل: لا خلاف فيه أجده (3).
واستدل له بالآية، حيث فسرت بأن معنى * (أو آخران) * أي اثنان
ذوا عدل من غيركم (4). وفيه نظر.
ويستدل (5) أيضا برواية حمزة المتقدمة، وهي دالة على اشتراط
كونهما مرضيين. والظاهر أن المرضي أعم من العادل.

(1) في ص 36.
(2) منهم المفيد في المقنعة: 727، والحلبي في الكافي في الفقه: 436، والشهيد
الثاني في المسالك 2: 401، والكاشاني في المفاتيح 3: 277، والسبزواري في
الكفاية: 279.
(3) انظر الرياض 2: 64.
(4) كما في المسالك 2: 401.
(5) كما في كشف اللثام 2: 370.
43

والتحقيق: أنه إن قلنا بتحقق العدالة في غير المسلم - كما هو الظاهر -
فيثبت المطلوب بأخبار اشتراط العدالة في الشاهد (1)، وإلا فالمراد ليس إلا
كونهما مرضيين عند أصحابنا، فيثبت المطلوب بالرواية المذكورة.
ومنها: أن يكون الموصي في السفر عرفا - أي في أرض غربة -
اعتبره جماعة، كصريح المحكي عن الإسكافي والحلبي (2)، وظاهر
المبسوط والغنية (3)، بل قيل: ربما يفهم من الأخيرين كونه إجماعيا (4).
لمفهوم الشرط في الآية، وغير الأوليين من الأخبار المتقدمة، بل
دلالة روايتي يحيى وحمزة وصحيحة أحمد على الحصر.
خلافا للمحكي عن أكثر المتأخرين (5)، بل عامتهم كما قيل (6)، بل
الأكثر مطلقا، وظاهر كثير من القدماء، كالشيخين في المقنعة والنهاية
والعماني والديلمي والقاضي والحلي (7)، بل قيل: وربما ظهر من الشرائع
والتحرير انعقاد الإجماع عليه، حيث قالا: وباشتراط الغربة رواية
مطرحة (8).
لظاهر التعليل المتقدم، أي مراعاة الحق عن الذهاب، الموجودة في

(1) الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.
(2) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 722، الحلبي في الكافي: 436.
(3) المبسوط 8: 187، الغنية (الجوامع الفقهية): 625.
(4) الرياض 2: 426.
(5) كالعلامة في التحرير 2: 208، والشهيد في الدروس 2: 124، والشهيد الثاني
في الروضة 3: 128.
(6) في الرياض 2: 426.
(7) المقنعة: 727، النهاية: 334، حكاه عن العماني في المختلف: 722، الديلمي
في المراسم: 202، القاضي في المهذب 2: 120، الحلي في السرائر 2: 139.
(8) انظر الرياض 2: 426.
44

غير السفر أيضا.
وإطلاق صحيحة ضريس وموثقة سماعة، الخاليتين عن المخصص
والمقيد، سوى مفهومي الحصر والشرط المتقدمين، وهما ضعيفان،
لورودهما مورد الغالب.
ويرد الأول بما مر من الإجمال، لأنه إن أريد من الحق الحق المعلوم
فهو ليس بمعلوم، إذ ليس محل النزاع ما إذا حصل العلم من قول
الشاهدين، لأن اعتباره حينئذ لا يشترط بشئ من العدد والعدالة والذمية
والوصية، بل هو في صورة عدمه، فمن أين يعلم الحق؟! ولو تم ذلك
لجرى في كل دعوى لا شاهد عليها أصلا أن يقال: يسمع قول المدعي لئلا
يذهب حقه.
وإن أريد الحق المحتمل فيحتمل عدم تحقق الوصية وذهاب حق
الوارث بالقبول أيضا.
والثاني بالتقييد بما استدل به الأولون، ورده بوروده مورد الغالب يرد
على الإطلاق أيضا، فلينصرف هو أيضا إلى الغالب، ويرجع إلى الأصل.
مع أن الغلبة المدعاة في زمان صدور نزول الآية - بل صدور الأخبار -
ممنوعة، لجواز كون مسلمين كثيرين متوطنين في مواضع يقل فيه المسلم.
مع أن هذا الحكم لا يختص بالمسلم حتى تدعى الغلبة، بل تقبل
شهادة الذميين في الوصية على مثله وغيره من أصناف الكفار.
ومنها: أن يحلف الذميان الشاهدان بالصورة المذكورة في الآية،
اعتبره الفاضل في التذكرة (1)، وجعله في المسالك أولى (2)، لدلالة الآية

(1) التذكرة 2: 521.
(2) المسالك 2: 401.
45

عليه، وعدم منافاة عمومات النصوص له.
وأورد عليه بأن الآية مخصوصة بصورة الارتياب، فلا تدل على
الإطلاق كما ذكروه.
ويمكن أن يقال: إنه ما لم يحصل العلم فالارتياب متحقق، وحصول
العلم من شهادتهما إما غير متحقق أو نادر.
ومنها: أن تكون في الوصية إجماعا، ووجهه ظاهر، فلا تقبل في
غيرها ولو استشهد به حال حضور موت المستشهد.
فلو أقر حينئذ بدين أو حق لازم وأوصى بأدائه لا يثبت الحق بشهادة
الكافرين، بل تثبت وصيته بالأداء، ويجب على من أوصي إليه بأدائه الأداء
بعد ثبوت الحق بشهادة المسلم.
ولو قال: لفلان علي حق كذا فأدوه، يتوقف وجوب الأداء على
الوصي بعد ثبوت الحق.
ومنها: أن تكون في الوصية بالمال خاصة، فلا تثبت بشهادتهما
الولاية على الصغير المعبر عنها بالوصاية، اعتبره جماعة (1)، وقوفا فيما
خالف الأصل على مورده، قال المحقق الأردبيلي: وتشعر به بعض
الروايات.
أقول: لم أظفر على تلك الرواية المشعرة بذلك، ويمكن أن يكون
نظره إلى الروايات المتضمنة للتعليل المتقدم، حيث إن ذهاب الحق يكون
في الوصية بالمال.
وفيه: أن الولاية أيضا حق للوصي، بل تسليط الوصي على الصبي

(1) كما في السرائر 2: 139، والتحرير 2: 208، والتنقيح 4: 287، والرياض 2:
426.
46

أيضا حق للموصي.
وبالجملة: الوصية في النصوص مطلقة، وللقسمين شاملة، وتفرقة
بعض المتشرعة بينهما - بتسمية أحدهما وصية والآخر وصاية - لا يوجب
حصول حقيقة شرعية لها.
الرابع: الإيمان بالمعنى الأخص.
أي كونه من الفرقة الناجية الاثني عشرية، واشتراطه هو المعروف من
مذهب الأصحاب، بل عن جماعة - منهم: صاحب المهذب والتنقيح
والمسالك والصيمري والأردبيلي - الإجماع عليه (1)
ويدل عليه الأصل المتقدم.
ولا تفيد عمومات قبول شهادة المسلم أو من ولد على الفطرة أو
العادل (2) إن قلنا بتحقق العدالة في المخالف أيضا، لمعارضتها مع روايتي
السكوني (3) المنجبرتين، المتضمنتين لعدم قبول شهادة كل ذي مخزية في
الدين، المعتضدتين بما في الأخبار من أنهم شر من اليهود والنصارى ومن
الكلاب، وباشتراط كون الشاهد مرضيا - كما مر في المغفل - بل هو بنفسه
دليل بالتقريب المتقدم فيه.
وقد يقال أيضا بعدم شمول الإطلاقات والعمومات لغير المؤمن
بحكم التبادر وغيره (4).

(1) التنقيح 4: 287، المسالك 2: 401، وحكاه عنهم في الرياض 2: 426.
(2) كما في الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.
(3) المتقدمتين في ص 27.
(4) كما في الرياض 2: 426.
47

وفيه منع ظاهر.
وبخروج غير المؤمن من نحو " رجالكم " و " ترضون " من الخطابات
الشفاهية المختصة بالموجودين في زمن الخطاب، ولم يكن المخالف
موجودا فيه.
وفيه ما فيه، فإن الموافق أيضا كذلك، إلا قليل من أرباب السر.
وقد تخصص الإطلاقات أيضا بقوله سبحانه: * (ممن ترضون) * (1)
بضميمة ما ورد في تفسير الإمام في تفسيره (2).
وقد عرفت ما فيه أيضا.
وقد يستدل (3) لعدم قبول شهادة المخالفين بالأخبار المتكثرة
المصرحة بكفرهم، فلا تشملهم عمومات قبول شهادة المسلم.
وبتعميمهم ما دل على رد شهادة الكافر، لأن بها يثبت إما كفرهم
حقيقة - كما هو رأي كثير من قدماء الأصحاب - فيخرجون عن عنوان
المسلم، أو مشاركتهم للكفار في الأحكام، التي منها عدم قبول الشهادة.
وفيه: منع ثبوت الكفر الحقيقي لهم، كما ثبت في موضعه.
ومنع دلالة إطلاق الكافر عليهم على مشاركتهم لهم في جميع
الأحكام، لما بين في الأصول من أن الشركة المبهمة لا تفيد العموم.
وقد يستدل (4) أيضا بآية النبأ (5)، وسائر ما يدل على رد شهادة
الفاسق، ولا شك في فسقهم، لحكمهم بالباطل وبغير ما أنزل الله، * (ومن

(1) البقرة: 282.
(2) راجع ص 24 و 26.
(3) كما في الرياض 2: 426.
(4) كما في الشرائع 4: 126.
(5) الحجرات: 6.
48

لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) * (1)، وقد ورد في أخبار
العترة: أنهم الفساق (2)، وأي فسق أعظم من اعتقادهم الفاسد، الذي هو من
أكبر الكبائر؟!
وفيه ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني من أن الفسق إنما يتحقق بفعل
المعصية مع عدم اعتقاد كونه طاعة (3).
ورد تارة: بأن مع ذلك الاعتقاد وإن لم يكن فاسقا حقيقة ولكنه
يصدق عليه عرفا (4).
وأخرى: بأن معه وإن لم يكن فاسقا عرفا - حيث إن المتبادر منه
مدخلية الاعتقاد في مفهومه - ولكنه فاسق لغة وشرعا، لعدم مدخلية
الاعتقاد فيه عليهما (5).
ويرد على الأول: بأن ألفاظ الكتاب والسنة تحمل على المعاني
الحقيقية دون عرفية ذلك الزمان، وإن أراد عرف زمان الشارع فممنوع جدا.
وعلى الثاني: أن الفسق في اللغة والشرع ليس موضوعا للأعمال
المخصوصة مطلقا - ولذا لا يقال بفسق شارب الخمر دواء أو جبرا، وكذا
مفطر الصيام ونحوه - بل للخروج عن طاعة الله، وهو لا يتحقق إلا بالعلم
بالنهي، فكيف مع اعتقاد الأمر؟! ولو لم يكن كذلك لزم فسق جميع
المجتهدين ومقلديهم، إلا واحدا غير معين، لأن حكم الله الحقيقي ليس إلا
واحدا، والمخالفة في الفروع أيضا تجاوز عن الحد، وكون كل مجتهد

(1) المائدة: 47.
(2) انظر الوسائل 27: 373 أبواب الشهادات ب 30.
(3) المسالك 2: 401.
(4) انظر كفاية الأحكام: 279.
(5) انظر الرياض 2: 426.
49

مكلفا بما أدى إليه نظره يجري في الأصول أيضا، لمشاركة الدليل.
فالمناط في رد شهادة المخالف هو الإجماع والأصل.
ولا تعارضهما صحيحة ابن المغيرة: رجل طلق امرأة وأشهد شاهدين
ناصبيين، قال: " كل من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح من نفسه جازت
شهادته " (1).
إذ لم يصرح فيها بقبول شهادة الناصبي، بل عدل عنه إلى ما عدل،
ولا يعلم أن الناصبي مولود على الفطرة، لأنه كافر بالإجماع بالكفر المقابل
للإسلام، وليس معروفا بالصلاح، لأنه ضد الفساد، وأي فساد أكبر من
عداوة من صرح الكتاب العزيز بوجوب مودته؟!
ولو سلم فغاية الجواب: العموم المعارض مع ما مر، اللازم رفع اليد
عنه والرجوع إلى الأصل.
ثم إن في حكم المخالف كل ما خالف الشيعة في العقائد الحقة الثابتة
بالضرورة من أئمتهم الأطياب، مما يوجب الخزي في الدين، والله الموفق
والمعين.
الخامس: العدالة.
والكلام فيها إما في اشتراطها في الشاهد، أو بيان حقيقتها وما تتحقق
به وما تعرف به، أو فيما يسقطها من خصوص المعاصي، أو في كيفية
البحث عنها في الشاهد، فهاهنا أربعة أبحاث:

(1) الفقيه 3: 28 / 83، التهذيب 6: 283 / 778، الإستبصار 3: 14 / 37، الوسائل
27: 393 أبواب الشهادات ب 41 ح 5.
50

البحث الأول
في بيان اشتراطها في الشاهد
وهو مما لا خلاف فيه بين الأصحاب - كما في الكفاية (1) - بل هو
مجمع عليه، وصرح بالإجماع أيضا جماعة، منهم: المحقق الأردبيلي
والشهيد الثاني وصاحب المفاتيح وشارحه (2)، بل ادعى الأخيران وبعض
مشايخنا المعاصرين الضرورة الدينية عليه (3)، ويدل على الإجماع تطابق
كلمات القدماء والمتأخرين على اعتبارها فيه من غير نقل خلاف.
وأما ما في كلام بعض القدماء - من كفاية ظاهر الإسلام مع عدم
ظهور الفسق (4) - فليس مراده نفي اشتراط العدالة، ولا أنه هو العدالة كما قد
يتوهم، بل مراده أن الأصل فيه العدالة، لا بمعنى أن العدالة أصل بالنسبة
إلى الفسق، بل بمعنى أن القاعدة الثابتة من الشرع الحكم بثبوت العدالة
فيه، نظير الذبائح في سوق المسلمين والجلود في أيديهم، فإن التذكية فيها
وإن كانت شرطا ضرورة، وكانت على خلاف الأصل أيضا، إلا أن القاعدة
الشرعية: الحكم فيما يؤخذ عن المسلم بالتذكية.
ويكشف عما ذكرنا - من أن مرادهم ليس نفي اشتراط العدالة - أن
ممن ينسب إليه كفاية ظاهر الإسلام: الإسكافي والمفيد والشيخ في
الخلاف، وصرح كل منهم باشتراطها.

(1) الكفاية: 279.
(2) الشهيد الثاني في المسالك 2: 401، المفاتيح 3: 278.
(3) كما في الرياض 2: 427.
(4) كما في الإستبصار 3: 14، والمبسوط 8: 104، وحكاه في المختلف: 704 - 705.
51

قال الأول: لو كانت بينة المدعي من لا يعرف الحاكم عدالتها، فرق
بينهم، ويسمع من غير محضر المدعى عليه، ثم سأله عنهما، فإن زكاهما
عليه أنفذ القاضي الشهادة عليه، وإن جرح المطلوب الشاهدين سأل القاضي في
السر والعلانية، وقال لمدعي الجرح: ثبت جرحك، وأنفذ القاضي نفسين
بالمسألة، فإن عدلت البينة ولم يثبت المدعى عليه جرحه أنفذ الحاكم عليه، وإن
رجع من وجه الحاكم لا بجرح ولا تعديل كانت الشهادة ساقطة (1). انتهى.
وقال الثاني: إذا شهد عند الحاكم من لا يخبر حاله ولم تتقدم
معرفته، وكان الشاهد على ظاهر العدالة، كتب شهادته ثم ختم عليها،
ولم ينفذ الحكم بها حتى يثبت أمره ويتعرف أحواله، فإن عرف له
ما يوجب جرحه أو التوقف في شهادته لم يمض الحكم بها، وإن لم يعرف
شيئا ينافي عدالته وإيجاب الحكم لم يتوقف (2). انتهى.
وقال الثالث: إذا شهد عند الحاكم شاهدان يعرف إسلامهما ولا يعرف
منهما جرح حكم بشهادتهما، ولا يقف على البحث، إلا أن يجرح
المحكوم عليه، فحينئذ يجب عليه البحث، وبه قال أبو حنيفة في الأموال
والنكاح والطلاق والنسب، وإن كانت في قصاص أو حد لا يحكم حتى
يبحث عن عدالتهما، ومنع الشافعي وأبو يوسف ومحمد من الحكم حتى
يبحث عنهما.
دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا الأصل في المسلم العدالة،
والفسق طار عليه، وأيضا يعلم أنه ما كان البحث في أيام النبي (صلى الله عليه وآله)،

(1) حكاه عنه في المختلف: 705 وفيه:... وإن رجع اللذان وجه بهما الحاكم
بجرح وتعديل كانت الشهادة ساقطة.
(2) المقنعة: 730.
52

ولا أيام الصحابة، ولا التابعين، وإنما هو شئ أحدثه شريك بن عبد الله
القاضي، فلو كان شرطا ما أجمع أهل الأعصار على تركه (1). انتهى.
فإن كلام الأولين صريح في اشتراط العدالة، ويظهر من قول
الثالث -: وأيضا الأصل في المسلم العدالة - ذلك أيضا، وإلا لم يكن لذلك
الاستدلال وجه.
وأما ما ذكرنا - من أن مرادهم ليس أن العدالة هو ظاهر الإسلام مع
عدم ظهور الفسق - فيأتي بيانه، وإن كان يستفاد من ظاهر كلام بعضهم أنه
حمل كلامهم أن مجرد ذلك هو العدالة (2).
وربما يشعر بما ذكرنا من الأمرين أن جماعة من الفقهاء عنونوا
عنوانين:
أحدهما: مسألة وجوب البحث عن العدالة وعدمها.
والثاني: اعتبار العدالة في الشاهد وبيان معناها.
وذكروا الأول في كتاب القضاء، وجعلوه من آداب القاضي، ونسبوا
الخلاف فيه إلى من يحكى عنه كفاية ظاهر الإسلام.
وذكروا الثاني في كتاب الشهادات، وادعوا عليه الإجماع، ولم ينسبوا
الخلاف فيه إلى أحد.
ويدل على الأمرين أيضا ما ذكره الشيخ في الاستبصار، حيث إنه
- بعد نقل رواية ابن أبي يعفور - نقل مرسلة يونس المتضمنة للأمر بالأخذ
بظاهر الحال في خمسة أشياء، ثم ذكر أنه لا منافاة بينهما، لأن المراد من
الثانية: عدم وجوب الفحص والتفتيش، ومن الأولى: بيان ما تتحقق به

(1) الخلاف 2: 591.
(2) المسالك 2: 361.
53

العدالة وما يقدح فيها واقعا وإن لم يلزم التفتيش عنها (1).
نعم، ظاهر كلام الفاضل في المختلف يفيد أنه فهم منهم عدم
اشتراط العدالة، حيث إنه - بعد ما نقل عبارات الأصحاب ممن يكتفي
بظاهر الحال ومن لا يكتفي به - قال: والمعتمد اشتراط العدالة، لنا: إلى
آخر ما قال (2).
وظاهر ما استدل به أيضا إثبات اشتراط العدالة، والظاهر أن مراده
أيضا ما ذكرنا، وأراد من اشتراط العدالة اشتراط العلم بها بنفسها، وعدم
كفاية ظاهر الإسلام في الحكم.
وكيف كان، فيظهر للمتتبع اتفاق الأصحاب كلا على اشتراطها
وتحقق الإجماع عليه، فهو الأصل فيه، مع الكتاب، والسنة..
أما الأول: فقوله سبحانه: * (اثنان ذوا عدل منكم) * (3).
وقوله تعالى شأنه: * (يحكم به ذوا عدل) * (4).
وقوله عز جاره: * (وأشهدوا ذوي عدل) * (5).
ويتم المطلوب بالإجماع المركب.
وأما الثانية: فكثيرة جدا، بل متواترة، منها: صحيحة ابن أبي يعفور،
وفيها: بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم
وعليهم (6)؟ دلت بالمفهوم على عدم القبول بدون معرفة العدالة.

(1) الإستبصار 3: 13 - 14.
(2) المختلف: 705.
(3) المائدة: 106.
(4) المائدة: 95.
(5) الطلاق: 2.
(6) الفقيه 3: 24 / 65، التهذيب 6: 241 / 596، الإستبصار 3: 12 / 33، الوسائل
27: 391 أبواب الشهادات ب 41 ح 1.
54

ومرسلة يونس: " استخراج الحقوق بأربعة وجوه: شهادة رجلين
عدلين " الحديث (1).
ورواية أبي حمزة: " أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة " (2)
الخبر.
وصحيحة البجلي: " لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا " (3).
وفي صحيحته الأخرى الطويلة - الواردة في قضاء شريح في درع
طلحة -: " وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا " (4).
ورواية محمد في شهادة المملوك: " إذا كان عدلا فهو جائز
الشهادة " (5).
ورواية جابر: " شهادة القابلة جائزة على أنه استهل أو برز ميتا إذا سئل
عنها فعدلت " (6).

(1) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 4.
(2) الكافي 7: 432 / 20، التهذيب 6: 287 / 796، وفيهما: عن الحسين بن
ضمرة، عن أبيه، عن جده، وفي الخصال: 155 / 195، والوسائل 27: 231
أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 1 ح 6: عن ضمرة بن أبي ضمرة، عن أبيه،
عن جده.
(3) الكافي 7: 389 / 1، التهذيب 6: 248 / 634، الإستبصار 3: 15 / 42،
الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 1.
(4) الكافي 7: 385 / 5، الفقيه 3: 63 / 213 وفيه: وروى محمد بن قيس عن أبي
جعفر عليه السلام...، التهذيب 6: 273 / 747، الإستبصار 3: 34 / 117،
الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 6.
(5) الكافي 7: 389 / 2، التهذيب 6: 248 / 633، الإستبصار 3: 15 / 41،
الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 3.
(6) التهذيب 6: 271 / 737، الوسائل 27: 362 أبواب الشهادات ب 24 ح 38.
55

وفي صحيحة حماد بن عثمان: " ولا يقبل في الهلال إلا رجلان
عدلان " (1).
وفي صحيحة محمد: " ولم يجز في الهلال إلا شاهدي عدل " (2).
وفي رواية داود الطويلة: " لا تجوز شهادة النساء في الفطر إلا شهادة
رجلين عدلين " (3).
ومكاتبة الصفار الصحيحة، وفيها: " إذا شهد معه آخر عدل فعلى
المدعي يمين " (4).
ومرسلة الفقيه، وفيها: " وإن شهد رجلان عدلان على شهادة رجل
فقد ثبتت شهادة رجل واحد " (5).
وفي صحيحة الحلبي - الواردة في جمال استكري لحمل زيت،
فادعى أنه انخرق بعض الزقاق وأهرق ما فيه -: " لا يصدق إلا ببينة
عادلة " (6).
ورواية مسمع بن عبد الملك: " إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يحكم في

(1) التهذيب 6: 269 / 724، الإستبصار 3: 30 / 96، الوسائل 27: 355 أبواب
الشهادات ب 24 ح 17.
(2) الكافي 7: 386 / 8، التهذيب 6: 272 / 740، الإستبصار 3: 32 / 108،
الوسائل 27: 264 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 1.
(3) التهذيب 6: 269 / 726، الإستبصار 3: 30 / 98، الوسائل 27: 361 أبواب
الشهادات ب 24 ح 36.
(4) الكافي 7: 394 / 3، الفقيه 3: 43 / 147، التهذيب 6: 247 / 626، الوسائل
27: 371 أبواب الشهادات ب 28 ح 1.
(5) الفقيه 3: 41 / 135، الوسائل 27: 404 أبواب الشهادات ب 44 ح 5.
(6) الكافي 5: 243 / 1، الفقيه 3: 162 / 710، التهذيب 7: 217 / 950، الوسائل
19: 148 في أحكام الإجارة ب 30 ح 1.
56

زنديق إذا شهد عليه رجلان عدلان مرضيان وشهد له ألف بالبراءة جازت
شهادة الرجلين وأبطل شهادة الألف، لأنه دين مكتوم " (1).
ورواية الشحام - الواردة في مثل الواقعة أيضا - وفيها: " فلا يقبل إلا
ببينة عادلة " (2).
إلى غير ذلك من الأخبار المتكثرة الواردة في الموارد المتشتتة..
واختصاص بعضها ببعض الشهود - كالمملوك أو القابلة - وبعض آخر
ببعض الموارد - كالاستهلال أو الهلال أو الوصية أو نحوها - غير ضائر،
لعدم القول بالفصل قطعا.
وقد يستدل أيضا بالأخبار المتقدمة المتضمنة لاشتراط الصلاح، أو
المعروفية به، أو كونه عفيفا صائنا، أو مأمونا، أو خيرا، أو مرضيا، سيما
بضميمة ما مر في تفسيره نقلا عن تفسير الإمام (3).
وبالأخبار المتضمنة لاشتراط التوبة في القبول إذا صدر منه ذنب (4).
وبالأخبار المتقدمة في كتاب القضاء، المتضمنة لاعتبار الأعدلية (5)،
والرجوع إلى القرعة مع التساوي.
وبالأخبار المتضمنة لرد شهادة الفاسق (6)، المثبتة لاشتراط عدمه،
المستلزم لاشتراط العدالة، وعليه فتكون آية النبأ (7) أيضا دليلا.

(1) الكافي 7: 404 / 9، التهذيب 6: 278 / 762، الوسائل 27: 410 أبواب
الشهادات ب 51 ح 1، بتفاوت يسير.
(2) التهذيب 7: 129 / 564، الوسائل 19: 148 أبواب أحكام الإجارة ب 30 ذ ح 1.
(3) راجع ص 24 و 26.
(4) انظر الوسائل 27: 383 و 385 أبواب الشهادات ب 36 و 37.
(5) انظر الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.
(6) انظر الوسائل 27: 373 أبواب الشهادات ب 30.
(7) الحجرات: 6.
57

ويمكن المناقشة في الأولين: بعدم معلومية اتحاد الصلاح اللغوي
والعدالة واستلزامه لها وإن أمكن القول باتحاد العرفي واستلزامه لها، وإرادة
العرفي غير معلومة.
وفي الأربعة المتعقبة لهما: باحتمال أعمية الأوصاف المذكورة - من
العفة والصيانة والائتمان والخيرية وكونه مرضيا - من العدالة، وإن احتمل
إرادة ما يساوق العدالة أيضا، كالعفيف من محارم الله، والصائن نفسه معها،
والمأمون في تدينه، والمرضي كذلك.
وفي أخبار قبول شهادة التائب: بمثل ذلك أيضا، إذ ليس كل تائب
عن الذنب بعادل، سيما إذا لم يسبق ذنبه بالعدالة.
وفي أخبار الأعدلية: بعدم الدلالة.
وفي أخبار الفسق: بأنها إنما تتم على انتفاء الواسطة بين العلم
بالفسق والعدالة، وهو محل نظر ومناقشة، كما بينا في المناهج.
فالأولى الاكتفاء في الاستدلال بما ذكرنا وأمثالها، وهي كافية في
المطلوب، سيما مع مطابقة الكتاب، وموافقة الإجماع، والمعاضدة بالعقل
والاعتبار.
ولا تعارض هذه الأخبار الأخبار المشار إليها - المتضمنة للصلاح
والعفة والائتمان والارتضاء، وكفاية تلك الأوصاف في قبول الشهادة - لما
عرفت من احتمال أن يكون المراد منها ما يساوق العدالة.
نعم، الظاهر أنه تعارضها بعض الأخبار المتضمنة للفظ " الخير "
كصحيحة محمد: عن الذمي والعبد يشهدان على شهادة، ثم يسلم الذمي
ويعتق العبد، أتجوز شهادتهما على ما كانا أشهدا عليه؟ قال: " نعم، إذا
58

علم منهما بعد ذلك خير جازت شهادتهما " (1).
وفي المروي في تفسير الإمام (عليه السلام) - في بيان كيفية حكم
رسول الله (صلى الله عليه وآله): - " أقبل على المدعى عليه وقال: ما تقول فيهما؟ فإن قال:
ما عرفت إلا خيرا، غير أنهما قد غلطا فيما شهدا علي، أنفذ عليه
شهادتهما " (2)، فإن معلومية خير منهما لا ينافي عدم عدالتهما.
وكذا تعارضها أخبار قبول شهادة التائب، كرواية السكوني: " ليس
يصيب أحد حدا فيقام عليه ثم يتوب إلا جازت شهادته " (3).
وصحيحة القاسم بن سليمان: عن الرجل يقذف الرجل، فيجلد
حدا، ثم يتوب، ولا يعلم منه إلا خير، أتجوز شهادته؟ قال: " نعم " إلى أن
قال: " كان أبي يقول: إذا تاب ولا يعلم منه إلا خير جازت شهادته " (4).
وصحيحة الكناني: عن القاذف إذا أكذب نفسه وتاب، أتقبل
شهادته؟ قال: " نعم " (5).
والأخبار المتضمنة لقبول شهادة من لا يعرف بفسق، كرواية العلاء:
عن شهادة من يلعب بالحمام، قال: " لا بأس إذا لم يعرف بفسق " (6).

(1) الفقيه 3: 41 / 139، الوسائل 27: 387 أبواب الشهادات ب 39 ح 1.
(2) تفسير الإمام العسكري (ع): 674، الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى ب 6 ح 1، بتفاوت يسير.
(3) الكافي 7: 397 / 4، التهذيب 6: 245 / 619، الإستبصار 3: 37 / 124،
الوسائل 27: 384 أبواب الشهادات ب 36 ح 3.
(4) الكافي 7: 397 / 2، التهذيب 6: 246 / 620، الإستبصار 3: 37 / 125،
الوسائل 27: 383 أبواب الشهادات ب 36 ح 2.
(5) التهذيب 6: 246 / 621، الإستبصار 3: 37 / 126، الوسائل 27: 384 أبواب
الشهادات ب 36 ح 5.
(6) الفقيه 3: 30 / 88، التهذيب 6: 284 / 784، الوسائل 27: 394 أبواب
الشهادات ب 41 ح 6.
59

وصحيحة حريز: في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا، فعدل
منهم اثنان ولم يعدل الآخران، قال: فقال: " إذا كان أربعة من المسلمين
ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهاداتهم جميعا " إلى أن قال: " وعلى
الوالي أن يجيز شهادتهم، إلا أن يكونوا معروفين بالفسق " (1).
والجواب عنها - مضافا إلى أن القسم الأول أعم مطلقا من روايات
اشتراط العدالة، لاختصاصها أيضا بالمسلم بالإجماع والأخبار، وكون الخير
في القسم الأول أعم من العدالة، بل وكذا القسم الثاني، لأن موضوعه الذي
هو التائب لا مدخلية في الحكم إجماعا، بمعنى: أنه لا يشترط أن يكون
تائبا بالإجماع، بل اللازم عدم ظهور ذنب منه، إذ رفع الذنب الظاهر منه
بالتوبة، فكونه تائبا من حيث هو هو ليس موضوعا للحكم قطعا، فيكون
الموضوع بضميمة الإجماع المركب من لم يعلم كونه مذنبا، إما لعدم العلم
بالذنب، أو لرفعه بالتوبة -: أن معارضة هذه الأخبار لأخبار العدالة إنما هي
إذا لم يكن الموضوع فيها معرفا شرعيا للعدالة كاشفا عنها، وإلا لم تكن
معارضة لها:
ولذا لا تعد أخبار الاستصحاب (2) معارضة لأخبار اشتراط طهارة
الثوب في الصلاة (3)، ولا أخبار جواز أخذ اللحم والجلد من المسلمين (4)
معارضة لأخبار اشتراط التذكية (5)، لأن مدلول أخبار الاستصحاب ليس أن

(1) الكافي 7: 403 / 5، التهذيب 6: 277 / 759 و 286 / 793، الإستبصار 3:
14 / 36، الوسائل 27: 397 أبواب الشهادات ب 41 ح 18، بتفاوت يسير.
(2) الوسائل 3: 466 أبواب النجاسات ب 37.
(3) الوسائل 3: 428 أبواب النجاسات ب 19.
(4) الوسائل 3: 490 أبواب النجاسات ب 50.
(5) الوسائل 3: 489 أبواب النجاسات ب 49.
60

الطهارة السابقة كافية عن الطهارة الحالية وقسيم لها، ولا مدلول أخبار سوق
المسلم ويده أنهما قسيمان يدلان على التذكية وكافيان عنها، حتى لو علم
انتفاء الطهارة الحالية والتذكية يكفيان عنهما.. بل مدلولهما: أن ما لم يعلم
رفع طهارته السابقة فهو محكوم بالطهارة الحالية شرعا، والمأخوذ عن يد
المسلم محكوم بكونه مذكى.. فلا تنافي بين هذه الأخبار وأخبار شرطية
طهارة الثوب وتذكية الجلد.
والموضوعات في تلك الأخبار ليست أمورا قسيمة للعدالة بدلا عنها
في ترتب قبول الشهادة، بل هي معرفات لها وكاشفات عنها، فإن الأصل
في مثل ذلك وإن كانت البدلية والقسيمية - كما بيناه في عوائد الأيام - إلا أنا
بينا أيضا أنه قد يحكم بالمعرفة الشرعية بالدليل أيضا، والدليل عليه إما
نص، أو إجماع، أو قرينة.
ومن القرائن الدالة عليها: اشتراط عدم ظهور خلاف الأمر الأول مع
الثاني أيضا، فإن العرف يفهم حينئذ أن الأمر الثاني بدل عن العلم بالأول
لا عنه نفسه، وأن مع الأمر الثاني يحكم شرعا بتحقق الأول أيضا.
ومن القرائن أيضا: أن يستند ترتب الحكم على الثاني إلى الأخذ
بظاهر الحال، فإنه يدل على أن العلة للحكم ليس الأمر الثاني فقط، وإلا
لكان الاستناد إلى ظاهر الحال لغوا، بل هي أمر يظهر من الأمر الثاني
بشهادة الحال.
وقد دل النص والإجماع والقرائن - فيما نحن فيه - على أن كفاية
موضوعات تلك الأخبار إنما هي لأجل أنها معرفة للعدالة شرعا.
أما النص، فهو رواية سلمة بن كهيل، الواردة في مخاطبة شريح في
آداب القضاء: " واعلم أن المسلمين عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا
61

في حد لم يتب منه، أو معروفا بشهادة زور، أو ظنينا " (1) الحديث.
والمروي في عرض المجالس للصدوق، عن الصادق (عليه السلام):
يا بن رسول الله، أخبرني، عمن تقبل شهادته ومن لم تقبل، فقال:
" يا علقمة، كل من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته " إلى أن قال:
" فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو من
أهل العدالة والسر، وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنبا " (2).
فإن هذين الخبرين ظاهران في أن ظاهر الإسلام والتوبة - مع عدم
معروفية الفسق - معرف للعدالة، وأن كفايته لأجل كشفه عن العدالة
الشرعية، وكون المتصف به عدلا شرعا.
وأما الإجماع، فلأن كل من اكتفى في الشهادة بظاهر الإسلام مع عدم
ظهور الفسق صرح باشتراط العدالة، وبأن الأصل في المسلم العدالة كما مر.
وأما القرائن، فللتصريح في صحيحة حريز ورواية العلاء (3) بانضمام
عدم معرفة الفسق منه. وقد عرفت أنه قرينة على المعرفية.
ولمرسلة يونس: عن البينة إذا أقيمت على الحق، أيحل للقاضي أن
يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ فقال: " خمسة أشياء
يجب أن يأخذوا فيها بظاهر الحال: الولايات، والمناكح، والمواريث،
والذبائح، والشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته،
ولا يسأل عن باطنه " (4).

(1) الكافي 7: 412 / 1، الفقيه 3: 8 / 10، التهذيب 6: 225 / 541، الوسائل 27:
211 أبواب آداب القضاء ب 1 ح 1.
(2) أمالي الصدوق: 91 / 3، الوسائل 27: 395 أبواب الشهادات ب 41 ح 13،
وفيهما: والستر، بدل: والسر.
(3) المتقدمتين في ص 57.
(4) الفقيه 3: 9 / 29، الوسائل 27: 392 أبواب الشهادات ب 41 ح 3، بتفاوت.
62

وقد عرفت أن ذكر ظاهر الحال قرينة على إرادة المعرفية، سيما مع
ذكر الذبائح أيضا، فإن الأمر فيها على المعرفية قطعا.
هذا، مع أنه على فرض التعارض أيضا يكون الترجيح لأخبار
العدالة، لموافقة الكتاب، ومطابقة عمل الأصحاب.
فرع: اشتراط العدالة في قبول الشهادة يشمل النساء أيضا فيما تقبل
فيه شهادتهن، لرواية جابر المتقدمة (1)، مع عدم القول بالفصل.
ولا ينافيه ما يأتي من رواية عبد الكريم بن أبي يعفور (2) المعلقة
قبول شهادتهن على أوصاف مخصوصة، لاحتمال كون هذه الأوصاف
عدالة النساء كما ذكره جماعة (3)، ولولاه لكانت الرواية أعم مطلقا من
حديث العدالة، فلتخصص به.
وهل يشمل الصبيان فيما تقبل فيه شهادتهم إن قلنا بتحقق العدالة؟.
قيل: لا دليل على الاشتراط، وإطلاق روايات قبول شهادة المملوك
إذا كان عدلا (4) ممنوع، لكونه في مقام بيان حكم آخر.
وقد يقال بالاشتراط، لإطلاق بعض الروايات، وحيث نقول بعدم تحقق
العدالة المعتبرة في الشهادة في الصبي - كما يأتي - يسقط هذا البحث عنا.
نعم، يمكن اشتراط الائتمان من الكذب فيهم، للتعليل الوارد في
موثقة محمد، المتقدمة في مسألة اشتراط البلوغ (5).

(1) في ص 53.
(2) التهذيب 6: 242 / 597، الإستبصار 3: 13 / 34، الوسائل 27: 398 أبواب
الشهادات ب 41 ح 20.
(3) منهم الشيخ في النهاية: 325، العلامة في المختلف: 704، الفاضل الهندي في
كشف اللثام 2: 379.
(4) انظر الوسائل 27: 345 أبواب الشهادات ب 23.
(5) راجع ص 11.
63

البحث الثاني
في بيان حقيقتها وكيفية معرفتها
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قيل: اختلفوا في معنى العدالة، هل هي ظاهر
الإسلام مع عدم ظهور فسق، أو حسن الظاهر، أو الملكة، أي الهيئة
الراسخة في النفس الباعثة لها على ملازمة التقوى والمروة (1)؟ انتهى.
وقد يقال: إن ذلك خطأ من قائله، فإن من قال بحسن الظاهر أو
ظاهر الاسلام قال: إنه طريق معرفتها لا أنه نفسها، وهو الظاهر من البيان
والدروس والذكرى..
حيث قال في الأول - في بحث صلاة الجماعة -: وجوز بعض
الأصحاب التعويل في العدالة على حسن الظاهر، وقال ابن الجنيد: كل
المسلمين على العدالة حتى يظهر خلافها، ولو قيل باشتراط المعرفة الباطنة
أو شهادة عدلين كان قويا (2).
وقال في الثاني - في بحث الجماعة أيضا -: وتعلم العدالة بالشياع،
والمعاشرة الباطنة، وصلاة عدلين خلفه، ولا يكفي الإسلام في معرفة
العدالة خلافا لابن الجنيد، ولا التعويل على حسن الظاهر على الأقوى (3).
وقريب مما ذكر في الذكرى، وفيها علل اكتفاء من يكتفي بحسن

(1) انظر الرياض 2: 390.
(2) البيان: 131.
(3) الدروس 1: 218.
64

الظاهر بعسر الاطلاع على البواطن (1).
وكذا هو الظاهر من صاحب الكفاية، حيث قال: الحكم بالعدالة هل
يحتاج إلى التفتيش والخبرة والبحث عن البواطن، أم يكفي الإسلام وحسن
الظاهر ما لم يثبت خلافه؟
الأقوى: الثاني (2).
وأصرح منها كلام الكركي في الجعفرية، حيث قال: وطريق معرفة
العدالة ما مر، وصلاة عدلين خلفه، ولا يكفي الإسلام، ولا التعويل على
حسن الظاهر على الأصح (3).
وقال والدي العلامة - قدس سره - في المعتمد: لم نعثر على مصرح
من المشاهير بكون العدالة في عرف الشرع أحدهما. انتهى.
وكلام العاملي في بحث [شهادات] (4) المسالك كالصريح في ذلك
أيضا، حيث قال: والكلام في العدالة يتوقف على أمرين، أحدهما: ما به
تثبت، والثاني: ما به تزول، فالأول قد تقدم البحث فيه في القضاء، وأنه
هل يحكم بها للمسلم من دون أن يعلم منه الاتصاف بملكتها، أم لا بد من
اختباره أو تزكيته (5)؟
أقول: قد نسبوا القول بكون العدالة ظاهر الإسلام إلى الشيخ في
المبسوط والخلاف والإسكافي والمفيد (6).

(1) الذكرى: 267.
(2) كفاية الأحكام: 279.
(3) الرسالة الجعفرية (رسائل المحقق الكركي 1): 126.
(4) في " ح " و " ق ": قضاء والصحيح ما أثبتناه.
(5) المسالك 2: 401.
(6) نسبه إليهم في الحدائق 10: 18، والرياض 2: 390.
65

أما كلام المبسوط فهو أنه قال: العدالة في اللغة: أن يكون الإنسان
متعادل الأحوال متساويا.
وفي الشريعة: هو من كان عدلا في دينه، عدلا في مروته، عدلا في
أحكامه.
والعدل في الدين: أن يكون مسلما، لا يعرف منه شئ من أسباب
الفسق.
وفي المروة: أن يكون مجتنبا للأمور التي تسقط المروة، مثل: الأكل
في الطرقات، ومد الرجلين بين الناس، ولبس الثياب المصبغة.
وفي الأحكام: أن يكون بالغا عاقلا.
فمن كان عدلا في جميع ذلك قبلت شهادته.
ثم قال ما ملخصه: فإن ارتكب شيئا من الكبائر سقطت شهادته، فأما
إن كان مجتنبا للكبائر ومواقعا للصغائر فإنه يعتبر الأغلب من حاله (1).
انتهى.
وقال فيه أيضا: إن عرف عدالتهما حكم بشهادتهما، وإن عرفهما
فاسقين ظاهرا أو باطنا لم يحكم، وإن لم يعرفهما، بل جهل حالهما
- فالجهل على ضربين، أحدهما: لا يعرفهما أصلا، والثاني: أن يعرف
إسلامهما دون عدالتهما - لم يحكم بشهادتهما حتى يبحث عن عدالتهما.
إلى أن قال ما ملخصه: وبه قال قوم إن كان في قصاص أو حد، وإن
كان غير ذلك حكم بشهادتهما بظاهر الحال، ولم يبحث عن عدالتهما بعد
أن يعرف إسلامهما، إلا أن يقول المحكوم عليه: هما فاسقان، فحينئذ

(1) المبسوط 8: 217.
66

لا يحكم حتى يبحث، فإذا عرف العدالة حكم، وإذا حكم بشهادتهما بظاهر
العدالة عنده بعد حكمه فلو ثبت أنهما كانا فاسقين حين الحكم بشهادتهما
لم ينقض الحكم، والأول أحوط عندنا (1). انتهى.
قال في المختلف بعد حكايته: وهو يعطي ترجيح ما قاله المفيد (2).
أي وجوب الاستزكاء، كما مر في البحث الأول.
وأما كلامه في الخلاف فقد مر في صدر البحث الأول (3).
وأما المفيد فقال: العدل من كان معروفا بالدين، والورع عن محارم
الله تعالى (4).
وقال أيضا ما سبق - كما حكاه عنه في المختلف - ما ملخصه: إنه إذا
شهد عند الحاكم من لا يخبر حاله، وكان على ظاهر العدالة، يكتب
شهادته، ولم ينفذ الحكم بها حتى يثبت أمره، فإن عرف له ما يوجب
جرحه أو التوقف في شهادته لم يمض الحكم بها، وإن لم يعرف شيئا
ينافي عدالته وإيجاب الحكم لم يتوقف (5). انتهى.
قال في المختلف بعد نقله: وهو يعطي وجوب الاستزكاء في جميع
الأحكام (6).
وأما الإسكافي فقد سبق كلامه في البحث الأول، وقال أيضا: إذا كان
الشاهد حرا، بالغا، مؤمنا، بصيرا، معروف النسب، مرضيا، غير مشهور

(1) المبسوط 8: 104.
(2) المختلف: 704.
(3) الخلاف 2: 591.
(4) المقنعة: 725.
(5) المقنعة: 730.
(6) المختلف: 704.
67

بكذب في شهادة، ولا بارتكاب كبيرة، ولا مقام على صغيرة، حسن
التيقظ، عالما بمعاني الأقوال، عارفا بأحكام الشهادة، غير معروف بحيف
على معامل، ولا متهاون بواجب من علم أو عمل، ولا معروف بمعاشرة
أهل الباطل، ولا الدخول في جملتهم، ولا بالحرص على الدنيا، ولا بساقط
المروة، بريئا من أهواء أهل البدع التي توجب على المؤمنين البراءة من
أهلها، فهو من أهل العدالة المقبول شهادتهم (1). انتهى.
قال في المختلف بعد حكايته: وظاهر كلامه موافقة الشيخ في
المبسوط (2).
ثم أقول: أما كلام المبسوط فما حكي عنه أولا وإن أفاد أن العدل في
الدين هو أن يكون مسلما لا يعرف منه فسق، ولكن صرح بأن العدالة
المعتبرة في الشاهد ليست ذلك فقط، بل أن يكون مع ذلك بالغا عاقلا،
مجتنبا عن منافيات المروة.
وظاهر ذلك وإن أفاد أن نفس العدالة ذلك إلا أن ما نقل عنه بعد ذلك
صريح في أن العدالة غير ذلك، وإن كان يكتفى في الحكم بها بذلك.
فإن قوله: والثاني: أن يعرف إسلامهما دون عدالتهما لم يحكم
بشهادتهما حتى يبحث عن عدالتهما.
وقوله: وإن كان غير ذلك حكم بشهادتهما بظاهر الحال ولم يبحث
عن عدالتهما بعد أن يعرف إسلامهما.
وقوله: إلا أن يقول المحكوم عليه هما فاسقان.
وقوله: فلو ثبت أنهما كانا فاسقين حين الحكم.

(1) نقله عنه في المختلف: 717.
(2) المختلف: 718.
68

صريحة في مغايرة العدالة مع ظاهر الإسلام وعدم ظهور الفسق.
ولذا صرح الفاضل بعد نقله عنه: أنه يعطي ترجيح ما قاله المفيد،
أي ما نقله عنه قبل ذلك، وقال: إنه يعطي وجوب الاستزكاء.
ومما ذكرنا يظهر ظهور المحكي عن الخلاف أيضا في المغايرة (1)،
ويدل عليه أيضا قوله: وأيضا الأصل في المسلم العدالة (2). فإنها لو كانت
نفس ظاهر الإسلام لم يصح جعل العدالة أصلا فيه، بل يكون نفسه.
وأما كلام المفيد، فأول ما نقلنا عنه صريح في المغايرة وإن العدالة
هي المعروفية بالدين والورع عن محارم الله.
وكلامه الثاني وإن تضمن قوله: وإن لم يعرف شيئا ينافي عدالته
لم يتوقف، ولكن مع ذلك متضمن لما يصرح بالمغايرة، حيث حكم
بوجوب البحث مع كونه على ظاهر العدالة، ولذا قال الفاضل بعد نقله: إنه
يعطي وجوب الاستزكاء.
وأما كلام الإسكافي، فكلامه الأول المتقدم في المسألة الأولى لا يدل
على كون العدالة ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق أصلا، بل هو إلى
الدلالة إلى المغايرة أظهر.
وكلامه الثاني: على أن من كان حرا، بالغا، مؤمنا، بصيرا مرضيا،
غير معروف بفسق، بريئا من أهواء أهل البدع، فهو من أهل العدالة. وأين
ذلك من ظاهر الإسلام؟! فإنه يتضمن اشتراط الإيمان وكونه مرضيا وبريئا
من أهواء أهل البدع.

(1) الخلاف 2: 591.
(2) الخلاف 2: 592.
69

وقد عرفت ما ذكره الإمام في تفسيره في معنى الرضاء (1).
وظهر مما ذكرنا أن القول بكون العدالة هي ظاهر الإسلام مع عدم
ظهور الفسق مما لم يظهر قائل به، ونسبته إلى من نسب إليه غير جيدة.
وأما حسن الظاهر، فالظاهر أنه هنا في قبال حسن الباطن، والمراد
من حسن الباطن: هو ملكة الإتيان بالأفعال الحسنة والاجتناب عن القبيحة
حتى تكون سريرته حسنة، فحسن الظاهر: كون ظاهره ظاهرا حسنا،
فتظهر منه الأفعال الحسنة، ويجتنب القبائح ظاهرا من غير معرفة بباطنه
وسريرته.. فيتحد حسن الظاهر مع العدالة، بمعنى الملكة في الآثار
الظاهرة، ويختلفان بالحقيقة، فيكون ظهور هذه الآثار أو نفسها عدالة على
القول بحسن الظاهر، ومبدؤها ومنشؤها يكون هي العدالة على القول
بالملكة.
ثم إنا لم نعثر من المتقدمين على الفاضلين من ذكر ذلك بهذا
العنوان، أي عنوان حسن الظاهر.
نعم، ذكره المحقق في الشرائع (2) والفاضل في بعض كتبه - كالإرشاد
وغيره (3) - من غير ارتضائهما به، وذكره جمع ممن تأخر [عنهما] (4)
أيضا (5).
إلا أنه يوجد في كلمات جمع من الأوائل ما لا يأبى عن حمله عليه
ظاهرا، كما سبق في كلام المفيد، وقول الشيخ في النهاية، قال: العدل

(1) راجع ص 24 و 26.
(2) الشرائع 4: 76.
(3) الإرشاد 2: 141، القواعد 2: 205.
(4) في " ح " و " ق ": عنده، والأنسب ما أثبتناه.
(5) كصاحب المدارك 4: 66، والذخيرة: 305، والحدائق 10: 23.
70

الذي يجوز قبول شهادته للمسلمين وعليهم هو أن يكون ظاهره ظاهر
الإيمان، ثم يعرف بالستر والصلاح والعفاف والكف عن البطن والفرج
واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار.
إلى أن قال: الساتر لجميع عيوبه، ويكون متعاهدا للصلوات
الخمس، مواظبا عليهن، حافظا لمواقيتهن، متوافرا على حضور جماعة
المسلمين، غير متخلف عنهم إلا لمرض أو علة أو عذر (1).
والحلبي قال: يثبت حكم العدالة بالبلوغ وكمال العقل، والإيمان،
واجتناب القبائح أجمع والظنة والعداوة والحسد والمناقشة (2).
والقاضي قال: العدالة معتبرة في صحة الشهادة على المسلم، وتثبت
في الإنسان بشروط، وهي: البلوغ، وكمال العقل، والحصول على ظاهر
الإيمان، والستر، والعفاف، واجتناب القبائح، ونفي التهمة والظنة والحسد
والعداوة (3).
وابن حمزة قال: فالعدالة في الدين: الاجتناب عن الكبائر، وعن
الإصرار على الصغائر (4).
والحلي قال: فالعدل في الدين أن لا يخل بواجب، ولا يرتكب
قبيحا، وقيل: لا يعرف بشئ من أسباب الفسق، وهذا قريب أيضا (5).
انتهى.

(1) النهاية: 325.
(2) الكافي في الفقه: 435، وفي " ق " وما نقله عنه في المختلف: 717:
المنافسة، بدل: المناقشة.
(3) المهذب 2: 556.
(4) الوسيلة: 230.
(5) السرائر 2: 117.
71

فإنه يمكن أن يراد من هذه الكلمات أنه إذا كان كذلك ظاهرا يكون
عادلا، وتكون هذه الأفعال الظاهرة هي العدالة.
ولكن الظاهر من المعروفية بذلك - كما في كلام المفيد - [ومن] (1)
قوله: ويعرف بذلك - كما في كلام النهاية - أن يعلم ذلك منه، وحسن
الظاهر لا يكفي في العلم والمعرفة، وكذا الورع عن المحارم، أو اجتناب
القبائح أو الكبائر.. ونحوها مما وقع في كلمات الباقين حقائق في تحقق
هذه الأمور واقعا، ومجرد الحصول في الظاهر لا يكفي فيه، فالمستفاد من
هذه الكلمات أيضا أمر زائد على حسن الظاهر، فهو أيضا - كظاهر
الإسلام - مما لم يعلم قائل بكفايته بخصوصه من القدماء، بل المتوسطين،
فكيف عن كونه نفس العدالة؟!
ويمكن أن يكون المراد من الظاهر: المحسوس مقابل غير
المحسوس الذي هو الملكة، فيكون المراد: أن العدالة هي هذه الأفعال
المحسوسة وإن لم يكن منشؤها الملكة.. ولا ينافي اشتراط العلم والمعرفة
بها، لعدها عدالة، فيكون المراد: أنه يجب أن تعرف منه هذه الأعمال حتى
يحكم بعدالته، لأنها هي العدالة.
نعم، ورد هذا العنوان في عبارات جمع من المتأخرين (2) مضطربا
بين عده دليل العدالة وطريق معرفته - كما هو ظاهر الأكثر - أو نفسها.
ويمكن أن يكون المراد منه أيضا: الظاهر المقابل للواقع ونفس
الأمر، وأن يراد منه المحسوس، وكيف كان لم يظهر من أحد القول بأنه
هو العدالة.

(1) في " ح " و " ق ": من، والأنسب ما أثبتناه.
(2) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 361.
72

وقال والدي العلامة (قدس سره) في المعتمد بعدما قال أولا: إن حسن الظاهر
أو ظاهر الإسلام لا يكفي لطريق معرفة العدالة، لعدم استلزامهما لدليل
العدالة حتى يعلم ثبوته بثبوتهما - ونعم ما قال -: إن هذا الاكتفاء إما
لكونهما دليل العدالة - كما يومئ إليه بعض الظواهر - فقد ظهر فساده.
أو نفسهما، فهو خلاف ما ثبت في عرف الشريعة والحكمة، بل
الظاهر مخالفته للإجماع، إذ لم نعثر على مصرح من المشاهير بكون العدالة
في عرف الشرع أحدهما.
أو لعدم اشتراطهما في الشاهد ومثله، وكفاية أحدهما في قبول
الشهادة وإن لم يكن عدالة ولا دليلا لها، فهو خلاف النص القرآن والإجماع
القطعي، بل الضرورة. انتهى ملخصا.
وأما الملكة - التي تبعث على ملازمة التقوى والمروة، واجتناب
الكبائر والأفعال الرذيلة - فهي الراجعة إلى العدالة في عرف علماء
الأخلاق، حيث عرفوها: بأنها هيئة نفسانية يقتدر بها على تعديل جميع
الصفات والأفعال، ورد الزائد والناقص إلى الوسط، وانكسار سورة
التخالف بين القوى المتخالفة.
وبتقرير آخر: ملكة يقتدر بها العقل العملي على ضبط جميع القوى
تحت إشارة العقل النظري.
ووجه الرجوع: أن ارتكاب المعاصي أو مخالفة المروة إنما ينشأ عن
مخالفة القوة العملية أوامر العقل النظري، وإلا لما ارتكب إلا ما يشير إليه،
وهو لا يشير إلا إلى ملازمة التقوى والمروة، فجميع الفضائل النفسانية
والأعمال الظاهرية مرتبة على العدالة.
ولذا قال أفلاطون: العدالة إذا حصلت للإنسان أشرق بها كل واحد
73

من أجزاء نفسه، ويستضئ بعضها من بعض، فينتهض حينئذ لفعلها
الخاص على أفضل ما يكون، فيحصل لها غاية القرب إلى مبدئها سبحانه.
انتهى.
ثم كلام القدماء من فقهاء أصحابنا - في تفسير العدالة الشرعية - خال
عن ذكر الملكة، كما سمعت شطرا منها.
نعم، هو المشهور بين المتأخرين من زمان المحقق إلى زماننا هذا،
وبها فسرت في أكثر كتبهم، كما في المختلف والقواعد والإرشاد والتحرير
وتهذيب الأصول ونهاية الأصول والإيضاح ومنية المريد والدروس
والذكرى والتنقيح والروضة وروض الجنان وجامع المقاصد والمعالم
وتجريد الأصول وأنيس المجتهدين والمعتمد ورياض المسائل (1)، وغيرها.
وفي مجمع الفائدة: إنه هو المشهور في الفروع والأصول (2).
وفي كشف الرموز: إن تعريفها بذلك مشهور بين العامة والخاصة في
الفروع والأصول.
وعزاه في التنقيح إلى الفقهاء (3). وبه عرفها الغزالي والعضدي
والآمدي (4). بل الظاهر أن القدماء أيضا وإن لم يصرحوا بلفظ الملكة
ولكنهم أرادوها من نحو قولهم: الورع عن محارم الله، والستر والعفاف،

(1) المختلف: 718، القواعد 2: 236، الإرشاد 2: 156، التحرير 2: 208، الإيضاح
4: 420، الدروس 2: 125، الذكرى: 230، التنقيح 4: 289، الروضة 1: 378،
روض الجنان: 289، جامع المقاصد 2: 372، معالم الأصول: 201، الرياض 2:
391.
(2) مجمع الفائدة 2: 351.
(3) لم نعثر عليه في التنقيح، ولكنه موجود في كنز العرفان 2: 384.
(4) الغزالي في المستصفى 1: 157، العضدي في شرح المختصر: 167، الآمدي
في الإحكام في أصول الأحكام 1: 308.
74

والكف والاجتناب عن الكبائر والقبائح، وعدم الإخلال بالواجب، فإن
المتفاهم عرفا من هذه العبارات إرادة ملكة هذه الأمور.
فإن من قال: اشتر عبدا كاتبا قارئا بشاشا، لا يفهم منه إلا صاحب
ملكات هذه الصفات لا نفس الفعل.
بل وكذا لو قال: اشتر عبدا ورعا عفيفا مجتنبا عن مخالطة الأرذال،
أو قال: لا تجالس إلا غير مخل بالواجب، ونحو ذلك، لا يفهم منه عرفا
غير ذي الملكات، بل لولاه لكان المراد إما المتلبس بهذه الآثار دائما، أو
أغلبيا، ضرورة عدم إرادة مجرد التلبس حال الشهادة.
والمتلبس بها دائما أو غالبا لا ينفك عن الملكة، لأنها مسببة عن
تكرر الآثار، مع أنا نعلم قطعا أنهم لا يعدون مطلق الملبس بها - ولو دائما،
حتى الذي كان تلبسه لأجل مانع من الترك، كعدم التمكن من شرب الخمر
أو الزنا، لعدم الانفكاك عمن يراقبه، أو عدم تركه الصلاة لأجل مخالطة
الناس، ولولاه لترك - عادلا قطعا، ما لم يكن ذلك من جهة نفسانية،
فيكون مرادهم ملكة هذه الآثار قطعا.
نعم، تختلف كلماتهم فيما تضاف إليه الملكة، فمنهم من عبر بملكة
الورع (1)، ومنهم من عبر بملكة الاجتناب عن الكبائر والإصرار على الصغائر (2)،
ومنهم من عبر بملكة عدم الإخلال بالواجب وعدم ارتكاب القبائح (3)، ومنهم
من عبر بملكة التقوى (4)، إلى غير ذلك.. ومرجع الكل إلى أمر واحد.

(1) قال المفيد في المقنعة: 725، والعدل من كان معروفا بالدين والورع عن محارم
الله عز وجل.
(2) كالشيخ حسن في معالم الأصول: 201.
(3) كالقاضي في المهذب 2: 556، وابن إدريس في السرائر 2: 117.
(4) كالعلامة في القواعد 2: 236، والمقداد في التنقيح 4: 289 والأردبيلي في
مجمع الفائدة 2: 351.
75

وعلى هذا، فيكون تفسير العدالة بالملكة هو المشهور بين القدماء
والمتأخرين، بل هو المجمع عليه بين الأصوليين والفروعيين كافة، حتى
من جعل ظاهر الإسلام دليلا عليها.
ولو أبيت عن اتفاقه أيضا فلا شك أنه لا يقدح في الإجماع، لندرة
القائل به، فيكون كون العدالة الشرعية هي ملكة الآثار المذكورة مما انعقد
عليه الإجماع - أي أنها هي إجماعا - وإن اختلفت كلماتهم في الجملة فيما
تضاف إليه الملكة كما عرفت.
ولو أبيت عن ذلك أيضا فنقول: لا شك ولا ريب في الإجماع على
كونها عدالة، بمعنى: أن ذا الملكة عادل إجماعا - أي تتحقق له العدالة بأي
معنى فسرت - فتكون هي القدر المشترك المجمع عليه قطعا، ويكون
الكلام في غيرها أنه هل تتحقق العدالة الشرعية بدونها أيضا أم لا؟
ولتحقيق المقام في ذلك المرام نقول: إن العدالة في اللغة: الاستواء
والاستقامة، والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. وقد تطلق على مقابل
الجور.
وظاهر أن معناها اللغوي لا يمكن أن يراد منها في المواضع التي
جعلها الشارع شرطا، ولا خلاف في ذلك أيضا، فاللازم أن يمعن النظر في
أنه هل تثبت لها حقيقة شرعية أم لا؟
فإن ثبتت فهي المراد في كلام الشارع، ولا حاجة إلى البحث عن
المعنى الآخر، إلا أن تقام قرينة في موضع أن المراد هنا غير الشرعي.
وإن لم تثبت فيجب البحث والفحص ثانيا في أنه هل نص الشارع أو
أقام قرينة على أن المراد من العدالة - فيما جعلها شرطا - أي شئ هو،
أم لا؟
76

فإن ظهر نص أو قرينة منه على مراده يجب الحمل عليه أيضا.
وإن لم يظهر فيجب الحمل على المعنى المجازي إن اتحد، وعلى
الأقرب الثابت وجوب الحمل عليه إن تعدد، سواء ثبتت لها حقيقة عرفية
عامة أو خاصة أم لا، لأن العرفية العامة إنما يحمل اللفظ عليها إذا علم
تحققها في زمان الشارع أيضا، وإلا فتدفع بأصالة تأخر الحادث.
وإن لم يكن له أقرب كذلك، فإن كان في تلك المعاني المتعددة قدر
مشترك فيحكم بإرادته قطعا، وينفى الباقي بالأصل إن أمكن، وإلا فيدخل
الإجمال في اللفظ.
وبعد ذلك نقول: إن إثبات الحقيقة الشرعية في لفظ العدالة مشكل،
سيما في زمان نزول الآية وما يقرب منه.
وتعريف الفقهاء لا يفيد النقل في زمن الخطاب.
وطريق معرفة الحقيقة الشرعية إما النص، أو الإجماع، أو إثبات
علامات الحقيقة في زمان الشارع.
والأخير غير متحقق فيه وإن تحقق في كثير من الألفاظ المتداولة.
والإجماع على الحقيقة الشرعية غير ثابت.
والنصوص خالية عن بيان الحقيقة فيها.
وعلى هذا، فاللازم أولا: الرجوع إلى الأخبار، حتى ينظر أنه هل بين
الشارع مراده من العدالة، أو أقام قرينة عليه، أم لا؟ فإن وجد فيعمل
بمقتضاه، وإلا - فلتعدد المجاز، وعدم وجود ما يعين أحد المجازات -
يؤخذ بالقدر المشترك، أو يعمل فيه بمقتضى الأصول المقررة.
والأخبار التي ذكروها في هذا المقام كثيرة، ولكن أكثرها مما يدل
على اشتراط صفات في قبول الشهادة، ولا دلالة لها على تعيين معنى
77

العدالة أو المراد منها..
وتعليق قبول الشهادة عليها لا دلالة له على كونها عدالة، [كأخبار] (1)
قبول شهادة التائب المشار إليها في البحث الأول.
أو قبول شهادة من لا يعرف بفسق، كصحيحة حريز ورواية العلاء
المتقدمتين فيه أيضا.
أو شهادة من علم منه خير، كبعض الروايات المتقدمة فيه أيضا.
أو شهادة المرضي أو العفيف أو الصائن أو الصالح أو المأمون،
[كبعض] (2) الأخبار المتقدمة في صدر مسألة اشتراط البلوغ.
مع أن في المراد من أكثرها إجمالا لا يتعين فيه معنى خاص، ولو
تعين أيضا فليس إلا بعض ما اشتمل عليه الصحيح الآتي، فيجب اعتبار
الباقي أيضا حملا للمطلق على المقيد.
والأخبار التي تتضمن بيان معنى العدالة منحصرة في أربعة: روايتا
سلمة بن كهيل وعرض المجالس المتقدمتين (3)..
وموثقة سماعة: " من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم
فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، كان ممن حرمت غيبته، وظهر عدله،
ووجبت أخوته " (4).
وصحيحة ابن أبي يعفور: بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى
تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: " أن تعرفوه بالستر والعفاف وكف البطن

(1) في " ح ": فأخبار، وهي ساقطة عن " ق "، والأنسب ما أثبتناه.
(2) في " ح " و " ق ": لبعض، والأنسب ما أثبتناه.
(3) في ص 59.
(4) الكافي 2: 239 / 28، الوسائل 8: 315 أبواب صلاة الجماعة ب 11 ح 9.
78

والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار،
من شرب الخمر، والزنا، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وغير
ذلك، والدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه، حتى يحرم
على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، ويجب عليهم
تزكيته وإظهار عدالته في الناس، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا
واظب عليهن وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين، وأن
لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة، فإذا كان كذلك لازما
لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته
قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا، مواظبا على الصلوات، متعاهدا لأوقاتها في
مصلاه، فإن ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين، وذلك أن الصلاة
ستر وكفارة للذنوب، وليس يمكن الشهادة على رجل بأنه يصلي إذا كان
لا يحضر مصلاه ويتعاهد جماعة المسلمين، وإنما جعل الجماعة والاجتماع
إلى الصلاة لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي، ومن يحفظ مواقيت
الصلاة ممن يضيع، ولولا ذلك لم يمكن أحد أن يشهد على آخر بصلاح،
لأن من لا يصلي لا صلاح له بين المسلمين، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم بأن
يحرق قوما في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين، وقد كان فيهم
من يصلي في بيته فلم يقبل منه ذلك، وكيف تقبل شهادة أو عدالة بين
المسلمين ممن جرى الحكم من الله عز وجل ومن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه
الحرق في جوف بيته بالنار؟! " إلى أن قال: " ومن رغب عن جماعة
المسلمين وجب على المسلمين غيبته، وسقطت بينهم عدالته " إلى أن قال:
79

" ومن لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته، وثبتت عدالته بينهم " (1).
وبيان معنى الحديث: أنه لما سئل عما تعرف به عدالة الرجل،
فأجاب (عليه السلام) بمعرفة كونه أهل الستر والعفاف، وكف الجوارح
الأربع، ومجتنبا عن الكبائر.. ولما كان في معرفة ذلك خفاء - لكونها
في غاية الصعوبة - فبين ثانيا أن الدليل على ذلك والسبيل إلى معرفته كونه
ساترا لجميع عيوبه، متعاهدا للصلوات الخمس وحفظ مواقيتهن، وحضور
جماعة المسلمين، غير متخلف عن جماعتهم.
ثم بقي شيئان:
أحدهما: أن ستر العيوب والاجتناب المشترط في العدالة إلى أي حد
يلزم؟ فإنه هل يلزم أن يكون ساترا لمن له معاشرة ومصاحبة وخلطة، أو
كل من لم يكن عالما بعيوبه لأجل ستره ولو في مدة قليلة؟ وكذا مواظبته
وتعاهده للصلاة، فإنه هل يكفي مجرد رؤيته لازما لمصلاه في مدة قليلة
وزمان يسير، أو يستدعي الحكم بالعدالة أكثر من ذلك؟ فبين (عليه السلام): بأن
مجرد الرؤية لا يكفي في ذلك، بل ينبغي أن يكون لازما للمصلى، ومع
ذلك إذا سئل في قبيلته وأهل محلته - الذين عاشروه في مدة طويلة واطلعوا
على بعض من خفايا أمره - يشهدوا بهذين الأمرين.
وثانيهما: أنه (عليه السلام) حكم أولا بأن العدالة تعرف بالستر والكف
واجتناب الذنوب، ثم جعل دليل ذلك التعاهد للصلوات، وكان وجه ذلك
خفيا، فبينه (عليه السلام) بقوله: " وذلك أن الصلاة ستر " أي دافع وحاجز وكفارة

(1) الفقيه 3: 24 / 65، التهذيب 6: 241 / 596، الإستبصار 3: 12 / 33، الوسائل
27: 391 أبواب الشهادات ب 41 ح 1 و 2، بتفاوت.
80

للذنوب، كما قال سبحانه: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (1).
ثم بقي شئ آخر، هو أن الصلاة إذا كانت كفارة للذنوب فهي تكفي
في الحكم بالعدالة، ولم تكن حاجة لحضور جماعة المسلمين، وكيف
جعل ترك ذلك المستحب قادحا في العدالة؟ فأوضحه بأن اشتراط حضور
جماعتهم ليس لكونه في نفسه دليلا على الاجتناب من الذنوب وكفارة لها،
بل لأنه لما لم تكن معرفة كون أحد ساعيا في صلاته وحافظا لمواقيتهن،
ولم يمكن الشهادة بأنه يصلي إلا مع التعاهد للجماعة وحضور المصلى،
فلذلك جعل التعاهد لها من متممات الحكم بالعدالة.
ثم لما كان لأحد أن يقول: إذا كان اشتراط التعاهد لذلك، فلو علمنا
أن أحدا يصلي في بيته لكان كافيا، ولا يحتاج إلى تعاهد للجماعة..
استأنف كلاما آخر وقال: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هم " إلى آخره، يعني: أن ما
ذكر كان سببا لشرع الجماعة، ولما كان تركها في أوائل الإسلام مؤديا إلى
ترك الصلاة هم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن يحرق قوما في منازلهم وإن كان فيهم
من يصلي في بيته، لاستقرار ذلك الأمر المستحب الموجب لاستقرار
الواجب، فلأجل ذلك لا يحكم بالعدالة وإن علمنا بكون الرجل مصليا في
بيته.
ثم المفيد فيما نحن فيه هو ما ذكره أولا من قوله: " أن تعرفوه " إلى
قوله " وغير ذلك " وأما ما بعده فلا يفيد ها هنا، وإن أفاد في طريق معرفة
العدالة.
نعم، يستفاد من جملة ما ذكره اشتراط التعاهد للصلاة وحفظ

(1) العنكبوت: 45.
81

مواقيتهن وحضور جماعة المسلمين في ثبوت أصل العدالة.
ثم إن حاصل ما يدل عليه: (1) الستر والعفاف وكف الجوارح الأربع
واجتناب الكبائر، وإذا ضم إليه ما يستفاد من بعده أيضا [يزيد] (2): حفظ
مواقيت الصلاة وحضور جماعة المسلمين.
هذا على جعل قوله: " أن تعرفوه " إعادة لقوله: بم تعرف، ويكون
قوله: " ويعرف باجتناب الكبائر " عطفا على قوله: " تعرفوه " ويكون الفعل
منصوبا بلفظ أن، يعني: أنه لما سئل أنه بم تعرف بين المسلمين عدالة
الرجل؟ أجاب: بأن تعرفوه بالستر والعفاف واجتناب الكبائر، أي يعرف
بهذه الصفات.
ويمكن أن يكون: " يعرف " مضموما، ويكون عطفا على مجموع:
" أن تعرفوه "، يعني: أن العدالة تعرف بالستر والعفاف والكف، وتعرف
باجتناب الكبائر أيضا.
فعلى الأول يكون المجموع معرفا واحدا، وعلى الثاني يكون كل
منهما معرفا برأسه.
ويمكن أن لا يكون قوله: " أن تعرفوه " إعادة لقوله: " تعرف " بل
يكون: " يعرف " مقدرا، ويكون المعنى: ويعرف بأن تعرفوه بالستر، أي
يعرف بالمعروفية بهذه الصفات، ويكون لقوله: " ويعرف " حينئذ
الاحتمالان المذكوران أيضا، ولكن لا يختلف المطلوب بذانك
الاحتمالان كما لا يخفى.
وها هنا احتمال آخر، وهو أن يكون قوله: " ويعرف " ابتداء للكلام،

(1) في " ح " و " ق ": زيادة: أن.
(2) في " ح " و " ق ": بزيد، والأنسب ما أثبتناه.
82

ويكون المستتر فيه راجعا إلى الستر والعفاف والكف، يعني: العدالة: الستر
والعفاف والكف، ويعرف الستر والعفاف والكف - الذي هو العدالة -
باجتناب الكبائر، ولا يحتاج إلى معرفة الكف عن جميع المعاصي.
وهذا هو ظاهر الأكثر، حيث اقتصروا بالأخذ في تعريف العدالة
باجتناب الكبائر، فيكون هو معرفا للستر والعفاف والكف، ويكون ما بعده
معرفا إما للمجموع أو للحكم باجتناب الكبائر.
ثم إن ما ذكر في الصحيحة - على جميع احتمالاتها من الأوصاف -
هي الأوصاف الظاهرة التي ذكرها القدماء، وجعلوها أو ملكتها هي العدالة.
فإن قلنا: إن المتبادر من ذلك الكلام إرادة ملكة هذه الأوصاف - كما
أشرنا إليه سابقا - فيكون مدلول الصحيحة هو كون العدالة ملكة، وإلا فيتردد
الأمر بينها وبين هذه الأوصاف، لأن ما علم منها هو أن العدالة تعرف بكذا
وكذا، ولا شك أن معرفتها بها يحتمل أن تكون لأجل كونها هي هي، وكل
وصف جزء لها - كما يقال: يعرف الكتاب الفلاني بالمسائل الفلانية - وأن
تكون لأجل كونها علائم لها أو لوازم، كما يقال: يعرف وجود النار بوجود
الدخان.
وعلى هذا، فمدلول الصحيحة: أن هذه الأوصاف مما يعلم بحصولها
العدالة.. وأما أن العدالة هل هي هي، أو الملكة؟ فلا يعلم منه حينئذ.
هذا معنى الصحيحة.
وأما مدلول رواية سلمة (1) فهو: أن المسلم الذي لم يكن مجلودا في
حد، أو معروفا بشهادة: زور، أو ظنينا - والمراد ما يشمل الفاسق كما
صرح في الأحاديث المعتبرة - [فهو] (2) عدل.

(1) المتقدمة في ص 59.
(2) ما بين المعقوفين ليس في " ح " و " ق "، أضفناه لاستقامة العبارة.
83

ومفاد رواية المجالس (1): أن من ولد على فطرة الإسلام ولم تر
بعينك أنه يذنب ولم يشهد به عدلان فهو من أهل العدالة.
ومعنى رواية سماعة (2): أن من اجتمعت خصال ثلاث فيه - وهي:
عدم الظلم عند المعاملة، وعدم الكذب عند المحادثة، وعدم الخلف عند
المواعدة - فهو ممن ظهرت عدالته.
وقد يقال: إنه إن كان المراد من هذه المفادات أن بتوسط تلك الأمور
تعرف العدالة إما لكونها هي هي أو لوازمها وخواصها، فيحصل التعارض
بين تلك الأخبار الثلاثة وبين الصحيحة بالعموم والخصوص المطلق، إذ
مفاد الصحيحة: أن العدالة ملكة الستر والعفاف والكف واجتناب الكبائر
ومواظبة الصلوات الحاصلة للمسلم.
أو تعرف بهذه الأمور، إما من جهة أنها هي، أو أنها من لوازمها الغير
المتخلفة عنه.
ومفاد الثلاثة: أنها الإسلام وعدم العلم بارتكاب الفسق، أو: الإسلام
والعلم بعدم الظلم والكذب والخلف بشئ.
ولا شك أن الأخيرين أعم مطلقا من الأول، فيجب تخصيصهما به،
سيما مع ضعف أسناد الثلاثة وصحة هذه، ومعاضدة الصحيحة بالشهرة
القويمة القديمة والجديدة، بل بالإجماع، ومخالفة الثلاثة لعمل المتقدمين
والمتأخرين - بحيث صارت شاذة، كما صرح به في الشرائع (3) - وموافقة
الصحيحة لأصالة عدم ثبوت العدالة لغير من اتصف بهذه الأوصاف.

(1) المتقدمة في ص 59.
(2) المتقدمة في ص 76.
(3) الشرائع 4: 76.
84

أقول: إن كان المراد في هذه الأخبار: أن هذه الأمور نفس العدالة،
لأمكن القول بتعارضها، ويكون بالتباين لا بالعموم والخصوص المطلقين.
أما لو كان المراد التعريف باللوازم والآثار فلا تعارض أصلا، كما
لا تعارض بين قولك: يعرف الإنسان بالنطق والضحك، وقولك بالكتابة
واستقامة القامة، ولا بين قولك: تعرف النار بالإحراق، وقولك: تعرف
بالإحراق والدخان.
نعم، يعارض مفهوم الشرط في الصحيحة - في قوله: " فإذا كان
كذلك لازما " إلى آخره، وقوله: " ومن رغب عن جماعة المسلمين " وقوله:
" من لزم جماعتهم " إلى آخره - الأخبار الثلاثة بالعموم من وجه، وكذا قوله
فيها: " وكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ".
وعلى هذا، فإن رجحنا الصحيحة بالمرجحات المتقدمة، وإلا فيرجع
إلى الأصل، وهو أيضا مع الصحيحة، بل لنا أن نقول: إنه قد عرفت أن ما
يستفاد من الأخبار الثلاثة - من كون العدالة هي ما ذكر فيها أو ملزوما له - إما
لا قائل به منا أصلا، أو شاذ نادر لا يعبأ به، وثبت على خلافه الإجماع،
ومثل ذلك الخبر لا يكون حجة البتة، فلا يكون للصحيحة معارض صالح
للمعارضة، فتكون هي المرجع في معرفة العدالة.
ولكن لو لم نقل أنها ظاهرة في إرادة الملكة يكون مدلول الصحيحة
في معنى العدالة مرددا بين معنيين:
أحدهما: الهيئة النفسانية التي ذكرها المتأخرون.
وثانيهما: الأوصاف الظاهرية، كما هو أحد احتمالي كلمات القدماء.
وتلك الأوصاف وإن كانت مختلفة في عباراتهم إلا أن مرجع الجميع إلى
أمور متقاربة، بل أمر واحد.
85

ولكن ذلك التردد غير ضائر في ترتب الثمرة في هذا المقام، لأنه لو
جعل الشارع أو غيره وجود شئ مناطا لحكم من الأحكام - ولذلك احتجنا
إلى معرفة ذلك الشئ والعلم بحقيقته لنحكم عند وجوده بترتب الحكم
وعند عدمه بعدمه - فكما يفيدنا العلم بحقيقة ذلك الشئ كذلك تفيدنا
معرفة علائمه ولوازمه المساوية، وكل واحد من هاتين المعرفتين يغنينا عن
الأخرى، لأن مفاد الحكم هو العلم بوجود هذا الشئ، وهو كما يحصل
بمعرفة ذلك الشئ نفسه، كذلك يحصل بالعلم بوجود ما لا ينفك ذلك
الشئ عنه..
فمراد الشارع من العدالة - على هذا - وإن لم يكن متعينا عندنا ولكن
بين لنا أمورا، أو حكم بعدم انفكاك العدالة عنها، سواء كان عدم الانفكاك
لأجل أن تلك الأمور أجزاء لها أو لجهة أخرى، وهذا القدر يكفينا في
الأحكام.
فإن قيل: ربما يتخلف العلم بوجود هذه الآثار عن العلم بوجود
الملكة، كما إذا رأينا شخصا في مدة قليلة - كشهر أو شهرين أو ثلاثة -
كانت جوارحه مجتنبة عن الكبائر، فإنه يعلم وجود الآثار دون الملكة،
سيما إذا كان اجتنابه عن البعض لعدم المقتضي أو وجود المانع، كالعنين
الذي يجتنب عن الزنا واللواط، والأخرس أو الأصم أو الأعمى بالنسبة إلى
معاصي هذه الجوارح، أو عدم حياة والديه بالنسبة إلى العقوق وعدمه،
وكمن كان في موضع لم يتمكن فيه من آلات بعض المعاصي..
بل ربما يتخلف عن الملكة أيضا، كالصبي المعترف فيما يحرم على
الرجال إذا بلغ واجتنب المعاصي بعده، ورأيناه كذلك في شهر أو شهرين،
وربما يعلم أنه يحمل نفسه على ترك المعاصي بالمشقة الشديدة، وربما
86

يكون تركه لخوف الناس، ويعلم أنه يطلب خلوة عن الناس لارتكاب
المعاصي.
وعلى هذا، فتترتب الثمرة على تعيين المراد مما في الصحيحة
أيضا، فإنه إن كانت هذه الأمور نفس العدالة يكون الأشخاص المذكورون
عدولا، وإن كانت من آثار الملكة فلا يمكن الحكم بعدالة هذه الأشخاص،
بل قد يمكن أن يستدل بما ذكر إلى أن العدالة نفس هذه الأوصاف دون
الملكة، لعدم استلزامها لها، للتخلف في الأشخاص المذكورين.
وعلى هذا، فيلزم تعيين ما هو المراد في الصحيحة، وبيان الحكم في
حق هذه الأشخاص في الحكم بالعدالة.
قلنا أولا: إن هذا السؤال لا يختص وروده بجعل العدالة ملكة، بل
يرد عليه وعلى من يفسرها بالأوصاف الظاهرية وحسن الظاهر أيضا.
أما الأول فيقال له: إن من علمنا أنه ليست له ملكة العدالة، ولكن
يحمل نفسه على ترك محارم الله بالجهد والمشقة طول الشهر والسنة، هل
تقبل شهادته مع أنه ليس بعادل - بمعنى ذي الملكة - أم لا؟ مع أنه قد يعد
أعلى مرتبة من العادل، وأكثر ثوابا منه، وأفضل درجة منه.
وأما الثاني فيقال له: من ترك المعاصي لأجل عدم الآلة، أو عدم
المقتضي، أو وجود المانع الخارجي، سيما إذا علم منه أن تركه إنما هو
لعدم التمكن، ولو تمكن أو ارتفع المانع لم يترك المعاصي.
وثانيا: إن الملكة الباعثة على التقوى وتعديل القوى على قسمين:
أحدهما: نفس ملكة العدالة، وهي ملكة يقتدر بها على ترك
المعاصي واجتنابها عن الإفراط والتفريط بسهولة، وهي العدالة في عرف
87

علماء الأخلاق، وهي التي عدها في رواية سماعة (1) - المشتملة على تعداد
خمسة وسبعين من جنود العلم والجهل - من جند العلم، وهي التي عرفوها
في بيان الحديث بأنها ملكة لزوم الاقتصاد في كل شئ من الأخلاق
والأعمال ومعاملات الناس، من غير ميل إلى طرفي الإفراط والتفريط..
وهذه الملكة لا تحصل إلا بمجاهدة، وتكرار أعمال، ومزاولة الأمور،
ولا تزول بفعل خلافها مرة أو مرات.
وثانيهما: صفة نفسانية أخرى غير ملكة العدالة، بحمل النفس على
ترك محارم الله والتقوى، كخوف من الله دينا أو دنيا، أو طمع في ثوابه، أو
إجلال له جل جلاله، أو نحو ذلك..
وذلك مثل الشجاعة والسخاوة، فإن الشجاعة بنفسها ملكة يقتدر بها
على خوض الأهوال، ومعاركة الأبطال، وتلزمها جرأة وقوة قلب، وقد
لا تكون لأحد هذه الملكة، فلا جرأة له ولا قوة قلب، ولكن يخوض
المعارك لصفة نفسانية أخرى، كغيرة، أو حمية، أو حب شخص، أو
بغضه، أو حفظ مال، ونحو ذلك، وكذا السخاوة.
والملكة بهذا المعنى لا يحتاج حصولها إلى مزاولة (وتكرار فاعل) (2)،
بل قد تحصل دفعة، كما إذا حصل خوف من الله يوجب ترك جميع المحرمات.
نعم، لا يكون إلا من صفة أخرى كامنة في النفس، كالغيرة بالنسبة
إلى الشجاعة، فإنه قد يشجع الجبان بملاحظة أمر ينافي الغيرة، فيخاصم
الشجعان، وهذا هو الذي يزول بفعل خلافه ولو مرة.
ولكن العدالة حينئذ ليست مجرد الصفة المذكورة، بل هي إما هذه

(1) الكافي 1: 20 / 14.
(2) في " ق ": وتكرر أفاعيل.
88

الصفة - من جهة بعثها على التورع عن المحارم واجتناب الكبائر - أو هي
التورع والاجتناب المسببان عن تلك الصفة، ويكون تعريفها بالملكة حينئذ
إما لجزئيتها لها أو سببيتها.
وما ذكر إنما يرد على القائلين بالملكة لو أرادوا بها المعنى الأول، أما
لو أرادوا الثاني فيكون من ذكر نقضا داخلا في العدول، لأن تركه لا محالة
مسببه عن هيئة وصفة نفسانية.
نعم، يشترط أن تكون هذه الصفة حسنة، كما يشعر به قولهم: " عن
محارم الله أو الكبائر " يعني: أن تكون لأجل كونه محارم الله أو معصية
كبيرة، لا أن تكون هذه الصفة رياء أو خوفا من الناس - مثلا - فإنه بنفسه
معصية، وليس تركا لمحارم الله، بل ترك للزنا مثلا.
وكذا نقول: إن من (يفسر) (1) العدالة بالأوصاف المذكورة لا يريد
منها نفس عدم وجود المعاصي، فإنه لا يقال في العرف لمن ليس له الآلة
أو لم يتمكن أو وجد له المانع: إنه كاف، أو مجتنب، أو متورع، أو تارك،
بل لا تصدق عليه هذه العنوانات إلا مع كونه كذلك مع وجود الآلة
والتمكن، أو فرضهما، وأن يكون بنفسه تاركا مجتنبا في مدة يحكم فيه
العرف بحصول صفة الكف والترك والاجتناب، كما يشعر به عنوان حسن
الظاهر، ولا يتحقق ذلك إلا إذا استند الاجتناب إلى جهة في النفس.
وعلى هذا، فيحصل التلازم بين الهيئة النفسانية وبين الاجتناب
والترك بالمعنى الذي ذكرنا لهما، بل يمكن أن يقال: إنهما يتحدان.
ثم لو اختلج لك إباء في بعض ما ذكرنا، فنقول: لا شك في أن

(1) في " ق ": يعتبر.
89

الصحيحة تحتمل الأمرين اللذين ذكرنا، وحيث لا يتعين أحدهما فيجب
الأخذ في معنى العدالة بالمجمع عليه، وهو الملكة المتكرر ذكرها، والحكم
باشتراطها فيما علق عليها..
وحاصلها: صفة نفسانية باعثة على الستر والعفاف، وكف الجوارح
واجتناب الكبائر.
أو هي الستر والعفاف، والكف، والاجتناب المذكور، المنبعثة عن
صفة نفسانية.
ولك الاقتصار على الاجتناب عن الكبائر وعن الإصرار على الصغائر،
المنبعثة عنها، لاستلزامه البواقي، بل على الاجتناب المذكور أيضا، إذ
لا صغيرة مع الإصرار.
فروع:
أ: يشترط في الأمور التي تتحقق العدالة باجتنابها والكف عنها أن
تكون معصية في حق الفاعل، فلو ارتكب بعضها سهوا، أو جهلا من غير
تقصير، أو مع عذر مجوز ولو مكررا، لم يقدح في العدالة إجماعا.
ويلزمه أنه لو ارتكب أحد أمرا بتقليد من لا يحرمه - كالنظر إلى وجه
الأجنبية من غير ريبة، أو سماع الغناء فيما يستثنيه جماعة (1)، ونحو ذلك -
لم يقدح في عدالته، ولو عند مجتهد يقول بحرمته.
ولو ارتكب أحد ما يحرمه باعتقاده يخرج عن العدالة حتى عند من
لا يقول بحرمته.

(1) كالمحقق في الشرائع 4: 128، العلامة في القواعد 2: 236، الشهيد في
الدروس 2: 126، صاحب الرياض 2: 430.
90

وكذا يشترط أن يكون تركها واجتنابها من حيث إنها معصية، فلو
تركها لا من هذه الجهة - بل لعدم القدرة، أو وجود المانع أو نحو ذلك -
لم تكن عدالة إجماعا.
ولو لم يعلم أن الكف والترك هل هو من جهة أنه معصية أو لغيرها
ولم تكن قرينة ولو مفيدة للظن أيضا، فالظاهر عدم الحكم بالعدالة.
ب: اعلم أن المستفاد من تتبع كلمات الأصحاب: أن مقابل العدالة
وضدها الفسق، بل الظاهر أنه إجماعي.
ومنه يظهر أيضا أن ملكة العدالة التي يقولون بها هنا غير الملكة التي
هي العدالة عند أهل الحكمة النظرية وعلماء الأخلاق، وهي أحد جنود
العلم، لأن ضدها الجور، كما صرح به في رواية سماعة المتقدمة (1).
والمراد به الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط، ولذا يعد المفرط
في بعض الصفات - كالتواضع والتحمل ونحوهما - غير عادل بهذا المعنى،
ولا يعد فاسقا شرعا.
ثم الفسق - الذي هو ضد العدالة الشرعية - إما يكون هو ارتكاب
بعض ما يكون اجتنابه والكف عنه عدالة فعلا، أو يكون ملكة الارتكاب
بالمعنى المذكور في العدالة الشرعية، أي صفة نفسانية باعثة على
الارتكاب.
وبعبارة أخرى: كون الشخص بحيث لم يستنكف نفسه عن ارتكاب
المعاصي، ولا متوطنا نفسه عن الاجتناب وإن لم يرتكب بالاختيار بعد.
فإن كان المراد منه الأول - كما هو ظاهر بعض كلماتهم، سيما في

(1) في ص 86.
91

مقام بيان أصالة الفسق - تحصل الواسطة بين العدالة والفسق في الواقع
ونفس الأمر قطعا، لأن من كان في قرية لا تحصل فيها الخمر، وكان تاركا
لشربها، وعلمنا أو ظننا أنه إن وجدها يشربها، ليس عادلا إجماعا،
ولا فاسقا على هذا، لعدم ارتكابه للشرب بالفعل.
والحاصل: أن الاجتناب الغير المسبب عن الصفة النفسانية لا يكون
عدالة ولا فسقا.
وإن كان المراد الثاني، كما هو ظاهر كل من عرف العدالة بالملكة، إذ
لا يصح جعل مقابل الملكة وضدها الفعل، وإن لم تكن واسطة بين
الصفتين واقعا ولكن تتحقق الواسطة بينهما بحيث علمتا قطعا، إذ تكون
حينئذ نسبتهما إلى الأصل على السواء، فليس كل من لم يعلم اتصافه
بأحدهما متصفا بالأخرى شرعا حتى تنتفي الواسطة، بل يمكن أن يعلم أن
فلانا عادل أو فاسق شرعا، فتتحقق الواسطة في العلم.
فإن قيل: العدالة - على ما ذكرت - هي الصفة الباعثة على اجتناب
المحارم من حيث بعثها عليه، أو الاجتناب المنبعث عن الصفة النفسانية،
ومآلهما واحد، فضدها عدم ذلك - أي ما لم يكن كذلك - بأن لا يكون
مجتنبا، أو كان ولم يكن اجتنابا منبعثا عن صفة النفس، فأيهما يكون
يحصل الفسق وتنتفي الواسطة.
قلنا: الاجتناب الغير المنبعث عن الصفة النفسية على قسمين:
لأنه إما تكون معه صفة باعثة على الارتكاب، ولكن تمنعه الموانع
الخارجية.
أو لا يكون كذلك، بل تكون النفس خالية عن الصفتين، الباعثة على
الاجتناب عنه من حيث إنه من محارم الله، والباعثة على الارتكاب، وكثيرا
92

ما يتحقق ذلك في حق من لم يتصور نوعا من المعصية ولم يلتفت إليه،
كمن نشأ في موضع لم تذكر فيه الخمر وشربها، والشطرنج والنرد واللعب
بهما، والغناء وسماعه، ونحو ذلك.
ولا نسلم أن المجتنب - الذي كان من القسم الأخير - يكون فاسقا،
بل لعله ليس كذلك إجماعا، ولا يكون عادلا أيضا، لانتفاء الملكة الباعثة.
نعم، لو جعلت العدالة مجرد الاجتناب والآثار الظاهرية - سواء كانت
مستندة إلى صفة حسنة أو لا، والفسق مجرد الارتكاب - تنتفي الواسطة
بينهما، ولكنه غير صحيح البتة، وكذا لا واسطة بين ملكة العدالة - بالمعنى
المعروف عند أهل الحكمة النظرية وعلماء الأخلاق - وبين ضدها، الذي
هو الجور والميل.
ج: اعلم أن الناظر في كلام الأصوليين والفقهاء يرى وقوع الخلاف
بينهم في أصالة العدالة أو الفسق، فمنهم من يقول بأصالة العدالة، كما
سمعت من كلام شيخ الطائفة في الخلاف (1)، ومراد القائل أنها الأصل في
المسلم بمقتضى الأدلة الشرعية.
ومنهم من يقول بأصالة الفسق، نظرا إلى توقف العدالة على أمور
وجودية حادثة علما وعملا، وعليه جريت في كتاب أساس الأحكام.
ومنهم من يقول: بتساويهما بالنسبة إلى الأصل، إما لكون كل منهما
ملكة حادثة، أو لتوقف كل منهما على أمور حادثة، وعليه جريت في كتاب
مناهج الأحكام، وبينت الوجه فيه.
والتحقيق: أن الكلام إما فيمن يجتنب عما يشترط في انتفاء الفسق

(1) الخلاف 2: 592.
93

اجتنابه من المحرمات وترك الواجبات، ولا يعلم أن اجتنابه عن الجميع هل
هو منبعث عن صفة نفسية مقتضية له حتى يكون عادلا، أو منضمة مع صفة
مقتضية لخلافه وإن اتفق الاجتناب بسبب خارجي حتى يكون فاسقا، أو
لا يقارن شيئا من الصفتين حتى لا يكون عادلا ولا فاسقا، فنسبة الأصل
إليهما على السواء، وكلاهما خلاف الأصل.
أو فيمن لا يعلم أنه هل هو مجتنب عما يشترط اجتنابه في تحقق
العدالة، أم لا؟
وظاهر كلام أكثر من تعرض للمقام أن الأصل فيه الفسق (1)، لأن
الأصل وإن كان عدم ارتكاب الأفعال المحرمة، ولكن الأصل عدم الإتيان
بالواجبات العلمية والعملية، وهو كاف في تحقق الفسق.
ومنهم من قال بتساوي نسبتهما إلى الأصل، لأن الأصل وإن كان عدم
الإتيان بالواجبات إلا أن الأصل عدم وجوبها أولا (2).
أما المشروطات الغير المتيقنة حصول شرطها - كغسل الجنابة،
والمس، وحج البيت، والزكاة، والخمس، والكفارات، والنذورات،
ونحوها، وهي أكثر الواجبات - فظاهر.
وأما المطلقات، فلأن وجوبها إنما هو مع انتفاء الجهل الساذج، أو
السهو، أو النسيان، أو الخطأ، أو العذر، ومع ثبوت وجوبها فالأصل وإن
كان عدم الإتيان بها ولكن يعلم كل أحد أن المكلف ليس باقيا على حال
كانت عليه قبل التكليف وقبل تعلق وجوب الفعل عليه، بل تبدلت حالاته
وانتقل من حال إلى حال، ومن فعل إلى فعل، بل يعلم قطعا أنه في كل

(1) انظر التنقيح 4: 289، المسالك 2: 361، كشف اللثام 2: 370.
(2) انظر الحدائق 10: 24.
94

يوم ليس باقيا على فعل يومه السابق، بل تركه ونام، ثم استيقظ وتجددت
أفعاله، فكما أن الأصل عدم تلبسه بالفعل الواجب عليه (1)، الأصل عدم
تلبسه بأحد أضداده الخاصة الوجودية أيضا، ومع ذلك ففي كثير من
الواجبات يجب البناء على الفعل والتحقق، كالتطهر من الأخباث، والتذكية،
وأداء الزكاة والخمس، بل أكثر الاعتقادات.
وعلى هذا، فنسبة الأصل إليهما على السواء.
وفيه: أن هذا كان حسنا لو كان أحد أفراد الفسق هو الإتيان بأحد
الأضداد الوجودية للواجب، كما أن العدالة موقوفة على الإتيان بالواجب،
فيصح أن يقال: إن الأصل بالنسبة إليهما على السواء، ولكن الفسق يتحقق
بعدم الإتيان بالواجب، والعدالة موقوفة على الإتيان به، والأصل عدم
الإتيان، ولا دخل لأصالة عدم الإتيان بالأضداد بالمقام، وإن كان هو من
مقارنات عدم الإتيان بالواجب في الخارج، لعدم خلو الإنسان عن الأكوان.
ولكن ها هنا كلاما آخر أتقن، وهو أن الثابت بالاستصحاب والأصل
هو إبقاء الأحكام التوقيفية من الشارع من الشرعيات والوضعيات للمستصحب
بعد حصول الشك في بقائه..
وأما الأحكام العقلية والعرفية والآثار والخواص المترتبة عليه بالتجربة
وأمثالها فلا تترتب عليه قطعا، ولا يجب إبقاؤها أبدا..
فإنا نحكم بعدم جواز تقسيم إرث الغائب في موضع لا يوجد فيه
مأكول إلا أمداد معينة من خبز، وعدم جواز نكاح زوجته، ووجوب نفقتها
على ماله، ونحو ذلك من الأحكام الشرعية.. ولكن لا نحكم بنقص شئ

(1) في " ق ": علمه.
95

من ذلك الخبز لأجل أكله إياه البتة.
ونحكم في جنب شك في غسله بعدم جواز الصلاة والمكث في
المساجد وقراءة العزائم ونحوها، ولكن لو كان زرع تفسد ثمرته بعبور
الجنب عليه لا نحكم بفساد ثمرته، بل نقول: لا نعلم أنه هل يفسد أم لا،
ولو قال الشارع بفساد بيع ثمرته لا يحكم بفساد بيعه.
ولا شك [في سببية ترك الواجب للفسق، وأن] (1) تركه خروج عن
طاعة الله عقلا وعرفا، لأن الحاكم بالإطاعة والمخالفة بعد تحقق الأمر
والنهي هو العقل والعرف، والخروج عن طاعة الله هو معنى الفسق لغة.
نعم، رتب الشارع على هذا اللفظ بحسب معناه أحكاما، وأما تحقق
معناه وعدمه ليس من الأحكام الشرعية، فلا يترتب هو على استصحاب
شئ.
والحاصل: أن الفسق هو الخروج عن طاعة الله لغة، والخروج عنها
إنما يترتب على عدم الإتيان بالواجب واقعا عقلا وعرفا، ولا يترتب على
استصحاب عدم إتيانه، لأنه ليس حكما شرعيا أو وضعيا من الشارع يتبع
الاستصحاب، فكما لا يمكن أن يحكم على من يستصحب عدم إتيانه
لواجب أنه مخالف لأمر الله خارج عن طاعة الله، كذلك لا يحكم أنه
فاسق، والله هو الموفق.
د: لا فرق في صفة العدالة الشرعية بين الرجال والنسوان، لظاهر
الإجماع المركب.
وأما رواية عبد الكريم: " تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كن مستورات

(1) بدل ما بين المعقوفين في " ق ": أن ترك الواجب للفسق...، وفي " ح ": أن
سببية ترك الواجب للفسق أن...، والظاهر ما أثبتناه.
96

من أهل البيوتات، معروفات بالستر والعفاف، مطيعات للأزواج، تاركات
للبذاء والتبرج إلى الرجال في أنديتهم " (1).
فلا تدل على أن هذه الأوصاف هي العدالة فيهن، فلعل المراد
بمعرفة هذه الصفات فيهن يحصل الظن بحصول صفة العدالة الشرعية، كما
أن بمعرفة ما ذكر في الصحيحة - من ستر العيوب، وملازمة الصلاة، وقول
أهل القبيلة: إنا لا نعلم منه إلا خيرا - يحصل الظن بعدالة الرجل، وهذا
القدر كاف في قبول الشهادة.
وعلى هذا يحمل أيضا كلام الشيخ في النهاية، حيث إنه - بعدما فسر
العدل بما في صحيحة ابن أبي يعفور (2) - قال: ويعتبر في قبول شهادة
النساء: الإيمان، والستر، والعفاف، إلى آخر ما في هذه الرواية (3).
ه‍: قال الفاضل في المختلف في بحث الإمامة في الصلاة: العدالة
غير متحققة في الصبي، لأنها هيئة قائمة بالنفس تقتضي البعث على ملازمة
الطاعات والانتهاء عن المحرمات، وكل ذلك فرع التكليف (4).
وقال مثل ذلك فخر المحققين في الإيضاح (5).
وصريحهما عدم تحقق العدالة في الصبي، وهو مقتضى الأصل، لأن
الأصل عدم تحقق العدالة الشرعية فيه، حيث إن الأخبار المثبتة لها ظاهرة
في المكلفين، بل الصحيحة صريحة فيهم، لقوله: بم تعرف عدالة الرجل؟

(1) التهذيب 6: 242 / 597، الإستبصار 3: 13 / 34، الوسائل 27: 394 أبواب
الشهادات ب 41 ح 20.
(2) المتقدمة في ص 76 - 78.
(3) النهاية: 325.
(4) المختلف: 153.
(5) الإيضاح 4: 149.
97

إلى آخره، مع أنها - مع قطع النظر عن الاختصاص - لا يتحقق ما تضمنته في
غير المكلف، لأن العدالة المذكورة فيه إما هي الأفعال المذكورة في
الصحيحة، أو صفة باعثة عليها.
والمراد من البعث والمتبادر منه هو البعث فعلا، وهو في حق
الصبي غير ممكن، إذ لا كبيرة عليه ولا صغيرة، ولا كف عليه ولا ستر.
وإرادة ما هو كبيرة في حق المكلفين باطلة قطعا، فلا يمكن البعث
الفعلي.
وكفاية الفرضي منه في تحقق العدالة - بمعنى: أنه كان بحيث لو
تعلق به الأمر والنهي ائتمر وانتهى - غير معلومة، وإن كان مثله في حق
الصبي ممكنا، ولأجله يمكن اتصاف من كان أول عهده بالبلوغ - ولو بنحو
يوم - بالعدالة.
هذا في العدالة الشرعية المعتبرة في الشهادة ونحوها.
أما صفة العدالة عند علماء الأخلاق فالظاهر أن تحققها في الصبي
ممكن، كصفة الشجاعة، والحلم، والصبر، ونحوها، فتأمل.
و: هل يشترط في تحقق العدالة الإسلام، فلا يتحقق العادل في غير
المسلمين، أم لا، فيتحقق؟
صريح الشهيد الثاني وظاهر بعض آخر عدم اشتراط العدالة بالإسلام،
كما يأتي في الفروع اللاحقة (1)، وصريح الفاضل والشيخ حسن وجمع آخر
الاشتراط، كما يأتي أيضا (2).
والتحقيق: أنه إن أريد بالعدالة العدالة في عرف علماء الأخلاق

(1) انظر ص 99.
(2) انظر ص 99.
98

- وهي المعبر عنها بملكة العدالة، التي هي تعديل القوى النفسانية وإقامتها
بين طرفي الإفراط والتفريط - فلا منع في تحققها في غير المسلم، كسائر
الصفات النفسانية.
وإن أريد العدالة الشرعية - أي ما اعتبرها الشارع وجعلها شرطا
لأمور - فلا دليل على ثبوتها لغير المسلم وكونها صفة ممكنة التحقق فيه،
بل الظاهر من الصحيحة كونها أفعالا أو ملزومة لأفعال لا تكون في غير
المسلم، من كف الجوارح الأربع - أي مما حرمه الله تعالى في دين الإسلام -
والاجتناب عن الكبائر التي أوعد الله عليها النار في القرآن، وملازمة
الصلوات الخمس، وحفظ مواقيتهن، ولزوم جماعتهن وجماعة المسلمين.
فإن قيل: الكف عن المعاصي والاجتناب عن الكبائر كم يكون
للمسلمين يكون لغيرهم أيضا بعد بذل جهده وإتعاب نفسه في تحقيق
الحق.
قلنا: الظاهر المتبادر أن المراد بما يكف عنه والكبائر التي يلزم
الاجتناب عنها هي المحرمات في دين الإسلام وما هي كبيرة فيه مطلقا،
وعدم كون بعضها محرما أو كبيرة في غير دين الإسلام أو حرمة غيرها فيه
إنما يوجب عدم ترتب المعصية على ارتكابه وترتبها على ارتكاب غيره لو
كان ممن بذل جهده على تحقق العدالة بمحض اجتناب ما هو محرم في
دينه.
وإن توهم عموم الرجل في الصحيحة (1)، فيحمل ما يكف عنه
ويجتنب على ما هو محرم عنده.

(1) أي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة في ص 76 - 77.
99

يدفع بأن قوله فيها: حتى تقبل شهادته لهم وعليهم، يخصصه
بالمسلم، لعدم قبول شهادة غير المسلم على المسلم، وكذا شرط التعاهد
للصلوات الخمس، ولزوم مواقيتها، وحضور جماعة المسلمين.
فإن قيل: قوله في موثقة سماعة المتقدمة (1): " من عامل الناس "
وقوله في رواية علقمة: " فمن لم تره بعينك " (2) عام.
قلنا: " وجبت أخوته " في الأولى، و: " شهادته مقبولة " في الثانية،
يخصصه، سيما مع مسبوقية قوله في الثانية بقوله: " من ولد على الفطرة "
أولا، وتعقبه بقوله: " من اغتاب مؤمنا " آخرا.
والمحصل: أن العدالة - التي هي مصطلح أهل الأخلاق - في غير
المسلم ممكنة التحقق، وكذا عدالة أهل كل دين عند أهله، إذا أرادوا من
العدالة: اجتناب المحرمات والإتيان بالواجب بحسب دينهم، ونحن لا نعلم
أن لهم أيضا عدالة أو اصطلاحا فيها أم لا، وكذا إن أريد إثبات العدالة بهذا
المعنى لهم عندنا.
أما كون العدالة التي اعتبرها شارعنا المقدس - وهي كون اجتناب أهل
كل دين عما هو محرم عندهم - فلم تثبت عندنا، فلا يمكن الحكم بعد
التهم بهذا المعنى، وإن لم يمكن الحكم بالفسق أيضا إذا كان مطيعا لله
بحسب دينه، باذلا جهده في تحقيق الدين.
فإن قيل: قال الله سبحانه: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الفاسقون) * (3)، فيكون كل كافر فاسقا.

(1) في ص 76.
(2) أمالي الصدوق: 91 / 3، الوسائل 27: 395 أبواب الشهادات ب 41 ح 13.
(3) المائدة: 47.
100

قلنا: من لم يحكم بما أنزل الله في حقه وبحسب علمه، وأيضا
الفسق هو الخروج عن طاعة الله، ومثل ذلك الشخص ليس خارجا عن
طاعة الله.
ز: اختلفوا في اشتراط الإيمان في العدالة وعدمه، فصرح بعضهم
بالأول، منهم الفاضل، قال: وأي فسق أعظم من عدم الإيمان (1)؟!
ومنهم الشيخ حسن، قال في منتقى الجمان: قيد العدالة مغن عن
التقييد بالإيمان، لأن فاسد المذهب لا يتصف بالعدالة حقيقة، كيف؟!
والعدالة حقيقة عرفية في معنى معروف لا يجامع فساد العقيدة قطعا. قال:
وادعاء والدي (رحمه الله) في بعض كتبه توقف صدق وصف الفسق بفعل المعاصي
المخصوصة على اعتقاد الفاعل كونها معصية، عجيب (2). انتهى.
وصرح جماعة بالثاني، قال في المسالك: والحق أن العدالة تتحقق
في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم (3).
وقال شيخنا البهائي في الزبدة: وليس في آية التثبت (4) حجة عليه،
لمنع صدق الفاسق على المخطئ في بعض الأصول بعد بذل مجهوده (5).
وقال المحدث الكاشاني في نقد الأصول في بيان العمل بأخبار غير
أهل الإيمان: لكن العمل بأخبارهم غير بعيد، لحصول الظن بها بعد توثيق
الأصحاب لهم، فإن المانع من الكذب في الرواية إنما هو العدالة، وهي
حاصلة فيهم، ولا يقدح فيه عدم إيمانهم كما لا يخفى. انتهى.

(1) حكاه عنه في مجمع الفائدة والبرهان 2: 350.
(2) منتقى الجمان 1: 5.
(3) المسالك 2: 401.
(4) الحجرات: 6.
(5) زبدة الأصول: 59.
101

بل هو ظاهر كل من قال: إن العدالة هي ظاهر الإسلام مع عدم ظهور
الفسق.
أقول: لا ينبغي الريب في تحقق ملكة العدالة في غير المؤمن أيضا،
ولكن هي غير ما نحن نتكلم فيه.
وأما العدالة الشرعية - التي كلامنا فيها - فالأصل عدم تحققها فيه،
والأخبار المتقدمة وإن كان ظاهرها الإطلاق، إلا أن وجوب الأخوة وقبول
الشهادة يوجب الاختصاص بالمؤمن، ولولا ذلك لأمكن القول بثبوتها له إذا
كان مصداقا لما في الصحيحة.
فإن قيل: كيف يمكن كونه مصداقا له مع كونه مرتكبا لأكبر الكبائر؟!
وهو متابعة الإمام الجائر، والرد على المنصوب من قبل الله سبحانه وعدم
قبوله، كما في رواية أبي الصامت المروية في التهذيب: " أكبر الكبائر سبع "
فعدها وعد السابع: " إنكار ما أنزل الله عز وجل " إلى أن قال: " وأما إنكار ما
أنزل الله عز وجل فقد أنكروا حقنا وجحدوا له " الحديث (1).
وفي رواية عبد الرحمن بن كثير الهاشمي المروية في الفقيه: " الكبائر
سبع فينا أنزلت " فعدها إلى أن قال: " وإنكار حقنا " الحديث (2).
قلنا: كون ذلك معصية كبيرة إنما هو على فرض التقصير في التحقيق
وعدم حصول العلم، وإلا فلا يكلف الله نفسا فوق معلومها.
كذا ذكره جماعة من المتأخرين (3)، ولكن التحقيق خلاف ذلك، بل

(1) التهذيب 4: 149 / 417، الوسائل 15: 325 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 20
وفيه صدر الحديث.
(2) الفقيه 3: 366 / 1745، الوسائل 15: 326 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 22.
(3) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 401، والفيض الكاشاني في المفاتيح 3: 278.
102

هو أن الإمام (عليه السلام) حكم بثبوت العدالة بوجود أمور خاصة، من الستر
والعفاف عن أشياء معينة، وكف الجوارح عنها، واجتناب أمور خاصة
متعينة عنده (عليه السلام)، والإتيان بأمور وجودية علما وعملا قلبا وجارحة،
فلازمه الحكم بثبوتها عند تحقق هذه الأمور ونفيها عند انتفائها كلا أو بعضا
ولو واحدا، سواء كان الانتفاء لأجل عدم ثبوت وجوب ذلك الأمر عند
المكلف، بل وثبوت عدم وجوبه عنده، أو كان عمدا وعصيانا وإن اختص
ترتب الإثم والعقاب - بحكم العقل - بصورة العمد والعصيان.
نعم، تلك الأمور على قسمين:
أحدهما: ما يعلم الواقع منه وكونه داخلا في مراد الإمام بإجماع، أو
ضرورة دينية أو مذهبية، أو كتاب محكم، أو سنة مقطوعة، كالكف عن
شرب الخمر، والزنا، والربا، والشرك، والتجسم، وإنكار النبوة، وجحد
إمامة الأئمة، ونحو ذلك، بل جميع ما يتعلق بأصول العقائد.
وثانيهما: ما لا يعلم الواقع منه وخصوص مراد الإمام، بل قد يظن
ظنا، وإن كان ذلك الظن حجة للظان، كبعض أقسام الغناء، وبعض أفراد
الغيبة، والنظر إلى الأجنبية بلا ريبة، وترك غسل الجنابة بالوطء في الدبر
من غير إنزال، وترك الصلاة في أوقات اختلف في تضيقها فيها، ونحو
ذلك من مسائل الفروع المختلف فيها.
فما كان من الأول يحكم بانتفاء العدالة بانتفاء تلك الأمور اجتنابا أو
ارتكابا قطعا.
وما كان من الثاني فلما لم يعلم الواقع فلا يعلم أن المكلف ترك
واجبا واقعيا أو اجتنب محرما كذلك، والوجوب والحرمة بحسب ظن
مجتهد لا يجعله كذلك واقعا، وإن كان كذلك في حق من ظنه كذلك
103

بالإجماع.
واحتمال كونه كذلك أو ظنه لا يجعله كذلك في حق غير الظان،
سيما مع انعقاد الإجماع على عدم كون ما ظن حكما في حقه.. فتأمل.
ولعمري أن هذا الخلاف والخلاف السابق عليه قليل الجدوى جدا،
لأنه لا يقول أحد بعدالة غير المؤمن أو الكافر، الذي لم يعلم في حقه بذل
الجهد في تحقيق الدين، بحيث لم يمكن له فوق ذلك.
وحصول العلم لنا في حق المخالف أو الكافر - أنه باذل جهده
وسعيه، وحصل له العلم بحقية دينه - إما غير ممكن أو نادر جدا، وأندر
منه ما لو كان مع عدم التقصير جامعا لغير ذلك من شرائط العدالة.
المسألة الثانية: إذا عرفت معنى العدالة، وأنها الستر والعفاف،
والكف عن المحارم، والاجتناب عن الكبائر المنبعثة عن صفة راسخة
نفسانية..
فلكونها أمورا خفية تصعب معرفتها، لعدم محصورية المحارم،
لكونها مبثوثة على القلب والجوارح من جهة الاعتقادات والأفعال، ولها
كبائر وصغائر، والصغائر أيضا تصير كبيرة بالإصرار، والعلم بالاجتناب عن
الجميع في جميع الأحوال صعب مستصعب، سيما مع اشتراط كونها منبعثة
عن صفة نفسانية..
فلذلك وقع الخلاف في طريق معرفتها - بعد اتفاقهم على حصولها
بالمعاشرة الباطنية، والصحبة المتأكدة التامة، الموجبة للاختبار (1)، المميز
بين الخلق والتخلق، والطبع والتكلف، وبالشياع الموجب للعلم، وبشهادة

(1) في " ق ": للاجتناب.
104

العدلين - في أنه هل ينحصر الطريق بذلك؟ كما هو مختار أكثر
المتأخرين، منهم: الشرائع والذكرى والدروس والبيان والمسالك والروضة
الجعفرية وحاشية الشرائع للكركي ووالدي (رحمه الله) في كتبه الأصولية (1)،
وغيرهم (2)، ونسبه في المسالك إلى المشهور (3)، وقيل: إنه القريب من
الإجماع (4).
[أو] (5) يعرف بأقل من ذلك أيضا، كما قال به جماعة..
وهم بين قائل بأنه يعرف بظاهر الإسلام مع عدم ظهور ما يوجب الفسق،
كما حكي عن الإسكافي والإشراف والخلاف والمبسوط والاستبصار (6)،
واختاره بعض المتأخرين، وجعله في المسالك أمتن دليلا وأكثر رواية، وجعل
حال السلف شاهدا عليه، وإن جعل المشهور الآن - بل المذهب - خلافه (7).
وقائل بأنه يعرف بحسن الظاهر، نسبه في الذكرى إلى بعض
الأصحاب (8)، ونسب إلى الشيخ أيضا (9)، وعليه جماعة من متأخري
المتأخرين (10).

(1) الشرائع 4: 126، الذكرى: 267، الدروس 1: 218، البيان: 131. المسالك
2: 362، الروضة 1: 379، الجعفرية (رسائل المحقق الكركي 1): 80.
(2) كالفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 370.
(3) المسالك 2: 362.
(4) كما في الرياض 2: 391.
(5) في " ح " و " ق ": و، والصحيح ما أثبتناه.
(6) حكاه عن الإسكافي والإشراف في المختلف: 717، الخلاف 1: 550،
المبسوط 8: 217، الإستبصار 3: 14.
(7) المسالك 2: 362.
(8) الذكرى: 267.
(9) النهاية: 327.
(10) منهم صاحب المدارك 4: 69، صاحب الحدائق 10: 23.
105

والفرق بين ذلك وبين القول الأول: أنه يحتاج على الأول إلى
المعاشرة الباطنية مدة مديدة، يحصل فيها الاطلاع على السريرة ولو في
الجملة.. وعلى هذا القول يكتفي في المعاشرة الظاهرة، مثل: رؤيته مواظبا
على الصلوات الخمس، أو معاملته مع الناس من غير ظلم، وإخبارهم من
غير كذب، ووعدهم من غير خلف.
وقد ينسب هذا القول إلى جمع من القدماء (1) - المعبرين في تعريف
العدالة بالورع عن محارم الله، أو بالصلاح، أو بالاجتناب عن المحرمات،
ونحو ذلك - وهو غير سديد، لأن التعبير بهذه الأمور يستدعي العلم بكونه
كذلك كما مر، وهو لا يحصل بمجرد حسن الظاهر.
وهنا قول رابع، اختاره والدي العلامة (رحمه الله) في كتاب القضاء من
المعتمد، وهو أن حسن الظاهر إن بلغ حدا يفيد غلبة الظن بثبوت علائم
الملكة جاز الاكتفاء، وإلا فلا اعتماد عليه.
دليل الأولين: الأصل، فيؤخذ بالمجمع عليه، واشتراط العدالة
ونحوها من الصلاح أو اجتناب الكبائر والكف واقعا، غاية الأمر التقييد في
مقام التكاليف بالمعلوم، فيشترط العلم بها، وهو لا يحصل إلا بالمعاشرة
الباطنية، أو الشياع، أو ما يقوم مقام العلم شرعا، وهو شهادة عدلين.
ولو منعت من حصول العلم بالمعاشرة الباطنية أيضا، كما هو ظاهر
الكركي في حاشية الشرائع، حيث قال: إذا غلبت على ظنه عدالته بالطريق
المعتبر في معرفة العدالة، وهي المعاشرة الباطنية، أو شهادة عدلين، أو
الشياع. خلافا للشهيد في الذكرى، حيث قال: الأقرب اشتراط العلم

(1) نسبه إليهم في المسالك 2: 361.
106

بالعدالة بالمعاشرة الباطنية (1).
نقول: إن الإجماع واقع على كفاية المعرفة بها وقيامها مقام العلم،
فهي كافية قطعا.
وتدل على ذلك القول أيضا رواية محمد بن هارون الجلاب: " إذا
كان الجور أغلب من الحق لا يحل لأحد أن يظن بأحد خيرا حتى يعرف
ذلك منه " (2).
وحجة من يكتفي في معرفتها بظاهر الإسلام: الإجماع المحكي في
الخلاف (3)، والروايات المتكثرة، كروايتي سلمة والمجالس
المتقدمتين (4)..
وصحيحة حريز: " إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة
الزور أجيزت شهادتهم جميعا، وأقيم الحد على الذي شهدوا عليه، إنما
عليهم أن يشهدوا بما أبصروا وعلموا، وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم، إلا
أن يكونوا معروفين بالفسق " (5).
وحسنة العلاء: عن شهادة من يلعب بالحمام، قال: " لا بأس إذا كان
لا يعرف بفسق " (6).

(1) الذكرى: 267.
(2) الكافي 5: 298 / 2.
(3) الخلاف 2: 592.
(4) في ص 59.
(5) الكافي 7: 403 / 5، التهذيب 6: 277 / 759، الإستبصار 3: 14 / 36، الوسائل
27: 397 أبواب الشهادات ب 41 ح 18.
(6) الفقيه 3: 30 / 88، التهذيب 6: 284 / 784، الوسائل 27: 394 أبواب
الشهادات ب 41 ح 6.
107

وقد يستدل أيضا بمرسلة ابن أبي عمير: في قوم خرجوا من خراسان
أو بعض الجبال، وكان يؤمهم رجل، فلما صاروا إلى الكوفة علموا أنه
يهودي، قال: " لا يعيدون " (1).
وبمرسلة يونس: " خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها
بظاهر الحال: الولايات، والمناكح، والمواريث، والذبائح، والشهادات،
فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته، ولا يسأل عن باطنه " (2).
وصحيحة ابن المغيرة: " كل من ولد على الفطرة وعرف بصلاح في
نفسه جازت شهادته " (3).
وبالأخبار المتضمنة لوضع أمر أخيك على أحسنه، وعدم اتهام
أخيك، وهي كثيرة.
ويرد على المرسلة الأولى: أنه يحتمل أن يكون من أم القوم حسن
الظاهر، أو كان شهد عدلان بعدالته.
وعلى المرسلة الأخرى والصحيحة: بأنهما متضمنتان لقيد آخر غير
ظاهر الإسلام أيضا، وهو مأمونية الظاهر، أو المعروفية بالصلاح في نفسه،
فهما يصلحان دليلا للقول بحسن الظاهر.
وعلى الأخبار الأخيرة: أنه مع ضعف دلالتها على المطلوب
ومعارضتها مع ما يدل على خلافها، أن الظاهر من الأخبار اختصاص الأخ

(1) الكافي 3: 378 / 4، التهذيب 3: 40 / 141، الوسائل 8: 374 أبواب صلاة
الجماعة ب 37 ح 1.
(2) الكافي 7: 431 / 15، الفقيه 3: 9 / 29، التهذيب 6: 283 / 781، الإستبصار
3: 13 / 35، الوسائل 27: 392 أبواب الشهادات ب 41 ح 3، بتفاوت.
(3) الفقيه 3: 28 / 83، التهذيب 6: 284 / 783، قرب الإسناد: 365 / 1309،
الوسائل 27: 398 أبواب الشهادات ب 41 ح 21.
108

المستحق لذلك بأشخاص لا يخلون عن حسن الظاهر.
ودليل من يكتفي بحسن الظاهر: مرسلة يونس وصحيحة ابن المغيرة
المذكورتين (1)، وموثقة سماعة ورواية عبد الكريم المتقدمتين (2)، وصحيحة
ابن أبي يعفور السابقة (3).
وصحيحة محمد: " لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد إذا
علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس " (4).
والأخرى: يسلم الذمي ويعتق العبد، أتجوز شهادتهما على ما كانا
أشهدا عليه؟ قال: " نعم، إذا علم منهما بعد ذلك خير جازت
شهادتهما " (5).
وصحيحة عمار بن مروان: عن الرجل يشهد لامرأته، قال: " إذا كان
خيرا جازت شهادته " (6).
وعن الرجل يشهد لأبيه، أو الأب لابنه، أو الأخ لأخيه، قال:
" لا بأس بذلك، إذا كان خيرا جازت شهادته " (7).

(1) في ص: 106.
(2) في ص 76 و 94.
(3) راجع ص 76.
(4) الفقيه 3: 33 / 104، التهذيب 6: 273 / 746، الإستبصار 3: 33 / 104،
الوسائل 27: 394 أبواب الشهادات ب 41 ح 8.
(5) الفقيه 3: 41 / 139، الوسائل 27: 387 أبواب الشهادات ب 39 ح 1.
(6) الكافي 7: 393 / 2، الفقيه 3: 26 / 70، التهذيب 6: 247 / 628، الوسائل
27: 366 أبواب الشهادات ب 25 ح 2.
(7) الكافي 7: 393 / 4، الفقيه 3: 26 / 70، التهذيب 6: 248 / 631، الوسائل
27: 367 أبواب الشهادات ب 26 ح 2.
109

وموثقة أبي بصير: " لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفا صائنا " (1).
ورواية العلاء بن سيابة: قلت: فالمكاري والجمال والملاح؟ قال:
" وما بأس بهم، تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء " (2).
ورواية القاسم بن سليمان في القاذف والتائب: " إذا تاب ولم يعلم
منه إلا خير جازت شهادته " (3).
والمروي في تفسير الإمام - وهو بعد حذف بعض الزوائد -: " أنه كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا تخاصم إليه رجلان في حق، قال للمدعي: ألك بينة؟
فإن أقام بينة يرضاها ويعرفها أنفذ الحكم على المدعى عليه، فإذا جاء
بشهود لا يعرفهم بخير ولا شر قال للشهود: أين قبائلكما؟ ثم يقيم
الخصوم والشهود بين يديه، ثم يأمر فيكتب أسامي المدعي والمدعى عليه
والشهود، ثم يدفع ذلك إلى رجل من أصحابه الخيار، ثم مثل ذلك إلى
رجل آخر من خيار أصحابه، ويقول: ليذهب كل واحد منكما فليسأل
عنهما، فيذهبان ويسألان، فإن أتوا خيرا وذكروا فضلا رجعا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فأخبراه به، فأحضر القوم الذين أثنوا عليهما، فيقول: إن فلانا وفلانا
جاءني عنكم بنبأ جميل وذكر صالح، أفكما قالا؟ فإذا قالوا: نعم، قضى
حينئذ بشهادتهما على المدعى عليه، وإن رجعا بخبر سئ ونبأ قبيح،
لم يهتك ستر الشاهدين، ولا عابهما ولا وبخهما، ولكن يدعو الخصوم إلى

(1) الفقيه 3: 27 / 77، التهذيب 6: 258 / 676، الإستبصار 3: 21 / 64، الوسائل
27: 372 أبواب الشهادات ب 29 ح 3.
(2) الكافي 7: 396 / 10، الفقيه 3: 28 / 82، التهذيب 6: 243 / 605، الوسائل
27: 381 أبواب الشهادات ب 34 ح 1.
(3) الكافي 7: 397 / 2، التهذيب 6: 246 / 620، الإستبصار 3: 37 / 125،
الوسائل 27: 383 أبواب الشهادات ب 36 ح 2.
110

الصلح، لئلا يفتضح الشهود، ويستر عليهم، وكان رؤوفا رحيما عطوفا
متحننا على أمته (صلى الله عليه وآله)، فإذا كان الشهود من أخلاط الناس غرباء لا يعرفون،
ولا قبيلة لهما ولا سوق ولا دار، أقبل على المدعى عليه وقال: ما تقول
فيهما؟ فإن قال: ما عرفت إلا خيرا، غير أنهما قد غلطا فيما شهدا علي،
أنفذ عليه شهادتهما، وإن جرحهما وطعن عليهما أصلح بين الخصم
وخصمه، أو أحلف المدعى عليه، وقطع الخصومة بينهما " (1).
احتج الوالد العلامة (رحمه الله) لما اختاره: بأن غلبة الظن كافية في معرفة
العدالة لنفي الجرح، إذ اشتراط القطع بها يؤدي إليه غالبا، فحسن الظاهر إن
بلغ حدا يفيد غلبة الظن يجوز الاكتفاء به.
أقول: حق المحاكمة بين هؤلاء الفرق أن يقال: أما أخبار ظاهر
الإسلام - التي هي مستند القول الثاني - فقد عرفت أن ما يمكن القول
بدلالته منحصر في أربعة..
فلو أغمضنا عن البحث في دلالة الأول منها - حيث إنها تتضمن
استثناء الظنين الذي يشمل الفاسق كما دلت عليه الأخبار، فيكون المعنى:
المسلم الغير الفاسق عدل، يعني: أن من علم أنه مسلم غير فاسق، وهذا
غير مفيد للتمسك به - نقول: إنها معارضة مع رواية محمد بن هارون
المتقدمة - وهو ظاهر - والمروي في تفسير الإمام، حيث إنه ظاهر في كون
الشهود مسلمين - كما قيل (2) - بحكم التبادر، وغلبة الإسلام في
المتخاصمين عنده، وشهودهم في زمانه (صلى الله عليه وآله)، بل صريح في ذلك، لقوله:

(1) تفسير العسكري (عليه السلام): 673 / 376، الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى ب 6 ح 1.
(2) انظر الرياض 2: 390.
111

" متحننا على أمته "، ومع ذلك بعث للفحص عن أحوال الشهود، وأخر
القضاء الذي هو واجب فورا، وكان ديدنه ذلك، وقصر في الحكم على
صورة الإتيان بالنبأ وذكر الفضل عنهم، ولم يحكم في صورة الإتيان بالنبأ
القبيح، ولا في صورة عدم المعرفة، بل رغب في الصلح وأحلف، مع أنه
لو كان عدم المعرفة في الصورة الأخيرة لعدم معرفة الإسلام لم يتوقف على
معرفة القبيلة والمحلة، بل يكفي إقرار الشاهد بأحد الطرفين، ولا يفيد
جرح المدعي، فكان عليه التفتيش.
ومع مفهوم قوله: " فإذا كان كذلك " إلى قوله: " فإن ذلك يجيز
شهادته وعدالته بين المسلمين " في صحيحة ابن أبي يعفور (1).
وكذا سائر الأخبار المشترطة للصلاح أو المعروفية به، وللخيرية
والمعروفية بها، وغير ذلك مما مر.
والتعارض بالعموم من وجه.
فلو لم نقل بعدم حجية أخبار ظاهر الإسلام - لمخالفتها الشهرة العظيمة
الجديدة والقديمة، حتى جعلها المحقق في الشرائع شاذة نادرة (2) - تكون
مرجوحة البتة، لندرة القائل، وقلة العدد، وضعف السند في الأكثر، وقصور
الدلالة، وموافقة العامة، وكون كثير من معارضاتها أحدث، فهي راجحة قطعا.
ولو سلمنا عدم الترجيح فليرجع إلى الأصل، وهو مع المعارضات.
ومنه يظهر ضعف القول الثاني جدا، ووجوب رفع اليد عنه.
وأما القول الثالث - وهو حسن الظاهر - فلا شك أن لحسن الظاهر
عرضا عريضا، ومراتب شتى، فيتصل في أحد جانبيه بمجهول الحال،

(1) المذكورة في ص 76.
(2) الشرائع 4: 76.
112

وبمجرد الترقي عنه يدخل في حسن الظاهر، ويتصل في جانبه الآخر
بمرتبة العصمة ومنزلة النبوة والولاية، وبمحض التنزل عنها يدخل فيه،
وأدنى ما ثبتت كفايته من الأخبار ما دلت عليه صحيحتا محمد
المتقدمتين (1)، من قبول الشهادة إذا علم منه خير.
ولا يتوهم أن العلم بالخيرية لا يحصل إلا بالمعاشرة أو الشياع، لأنه إذا
شاهده مترددا إلى المسجد في مواقيت الصلاة ويصلي فقد علم منه خيرا.
ومنها ما يدل على اشتراط كونه خيرا، وهو أعلى من السابق.
ومنها ما يدل على اشتراط العفة والصيانة، أو مأمونية الظاهر.
ومنها ما يدل على اشتراط عدم الخلف في الوعد، وعدم الكذب في
الحديث، وعدم الظلم في المعاملة.. ولكنها لا تدل على اشتراط جميع
ذلك في ثبوت العدالة، فلعلها لثبوت مجموع كمال المروة، ووجوب
الأخوة، وثبوت العدالة.
ومنها ما يتضمن الثناء الجميل والفضل.
والمتضمن للجميع صحيحة ابن أبي يعفور (2)، المتضمنة ل‍: أن
الدليل على العدالة كونه ساترا لجميع عيوبه، معاهدا لصلواته، حافظا
لمواقيتها، غير متخلف بدون علة من جماعتها، مشهودا له في قبيلته
ومحلته إنا ما رأينا منه إلا خيرا، مواظبا على الصلوات، متعاهدا لأوقاتها،
لأن بكونه ساترا للعيوب علم الخير - لأنه خير - والعفة، والصيانة، ومأمونية
الظاهر، وبشهادة القبيلة يحصل الثناء الجميل، وبهما وبالتعاهد للصلوات
وحفظ مواقيتها يعلم الصلاح عرفا والخيرية.

(1) في ص 107.
(2) المتقدمة في ص 76.
113

بل يمكن أن يقال: إنه لا يعلم صدق الصلاح والخيرية بأدنى من
ذلك، فيتحقق ما تتضمنه الصحيحة بتحقق معرفة العدالة بمقتضى جميع
تلك الأخبار ولا عكس، ويحصل التعارض بالعموم من وجه، ولو لم يكن
مرجح لزم الاقتصار على ما يجمع جميع ما تضمنته الأخبار، وهو مدلول
الصحيحة، لأصالة عدم تحقق العدالة وعدم ثبوت المشروط بها إلا مع
تيقنها، أو ما علم معرفته به.
ولا تتعارض رواية الجلاب (1) مع هذه الصحيحة، لأن مقتضى
الأولى: عدم ظن الخير إلا بعد أن يعرف منه ذلك، ومدلول الثانية: أن بهذه
العلامات تعرف العدالة.
وعلى هذا فنقول: إن كان مراد القائلين بهذا القول أن بمطلق حسن
الظاهر تعرف العدالة ويحكم بها، فلا دليل تاما عليه بحيث يمكن الركون إليه.
وإن كان مرادهم أنها تعرف به في الجملة - كما هو الظاهر منهم - فهو
صحيح، ومدلول للخبر الصحيح، وبه ترفع اليد عن الأصل المتقدم،
المقتضي لإيجاب المعاشرة الباطنية.
والظاهر أن بهذا القدر من حسن الظاهر يحصل الظن بوجود الصفة
الباعثة على اجتناب الكبائر أيضا، كيف؟! ومعرفة كونه ساترا لجميع عيوبه
- أي متصفا بصفة الستر والصيانة - لا تحصل بدون نوع اختيار ومعاشرة.
وعلى هذا، فيتحد ذلك القول - على ما ذكرنا - مع ما اختاره الوالد
العلامة أيضا، ويكون الفرق في المستند، فنحن نقول به لدلالة الأخبار،
وهو لإيجابه الظن بالملكة، وكون الظن فيه مناط الاعتبار.

(1) المتقدمة في ص 105.
114

بل يظهر من بعض مشايخنا عدم المنافاة بين القول بالمعرفة بحسن
الظاهر وبين القول بالمعرفة بالمعاشرة (1)، إذ لا يعرف كونه ساترا مواظبا إلا
بعد نوع معاشرة.
بل نقول: إنا لو قلنا: إن مراد القائل بحسن الظاهر أنه نفس العدالة
أيضا، لا تكون منافاة بينه وبين القول بالملكة، إذ المراد بحسن الظاهر حينئذ
كونه مجتنبا ورعا كافا نفسه عن المحارم، ولا يراد مجرد رؤيته كذلك، بل يراد
معرفته بهذه الأوصاف، وهي لا تنفك عن الملكة، كما مر بيان ذلك أيضا.
وظهر من ذلك أن الحق بين الأقوال هو القول بالحسن الظاهر
بالمعنى الذي ذكرنا، والظاهر أنه أيضا مراد القائلين به، وإليه يرجع مختار
الوالد أيضا، بل يتحد مع القول بالمعرفة بالمعاشرة الباطنية في الجملة
أيضا، فإنه على ما ذكرنا وإن احتاج إلى نوع اختبار ومعاشرة لكن لا يحتاج
إلى المعاشرة الباطنية التامة المتأكدة المخبرة عن السريرة.
وأما حمل حسن الظاهر على مجرد عدم رؤية خلل منه - ولو مع
عدم العلم بتمكنه من الخلل وعدمه، ولا معرفة أوصاف حسنة منه - فهو
ليس حسنا ظاهريا، بل مثله غير سئ الظاهر، ولا يكون فرق بينه وبين
ظاهر الإسلام.
فروع:
أ: المراد بكونه ساترا لجميع عيوبه أن لا يكون معلنا بمعصية
لا يبالي من ظهورها، بل كان بحيث لا يرضى بظهور معصية منه، وكان
متصفا بصفة الحياء، والساترية للعيوب، والاستنكاف عن نسبة المعصية إليه.

(1) كما في الرياض 2: 392.
115

وهل تشمل العيوب الكبائر والصغائر، أم تختص بما ينافي العدالة
من الكبائر والإصرار على الصغائر؟
الظاهر: العموم، ولا يستلزم عدم نقض فعل الصغيرة للعدالة عدم
نقض الإعلان بها وعدم المبالاة عن ظهورها لصفة الساترية، التي هي
معرفة العدالة، ففعلها إن كان مع المبالاة عن ظهورها لا ينقض العدالة،
وكذا مع عدم المبالاة عنه إن علمت العدالة بالمعاشرة أو الشياع أو شهادة
العدلين، وأما إذا لم تعلم العدالة وتوقفت معرفته على صفة الساترية فيكون
عدم المبالاة لذلك منافيا لوجود المعرف.
ب: الظاهر من سياق الصحيحة (1) أن المراد من التعاهد للصلوات
بحضور الجماعة وعدم التخلف عن جماعتهم ليس مجرد صلاة الجماعة
ودرك هذه الفضيلة حتى يتحقق بصلاة شخص مع أهل بيته في بيته جماعة
أو مع واحد في منزله، حيث قال: " وأن لا يتخلف عن جماعتهم في
مصلاهم " وقال: " لتركهم الحضور لجماعة المسلمين " وقال: " وقد كان
فيهم من يصلي في بيته " وهو أعم من الصلاة فيه منفردا وجماعة، وقال:
" لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين " وقال: " ومن رغب عن
جماعة المسلمين ".
بل المراد: الصلاة مع المسلمين في المواضع المعدة للصلاة جماعة،
بمحضر أهل الإسلام.
بل يمكن أن يقال: لا صراحة فيها في كون الصلاة بالجماعة والاقتداء
أيضا، فيمكن أن يكون المراد: الصلاة في مصلاه في محضر المسلمين

(1) أي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة في ص 76.
116

بجماعة أو فرادى، وإن كان الظاهر إرادة الجماعة.
وكيف كان، فالظاهر من سياقها أيضا أن ذلك إنما هو لمعرفة كونه
مصليا، كما يدل عليه قوله: " وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلي "
وقوله: " وإنما جعل الجماعة والاجتماع " وقوله: " ولولا ذلك لم يمكن
أحد " إلى آخره.
وأن ذلك إنما هو كان في تلك الأعصار التي كانت مبادئ الإسلام،
وكانت الصلاة مع النبي أو خلفائه، وكان الظاهر ممن تخلف عن جماعتهم
- أي كان بحيث صدق عليه التخلف، أي القعود عن الجماعة متكررا - أنه
راغب عن الجماعة ومن الصلاة، وكان عدم الاهتمام بذلك موجبا لترك آثار
الشريعة، ولذلك لم تقبل عن بعض من يصلي في بيته أيضا.
وعلى هذا، فيكون المراد: العلم بتعاهد الصلوات في مواقيتهن وإن
لم يحضر الجماعة، وذلك لأن ذلك لا يمكن أن يكون لأجل درك فضيلة
الجماعة، لأنه - كما عرفت - يتحقق بدون حضور المسجد وجماعة
المسلمين في مصلاهم، فليس إلا معرفة كونه مصليا، كما يظهر من سياق
الصحيحة أيضا.
فإذا علم من حال شخص أنه يصلي في بيته ويحفظ مواقيتهن يكون
ذلك كافيا في المعرفية، ولو اعتبر مع ذلك عدم ترك الجماعة - ولو مع أهله
أو بعض آخر إلا من علة - كان أحوط.
والعلة هل تختص بالمرض، أو تشمل سائر الأعذار أيضا، كشغل
مهم، أو مطر، أو حرارة، أو نحوها؟ الظاهر: التعميم.
ولا تشترط المداومة على ذلك، بل يكفي قدر يصدق عليه عدم
التخلف، وهو يتحقق بكونه كذلك في الأغلب أو كثير من الأوقات،
117

فتأمل.
ج: هل اللازم في المعرفة السؤال عن قبيلته ومحلته معا إذا اختلف
الفريقان في المحل، أو يكفي السؤال عن إحدى الطائفتين؟
الأظهر: السؤال عن الفريقين.
وهل يشترط السؤال عن جميع القبيلة أو المحلة، أو يشترط السؤال
عن جمع، أو يكفي مطلق السؤال؟
ظاهر قوله: " في قبيلته ومحلته " كفاية مطلق السؤال، ولكن الظاهر
من قوله: " قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا " اشتراط كون المسؤولين جماعة، بل
الظاهر أن السؤال في القبيلة والمحلة لا يتحقق عرفا إلا بالسؤال عن جماعة
منهم.
وهل تشترط عدالتهم أم لا؟
الظاهر: الثاني، وإلا لما اشترطت الجمعية، وللإطلاق.
المسألة الثالثة: هل يشترط في العدالة اجتناب ما يسقط المروة
أيضا، أم لا؟
صرح جماعة - ولعلهم الأكثر - بالاشتراط، ومنهم: المبسوط والسرائر
والوسيلة والمختلف والتحرير والقواعد والإرشاد وتهذيب الأصول والنهاية
والمنية والدروس والذكرى والمفاتيح وجامع المقاصد واللمعة والروضة
وكشف الرموز (1)، وحكاه في الكنز عن الفقهاء (2)، وفي المفاتيح والبحار:

(1) المبسوط 8: 217، السرائر 2: 117، الوسيلة: 230، المختلف: 718،
التحرير 2: 208، القواعد 2: 237، الدروس 2: 125، الذكرى: 267، المفاتيح
1: 20، جامع المقاصد 2: 372، اللمعة والروضة 3: 130.
(2) كنز العرفان 2: 384.
118

أنه المشهور (1)، وفي الكشف: أنه المشهور بين الخاصة والعامة، ونقله في
المدارك والذخيرة عن المتأخرين (2)، واعتبره والدي العلامة (رحمه الله).
والمحكي عن المفيد والعدة ونهاية الشيخ والحلبي والقاضي وموضع
من الشرائع وروض الجنان والأردبيلي والمدارك والذخيرة والبحار: عدم
الاشتراط (3)، واختاره بعض مشايخنا المعاصرين (4).
ثم المروة، فقيل: إنها في اللغة: الإنسانية كما في الصحاح، أو
الرجولية والكمال فيها كما عن العين ومحيط اللغة، وأنها اصطلاحا: هيئة
نفسانية تحمل الإنسان على الوقوف على محاسن الأخلاق وجميل العادات (5).
وأما عبارات فقهائنا فقد اختلفت في التعبير عن المراد منها، وعما
يسقطها بكلمات متقاربة مدلولا، كالتجنب عن الأمور الدنية، أو عما لا يليق
بأمثاله من المباحات، أو عما يسقط العزة عن القلوب ويدل على عدم
الحياء وعدم المبالاة بالانتقاص، أو عما يؤذن بخباثة النفس ودناءة الهمة
من المباحات والصغائر والمكروهات، أو عما يستسخر ويستهزأ به لأجله،
أو هي التخلق بخلق أمثاله في زمانه ومكانه، ونحو ذلك.
وقد يعد من مخالفات المروة: الأكل والشرب في السوق لغير سوقي
- إلا مع غلبة العطش - وفي الطرقات، والمشي مكشوف الرأس بين الناس،

(1) المفاتيح 1: 20، البحار 85: 30.
(2) المدارك 4: 67، الذخيرة: 303.
(3) المفيد في المقنعة: 725، النهاية: 325، الحلبي في الكافي: 435، القاضي في
المهذب 2: 556، الشرائع 4: 127، الأردبيلي في مجمع الفائدة 2: 352،
المدارك 4: 68، الذخيرة: 305، البحار 85: 30.
(4) كما في الرياض 2: 429.
(5) كشف اللثام 2: 374.
119

ومد الرجلين في المجالس، والبول في الشوارع عند سلوك الخلائق، وكثرة
السخرية، والحكايات المضحكة، ولبس الفقيه لباس الجندي، وبالعكس.
واستدل من قال باعتبارها بالأصل.
والشهرة.
ودلالة انتفائها على نوع جنون وخبل في العقل.
أو قلة مبالاة في الدين.
وعدم الوثوق بمن لا مروة له، لأنه كاشف عن قلة حيائه، ومن
لا حياء له يصنع ما شاء كما ورد في الخبر.
وعدم إطلاق العرف العادل على من لا مروة له.
والمروي عن مولانا الكاظم (عليه السلام): " لا دين لمن لا مروة له، ولا مروة
لمن لا عقل له " (1).
ويرد الأول: بإطلاق الأخبار المتقدمة.
والثاني: بعدم الحجية.
والثالث: بمنع الكلية، ولو سلمت الدلالة في موضع فالشرط هو عدم
الجنون أو الخبل، وهو مسلم، واشتراط التكليف والعقل يغني عنه.. وإن
أريد النقصان الغير المخرج عن دائرة التكليف فلا نسلم منافاته للعدالة.
والرابع: بأن المراد إن كان: أن كونه كذلك مناف لفهم كونه ساترا
للعيوب ومناقض له ويسقط مرتبة الساترية، فإن كان كذلك وبلغ إلى هذا
الحد فنسلم منافاته للعدالة، ولكن لا نسلم ذلك في كل من لا مروة له
بالمعنى المذكور.

(1) الكافي 1: 13 / 12، تحف العقول: 290.
120

وإن كان المراد: أن نفس انتفاء المروة مطلقا يدل على عدم المبالاة
في الدين، فلا نسلمه.
والخامس: بمنع انتفاء الوثوق بانتفاء المروة مطلقا، ولو سلم فغايته
عدم قبول الشهادة، وهو غير انتفاء العدالة.
والسادس: بالمنع على الإطلاق أولا، وعدم اعتبار هذا العرف بعد
ما عرفت من خفاء المعنى المراد من العدالة شرعا من غير جهة الاختبار ثانيا.
والسابع: بالضعف أولا، وعدم الدلالة ثانيا، إذ لا نعلم أن المراد من
المروة في الحديث هو المعنى المذكور، بل ورد في الأخبار تفسيرها بغير
هذا المعنى.
ففي مرسلة الفقيه: " عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن المروة استصلاح المال " (1).
وفي خبر آخر: أنها إصلاح المعيشة (2).
وفي ثالث: أنها ستة، ثلاثة في الحضر: تلاوة القرآن، وعمارة
المسجد، واتخاذ الإخوان، ومثلها في السفر، هي: بذل الزاد، وحسن
الخلق، والمزاح في غير معاصي الله سبحانه (3).
وفي رابع أنها: " أن يضع الرجل خوانه بفناء داره " (4) إلى غير ذلك (5).

(1) الفقيه 3: 102 / 403، الوسائل 17: 64 أبواب مقدمات التجارة ب 21 ح 4،
بتفاوت يسير.
(2) الكافي 8: 241 / 331.
(3) الخصال: 324 / 11، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 26 / 13، الوسائل 11: 436
أبواب آداب السفر ب 49 ح 14.
(4) معاني الأخبار: 258 / 9، الوسائل 11: 436 أبواب آداب السفر ب 49 ح 13،
والخوان: الذي يؤكل عليه - مجمع البحرين 6: 245.
(5) انظر الوسائل 11: 432 أبواب آداب السفر ب 49.
121

وليس في شئ من هذه المعاني المروية ما يوافق ما ذكره الأصحاب
في معنى المروة، ولا على كونها معتبرة في العدالة، ولا إشعار لموثقة
سماعة المتقدمة (1)، لدلالتها بالمفهوم على أن من لم يجمع الثلاثة
فلا يجمع الأربعة، ومنها: كمال المروة، وأين ذلك من اشتراطها في
العدالة، أو قبول الشهادة؟!
وإذ ظهر ضعف تلك الأدلة تعلم أن القول الثاني في غاية المتانة والقوة،
وعدم اعتبار المروة في العدالة ما لم يبلغ انتفاؤها حدا يوجب ارتكاب ما هو
مخالف للشريعة، أو ينبئ عن جنون، أو يقدح في معرفة صفة الستر والعفة.
وكما أن اجتناب ما يخالف المروة ليس شطرا للعدالة فكذلك ليس
شرطا لقبول الشهادة، للأصل، وعدم ذكره في الأدلة.
ونقل الأردبيلي عن بعضهم: أنه اعتبره شرطا لقبول الشهادة وإن
لم يكن شطرا للعدالة.
وظاهر القواعد: أنه جعله شرطا له وشطرا لها معا (2).
ولا دليل تاما على شئ منهما.
المسألة الرابعة: قد عرفت أن اجتناب الكبائر إما جزء العدالة أو
جزء لازمها، فارتكاب واحد منها يقدح في العدالة كما يأتي.
وقد اختلفوا أولا في تقسيم الذنوب إلى الكبائر والصغائر، فحكي
عن جماعة - منهم: المفيد والطبرسي والشيخ في العدة والقاضي والحلبي -
إلى عدم التقسيم، بل الذنوب كلها كبائر (3).

(1) في ص 76.
(2) القواعد 2: 236.
(3) حكاه عن المفيد والطبرسي والقاضي والحلبي في المسالك 2: 402، الشيخ في
العدة 1: 359.
122

ونسبه الثاني في تفسيره إلى أصحابنا (1)، مؤذنا بدعوى الاتفاق،
وكذلك الحلي، حيث قال - بعد نقل القول بالتقسيم إلى الكبائر والصغائر
وعدم قدح الثاني نادرا في قبول الشهادة عن المبسوط -: ولا ذهب إليه
أحد من أصحابنا، لأنه لا صغائر عندنا في المعاصي إلا بالإضافة إلى
غيرها (2). انتهى.
والحاصل: أن الوصف بالكبر والصغر إضافي.
ومنهم (3) من جعل الإضافة على ثلاثة أقسام:
أحدهما: بالإضافة إلى الطاعة، وهو أن المعصية إن زاد عقابها على
ثواب تلك الطاعة فهي كبيرة بالنسبة إليها، وإن نقص فهي صغيرة.
وثانيها: بالإضافة إلى معصية أخرى، وهو أن عقابها إن زاد على
عقاب تلك المعصية فهي كبيرة بالنسبة إليها، وإن نقص فهي صغيرة.
وثالثها: بالإضافة إلى فاعلها، وهو أنها إن صدرت من شريف له
مزيد علم وزهد فهي كبيرة، وإن صدرت ممن هو دون ذلك فهي صغيرة.
ثم إنه استدل على كون الجميع كبائر باشتراك الجميع في مخالفة أمره
تعالى ونهيه (4)، ولذلك جاء في الحديث: " لا تنظر إلى ما فعلت ولكن انظر
إلى ما عصيت " (5).

(1) مجمع البيان 2: 38.
(2) السرائر 2: 118.
(3) كالسيوري في التنقيح 4: 290.
(4) انظر الذخيرة: 303.
(5) أمالي الطوسي: 538، مستدرك الوسائل 11: 349 أبواب جهاد النفس ب 43 ح 8
وفيه: " لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت " وعن دعوات
الراوندي في البحار 14: 379 / 25، مستدرك الوسائل 11: 351 أبواب جهاد
النفس ب 43 ح 14: " إذا وقعت في معصية فلا تنظر إلى صغرها، ولكن انظر إلى من
عصيت ".
123

ولما ورد في بعض الأخبار من أن كل معصية شديدة، وأنها قد
توجب لصاحبها النار (1).
وما ورد من التحذير على استحقار الذنب واستصغاره (2).
وفي الأول: أن كون الجميع مخالفة له لا يمنع من كون بعضها كبيرة
وبعضها صغيرة، فإن الذنوب المتحققة بين العباد من بعضهم بالنسبة إلى
بعض توصف بالكبر والصغر، فيقال: فلان عصى السلطان عصيانا عظيما
وأذنب ذنبا كبيرا، ويقال: الذنب الفلاني كبير، والفلاني سهل صغير..
فاشتراك الجميع في مخالفة الله سبحانه لا ينافي وصف بعضها بالكبر
وبعضها بالصغر.
بل وكذلك عرفا في معاصي الله سبحانه، فيصدق على قتل النبي أو
هدم الكعبة أنه ذنب عظيم وإثم كبير، وعلى ترك رد السلام مثلا أنه ذنب صغير.
وفي الثاني: أنه لا تلازم بين كون كل معصية شديدة وبين كونها
كبائر، بمعنى ما يوعد عليه بالنار، أو غير مكفر بالأعمال الصالحة، أو
قادحا في العدالة.
ومنه يظهر ما في الثالث أيضا.
وذهب طائفة منهم: الشيخ في النهاية والمبسوط وابن حمزة
والفاضلان والشهيدان (3)، بل أكثر المتأخرين كما في المسالك (4)، بل

(1) الكافي 2: 269 / 7، الوسائل 15: 299 أبواب جهاد النفس ب 40 ح 3.
(2) الوسائل 15: 310 أبواب جهاد النفس ب 43.
(3) النهاية: 325، المبسوط 8: 217، ابن حمزة في الوسيلة: 230، المحقق في
الشرائع 4: 127، والنافع: 287، العلامة في القواعد 2: 236، الشهيدان في
اللمعة والروضة 3: 129، 130.
(4) المسالك 2: 402.
124

عامتهم كما قيل (1)، ونسب إلى الإسكافي والديلمي أيضا (2) - إلى انقسام
المعاصي إلى الكبائر والصغائر، بل يستفاد من كلام الصيمري وشيخنا
البهائي في الحبل المتين - على ما حكي عنهما (3) - الإجماع عليه.
وهو الحق، لظاهر قوله سبحانه: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
نكفر عنكم سيئاتكم) * (4).
وقوله: * (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) * (5).
ولقول علي (عليه السلام): " من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له
غفرانه " (6).
ورواية ابن سنان: " لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار " (7).
ومرسلة الفقيه: " من اجتنب الكبائر كفر الله عنه جميع ذنوبه " (8).
وفي خبر آخر: " إن الأعمال الصالحة تكفر الصغائر ".
وفي آخر: هل تدخل الكبائر في مشيئة الله؟ قال: " نعم " (9).
وتشهد له الأخبار الواردة في ثواب بعض الأعمال: أنه يكفر الذنوب
إلا الكبائر.

(1) انظر الرياض 2: 428.
(2) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 717.
(3) حكاه عنهما في الرياض 2: 427 و 429.
(4) النساء: 31.
(5) الشورى: 37.
(6) نهج البلاغة (محمد عبده) 1: 20.
(7) الكافي 2: 288 / 1، الوسائل 15: 337 أبواب جهاد النفس ب 48 ح 3.
(8) الفقيه 3: 376 / 1781، الوسائل 15: 316 أبواب جهاد النفس ب 45 ح 4 وفيه
بتفاوت يسير.
(9) الفقيه 3: 376 / 1780، الوسائل 15: 334 أبواب جهاد النفس ب 47 ح 7.
125

وللمستفيضة من النصوص الآتية، المتضمنة للكبائر والصغائر، وبيان
الكبائر. وتخصيصها بطائفة خاصة من الذنوب وإبطال الانقسام يوجب
طرح تلك الأخبار.
ثم اختلف القائلون بالتقسيم في تفسير الكبائر وتحديدها.
فمنهم من قال: إن كل ما وجب فيه حد فهو كبيرة، وما لم يقرر فيه
حد فهو الصغيرة (1).
ومنهم من قال: ما ثبت تحريمه بقاطع فهو كبيرة (2).
ومنهم من قال: كلما آذن بقلة الاكتراث في الدين فهو كبيرة (3).
ومنهم من قال: ما يلحق صاحبه العقاب الشديد من كتاب أو سنة (4).
وقيل: إنها ما نهى الله عنه في سورة النساء من أولها إلى قوله سبحانه:
* (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * الآية (5).
وقيل: إنها سبع (6). وقيل: إنها تسع (7). وقيل: عشرون. وقيل: أزيد.
وعن ابن عباس: أنها إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبعة (8)، وبه صرح
في الروضة (9).
وفي الدروس: أنها إلى السبعين أقرب منها إلى السبعة (10).
والمشهور بين أصحابنا: أنها ما توعد عليها إيعادا خاصا، ولكن اختلفت

(1) انظر القواعد والفوائد 1: 225 مع هوامشه، وبدائع الصنائع 6: 268.
(2) انظر القواعد والفوائد 1: 225 مع هوامشه، وبدائع الصنائع 6: 268.
(3) انظر القواعد والفوائد 1: 225 مع هوامشه، وبدائع الصنائع 6: 268.
(4) انظر القواعد والفوائد 1: 225 مع هوامشه، وبدائع الصنائع 6: 268.
(5) حكاه عن ابن مسعود في مجمع البيان 2: 38، والتفسير الكبير 10: 74.
(6) انظر الخصال: 610.
(7) انظر الجامع لأحكام القرآن 5: 160.
(8) حكاه عنه في مجمع البيان 2: 39، والجامع لأحكام القرآن 5: 159.
(9) الروضة 3: 129.
(10) الدروس 2: 125.
126

كلماتهم في بيان الايعاد الخاص.
ففي نهاية الشيخ والقواعد والإرشاد والمنقول في المسالك: أنها ما أوعد
الله سبحانه عليها بالنار (1).
وفي التنقيح - نقلا عن الأكثر -: أنها ما توعد عليه بعينه وخصوصه (2).
وفي الدروس: كل ذنب توعد عليه بخصوصه بالعقاب (3).
وفي قواعد الشهيد: كلما توعد الشرع عليه بخصوصه (4).
ومثله في الروضة، فإن فيها: أنها ما توعد عليها بخصوصها في كتاب أو
سنة (5).
وعن الذخيرة وفي الكفاية: أنها كل ذنب توعد الله عليه عز وجل
بالعقاب في الكتاب العزيز (6) وقال في الأخير: إنه المعروف بين أصحابنا،
قال: ولم أجد في كلامهم اختيار قول آخر.
وربما يستفاد من كلام بعض مشايخنا المعاصرين اتحاد المراد من
كلماتهم المختلفة في الإيعاد، حيث ذكر ما ذكره في الكفاية، وحكى عن
التنقيح نسبته إلى الأكثر، وجعل صحيحة ابن أبي يعفور (7) مشعرا به (8).
وهذا التفسير - أي ما توعد عليه للكبائر - يحتمل وجوها، لأنه إما

(1) النهاية: 325، القواعد 2: 236، الإرشاد 2: 156، المسالك 2: 402.
(2) التنقيح 4: 291.
(3) الدروس 2: 125.
(4) القواعد والفوائد 1: 224.
(5) الروضة 3: 129.
(6) الذخيرة: 304، الكفاية: 279.
(7) المتقدمة في ص 76.
(8) انظر الرياض 2: 427.
127

توعد عليه بخصوصه النار، أو بالعقاب مطلقا.
وعلى التقديرين، إما توعد عليه بعينه وخصوصه، نحو: أن الذنب
الفلاني يترتب عليه ذلك.
أو بالعموم، نحو: * (فمن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (1).
وعلى التقادير الأربع، إما يكون ما توعد الله سبحانه عليه، أو يكون أعم
مما يوعد الله أو حججه.
وعلى التخصيص بإيعاد الله، إما يختص بإيعاده في الكتاب العزيز، أو
يكون أعم منه ومن الإيعاد الحاصل في الحديث القدسي وفي أخبار
الحجج بأن الله سبحانه أوعد كذا وكذا.
وعلى تقدير تخصيص الإيعاد بالنار، إما يختص بالإيعاد بلا واسطة،
كأن يقول: من فعل كذا فهو يدخل النار.. أو أعم منه ومما يكون
بواسطة، كأن يقول: من فعل كذا فهو كافر أو شقي، وأوعد الكافر أو
الشقي بالنار.
وكذا على التخصيص بالكتاب، يحتمل التخصيص والتعميم باعتبار
حصول الواسطة وعدمه، فإنه قد يوعد في الكتاب بوصف رتب في
السنة النار على المتصف به، وقد يعكس.
واللازم في المقام الرجوع إلى دليل تعريف الكبائر، وهو موقوف
على ذكر الأخبار الواردة في المقام، فمنها: صحيحة ابن أبي يعفور
المتقدمة (2)..
ورواية الحلبي: في قوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) *

(1) الزلزلة: 8.
(2) في ص 76.
128

الآية (1)، قال: " الكبائر التي أوجب الله عليها النار " (2).
وصحيحة أبي بصير في بيان: * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا
كثيرا) * (3) قال: " معرفة الإمام، واجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها
النار " (4).
وصحيحة السراد: عن الكبائر كم هي وما هي؟ فكتب: " الكبائر من
اجتنب ما وعد الله عليه النار كفر عنه سيئاته إذا كان مؤمنا، والسبع
الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرب
بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من
الزحف " (5).
وصحيحة محمد: " الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمدا، وقذف المحصنة،
والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل
الربا بعد البينة، وكل ما أوجب الله عليه النار " (6).
ورواية عباد بن كثير: عن الكبائر، قال: " كل ما أوعد الله عليه النار " (7).
والمدلول من تلك الأخبار أن الكبائر ما أوعد الله عليه النار، والثلاثة
الأولى وإن لم تكن صريحة - لاحتمال كون الوصف فيها احترازيا - ولكن

(1) النساء: 31.
(2) الكافي 2: 276 / 1، الوسائل 15: 315 أبواب جهاد النفس ب 45 ح 2.
(3) البقرة: 269.
(4) الكافي 2: 284 / 20، الوسائل 15: 315 أبواب جهاد النفس ب 45 ح 1،
وفيهما: أوجب، بدل: أوعد.
(5) الكافي 2: 276 / 2، الوسائل 15: 318 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 1.
(6) الكافي 2: 277 / 3، الوسائل 15: 322 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 6.
(7) الفقيه 3: 373 / 1758، عقاب الأعمال: 233 / 2، الوسائل 15: 327 أبواب
جهاد النفس ب 46 ح 24.
129

البواقي صريحة في أن الكبائر هي ذلك العنوان.
ولا تضر معارضة مفهوم الحصر فيما يختص بما أوعد الله بها مع
ما يشتمل على السبع أيضا، لأن الأخير أخص مطلقا من الأول، فيجب
تخصيصه به، ويحكم بكون المجموع كبيرة.
ومنها صحيحة عبيد: عن الكبائر، فقال: " هن في كتاب علي (عليه السلام)
سبع: الكفر بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وأكل الربا بعد البينة،
وأكل مال اليتيم ظلما، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة " قال:
قلت: فهذا أكبر المعاصي؟ قال: " نعم " قلت: فأكل درهم من مال اليتيم
ظلما أكبر، أم ترك الصلاة؟ قال: " ترك الصلاة " قلت: فما عددت ترك
الصلاة في الكبائر؟ قال: " أي شئ أول ما قلت لك؟ " قال: قلت: الكفر،
قال: " فإن تارك الصلاة كافر، يعني من غير علة " (1).
ورواية عبد الرحمن بن كثير: " الكبائر سبع فينا أنزلت ومنا استحلت،
فأولها الشرك بالله العظيم، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل مال اليتيم،
وعقوق الوالدين، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، وإنكار حقنا "
الحديث (2).
وموثقة أبي بصير: " الكبائر سبعة: منها قتل النفس متعمدا، والشرك بالله
العظيم، وقذف المحصنة، وأكل الربا بعد البينة، والفرار من الزحف،
والتعرب بعد الهجرة، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم [ظلما] " قال:

(1) الكافي 2: 278 / 8، الوسائل 15: 321 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 4.
(2) الفقيه 3: 366 / 1745، الخصال: 363 / 56، العلل: 474 / 1، الوسائل 15:
326 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 22.
130

" والتعرب والشرك واحد " (1).
ورواية مسعدة، قال: " الكبائر: القنوط من رحمة الله، واليأس من
روح الله، والأمن من مكر الله، وقتل النفس التي حرم الله، وعقوق
الوالدين، وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل الربا بعد البينة، والتعرب بعد
الهجرة، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف " (2).
وهذه الأخبار الأربعة وإن اختلف بعضها مع بعض في العدد أو في
المعدود إلا أنه لا تعارض بينها منطوقا.
نعم، يعارض بعضها بحسب المفهوم مع بعض، ولكن يقدم المثبت من
المتعارضين، لكون التعارض بالعموم والخصوص المطلقين، فيحكم
بتخصيص عموم مفهوم الحصر بخصوص المنطوق، ويكون كل ما في
هذه الأحاديث كبيرة.
وأما مع الأخبار المتقدمة فلا تعارض أيضا بحسب المنطوق، وأما مفهوم
الحصر في تلك الأخبار فهو وإن تعارض مع ما يختص بما أوعد الله من
الأخبار الأولى بالعموم من وجه، ولكن يعارض مع ما يشتمل على
السبع أيضا بالعموم المطلق، فيخصص به، ويثبت الحكم للمجموع.
هذا، مع أنه يمكن اختلاف مراتب الكبائر وحمل ما يتضمن الحصر في
عدد مخصوص على إرادة أكبرها، ويعضده ما في بعض الصحاح
المتقدمة من الحكم بأنها ما أوعد الله عليه النار، بعد ذكر السبع كما في
بعض، أو قبله كما في بعض آخر.

(1) الكافي 2: 281 / 14، الوسائل 15: 324 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 16، وما
بين المعقوفين من المصدر.
(2) الكافي 2: 280 / 10، الوسائل 15: 324 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 13.
131

بل تدل عليه رواية أبي الصامت: " أكبر الكبائر سبع: الشرك بالله العظيم،
وقتل النفس التي حرم الله عز وجل إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وعقوق
الوالدين، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وإنكار ما أنزل الله
عز وجل " (1).
ثم بما ذكر يظهر حال رواية الصدوق عن الفضل بن شاذان، فيما
كتب به مولانا الرضا (عليه السلام) للمأمون، المروية في عيون أخبار الرضا (عليه السلام)
بأسانيد متعددة - كما في الذخيرة (2) -: " إن الكبائر هي: قتل النفس التي
حرم الله تعالى، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وعقوق الوالدين، والفرار
من الزحف، وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما
أهل لغير الله به من غير ضرورة، وأكل الربا بعد البينة، والسحت، والميسر
وهو القمار، والبخس في المكيال والميزان، وقذف المحصنات، واللواط،
وشهادة الزور، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والقنوط من
رحمة الله، ومعونة الظالمين، والركون إليهم، واليمين الغموس، وحبس
الحقوق من غير عسر، والكذب، والكبر، والإسراف، والتبذير، والخيانة،
والاستخفاف بالحج، والمحاربة لأولياء الله، والاشتغال بالملاهي، والإصرار
على الذنوب " (3) وفي بعض النسخ: " والإصرار على الصغائر من الذنوب "..
فإنها تعارض مفاهيم الحصر المتقدمة بالخصوص المطلق، يعني: أن
هذه أخص منها فيجب تقديمها والحكم بكون الجميع كبيرة، مع أنه

(1) التهذيب 4: 149 / 417، الوسائل 15: 325 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 20.
(2) الذخيرة: 304.
(3) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 121، تحف العقول: 422، بتفاوت، الوسائل 15:
329 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 33.
132

لا نعلم تعارضها مع ما يتضمن أن الكبائر ما أوعد الله عليه النار، لجواز
الإيعاد بها في جميع ما تضمنته الرواية، سيما مع بعض احتمالات ذلك
العنوان كما مر.
وكذا يعلم مما ذكر حال سائر ما تضمن ذكر كبيرة أو كبائر من الأخبار،
ويحكم بكون الجميع كبيرة، كمرسلة الفقيه: " إن الحيف في الوصية من
الكبائر " (1).
ورواية أبي خديجة: " الكذب على الله وعلى رسوله وعلى
الأوصياء (عليهم السلام) من الكبائر " (2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من
النار " (3).
ورواية عبد العظيم: " أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله تعالى، فقال:
نعم يا عمرو، أكبر الكبائر: الإشراك بالله، يقول الله تعالى: * (ومن
يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) * (4) وبعده اليأس من روح الله،
لأن الله تعالى يقول: * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم
الكافرون) * (5) ثم الأمن من مكر الله، لأن الله تعالى يقول: * (فلا يأمن
مكر الله إلا القوم الخاسرون) * (6) ومنها عقوق الوالدين، لأن الله تعالى

(1) الفقيه 3: 369 / 1747، الوسائل 15: 327 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 23.
(2) الفقيه 3: 373 / 1755، المحاسن 1: 118 / 127، عقاب الأعمال: 268 / 1،
الوسائل 15: 327 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 25.
(3) الفقيه 3: 373 / 1756، المحاسن 1: 118 / 127، عقاب الأعمال: 268 / 1،
الوسائل 15: 327 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 26.
(4) المائدة: 72 وهي هكذا: " إنه من يشرك بالله... ".
(5) يوسف: 87.
(6) الأعراف: 99.
133

جعل العاق جبارا شقيا (1)، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، لأن الله
تعالى يقول: * (فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * (2) الآية، وقذف المحصنة،
لأن الله تعالى يقول: * (لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب
عظيم) * (3) وأكل مال اليتيم، لأن الله تعالى يقول: * (إنما يأكلون في
بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * (4) والفرار من الزحف، لأن الله تعالى
يقول: * (ومن يولهم يؤمئذ دبره) * إلى قوله: * (ومأواه جهنم وبئس
المصير) * (5) وأكل الربا، لأن الله تعالى يقول: * (الذين يأكلون الربا
لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * (6) والسحر،
لأن الله تعالى يقول: * (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من
خلاق) * (7) والزنا، لأن الله تعالى يقول: * (ومن يفعل ذلك يلق أثاما
يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا) * (8) واليمين الغموس
الفاجرة، لأن الله تعالى يقول: * (الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا
قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة) * (9) والغلول، لأن الله تعالى يقول:
* (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) * (10) ومنع الزكاة المفروضة، لأن الله

(1) إشارة إلى قوله سبحانه في سورة مريم: " وبرا بوالدتي ولم أك جبارا شقيا ".
(2) النساء: 93.
(3) النور: 23.
(4) النساء: 10.
(5) الأنفال: 16.
(6) البقرة: 275.
(7) البقرة: 102.
(8) الفرقان: 68.
(9) آل عمران: 77.
(10) آل عمران: 161.
134

تعالى يقول: * (فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) * (1) وشهادة
الزور وكتمان الشهادة، لأن الله تعالى يقول: * (ومن يكتمها فإنه آثم
قلبه) * (2) وشرب الخمر، لأن الله تعالى نهى عنها كما نهى عن عبادة
الأوثان (3)، وترك الصلاة متعمدا أو شيئا مما فرض الله، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله (صلى الله عليه وآله).
ونقض العهد وقطيعة الرحم، لأن الله تعالى يقول: * (أولئك لهم اللعنة
ولهم سوء الدار) * (4) " الحديث (5).
وظهر من جميع ما ذكر أن الكبائر: كل ما أوعد الله تعالى عليه النار،
وأن جميع ما في تلك الأخبار بخصوصه من الكبائر أيضا.
بقي الكلام في بيان المراد مما أوعد الله عليه من الاحتمالات
المتقدمة..
فنقول: إنه بعد ما عرفت أن الثابت من الأخبار في القسم الأول من
الكبائر هو عنوان ما أوعد الله عليه النار، فيلزم متابعة ما يدل عليه ذلك
العنوان، وهو صريح في أنه يلزم أن يكون الإيعاد بالنار، فلا يصح
تعميم العنوان بالعقاب، أو مطلق الوعيد، إلا أن يثبت أن عقابه ووعيده
منحصر بذلك.
وهو غير ثابت، بل الظاهر خلافه، وظاهر في كون الإيعاد على الذنب

(1) التوبة: 35.
(2) البقرة: 283.
(3) إشارة إلى قوله تعالى: * (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس..) *
المائدة: 90.
(4) الرعد: 25.
(5) الكافي 2: 285 / 24، الوسائل 15: 318 أبواب جهاد النفس ب 46 ح 2.
135

المخصوص بعينه، لأنه الظاهر المتبادر من قوله: " أوعد الله عليه "
فلا يشمل ما أوعد عليه عموما، نحو قوله: * (فليحذر الذين يخالفون عن
أمره) * (1) وقوله: * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين
فيها) * (2).
مع أن الأول إيعاد بالأعم من النار، للتصريح بالفتنة أيضا.
والثاني مخصوص بعصيان الكفر بقرينة الخلود، وكذا الظاهر المتبادر منه
الإيعاد الصريحي، فلا يشمل الضمني الحاصل في ضمن مجرد النهي.
ومطلق بالنسبة إلى كونه في الكتاب العزيز أم لا، فيشمل ما أوعد بالنار
في الحديث القدسي، أو بلسان الرسول، أو الإمام حاكيا عن الله، بمثل:
قال الله كذا، أو: أوجب كذا، لصدق إيعاده سبحانه عرفا، ولا يشمل إيعاد
الرسول والإمام من غير نسبته إلى الله تعالى وإن احتمل في الأول، لقوله
تعالى: * (إن هو إلا وحي يوحى) * (3).
ونقل المحدث المجلسي في حق اليقين عن بعضهم: الإيعاد في السنة
المتواترة أيضا موجب للكون كبيرة مطلقا، وعن بعض آخر: أن الإيعاد
بالأحاديث الصحيحة أيضا كذلك.
والظاهر عدم اشتراط كونه بلا واسطة، بل يشمل ما كان بالواسطة،
مثل أن يقول: تارك الصلاة منافق، وقال: المنافق في النار، لصدق الإيعاد
بالنار، ومثل أن يقول: المضيع ماله مسرف، وقال: إن الإسراف يوجب
دخول النار.

(1) النور: 63.
(2) الجن: 23.
(3) النجم: 4.
136

ومن ذلك يظهر سر ما سبق من أن الكبائر إلى سبعمائة أقرب، بل
على هذا يصعب حصر الكبائر، والله هو العالم بالسرائر.
فرع: قد مر رواية الفضل: أن من الكبائر الإصرار على الصغائر (1)،
وتدل عليه أيضا رواية الحسين بن زيد الطويلة، المروية في الفقيه في ذكر
المناهي، وفي آخرها: " لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار " (2)،
ورواية ابن سنان المتقدمة (3)، ونفى بعض مشايخنا المعاصرين عنه الريب
بل الخلاف (4)، وهو كذلك، بل هو إجماعي.
وبما ذكر يجبر ما لو كان في الأخبار من الضعف، وبهما تخصص
الأخبار الظاهرة في الحصر فيما لا يدخل فيه ذلك، مع أن عدم كونه مما
أوعد الله عليه النار ولو بالواسطة غير معلوم.
ثم إنهم اختلفوا في حد الإصرار الموجب لدخول الصغيرة في
الكبائر..
فقيل: هو المداومة على نوع واحد منها، والمواظبة والملازمة له (5).
وقيل: هو الإكثار منها، سواء كان من نوع واحد أو من أنواع مختلفة،
ذكره في المسالك والروضة وكشف الرموز (6) وغيرها (7).
وقيل: يحصل بكل واحد منها (8).

(1) راجع ص 130.
(2) الفقيه 4: 2 / 1، الوسائل 15: 312 أبواب جهاد النفس ب 43 ح 8.
(3) في ص 123.
(4) كما في الرياض 2: 428.
(5) كما في الرياض 2: 428.
(6) المسالك 2: 402، الروضة 3: 130.
(7) كما في كنز العرفان 2: 385، الذخيرة: 305.
(8) انظر كفاية الأحكام: 279.
137

وقيل: هو فعل الصغيرة مع العزم على معاودتها (1).
ونقل عن بعضهم قول بأن المراد فعل الصغيرة مع عدم التوبة (2).
واستدل للأخير برواية جابر: في قول الله عز وجل: * (ولم يصروا على
ما فعلوا وهم يعلمون) * (3) قال: " الإصرار: أن يذنب الذنب فلا يستغفر
[الله] ولا يحدث نفسه بتوبة " (4).
ودليل الأول: كلام أهل اللغة، قال الجوهري: أصررت على الشئ:
أي أقمت ودمت عليه (5). وقال ابن الأثير: أصر على الشئ يصر إصرارا:
إذا لزمه وداومه وثبت عليه (6). وفي القاموس: أصر على الأمر: لزم (7).
وقريب منه كلام ابن فارس في المجمل (8).
ودليل الثاني والثالث: إما صدق المداومة واللزوم مع الإكثار، أو صدق
الإصرار عرفا معه.
وحجة الرابع: فحوى رواية جابر، وهو الإصرار عرفا.
قال في البحار: وفي العرف يقال: فلان مصر على هذا الأمر إذا كان
عازما على العود إليه (9).

(1) انظر البحار 85: 29.
(2) انظر البحار 85: 29.
(3) آل عمران: 135.
(4) الكافي 2: 288 / 2، الوسائل 15: 338 أبواب جهاد النفس ب 48 ح 4، وما بين
المعقوفين من المصدرين.
(5) الصحاح 2: 711.
(6) النهاية 3: 22.
(7) القاموس المحيط 2: 71 وفيه: وأصر يعدو: أسرع، وعلى الأمر: عزم.
(8) مجمل اللغة 3: 223.
(9) البحار 85: 30.
138

ولا ينبغي الريب في ضعف الأخير - كما عن الذخيرة والبحار
أيضا (1)، لعدم مساعدة اللغة ولا العرف، وعدم دلالة الخبر على أنه المراد
من الإصرار مطلقا، فلعله في تفسير الآية بخصوصه - ولا في صدق الإصرار
بالأول لغة وعرفا.
وإنما الكلام في البواقي، والظاهر لزوم اعتبار صدق الملازمة والمداومة
في الإكثار أيضا، فلا يكتفى بمجرد ارتكابها مرات عديدة في يوم أو
يومين أو ثلاثة مثلا، وإن صدق الإكثار، فلو تركها بعد الثلاث لا يحكم
بكونه إصرارا ولو لم تعلم التوبة، وهو الظاهر من التحرير، حيث قال:
وعن الإصرار على الصغائر أو الإكثار منها (2). بل من الإرشاد والقواعد
أيضا (3)، كما صرح بالظهور منهما في الذخيرة (4).
نعم، يظهر منهم كون الإكثار أيضا قادحا في العدالة أو في قبول
الشهادة، ولكن الظاهر أن مرادهم من الإكثار: أغلبية ارتكابه عن
الاجتناب إذا عن له من غير توبة.
وأما مع العزم على العود بدون الإكثار - كما هو القول الرابع - فصدق
الإصرار غير معلوم عرفا، ولو علم في هذا الزمان فلا يفيد للأخبار.
فالمناط في صدق المداومة، ثم المناط صدق المداومة والملازمة
العرفيتين.
وهل يشترط كون الإصرار على نوع واحد، أو لا؟

(1) الذخيرة: 305، البحار 85: 29.
(2) التحرير 2: 208.
(3) القواعد 2: 236.
(4) الذخيرة: 305.
139

الظاهر: الثاني، لصدق الإصرار على الصغائر بالمداومة على جنسها،
كالإصرار على قتل الحيوانات بالمداومة على الجنس، ومن الإصرار على
الجنس: الإكثار من الذنوب بحسب ارتكابه أغلب عن اجتنابه إذا عن له
من غير توبة، لصدق المداومة عرفا.
ثم إن الشهيد قسم الإصرار إلى فعلي وحكمي، فالفعلي هو الدوام على
نوع واحد بلا توبة، أو الإكثار من جنس الصغائر كذلك، والحكمي هو
العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها (1). وارتضاه جماعة من
المتأخرين (2).
ولعل مستنده اللغة والعرف وحديث جابر، فبالأولين يثبت الأولان
- وهما الإصرار - وبالثالث يثبت حكم الإصرار للثالث، وفيه تأمل.
فرع: كما يتحقق الإصرار على الصغيرة بالإتيان بأفراد نوع واحد منها
بقدر تصدق معه الملازمة عرفا، كذلك يتحقق باستمرار فرد واحد من
نوع بقدر تصدق الملازمة.. ولا يتوقف على تكرر الفعل، فلو لبس ثوبا
حريرا مدة مديدة، أو اقتنى آنية ذهب - على القول بحرمة اقتنائها أيضا - أو
تختم بخاتم ذهب كذلك، يخرج عن العدالة، لصدق الإصرار على
الصغيرة.
وعلى هذا يقدح في العدالة فعل صغيرة مع العزم بالمعاودة لو علم منه
ذلك، أو ترك التوبة مع التذكر في مدة مديدة، لا لأجل كون ذلك إصرارا
على الصغيرة المذكورة، بل لأجل الإصرار على ترك التوبة، وهو أيضا
من الصغائر، لوجوب التوبة، فإذا استمر تركها يكون مصرا على هذه

(1) القواعد والفوائد 1: 277.
(2) كالسيوري في كنز العرفان 2: 385، الشهيد الثاني في الروضة 3: 130.
140

الصغيرة، ولأجله يخرج عن العدالة.
المسألة الخامسة: اعلم أنه لا خلاف في زوال العدالة بارتكاب كبيرة من
الكبائر ولو كان إصرارا على الصغيرة، بل هو اجماعي، ويدل عليه الإجماع،
ورواية علقمة (1)، وصحيحة ابن أبي يعفور (2)، وبعض الروايات الأخر (3).
وهل يقدح فيها فعل صغيرة من دون إصرار، أم لا؟
المشهور - سيما بين المتأخرين (4) -: الثاني إن لم يبلغ حد الإكثار،
على القول بعدم كونه إصرارا، بل قيل: إنه اتفاقي بين القائلين بتقسيم
المعاصي إلى الكبائر والصغائر، وادعي عليه الشهرة العظيمة (5)..
وهو الأقوى، لتعريف العدالة في الصحيحة باجتناب الكبائر، فمن
اجتنبها يكون عادلا ولا ارتكب الصغيرة، بل مقتضاها اختصاص القدح
بالكبيرة - التي أوعد الله عليها النار دون غيرها - لو قلنا بأعمية الكبيرة
عنه وعما في الأخبار، ولولا الإجماع على قدح الكبيرة مطلقا لأمكن
القول بالاختصاص.
ويؤيده أيضا استلزام قدح مطلق الصغيرة في العدالة الحرج العظيم، كما
ذكره الشيخ في المبسوط (6)، وتشعر به رواية علقمة.. وإمكان الرفع
بالتوبة - كما ذكره الحلي (7) - غير مفيد غالبا، لأن العلم بالتوبة مشكل.

(1) أمالي الصدوق: 91 / 3، الوسائل 27: 395 أبواب الشهادات ب 41 ح 13.
(2) الفقيه 3: 24 / 65، الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41 ح 1.
(3) الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات ب 41.
(4) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 402، السبزواري في الكفاية: 279، الكاشاني
في المفاتيح 1: 19.
(5) كما في الرياض 2: 428.
(6) المبسوط 8: 217.
(7) السرائر 2: 118.
141

وكذا يؤيده قوله سبحانه: * (ولم يصروا على ما فعلوا) * (1) وقوله:
* (إلا اللمم) * (2) وقد فسره الجوهري بصغار الذنوب (3)، وكذا ابن الأثير في
حديث أبي العالية، ونقله عن بعضهم أيضا (4)، وفسره أيضا في الصافي بما
صغر (5).
وحكي عن جماعة من القدماء الأول (6)، وهم بين من أطلق في
اشتراط العدالة أو قبول الشهادة بالاجتناب عن المحارم أو القبائح أو نحوهما
مما يشمل الصغيرة أيضا، وهو أكثرهم، ومن صرح بقدح جميع الذنوب
ونفى الصغيرة من الذنوب، وهو الحلي (7).
واستدل لهم بوجوه كثيرة بينة الضعف.
ويمكن أن يستدل لذلك القول بوجوه ثلاثة أخرى.
أحدها: التصريح في صحيحة ابن أبي يعفور باشتراط كف الجوارح
الأربع، الشامل للكف عن الصغائر أيضا.
وثانيهما: تصريح الأخبار بعدم قبول شهادة الفاسق، وكونه مناقضا
للعادل، والفسق هو الخروج عن طاعة الله، وهو يصدق مع فعل الصغيرة
أيضا.

(1) آل عمران: 135.
(2) النجم: 32.
(3) الصحاح 5: 2032.
(4) النهاية الأثيرية 4: 273.
(5) الصافي 5: 94.
(6) حكاه عن ابن الجنيد في المختلف: 717، والقاضي في المهذب 2: 556،
والحلبي في الكافي في الفقه: 435.
(7) السرائر 2: 118.
142

وثالثها: مفهوم الشرط في قوله: " فمن لم تره بعينك " إلى آخره، في
رواية علقمة المتقدمة.
ويمكن الجواب عن الأول: بأن ما يكف عنه غير مذكور، وللكلام
مقتضى، والمقتضى غير معلوم، وعمومه - كما قيل - ممنوع، فلعله
الكبائر، بل هو القدر المتيقن، ويؤكد إرادتها تخصيص المجتنب عنه بها،
ولو كان الأول عاما لما كان وجه لتخصيص الثاني، سيما إذا جعل قوله في
الصحيحة: " ويعرف " بيانا للستر والكف، كما مر، مع أن منافاة فعل شئ
يسير نادرا للكف غير معلوم، فإن من يجتنب عن الأغذية المضرة له دائما
يصدق عليه المحتمي ولو تناول شيئا يسيرا منها نادرا - كتفاحة مثلا - بعد
الكف عن غيرها.
وعن الثاني: بمنع صدق الخروج عن طاعة الله عرفا بفعل صغيرة نادرا
بعد تركه جميع الكبائر والصغائر، وهذا ظاهر جدا.
وعن الثالث: بأنه لو سلم كونه مفهوم شرط، وكون: " من " فيه مفيدة
للعموم، يكون مفهومه: أن كل من تراه بعينك أنه يرتكب ذنبا فهو ليس
بأهل العدالة، وهذا لا ينافي كون بعض المرتكبين من أهل العدالة،
لتحقق المفهوم بانتفاء العدالة عن المرتكبين للكبائر.
ثم إن هذا إذا لم يكن مصرا على الصغائر لإيجابه الكبر، ولا مكثرا فيها.
ثم لو كان مكثرا في فعل الصغائر - بحيث يصدق الإكثار عرفا، أو يكون
ارتكابه للذنب أغلب من اجتنابه عنه إذا عن له من غير توبة، وقلنا بعدم
دخوله في الإصرار - فهل يقدح في العدالة، أم لا؟
143

وقد نفى غير واحد الخلاف في قدح الثاني (1)، وعن التحرير الإجماع
عليه أيضا (2).
ولا ينبغي الريب في قدحه بالمعنيين في معرفة العدالة بكونه ساترا
لعيوبه، إلى آخر المعرف كما مر.
وإنما الإشكال فيمن عرف اجتنابه للكبائر بالخبرة الباطنية والمعاشرة
التامة ثم ظهر منه الإكثار بأحد المعنيين، ولا شك أن القول بالقدح
أحوط، لنفي الخلاف والإجماع المنقول المتقدمين، ودلالة رواية
جابر (3) على كون ذلك إصرارا في الجملة، بل شهادة العرف المتأخر به
أيضا، وعدم صدق الكف معه، واحتمال إرادة العموم من الكف،
فالمجتنب عن ذلك عادل قطعا دون غيره، وصدق الخروج عن طاعة
الله معه، بل مقتضى الأخيرين كون ذلك أظهر أيضا.
المسألة السادسة: صرحوا بأن المرتكب للذنب القادح في العدالة إذا
تاب عما فعل وعلمت توبته تقبل شهادته (4)، بل صرح جماعة - منهم
والدي العلامة قدس سره - بأنه تعود عدالته.
فإن كان مرادهم العود الحكمي فلا إشكال، وكذا إن أريد العود الحقيقي
وقلنا بكون العدالة حسن الظاهر، أو الاجتناب المنبعث عن صفة
نفسانية، أو صفة باعثة على الاجتناب الفعلي، إذ ليس المراد من حسن
الظاهر أو الاجتناب المذكور كونه كذلك دائما، بل المراد أنه حين

(1) كما في الكفاية: 279، والذخيرة: 305، والرياض 2: 428.
(2) التحرير 2: 208.
(3) المتقدمة في ص 136.
(4) انظر البحار 85: 30، والكفاية: 279.
144

يتصف بذلك فهو عادل وإن لم يكن قبله عادلا.. ولا شك أن بعد العلم
بالتوبة يعلم لأجلها حسن ظاهره، ويكون حينئذ مجتنبا اجتنابا منبعثا
عن صفة نفسانية بعثته على التوبة.
نعم، يشكل على القول بكون العدالة ملكة راسخة - كالشجاعة
والسخاوة - كما هو ظاهر أكثر المتأخرين (1)، فإن في زوالها بفعل كبيرة
إشكالا، لأن فعل كبيرة لا ينافي تلك الملكة، كما اشتهر أن الصدوق قد
يكذب، ثم في عودها بمجرد التوبة أيضا إشكالا.
ويمكن التفصي عن الأول: بأنهم لا يقولون إن العدالة المعتبرة شرعا هي
تلك الملكة فقط، بل هي مقارنة مع عدم فعل الكبيرة - أي مع الاجتناب
عنها - فبمجرد الارتكاب تزول العدالة الشرعية عنه، ضرورة انتفاء الكل
بانتفاء جزئه.
وبذلك يحصل التفصي عن الثاني أيضا، فإن التوبة لما كانت مزيلة لأثر
الارتكاب، أو كانت التوبة محصلة للاجتناب المطلوب - كما أشير إليه -
أو كانت قائمة شرعا مقام الاجتناب، تعود العدالة الشرعية.
فالمراد: زوال العدالة الشرعية وعودها دون نفس الملكة، أو المراد
بالزوال والعود المذكورين: أن غاية ما يحصل من معرفة الملكة - ولو
بالمعاشرة التامة الباطنية - هي المعرفة الظنية، وهي ترتفع مع ارتكاب
كبيرة، فإنه كما يمكن أن يكون ذلك الارتكاب مع بقاء الملكة وبعث
الأمور الخارجية على الارتكاب يمكن أن يكون لانتفاء الملكة أولا.
فالمراد زوال معرفة العدالة، ثم بعد ندامته وتوبته يحصل الظن بكون

(1) منهم السيوري في كنز العرفان 2: 384، الشهيد الثاني في الروضة 1: 378،
الأردبيلي في مجمع الفائدة 2: 351.
145

الاجتناب لأجل الملكة، وأن الارتكاب إنما هو لأجل غلبة الأمور
الخارجية.
ثم إن عود العدالة بالتوبة في الجملة مما لا خلاف فيه أجده، وفي شرح
الإرشاد للأردبيلي: لا يبعد كونه إجماعيا، قال: وما يدل عليه من الآيات
والأخبار كثير (1).
أقول: لا يحضرني من الآيات والأخبار الدالة على عود العدالة بالتوبة
شئ.
ويحتمل أن يكون مراده ما يدل على قبول شهادة التائب.
ولكن الأخبار الدالة على ذلك يختص أكثرها بخصوص القاذف،
والآيات أيضا منحصرة بآية واحدة.
وأن يكون مراده آيات قبول التوبة، كما يظهر من كلامه بعد ذلك،
حيث قال: بل لا يبعد العود بمحض التوبة - إلى أن قال: - لعموم قبول
التوبة في الآيات والأخبار الكثيرة.
ولكن يرد عليه: أنها وإن كانت كثيرة إلا أنها لا تدل على عود العدالة.
ويمكن أن يكون مراده الآيات المادحة للتائب بمدائح يبعد مدح الله
سبحانه الفساق بها، نحو: * (إن الله يحب التوابين) * (2).
وقوله سبحانه: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها
السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء
والضراء) * (3) الآية.

(1) مجمع الفائدة والبرهان 12: 321.
(2) البقرة: 222.
(3) آل عمران: 133 - 134.
146

* (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا
لذنوبهم) * إلى أن قال: * (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين) * (1).
وأما الأخبار المصرحة بقبول شهادة التائب فكثيرة جدا، ولكن أكثرها
واردة في القاذف كما يأتي.
ومنها ما ورد في السارق، كرواية السكوني: " إن أمير المؤمنين (عليه السلام)
شهد عنده رجل - وقد قطعت يده ورجله - شهادة، فأجاز شهادته، وقد
كان تاب وعرفت توبته " (2) وقريبة منها الأخرى (3).
ومنها ما ورد في مطلق المحدود، كرواية أخرى للسكوني: " ليس
يصيب أحد حدا فيقام عليه ثم يتوب إلا جازت شهادته " (4)، وقريبة منها
الأخرى (5).
ويؤكد المطلوب رواية جابر: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " (6).
ولا يضر اختصاصها بالقاذف أو السارق أو المحدود، لعدم القول
بالفصل، بل يظهر من المحقق الأردبيلي إمكان التعميم بتنقيح المناط،

(1) آل عمران: 135 - 136.
(2) الكافي 7: 397 / 3، التهذيب 6: 245 / 618، الإستبصار 3: 37 / 123،
الوسائل 27: 385 أبواب الشهادات ب 37 ح 2.
(3) الفقيه 3: 31 / 93، الوسائل 27: 385 أبواب الشهادات ب 37 ح 2.
(4) الكافي 7: 397 / 4، التهذيب 6: 245 / 619، الإستبصار 3: 37 / 124،
الوسائل 27: 384 أبواب الشهادات ب 36 ح 3.
(5) التهذيب 6: 284 / 786، الإستبصار 3: 37 / 127، الوسائل 27: 384 أبواب
الشهادات ب 36 ح 6.
(6) الكافي 2: 435 / 10، الوسائل 16: 74 أبواب جهاد النفس ب 86 ح 8.
147

حيث قال: إن التخصيص بالقاذف بعيد من غير علة موجبة لذلك، بل
ظهور العلة (1). انتهى.
ولكن يخدش الاستدلال بها أنها مخصوصة ببعد قيام الحد، والتعدي
إلى التائب الذي يجب عليه الحد قبل حده يحتاج إلى دليل، ومع ذلك
فالتعدي إلى ما لا حد فيه أو حده القتل أو لا تقبل توبته ظاهرا أشكل.
ودعوى الإجماع المركب أو البسيط بحيث يطمئن القلب أيضا مشكل.
فالأولى الاستدلال للعموم بأن بعد العلم بالتوبة يصدق عليه أنه مجتنب
عن الكبائر اجتنابا منبعثا عن صفة نفسانية، فيصدق عليه أنه العادل
المستفاد من الصحيحة.
وبذلك صرح المحقق الأردبيلي أيضا، قال: والدليل على القبول والعود
بمطلق التوبة أن المفهوم من العدالة عدم ارتكاب الكبيرة على الوجه
الذي فهم من رواية ابن أبي يعفور، وذلك يحصل بعدم ذلك ابتداء،
وتنعدم بفعلها، فتعود بالترك مع الندامة والعزم على عدم العود وإن
لم يتحقق [بالترك] فقط، ولأنه حينئذ يتحقق ما يفهم اعتباره في قبول
الشهادة (2). انتهى.
بل يظهر من المحقق المذكور عدم احتياج حصول العدالة بالتوبة لسبق
العدالة على المعصية التي تاب عنها، حيث قال ما ملخصه:
إنه إذا ثبت قبول شهادة الفاسق بعد التوبة - كما هو مقتضى الأدلة
السابقة - يفهم عدم اعتبار الملكة في تعريف العدالة، بل في اشتراط قبول

(1) مجمع الفائدة والبرهان 12: 325.
(2) مجمع الفائدة والبرهان 12: 322، وما بين المعقوفين من المصدر.
148

الشهادة، إذ لم توجد الملكة في ساعة واحدة، بل الساعات المتعددة.
وأنه لا يحتاج في إثبات العدالة إلى المعاشرة الباطنية أو الاستفاضة.
بل لا يشترط العدالة قبل الشهادة، إذ يتوب الشاهد فيأتي بها، بل يأتي
بها بعد رده بالفسق أيضا - كما هو رأي الأكثر والأصح - فإن الفسق في
وقت ما ليس بمانع عن الشهادة مطلقا، فإنه يقبل مع حصول العدالة.
بل وإنه لا يحتاج إلى الجرح والتعديل.
فاعتبار ذلك كله عبث ولغو بلا فائدة، مع أنه معركة للآراء، ومحل
البحث بين الفحول من العلماء، فيصير معظم هذه المباحث قليل الجدوى.
واحتمال أن لا يتوب قليل في الناس ممن يستشهد به، فيقبل - مجهول
الحال بعد التوبة أيضا وإن لم يقبل قبلها - بالطريق الأولى، لأن الفاسق
إذا تاب قبل، فهو بالطريق الأولى، وهو ظاهر (1). انتهى.
وبالجملة: نقول بحصول العلم بالعدالة الشرعية بعد العلم بالتوبة، من
غير حاجة إلى إثبات عود العدالة بالتوبة.
نعم، يشترط هنا تحصيل العلم بالتوبة، بل مع استمرار ما لها ولو
كان في ساعة - كما اعتبره المحقق في الشرائع (2) - كما كان يشترط أولا
تحصيل العلم بالعدالة.
ولا يكفي في العلم بالتوبة مجرد قول الشاهد: تبت وندمت واستغفر
الله، لأن مجرد ذلك القول ليس توبة، وقبول إخباره لا دليل عليه، كما
لا يقبل خبره عن عدالة نفسه أو اجتنابه الكبائر.

(1) مجمع الفائدة والبرهان 12: 325 - 326.
(2) الشرائع 4: 128.
149

بل تحتاج معرفة ذلك إلى معاشرة باطنية أو استفاضة، بحيث يحصل
العلم بكونها توبة وندامة، وبمضي زمان يمكن العود، ولم يكن له مانع
من الذنوب، وما ينقض التوبة وما فعل.
ومن ذلك يظهر عدم كون معارك الآراء وبحث فحول العلماء بلا فائدة.
فرع: عود العدالة أو العلم بتحققها بالتوبة إنما يكون مع السعي في
تلافي وتدارك ما يمكن تداركه، مثل: قضاء حقوق الناس، أو الخلاص من
ذلك بإبراء أو إسقاط، وقضاء العبادات التي يجب قضاؤها، كذا ذكره
المحقق المذكور (1).
ووجهه: أن هذه الأمور واجبة، فتركها معصية محرمة كبيرة أو صغيرة،
تصير كبيرة بالاستمرار عليه، إلا أنه يجب التقييد بما كان تلافيه واجبا
فوريا، كأداء حقوق الناس.
وأما الموسعات - كقضاء الصلوات على الحق المشهور - فاللازم العلم
بعزمه على القضاء، ولا يكفي عدم العلم بعدم العزم على القضاء، لأن
مرجعه إلى عدم العلم بكونه تاركا للمعصية، والمعتبر في العدالة العلم
بالتاركية.
نعم، يكفي الظن المعتبر شرعا هنا، الحاصل من المعاشرة والأمارات،
والله الموفق للصواب.

(1) مجمع الفائدة والبرهان 2: 322.
150

البحث الثالث
في ذكر خصوص بعض المعاصي التي ذكروا منافاتها
للعدالة أو عدمها
وقد مر شطر من المعاصي في بحث المكاسب، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: لا يقدح في العدالة ولا يحرم اتخاذ الحمام للاستئناس
بها وإنفاذ الكتب بلا خلاف ظاهر، للأصل، والعمومات، وخصوص
المستفيضة المعتبرة:
كصحيحة ابن وهب: " الحمام من طيور الأنبياء " (1).
وصحيحة حفص: " أصل حمام الحرم كانت لإسماعيل بن
إبراهيم (عليهما السلام) اتخذها كان يأنس بها " فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " يستحب أن
يتخذ طيرا مقصوصا يأنس بها مخافة الهوام " (2).
ورواية ابن سنان: " شكى رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) الوحشة، فأمره أن
يتخذ في بيته زوج حمام " (3).
ورواية الشحام: ذكرت الحمام عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: " اتخذوها في
منازلكم، فإنها محبوبة، لحقتها دعوة نوح (عليه السلام)، وهي آنس شئ في البيوت " (4).

(1) الكافي 6: 546 / 1، الوسائل 11: 514 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 1.
(2) الكافي 6: 546 / 3، الوسائل 11: 514 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 2 و 3
بتفاوت يسير.
(3) الكافي 6: 546 / 6، الوسائل 11: 516 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 10 وفيه
بتفاوت.
(4) الكافي 6: 546 / 7، الوسائل 11: 517 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 11.
151

ورواية أبي سلمة: " الحمام طير من طيور الأنبياء (عليهم السلام) التي كانوا
يمسكون في بيوتهم، وليس من بيت فيه حمام إلا لم تصب أهل ذلك
البيت آفة من الجن " إلى أن قال: " فرأيت في بيت أبي عبد الله (عليه السلام)
حماما لابنه إسماعيل " (1).
ورواية داود بن فرقد: كنت جالسا في بيت أبي عبد الله (عليه السلام) فبصرت إلى
حمام راعبي (2) يقرقر طويلا، فنظر إلي أبو عبد الله، فقال: " يا داود،
تدري ما يقول هذا الطير؟ " قلت: لا والله جعلت فداك، قال: " يدعو
على قتلة الحسين (عليه السلام)، فاتخذوا في منازلكم " (3).
ورواية السكوني: " اتخذوا الحمام الراعبية في بيوتكم، فإنها تلعن
قتلة الحسين بن علي صلوات الله عليهما " (4).
ورواية عثمان الإصبهاني، وفيها: فقال - يعني أبا عبد الله -: " اجعلوا
هذا الطير الراعبي معي في البيت يؤنسني " (5).
ورواية عبد الكريم بن صالح، وفيها: هؤلاء الحمام تقذر الفراش،
فقال: " لا، إنه يستحب أن يمسكن في البيت " (6).
ومرسلة أبان: " كان في منزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) زوج حمام أحمر " (7).

(1) الكافي 6: 547 / 8، الوسائل 11: 515 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 7،
بتفاوت يسير.
(2) حمامة راعبية: ترعب في صوتها ترعيبا، وهو شدة الصوت، وقيل: هو نسب
إلى موضع - لسان العرب 1: 421.
(3) الكافي 6: 547 / 10، الوسائل 11: 518 أبواب أحكام الدواب ب 33 ح 1.
(4) الكافي 6: 547 / 13، الوسائل 11: 519 أبواب أحكام الدواب ب 33 ح 3.
(5) الكافي 6: 548 / 14، الوسائل 11: 519 أبواب أحكام الدواب ب 33 ح 2.
(6) الكافي 6: 548 / 15، الوسائل 11: 520 أبواب أحكام الدواب ب 34 ح 1.
(7) الكافي 6: 548 / 16، الوسائل 11: 520 أبواب أحكام الدواب ب 34 ح 2.
152

إلى غير ذلك من الأخبار المتكثرة، وصريح كثير منها: استحباب الاتخاذ
للأنس، كما صرح به جماعة أيضا (1).
وكذا لا يحرم اقتناؤها للعب بها، بإطارتها والتفرج بطيرانها، وفاقا
للمحكي عن النهاية والمبسوط والقاضي (2).
وكافة متأخري أصحابنا مع الكراهة، وظاهر المبسوط كونه إجماعيا
عندنا، حيث قال: فإن اقتناءها للعب بها - وهو أن يطيرها وتنقلب في
السماء ونحو هذا - فإنه مكروه عندنا.
ويدل عليه الأصل، ورواية العلاء بن سيابة: عن شهادة من يلعب
بالحمام، قال: " لا بأس إذا لم يعرف بفسق " قلت: فإن من قبلنا
يقولون: قال عمر: هو شيطان، فقال: " سبحان الله، أما علمت أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه،
ما خلا الحافر والخف والريش والنصل، فإنها تحضره الملائكة، وقد سابق
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسامة بن زيد وأجرى الخيل؟! " (3).
والأخرى: " لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام، ولا بأس بشهادة
صاحب السباق المراهن عليه، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أجرى الخيل
وسابق، وكان يقول: إن الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر
والريش، وما عدا ذلك قمار حرام " (4).
وضعف سند الروايتين عندنا غير ضائر، مع أن الأولى مروية في الفقيه

(1) انظر الرياض 2: 429.
(2) النهاية: 327، المبسوط 8: 221، القاضي في المهذب 2: 557.
(3) الفقيه 3: 30 / 88، الوسائل 27: 413 أبواب الشهادات ب 54 ح 3.
(4) التهذيب 6: 284 / 785، الوسائل 27: 413 أبواب الشهادات ب 54 ح 2.
153

بطريق معتبر، مع أن العمل بهما جائز.
والتأمل في دلالتهما لأجل ما ذكره بعض متأخري المتأخرين - من أن
لعب الحمام عند أهل مكة هو لعب الخيل، فيحتمل ورود الخبر على
مصطلحهم، ويشعر به رد الإمام في الأول على عمر بقول النبي (صلى الله عليه وآله) الوارد
في الرهان، وذكر سباقه مع أسامة في الخيل (1) - مردود بأنه خلاف الظاهر
المتبادر، مع أن ما نقله غير ثابت.
وعلى التسليم، فلا داعي على الحمل على مصطلح أهل مكة، ولم يكن
المتكلم منهم ولا المخاطب.
ولا إشعار في رد الإمام بقول النبي، لتضمنه الريش الظاهر في الطير
أيضا.
ولا ينافي ذكر سباقه، لأنه لعله لأجل بيان جواز أصل السباق.
بل في مرسلة إبراهيم بن هاشم ما يشعر بخلافه، قال: ذكر الحمام
عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال له رجل: بلغني أن عمر رأى حماما يطير ورجل
تحته يعدو، فقال عمر: شيطان يعدو تحته شيطان، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):
" ما كان إسماعيل عندكم؟ " فقيل: صديق، فقال: " بقية حمام الحرم من
حمام إسماعيل " (2).
والاستشكال في الروايتين - بتضمنهما جواز المسابقة بالريش،
المتبادر منه الطيور، ولم يقولوا به - مدفوع بأن الذي لا يقولون به هو
المسابقة مع العوض، وأما بدونه ففيه خلاف، بل قيل: إن المشهور فيه

(1) انظر الرياض 2: 429.
(2) الكافي 6: 548 / 18، الوسائل 11: 515 أبواب أحكام الدواب ب 31 ح 5 وفيه
بتفاوت يسير.
154

الجواز (1)، كما يأتي.
خلافا للمحكي عن الحلي، فحكم بقدح اللعب بها في العدالة، لقبح
اللعب (2).
وفيه المنع (3) بحيث يثبت منه النهي، مع أن الروايتين تدفعانه.
ثم إن ما ذكر إنما هو في اللعب الخالي عن المسابقة والمغالبة، وأما
معها فإن كان بدون عوض للسابق ففيه خلاف، فظاهر التذكرة والقواعد
والمسالك والكفاية والمفاتيح وشرحه الجواز (4)، بل ربما يستفاد من
بعضهم أنه الأشهر (5)، ويدل عليه الأصل، وروايتا العلاء المتقدمتين.
وحكي عن جماعة المنع، منهم: ظاهر المهذب والمحقق الثاني (6)،
ونسب إلى التذكرة أيضا (7) وهو في غير الطيور من أنواع المسابقات، بل
ربما نسب إلى الشهرة أيضا (8)، بل حكى بعض مشايخنا المعاصرين - في
بحث السبق والرماية - عن ظاهر الأولين وصرح الثالث الإجماع عليه (9).
ولا تصريح ولا ظهور في الثالث أصلا.. نعم، قال في الأول - بعد ذكر
مسائل، منها المسابقة بالطيور بغير عوض -: إن الكل عندنا حرام.

(1) التذكرة 2: 354.
(2) السرائر 2: 124.
(3) يعني: منع القبح.
(4) التذكرة 2: 354، القواعد 2: 236، المسالك 2: 404، الكفاية: 281،
المفاتيح 3: 9.
(5) كما في الكفاية: 281.
(6) المهذب 1: 331، المحقق الثاني في جامع المقاصد 8: 326.
(7) التذكرة 2: 354.
(8) كما في الرياض 2: 41.
(9) انظر الرياض 2: 41.
155

وكون ذلك دعوى الإجماع غير ظاهر.
واستدل على المنع بهذا الإجماع المنقول.
وبما دل على حرمة اللهو واللعب.
وعلى تنفر الملائكة عند الرهان ولعنهم صاحبها، خلا الثلاثة: الخف
والحافر والنصل.
وعلى أن ما عداها قمار حرام.
وبسائر ما دل على حرمة القمار بقول مطلق.
وبالصحيح المصرح بأنه: " لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو
حافر " (1) على أن تكون الباء في السبق ساكنة.
وأجاب هؤلاء عن دليل الأولين، أما عن الأصل فباندفاعه بما ذكر.
وأما عن الروايتين فبمنع إرادة الطير من الريش، أو لاحتمال أن يراد به
السهام المثبت ذلك فيها، وبالحمل على التقية ثانيا.
كما يؤيده ما ذكره في المسالك أنه قيل: إن حفص بن غياث وضع
للمهدي العباسي في حديث: " لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر "
قوله: أو ريش، ليدخل فيه الحمام تقربا إلى الخليفة، حيث رآه يحب
الحمام، فلما خرج من عنده قال: أشهد أن قفاه قفاء كذاب، ما قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): أو ريش، ولكنه أراد التقرب إلينا بذلك، ثم أمر بذبح
الحمام (2).
أقول: أما اندفاع الأصل بما ذكر فيتوقف على تماميته، وفيه نظر.
أما الإجماع المنقول فلعدم حجيته أولا، ولعدم صراحة ما حكي، بل

(1) سنن أبي داود 3: 29 / 2574، غوالي اللآلئ 3: 265 / 1.
(2) المسالك 2: 404.
156

ولا ظهور في دعوى الإجماع ثانيا.
وأما حرمة اللهو واللعب فلعدم دليل على حرمة مطلقهما.
وأما تنفر الملائكة عند الرهان فلعدم معلومية صدق الرهان على
ما لا عوض له فيه.
قال في الصحاح: راهنت على كذا مراهنة: خاطرته (1).
وفي القاموس: والمراهنة والرهان: المخاطرة والمسابقة على الخيل (2).
وفي مجمع البحرين: وأكثرهم على أن الرهان ما يوضع في الأخطار،
ويراهن القوم: أخرج كل واحد منهم رهنا ليفوز بالجميع إذا غلب (3).
وظاهر هذه الكلمات أن الرهان يكون في موضع يكون فيه عوض في
معرض الخطر.
ولو سلمنا، فقد تضمنت الرواية استثناء الريش المتبادر منه الطير أيضا
كما صرحوا به، وتدل عليه حكاية حفص مع الخليفة، ويؤكده عطف
النصل على الريش.. وجعله من باب عطف المرادف أو الخاص على
العام خلاف الظاهر.
ومنه يظهر وجه النظر في الاستدلال بقوله: " وما عدا ذلك قمار حرام "،
لأن الريش مذكور في الرواية، وصدق السباق المراهن عليه بدون
العوض غير معلوم، مع أن في صدق القمار على ما لا عوض فيه نظر، بل
خصصه بعضهم بالقمار بالآلات المعدة له من أشياء مخصوصة، كما صرح
به في مجمع البحرين (4).

(1) الصحاح 5: 2129.
(2) القاموس 4: 232.
(3) مجمع البحرين 6: 258.
(4) مجمع البحرين 3: 463.
157

ومنه يظهر أيضا وجه النظر في عمومات حرمة القمار.
وأما الصحيح المذكور أخيرا فلعدم تعين كون الباء فيه ساكنة، لاحتمال
الفتح فيها، فيراد منه العوض.
وعدم دلالته على الحرمة أصلا على السكون أيضا، كما صرح به
الأردبيلي وصاحب الكفاية (1)، لجواز إرادة نفي شرعية السبق دون جوازه..
والحمل على العموم لا دليل عليه.
ومنه يظهر عدم وجود دافع للأصل أصلا.
وأما ما أجابوا به عن الروايتين - من احتمال إرادة النصل من الريش كما
ذكره في السرائر (2)، وبالحمل على التقية - ففي الأول: أنه خلاف الظاهر
المتبادر كما مر.
والثاني: خلاف الأصل، ولا داعي عليه، مع أن الرواية متضمنة للرد
على عمرهم، فكيف تحتمل التقية؟! بل في حكاية حفص مع الخليفة
- وقول الخليفة: " أنه كذب " وأمره بذبح الحمام - دلالة على أنهم لا يقولون
بالجواز في الريش، وأن التقية تقتضي خلاف ذلك، مع أنه على فرض عدم
دلالة الروايتين يكفي الأصل الخالي عن الدافع للحكم بالجواز، فهو الحق.
وإن كان مع عوض، فالمذكور في كلام الأصحاب حرمته، بل عن
المهذب والتنقيح والمسالك والتذكرة الإجماع عليها (3)، وجعل بعض
مشايخنا قدحه في العدالة قولا واحدا (4)، وصرح بعدم الخلاف بعض

(1) الكفاية: 281.
(2) السرائر 2: 124.
(3) المهذب 1: 331، التنقيح 2: 350، المسالك 1: 381، التذكرة 2: 354.
(4) كما في الرياض 2: 430.
158

آخر أيضا (1)، ولم أجد تصريحا بل ولا إشعارا بالخلاف، فالظاهر أنه
إجماعي محقق، فهو الدليل على حرمته.
مضافا إلى قوة احتمال صدق القمار عليه، بل ظهوره من الأخبار، حيث
لم تخصصه بآلة مخصوصة معدة له.
وقال: " حتى الكعاب والجوز " (2).
وفي الصحيح: " كانت قريش تقامر الرجل بأهله وماله " (3).
وبذلك يوهن الاستدلال بالروايتين المتضمنتين لاستثناء الريش في
صورة العوض، لإمكان القول بعدم حجيتهما في هذه الصورة، لمخالفتهما
لظاهر الإجماع، أو الشهرة العظيمة المخرجة للخبر عن الحجية.
فالقول بالحرمة في هذه الصورة في غاية القوة، والله العالم.
المسألة الثانية: يحرم الاشتغال بالملاهي واستعمال آلات اللهو،
وحرمته مصرح بها في أكثر كتب الأصحاب، ذكره في النهاية والسرائر
والشرائع والنافع والقواعد والإرشاد والتحرير والتذكرة والدروس
والمسالك والكفاية (4) وغيرها (5)، وفي الأخير: لا أعرف في حرمته
خلافا بين الأصحاب.
ونفى المحدث المجلسي في حق اليقين الخلاف فيها بين الشيعة، وفي

(1) كما في التنقيح 2: 350.
(2) في الكافي 5: 122 / 2، الوسائل 17: 165 أبواب ما يكتسب به ب 35 ح 4.
(3) الكافي 5: 122 / 1، الوسائل 17: 164 أبواب ما يكتسب به ب 35 ح 1.
(4) النهاية: 325، السرائر 2: 215، الشرائع 4: 128، النافع: 287، القواعد 2:
236، التحرير 2: 209، التذكرة 2: 354، الدروس 2: 126، المسالك 2:
404، الكفاية: 281.
(5) انظر الرياض 2: 430.
159

شرح الإرشاد للأردبيلي: أنه إجماع عندنا. وحكى بعض مشايخنا
المعاصرين الإجماع على ظاهر عبارات جمع (1)، بل الظاهر أنه إجماع
محقق.
وتدل عليه المستفيضة من الأخبار، كرواية الفضل المتقدمة، المصرحة
بكون الاشتغال بالملاهي من الكبائر (2).
ومرسلة الفقيه الطويلة، المشتملة على المناهي: " ونهى عن اللعب
بالشطرنج والنرد (3) والكوبة والعرطبة - وهي الطنبور - والعود " (4).
ورواية السكوني: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنهاكم عن الزفن والمزمار
والكوبات والكبرات " (5).
ورواية عمران الزعفراني: " من أنعم الله عليه بنعمة فجاء عند تلك
النعمة بمزمار فقد كفرها " (6).
ورواية أبي الربيع الشامي، وفيها: " إن الله بعثني رحمة للعالمين، لأمحق
المعازف والمزامير " (7).

(1) انظر الرياض 2: 430.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 125 / 1، تحف العقول: 423، الوسائل 15: 329
أبواب جهاد النفس وما يناسبه ب 46 ح 33.
(3) النرد: هو النردشير، الذي هو من موضوعات سابور بن أردشير بن بابك، أردشير
أول ملوك الساسانية، شبه رقعته بوجه الأرض، والتقسيم الرباعي بالكعاب الأربعة،
والرقوم المجعولة ثلاثين بثلاثين يوما، والسواد والبياض بالليل والنهار، والبيوت
الاثني عشرية بالشهور، والكعاب بالأقضية السماوية، للعب بها والكسب.
و " نردشير ": معرب، وشير معناه حلو - مجمع البحرين 3: 150.
(4) الفقيه 4: 2 / 1، الوسائل 17: 325 أبواب ما يكتسب به ب 104 ح 6.
(5) الكافي 6: 432 / 7، الوسائل 17: 313 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 6.
(6) الكافي 6: 432 / 11، الوسائل 17: 314 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 7.
(7) مسند أحمد 5: 275، بتفاوت.
160

والرضوي: " من بقي في بيته طنبور أو عود أو شئ من الملاهي - من
المعزفة والشطرنج وأشباهه - أربعين يوما فقد باء بغضب من الله، فإن
مات في أربعين مات فاجرا فاسقا، مأواه جهنم وبئس المصير " (1).
وفيه أيضا: " وإياك والضربة بالصوالج (2)، فإن الشيطان يركض معك،
والملائكة تنفر عنك " (3).
وما رواه الشيخ الحر في الفصول المهمة: " إنما حرم الله الصناعة التي
هي حرام كلها، التي يجئ منها أنواع الفساد محضا، نظير البرابط والمزامير
والشطرنج، وكل ملهو به، والصلبان، والأصنام، وما أشبه ذلك من
صناعات الأشربة الحرام، وما يكون منه وفيه الفساد محضا ولا يكون منه
ولا فيه شئ من وجوه الصلاح فحرام تعليمه، وتعلمه، والعمل به، وأخذ الأجرة
عليه، وجميع التقليب فيه من جميع الحركات كلها، إلا أن تكون
صناعة قد تنصرف إلى بعض وجوه المنافع " (4).
وما رواه فيه أيضا: " كل ما ألهى عن ذكر الله فهو ميسر " (5).
ورواية: " إن الله يغفر لكل مذنب إلا لصاحب عرطبة أو كوبة " (6).

(1) فقه الرضا (عليه السلام): 282، مستدرك الوسائل 13: 218 أبواب ما يكتسب به ب 79
ح 10، بتفاوت يسير.
(2) الصولج والصولجان والصولجانة: العود المعوج.... عصا يعطف طرفها يضرب
بها الكرة على الدواب - لسان العرب 2: 310.
(3) فقه الرضا (عليه السلام): 284، الفقيه 4: 41 / 135 وفيه: الصوانج.
(4) وجدناه في تحف العقول: 335، الوسائل 17: 83 أبواب ما يكتسب به ب 2
ح 1، وفيهما: الصنائع، بدل: المنافع.
(5) وجدناه في مجالس ابن الشيخ: 345، الوسائل 17: 315 أبواب ما يكتسب به
ب 100 ح 15.
(6) انظر الفائق للزمخشري 2: 412، غريب الحديث (لابن الجوزي) 2: 87،
النهاية الأثيرية 3: 216.
161

والرواية الواردة في بيان آخر الزمان: " ورأيت الملاهي قد ظهرت
لا يمنعها أحد أحدا، ولا يجترئ أحد على منعها، ورأيت المعازف ظاهرة
في الحرمين " (1).
والمروي في جامع الأخبار: " يحشر صاحب الطنبور يوم القيامة
أسود الوجه، وبيده طنبور من نار، وفوق رأسه سبعون ألف ملك، وبيد كل
مقمعة من نار يضربون وجهه ورأسه " إلى أن قال: " وصاحب المزمار مثل
ذلك، وصاحب الدف مثل ذلك " (2).
والنبوي: " إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزمر والكوبة " (3).
وفي رواية محمد بن الحنفية في تهديد أقوام، وفيها: " واشتروا
المغنيات والمعازف ".
وضعف هذه الأخبار كلا أو بعضا غير ضائر، لانجبارها بما مر من فتاوى
الأصحاب، وحكايات نفي الخلاف، والإجماع.
وتعضده أيضا روايات كثيرة أخرى، كرواية سماعة: " لما مات آدم
شمت به إبليس وقابيل، واجتمعا في الأرض، فجعل إبليس وقابيل
المعازف والملاهي شماتة بآدم، فكل ما كان في الأرض من هذا الضرب
الذي يتلذذ به الناس فإنما هو من ذلك " (4).
ورواية عنبسة: " الغناء واللهو ينبت النفاق في القلب " (5).

(1) الكافي 8: 36 / 7، الوسائل 16: 275 أبواب الأمر والنهي ب 41 ح 6، بتفاوت.
(2) جامع الأخبار: 433 / 1211، مستدرك الوسائل 13: 219 أبواب ما يكتسب به
ب 79 ح 17.
(3) مسند أحمد 1: 274 و 289 و ج 2: 165 و 171.
(4) الكافي 6: 431 / 3، الوسائل 17: 313 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 5.
(5) الكافي 6: 434 / 23، الوسائل 17: 316 أبواب ما يكتسب به ب 101 ح 1.
162

ورواية إسحاق بن جرير: " إن شيطانا يقال له: القفندر، إذا ضرب في
منزل رجل أربعين يوما بالبربط، ودخل عليه الرجال، وضع ذلك الشيطان
كل عضو منه على مثله من صاحب البيت، ثم ينفخ فيه نفخة فلا يغار بعدها،
حتى يؤتى بنسائه فلا يغار " (1)، وقريبة منها رواية أبي داود المسترق (2).
ورواية كليب الصيداوي: " ضرب العيدان ينبت النفاق في القلب " (3).
ورواية موسى بن حبيب: " لا يقدس الله أمة فيها بربط.. [يقعقع] " (4)
إلى غير ذلك.
وجعل هذه الأخبار الأخيرة معاضدة لعدم صراحتها في التحريم.
والملاهي: جمع الملهاة، وهي آلة اللهو.
والكوبة فسرت بالنرد والشطرنج، وبالطنبور وبمطلق الطبل، وبالطبل
الصغير المختصر، وبالبربط (5).
والعرطبة فسرت في المرسلة بالطنبور، وقيل: هي الطبل (6).
والعود: آلة لهو يضرب به.

(1) الكافي 6: 433 / 14، الوسائل 17: 312 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 1،
بتفاوت يسير.
(2) الكافي 6: 434 / 17، الوسائل 17: 313 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 2.
(3) الكافي 6: 434 / 20، الوسائل 17: 313 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 3.
(4) الكافي 6: 434 / 21، الوسائل 17: 313 أبواب ما يكتسب به ب 100 ح 4،
بدل ما بين المعقوفين في " ح " و " ق ": يفقع، وما أثبتناه من المصدرين،
والقعقعة: حكاية صوت السلاح ونحوه - مجمع البحرين 4: 382.
(5) انظر الصحاح 1: 215، والقاموس 1: 131، والنهاية الأثيرية 4: 207، ولسان
العرب 1: 729، وأقرب الموارد 1: 473.
(6) انظر القاموس 1: 107.
163

والزفن فسر باللعب، [وبالدفع] (1)، وبالرقص (2).
والمزمار: ما يزمر به. والزمر: التغني في القصب ونحوه، ومزامير داود:
ما كان يتغنى به من الزبور. وقيل: المزمار: قصبة يزمر بها (3).
والكبر - بالفتحتين - الطبل، وفي الصحاح: طبل له وجه واحد (4).
والمعازف: هي آلات اللهو يضرب بها، وقيل: المعزف: نوع من
الطنبور يتخذه أهل اليمن، حكي عن المغرب (5)، وفي النهاية الأثيرية:
المعازف: هي الدفوف وغيرها مما يضرب بها (6).
والبربط - كجعفر - ملهاة يشبه العود، ويشبه صدر الأوز - أي البط - فهو
فارسي معرب، أي صدر بط.
ثم المستفاد حرمته من هذه الأخبار على قسمين:
أحدهما: ما صرح بحرمته خصوصا، وهو الطنبور والعود والمزمار
والطبل والبربط والدف، ولا خفاء في تحريمه.
وثانيهما: ما يدخل في عموم الملاهي المذكورة في بعض تلك
الأخبار - أي آلات اللهو - أو عموم المعازف على تفسيرها بآلات اللهو، أو
عموم قوله " كل ملهو به ".

(1) بدل ما بين المعقوفين في " ح ": وبالدفاف، وفي " ق ": وبالدف، والصحيح ما
أثبتناه - انظر المصادر أدناه.
(2) كما في مجمع البحرين 6: 260، نهاية ابن الأثير 2: 305، لسان العرب 13:
197.
(3) انظر نهاية ابن الأثير 2: 312، أقرب الموارد 1: 473.
(4) لم نعثر عليه في الصحاح، ولعله تصحيف المصباح - انظر المصباح المنير: 524.
(5) المغرب 2: 42.
(6) النهاية 3: 230.
164

والمراد بها: ما يتخذ للهو ويعد له ويصدق عليه عرفا أنه آلة اللهو،
لا كل ما يلهى به وإن لم يكن معدا له ولم يصدق عليه آلته عرفا، بل كان
متخذا لأمر آخر - كالطشت والجوز - كما يستفاد من قوله في رواية الفصول
المهمة، المشتملة على قوله: " كل ملهو به " " التي يجئ منها أنواع الفساد
محضا " وقوله في آخرها: " ولا فيه شئ من وجوه الصلاح ".
ولعله لذلك قيد جماعة - كما في المسالك وشرح الإرشاد
والكفاية (1) - الدف بالمشتمل على الجلاجل (2)، ليمتاز المتخذ للهو منه عن
غيره، وإن اشتهر في هذه الأزمان كون جميع أفراده آلة اللهو.
ثم في المراد باللهو - الذي تتخذ له الآلة أيضا - إجمال، إذ اللهو في
اللغة: الاشتغال والتشاغل والسهو. وقد يستعمل بمعنى اللعب، ولا يعلم
أيهما المراد، ولو أريد الأول فلا بد من التخصيص بالشغل عن ذكر الله،
وواضح أن كل ما يشغل عن ذكر الله ليس بمحرم إجماعا، ولا يتخذ آلة
للشغل عن ذكر الله، بل كل ما يتخذ من أموال الدنيا ملهاة عن ذكر الله.
وأيضا ظاهر رواية سماعة الاختصاص بما يضرب ضربا يتلذذ به
الإنسان.
وظاهر الرضوي اختصاص الملاهي بالمعزفة والشطرنج وأشباهه.
وظاهر رواية الفصول المهمة اختصاصها بما يجئ منه أنواع الفساد
محضا، وأيضا إرادة العموم غير ممكنة، والاقتصار بما ثبت تخصيصه
يوجب خروج غير نادر، مع أن الجابر في جميع ما يشغل عن ذكر الله غير
معلوم.

(1) المسالك 2: 404، الكفاية: 281.
(2) الجلجل: الجرس الصغير يعلق في أعناق الدواب وغيرها - مجمع البحرين 5: 341.
165

وعلى هذا، فلا محيص عن الأخذ بما يتيقن إرادته من الملاهي،
وليس هو إلا صنف مخصوص يعبر عنه بالفارسية ب‍: " أنواع سازها " فيجب
الاقتصار في الحكم بالتحريم بذلك، سواء كان من الآلات المسماة في
الأخبار المتعارفة في أزمنة الشارع، أو المستحدثة في هذه الأزمان، بشرط
صدق العنوان، وهو بالفارسية: " ساز " ويكون آلة له ومتخذة لأجله،
ويحكم في غيره بمقتضى الأصل.
ومنه ما يشك في دخوله فيه، كالصور، وما يتخذه السلاطين لأعلام
العساكر وعلامة الجلال، ويقال له بالفارسية: كرنا.
وكذا الصنج بالمعنى الذي فسره به في القاموس (1)، وهو: دفتان من
رصاص ونحوه، يضرب بأحدهما على الآخر لاجتماع الناس.
وأما ما روي من قولهم: " إياك والصوانج، فإن الشيطان يركض
معك، والملائكة تنفر عنك " (2) فلا يصلح لإثبات الحرمة، لاختلاف
النسخة، فإن في الأكثر: " الصوالج " فتأمل.
وكذا الصولجان والكرة ونحو ذلك.
فروع:
أ: هل تختص حرمة استعمال آلات الملاهي باستعمال خاص؟
كالإلهاء بها بما أعدت له مع قصد الإلهاء، فلا يحرم استعمالها بهذا النحو
لا بقصد اللهو، كضرب الطبل أو الدف، أو الطنبور للإعلام بدخول وقت أو
خروجه، أو طرد الحيوانات المؤذية من الزرع ونحو ذلك، وكذا لا يحرم

(1) القاموس 1: 204.
(2) فقه الرضا (عليه السلام): 284، الفقيه 4: 41 / 135.
166

استعمالها بغير النحو الخاص، كجعل الدف مكيالا، والمزمار عصا، ونحو
ذلك.
أو تعم الحرمة جميع أنواع الاستعمالات؟
الظاهر: الثاني، بل كأنه لا خلاف فيه أيضا، وفي المنتهى: وكما
يحرم بيع هذه الأشياء يحرم عملها مطلقا، بلا خلاف بين علمائنا في
ذلك (1).
وتدل عليه روايتا الفصول المهمة وأبي الربيع الشامي المتقدمتين (2).
والمروي في تحف العقول، ورسالة المحكم والمتشابه للسيد،
والفصول المهمة أيضا، عن الصادق (عليه السلام): " كل أمر يكون فيه الفساد مما
هو منهي عنه من جهة أكله وشربه، أو كسبه، أو نكاحه، أو ملكه، أو
هبته، أو عاريته، أو إمساكه، أو يكون فيه شئ من وجوه الفساد، نظير:
البيع بالربا، والبيع للميتة والدم ولحم الخنزير، أو لحوم السباع من جميع
صنوف سباع الوحش، أو الطير، أو جلودها، أو الخمر، أو شئ من وجوه
النجس، فهذا كله حرام محرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله، وشربه،
ولبسه، وملكه، وإمساكه، والتقلب فيه، فجميع تقلبه في ذلك حرام "
الحديث (3).
وفيه أيضا: " وكذا كل ملهو به، وكل منهي عنه مما يتقرب به لغير
الله، ويقوى به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب يوهن به

(1) المنتهى 2: 1011.
(2) في ص 158 - 159.
(3) تحف العقول: 333، المحكم والمتشابه: 46، الوسائل 17: 83 أبواب ما
يكتسب به ب 2 ح 1.
167

الحق فهو حرام بيعه، وشراؤه، وإمساكه، وملكه، وهبته، وعاريته، وجميع
التقلب فيه، إلا في حال تدعو الضرورة إلى ذلك ".
وتؤيده أيضا الروايات المتقدمة، المتضمنة لصاحب العرطبة والكوبة
والطنبور والمزمار والدف، والرضوي المتقدم (1)..
والمروي في تفسير القمي: " فأما الميسر فالنرد والشطرنج، وكل
قمار ميسر، وأما الأنصاب فالأوثان التي كان يعبدها المشركون، وأما الأزلام
فالأقداح التي كانت تستقسم بها مشركو العرب في الأمور في الجاهلية، كل
هذا بيعه وشراؤه والانتفاع بشئ من هذا حرام من الله محرم " (2).
بل يمكن جعل ذلك دليلا بضميمة الإجماع المركب.
وظهر مما ذكر حرمة جميع التصرفات في آلات اللهو وإمساكها
واقتنائها، ووجوب كسرها على المتمكن منه، دفعا لمنكر الإمساك.
نعم، لو كان مما يتخذ للمنافع المحللة أيضا - أي لم ينحصر اتخاذها
للهو خاصة، بل قد ينصرف إلى وجوه المنافع المحللة، بحيث كان ذلك
متعارفا فيه - يمكن الحكم بجواز الانتفاع منه بهذا الوجه، كما ذكر في
رواية الفصول المهمة.
ولكن مثل ذلك نادر في آلات اللهو، مع أن الرواية ضعيفة، والجابر
لها في ذلك غير معلوم.
إلا أن يقال: إن دليل حرمة جميع الانتفاعات أيضا ضعيف، والجابر
له غير معلوم.

(1) في ص 159.
(2) تفسير القمي 1: 181، الوسائل 17: 321 أبواب ما يكتسب به ب 102 ح 12،
بتفاوت يسير.
168

ولكن يمكن أن يمنع ضعف الجميع، فإن رواية أبي الربيع حجة،
ومحق النبي للمعازف إنما هو على الوجوب، لأنه جعله غاية البعث،
والتأسي به فيما لم يعلم كونه من خواصه واجب، ووجوب المحق ينافي
جواز شئ من الاستعمالات.
ب: هل يحرم اللهو بغير آلات اللهو الثابتة حرمتها المتقدمة،
كالطشت يضرب به كالدف، والصور ينفخ فيه لعبا ولهوا، ونحو ذلك؟
الظاهر: لا، للأصل، واختصاص ثبوت الحرمة باستعمالات اللهو.
نعم، لو ثبتت حرمة مطلق اللهو أيضا لأمكن القول بالحرمة لذلك،
ولكنها غير ثابتة، فإن اللهو ما يتشاغل به، والمراد به هنا عن ذكر الله، أو
خصوص اللعب، وهو أيضا فسر بعمل لا يجدي نفعا، وحرمة مطلق
الأمرين غير ثابتة.
وظاهر التذكرة حرمة مطلق اللهو، احتجاجا بذم الله سبحانه اللهو
واللعب (1). وفي ثبوت ذلك الذم المثبت للتحريم نظر.
وقد يستدل للتحريم برواية عنبسة المتقدمة (2).
وقوله: " كل ملهو به " في رواية الفصول المهمة السابقة.
ورواية أخرى: " كل ما ألهى عن ذكر الله فهو ميسر " (3).
ورواية الوشاء: عن شراء المغنية، قال: " قد تكون للرجل الجارية
تلهيه، وما ثمنها إلا ثمن كلب، وثمن الكلب سحت، والسحت في

(1) التذكرة 2: 581.
(2) في ص 161.
(3) مجالس الحسن بن محمد الطوسي 1: 345، الوسائل 17: 315 أبواب
ما يكتسب به ب 100 ح 15.
169

النار " (1).
ورواية أخرى ذكرها في مجمع البحرين: عن قول الله تعالى:
* (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) * (2) قال: " هو الغناء
وسائر الأقوال الملهية " (3).
ورواية أبي عمرو الزبيري، وهي طويلة، وفيها " وفرض على السمع
أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرمه الله، وأن يعرض عما لا يحل له مما
نهى الله تعالى عنه، والاصغاء إلى ما أسخط الله تعالى، فقال في ذلك
* (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ
بها فلا تقعدوا معهم) * (4) " إلى أن قال: " وقال: * (فبشر عباد الذين
يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم
أولو الألباب) * (5) وقال تعالى: * (قد أفلح المؤمنون الذين هم في
صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون) * (6) وقال: * (وإذا
سمعوا اللغو أعرضوا عنه) * (7) وقال: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (8)
فهذا ما فرض الله على السمع من الإيمان أن لا يصغي إلى ما لا يحل له "
الحديث (9). ولا شك أن كل لهو لغو.

(1) الكافي 5: 120 / 4، التهذيب 6: 357 / 1019، الإستبصار 3: 61 / 202،
الوسائل 17: 124 أبواب ما يكتسب به ب 16 ح 6.
(2) الحج: 30.
(3) مجمع البحرين 3: 319، بتفاوت.
(4) النساء: 139.
(5) الزمر: 17 - 18.
(6) المؤمنون: 1 - 3.
(7) القصص: 55.
(8) الفرقان: 72.
(9) الكافي 2: 33 / 1، الوسائل 15: 164 أبواب جهاد النفس ب 2 ح 1.
170

ويمكن أن يجاب عن الأول: بمنع دلالته على التحريم، بل مثل ذلك
يستعمل في أكثر المكروهات.
وعن الثاني: أنه ذكره في بيان ما فيه الفساد محضا وليس فيه شئ
من وجوه الصلاح، وليس غير آلات اللهو كذلك، فالمراد به هي الملاهي،
مع أن الرواية ضعيفة، وانجبارها - في غير الملاهي وآلات القمار - غير
معلوم.
وعن الثالث: بمعارضته مع رواية الوشاء: " الميسر هو القمار " (1)،
ورواية جابر، وفيها: ما الميسر؟ قال: " ما تقومر به حتى الكعاب
والجوز " (2).
وعن الرابع: أن مطلق الإلهاء ليس بمحرم إجماعا، والحمل على
الإلهاء عن ذكر الله ليس بأولى من حمله على الإلهاء عن الواجبات كالصلاة
ونحوها، فلا يدل على حرمة مطلق اللهو، مع أن الظاهر أن المراد الجارية
المغنية الملهية بغنائها، بأن تكون اللام في: " الجارية " للعهد الذكري،
ولا شك في تحريم ذلك الإلهاء.
وعن الخامس: بالمعارضة مع ما فسر قول الزور بالغناء خاصة،
كرواية أبي بصير، ففيها: " إنه هو الغناء " (3).
وعن السادس: أنه لا يدل إلا على حرمة الإصغاء إلى ما لا يحل له،
ولا يدل على أن اللغو منه - وذكر الآيات إنما هو لبيان كون السمع أيضا

(1) الكافي 5: 124 / 9، الوسائل 17: 165 أبواب ما يكتسب به ب 35 ح 3.
(2) الكافي 5: 122 / 2، الفقيه 3: 97 / 374، التهذيب 6: 371 / 1075، الوسائل
17: 165 أبواب ما يكتسب به ب 35 ح 4.
(3) الكافي 6: 431 / 1، الوسائل 17: 305 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 9،
بتفاوت يسير.
171

مكلفا، بقرينة أنه لا دلالة في الآيات المذكورة على الفرضية، وأيضا ذكر
اتباع الأحسن، وهو غير مفروض قطعا - إذ المراد باللغو: ما ثبت عدم حلية
إصغائه، كالغناء والهجاء والغيبة.
ج: قيد الدف المحرم في طائفة من كلمات الأصحاب - كالمسالك
وشرح الإرشاد للأردبيلي والكفاية (1) - بالمشتمل على الجلاجل، وأطلقه
جماعة (2)، وهو المستفاد من رواية جامع الأخبار (3) والأخبار المتضمنة
للملاهي وآلات اللهو (4)، فهو الأظهر.
د: صرح في القواعد والشرائع والتحرير والإرشاد والدروس بحرمة
استماع أصوات آلات اللهو (5)، وكأنه لصدق الاشتغال المصرح به في رواية
الفضل (6)، ولعله لا خلاف فيه أيضا، وهو كذلك.
ومنع صدق الاشتغال - بمجرد مطلق الاستماع، وتوقفه على نوع
مواظبة - غير جيد، ولو سلم يمكن أن يقال: إن تحريم المواظبة على
الاستماع - بحيث يصدق الاشتغال قطعا - يثبت تحريم مطلقه، للإجماع
المركب، وأما سماعها فلا، للأصل، وعدم صدق الاشتغال وإن وجب المنع
نهيا عن المنكر.

(1) المسالك 2: 404، الكفاية: 281.
(2) منهم ابن إدريس في السرائر 2: 215 والعلامة في التذكرة 2: 581، وصاحب
الحدائق 18: 200.
(3) المتقدمة في ص 160.
(4) الوسائل 17: 312 أبواب ما يكتسب به ب 100.
(5) القواعد 2: 236، الشرائع 4: 128، التحرير 2: 209، الدروس: 190.
(6) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 121، الوسائل 15: 329 أبواب جهاد النفس ب 46
ح 33.
172

وتظهر الثمرة فيما إذا لم يمكن المنع وأمكن التباعد بحيث لا يسمع
أو سد السمع بخرقة فلا يجب ذلك، وفيما إذا مر على طريق يوجب
السماع مع إمكان العبور عن غيره فيجوز المرور.
نعم، لا يجوز الجلوس في مجلس الاشتغال بالملاهي مع عدم إمكان
المنع وإمكان الخروج، لحرمة الجلوس في مجلس المعصية.
ه‍: يجب على كل متمكن كسر آلات اللهو أو إتلافها، نهيا عن
المنكر، الذي هو إمساكه واقتناؤه، ولا يضمن به لصاحبه.
نعم، يجب عليه في صورة الكسر رد المكسور إلى المالك إن تصور
فيه نفع.
و: قد استثنى جماعة من أصحابنا - منهم: الشيخ في المبسوط
والخلاف كما حكي، والمحقق في الشرائع والنافع، والفاضل في القواعد
والإرشاد والتحرير، والشهيد في الدروس، وحكي عن المحقق الثاني
أيضا (1) - الدف في العرائس، وادعى بعض مشايخنا المعاصرين الإجماع
عليه بفتوى وعملا (2)، بل عن الخلاف دعوى الوفاق عليه (3).
للنبويين، أحدهما: " أعلنوا بالنكاح، وأضربوا عليه بالغربال " يعني
الدف (4).
وفي الثاني: " فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف عند

(1) المبسوط 8: 214، الخلاف 2: 626، الشرائع 4: 128، النافع: 287، القواعد
2: 236، التحرير 2: 209، الدروس 2: 126، المحقق الثاني في جامع المقاصد
4: 24.
(2) انظر الرياض 2: 430.
(3) الخلاف 2: 627.
(4) سنن ابن ماجة 1: 611 / 1895.
173

النكاح " (1).
والمرسل المروي في التذكرة، حيث قال: وروي جواز ذلك في
الختان والعرس (2).
خلافا للمحكي عن الحلي وفي التذكرة (3)، فمنعا عنه فيه وفيما يأتي
من الختان أيضا، ونفى عنه البعد في الكفاية (4)، واستبعد الاستثناء في شرح
الإرشاد، عملا بالعمومات المتقدمة.
ولا ريب أنه أحوط وإن كان في الفتوى بالمنع نظر، لإمكان
تخصيص العمومات بالروايات الثلاث المتقدمة، المنجبر ضعفها بما مر من
حكاية الشهرة والإجماع، مع اعتضادها - كما قيل (5) - بفحوى المعتبرة،
المبيحة لأجر المغنية في العرائس.
ويظهر من الرواية الثالثة وجه ما ألحقوه بالنكاح - أعني الختان -
مضافا إلى ما قيل من عدم القائل بالفرق بينهما (6)، مع ما في مجمع البحرين
من قوله: وفيه - أي في الحديث - يقولون: إن إبراهيم (عليه السلام) ختن نفسه
بقدوم على دف، لكنه فسره: ب‍: على جنب (7).
قيل: وهو أنسب بعصمته (عليه السلام)، المانعة عن ارتكاب نحو هذا
المكروه الشديد الكراهة (8).

(1) سنن النسائي 6: 127، بتفاوت.
(2) التذكرة 2: 581، وليس فيه: الختان.
(3) السرائر 2: 215، التذكرة 2: 581، وحكاه عنهما في الرياض 2: 430.
(4) الكفاية: 281.
(5) انظر الرياض 2: 431.
(6) انظر الرياض 2: 431.
(7) مجمع البحرين 5: 59.
(8) انظر الرياض 2: 431.
174

وفيه نظر، لعدم وضوح مأخذ الكراهة في تلك الأزمنة.
وإطلاق الأخبار - كأكثر عبارات الأصحاب، ككتب الفاضلين - عدم
الفرق في المستثنى بين ذات الصنج وغيره، وقيده الشهيد والمحقق الثاني
بالثاني (1)، ولا وجه له.
والمراد بالصنج هنا - كما عن المطرزي -: ما يجعل في أطراف
الدف من النحاس، أو الصفر المدورة صغارا شبيه الفلوس (2). وأما أصله
فهو ما سبق تفسيره.
ثم إن المذكور في الروايتين الأوليين الاستثناء على النكاح وعنده،
والخلاف في معناه مشهور وإن كان الأقرب أنه العقد، وهو الأنسب بقوله:
" أعلنوا بالنكاح "، فإنه الذي ورد في الأخبار استحباب الإشهاد عليه
والإعلان به (3).
وفي الأخيرة (4) في العرس، وهو قد يفسر بالزفاف.
وأما الأصحاب، فذكر جمع منهم بلفظ النكاح - كما في المسالك
والكفاية وشرح الإرشاد (5) - وبعضهم بلفظ العرس - كما في القواعد
والتذكرة (6) - وذكر الأكثر - كالشرائع والنافع والتحرير والإرشاد والدروس (7) -
بلفظ الإملاك، المفسر في كلام الأكثر بالنكاح، وقد يفسر بالتزويج.

(1) الشهيد في الدروس 2: 126، المحقق الثاني في جامع المقاصد 4: 24.
(2) المغرب 1: 309 وفيه بتفاوت.
(3) كما في الوسائل 20: 97 أبواب مقدمات النكاح وآدابه ب 43.
(4) أي المرسل المروي في التذكرة 2: 581.
(5) المسالك 2: 404، الكفاية: 281، مجمع الفائدة 12: 341.
(6) القواعد 2: 236، التذكرة 2: 582.
(7) الشرائع 4: 128، النافع: 287، التحرير 2: 209، الإرشاد 2: 157، الدروس 2: 126.
175

وعلى هذا فيشكل مورد الاستثناء عند الفصل بين العقد والزفاف، أي
زمان دخول أحد الزوجين على الآخر للوطء وإن لم يتفق الوطء. وكذا
يشكل تعيين قدر زمان الاستثناء.
واللازم الاقتصار على صورة مقارنة العقد والزفاف - أي وقوعهما في
يوم واحد، أو ليلة واحدة - لأن الظاهر أن النكاح في عرف الشرع هو العقد.
وأما إرادته في كلمات الأصحاب - التي هي الجابرة للأخبار - فغير
معلومة، فالعقد المجرد عن الزفاف لا يعلم له جابر، والزفاف المنفصل
عن العقد لا تعلم به رواية.
ولا يبعد الحكم بالجواز إذا وقعا في يوم وليلة، وجواز الدف في
ذلك اليوم والليلة خلاف الاحتياط جدا، فالأحوط الاقتصار على وقوعهما
في يوم واحد، أو ليلة واحدة، وعلى ذلك اليوم أو الليلة، بل على بعض
منه، الذي يقع فيه الأمران عرفا، والأحوط من الجميع تركه بالمرة.
ز: هل الاشتغال بالملاهي من الكبائر - فتزول به العدالة ولو بمرة -
أو لا، فلا تزول إلا بالإصرار؟
ظاهر كلمات أكثر من حكي عنه التحريم: الأول (1)، حيث أطلقوا رد
الشهادة له وحصول الفسق به.
واستشكل فيه بعض مشايخنا (2)، بل صرح في المسالك بعدم كونه
من الكبائر (3)، واستحسنه في الكفاية (4)، لأن المستفاد من النصوص مجرد

(1) راجع ص 157 - 158.
(2) انظر الرياض 2: 430.
(3) المسالك 2: 402.
(4) الكفاية: 281.
176

النهي عنه، وتحريمه من دون توعيد النار عليه.
أقول: كان ذلك حسنا لو خصت الكبائر بما علم أنه مما أوعد الله
عليه النار، وأما على ما ذكرنا من جعلها قسمين - أحدهما: ما ذكر، والثاني
ما صرح بكونه كبيرة في الأخبار - فيدخل ذلك فيها، للتصريح به في رواية
الفضل (1)، التي هي في نفسها حجة، مع كونها - بالإطلاق المذكور في كلام
الأكثر - منجبرة.
المسألة الثالثة: لا تقبل شهادة القاذف مع عدم اللعان أو البينة قبل
التوبة بلا خلاف، بل بالإجماع المحقق والمحكي (2)، له، وللآية الكريمة:
* (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) * (3).
وتقبل شهادته بعد التوبة بلا خلاف أيضا، بل عليه الإجماع عن
التحرير والتنقيح (4).
لقوله سبحانه: * (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) * (5).
وللنصوص المستفيضة، كصحيحة ابن سنان: عن المحدود إذا تاب،
تقبل شهادته؟ فقال: " إذا تاب، وتوبته أن يرجع مما قال، ويكذب نفسه عند
الإمام وعند المسلمين، فإذا فعل فإن على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك " (6).
ومرسلة يونس: عن الذي يقذف المحصنات، تقبل شهادته بعد الحد
إذا تاب؟ قال: " نعم " قلت: وما توبته؟ قال: " يجئ فيكذب نفسه عند

(1) المتقدمة في ص 130.
(2) كما في الرياض 2: 431.
(3) النور: 4.
(4) التحرير 2: 208، التنقيح 4: 293.
(5) النور: 5.
(6) الكافي 7: 397 / 6، التهذيب 6: 245 / 616، الإستبصار 3: 36 / 121،
الوسائل 27: 385 أبواب الشهادات ب 37 ح 1.
177

الإمام، ويقول: قد افتريت على فلانة، ويتوب مما قال " (1).
ورواية الكناني: عن القاذف إذا أكذب نفسه وتاب، أتقبل شهادته؟
قال: " نعم " (2).
والأخرى: عن القاذف بعد ما يقام عليه الحد ما توبته؟ قال: " يكذب
نفسه " قلت: أرأيت إن أكذب نفسه وتاب أتقبل شهادته؟ قال: " نعم " (3).
ورواية القاسم بن سليمان، الصحيحة عمن أجمعت العصابة على
تصحيح ما يصح عنه: عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدا، ثم يتوب
ولا يعلم منه إلا خيرا، أتجوز شهادته؟ قال: " نعم، ما يقال عندكم؟ "
قلت: يقولون: توبته فيما بينه وبين الله، ولا تقبل شهادته أبدا، فقال:
" بئس ما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب ولم يعلم منه إلا خيرا جازت
شهادته " (4) إلى غير ذلك.
وأما رواية السكوني: " ليس يصيب أحدا حد فيقام عليه ثم يتوب إلا
جازت شهادته، إلا القاذف، فإنه لا تقبل شهادته، إن توبته فيما بينه وبين
الله " (5)..

(1) الكافي 7: 397 / 5، التهذيب 6: 245 / 617، الإستبصار 3: 36 / 122،
الوسائل 27: 384 أبواب الشهادات ب 36 ح 4.
(2) التهذيب 6: 246 / 621، الإستبصار 3: 37 / 126، الوسائل 27: 384 أبواب
الشهادات ب 36 ح 5.
(3) الكافي 7: 397 / 1، التهذيب 6: 245 / 615، الإستبصار 3: 36 / 120،
الوسائل 27: 382 أبواب الشهادات ب 36 ح 1.
(4) الكافي 7: 397 / 2، التهذيب 6: 246 / 620، الإستبصار 3: 37 / 125،
الوسائل 27: 382 أبواب الشهادات ب 36 ح 2.
(5) التهذيب 6: 284 / 786، الإستبصار 3: 37 / 127، الوسائل 27: 384 أبواب
الشهادات ب 36 ح 6، بتفاوت.
178

فمع مخالفتها لعمل الأصحاب وموافقتها للعامة - كما يستفاد من
رواية القاسم، مع كون راويها من قضاة العامة - لا حجية فيها، سيما مع
خلو الرواية عن الاستثناء على نسخة الكافي، بل على بعض نسخ التهذيب
أيضا كما قيل (1).
ثم إنه يشترط في توبته إكذاب نفسه، بلا خلاف بين الفرقة كما في
الخلاف (2)، بل بالاتفاق عن الغنية (3)، للأخبار المتقدمة المصرحة بذلك.
ويشترط أن يكون الإكذاب بما هو حقيقة فيه عرفا، نحو: كذبت
على فلانة، أو افتريت، سواء كان كاذبا في القذف واقعا أو صادقا، وفاقا
للمحكي عن الصدوقين والعماني والشيخ في النهاية والشرائع والنافع
والدروس والمسالك والتنقيح (4) وغيرها (5)، بل قيل: إن الظاهر أنه المشهور
بين المتأخرين، بل المتقدمين أيضا (6).
لظاهر النصوص، حيث إن المتبادر من الإكذاب هو معناه الحقيقي،
بل هو صريح مرسلة يونس، بل صحيحة ابن سنان، حيث إن الرجوع
لا يتحقق بدون الإكذاب الحقيقي.
وخلافا لظاهر المبسوط، فقال: إن كيفية إكذابه أن يقول: القذف

(1) انظر الرياض 2: 431.
(2) الخلاف 2: 610.
(3) الغنية (الجوامع الفقهية): 625.
(4) الصدوق في المقنع: 133، حكاه عن والده وعن العماني في المختلف: 717،
النهاية: 326، الشرائع 4: 128، النافع: 287، الدروس 2: 126، المسالك 2:
403، التنقيح 4: 294.
(5) كالجامع للشرائع: 540.
(6) انظر الرياض 2: 432.
179

باطل حرام، ولا أعود إلى ما قلت (1).
وللمحكي عن ابن حمزة وعن السرائر والإرشاد والقواعد والتحرير
والمختلف والإيضاح (2)، فقالوا: إن كان في قذفه كاذبا فتوبته إكذاب نفسه
حقيقة، وإن كان صادقا فحدها أن يقول: الكذب حرام ولا أعود إلى مثل
ما قلت، كما قال ابن حمزة، أو يقول: أخطأت، كما قاله الآخرون، معللين
بحرمة الكذب.
وفيه: أنها لولا النصوص المجوزة له، مع أن التورية عنه ممكنة، بل
وجه التورية ظاهر بإرادة كونه كاذبا بحكم الله، حيث قال: * (فإذ لم يأتوا
بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) * (3).
وهل تعرف التوبة بمجرد الإكذاب، أم تحتاج بعده إلى معرفة الندامة
أيضا؟
الظاهر - كما حكي عن بعض المحققين (4) -: الثاني، لقوله في
مرسلة يونس: " ويتوب مما قال " بعد الإكذاب..
وموثقة سماعة، وفيها: وأما قول الله * (ولا تقبلوا لهم شهادة
أبدا... * إلا الذين تابوا) * قال: قلت: كيف تعرف توبته؟ قال: " يكذب
نفسه على رؤوس الناس حين يضرب، ويستغفر ربه، فإذا فعل ذلك فقد
ظهرت توبته " (5).

(1) المبسوط 8: 179.
(2) ابن حمزة في الوسيلة: 231، السرائر 2: 116، القواعد 2: 236، التحرير 2:
208، المختلف: 717، الإيضاح 4: 423.
(3) النور: 13.
(4) الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 372.
(5) الفقيه 3: 36 / 121، التهذيب 6: 263 / 699، الوسائل 27: 334 أبواب
الشهادات ب 15 ح 2، بتفاوت.
180

وبهما تقيد المطلقات، بل يمكن حملها عليه (1) أيضا بدعوى ورودها
مورد الغالب، من أن المكذب نفسه يكون تائبا غالبا.
ثم ظاهر الصحيح والمرسل المتقدمين اعتبار كون الإكذاب عند
الحاكم، كما عن العماني (2) وجماعة (3)، بل يظهر من الإيضاح والتنقيح
والصيمري عدم الخلاف في اعتبار ذلك (4)، وهو الصحيح، لما ذكر.
بل يعتبر كونه عند جماعة من المسلمين أيضا كما صرح به العماني،
للصحيح المذكور، وموثقة سماعة المتقدمة.
وهل يشترط في القبول - بعد الإكذاب والتوبة - أمر آخر، أم لا؟
ظاهر الإيضاح: الاتفاق على اشتراط الاستمرار على التوبة ولو ساعة،
قال: وإنما الخلاف في الزائد عليه، وهو إصلاح العمل (5).
ويظهر من بعضهم: أن الأكثر اكتفوا بالاستمرار، لتفسيرهم إصلاح
العمل به (6).
ومنهم من اعتبر إصلاح العمل في الكاذب دون الصادق (7).
والظاهر اعتباره مطلقا، للآية المقيدة للإطلاقات، وقوله في رواية
القاسم: " ولا يعلم منه إلا خيرا ".. والله العالم.
المسألة الرابعة: يحرم الغناء، وتزول به العدالة.

(1) أي: على الإكذاب.
(2) حكاه عنه في المختلف: 717.
(3) انظر الرياض 2: 432.
(4) الإيضاح 4: 424، التنقيح 4: 294.
(5) الإيضاح 4: 424.
(6) انظر الرياض 2: 432.
(7) انظر المبسوط 8: 179.
181

والكلام فيه تارة في بيان ماهيته، وأخرى في إثبات حرمته ومواردها.
أما الأول: فبيانه أن كلمات العلماء من اللغويين والأدباء والفقهاء
مختلفة في تفسير الغناء..
ففسره بعضهم بالصوت المطرب.
وآخر بالصوت المشتمل على الترجيع.
وثالث بالصوت المشتمل على الترجيع والإطراب معا (1).
ورابع بالترجيع.
وخامس بالتطريب.
وسادس بالترجيع مع التطريب.
وسابع برفع الصوت مع الترجيع.
وثامن بمد الصوت.
وتاسع بمده مع أحد الوصفين أو كليهما (2).
وعاشر بتحسين الصوت.
وحادي عشر بمد الصوت وموالاته.
وثاني عشر - وهو الغزالي - بالصوت الموزون المفهم المحرك
للقلب (3).
ولا دليل تاما على تعيين أحد هذه المعاني أصلا.
نعم، يكون القدر المتيقن من الجميع المتفق عليه في الصدق - وهو
مد الصوت، المشتمل على الترجيع المطرب، الأعم من السار والمحزن،

(1) كما في الحدائق 18: 101.
(2) انظر الشرائع 4: 128، والتحرير 2: 209.
(3) إحياء علوم الدين 2: 270.
182

المفهم لمعنى - غناء قطعا عند جميع أرباب هذه الأقوال، فلو لم يكن هناك
قول آخر يكون هذا القدر المتفق عليه غناء قطعا.
إلا أن بعض أهل اللغة فسره بما يقال له بالفارسية: سرود أيضا.
وحكي عن صاحب الصحاح: أنه قال: الغناء ما يسميه العجم
" دو بيتي ".
وقال بعض الفقهاء: إنه يجب الرجوع في تعيين معناه إلى العرف (1).
ولا يخفى ما في المعنيين الأولين من الخفاء، فإن " سرود "
و " دو بيتي " ليسا بذلك الاشتهار في هذه الأعصار بحيث يتضح المراد
منهما، ويمكن أن يكونا متحدين مع أحد المعاني المتقدمة.
ويحتمل قريبا أن يكون للحن وكيفية الترجيع مدخلية في صدقهما،
ويشعر به ما في رواية ابن سنان الآتية، الفارقة بين لحن العرب ولحن
أرباب الفسوق والكبائر.
ويؤيده أيضا ما قد يفسر به " سرود " من أنه ما يقال له بالفارسية:
" خوانندگى " وقد يفسر الغناء بذلك أيضا، فإن التعبير ب‍: " خوانندگي " في
الأغلب إنما يكون بواسطة الألحان والنغمات.
وكذا الثالث، فإن فيه خفاء أيضا، فإنه لا عرف لأهل العجم في لفظ
الغناء، ومرادفه من لغة الفرس غير معلوم، وعرف العرب فيه غير منضبط.
وقد يعبر عنه أيضا ب‍: " خوانندگي "، وهو غير ثابت أيضا.
ولأجل هذه الاختلافات يحصل الإجمال، غايته في معنى الغناء،
ولكن الظاهر أن القدر المتيقن المذكور من المعاني الاثني عشرية - سيما إذا

(1) كما في التنقيح 2: 11، والمسالك 2: 403، الحدائق 18: 101.
183

ضم معه: أن يكون معه اللحن الخاص المعهود، الذي يستعمله أرباب
الملاهي ويتداول عندهم، ويعبر عنه الآن عند العوام ب‍ " خوانندگي " - يكون
غناء قطعا، سواء كان في القرآن والدعاء والمراثي وغيرها..
ولعل لاعتبار هذا اللحن في مفهومه قال صاحب الوافي: لا وجه
لتخصيص الجواز بزف العرائس، ولا سيما وقد وردت الرخصة في غيره،
إلا أن يقال: إن هذه الأفعال لا تليق بذوي المروات وإن كانت مباحة (1).
انتهى.
فإن غير اللائق للمروة هو هذه الألحان المعهودة.
وأما الثاني: فلا خلاف في حرمة ما ذكرنا أنه غناء قطعا في الجملة
- وهو مد الصوت المفهم، المشتمل على الترجيع والإطراب، سيما مع
الضميمة المذكورة - ونقل عدم الخلاف بل الإجماع عليه مستفيض (2)، بل
هو إجماع محقق قطعا، بل ضرورة دينية.
وإنما الكلام في أنه هل هو حرام مطلقا من غير استثناء فرد منه، أو
يحرم في الجملة؟ يعني: أنه يحرم بعض أفراده، إما لاستثناء بعض آخر
بدليل، أو لاختصاص تحريم الغناء ببعض أفراده.
والمستفاد من كلام الشيخ في الاستبصار: الثاني، حيث قال - بعد
نقل أخبار حرمة الغناء وكسب المغنية -: الوجه في هذه الأخبار الرخصة
فيمن لا تتكلم بالأباطيل، ولا تلعب بالملاهي والعيدان وأشباهها،
ولا بالقصب وغيره، بل كانت ممن تزف العروس وتتكلم عندها بإنشاء
الشعر والقول البعيد عن الفحش والأباطيل، وأما ما عدا هؤلاء ممن يتغنين

(1) الوافي 17: 220.
(2) انظر الخلاف 2: 626، والكفاية: 280.
184

بسائر أنواع الملاهي فلا يجوز على حال، سواء كان في العرائس أو
غيرها (1). انتهى.
وهو ظاهر الكليني، حيث ذكر كثيرا من أخبار الغناء في أبواب
الأشربة، لاشتماله على الملاهي وشرب المسكر (2).
ويظهر من كلام صاحب الكفاية أيضا أن صاحب الكافي لا يحرم
الغناء في القرآن (3).
وهو أيضا محتمل الصدوق - كما يظهر من تفسيره للمرسلة الآتية (4) -
بل والده في الرسالة، حيث عبر فيها بما عبر في الرضوي الآتي (5).
بل ذكر صاحب الكفاية في كتاب التجارة - بعد نقل كلام عن الشيخ
أبي علي الطبرسي في مجمع البيان -: أن هذا يدل على أن تحسين الصوت
بالقرآن والتغني به مستحب عنده، وأن خلاف ذلك لم يكن معروفا عند
القدماء (6).
أقول: وتوهم أن الطبرسي لم يذكر إلا تحسين اللفظ وتزيين الصوت
وتحزينه وهو غير الغناء، مردود بأنه بعد ذكر الرواية الآمرة بالتغني
بالقرآن (7) ذكر تأويل بعضهم بأن المراد منه الاستغناء بالقرآن، ثم قال:

(1) الإستبصار 3: 62.
(2) الكافي 6: 431.
(3) الكفاية: 86.
(4) في ص 189.
(5) في ص 187.
(6) الكفاية: 86.
(7) سنن ابن ماجة 1: 424 ح 1337، جامع الأخبار: 131 / 265 / 16، مستدرك
الوسائل 4: 273 أبواب قراءة القرآن ب 20 ح 7.
185

وأكثر العلماء على أنه تزيين الصوت وتحسينه (1). يعني: أن المراد بالغناء
هو ما يحصل به تزيين الصوت وتحزينه، فهو في بيان معنى التغني، وأنه
ليس المراد منه إلا ما يحصل به الغناء في الصوت.
ثم قال صاحب الكفاية: وكلام السيد المرتضى في الغرر والدرر
لا يخلو عن إشعار (2) واضح بذلك.
أقول: ويشعر به كلام الفاضل في المنتهى أيضا، حيث يذكر في أثناء
ذكر المسألة عبارة الاستبصار المتقدمة - الظاهرة في التخصيص - شاهدا
لحكمه بحرمة الغناء (3).
وكذا هو المستفاد من كلام طائفة من متأخري أصحابنا، منهم:
المحقق الأردبيلي (رحمه الله) حيث جعل في باب الشهادات من شرح الإرشاد
الاجتناب عن الغناء في مراثي الحسين أحوط (4).
ومنهم: صاحب الكفاية، حيث قال في كتاب التجارة: وفي عدة من
الأخبار الدالة على حرمة الغناء إشعار بكونه لهوا باطلا، وصدق ذلك - في
القرآن والدعوات والأذكار المقروءة بالأصوات الطيبة المذكرة للآخرة
المهيجة للأشواق إلى العالم الأعلى - محل تأمل.
إلى أن قال: فإذن لا ريب في تحريم الغناء على سبيل اللهو والاقتران
بالملاهي ونحوها، ثم إن ثبت إجماع في غيره كان متبعا، وإلا بقي حكمه
على أصل الإباحة (5).

(1) مجمع البيان 1: 16، وفيه: وتحزينه، بدل: وتحسينه.
(2) في المصدر: إشكال...
(3) المنتهى 2: 1012.
(4) مجمع الفائدة 12: 338.
(5) الكفاية: 86.
186

وقال في كتاب الشهادات: واستثنى بعضهم مراثي الحسين - إلى أن
قال: - وهو غير بعيد (1).
ومنهم: صاحب الوافي، قال في باب ترتيل القرآن: ولعله كان نحوا
من التغني مذموما في شرعنا (2).
وقال في باب كسب المغنية وشرائها: لا بأس بسماع التغني بالأشعار
المتضمنة ذكر الجنة والنار، والتشويق إلى دار القرار، ووصف نعم الله
الملك الجبار، وذكر العبادات، والترغيب في الخيرات والزهد في الفانيات،
ونحو ذلك (3).
وقال في المفاتيح ما ملخصه: والذي يظهر لي من مجموع الأخبار
الواردة في الغناء ويقتضيه التوفيق بينها اختصاص حرمته وحرمة ما يتعلق به
بما كان على النحو المتعارف في زمن بني أمية، من دخول الرجال عليهن
واستماعهم لقولهن، وتكلمهن بالأباطيل ولعبهن بالملاهي، وبالجملة: ما
اشتمل على فعل محرم، دون ما سوى ذلك (4). انتهى.
والمشهور بين المتأخرين - كما في الكفاية - الأول (5).
ولا بد أولا من بيان أدلة حرمة الغناء، ثم بيان ما يستفاد من
المجموع، ثم ملاحظة أنه هل استثني من ذلك شئ ثبتت من أدلة الغناء
حرمته؟
فنقول: الدليل عليها هو الإجماع القطعي، بل هي ضرورة دينية،

(1) الكفاية: 281.
(2) الوافي 9: 1743.
(3) الوافي 17: 221.
(4) المفاتيح 2: 21.
(5) الكفاية: 281.
187

ويدل عليها الكتاب والسنة.
أما الإجماع فظاهر.
وأما الكتاب: فأربع آيات، بضميمة الأخبار المفسرة لها.
الأولى: قوله سبحانه: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول
الزور) * (1).
بضميمة رواية أبي بصير: عن قول الله سبحانه وتعالى: * (واجتنبوا
قول الزور) * قال: " هو الغناء " (2).
ورواية الشحام (3)، ومرسلة ابن أبي عمير (4)، وفيهما - بعد السؤال
عن الآية -: " وقول الزور: الغناء ".
والثانية: قوله عز شأنه: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث
ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب
مهين) * (5).
بضميمة ما في تفسير القمي عن الباقر (عليه السلام) أنه: " الغناء وشرب
الخمر وجميع الملاهي " (6).
والمروي في معاني الأخبار عن جعفر بن محمد (عليهما السلام): عن قول الله
عز وجل: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) * قال: " الغناء " (7).

(1) الحج: 30.
(2) الكافي 6: 431 / 1، الوسائل 17: 305 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 9.
(3) الكافي 6: 435 / 2، الوسائل 17: 303 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 2.
(4) الكافي 6: 436 / 7، الوسائل 17: 305 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 8.
(5) لقمان: 6.
(6) تفسير القمي 2: 161.
(7) معاني الأخبار: 349 / 1، الوسائل 17: 308 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 20، بتفاوت.
188

وفي صحيحة محمد: " الغناء مما قال الله تعالى: * (ومن الناس من
يشتري) * " الحديث (1)، وقريبة منها رواية مهران بن محمد (2).
ورواية الوشاء: عن الغناء، قال: " هو قول الله عز وجل: * (ومن
الناس) * " الآية (3).
ورواية الحسن بن هارون: " الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله، وهو
مما قال الله عز وجل: * (ومن الناس) * " الآية (4).
وفي الصافي عن الكافي، عن الباقر (عليه السلام): " الغناء مما أوعد الله عليه
النار " وتلا هذه الآية (5).
وفي الرضوي: " الغناء مما أوعد الله عليه النار في قوله: * (ومن
الناس) * " الآية (6).
الثالثة: قوله سبحانه: * (والذين هم عن اللغو معرضون) * (7).
بضميمة ما في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام): " * (والذين هم عن
اللغو معرضون) *: الغناء والملاهي " (8).
والرابعة: قوله عز جاره: * (والذين لا يشهدون الزور) * (9).

(1) الكافي 6: 431 / 4، الوسائل 17: 304 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 6،
بتفاوت.
(2) الكافي 6: 431 / 5، الوسائل 17: 305 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 7.
(3) الكافي 6: 432 / 8، الوسائل 17: 306 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 11.
(4) الكافي 6: 433 / 16، الوسائل 17: 307 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 16.
(5) تفسير الصافي 4: 140.
(6) فقه الرضا (عليه السلام): 281، مستدرك الوسائل 13: 213 أبواب ما يكتسب به ب 78 ح 9.
(7) المؤمنون: 3.
(8) تفسير القمي 2: 88.
(9) الفرقان: 72.
189

بضميمة صحيحة محمد والكناني: في قول الله عز وجل: * (والذين
لا يشهدون الزور) * قال: " هو الغناء " (1).
وأما السنة فكثيرة جدا، كصحيحة الشحام: " بيت الغناء لا تؤمن فيه
الفجيعة، ولا تجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملك " (2).
وروايته: " الغناء عش النفاق " (3).
ورواية يونس: إن العباسي ذكر أنك ترخص في الغناء، فقال:
" كذب الزنديق، ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء، فقلت له: إن رجلا
أتى أبا جعفر (عليه السلام)، فسأله عن الغناء، فقال: يا فلان، إذا ميز الله بين الحق
والباطل فأين يكون الغناء؟ فقال: مع الباطل، فقال: قد حكمت " (4).
وفي جامع الأخبار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " يحشر صاحب الغناء من
قبره أعمى وأخرس وأبكم " وفيه عنه (عليه السلام): " ما رفع أحد صوته بغناء إلا
بعث الله شيطانين على منكبه، يضربان بأعقابهما على صدره حتى
يمسك " (5).
وفي الخصال عن الصادق (عليه السلام): " الغناء يورث النفاق، ويعقب
الفقر " (6).

(1) الكافي 6: 431 / 6، الوسائل 17: 304 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 5.
(2) الكافي 6: 433 / 15، الوسائل 17: 303 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 1.
(3) الكافي 6: 431 / 2، الوسائل 17: 305 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 10.
(4) الكافي 6: 435 / 25، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 14 / 32، الوسائل 17: 306
أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 13.
(5) جامع الأخبار: 433 / 1211 و 1213، مستدرك الوسائل 13: 219 أبواب
ما يكتسب به ب 79 ح 17 و ص: 214 ب 78 ح 15.
(6) الخصال 1: 24 / 84، الوسائل 17: 309 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 23.
190

ومرسلة الفقيه: سأل رجل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن شراء جارية
لها صوت؟ فقال: " ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة - يعني بقراءة
القرآن - والزهد والفضائل التي ليست بغناء، وأما الغناء فمحظور " (1).
وتدل عليه المستفيضة، المانعة عن بيع المغنيات وشرائهن
وتعليمهن، كرواية الطاطري: عن بيع الجواري المغنيات، فقال: " بيعهن
وشراؤهن حرام، وتعليمهن كفر، واستماعهن نفاق " (2)، وقريبة منها رواية
ابن أبي البلاد (3).
ويستفاد من الأخيرتين حرمة استماع الغناء أيضا، كما هو مجمع
عليه قطعا.
وإطلاق المنع عن الاستماع منهن - حتى من المحارم - يأبى عن كون
المنع لحرمة استماع صوت الأجانب، مضافا إلى ظهور العطف على
" تعليمهن " والتعليق على الوصف في إرادة استماع الغناء، وتدل على حرمة
استماعه الآية الأولى أيضا.
ويدل على حرمة الغناء واستماعه أيضا المروي في المجمع عن
طريق العامة، عن النبي (صلى الله عليه وآله): " من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن
يسمع صوت الروحانيين يوم القيامة " قيل: وما الروحانيون يا رسول الله؟
قال: " قراء أهل الجنة " (4).

(1) الفقيه 4: 42 / 139، الوسائل 17: 122 أبواب ما يكتسب به ب 16 ح 2.
(2) الكافي 5: 120 / 5، التهذيب 6: 356 / 1018، الإستبصار 3: 61 / 201،
الوسائل 17: 124 أبواب ما يكتسب به ب 16 ح 7.
(3) الكافي 5: 120 / 7، التهذيب 6: 357 / 1021، الإستبصار 3: 61 / 204،
الوسائل 17: 123 أبواب ما يكتسب به ب 16 ح 5.
(4) مجمع البيان 4: 314.
191

ورواية عنبسة: " استماع الغناء واللهو ينبت النفاق في القلب " (1).
ومرسلة المدني: سئل عن الغناء وأنا حاضر، فقال: " لا تدخلوا بيوتا
الله معرض عن أهلها " (2).
وقد يستدل عليهما برواية مسعدة بن زياد: إنني أدخل كنيفا لي، ولي
جيران عندهم جوار يتغنين ويضربن بالعود، فربما أطلت الجلوس استماعا
مني لهن؟ فقال: " لا تفعل " فقال الرجل: والله ما أتيتهن، وإنما هو سماع
أسمعه بأذني، فقال (عليه السلام): " لله أنت، أما سمعت الله يقول: * (إن السمع
والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * (3) "؟.
فقال: بلى والله، كأني لم أسمع بهذه الآية - إلى أن قال: - " قم
فاغتسل وصل ما بدا لك، فإنك كنت مقيما على أمر عظيم، ما كان أسوأ
حالك لو مت على ذلك؟! " الحديث (4).
أقول: هذه أدلة حرمة الغناء، وظاهر أن الإجماع منها لا يثبت منه إلا
حرمة الغناء في الجملة، ولا يفيد شيئا في موضع الخلاف.
وأما الكتاب، فظاهر أنه لا دلالة للآيتين الأخيرتين على الحرمة
أصلا، مضافا إلى ما يظهر من بعض الأخبار المعتبرة من تفسير اللغو بغير
الغناء مما يباينه أو يعمه.
وأما الآية الثانية، فلا شك أنه لا دلالة للأخبار المفسرة لها بنفسها

(1) الكافي 6: 434 / 23، الوسائل 17: 316 أبواب ما يكتسب به ب 101 ح 1،
بتفاوت.
(2) الكافي 6: 434 / 18، الوسائل 17: 306 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 12.
(3) الإسراء: 36.
(4) الفقيه 1: 45 / 177، التهذيب 1: 116 / 304، الوسائل 3: 331 أبواب
الأغسال المندوبة ب 18 ح 1، بتفاوت.
192

على الحرمة، بل الدال عليها إنما هو الآية بضميمة التفسير، فيكون معنى
الآية: ومن الناس من يشتري الغناء ليضل عن سبيل الله ويتخذها هزوا
أولئك لهم عذاب مهين، فيدل على حرمة الغناء الذي يشترى، لما في
الآية، وهو مما لا شك فيه، ولا يدل على حرمة غير ذلك مما يتخذ لترقيق
القلب لتذكر الجنة، وتهييج الشوق إلى العالم الأعلى، ولتأثير القرآن والدعاء
في القلوب، بل في قوله: * (لهو الحديث) * إشعار بذلك أيضا.
مع أن رواية الوشاء محتملة لأن يكون تفسيرا للغناء بلهو الحديث
لا بيانا لحكمه، فلا يكون شاملا لما لا يصدق عليه لهو الحديث لغة وعرفا.
مضافا إلى معارضة هذه الأخبار مع ما روي في مجمع البيان عن
الصادق (عليه السلام): " إن لهو الحديث في هذه الآية الطعن في الحق والاستهزاء
به " (1).
ورواية أبي بصير: عن كسب المغنيات، فقال: " التي يدخل عليها
الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، وهو قول الله
عز وجل: * (ومن الناس من يشتري) * الآية (2)، فإنها تدل على أن لهو
الحديث هو غناء المغنيات اللاتي يدخل عليهن الرجال لا مطلقا.
وإلى أن الظاهر من رواية الحسن بن هارون (3): أن الغناء - الذي أريد
من لهو الحديث - مجلس، وهو ظاهر في محافل المغنيات.
وإلى أن مدلول سائر الأخبار المعتبرة أن الغناء هو فرد من لهو

(1) مجمع البيان 4: 313.
(2) الكافي 5: 119 / 1، التهذيب 6: 358 / 1024، الإستبصار 3: 62 / 207،
الوسائل 17: 120 أبواب ما يكتسب به ب 15 ح 1.
(3) الكافي 6: 433 / 16، الوسائل 17: 307 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 16.
193

الحديث، وأنه بعض ما قال الله سبحانه، فيشعر بأن المراد من لهو الحديث
معناه اللغوي والعرفي الذي فرد منه الغناء، وهو لا يصدق إلا على الأقوال
الباطلة والملهية لا مطلقا.
فلم يبق من الآيات الكريمة إلا الأولى، وسيجئ الكلام فيها.
وأما الأخبار، فظاهر أن الروايات المانعة عن بيع المغنيات وشرائهن
والاستماع منهن (1) لا دلالة لها على حرمة المطلق، إذ لا شك أن المراد
منهن ليس من من شأنها أن تتغنى وتقدر على الغناء، لعدم حرمة بيعها
وشرائها قطعا، بل المراد الجواري اللاتي أخذن ذلك كسبا وحرفة، كما هو
ظاهر الأخبار المانعة عن كسبهن وأجرهن (2).
وعلى هذا، فتكون إرادتهن من المغنيات - الموضوعة لغة لمن تغني
مطلقا، إما مع بقاء المبدأ أو مطلقا - مجازا، فيمكن أن يكون المراد بهن
اللاتي كن في تلك الأزمنة - وهن اللاتي أخذنه كسبا وحرفة في محافل
الرجال والأعراس - بل الظاهر أنه لم تكن تكسب بغيرهما، وفي رواية
أبي بصير المتقدمة - المقسمة لهن إلى اللاتي يدخل عليهن الرجال،
واللاتي تزف العرائس - دلالة على ذلك.
وأما سائر الروايات، فبكثرتها وتعددها خالية عن الدلالة على الحرمة
جدا، إذ لا دلالة - لعدم الأمن من الفجيعة، وعدم إجابة الدعوة، وعدم
دخول الملك، وكونه عش النفاق، أو مورثه، أو منبته، أو كونه من الباطل،
أو الحشر أعمى وأصم وأبكم، أو بعث الشيطان للضرب على الصدر، أو
تعقيب الفقر، أو عدم سماع صوت الروحانيين، أو إعراض الله عن أهله -

(1) كما في الوسائل 17: 122 أبواب ما يكتسب به ب 16.
(2) انظر الوسائل 17: 120 أبواب ما يكتسب به ب 15.
194

على إثبات الحرمة، لورود أمثال ذلك في المكروهات كثيرا.. مع أنه
لا حجية في روايتي المجمع والجامع (1) عن طريق العامة أصلا.
وأما مرسلة الفقيه (2)، فإنما تفيد الحرمة لو كان التفسير عن الإمام،
وهو غير معلوم، بل خلاف الظاهر، لأن الظاهر أنه من الصدوق.. مع أنه
لو كان من الإمام أيضا إنما يفيد حرمة المطلق لو كان قوله: " التي ليست
بغناء " وصفا احترازيا للقراءة، وهو أيضا غير معلوم.
وأما رواية مسعدة (3)، فمع اختصاصها بغناء الجواري المغنية،
مشتملة على ضرب العود أيضا، فلعل المعصية كانت لأجله.
فإن قيل: إن تكذيبه (عليه السلام) لمن نسب إليه الرخصة في الغناء (4) يدل
على انتفاء الرخصة، فيكون حراما.
قلنا: التكذيب في نسبة الرخصة لا يستلزم المنع، فإن عدم ترخيص
الإمام أعم من المنع، بل كلامه (عليه السلام): ما هكذا قلت بل قلت كذا، صريح
في أن التكذيب ليس للمنع، بل لذكره خلاف الواقع، مع أنه يمكن أن
يكون التكذيب لأجل أنه نسب الرخصة في المطلق.
ولا يتوهم دلالة كونه مع الباطل على الحرمة، لعدم معلومية أن المراد
بالباطل ما يختص بالحرام، ولذا يصح أن يقال: التكلم بما لا يعني يكون
من الباطل.

(1) المتقدمتين في ص 188 و 189.
(2) المتقدمة في ص 189.
(3) المتقدمة في ص 190.
(4) انظر رواية يونس المتقدمة في ص 188.
195

مضافا إلى أن في تصريح السائل ب‍: " كونه مع الباطل " - بحيث يدل
على شدة ظهور كونه معه عنده - إشعارا ظاهرا بأن المراد منه ما كان مع
التكلم بالأباطيل.
فإن قيل: هذه الأخبار وإن لم تثبت التحريم إلا أن الروايتين
المذكورتين في تفسير الآية الثانية - المتضمنتين لقوله: " إن الغناء مما أوعد
الله عليه النار " (1) - تدلان على حرمته، بل كونه من الكبائر.
قلنا: لا دلالة لهما إلا على حرمة بعض أفراد الغناء، وهو الذي
يشترى به ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوا، ألا ترى أنه لو قال أحد:
أمر الأمير بضرب البصري، قال: اضرب زيدا البصري.. أو في قوله:
اضرب زيدا البصري، يفهم أنه مراده من البصري دون المطلق..
ولو أبيت الفهم فلا شك أنه مما يصلح قرينة لإرادة هذا الفرد من
المطلق، ومعه لا تجري فيه أصالة إرادة الحقيقة، التي هي الإطلاق.
فلم يبق دليل على حرمة مطلق الغناء، سوى قوله سبحانه:
* (واجتنبوا قول الزور) * (2) بضميمة تفسيره في الأخبار المتقدمة بالغناء.
إلا أنه يخدشه أنه يعارض تلك الأخبار المفسرة ما رواه الصدوق في
معاني الأخبار عن الصادق (عليه السلام): قال: سألته عن قول الزور، قال: " منه
قول الرجل للذي يغني: أحسنت " (3).
فإن الأخبار المتقدمة - باعتبار الحمل - تدل على أن معناه الغناء،
وذلك يدل على أنه غيره، أو ما هو أعم منه، بل فيه إشعار بأن المراد من

(1) راجع ص 187.
(2) الحج: 30.
(3) معاني الأخبار: 349 / 2، الوسائل 17: 309 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 21.
196

الزور هو معناه اللغوي والعرفي، أي الباطل والكذب والتهمة، كما في
النهاية الأثيرية (1).. وعدم صدق شئ من ذلك على مثل القرآن والأدعية
والمواعظ والمراثي واضح وإن ضم معه نوع ترجيع.
بل يعارضها ما رواه في الصافي عن المجمع، قال: وعن النبي (صلى الله عليه وآله)
أنه عدلت شهادة الزور بالشرك بالله، ثم قرأ هذه الآية (2)، فإنه يدل على أن
المراد بقول الزور شهادة الزور.
وبملاحظة هذين المعارضين المعتبرين - المعتضدين بظاهر اللفظ،
وباشتهار تفسيره بين المفسرين بشهادة الزور، أو مطلق القول الباطل -
توهن دلالة تلك الآية أيضا جدا على حرمة المطلق.
مضافا إلى معارضتها مع ما يدل على أن الغناء على قسمين: حرام
وحلال، كالمروي في قرب الإسناد للحميري - بإسناد لا يبعد إلحاقه
بالصحاح كما في الكفاية - عن علي بن جعفر، عن أخيه (عليه السلام): قال: سألته
عن الغناء هل يصلح في الفطر والأضحى والفرح؟ قال: " لا بأس، ما
لم يعص به " (3).
والمروي في تفسير الإمام عن النبي (صلى الله عليه وآله) - في حديث طويل، فيه
ذكر شجرة طوبى وشجرة الزقوم، والمتعلقين بأغصان كل واحدة منهما -:
" ومن تغنى بغناء حرام يبعث فيه على المعاصي فقد تعلق بغصن منه " أي
من الزقوم.

(1) النهاية الأثيرية 2: 318.
(2) مجمع البيان 4: 82.
(3) قرب الإسناد: 294 / 1158، الوسائل 17: 122 أبواب ما يكتسب به ب 15
ح 5.
197

فإن الأول صريح في أن من الغناء ما لا يعصى به.
والثاني ظاهر في أن الغناء على قسمين: حلال وحرام.
وصحيحة أبي بصير: " أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس،
ليست بالتي يدخل عليها الرجال " (1).
فإنها ظاهرة في أنه لا حرمة في غناء المغنية التي لا يدخل عليها
الرجال، المؤيدة بروايته الأخرى المتقدمة (2)، المقسمة للمغنيات على
قسمين: ما يدخل عليهن الرجال، وما تزف العرائس.. والحكم بحرمة
الأولى، ونفي البأس عن الثانية.
ويتعدى الحكم إلى المغني بالإجماع المركب، وبأن الظاهر اشتهار
هذا التقسيم عند أهل الصدر الأول، كما يظهر من كلام الطبرسي (3).
وعلى هذا، فنقول: إن المراد بالغناء المحرم - أو الذي يعصى به - إما
هو ما يتكلم بالباطل ويقترن بالملاهي ونحوهما، وحينئذ فعدم حرمة
المطلق واضح.
أو يكون غيره، ويكون المراد غناء نهى عنه الشارع، ولعدم كونه
معلوما يحصل فيه الإجمال، وتكون الآية مخصصة بالمجمل، والمخصص
بالمجمل ليس بحجة.
ويؤكد اختصاص الغناء المحرم بنوع خاص ما يتضمنه كثير من
الأخبار المذكورة من نحو قوله: " الغناء مجلس " أو: " بيت الغناء " أو:

(1) الكافي 5: 120 / 3، الفقيه 3: 98 / 376، التهذيب 6: 357 / 1022، الإستبصار
3: 62 / 205، الوسائل 17: 121 أبواب ما يكتسب به ب 15 ح 3، بتفاوت يسير.
(2) في ص 191.
(3) راجع ص 183 و 184، وهو في مجمع البيان 1: 16.
198

" صاحب الغناء " أو: " لا تدخلوا بيوتا " بعد السؤال عن مطلق الغناء (1).
ومن جميع ذلك يظهر الحال في رواية نصر بن قابوس ومرسلة
الفقيه، الآتيتين في آخر المسألة (2)، المتضمنتين للعن المغنية وكسبها
مطلقا، وكون أجر المغني والمغنية سحتا كذلك.
وقد ظهر من جميع ذلك أن القدر الثابت من الأدلة هو حرمة الغناء
بالمعنى المتيقن كونه غناء لغويا، وهو ترجيع الصوت المفهم مع الإطراب
في الجملة، ولا دليل على حرمته كلية، فاللازم فيه هو الاقتصار على القدر
المعلوم حرمته بالإجماع.
ومنه يظهر عدم حرمة ما استثنوه، وهو أمور:
منها: غناء المغنية في زف العرائس، استثناه في النهاية والنافع
والمختلف والتحرير والقاضي (3) وجمع آخر (4).
ولكنه ليس لما ذكر من عدم الدليل، لوجوده في غناء المغنيات كما مر.
بل للأخبار المقيدة لهذه المطلقات المتقدمة، كصحيحة أبي بصير
وروايته، وروايته الأخرى: " المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها " (5).
خلافا للمفيد والحلبي والحلي والديلمي والتذكرة والإرشاد، فلم
يستثنوه (6).

(1) راجع ص: 187 - 190.
(2) انظر ص 204.
(3) النهاية: 367، النافع: 116، المختلف: 342، التحرير 1: 160، القاضي في
المهذب 1: 346.
(4) كالسبزواري في الكفاية: 86، وصاحب الحدائق 18: 116.
(5) الكافي 5: 120 / 2، التهذيب 6: 357 / 1023، الإستبصار 3: 62 / 206،
الوسائل 17: 121 أبواب ما يكتسب به ب 15 ح 2.
(6) المفيد في المقنعة: 588، الحلبي في الكافي: 435، الحلي في السرائر 2:
120، الديلمي في المراسم: 170، التذكرة 2: 581 إرشاد الأذهان 1: 357.
199

إما لمعارضة هذه الأخبار مع الروايات المحرمة للغناء وكسبه، أو
لشراء المغنيات وبيعهن، حيث إنه لو كانت له جهة إباحة لم يحرم البيع
والشراء.
أو لضعف سندها.
أو دلالتها، إذ غايتها نفي البأس عن الأجرة، وهو غير ملازم لنفي
الحرمة.
ويمكن الجواب: بأن المعارض بقسميه مطلق، فيحمل على المقيد.
وضعف السند غير ضائر، مع أن فيها الصحيح.
والملازمة ثابتة، لعدم القول بالفرق، مع أن المنفي عنه البأس في
روايتي أبي بصير هو نفس الكسب، وحمله على المكتسب يجوز.
هذا، ثم إنه يشترط في الحلية عدم دخول الرجال عليهن، وإلا يحرم
وإن كانوا محارم، كما احتمله المحقق الثاني (1)، للإطلاق.
وقد يقال باشتراط عدم التكلم بالأباطيل، وعدم استماع الرجال
الأجانب، وعدم العمل بالملاهي.
وفيه: أن هذه الأمور وإن كانت محرمة ولكن تحريمها من حيث هي
هي غير ما نحن فيه من تحريم الغناء، فيؤاخذ بهذه الأمور دون الغناء.
وهل يتعدى إلى غير المغنى وإلى غير الزفاف؟
الظاهر: نعم، لعموم العلة المنصوصة بقوله: " ليست بالتي يدخل
عليها الرجال ".
ولا يضر في العلية عدم الجواز في بعض صور عدم الدخول أيضا،

(1) جامع المقاصد 4: 24.
200

لأن غايته تخصيص عموم العلة، وهو لا يخرجه عن الحجية في غير موضع
التخصيص.
ومنها: الحداء - وهو سوق الإبل بالغناء - واشتهر فيه الاستثناء،
وتوقف فيه جماعة (1)، بل صرح جمع بعدم الحلية (2)، لعدم العثور على
دليل عليها، سوى نبوي عامي (3) لا يصلح للحجية، وهو كذلك، إلا أن
الأصل وعدم ثبوت الحرمة كلية يكفي للحلية.
ومنها: الغناء في مراثي الحسين (عليه السلام) وغيره من الحجج وأصحابهم،
للأصل المذكور المعتمد، ولأنه معين على البكاء، فهو إعانة على البر.
فإن قيل: كون الغناء معينا على البكاء ممنوع، وإن سلم إعانة الصوت
عليه ولكنه غير الغناء.
ولو سلم فكونه معينا على البكاء على شخص معين غير مسلم، فإنه
إنما يكون باعتبار تذكر أحواله، ولا دخل للغناء فيه.
ولو سلم فعموم رجحان الإعانة على البر ولو بالحرام غير ثابت.
ولو سلم فتعارض أدلته أدلة حرمة الغناء، والترجيح للثانية، لأظهرية
العموم أو الأكثرية، أو لأجل ترجيح الحرمة على الجواز مع التعارض.
قلنا: أما منع كون الغناء معينا فيخالف الوجدان، لأن من البين أن
لنفس الترجيع أيضا أثرا في القلب، كما يدل عليه ما في كلماتهم من
توصيف الترجيع بالطرب، مع تفسيرهم للإطراب بما يشمل الأحزان أيضا،
فإن حزن القلب من معدات البكاء، مع أنه لو قيل: إن الغناء هو الصوت

(1) منهم صاحب الحدائق 18: 116.
(2) منهم صاحب الرياض 1: 502.
(3) صحيح مسلم 3: 1427 / 123، صحيح البخاري 5: 166.
201

المشتمل على الترجيع دون نفس الترجيع، فيكون هو أيضا من أفراد الصوت.
وأما منع كونه معينا على البكاء على شخص وإنما هو يحصل بتذكر
أحواله، فهو أيضا مما يخالف الوجدان، فإنا نشاهد من أنفسنا تأثير الألفاظ
والأصوات والألحان، فنرى أنه يعبر عن واقعة واحدة بألفاظ مختلفة،
يحصل من بعضها البكاء الشديد، ولا يؤثر بعضها أصلا، ونرى أنه يذكر
بعضهم واقعة ولا يؤثر في قلب، ويذكر غيره - بل هذا الشخص - بلحن
آخر هذه الواقعة بعينها وتحصل منه غاية الرقة والبكاء، بل ربما يبقى التأثير
بعد تمام تعزيته، بحيث تسيل الدموع بتذكر ما ذكره في مدة طويلة.
والتحقيق: أن الصوت واللفظ واللحن من الأمور المرققة للقلب
المعدة للتأثير، وبترقيقها وإعدادها يحصل البكاء بتذكر الأحوال.
وأما منع رجحان هذه الإعانة لكونها بالحرام، ففيه: أن المستدل
لا يجوز إعانة البر بالحرام، بل يمنع الحرمة حين كون الغناء معينا على
البكاء، استنادا إلى تعارض عمومات الحرمة مع عمومات الإعانة.
وأما ترجيح عمومات الحرمة، فبعد ما ذكرنا من حال أدلتها، فيظهر
لك فساده، كيف؟! مع أن عموم رجحان الإعانة بالبر مطلقا أمر ثابت كتابا
وسنة، ورجحانها مجمع عليه.
ومع ذلك، فالأحاديث - الواردة في أن من أبكى أحدا على
الحسين (عليه السلام) كان له كذا وكذا - بلغت حد الاستفاضة، بل التواتر، وكثيرة
منها مذكورة في ثواب الأعمال (1).
وأما ترجيح جانب الحرمة على الجواز بعد التعارض فهو عندنا غير

(1) ثواب الأعمال: 83، الوسائل 14: 500 أبواب المزار وما يناسبه ب 66.
202

ثابت إلا على وجه الأولوية، وهو أمر آخر.
ومنها: في قراءة القرآن، ويدل على جواز الغناء (بعد التعارض) (1)
فيها ما مر من الأصل، المعتضد بالمعتبرة الآمرة بقراءة القرآن بالحزن
وبالصوت الحسن، منها مرسلة ابن أبي عمير، وفيها: " إن القرآن نزل
بالحزن فاقرؤوه بالحزن " (2).
والمستفيضة الدالة على حسن الصوت الحسن مطلقا، كالروايات
الأربع لابن سنان (3)، والسبع: لأبي بصير (4) وحفص (5) وعبد الله التميمي (6)
ودارم بن قبيصة (7) وسماعة والنميري وصحيحة ابن عمار (8)، وغيرها (9).
بل لو قلنا بتمامية روايات حرمة الغناء دلالة تعارض مع هذه
الروايات بالعموم من وجه، فيرجع إلى الأصل أيضا.
ومنع التعارض، لأن الغناء هو الترجيع، وهو وصف عارض للصوت
الحسن، يوجد بإيجاد آخر مغاير للصوت..
يرده منع كون الغناء هو الترجيع، بل هو الصوت المشتمل على

(1) ما بين القوسين ليس في " ق ".
(2) الكافي 2: 614 / 2، الوسائل 6: 208 أبواب قراءة القرآن ب 22 ح 1.
(3) الأولى: الكافي 2: 615 / 9، الوسائل 6: 211 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 3.
الثانية: الكافي 2: 615 / 6، الوسائل 6: 208 أبواب قراءة القرآن ب 22 ح 2.
الثالثة: الكافي 2: 615 / 7.
الرابعة: الكافي 2: 614 / 3، الوسائل 6: 210 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 1.
(4) الكافي 2: 616 / 13، الوسائل 6: 211 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 5.
(5) الكافي 2: 606 / 10، الوسائل 6: 208 أبواب قراءة القرآن ب 22 ح 3.
(6) الوسائل 6: 212 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 6.
(7) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 69 / 322، الوسائل 6: 212 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 7.
(8) مستطرفات السرائر: 97 / 17، الوسائل 6: 209 أبواب قراءة القرآن ب 23 ح 2.
(9) انظر الوسائل 17: 303 أبواب ما يكتسب به ب 99.
203

الترجيع، مع أن الوارد في بعض الأخبار المذكورة الأمر بالقراءة بالحزن أو
بصوت حزين، وفي بعضها تحسين الصوت، ولا شك أن الترجيع أحد
أفراد القراءة بالحزن، والتحسين أيضا.
وتدل على الجواز أيضا رواية أبي بصير الصحيحة عن السراد
- المجمع على تصحيح ما يصح عنه - وفيها: " ورجع بالقرآن صوتك، فإن
الله يحب الصوت الحسن يرجع به ترجيعا " (1).
والعامي المروي في المجمع: " فإذا قرأتموه " أي القرآن " فابكوا، فإن
لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به، فمن لم يتغن بالقرآن فليس منا " (2).
وردا بمعارضتهما مع رواية ابن سنان: " اقرأوا القرآن بألحان العرب
وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق والكبائر، فإنه سيجئ بعدي أقوام
يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم
مقلوبة، وقلوب من يعجبه شأنهم " (3).
مضافا إلى ما في الأولى من منع كون مطلق الترجيع غناء، ولا يفيد
انضمام الحزن المأمور به معه أيضا في حصول الغناء، لأن المأمور به هو
حزن القارئ، والمعتبر في الغناء هو حزن السامع.
وما في الثانية من احتمال كون المراد طلب الغناء ودفع الفقر.
وفيه: أن الرواية ليست معارضة لما ذكر، بل معاضدة له، للأمر
بالقراءة بألحان العرب، واللحن هو التطريب والترجيع.

(1) الكافي 2: 616 / 13، الوسائل 6: 211 أبواب قراءة القرآن ب 24 ح 5.
(2) مجمع البيان 1: 16، مستدرك الوسائل 4: 273 أبواب القراءة في غير الصلاة
ب 20 ح 7، إلا أنه نقله عن جامع الأخبار.
(3) الكافي 2: 614 / 3، مجمع البيان 1: 16، الوسائل 6: 210 أبواب قراءة القرآن
ب 24 ح 1.
204

قال في النهاية الأثيرية: اللحون والألحان: جمع اللحن، وهو
التطريب وترجيع الصوت وتحسين القراءة والشعر والغناء (1).
وقال في الصحاح: ومنه الحديث: " اقرأوا القرآن بلحون العرب "،
وقد لحن في القراءة: إذا طرب وغرد، وهو ألحن الناس إذا كان أحسنهم
قراءة وغناء (2).
وقال أيضا: الغرد بالتحريك: التطريب في الصوت والغناء (3).
وأما ما في الرواية - من النهي عن لحون أهل الفسق والكبائر وذم
أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية - فلا يدل إلا على ذم
نوع خاص من الترجيع، ولعدم معلوميته يجب العمل في كل ما لم يعلم
بالأصل.
وليس فيها تخصيص بالمجمل، بل دلت على أن المجوز هو ترجيع
العرب، والمنهي عنه هو ترجيع أهل الفسوق والكبائر، ولا يعلم تعيين
أحدهما، وليس ذلك تخصيصا بالمجمل، فتأمل.
وأما منع كون مطلق الترجيع غناء، ففيه: أن بعد ضم تحسين الصوت
المرغب فيه وتحزينه لا يمكن الخلو عن نوع من الإطراب، فيكون غناء،
وتحزين القارئ - سيما مع تحسين الصوت والترجيع - يستلزم تحزين
السامع غالبا.
وأما تأويل قوله: " تغنوا " بطلب الغناء فهو مما يستبعد عن سياق
الكلام غاية الاستبعاد.

(1) النهاية الأثيرية 4: 242.
(2) الصحاح 6: 2193.
(3) الصحاح 2: 516.
205

ومنها: الغناء في الأدعية، وذكر الفضائل، والثناء، والمناجاة،
وأمثالها، ويدل على جواز الغناء فيها ما ذكر من الأصل السالم عن
المعارض بالمرة، مضافا إلى مرسلة الفقيه المتقدمة (1)، المتضمنة لتجويز
شراء المغنية لأن يتذكر بصوتها الجنة، فإن إطلاقها يشمل الغناء أيضا، مع
أن الظاهر أن السؤال كان عن غنائها، إذ كان عدم حرمة غيره ظاهرا.
هذا، ثم إنه كلما يحرم الغناء يحرم استماعه أيضا، بالإجماع
والروايات المتقدمة كما مر.
وكذا يحرم التكسب بالمحرم منه والأجرة عليه، بلا خلاف أجده،
وظاهر المفيد أنه إجماع المسلمين (2)، وفي المنتهى: تعلم الغناء والأجر
عليه حرام عندنا بلا خلاف (3).
وتدل عليه روايات أبي بصير والطاطري وابن أبي البلاد، المتقدمة
جميعا (4).
ورواية نصر بن قابوس: " المغنية ملعونة، ملعون من أكل كسبها " (5).
ومرسلة الفقيه: " أجر المغني والمغنية سحت " (6).
وقد يستدل عليه أيضا بالأصل، إذ الأصل عدم صحة المعاملة، وهو
ضعيف غايته، لأن غايته عدم اللزوم دون الحرمة إن رضي به المالك، والله
الموفق.

(1) في ص 189.
(2) المقنعة: 588.
(3) المنتهى 2: 1012.
(4) في ص 189 و 191.
(5) الكافي 5: 120 / 6، التهذيب 6: 357 / 1020، الإستبصار 3: 61 / 203،
الوسائل 17: 121 أبواب ما يكتسب به ب 15 ح 4.
(6) الفقيه 3: 105 / 436، الوسائل 17: 307 أبواب ما يكتسب به ب 99 ح 17.
206

البحث الرابع
في بعض ما يتعلق بالبحث عن عدالة الشاهد
وقد ثبت فيما تقدم اشتراط عدالة الشاهد في الحكم بشهادته،
واشتراط معرفتها.
وأنه لا يكتفى في ثبوتها بظاهر الإسلام، ولا بجميع مراتب حسن
الظاهر.
وأنه إذا عرف الحاكم عدالتهما يحكم بشهادتهما، وإن عرف فسقهما
يسقط شهادتهما، إلا أن يثبت الخصم الفسق في الأول والعدالة في الثاني.
وأنه إذا جهل حالهما يبحث عنها.
فالمقصود هنا بيان حال البحث وكيفيته، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: بحث الحاكم وفحصه عن حال الشاهد المجهول
حاله واجب عليه، للإجماع المركب، فإن كل من يقول بعدم كفاية ظاهر
الإسلام في الشاهد يقول بوجوب الفحص، ولأنه لولا الفحص فإما يترك
الحكم، أو يحكم للمشهود له - بدون ثبوت عدالة الشاهد - أو عليه بدون
الفحص، والكل باطل.
ويدل عليه عمل النبي المروي في تفسير الإمام أيضا (1)، حيث إنه
كان يبحث عن حال الشهود، ومع عدم الظهور يصلح أو يحلف.
المسألة الثانية: تثبت عدالة الشاهدين - الغير المعروفين للحاكم -

(1) تفسير العسكري ((عليه السلام)): 673 / 376، الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى ب 6 ح 1.
207

بالشياع المفيد للعلم، وبشهادة العدلين إجماعا.
ويدل على الأخير أيضا ما أشرنا إليه وأثبتناه في موضعه من أصالة
حجية شهادة العدلين، والرواية الطويلة المروية في تفسير الإمام، المتضمنة
لمحاكمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنه إذا كان لا يعرف الشهود بخير ولا شر أرسل
رجلين من خيار أصحابه إلى قبائل الشهود لتفتيش أحوالهم من قومهم، فإذا
أتيا بخير أنفذ شهادتهم، وإذا أتيا بخبر سئ لم ينفذ.
ولا ينافيه ما في الرواية من أن بعد رجوع الرجلين وإخبارهما كان
يحضر قوم الشهود ويسأل عنهم.
لأن السؤال إنما هو عن معرفة أشخاص الشهود، هل أنهم هذه
الأشخاص أم لا؟ المعرفة عدالة الشهود، وإلا لم يحتج إلى إنفاذ رجلين
ولا من الخيار، ولذا اكتفى في صورة رجوعهما بخبر سئ بقوله (صلى الله عليه وآله):
" أهما هما "؟
ومرسلة يونس المصرحة بأن استخراج الحقوق بأربعة وجوه، وعد
منها شهادة رجلين عدلين (1). فإن الاستخراج أعم مما كان بواسطة أو
بلا واسطة.
وعمومات: " البينة على المدعي " (2) إذا ادعى المشهود له عدالة
الشاهدين.
وهل تثبت بشهادة العدل الواحد، أم لا؟
الأكثر على الثاني، بل عن الإيضاح الإجماع عليه (3)، وهو الحق،

(1) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 4.
(2) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3.
(3) الإيضاح 4: 431.
208

للأصل.
وصرح بعض مشايخنا المعاصرين بوجود القول بثبوتها بشهادة
الواحد أيضا، وربما يشعر بالثبوت بها كلام المحقق الأردبيلي (1).. ولا أرى
عليه دليلا، إلا بعض ما يذكرونه دليلا على حجية مطلق خبر العدل، وقد
ذكرناه في العوائد مع ضعفه (2).
وقد يستدل له أيضا بأن حصول العلم بالعدالة إما متعذر أو متعسر
- ولو بالمعاشرة والشياع - فلا مناص فيه عن العمل بالظن، وشهادة العدل
الواحد مفيدة له أيضا.
وفيه: أن الثابت منه - لو سلم - كفاية الظن في الجملة لا مطلق الظن،
فيجب الاقتصار فيه على القدر المجمع عليه، فإن الضرورة تقدر بقدرها.
ومنه يظهر عدم كفاية الشياع المفيد للظن، ولا المعاشرة المفيدة له،
بل لا بد من إفادتهما العلم.
وبعد ما ذكرنا في بيان العدالة وتحقيقها ووصولك إلى حقيقته،
لا يختلج ببالك أن حصول العلم بوجود العدالة لشخص بالمعاشرة أو
الشياع متعذر، فلا بد من الاكتفاء بالظن، إذ قد عرفت أن المناط في الحكم
بعدالة شخص شرعا هو كونه حسن الظاهر، ومتصفا بأوصاف يسهل
تحصيل العلم بها بالمعاشرة أو الشياع، بل قد يحصل العلم بها بإخبار
العدل الواحد المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم، فتثبت به حينئذ أيضا.
والحاصل: أن العدالة وإن كانت ملكة نفسانية - أو صفات وحالات
منبعثة عن الملكة النفسانية، والعلم بها في غاية الصعوبة - إلا أنه قد عرفت

(1) مجمع الفائدة 12: 325.
(2) عوائد الأيام: 277.
209

أن الشارع قد جعل حسن الظاهر - على الوجه المتقدم ذكره - معرفا لها،
قائما مقام العلم، فالمناط: العلم بحسن الظاهر المذكور، وهو ليس متعذرا،
بل سهل غالبا، فالمراد المعاشرة المخبرة عن ذلك الحسن، أو الشياع
المخبر عنه.
نعم، لو لم تثبت دلالة حسن الظاهر عليها ومعرفيته لها، فمعرفتها
بالمعاشرة والشياع علما كان صعبا، وللإجماع على المعرفة بهما يتم أن
يقال: تكفي المعرفة الظنية، ولكن يشكل معرفية المناط حينئذ، لسعة دائرة
المعاشرة والشياع، وكثرة مراتب الظن، وعدم تعيين المجمع عليه منها.
المسألة الثالثة: لو صرح المشهود عليه بعدالة الشاهدين تقبل
شهادتهما عليه ويحكم بها، وفاقا للتحرير والدروس والقواعد (1) - مع
الاستشكال في الأخير - وللمحكي عن الإسكافي والتنقيح والإرشاد
والإيضاح (2)، وقواه بعض مشايخنا المعاصرين (3).
لا لما ذكره في الإيضاح من أنه أقر بوجود شرط الحكم، وكل من
أقر على نفسه بشئ نفذ عليه.
لمنع كون الإقرار بوجود الشرط إقرارا على نفسه، لأنه لا يلزم من
وجوده الوجود، ولأن كونه إقرارا على نفسه موقوف على كونه مقبولا عند
الحاكم، وقبوله موقوف على كونه إقرارا على نفسه، وهو دور.
بل للمروي في تفسير الإمام المشار إليه متكررا، وفيه: " فإذا كان

(1) التحرير 2: 184، الدروس 2: 79، القواعد 2: 206.
(2) حكاه عن الإسكافي في الرياض 2: 390، التنقيح 4: 243، الإرشاد 2: 165،
الإيضاح 4: 315.
(3) انظر الرياض 2: 390.
210

الشهود من أخلاط الناس لا يعرفون، ولا قبيلة لهما ولا سوق ولا دار، أقبل
على المدعى عليه وقال: ما تقول فيهما؟ فإن قال: ما عرفت إلا خيرا غير
أنهما قد غلطا فيما شهدا علي، أنفذ عليه شهادتهما، وإن جرح عليهما
وطعن في شهادتهما أصلح بين الخصم وخصمه، أو حلف المدعى عليه،
وقطع الخصومة بينهما (صلى الله عليه وآله) " (1).
وكون قوله: " ما عرفت إلا خيرا " أعم من التعديل - لشموله لصورة
عدم معاشرة معهما إلا في أيام قلائل جدا، ومثله لا يفيد إجماعا - غير
ضائر، لأن خروج بعض صور المطلق بدليل لا يضر في الباقي، ويختص
القبول حينئذ بحق ذلك الشخص المعدل، فلا يثبت تعديله في حق غيره.
وهل يختص في حق ذلك الشخص بهذه الواقعة المخصوصة، أو
يتعدى إلى غيرها أيضا؟
الظاهر: الثاني (2)، اقتصارا فيما يخالف الأصل على مورد النص.
ولا يشترط في بيان المدعى عليه لفظ الرواية - أي " ما عرفت إلا
خيرا " - بل يكفي: ما عرفته إلا عدلا، أو هو عادل - بعد كونه عارفا بمعنى
العدالة - أو ذكر ما يفيد معنى العدالة، للإجماع المركب.
وكذا لو ضم معه ذنبا لا ينافي العدالة، كأن يقول: ما عرفت إلا خيرا
إلا أنه قد لا يرد السلام، أو: لم يرد سلامي، أو: رأيته يسمع الغيبة نادرا،
لما ذكر من الإجماع المركب.

(1) تفسير العسكري ((عليه السلام)): 673 / 376، الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى ب 6 ح 1، بتفاوت يسير.
(2) كذا، ولعل الصحيح: الأول. أو أن في الكلام سقطا من قبيل: والأحوط الأول
اقتصارا...
211

ولو قال: ما عرفته إلا صدوقا، أو: هو صادق، أو: ثقة، أو: خير، إلا
أنه قد غلط هنا أو نحوه - مما لا يفيد العدالة ولا يطابق الرواية - لا يفيد،
لعدم ثبوت الإجماع المركب فيه.
ولا يقبل اعتراف وكيل المدعى عليه أو وليه بالعدالة، للأصل،
وظهور المدعى عليه في الرواية في الخصم نفسه.. ولا يوجب عدم سماع
الدعوى منهما أيضا، لما ذكر.
نعم، يكون كل منهما شاهدا واحدا على التعديل إن كان مقبول
الشهادة.
ثم إن قبول تعديل المدعى عليه إنما هو إذا لم يعرفهما الحاكم
بالفسق - كما هو مورد الرواية - وإلا فيرد شهادتهما البتة، للأصل.
ولو جرحهما المدعى عليه - بما هو فسق عنده لا عند الحاكم،
لاختلاف مذهبهما فيه - فلا يضر أيضا، لما ذكر، ولخروجه عن مورد
الرواية.
ولو جرح المدعي شاهدي نفسه - إما للجهل بأنه جرح، أو بأن
الجرح يرد الشهادة، أو لبيان الواقع، كأن يقول: لي شاهدان إن فلان وفلان
وإن كانا فاسقين، أو غير مقبولي الشهادة - فعلى تمامية الاستدلال بكونه
إقرارا على نفسه ترد شهادتهما، وعلى عدم تماميته - كما هو الوجه - فلا،
لخروجه عن مورد الرواية، وعدم ثبوت الجرح بقوله فقط، فلو عرف
الحاكم عدالتهما له الحكم بها.
المسألة الرابعة: يعتبر في كل من المعدل والجارح - مع ما يعتبر في
الشاهدين من العدالة والتعدد وعدم التهمة - أن يعرف شرائط الجرح
والتعديل وأسبابهما، ووجهه ظاهر.
212

وقالوا: يعتبر في المزكي المعاشرة الباطنية المتقادمة (1)، المخبرة عن
باطن حاله، بحيث يعلم وجود العدالة (2).
قيل: والظاهر كفاية الظن.
وقد عرفت جلية الحال في ذلك، وأن المناط: علم المزكي بحسن
الظاهر الذي جعله الشارع مناطا، وهو يحصل بالمعاشرة والاستفاضة من
غير صعوبة، ولا دليل على الاكتفاء بالظن، ولا على اشتراط المعاشرة
المخبرة عن الباطن، ولا العلم الواقعي بوجود صفة العدالة.
نعم، لو أردنا معرفة نفس العدالة من غير توسيط حسن الظاهر ينبغي
اعتبار المعاشرة المخبرة عن الباطن، والاكتفاء فيها بمرتبة من الظن لصعوبة
العلم بالباطن.
وعلى أي حال، فلا تعتبر المعاشرة في الجارح، إذ الجارح يكفيه
الاطلاع على موجب للفسق بالرؤية أو السماع على وجه يوجب العلم
بالفسق.
المسألة الخامسة: المشهور بين الأصحاب - كما صرح به جماعة (3) -
كفاية الإطلاق في شهادة التعديل، دون الجرح، فيشترط في سماعه
التفصيل.
استنادا إلى أن التعديل بذكر السبب يتوقف على ذكر جميع أسبابه،
وهي كثيرة يعسر ضبطها وعدها، فلو توقف على التفصيل لا نسد باب

(1) في " ق ": المتقاربة....
(2) انظر القواعد 2: 205، والتحرير 2: 184، والدروس 2: 80.
(3) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 363، والسبزواري في الكفاية: 264،
وصاحب الرياض 2: 392.
213

التعديل إلا نادرا، وهو خلاف المعلوم من سيرة الأصحاب، لكثرة وقوع
التعديل منهم وعندهم، بل أصل التفصيل فيه خلاف المعلوم من سيرتهم.
بخلاف الجرح، فإنه يثبت بسبب واحد.
والحاصل: أن مقتضى الأصل التوقف على التفصيل فيهما، لما في
أسبابهما من الاختلاف، خرج عنه في التعديل بالدليل، وبقي في الجرح..
وهذا مراد من استدل في الأول بالتعسر، وفي الثاني بأن الخطأ في مبنى
الجرح - لوقوع الاختلاف في أسبابه - محتمل.
ومما ذكرنا ظهر ضعف ما يرد به الثاني من اشتراك سبب الاختلاف،
لوجوب التفصيل.
وأما جعل احتمال الخطأ سندا ثانيا للتفصيل - كبعضهم (1) - فظاهر
الوهن جدا، لظهور الاشتراك.
ثم إنه يرد عليهم: أنه إن أريد أن نفس التعسر يوجب رفع اليد عن
التفصيل..
ففساده ظاهر، إذ بتعسر وجود الشرط لا يجوز الحكم بوجود
المشروط بدونه.
وإن أريد أن سيرة الأصحاب وإجماعهم دلا على كفاية الإطلاق على
النحو الذي أشرنا إليه..
ففيه: أنه إن أريد أن الثابت من تعسر التفصيل في التعديل وندرته
جريان سيرتهم على قبول الإطلاق فيه مطلقا - يعني حتى من الجاهل
بالأسباب، أو من لم يعلم حاله، وحتى من غير من يعلم موافقته مع

(1) انظر الرياض 2: 392.
214

المعدل له - فممنوع.
وإن أريد في الجملة فغير مفيد.
وأيضا إن أريد جريانها على الاكتفاء بمطلق التعديل - من غير تفصيل
أصلا - فممنوع.
وإن أريد جريانها على عدم التوقف على ذكر جميع تفاصيل
الأسباب، فغير مفيد لهم، فلعلهم يكتفون بالميسور من التفصيل، كقول
المعدل: فلان مجتنب عن الكبائر غير مصر على الصغائر، أو أزيد من ذلك
مما يخبر عن حسن الظاهر، وإن لم يفصلوا في تعداد الكبائر والصغائر
ومعنى الإصرار ونحو ذلك.
وعن الفاضل القول بعكس المشهور (1)، فيوجب التفصيل في التعديل
دون الجرح، ولعله لكون العلم بالفسق سهلا لكل أحد، لحصوله بفعل
واحد، فالخطأ فيه نادر لا يلتفت إليه، بخلاف التعديل.
وفيه: أن العلم بالفسق وإن كان أسهل من التعديل ولكنه أيضا محل
اختلاف كثير، للاختلاف في عدد الكبائر وفي معنى الإصرار، ولإمكان
الخطأ في سبب ارتكاب ما يزعمه فسقا، لجواز وجود عذر فيه.
وعن بعضهم: كفاية الإطلاق فيهما (2)، لأجل أن العادل لا يخبر عن
وجود أمر منوط بأسباب مختلف فيها إلا مع العلم بوجود المتفق عليه، أو
ما هو مناط عند المخبر له.
وفيه: أنه يصح بالنسبة إلى العالم بالاختلاف في جميع الأسباب،
والبعيد عن الخطأ والاشتباه في درك المناط.

(1) انظر المختلف: 706.
(2) حكاه عن الخلاف في الشرائع 4: 77.
215

وعن آخر التفصيل بكفاية الإطلاق عن العالم بالأسباب دون غيره (1)،
ووجهه ظاهر.
وفيه: أن مجرد العلم بالأسباب دون العلم بالاختلاف فيها غير كاف،
لجواز بنائه على ما علمه أسبابا من غير اطلاع على الخلاف فيه.
وذهب جماعة - منهم: والدي العلامة طاب ثراه في المعتمد، وبعض
مشايخنا المعاصرين (2) - إلى كفاية الإطلاق إن علم المزكي والجارح
بالأسباب وموافقة مذهبه للحاكم في أسبابهما - تقليدا له أو اجتهادا - وعدم
الكفاية في غيره، لأن مثله لا يشهد على الإطلاق إلا مع ثبوت الموجب عند
الحاكم، وإلا لم يكن عادلا.
وفيه: أن العدالة إن كانت مانعة عن الشهادة على الإطلاق إلا مع
ثبوت الموجب لكانت كذلك مع العلم بالأسباب والخلاف فيها أيضا، وإن
لم يكن مذهبه موافقا لمذهب الحاكم، وإلا لم يفد مع الموافقة أيضا.
وبالجملة: لا يظهر لاشتراط الموافقة وجه.
نعم، لو قيل: يشترط في كفاية الإطلاق علمه بالأسباب والاختلاف،
أو موافقته للحاكم في العدالة والجرح، لكان صحيحا.
ومنه يظهر ضعف قول آخر محكي عن الإسكافي من اعتبار التفصيل
فيهما (3)، للاختلاف المذكور، فإن الكلام فيمن يعرف طريقتهما، فإن
لم يقبل قوله بعدالته كيف يقبل قوله في التفصيل؟!
فالأقوى كفاية الإطلاق من العالم بالأسباب وبالاختلاف فيها، أو من

(1) حكاه عن العلامة في كشف اللثام 2: 332.
(2) انظر الرياض 2: 392.
(3) حكاه عنه في المختلف: 706.
216

الموافق للحاكم ولو بالتقليد، وعدم كفايته من غيرهما.
ثم في الأخير أيضا يختلف القدر المحتاج إليه من التفصيل بالنسبة
إلى الأشخاص، فمنهم من يعلم أنه يعرف الواجبات والمحرمات، وإن
لم يعلم أنه يعرف الكبائر من الصغائر، والإصرار من عدمه، فلو قال:
عاشرت معه مدة طويلة واطلعت على بواطنه، ورأيته مواظبا على جميع
الواجبات تاركا للمحرمات، لكفى.
ومثل ذلك لو قال: رأيته مجتنبا عن الكبائر غير مصر على الصغائر،
لم يكف.
ومن علم معرفته الكبائر والإصرار، والاختلاف فيها، أو علم موافقته
للحاكم فيها، يكفي ذلك عنه، وهكذا في غير ذلك.
هذا، واعلم أنه لا فرق فيما ذكر بين القول بكفاية الشهادة العلمية أو
اشتراط كونها مستندة إلى الحس، إلا أنه على الأخير يزاد الاستناد إلى
الحس، فعلى كفاية الإطلاق يقول: عاشرت معه مدة كذا فرأيته عدلا، أو
حسن الظاهر.. وعلى كفاية العلمية يقول: هو عدل، أو حسن الظاهر.
ثم إنه حيث يكتفى في التعديل بالإطلاق - إما مطلقا كما هو
المشهور، أو على أحد التفاصيل المتقدمة - فهو يحصل بكل ما يفيد
التعديل، كقوله: هو عدل، أو: مقبول الشهادة، أو نحوهما، ولا يحتاج إلى
ضم غيره، وفاقا لوالدي العلامة (رحمه الله) والمحقق الأردبيلي، للأصل.
وظاهر بعضهم - كالشيخ في المبسوط (1) - اعتبار لفظ " عدل ".
ويحتمل أن يكون المراد ما يفيد معناه، فيتحد مع الأول.

(1) المبسوط 8: 110.
217

وفي التحرير: اعتبار ضم أحد الأمرين من قوله: لي وعلي، أو:
مقبول الشهادة، إلى قوله: هو عدل (1).
وحكاه في المسالك عن أكثر المتأخرين، واحتج له بأن العدل قد
لا تقبل شهادته لغفلته (2).
وفيه: أن المقام مقام التعديل دون قبول الشهادة، فقد يكون شريكا
للمدعي أو عدوا له، وعلى هذا فقد يكون ضم " لي وعلي " مخلا، إذ قد
يكون عدلا ولا تقبل شهادته للمزكي لشركة أو عداوة.
ومن ذلك تظهر سائر الأقوال في المقام أيضا من غير اعتبار ضم
" لي وعلي " خاصة أو " مقبول الشهادة " كذلك.
ثم إنه لو بين سبب الجرح بما يكون قذفا في غير محل التزكية
لا يكون قاذفا هنا، كما صرح به في التحرير والقواعد والدروس (3)، لمحل
الحاجة وإذن الشريعة.
المسألة السادسة: إذا تعارض الجرح والتعديل، فإن لم يتكاذبا
- كأن شهد المزكي بالعدالة مطلقا أو مفصلا، لكن من غير ضبط وقت
معين، وشهد الجارح بأنه فعل ما يوجب الجرح في وقت معين - قدم
الجرح، لحصول الشهادتين من غير تعارض بينهما أصلا.
ومنه ما إذا كانا مطلقين.
وإن تكاذبا - بأن شهد المعدل: بأنه كان في ذلك الوقت الذي شهد الجارح
بفعل المعصية فيه في غير المكان الذي عينه للمعصية - فالوجه التوقف،

(1) التحرير 2: 184.
(2) المسالك 2: 363.
(3) التحرير 2: 184، القواعد 2: 206، الدروس 2: 80.
218

كما ذهب إليه الشيخ في الخلاف (1)، ومرجعه إلى التساقط.. ورجوع
الدعوى إلى الخلو عن البينة فدليله ظاهر.
وقد يصار إلى الترجيح بالأكثرية والأعدلية والأضبطية. ولا أرى عليه
دليلا.
والقول بالقرعة كان ممكنا لو كان بها قائل، لكونها لكل أمر مشكل،
ولبعض أخبار تعارض الشهود المتضمن للقرعة، إلا أنه متضمن لليمين
المنتفية هنا إجماعا.
وقد يرجح التعديل فيما إذا شهد المعدل بالتوبة عن الجرح الذي
شهد به الجارح.
وفي المسألة أقوال أخر موهونة، ذكرناها في مناهج الأحكام.
المسألة السابعة: لا تجوز شهادة المزكي والجارح بهما على سبيل
الإطلاق بشهادة العدلين عندهما وإن كانت حجة، لأنها ظاهرة في العلم
الواقعي، وهو لا يحصل بقول العدلين.
وعلى اشتراط كون الشهادة حسية يكون الوجه أظهر.
وعليه يظهر عدم جواز الإطلاق باستصحاب العدالة، بل يشترط بيان
حقيقة الحال.
المسألة الثامنة: قالوا: ينبغي أن يكون السؤال عن التزكية سرا، لأنه
أقرب إلى صدق المعدل والجارح، وأبعد من التهمة.
قال في التحرير: لجواز أن يتوسل الشاهد إلى الاستمالة والتعرف إلى
المزكي بحسن الحال (2).

(1) الخلاف 2: 592.
(2) التحرير 2: 184.
219

مضافا إلى إمكان حياء المزكي عن بيان ما عنده من الجرح.
أقول: هذا إنما يفيد إذا كان المراد من السر خفاء الشاهدين، وقال
والدي العلامة (رحمه الله): لا بمحضر من الناس. ومقتضاه الخفاء عن الناس،
ويدل عليه أنه ربما كان عند المزكي الجرح، ولا دليل على جواز إظهاره
عند غير الحاكم، لأنه من الغيبة المحرمة.
وأما الاستخفاء عن المتداعيين فلم أقف على مصرح به، ولا دليل
على رجحانه، بل قد يرجح خلافه، لأنه أبعد من اتهام الحاكم.
وقد يحمل على ذلك ما قال في التحرير - من قوله: وإذا عدله
المزكون فللقاضي التوقف إذا انفرد بتسامع الفسق، لأنه محل الريبة (1) -
بحمل التعديل على بيان الحال ولو كان فسقا، وحمل التوقف على التوقف
حين (2) يسمعه المتداعيان.
وهو خلاف الظاهر جدا، بل الظاهر أن مراده: أنه إذا شهد المزكون
بعدالته، وعلم الحاكم بالفسق، فله أن يتوقف عن الحكم احترازا عن
الريبة.
وفيه: أن التوقف حينئذ أيضا محل الريبة، فلا يفيد، بل له الحكم
بمقتضى علمه - كما في سائر معلوماته - إذا لم تكن مفسدة في الريبة.
المسألة التاسعة: قيل: ينبغي للقاضي أن يعرف المزكي الخصمين
لتجويز معرفته بعداوة بينهما أو شركة (3).
وفيه: أن الكلام في الجرح والتعديل دون غيرهما.

(1) التحرير 2: 184.
(2) في " ح ": حتى...
(3) انظر التحرير 2: 184.
220

ومنه يعلم عدم الحاجة إلى تعريفه نسب الشاهدين أيضا، كما ذكره
في الدروس (1) وغيره (2).
المسألة العاشرة: إذا ثبتت عدالة الشاهد عند الحاكم يحكم
بالاستمرار عليها إلى أن يظهر المنافي، للاستصحاب الذي هو - كالشاهدين -
حجة شرعية.
ومنه يظهر أنه لو علم العدالة السابقة ولم يظهر لها مزيل يستصحبها
من غير حاجة إلى المزكي، وكذا الجرح، إلا إذا ادعى الخصم خلافه،
وحينئذ فإن أثبته فهو، وإلا فيعمل بمقتضى الاستصحاب، ولو ادعى حينئذ
على خصمه العلم بالخلاف فله إحلافه كما مر.
وقيل: إنما يعمل بالاستصحاب إذا لم تمض مدة يمكن تغير حاله
فيها، وإلا جدد البحث، ولا تقدير لتلك المدة، بل بحسب ما يراه
الحاكم (3). وليس بجيد.
المسألة الحادية عشرة: قال في التحرير والقواعد: لو أقام المدعى
عليه بينة أن هذين الشاهدين شهدا بهذا الحق عند حاكم فرد شهادتهما
بفسقهما، بطلت شهادتهما (4).
أقول: إن رد الشهادة إما يكون مع الحكم للمشهود عليه أو بدونه،
بل ترد الشهادة ويكتفى به، ولا يحكم في الواقعة.
وعلى الأخير: إما يكون الرد للفسق بعد دعوى المشهود عليه فسقهما

(1) الدروس 2: 79.
(2) انظر كشف اللثام 2: 332.
(3) حكاه عن بعض في المبسوط 8: 112.
(4) التحرير 2: 184، القواعد 2: 206.
221

وحكم الحاكم به لعلمه أو شهادة العدلين أو الاستفاضة العلمية، أو بدون
سبق دعوى.
فعلى الأول: فلا شك في بطلان الشهادة، بل عدم جواز سماع
الشهادة للترافع، إذ لا يجوز سماع دعوى حكم فيها حاكم آخر.
وعلى الثاني: فكذلك أيضا، لأن دعوى المشهود عليه فسق
الشاهدين - لهذه الواقعة - دعوى شرعية رفعها إلى الحاكم - وإن كانت
لأجل أمر آخر - وحكم الحاكم بثبوت دعواه، لأن رد الشهادة هو الحكم
بالثبوت، فيجب إمضاؤه.
وعلى الثالث: فلا وجه لبطلان الشهادة.
وجعل إنكار المدعى عليه دعوى - لفسق الشهود - ممنوع، إذ قد
يصرح بعدالتهما ولا يقبله الحاكم، لعلمه بالفسق، أو عدم قبوله تعديل
المدعى عليه، وقد يصرح بعدم العلم بحالهما.
ولا يحضرني حينئذ وجه آخر لبطلان الشهادة، لأن الثابت عند
مجتهد إن كان من قبيل الفتاوى ليس حجة على غيره وغير مقلديه، وإن
كان من غيرها فليس حجة على أحد إلا ما كان حكما بعد التنازع والترافع،
فيكون حجة في تلك الواقعة خاصة.
وعلى هذا، فلو حكم بالفسق في الصورتين الأوليين أيضا يكون
مخصوصا بهذا الحق من هذا المدعى على ذلك المدعى عليه خاصة،
ولا يتعدى إلى غير ذلك المورد.
وكذا التعديل عند حاكم آخر.
المسألة الثانية عشرة: لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بشهادة
فاسق أو فاسقين لم يصح، والوجه ظاهر.
222

وكذا إن رضي بالحكم بالتعديل بخط المزكي، لأنه ليس بمقبول ولو
شهد عدلان بأنه خطه أو عرفه الحاكم.
السادس من شروط الشاهد: أن لا يكون متهما (1).
بلا خلاف يوجد - كما قيل (2) - بل بالإجماع كما في المسالك
والمفاتيح وشرحه (3) وغيرها (4)، للنصوص المستفيضة المعتضدة بالاعتبار،
كالصحاح الأربع.
أحدها لابن سنان: ما يرد من الشهود؟ قال: فقال: " الظنين
والمتهم " قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: " ذلك يدخل في الظنين " (5).
وثانيهما لسليمان بن خالد (6)، وهي كالأولى، إلا أن فيها: " والخصم "
مكان: " والمتهم ".
وثالثها ورابعها لأبي بصير (7) وعبيد الله الحلبي (8)، وهما أيضا
كالأولى، إلا أن زاد فيهما: " والخصم " بعد: " المتهم ".
وموثقة سماعة: عما يرد من الشهود، فقال: " المريب، والخصم،

(1) وقد تقدمت خمسة منها، وهي: البلوغ، كمال العقل، الإسلام، الإيمان،
العدالة.
(2) انظر الرياض 2: 432.
(3) المسالك 2: 405، المفاتيح 3: 278.
(4) انظر الكفاية: 281.
(5) الكافي 7: 395 / 1، التهذيب 6: 242 / 601، الوسائل 27: 373 أبواب
الشهادات ب 30 ح 1.
(6) الكافي 7: 395 / 2، التهذيب 6: 242 / 602، الوسائل 27: 373 أبواب
الشهادات ب 30 ح 2.
(7) الكافي 7: 395 / 3، التهذيب 6: 242 / 598، الوسائل 27: 373 أبواب
الشهادات ب 30 ح 3.
(8) الفقيه 3: 25 / 66، الوسائل 27: 374 أبواب الشهادات ب 30 ح 5.
223

والشريك، ودافع مغرم، والأجير، والعبد، والتابع والمتهم، كل هؤلاء ترد
شهادتهم " (1)، وقريبة منها مرسلة الفقيه (2).
ورواية يحيى بن خالد الصيرفي: في رجل مات وله أم ولد قد جعل
لها سيدها شيئا في حياته، ثم مات، فكتب (عليه السلام): " لها ما أثابها به سيدها
في حياته معروف ذلك لها، تقبل على ذلك شهادة الرجل والمرأة والخدم
غير المتهمين " (3).
ورواية سلمة، وفيها: " إن المسلمين عدول بعضهم على بعض، إلا
مجلودا في حد لم يتب منه، أو معروفا بشهادة زور، أو ظنينا " (4).
والمروي في معاني الأخبار: " لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة،
ولا ذي غمز على أخيه، ولا ظنين في ولاء، ولا قرابة، ولا القانع مع أهل
البيت " (5).
والرضوي: " واعلم أنه لا تجوز شهادة شارب الخمر، ولا اللاعب
بالشطرنج والنرد، ولا مقامر، ولا تابع لمتبوع، ولا أجير لصاحبه، ولا مرأة
لزوجها " (6).
وموثقة محمد: " رد رسول الله (صلى الله عليه وآله) شهادة السائل الذي يسأل في

(1) التهذيب 6: 242 / 599، الإستبصار 3: 14 / 38، الوسائل 27: 378 أبواب
الشهادات ب 32 ح 3.
(2) الفقيه 3: 25 / 67، الوسائل 27: 379 أبواب الشهادات ب 32 ح 7.
(3) الفقيه 3: 32 / 99، الوسائل 27: 364 أبواب الشهادات ب 24 ح 47.
(4) الكافي 7: 412 / 1، التهذيب 6: 225 / 541، الوسائل 27: 211 أبواب آداب
القاضي ب 1 ح 1.
(5) معاني الأخبار: 208 / 3، الوسائل 27: 379 أبواب الشهادات ب 32 ح 8.
(6) فقه الرضا " ع ": 260، مستدرك الوسائل 17: 435 أبواب الشهادات ب 27 ح 1.
224

كفه "، قال أبو جعفر (عليه السلام): " لأنه لا يؤمن على الشهادة، وذلك لأنه إن
أعطي رضي، وإن منع سخط " (1).
دلت بعموم العلة على عدم قبول شهادة المتهم مطلقا.
ثم معنى الظنين: هو المتهم، من الظنة، بمعنى التهمة. قال في
الصحاح: الظنين: الرجل المتهم (2). فيكون عطف المتهم عليه في بعض ما
مر من الروايات عطفا تفسيريا.
ولا ينافيه تصريح الإمام بدخول الفاسق والخائن في الظنين،
لدخولهما في المتهم أيضا.
وقد يقال: إن المراد بالظنين المتهم في دينه، ذكره في الوافي (3).
وعلى هذا، فإن أريد بالمتهم الإطلاق يكون من باب عطف العام
على الخاص.
وإن كان المراد منه المتهم في هذه الشهادة بخصوصها يكون عطفا
متعارفيا.
ويمكن أن يكون المراد بالظنين: المتهم مطلقا، وبالمتهم: المتهم في
هذه الشهادة، فيكون من باب عطف الخاص على العام.
وكيف كان، فلا ريب في دلالة هذه الأخبار على رد شهادة المتهم في
هذه الشهادة، كما هو المقصود عن المسألة.
والمراد في المسألة بالمتهم: من تكون معه حالة موهمة لكذبه - أي

(1) الكافي 7: 396 / 13، التهذيب 6: 243 / 608، الوسائل 27: 382 أبواب
الشهادات ب 35 ح 2.
(2) الصحاح 6: 2160.
(3) الوافي 16: 995.
225

توجب ظن ميله في الشهادة وكذبه فيها - سواء كانت هذه الحالة موجبة
لظن الكذب مطلقا - ككونه معروفا بالكذب، أو بشهادة الزور، أو بالارتشاء
للشهادة، أو بالرضا بالعطاء والسخط بالمنع، كما ذكره في السائل بالكف -
أو لظن كذبه لشخص خاص، أو على شخص خاص، لصداقة أو عداوة،
أو في واقعة خاصة، لرجوع النفع أو الضرر فيها عليه.
وليس المراد كون الحالة صالحة لإيجاب ظن الميل ولو لم توجبه
بالفعل لمعارضة حالة أخرى، كصديق له المرتبة العليا من التدين والعدالة،
فإن الصداقة وإن كانت معرضا لذلك الظن ولكن عدالته وديانته مانعة عن
هذا التوهم والظن، إذ مع ذلك ليس متهما لغة ولا عرفا.. بل المراد كونها
موجبة لذلك الظن بالفعل.
ثم لا يتوهم أن كون الشخص كذلك ينافي كونه عادلا، لأن شهادة
الزور والميل في الشهادة من المعاصي الكبيرة، فلا يجتمع ظنها في حق
شخص مع معرفة عدالته، التي هي العلم باجتناب الكبائر، أو الظن به
لا أقل.
إذ لو كان ذلك منافيا له لزم رد شهادة عادل جرحه فاسق، أو عادل
واحد لو حصل الظن بقوله، أو عدلان بالمظنة - أي أخبرا بظن جرح فيه -
إذا أوجب ذلك ظن الجرح، أو مضت مدة وحصلت أمور لم يعلم انتفاء
العدالة أم لا، مع أن كل ذلك مخالف للإجماع المقطوع به.
والحل: أن ذلك الظن وإن كان منافيا لمعرفة العدالة الواقعية ولكنه
غير مناف لمعرفة العدالة الشرعية، التي هي مناط قبول الشهادة، لأن الشارع
أقام استصحاب العدالة مقام العلم بها واقعا، وأمر بعدم نقض العلم بها
بالشك ولا بالظن، فمثل ذلك الشخص عادل شرعا.
226

فإن قيل: لو عرف أولا أنه بحيث لو كان في مقام جر نفع أو دفع ضر
أو عداوة أو صداقة أو نحو ذلك لا يميل في الشهادة فكيف اتهمه بذلك
حينئذ وظن الميل؟! وإن لم يعرفه كذلك، أو عرفه أنه لو كان كذلك يظن
به الميل فلم يعرفه بالعدالة أولا، فكيف يستصحب؟! كما إذا لم يعرفه أولا
بأنه إذا خلى مع أجنبية حسناء لا يزني بها، أو عرفه أنه لو حصلت له تلك
الخلوة يظن به الزنا.
قلنا: نقول: إنه عرفه أنه لو كان في مقام النفع أو دفع الضر أو
نحوهما لا يشهد لو كان مخالفا للواقع، واتفق أنه شهد وظن به مخالفة
الواقع، كما أن من عرفناه بالعدالة نعرفه أنه لا يزني ولا يرتكبه البتة، فاتفق
إنا رأيناه في خلوة مع أجنبية ذات جمال وبهاء، معروفة بعدم العفة،
محلول الإزار، فنحن نظن به الزنا، ولا ينافي ذلك علمنا بعدالته أولا..
فكذا هنا، قد نعرفه أولا أنه لا يشهد بخلاف الواقع، فاتفق أنه شهد وظننا
به خلاف الواقع، وذلك لا ينافي معرفة العدالة أولا، كما لا ينافيها في
المثال المذكور.
ولا يقال: إنه إن عرفته أنه لو خلا مع المرأة الكذائية وحلا إزارهما
يظن أنه يزني فلم تعرف عدالته، وإن لم يظن فكيف ظننته بعد
المشاهدة؟!
وظهر من ذلك معارضة تلك الأخبار الواردة لشهادة المتهم مع أخبار
قبول شهادة العادل بالعموم والخصوص من وجه، وحيث لا مرجح
لأحدهما على الآخر فيجب الرجوع إلى حكم الأصول، وهو هنا مع عدم
القبول مطلقا.
لا يقال: بعد تعارض الفريقين تبقى عمومات قبول شهادة المسلم،
227

ومن ولد على الفطرة، والرجل الواحد مع اليمين، ونحوها، بلا معارض،
فيكون الأصل مع القبول.
قلنا: تعارض أخبار رد شهادة المتهم مع هذه الأخبار أيضا،
وتعارضهما مع التعارض الأول في مرتبة واحدة، فيرجع إلى الأصل الأولي،
كما بيناه مفصلا في العوائد.
إلا أنه يمكن منع عدم المرجح، بل الترجيح لعمومات قبول شهادة
العدل، لموافقة الكتاب، نحو قوله سبحانه: * (وأشهدوا ذوي عدل) * (1).
بل شهادة مطلق المسلم، لقوله سبحانه: * (واستشهدوا شهيدين من
رجالكم) * (2).
وقوله عز شأنه: * (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا
فأمسكوهن في البيوت) * (3)، وغير ذلك.
وهي من أعظم المرجحات المنصوصة.
بل بالأحدثية، التي هي أيضا من المرجحات المنصوصة المعتنى بها
عند القدماء أيضا، فإن من أخبار القبول ما روي عن العسكري (عليه السلام) (4).
وبالأكثرية عددا، التي مرجعها إلى الأشهرية رواية، وهي أيضا من
المرجحات المنصوصة، فإن روايات قبول خبر العدل والخير والصالح
والمرضي والمسلم ونحوها مما تجاوز حد الحصر، وليست روايات رد
شهادة المتهم بالنسبة إليها إلا أقل من نصف عشر، بل أقل.

(1) الطلاق: 2.
(2) البقرة: 282.
(3) النساء: 15.
(4) انظر تفسير العسكري ((عليه السلام)): 656 / 374.
228

وبالأصرحية دلالة، فإن صراحة روايات القبول واضحة غاية
الوضوح، وليست روايات الرد بتلك المثابة، فإن منها ما اقتصر فيه على
الظنين، وفسره الصدوق في معاني الأخبار بالمتهم في دينه (1)، وكذا
صاحب الوافي (2)، وهذا المعنى غير مراد في هذه المسألة، وخصه في
رواية معاني الأخبار بالظنين في الولاء والقرابة (3)، وفسره الصدوق بالمتهم
بالدعاء إلى غير أبيه والمتولي لغير مواليه (4)، وهو أيضا غير المطلوب هنا.
ومنها ما صرح فيه بالمتهم، وفيه إجمال من وجوه:
الأول: من جهة المعنى، فإن المراد منه يمكن أن يكون من أوهم في
حقه بشئ قبيح وإن لم يظن، كما هو مقتضى مبدأ الاشتقاق.
وأن يكون من نسب إليه بشئ قبيح - وهو محل استعماله في الأكثر
عرفا - وإن لم يقطع، بل ولم يظن في حقه.
وأن يكون ما ذكرنا سابقا من أنه من كانت له حالة يظن لأجلها قبيح.
والثاني: من جهة ما اتهم به وفيه، فإنه يمكن أن يكون الدين
والفسق والمعاصي الخاصة والكذب والشهادة وخصوص هذه الشهادة.
وقيل: المراد هنا من اتهم لجر نفع لنفسه أو دفع ضرر منه.
والثالث: من جهة من اتهم عنده، فإن شخصا قد يكون متهما عند
شخص دون غيره، ويصدق عليه المتهم، وليس المراد هنا إلا المتهم عند
الحاكم بشهادة الزور، أي المظنون كونه مائلا عن الحق في الشهادة.

(1) معاني الأخبار: 209.
(2) راجع ص 223.
(3) الوافي 16: 995.
(4) معاني الأخبار: 209.
229

والحمل على ذلك المعنى لا دليل عليه، بل قد يوجب إخراج الأكثر.
وكذا الحمل على جميع معانيه بجميع احتمالاته يوجب خروج
الأكثر.
ومع ذلك جعل في الموثقة (1) معطوفا على المريب - الذي هو ظاهر
فيما يريدونه هنا - وظاهر العطف التغاير.
هذا، مضافا إلى ما يوهن دلالتها ويوجب إجمالها من جهة عمل
الأصحاب أيضا، حيث إنهم ذكروا أشياء كثيرة في موجبات التهمة،
ولم يردوا بها الشهادة، كشهادة الرجل لزوجته والمرأة لزوجها، والوالد لولده
والولد لوالده، وشهادة الأخ والصديق والأجير والضيف والوارث، وشهادة
رجلين شهدا هما أيضا لهما، مع تصريحهم بأن هذه الأمور موارد للتهمة.
واختلفوا في أشياء كثيرة أيضا - كشهادة الوصي والوكيل ورفقاء
القافلة وغرماء المديون ونحوهما - حتى قال المحقق الأردبيلي: والظاهر أنه
ليس كل متهم مردودا، بل أفراد من المتهم، وليس لهم في رد شهادة
المتهم ضابطة.
وعد مواضع كثيرة تقبل فيها الشهادة، فقال: ولا شك أن التهمة هنا
أيضا موجودة، فقال: وبالجملة: العدالة مانعة من رد الشهادة وسبب
لقبولها، ومجرد التهمة - وأية تهمة كانت - ليست سببا للرد، فإن العدالة
تمنع الخيانة وإن كان له فيها نفع (2). انتهى.
وقال بعض مشايخنا المعاصرين في بيان وجه الاستشكال في غير
محل الإجماع: ينشأ من الاتفاق على كل من ردها بها - يعني رد الشهادة

(1) أي موثقة سماعة المتقدمة في ص 221 و 222.
(2) مجمع الفائدة والبرهان 12: 382، 383.
230

بالتهمة - وقبولها معها مع عدم وضوح الفرق بين المقامين مع اشتراكهما في
أصل التهمة، ولم يذكروا لها ضابطة يرجع إليها في تمييز المانع منها عن
قبول الشهادة والمجامع منها معه (1). انتهى.
وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة: ولا يقدح مطلق التهمة (2).
ونحوه قال الشهيد في الدروس بزيادة دعوى الإجماع عليه، قال:
وليس كل تهمة تدفع بها الشهادة بالإجماع (3). انتهى.
ويظهر من جميع ذلك أنه لا يثبت إجماع بل ولا شهرة على جعلهم
التهمة - من حيث هي هي - مانعة من قبول الشهادة، وأن بناءهم في الرد
والقبول على أمر آخر وراءها.
ويؤكد ذلك ما نرى من أن في كثير من المواقع - التي يقولون بالرد
للتهمة في جميع أفرادها - لا تتحقق التهمة في الجميع، فإن من مواقعها
جار النفع والشريك..
فإنا لو رأينا عادلا متدينا دخلنا معه في حسابها أنه يقر بالمئات
والألوف لمحاسبها - مع ذهول المحاسب عنها - وشاهدناه مرارا كثيرة أنه
يشهد على نفسه بالألف، فشهد لشريك له بدينار أو من من الحنطة فيما له
أيضا فيه الشركة، لا يتهم عندنا بجر النفع أصلا، مع أنهم لا يقبلون
شهادته، ويذكرونه في أفراد الجار للنفع والشريك المردود شهادتهما،
للتهمة.
وكذا الوصي العادل الذي شاهدناه مرارا عديدة أنه رد الوصية إذا اطلع

(1) انظر الرياض 2: 433.
(2) الروضة 3: 132.
(3) الدروس 2: 127.
231

عليها في حياة الموصي ولم يتعرض لها مهما جاز له، وابتلي في موضع
بوصية استئجار صلاة وصيام لميت مع إذنه في التوكيل، فقال الورثة: إنه
عشرون سنة مثلا، وأعطوا ما بإزائها، فوكل الوصي غيره في استئجارها
وأعطى أجرة له من مالها، ثم شهد الوصي بأن الموصى به اثنا وعشرون سنة
مثلا، كيف يكون محلا للتهمة؟!
وكذا فيما لو شهد شريك ببيع شريكه الآخر الشقص (1)، فيقال برده
مطلقا، لأنه لأجل استحقاقه الشفعة محل للتهمة، مع أنه يمكن أن نعلم أنه
كان يباع هذا الشقص لهذا الشريك أمس بأقل من ذلك الثمن ولم يرغب
فيه، ونعلم أنه ليس له ثمنه بحيث لا يحتمل في حقه إرادة الأخذ بالشفعة.
وعدوا من مواضع التهمة: التبرع بالأداء، والحرص على الشهادة.
مع أنا شاهدنا غير مرة أن الأول كان لشغل له يستعجل فيه، أو جهل
بالتوقف على السؤال، أو تعجب في إنكار الخصم.
وكذا الثاني كان لمحض التدين، وإرادة دفع الظلم، ونحو ذلك.
ويظهر من ذلك أيضا أن التهمة ليست أمرا مضبوطا من حيث
المورد، فإنها تختلف باختلاف مراتب عدالة الشاهد وشرفه، وملاحظة
أحواله، وقدر النفع، وبالأمور الخارجية، وباطلاع الحاكم عن حال الشاهد
وعدمه، فرب مورد يوهم الناس ولا يتوهمه الحاكم لمعرفته ببواطن الشاهد
وأحواله، ويستبعد جعل الشارع مثل ذلك مناطا للحكم.
وأيضا من أسباب التهمة: إخبار عادل أو فاسقين بكذب الشاهد في
الواقعة، أو بأخذه الجعل للشهادة، فإنه يتهم حينئذ غالبا ولا ترد شهادته لذلك.

(1) الشقص: النصيب، وفي العين المشتركة من كل شئ، والجمع أشقاص - مجمع
البحرين 4: 173.
232

ويظهر من جميع ذلك أن مبنى عمل الأصحاب في رد الشهادة
بالتهمة وعدمها غير معلوم ولا مضبوط، والظاهر أنهم يردونها غالبا في
مواضع يكون فيها دليل آخر أيضا، بل شذ ما لم يوجد فيه دليل آخر وردوا
بها الشهادة، وهذا يوهن أخبار الرد بها ودلالتها.
ويظهر من الجميع مرجوحية أخبار الرد عن أخبار قبول خبر العدل
بمراتب كثيرة، بل لنا أن نقول: إنه يمكن أن يكون المراد بالمتهم في تلك
الأخبار: مجهول الحال، حيث إن الغالب أن مع ثبوت العدالة لا تحصل
التهمة.
ويمكن أن يكون المراد - ولعله الظاهر - أن المتهم أولا بفعل
المعاصي أو بمعصية مخصوصة أو بالكذب أو بشهادة الزور غير مقبول
الشهادة، لأنه ليس بعادل معروف، لأنه لا يعرف مع ذلك الوصف أولا
بالعدالة، فيكون المراد بيان عدم عدالة المتهم أولا، لا أن يكون يعرف أولا
بالعدالة ثم يتهم حتى تستصحب عدالته.
والحاصل: أن المراد بيان أن من كان متهما ابتداء ليس مقبول الشهادة
- أي ليس عادلا - كما أن المظنون فسقه أو المشكوك أولا ليس بعادل وإن
حكم بعدالته - لو حصل الشك - بعد بالمعرفة.
فإن قيل: في صحيحة العجلي: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينما هو بخيبر
إذ فقدت الأنصار رجلا منهم، فوجدوه قتيلا، فقالت الأنصار: إن فلان
اليهودي قتل صاحبنا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للطالبين: أقيموا رجلين عدلين
من غيركم أقده برمته " الحديث (1).

(1) الكافي 7: 361 / 4، التهذيب 10: 166 / 661، علل الشرائع: 541 / 1،
الوسائل 29: 152 أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب 9 ح 3.
233

وفي صحيحة زرارة: " إن رجلا من الأنصار وجد قتيلا في قليب (1)
من قلب اليهود، فأتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالوا: يا رسول الله، إنا وجدنا
رجلا منا قتيلا في قليب من قلب اليهود، فقال: ائتوني بشاهدين من
غيركم " الحديث (2).
فإن المراد بالشاهدين في الثانية أيضا العدلان، فدلتا على عدم قبول
العدلين منهم. وظاهر أن جميعهم لم يكونوا أولياء الدم، ومع ذلك طلب
العدلين من الغير، وما هو إلا لأجل التهمة، فلم تقبل شهادة العدلين في
مواضع التهمة. والصحيحان لاختصاصهما بالعدلين يكونان أخصين مطلقا
من جميع عمومات القبول وإطلاقاتها، فيجب تخصيصها بهما كما هي
القاعدة.
قلنا أولا: إنهما لم يدلا على عدم قبول العدلين منهم، وطلب العدلين
من غيرهم لا يستلزم رد عدليهم.
وثانيا: أنه لو كان الرد هنا للتهمة لكانت لأجل الصداقة أو العداوة
الدينية أو القرابة أو اتحاد القبيلة، وليس شئ منها ترد به الشهادة إجماعا
ونصا، كما يأتي.
وثالثا: أنه يمكن أن يكون ذلك لأجل كون كلهم أولياء الدم أو كلهم
مدعين، كما يصرح به قوله: " فقال رسول الله للطالبين " غاية الأمر يكون
ادعاء بعضهم ولاية، وبعض آخر وكالة أو تبرعا.

(1) القليب: بئر تحفر فينقلب ترابها قبل أن تطوى، أو: البئر العادية القديمة مطوية كانت أو
غير مطوية - مجمع البحرين 2: 149.
(2) الكافي 7: 361 / 5، التهذيب 10: 166 / 662، الوسائل 29: 155 أبواب
دعوى القتل وما يثبت به ب 10 ح 3.
234

وتلخص مما ذكرنا: أنه لا دليل تاما على اشتراط ذلك الشرط،
والإجماعات المنقولة غير ثابتة، وإرادته في الجملة منها ممكنة، بل كما
عرفت متعينة، ولو سلم الإطلاق فهو غير حجة، فالصواب رفع اليد عنه،
والرجوع في الموارد التي ذكروها إلى دليل آخر، فإن وجد سبب موجب
للرد - غير التهمة - من إجماع أو دليل غيره فيجعل عنوان الشرط هو ذلك
المورد بخصوصه، وترد به، وما ليس له سبب آخر والمورد هو سبب
التهمة خاصة قبلت الشهادة، ونفي الاشتراط.
وصرح بذلك المحقق الأردبيلي، قال في مسألة اختفاء الشاهد
للتحمل: ليس مطلق التهمة رادا، وإنما يرد بالتهمة إذا ثبت كونها رادة
بالنص أو الإجماع (1).
إلا أن المتأخرين لما ذكروا جميع تلك الموارد في مطاوي ذلك
العنوان فنحن أيضا نذكرها فيه، ونتكلم فيها في مسائل:
المسألة الأولى: لا تقبل شهادة يجر بها نفع إلى الشاهد
بالإجماع (2)، للأصل الخالي عن المعارض بالمرة، لاختصاص إطلاقات
قبول الشاهد وعموماته - بحكم الإجماع القطعي والتبادر والظهور، بل
النصية في كثير من الأخبار - بالشاهد للغير، حتى في صحيحة ابن
أبي يعفور، حيث قال: حتى تقبل شهادته لهم وعليهم (3)، فتبقى الشهادة
للنفس تحت الأصل.

(1) مجمع الفائدة والبرهان 12: 402.
(2) في نسخة " ق " زيادة: في الجملة.
(3) الفقيه 3: 24 / 65، الإستبصار 3: 12 / 33، الوسائل 27: 391 أبواب الشهادات
ب 41 ح 1.
235

ويدل عليه أيضا نحو قوله في الروايات الكثيرة: عن الرجل يدعي
قبل الرجل الحق فلا تكون له بينة بماله، قال: " فيمين المدعى عليه، فإن
حلف فلا حق له " (1).
ولو كانت شهادته لحقه مقبولة لما توجه الحلف إلى المدعى عليه
ولم يسقط حقه بحلفه، بل يحلف نفسه.
وأصرح من الجميع مرسلة يونس المصرحة بأن: " استخراج الحقوق
بأربعة وجوه " إلى أن قال: " فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدعي، فإن
لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه " (2) حيث نفى كون نفسه شاهدا.
وعلى هذا، فتدل على عدم قبولها - في كل موضع من موارد الشركة
حصلت فيه التهمة أو الريبة أيضا - الروايات المتقدمة، لفراغها عن معارضة
عمومات قبول الشهادة.
بل تدل عليه أيضا الروايات المتقدمة، المصرحة بعدم قبول رواية
الخصم، لأنه حينئذ يكون خصما إذا كان طالبا لنفعه.
بل تدل عليه أيضا - في خصوص العادل - مرسلة أبان: عن شريكين
شهد أحدهما لصاحبه، قال: " تجوز شهادته إلا في شئ له فيه نصيب " (3).
فإن قوله: " تجوز شهادته " يخصصه بالعادل، فهي تعارض جميع
عمومات القبول - لو سلم - بالعموم والخصوص المطلقين، فتخصصها (4)،

(1) الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 7.
(2) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 4.
(3) الفقيه 3: 27 / 78، التهذيب 6: 246 / 623، الإستبصار 3: 15 / 40، الوسائل
27: 370 أبواب الشهادات ب 27 ح 3.
(4) في " ح ": فيخصصهما.
236

وهو يمنع عن كون قبول الشهادة المشتركة بين النفس والغير مطلقا أيضا،
بمعنى أن أصل شهادته ولو في حصة الغير أيضا مردودة.
وآخرها يدل على رد كل شهادة فيما للشاهد فيه نصيب.
ولا يضر اختصاص السؤال بالشريك، إذ بعد رد شهادة شريك
شخص في كل ماله فيه نصيب ترد شهادة غير الشريك أيضا بالإجماع
المركب، بل يمكن دعوى ظهور العمومات أيضا فيما كان مخصوصا
بالغير، فلا يشمل الشهادة المشتركة.
والرضوي: " ولا تجوز شهادة الرجل لشريكه إلا فيما لا يعود نفعه
إليه " (1).
وأما موثقة البصري: عن ثلاثة شركاء ادعى واحد وشهد الاثنان،
قال: " تجوز " (2)..
فمعارضة مع موثقته الأخرى: عن ثلاثة شركاء شهد اثنان على
واحد، قال: " لا تجوز شهادتهما " (3).
مع أنه يجب الجمع بينهما، بحمل الأولى على ما لم يكن له فيه
نصيب، بشهادة المرسلة المذكورة.
وقد ظهر مما ذكر أن المانع عن القبول هو كونها شهادة لنفسه أيضا،
ووجود نصيب له فيه، ويحصل حق له، دون مجرد الاتهام، فلا تقبل ولو
لم تكن ريبة ولا تهمة ولا خصومة للشاهد في حقه أيضا.

(1) فقه الرضا " (عليه السلام) ": 261، مستدرك الوسائل 17: 430 أبواب الشهادات ب 22
ح 5 ذ ح.
(2) التهذيب 6: 246 / 622، الإستبصار 3: 15 / 39، الوسائل 27: 370 أبواب
الشهادات ب 27 ح 4.
(3) الكافي 7: 394 / 1، الوسائل 27: 369 أبواب الشهادات ب 27 ح 1.
237

ثم الشهادة الجارة للنفع المردودة أعم من أن يكون النفع ثبوت عين
له، أو منفعة، أو حق، أو سلطنة بولاية، أو وكالة، أو نحو ذلك، لصدق
الشهادة للنفس في الجميع، وصدق المدعي والخصم لو كان في مقام
مطالبة حقه، وصدق أنه شئ له فيه نصيب، وأنه يعود إليه نفعه مطلقا ولو
لم يدعه ولم يطلبه.
وكذا يعم ما كان دلالة الشهادة على نصيبه بالمطابقة، بأن يشهد على
حقه فقط.
أو بالتضمن، بأن يشهد على ما هو شريك فيه: أنه مغصوب في يد
فلان.
أو بالالتزام، بأن يشهد على شئ لشخص آخر يستلزم ذلك ثبوت
حق له أيضا، كأن يشهد الوصي على دين للموصي، أو أحد الشريكين
على بيع أحدهما شقصه المستلزم لثبوت حق الشفعة له، لصدق العنوان في
الكل، أو يشهد أحد الشريكين للآخر بثبوت ما يدعيه من المال المشترك،
فإنه وإن كان يشهد للغير ولكنه يستلزم ثبوت حق له أيضا.
لا يقال: إنه ثبت حينئذ ما شهد به لغيره دون ما يتعلق بنفسه.
قلنا: يلزم وجود الملزوم بدون اللازم من غير دليل رافع للملازمة.
والحاصل: أنه لو قبلت شهادته فإما تقبل في اللازم والملزوم معا، أو
في الملزوم - أي حق الغير - خاصة، أو لا تقبل في شئ منهما.. والأول
باطل، لما مر، والثاني كذلك، لعدم تخلف اللازم عن الملزوم، فتعين
الثالث.
فإن قيل: لم لا يحكم بانتفاء الملازمة هنا، لعمومات قبول الشهادة
للغير، كما قبلت في حكم الحاكم لشريكه؟
238

قلنا: لأن دليل نفوذ حكم الحاكم على الغير كان يوجب ثبوت الحق
للشريك، والإجماع كان [على] (1) انتفاء ثبوت حقه، وبالأول ثبت الحق
للشريك، وبالثاني تخصص عمومات الملازمة.
ولا دليل هنا على قبول الشهادة للشريك، إذ عرفت ظهور العمومات
في الشهادة المخصوصة بالغير، بل تصريح المرسلة والرضوي بعدم قبول
شهادة العادل فيما له نصيب فيه أو له نفع.
فإن قلت: لم (ما) (2) قلت: إن عمومات الحكم ظاهرة في الحكم
للغير أيضا خاصة؟
قلنا: هي كذلك، والحكم في المورد أيضا مخصوص بالغير، إذ
لا يتحقق حكم إلا مع سبق الدعوى، والمفروض اختصاص الغير بالدعوى
والحكم به.. بخلاف الشهادة، فإنها لا تتوقف على سبق الدعوى، بل هي
مشتركة إذا كان المشهود به مشتركا، مع أن النص - على عدم قبول شهادة
العادل فيما له نصيب - موجود، وليس كذلك الحكم.
ثم إنه تتفرع على تلك المسألة فروع:
منها: رد شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه إذا لم يكن
مقسوما، وتدل عليه - مضافا إلى ما ذكرنا - المرسلة والموثقة المتقدمتان (3)،
وكذا موثقة سماعة المتقدمة (4)، الخالية جميعا عن معارضة عمومات قبول
الشهادة والإطلاقات بالتقريب المتقدم.

(1) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة السياق.
(2) ليست في " ح ".
(3) في ص 234 و 235.
(4) في ص 221.
239

ومنها: رد شهادة صاحب الدين للمعسر المحجور عليه بفلس، إذ لو
قلنا بانتقال المال إلى الغرماء فهو يكون شريكا، وإلا فيكون له حق التسلط
على استيفاء نصيبه منه.
وقال المحقق الأردبيلي فيه وفي سابقه: لعله لا خلاف فيهما (1).
ومنها: شهادة الشريك لبيع الشقص الذي فيه الشفعة، إذ فيه نصيب
حق الشفعة للشاهد ويعود نفعها إليه، ويستلزم ثبوت البيع لثبوت الحق له،
وهو شهادة للنفس والغير، إذ صدق الشهادة لا يتوقف على قصد ذلك
بخصوصه، بل يكفي في صدقها قصد ما يتضمنه أو يستلزمه.
ومنها: شهادة المولى لمملوكه المأذون، لأن ماله للمولى.
ومنها: شهادة الغريم للميت المستوعب دينه تركته، لانتقالها إلى
الغرماء، وأما في غير المستوعب فلا ترد، لعدم نصيب ولا تسلط له فيه.
ومنها: شهادة الوصي في محل تصرفه وولايته، والوكيل لموكله فيما هو
وكيل فيه، لاستلزامها ثبوت حق التسلط بالوصاية والوكالة له، وادعى في
الكفاية شهرة الرد فيهما (2)، بل قيل في الأول: كادت أن تكون إجماعا (3).
ويدل عليه صدر مكاتبة الصفار الصحيحة: هل تقبل شهادة الوصي
للميت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقع (عليه السلام): " إذا شهد معه
آخر عدل فعلى المدعي يمين " (4).
فإنه لو كانت شهادة الوصي مقبولة ما احتاج إلى يمين، والحكم في

(1) مجمع الفائدة والبرهان 12: 384.
(2) كفاية الأحكام: 281.
(3) انظر الرياض 2: 433.
(4) الكافي 7: 394 / 3، الفقيه 3: 43 / 147، التهذيب 6: 247 / 626، الوسائل
27: 371 أبواب الشهادات ب 28 ح 1.
240

صورة الرد أيضا كذلك.
وجعلها المحقق الأردبيلي مؤيدة للقبول (1). ولا وجه له.
وأما ما فيها - بعد ما ذكر -: أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميت
صغير أو كبير بحق له على الميت أو غيره، وهو القابض للوارث الصغير،
وليس للكبير بقابض؟ فوقع (عليه السلام): " نعم، ينبغي للوصي أن يشهد بالحق
ولا يكتم الشهادة " (2)..
فلا يدل إلا على جواز شهادته - ولا شك فيه - لا على قبولها، ولذا
قال: " ينبغي أن يشهد ولا يكتم ".
فإن قلت: لم قلت بالقبول في الحكومة ولا تقول به في الشهادة؟
قلنا: لأن دليل نفوذ الحكم على الغير مطلقا يثبت حق المولى عليه،
والملازمة تثبت تسلط الولي، حيث لا إجماع على عدم سريان الحكم إليه
وعدم حصول التسلط له.
وأما في الشهادة وإن لم يثبت إجماع على عدم السراية ولكن لا دليل
على قبول الشهادة المتضمنة لحق لشاهد أيضا، بل قد عرفت الدليل على
عدمه، فلا يثبت الملزوم حتى تنفع الملازمة.
وحكي عن الإسكافي القبول فيهما (3) ويظهر من التحرير قول الشيخ
به أيضا (4).
وتنظر فيهما في اللمعة والدروس (5) وإن كان ظاهره - بعد النظر -

(1) مجمع الفائدة والبرهان 12: 385.
(2) بتفاوت بين المصادر المذكورة أعلاه.
(3) حكاه عنه في الكفاية: 281، والرياض 2: 433.
(4) التحرير 2: 211.
(5) اللمعة (الروضة البهية 3): 131، الدروس 2: 128.
241

الفتوى بالرد.
ومال إلى القبول فيهما المحقق الأردبيلي، استنادا إلى عمومات قبول
شهادة العدل ومنع التهمة، وأيده بالمكاتبة المتقدمة (1).
وظهر حال الجميع مما ذكرنا.
ومنها: شهادة الوارث لجرح مورثه عند الجرح وإمكان السراية، فإن
الدية تجب له عند الموت، ذكره في التحرير والقواعد وشرح الإرشاد
والدروس والمسالك والكفاية (2)، ودليلهم في ردها هو وجود التهمة، وقد
عرفت حالها، ولا نصيب للشاهد حين الشهادة، فلا تشمله سائر أدلة
المنع.
والعجب أن أكثرهم صرحوا بقبول شهادة شخص لثبوت مال لمورثه
لو كان ميتا، وكان وقت الشهادة مجروحا أو مريضا قبل شهادته، بل زاد في
شرح الإرشاد للأردبيلي: وإن كان تيقن بموته بعد شهادته (3).
واستندوا في القبول إلى أنه إثبات مال لمورثه لا لنفسه، وجر النفع
إليه غير معلوم، لاحتمال أن يموت قبله.
ولا يخفى أنه إن كان المناط التهمة فإن وجدت فيوجد فيهما، وإن
كان غيرها فلا يوجد فيهما، واحتمال تقدم موت الوارث فيهما متحقق.
وما ذكره في شرح الإرشاد - في وجه الفرق - بأن الموجب لانتقال
المال إلى الوارث في الأول الجراحة، وهي تثبت بالشهادة فلا تقبل، وفي

(1) مجمع الفائدة والبرهان 12: 385.
(2) التحرير 2: 209، القواعد 2: 237، مجمع الفائدة 12: 386، الدروس 2:
128، المسالك 2: 405، كفاية الأحكام: 281.
(3) مجمع الفائدة والبرهان 12: 387.
242

الثاني الموت، وهو غير ثابت بالشهادة فتقبل (1).
فهو غريب، لأن سبب الانتقال في الأول أيضا هو الموت دون
الجرح، وإن كان هو سببا للموت، فالأقوى فيهما القبول.
ثم بما ذكرنا تظهر جلية الحال في سائر الفروع التي ترد عليك.
المسألة الثانية: لا تقبل شهادة يدفع بها ضرر عن الشاهد - كشهادة
العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ، وشهادة الوصي والوكيل بجرح شهود رد
المال الذي للوكيل والوصي أخذه - بلا خلاف فيه، وإن وقع الخلاف في
الأخيرين أنه هل هو دفع ضرر أم لا؟ والظاهر أن فيهما أيضا دفع ضرر،
فترد شهادة الجميع، لأنها أيضا شهادة للنفس عرفا، ويجر بها نفعا لنفسه،
فلا تشملها عمومات القبول، فتبقى تحت الأصل.
وتدل على ردها مرسلة أبان (2)، من حيث إن فيه نصيبا للشاهد
أيضا، وموثقة سماعة (3)، من حيث إن في الشهادة دفع مغرم عن نفسه..
ولا تعارضهما العمومات، لعدم شمولها ولا أقل من عدم العلم بشمولها لها.
المسألة الثالثة: قالوا: لا تقبل شهادة ذي العداوة الدنيوية على
عدوه، وتقبل له ولغيره وعليه إذا كانت لا تتضمن فسقا، بلا خلاف فيهما
كما قيل (4)، بل عليهما الإجماع في شرح الإرشاد للمحقق الأردبيلي (5)،
وظاهر الكفاية الإجماع في الأول (6)، والمسالك في الثاني (7).

(1) مجمع الفائدة والبرهان 12: 388.
(2) المتقدمة في ص 234.
(3) المتقدمة في ص 221.
(4) انظر الرياض 2: 433.
(5) مجمع الفائدة والبرهان 12: 389، 390.
(6) كفاية الأحكام: 282.
(7) المسالك 2: 405.
243

دليل الثاني واضح.
وأما الأول: فيستدل له بأنها من أسباب التهمة.
وبالروايات المتقدمة الرادة لشهادة الخصم الصادق على العدو
حقيقة، بل هو معناه المطابقي.
وبرواية معاني الأخبار المتقدمة، حيث قال: " ولا ذي غمز على
أخيه " (1)، قال الصدوق: الغمز: الشحناء والعداوة (2). ورواية السكوني:
" لا تقبل شهادة ذي شحناء، أو ذي مخزية في الدين " (3) والشحناء:
العداوة.
ويرد على الأول ما مر، مضافا إلى منع كونها من أسباب التهمة
مطلقا، فإن العداوة إذا كانت ناشئة عن سبب مقتض لها - كفرية عظيمة، أو
قتل ولد أو والد ونحوه، وكان العدو في غاية العدالة، بل قد يعفو عن
قوده، ويحول أمره إلى الله، ولا يرتضي بغيبته وإن فرح قلبا
بمساءته - فلا نسلم حصول التهمة، سيما إذا كانت الدعوى عليه شيئا قليلا
في غاية القلة.
وعلى الثاني أيضا: ما سبق في روايات التهمة، ومرجوحيتها عن
معارضاتها، فإن الخصم أيضا - كالمتهم - أعم من وجه من العدل ونحوه.
مضافا إلى عدم معلومية صدق الخصم على من لم يظهر العداوة
ولم يرد المكافأة والمخاصمة.
وعلى الثالث أيضا: المعارضة المذكورة مع المرجوحية.

(1) معاني الأخبار: 208 / 3، الوسائل 27: 379 أبواب الشهادات ب 32 ح 8.
(2) معاني الأخبار: 209.
(3) الفقيه 3: 27 / 73، الوسائل 27: 378 أبواب الشهادات ب 32 ح 5.
244

فإن ثبت إجماع على الرد فهو وإلا فالقبول أظهر، إلا أن تخرجه
العداوة عن العدالة بإفضائها إلى ارتكاب كبيرة - من قذف ونحوه - أو إلى
إصرار على صغيرة، من غيبة أو إهانة أو نحوهما.
وقد يقال: بأن مع العداوة الدنيوية يشكل فرض حصول العدالة، لأن
عداوة المؤمن وبغضه لا لأمر ديني معصية، مع أنهم ذكروا في تفسير
العداوة: أن يسر بمساءته ويغتم بمسرته (1). وزاد بعضهم: أن يتمنى زوال
نعمته (2). والكل معاصي عظيمة، والإصرار عليها كبيرة لو لم نقل بكون كل
منها بنفسه من الكبائر..
وعلى هذا، فكيف تجتمع تلك العداوة مع قبول الشهادة حتى يحتاج
إلى اشتراط انتفائها فيه؟!
والتحقيق: أن العداوة القلبية ليست أمرا اختياريا تترتب عليها
معصية، وكذا السرور بالمساءة والمساءة بالسرور، فإن من قتل ولد
شخص، أو هتك عرضه بفرية عظيمة، أو زنى بامرأته، أو لاط بولده، يسر
بمساءته ويغتم بسروره ولولا من جهة كون تلك الأمور معصية، وليس
ذلك السرور والمساءة أمرا يكون تحت اختياره حتى يكلف بعدمه، بل
ربما لا يرضى بتلك المسرة والمساءة لنفسه ويجاهد في دفعهما، ولكنه
يحتاج إلى زمان طويل ومجاهدة عظيمة.
وما ورد في ذم العداوة والبغض فالمراد: أنهما صفتان ذميمتان
- كالجبن وحب الدنيا - تجب المجاهدة في دفعهما.. وجعلهما من
المعاصي إنما هو إذا أظهر آثارهما وفعل ما يوجب ضرر العدو لا مطلقا،

(1) المسالك 2: 405.
(2) مجمع الفائدة والبرهان 12: 389.
245

وحينئذ فلا شك في الخروج عن العدالة إن أظهرها بكبيرة أو فعل صغيرة،
فلا يلزم إشكال أصلا، ولا يحتاج إلى الوجوه التي ذكروها لدفع الإشكال،
من الحمل على عداوة غير المؤمن، أو العداوة بغير موجب، وعدم حرمة
ما كانت لموجب، أو عدها من الصغائر، مع تفسير الإصرار بالإكثار دون
الاستمرار، وفرض الشهادة في بدو الأمر من غير حصول استمرار، أو نحو
ذلك.
المسألة الرابعة: النسب والقرابة لا يمنعان من قبول الشهادة - إلا
ما يجئ استثناؤه - بإجماع الطائفة المحقق، والمحكي عن الانتصار
والغنية (1) وغيرهما (2)، فتقبل من الوالد لولده وعليه، ومن الولد لوالده،
والأخ لأخيه وعليه، للعمومات، وخصوص المستفيضة، كالصحاح الثلاث
للحلبي (3) وابن أبي عمير (4) وعمار بن مروان (5)، والموثقين لسماعة (6)،
ورواية السكوني (7).
ولا يشترط في قبول شهادة القريب ضم شاهد آخر عدل أجنبي

(1) الإنتصار: 245، الغنية (الجوامع الفقهية): 624.
(2) كفاية الأحكام: 281.
(3) الكافي 7: 393 / 3، الوسائل 27: 367 أبواب الشهادات ب 26 ح 1.
(4) الكافي 7: 393 / 2، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 3.
(5) الكافي 7: 393 / 4، التهذيب 6: 248 / 631، الوسائل 27: 367 أبواب
الشهادات ب 26 ح 2.
(6) الأولى: التهذيب 6: 247 / 629، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26
ح 4.
الثانية: التهذيب 6: 247 / 629، الوسائل 27: 367 أبواب الشهادات ب 25
ح 3.
(7) التهذيب 6: 286 / 790، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 5.
246

لكمال العدد، فيكفي ضم قريب آخر مماثله أو غير مماثله للكمال،
ويكتفى به لضم اليمين، للعمومات.
خلافا للمحكي عن نهاية الشيخ (1)، للرواية الأخيرة: " إن شهادة الأخ
لأخيه تجوز إذا كان مرضيا ومعه شاهد آخر ".
وهي - مع ضعفها بالشذوذ، وأخصيتها عن المدعى - غير دالة على
المطلوب، إذ ليس فيها تصريح بالأجنبي، فيمكن أن يكون المطلوب إكمال
العدد، بل يمكن ذلك التوجيه في كلام المخالف أيضا.
واستثني من الأنسباء: الولد إذا شهد على أبيه، فلا يقبل على الأصح،
وفاقا لأكثر القدماء والمتأخرين، كالصدوقين والشيخين والقاضي والديلمي
وابن حمزة والحلي والمحقق والفاضل في أكثر كتبه وولده في الإيضاح
والشهيد في النكت (2) وغيرهم (3)، وعليه دعوى الشهرة في المختلف
والتحرير والدروس والمسالك والكفاية (4) وغيرها (5)، بل دعوى الإجماع
عن الخلاف والموصليات للسيد والسرائر والغنية (6)، ولكن خص في

(1) النهاية: 330.
(2) الصدوقان في المقنع: 133، المفيد في المقنعة: 726، الطوسي في النهاية:
330، الديلمي في المراسم: 232، ابن حمزة في الوسيلة: 231، الحلي في
السرائر 2: 134، المحقق في الشرائع 4: 130، الفاضل في التحرير 2: 209،
والقواعد 2: 237 والتبصرة: 190، والمختلف: 720، وولده في الإيضاح 4:
427.
(3) انظر الرياض 2: 434.
(4) المختلف: 720، التحرير 2: 209، الدروس 2: 132، المسالك 2: 405،
الكفاية: 282.
(5) انظر الرياض 2: 434.
(6) الخلاف 2: 623، السرائر 2: 134، الغنية (الجوامع الفقهية): 624.
247

الأخير الإجماع بصورة حياة الأب.
لمرسلة الفقيه المنجبر إرسالها بما مر: " لا تقبل شهادة الولد على
والده " (1).
وفي الانتصار: ومما انفردت به الإمامية القول بجواز شهادة ذوي
الأرحام والقرابات بعضهم لبعض - إذا كانوا عدولا - من غير استثناء لأحد،
إلا ما يذهب إليه بعض أصحابنا معتمدا على خبر يروونه من أنه: " لا تجوز
شهادة الولد على الوالد وإن جازت شهادته له " (2). انتهى.
وهذا أيضا خبر آخر مرسل، معاضد للأول، منجبر بما هو به انجبر.
ولا يرد عليهما بما أوردناه على أخبار المتهم من المعارضة لما ذكرنا
بالعموم من وجه.
لأن تخصيص عدم القبول فيهما بما إذا كان على الوالد مشعر بإرادة
العدل، لأن غيره لا تقبل شهادته لا له ولا عليه ولا لغيره وعليه، بل في
الرواية الأخيرة تصريح بالاختصاص، حيث قال: " وإن جازت شهادته له "
فإنه لا تجوز له إلا في صورة كونه عادلا.
وقد يستدل أيضا بقوله سبحانه: * (وقل لهما قولا كريما) * (3).
وقوله عز جاره: * (وصاحبهما في الدنيا معروفا) * (4).
وفي دلالتهما نظر.
خلافا للمحكي عن السيد، فقبله عليه كما يقبله له (5)، وقواه في

(1) الفقيه 3: 26 / 71، الوسائل 27: 369 أبواب الشهادات ب 26 ح 6.
(2) الإنتصار: 244.
(3) الإسراء: 23.
(4) لقمان: 15.
(5) الإنتصار: 244.
248

الدروس (1)، واستقربه في الكفاية (2)، وجعله في المفاتيح وشرحه
الأصح (3)، وظاهر التحرير والمسالك وشرح الإرشاد للأردبيلي التردد (4)،
بل حكي التردد عن المقتصر والتنقيح والصيمري أيضا (5).
لعمومات قبول شهادة العدل.
وخصوص قوله سبحانه: * (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو
على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) * (6).
والجواب عن العمومات بلزوم التخصيص بما مر، وضعف سند
الرواية غير ضائر، ولو سلم فبما مر منجبر.
والآية غير صريحة في القبول ولا ظاهرة.
قيل: لولا وجوب القبول لزم العبث في إقامتها المأمور بها (7).
قلنا: ليست الآية صريحة ولا ظاهرة في الأمر بالإقامة، فلعل المراد
التحمل، وفائدة التحمل لا تنحصر في الإقامة، بل قد يتحمل لتذكير
المشهود عليه وتنبيهه لو نسي أو غفل، أو لمنعه عن الإنكار وحيائه عنه (8).
مع أنه لو سلم الأمر بالإقامة فهو - كما صرح به في المختلف
والسرائر والمبسوط (9) - لا يستلزم وجوب القبول..

(1) الدروس 2: 132.
(2) الكفاية: 282.
(3) مفاتيح الشرائع 3: 279.
(4) التحرير 2: 209، المسالك 2: 406.
(5) التنقيح 4: 295.
(6) النساء: 135.
(7) انظر الرياض 2: 435.
(8) في " ق ":... أو لمنعه عن الإنكار، أو إرادة الشروط، أو لعدم اجترائه على
الإنكار وحيائه عنه.
(9) المختلف: 720، السرائر 2: 130، 135، المبسوط 8: 219.
249

بل نفى عنه الخلاف في السرائر، قال: فإن تحملها فالواجب عليه
أداؤها وإقامتها إذا دعي إلى ذلك عند من دعى إقامتها عنده، سواء ردها أو
لم يردها، قبلها أو لم يقبلها، بغير خلاف، لقوله تعالى: * (ومن يكتمها
فإنه آثم قلبه) * (1). انتهى (2).
وقال أيضا: يجب على الولد أن يقيم الشهادة على والده، ولا يجوز
للحاكم أن يعمل بها.. كما أن الفاسق إذا دعي إلى شهادة يشهد بها فإنه
يجب عليه أن يقيمها، ويجب على الحاكم أن لا يعمل بها (3). انتهى.
قوله: لزم العبث.
قلنا: ممنوع، لأنه يمكن أن يصير جزءا لعدد الاستفاضة العلمية، أو
قرينة لإفادة العلم فيما إذا حصلت أمور أخر، بل نقول: إن الفائدة غير
منحصرة في القبول، فإن الوصول إلى ثواب الله سبحانه وإظهار الحق فائدة
جليلة من أعظم الفوائد.
روى أبو بصير في الموثق: في قول الله عز وجل: * (قوا أنفسكم
وأهليكم نارا) * (4) قلت: كيف أقيهم؟ قال: " تأمرهم بما أمر الله عز وجل،
وتنهاهم بما نهاهم الله عز وجل، فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك
كنت قضيت ما عليك " (5).
فهكذا حال إقامة الشهادة الغير المقبولة أيضا.

(1) البقرة: 283.
(2) السرائر 2: 130.
(3) السرائر 2: 135.
(4) التحريم: 6.
(5) الكافي 5: 62 / 2، التهذيب 6: 179 / 365، تفسير القمي 2: 377، الوسائل
16: 148 أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ب 9 ح 2، بتفاوت يسير.
250

وفي رواية يحيى الطويل: " حسب المؤمن عزا إذا رأى منكرا أن
يعلم الله عز وجل من قلبه إنكاره " (1).
فالفائدة التي تترتب على الإنكار القلبي فقط هي المترتبة على إقامة
شهادة الحق التي لا تقبل.
لا يقال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الحديث الذي جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله):
" إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر " ما معناه؟ قال: " هذا على أن
يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه وإلا فلا " (2).
لأنا نقول: إن النهي عن ذلك حينئذ لما فيه من مظنة الضرر، حيث
كان الكلام مع الإمام الجائر، كما صرح به في رواية مفضل: " من تعرض
لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها، ولم يرزق الصبر عليها " (3).
وفي رواية أخرى: " إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن
فيتعظ، أو جاهل فيتعلم، وأما صاحب سوط أو سيف فلا " (4).
هذا، مع أنه لو كان الأمر في الآية ونحوها للقبول لزم وجوب
تخصيص الأمر فيها - وكذا في كل آية وحديث حث بأداء شهادة الحق،
وكذا النهي عن كتمان الشهادة والتحذير عليه - بالمؤمنين المعروفين عند

(1) الكافي 5: 60 / 1، التهذيب 6: 178 / 361، الوسائل 16: 137 أبواب الأمر
والنهي وما يناسبهما ب 5 ح 1، بتفاوت.
(2) الكافي 5: 59 / 16، التهذيب 6: 177 / 360، الخصال: 6 / 16، الوسائل 16:
126 أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ب 2 ح 1.
(3) الكافي 5: 60 / 3، التهذيب 6: 178 / 363، الوسائل 16: 127 أبواب الأمر
والنهي وما يناسبهما ب 2 ح 3.
(4) الكافي 5: 60 / 2، التهذيب 6: 178 / 362، الخصال: 35 / 9، الوسائل 16:
127 أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ب 2 ح 2.
251

الحاكم بالعدالة - دون غيرهم من الفساق والمجهول حالهم - ومنهم بالذين
يعلمون أن معهم عادلا آخر مثلهم - دون الآحاد - ومنهم بمن اجتمع فيه
سائر شروط القبول وانتفاء المعارض له.
ولا دليل على ذلك التخصيص، مع أنه إخراج للأكثر، وهو غير
مجوز عند المحققين.
فإن قيل: يمكن أن يكون أمر كل أحد بذلك من قبيل خطاب الكفار
بالفروع، فأمروا بها بأن يسلموا ويمتثلوا، فكذا هنا، أمروا بأن يتصفوا
بالعدالة ثم يشهدوا.
قلنا: ليس شرط القبول العدالة فقط، بل معرفة الحاكم عدالته.
فلو سلمنا أنهم أمروا بالاتصاف بالعدالة، فهل أمروا بتعريف عدالتهم
عدالتهم عند كل حاكم وضم عادل آخر مع نفسه ونفى المعارض وجميع
سائر الشروط؟!
قيل: قال الصادق (عليه السلام) لمن قال له: إن شريكا يرد شهادتنا، قال:
فقال: " لا تذلوا أنفسكم " (1).
قلنا: الذلة إنما هي إذا كانت عند المخالفين أو للفسق لا مطلقا، مع
أنهم حملوها على التحمل دون الإقامة.
وقيل أيضا - كما نقله في المسالك - إن الشهادة على الوالدين معطوفة
على الشهادة على الأنفس، وعطفت عليها الشهادة على الأقربين، وهما
مقبولتان، فلو لم يقبل ذلك لزم عدم انتظام الكلام (2).
قلنا: لا يلزم تطابق المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأحوال
والأوصاف، ألا ترى أنه تقبل الشهادة على النفس مطلقا، ولا كذلك الشهادة

(1) الفقيه 3: 44 / 151، الوسائل 27: 412 أبواب الشهادات ب 53 ح 2.
(2) المسالك 2: 406.
252

على الوالدين والأقربين، فتشترط فيها العدالة وضم عدل آخر أو اليمين.
قيل: الأمر في الآية يستلزم القبول بالإضافة إلى الوالدة، فكذا بالنسبة
إلى الوالد أيضا، لأنهما ذكرا في كلمة واحدة (1).
قلنا: القبول في الوالدة ليس ملزوما للأمر في الآية، بل إنما هو أمر
علم من الخارج.
ومما ذكرنا ظهر حال الاستدلال بروايتي علي بن سويد السائي (2)
وداود بن الحصين (3)، الآمرتين بإقامة الشهادة على النفس أو الوالدين أو
الأقربين كما في الأولى، أو على الوالدين والولد كما في الثانية. والعجب أن
بعضهم جعلهما من النصوص على القبول (4).
هذا، مع ما في ذلك القول من المخالفة للشهرة العظيمة، إذ لم يثبت
الخلاف فيها من القدماء إلا السيد (5)، وكلامه غير صريح، بل ولا ظاهر في
المخالفة كما اعترف به جماعة، منهم: الفاضل في المختلف والمحقق
الأردبيلي (6).
وأما المتأخرون فأكثرهم وافقوا المشهور، ومن ظاهره المخالفة فغير
النادر منهم لم يجترئوا عليها صريحا بل ولا ظاهرا، وإنما تكلموا في أدلة
الطرفين، وشيدوا دليل القبول، واقتصروا عليه.

(1) انظر الرياض 2: 435.
(2) الفقيه 3: 42 / 144، الوسائل 27: 340 أبواب الشهادة ب 19 ح 2.
(3) الفقيه 3: 30 / 89، التهذيب 6: 257 / 675، الوسائل 27: 340 أبواب
الشهادات ب 19 ح 3.
(4) كما في المسالك 2: 405.
(5) الإنتصار: 245.
(6) المختلف: 720.
253

فروع:
أ: لا ينسحب الحكم إلى الوالد من الرضاع، لعدم صدق الوالد
حقيقة.. ويحتمل الانسحاب، لقولهم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب " (1).
ب: في انسحاب الحكم إلى الجد وعدمه قولان، الأول للدروس (2)،
والثاني للإيضاح والكفاية (3)، والقولان - كما صرح به في الإيضاح - مبنيان
على صدق الوالد على الجد وعدمه، وقد مر تحقيقه في كتاب المواريث (4).
ج: لو شهد الولد على الوالد وغيره معا، قال في القواعد: قبلت على
الغير دون الوالد على إشكال (5). وقال في الإيضاح ببطلانهما معا (6).
والتحقيق: أنه إن لم تكن بين الحقين ملازمة شرعية ولا عقلية فتقبل
في حق الغير، وترد في حق الوالد.. وإن كانت بينهما ملازمة فيشكل، لأنه
يجب إما ردهما معا أو قبولهما كذلك، والأصل - الذي هو المرجع بعد
تكافؤ الاحتمالين - يقتضي الأول.
د: مقتضى إطلاق الروايتين عدم الفرق في رد شهادة الولد بين حياة
الأب وموته حين الشهادة، كما هو ظاهر إطلاق أكثر الأصحاب هنا، وإن
صرح بعضهم بالاختصاص بصورة الحياة في موضع آخر (7)، وهو حسن لو

(1) الوسائل 20: 371 أبواب ما يحرم بالرضاع ب 1.
(2) الدروس 2: 132.
(3) الإيضاح 4: 428، كفاية الأحكام: 282.
(4) سيأتي كتاب المواريث بعد كتاب الشهادات.
(5) القواعد 2: 237.
(6) الإيضاح 4: 428.
(7) انظر الرياض 2: 434.
254

استدل بالآيتين.
ه‍: لا فرق في الولد بين الابن والبنت، للإطلاق.
المسألة الخامسة: الزوجية لا تمنع من قبول الشهادة إجماعا، له،
وللعمومات، وخصوص صحيحتي عمار بن مروان والحلبي المشار إليهما
في المسألة السابقة..
في أوليهما: عن الرجل يشهد لامرأته؟ قال: " إذا كان خيرا جازت
شهادته " (1).
وفي الثانية: " تجوز شهادة الرجل لامرأته، والمرأة لزوجها إذا كان
معها غيرها " (2).
ومقتضى الأخيرة اشتراط القبول في الزوجة بانضمام غيرها من أهل
الشهادة معها، كما هو مختار جماعة من أصحابنا (3).
بل نسبه في التحرير إلى الأصحاب، قال: ولكن شرط أصحابنا في
قبول شهادة الزوجة لزوجها انضمام غيرها معها من أهل العدالة، وشرط
آخرون في الزوج أيضا، وليس بجيد (4). انتهى.
وتدل عليه أيضا موثقة سماعة - المتقدمة إليها الإشارة - وفيها: وعن
شهادة الرجل لامرأته، قال: " نعم "، والمرأة لزوجها، قال: " لا، إلا أن
يكون معها غيرها " (5).

(1) الكافي 7: 393 / 2، التهذيب 6: 247 / 628، الوسائل 27: 366 أبواب
الشهادات ب 25 ح 2.
(2) الكافي 7: 392 / 1، التهذيب 6: 247 / 627، الوسائل 27: 366 أبواب
الشهادات ب 25 ح 1.
(3) كالشيخ في النهاية: 330، والمحقق في النافع: 287.
(4) التحرير 2: 209 - 210.
(5) التهذيب 6: 247 / 629، الوسائل 27: 367 أبواب الشهادات ب 25 ح 3.
255

خلافا للمحكي عن المتأخرين كافة، فقالوا بعدم الاشتراط فيها (1)،
بل عن ظاهر كثير من القدماء، كالمفيد والشيخ في المبسوط والخلاف
والعماني والحلي والحلبي (2)، بل المشهور كما عن الصيمري.
لقصور الروايتين عن اشتراط الضميمة بالمعنى المتنازع فيها من جهة
الدلالة، لاحتمال ورود الشرط فيهما مورد الغالب، كما صرح به جماعة من
أصحابنا، منهم: الشهيد الثاني، قال:
ووجه التقييد في الرواية: أن المرأة لا يثبت بها الحق منفردة
ولا منضمة إلى اليمين، بل يشترط أن يكون معها غيرها، إلا ما استثني نادرا
- وهو الوصية - بخلاف الزوج، فإنه يثبت بشهادته الحق مع اليمين،
والرواية باشتراط الضميمة معها مبنية على الغالب في الحقوق، وهي ما عدا
الوصية (3). انتهى.
وهو حسن، بل يمكن منع الثبوت في النادر، إذ لا يثبت فيه
المشهود به، بل ربعه.
وما ذكره أمتن مما أجاب به الفاضل في المختلف من أن المراد بذلك
كمال البينة من غير يمين (4)، إذ لو كان المراد ذلك لما كان مختصا
بالزوجة، بل ينبغي طرد الشرط في الزوج أيضا، مع أن الروايتين خصتاه
بالزوجة، بل ظاهر الأخيرة تخصيصه بها دونه.

(1) حكاه في الرياض 2: 435.
(2) حكاه عنهم في الرياض 2: 435، وانظر المقنعة: 726، والمبسوط 8: 220،
والخلاف 2: 624، حكاه عن العماني في المختلف 2: 720، الحلي في السرائر
2: 134، الحلبي في الكافي في الفقه: 436.
(3) المسالك 2: 406.
(4) المختلف: 720.
256

ولا يخفى أنه يمكن إجراء الجوابين في كلام القائلين بالاشتراط
أيضا، كالشيخ في النهاية ومن يحذو حذوه (1)، وحينئذ يرتفع الخلاف في
المسألة.
ثم على تقدير المخالفة تظهر الثمرة فيما لو شهدت لذي الوصية،
فتقبل على القول بعدم الاشتراط، ولا تقبل على القول بالاشتراط.
والأقوى هو الأول، لما عرفت من ضعف دليل الثاني، وأضعف منه
القول بالاشتراط في الزوج أيضا - كما نقله في التحرير، وحكي عن النهاية
والقاضي وابن حمزة (2) - لعدم دليل عليه أصلا، بل الأخير يدل على العدم،
لقطعها الشركة بالتفصيل.
ثم على تقدير الاشتراط في الزوجة، قيل: يكفي انضمام امرأة أخرى
- ولو كانت زوجة أخرى للزوج أيضا - فيما يكتفي فيه بشهادة الامرأتين،
كنصف الوصية (3).
وهو حسن، لإطلاق الغير المشترط انضمامه، والله العالم.
المسألة السادسة: الصحبة - ولو كانت مؤكدة - والصداقة - وإن كانت
مؤكدة - والضيافة لا تمنع من قبول الشهادة بلا خلاف، بل بالإجماع، له،
وللأصل، وورود النص في الأخير أيضا (4).
المسألة السابعة: تقبل شهادة الأجير لمن استأجره، وفاقا للحلي

(1) النهاية: 330.
(2) التحرير 2: 210، النهاية: 330، القاضي في المهذب 2: 557، ابن حمزة في
الوسيلة: 231.
(3) انظر المسالك 2: 406.
(4) الوسائل 27: 371 أبواب الشهادات ب 29.
257

والمحقق والفاضل (1)، وأكثر المتأخرين - كما صرح به جماعة (2) - بل ظاهر
بعضهم إطباقهم عليه (3)، للعمومات كتابا وسنة.
خلافا للمحكي عن أكثر المتقدمين - كالشيخ في النهاية والصدوقين
والحلبي والقاضي وابني حمزة وزهرة (4) - بل قيل: ربما يشعر سياق عباراته
بكون المنع مجمعا عليه بين الخاصة (5).
لموثقة سماعة ومرسلة الفقيه المتقدمتين في صدر الشرط السادس،
ورواية معاني الأخبار المتقدمة فيه أيضا..
بضميمة تفسير الصدوق القانع من أهل البيت بالرجل يكون مع قوم
في حاشيتهم كالخادم لهم والتابع والأجير (6).
ورواية العلاء: " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يجيز شهادة الأجير " (7).
وظاهر صحيحة صفوان: عن رجل أشهد أجيره على شهادة ثم
فارقه، أتجوز شهادته له بعد أن يفارقه؟ قال: " نعم، وكذلك إذا أعتق العبد

(1) الحلي في السرائر 2: 121، المحقق في الشرائع 4: 130، الفاضل في التحرير
2: 210.
(2) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 406، والسبزواري في الكفاية: 283،
وصاحب الرياض 2: 435.
(3) كما في الرياض 2: 436.
(4) النهاية: 325، الصدوقان في المقنع: 133، الحلبي في الكافي: 436، القاضي
في المهذب 2: 558، ابن حمزة في الوسيلة: 230، ابن زهرة في الغنية (الجوامع
الفقهية): 625.
(5) انظر الرياض 2: 436.
(6) معاني الأخبار: 209.
(7) الكافي 7: 394 / 4، التهذيب 6: 246 / 624، الإستبصار 3: 21 / 62، الوسائل
27: 372 أبواب الشهادات ب 29 ح 2.
258

جازت شهادته " (1).
وموثقة أبي بصير: " وتكره شهادة الأجير لصاحبه، ولا بأس بشهادته
لغيره، ولا بأس به له بعد مفارقته " (2).
والرضوي: " لا تجوز شهادة شارب الخمر " إلى أن قال: " ولا أجير
لصاحبه، ولا مرأة لزوجها " (3).
ووجه ظهور الصحيحة - كما قيل (4) - التقرير والتشبيه.
ووجه ظهور الثاني أن الظاهر أن المراد من الكراهة الحرمة، إذ لو
قبلت الشهادة لزم أداؤها، فلا معنى للكراهة، والحمل على الإشهاد
لا يلائمه ما بعده.
والجواب عن الجميع: بالمعارضة مع عمومات قبول الشهادة بالعموم
والخصوص من وجه، وترجيح العمومات كما مر في المتهم.
نعم، لو تمت دلالة الصحيحة لأمكن أن يقال باختصاصها بالعادل،
حيث صرح فيها بالقبول بعد المفارقة.
ولكن في تماميتها نظر، لوقوع التقييد في السؤال، وعدم حجية ذلك
التقرير كما بين في محله، وعدم ظهور للتشبيه في تقييد المشبه أيضا.
فإن قيل: الموثقة أيضا بالعادل مخصوصة، لنفي البأس عن شهادته
لغيره وبعد المفارقة، ومفهومها أيضا يدل على ثبوت البأس - الذي هو

(1) التهذيب 6: 257 / 674، الإستبصار 3: 21 / 63، الوسائل 27: 371 أبواب
الشهادات ب 19 ح 1.
(2) التهذيب 6: 258 / 676، الإستبصار 3: 21 / 64، الوسائل 27: 372 أبواب
الشهادات ب 29 ح 3.
(3) فقه الرضا " ع ": 260، مستدرك الوسائل 17: 434 أبواب الشهادات ب 27 ح 1.
(4) انظر الرياض 2: 436.
259

العذاب - في الشهادة لمن هو أجيره قبل المفارقة، وهذا أيضا يدل على أن
المراد بالكراهة الحرمة.
قلنا: لا معنى للحرمة أيضا، إذ لا إثم على أداء الشهادة الغير المقبولة
قطعا، فالحمل على المجاز متعين، ولعله الكراهة في صورة احتمال التهمة
وعدم وجوب الشهادة عينا لوجود الغير.
ثم على القول بالرد يختص ذلك بما إذا شهد حال كونه أجيرا، وأما
إذا خلص عنه تقبل وإن تحملها حال الإجارة، للصحيحة والموثقة، ولأنه
لا يصدق عليه الأجير حينئذ.
المسألة الثامنة: لا تقبل شهادة السائل بكفه، على الحق المشهور بين
أكثر الأصحاب، كما صرح به جماعة (1).
والمراد به: الذي يسأل في نحو أبواب الدور والأسواق والدكاكين
والحجرات، واتخذ ذلك ديدنا له، لأنه المتبادر من هذا التركيب، لا من
يسأل أحيانا لحاجة دعته إليه.
وعلى هذا، فهو مراد من أطلق المنع - كما في النافع، وحكي عن
الشيخ والقاضي (2) - كما هو صريح من قيد - كما عن الحلي والتحرير
والشرائع والإرشاد والتنقيح والدروس والمسالك (3)، وغيرها (4) - بل هو
المشهور كما قيل (5).

(1) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 406، وصاحب الرياض 2: 436.
(2) النافع: 287، الشيخ في النهاية: 326، القاضي في المهذب 2: 558.
(3) الحلي في السرائر 2: 122، التحرير 2: 210، الشرائع 4: 130، الإرشاد 2:
158، التنقيح 4: 299، الدروس 2: 131، المسالك 2: 406.
(4) كالرياض 2: 436.
(5) انظر الرياض 2: 436.
260

والدليل عليه: صحيحة علي: عن السائل الذي يسأل في كفه، هل
تقبل شهادته؟ فقال: " كان أبي (عليه السلام) لا يقبل شهادته إذا سأل في كفه " (1).
وموثقة محمد: " رد رسول الله (صلى الله عليه وآله) شهادة السائل الذي يسأل في
كفه "، قال أبو جعفر (عليه السلام): " لأنه لا يؤمن على الشهادة، وذلك لأنه إن
أعطي رضي، وإن منع سخط " (2).
دل التعليل على أن صاحب ذلك الوصف ليس مأمونا عن شهادة
الزور والكذب ما دام كذلك، فلا تعرف عدالته، لأن من لا يظن عدم
ارتكابه الكذب وشهادة الزور كيف يعرف بالعدالة؟! فلا يكون ذلك عادلا،
ويكون هذا الوصف مانعا عن الحكم بالعدالة بمعرفاته أولا، فلا تعارض
بين الروايتين وعمومات قبول شهادة العدل.
نعم، لو عرف أولا بالعدالة ثم صار سائلا بالكف يلزم استصحاب
عدالته وقبول شهادته، إذ غايته عدم الأمن من كذبه، الذي مرجعه إلى
الشك أو الظن، ولا عجب فيه إن لم يثبت الإجماع المركب، فتأمل جدا (3).

(1) الكافي 7: 397 / 14، التهذيب 6: 244 / 609، الوسائل 27: 382، أبواب
الشهادات ب 35 ح 1.
(2) الكافي 7: 397 / 13، التهذيب 6: 243 / 608، الوسائل 27: 382 أبواب
الشهادات ب 35 ح 2.
(3) في " ح ": لا يقال: حكم الشارع بعدم كونه مأمونا حكم بوجود الشك أو الظن
بالخلاف، وهو مناف للاستصحاب - الذي هو عدم نقض اليقين السابق - فيجب
رفع اليد عن الاستصحاب هنا، لأعميته.
قلنا: هذا إذا كان معناه أنه ليس مأمونا شرعا.
ويمكن أن يكون المراد أنه غير مأمون واقعا وإن كان مأموما ظاهرا،
للاستصحاب.
وفيه: أنآه لا بد في صحة الحكم من كلية الكبرى، فلو كان المراد أنه غير مأمون
واقعا لم تصح كلية الكبرى، وهي: أن كل غير مأمون واقعا لا تقبل شهادته، إذ
ليس كذلك، فإن المأمون الاستصحابي تقبل شهادته، فيجب أن يكون المراد أنه
غير مأمون شرعا، فيكون هذا منافيا لاستصحابه، فلا يكون عادلا بالاستصحاب
أيضا، فلا تقبل العدالة الأولية أيضا، لعدم صحة استصحابهما هنا.. وهذا هو وجه
التأمل - منه رحمه الله تعالى.
261

المسألة التاسعة: قالوا: التبرع بأداء الشهادة قبل الاستنطاق بها يمنع
القبول، سواء كان قبل دعوى المدعي أم بعدها، بلا خلاف فيه كما في
الكفاية، بل قال: إنه المعروف من مذهب الأصحاب (1). قيل: ويظهر من
المسالك (2). وقيل: ولم يظهر لي ذلك من المسالك.
قال في الكفاية: ومستنده بعض الروايات، وكون ذلك موضع تهمة.
ومراده من الرواية ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال في معرض الذم:
" ثم يجئ قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها " (3).
وفي آخر: " ثم يفشوا الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد " (4).
قال: في الكل نظر.
أقول: أما وجه النظر في الرواية فواضح..
أما أولا: فلضعف الرواية، لأنها غير مذكورة في أصل معتبر، بل
الظاهر - كما صرح به الأردبيلي - أنها عامية، ودعوى انجبارها فاسدة، لأنها
إنما تدل على الذم والجرح، والفتوى به غير مشهورة، بل في المسالك: أنه
ليس جرحا عندنا (5).

(1) كفاية الأحكام: 282.
(2) انظر الرياض 2: 440.
(3) مسند أحمد 4: 426.
(4) سنن ابن ماجة 2: 791.
(5) المسالك 2: 408.
262

نعم، ذهب إليه بعض أصحابنا كما يأتي.
وأما ثانيا: فلأنها لو صحت لدلت على عدم الجواز دون الرد، كما
ذهب إليه في السرائر (1).
وأما ثالثا: فلمعارضتها مع مثلها، حيث روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال
" خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها " (2).
وأما وجه النظر في كونه موضع التهمة فيظهر مما ذكره الأردبيلي،
قال: وأنت خبير أن التهمة غير ظاهرة، خصوصا إذا كان جاهلا، فإنا نجد
كثيرا من يشهد قبل الاستشهاد من غير ميل إلى إثبات المشهود، بل قد
يكون إلى عدمه أميل، لغرض مثل: فقر المشهود عليه، أو مصاحبته، أو
عداوة المشهود له، اعتقادا لوجوب الشهادة وتحريم كتمانها، كيف؟!
والعدالة تمنع من الشهادة على الكذب مع العلم بقبحه والوعيد في الكتاب
والسنة وتحريمه بإجماع المسلمين (3). انتهى.
بل نحن شاهدنا شهادات تبرعية غير محصورة كثرة لم يكن لشاهدها
ميل أصلا، سيما مع تخصيص التبرع بما كان قبل استنطاق الحاكم - كما في
كلام بعضهم (4) - ولو كان أحضره المدعي للشهادة، أو طلبه الحاكم لذلك.
بل كان تبرعه لأحد الوجوه التي ذكرها الأردبيلي، أو لزعمه كفاية
الإحضار لأجل الشهادة في ذلك، أو لأجل شغل له يريد أداء الشهادة
والذهاب، أو لأجل أنه مائل إلى إحقاق الحق ويزعم أن المدعي أو الحاكم

(1) السرائر 2: 133.
(2) صحيح مسلم 3: 1344 / 1719.
(3) مجمع الفائدة والبرهان 12: 399 - 400.
(4) انظر الرياض 2: 440.
263

لا يعلم بكونه شاهدا، أو لتعجبه في الإنكار، أو نحو ذلك.
بل من احتمل في حقه التهمة لم نشاهده إلا نادرا، والتهمة فيه أيضا
حصلت من أمور أخر زائدة على التبرع.
ومن هذا يظهر ما في كلام بعض مشايخنا المعاصرين من عد صورة
عدم التهمة من الأفراد النادرة (1).
ومن أقوى الشواهد على عدم إيجابه للتهمة - وأن من منعها من
القدماء ليس لأجلها - تفرقتهم فيه بين حقوق الآدميين وغيرها، إذ لو كان
التبرع موجبا لها لما كان فيه فرق بين الحقين، وكان الرد في حق الله أظهر،
لوجوب درء الحدود بالشبهات، ولذا ترد شهادة سائر المتهمين في حق الله
عند من يعتبر عدم التهمة.
وعمدة ما جعلوه دليلا للتفرقة جار في الموضعين كما يأتي.
وعلى هذا، فالحق هو القبول كما هو ظاهر المحقق الأردبيلي (2)،
ويظهر من الكفاية الميل إليه (3)، وهو صريح الحلي في السرائر، وإن قال
بعدم جواز التبرع وكونه مذموما كما هو مذهب العامة، قال:
لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة، كما لا يجوز له
كتمانها وقد دعي إلى إقامتها، إلا أن تكون إقامتها تؤدي إلى ضرر على
المشهود عليه لا يستحقه على ما قدمناه، فإنه لا يجوز حينئذ إقامة الشهادة
وإن دعي إليها.
أو يكون - فيما قلنا إنه لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل

(1) انظر الرياض 2: 440.
(2) مجمع الفائدة 12: 400.
(3) كفاية الأحكام: 282.
264

الشهادة - ترك شهادته يبطل حقا قد علمه فيما بينه وبين الله تعالى، فيجوز
له - بل يجب عليه - أن يشهد به قبل أن يسأل عن الشهادة (1). انتهى.
ونسب فيه هذا القول إلى الشيخ في النهاية، وقال: إن في كلامه
التباسا وإيهاما.
أقول: قال في النهاية: ولا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن
الشهادة، كما لا يجوز كتمانها وقد دعي إلى إقامتها، إلا أن تكون شهادته
تبطل حقا قد علمه فيما بينه وبين الله تعالى، أو تؤدي إلى ضرر على المشهود
عليه لا يستحقه، فإنه لا يجوز له حينئذ إقامة الشهادة وإن دعي إليها (2).
انتهى.
قال في السرائر: وشيخنا في نهايته قد أورد المسألتين، واستثنى
استثناءين عقيبهما، فيهما التباس وإيهام، لأن استثناء المسألة الأولة عقيب
المسألة الثانية، واستثناء المسألة الثانية عقيب المسألة الأولة، فلا يفهم بأول
خاطر، بل يحتاج إلى تأمل، ورد الاستثناء الأول إلى المسألة الأولة، ورد
الاستثناء الأخير إلى المسألة الثانية، وقد زال الالتباس والإيهام، فكم من
معنى ضاع لقصور العبارة ولسوء الإشارة (3). انتهى.
أقول: مراده من المسألة الأولة ما ذكره بقوله: ولا يجوز للشاهد، إلى
آخره.
ومن المسألة الثانية ما ذكره بقوله: كما لا يجوز كتمانها وقد دعي إلى
إقامتها.

(1) السرائر 2: 133.
(2) النهاية: 330.
(3) السرائر 2: 133.
265

ومن استثناء المسألة الأولة ما ذكره بقوله: إلا أن تكون شهادته.
ومن استثناء المسألة الثانية ما ذكره بقوله: أو تؤدي إلى ضرر، إلى
آخره، (على ما هو ظاهره أيضا) (1).
ثم إن ما ذكرنا من قبول شهادة المتبرع إنما هو من جهة كونه شهادة
التبرع.
وللتبرع صورة توجب ردها لأجل أنه ادعاء.
بيان ذلك: أن للمتبرع بالشهادة صورا كثيرة:
منها: ما إذا ادعى زيد على عمرو عند الحاكم، يطلب الحاكم منه
البينة، وأحضر هو خالدا للشهادة، أو أحضره الحاكم وهو يحضر، ويشهد
قبل استنطاق الحاكم، أو قبل استنطاق المدعي، أو غيرهما، بعد تكرار
المدعي الدعوى بحضوره.
ومنها: ما ذكر أيضا، إلا أنه يشهد قبل التكرار.
ومنها: ما يكون حاضرا بنفسه من غير إحضار لذلك في مجلس
المرافعة، ويشهد بعد الدعوى من غير سؤال عنه.
ومنها: ما إذا أشهده زيد على حقه ليشهد لو وقع التنازع، ولم يحضر
وقت الأداء، أو سافر زيد، ويريد خالد المسافرة، ويجئ عند الحاكم
ويقول: عندي هذه الشهادة، فإن ادعى زيد وأنكر عمرو فأنا شاهد بالحق،
ربما لم أرجع من السفر حين الحاجة.
ومنها: ما إذا جاء خالد عند الحاكم بعد دعوى زيد، ويقول: عندي
شهادة لزيد وهو لا يعلمها، أو يقول ذلك لزيد.

(1) ما بين القوسين ليس في " ح ".
266

ومنها: ما إذا لم تسبق دعوى عن زيد ولا إنكار عن عمرو، فيجئ
عند الحاكم ويقول: لزيد كذا وكذا على عمرو، أو يجئ مع زيد ويشترك
معه في ذكر استحقاق زيد، ونحو ذلك.
وهذه الصورة الأخيرة هي التي يجب أن لا تسمع فيها الشهادة، لأنها
ليست شهادة عرفا، بل هي دعوى فضولية أو تبرعية.
ولعل لذلك طلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) شاهدين من غير الأنصار في القتل
المتقدم ذكره (1)، حيث إن جميع الحاضرين من الأنصار كانوا من ذلك القبيل.
ولا يبعد أن تكون هذه الصورة أيضا مراد كثير من القوم، وهو
المناسب لاستثناء حق الله، واستدلالهم بأنه لا مدعي بخصوصه، وأنه
واجب ونهي عن المنكر، ونحو ذلك.
ثم إن الأكثر - كما أشير إليه - خصوا الرد بما إذا كان من حقوق
الآدميين (2)، واختلفوا في حقوق الله المحضة والمشتركة (3)، واستدلوا
بالسماع فيها واستثنائها بوجوه بين موهونة أو مشتركة بينها وبين حقوق
الآدميين.. وبعد ما عرفت من عدم دليل على الرد في حق الآدمي أيضا
فيكون السماع هنا أظهر، ولا حاجة إلى ذكر أدلتهم الموهونة.
نعم، يصح الاستثناء في الصورة الأخيرة - التي ذكرنا عدم القبول فيها
في حق الآدمي - من جهة أنه يكون حينئذ مدعيا، ولا تقبل شهادة المدعي،
حيث إن عدم قبول شهادة المدعي مخصوص بحق الآدمي، إذ نسبة حق الله
سبحانه إلى الجميع واحد، فليس له مدع بل الكل شاهد، ولعل إلى ذلك
يشير استدلالهم للاستثناء بأنه لا مدعي لها.

(1) راجع صحيحتي العجلي وزرارة المتقدمتين في ص 231 و 232.
(2) كما في الروضة 3: 134، والرياض 2: 440.
(3) انظر المفاتيح 3: 281.
267

أو يقال: إنها لو لم تقبل في حق الله لزم سقوطه، إذ كل شاهد مدع
ومتبرع، والسقوط باطل. وفيه تأمل.
فروع:
أ: يظهر من بعضهم: أن الحرص على الشهادة مانع عن قبولها - ولو
كان من جهة أخرى غير الشهادة - قبل الاستنطاق أيضا، لإيجابه التهمة (1).
وبعد ما ذكرنا - من عدم دليل تام على الرد بالتهمة مطلقا - تعلم
ضعف ذلك القول.
مع أن كون مطلق الحرص موجبا للتهمة ممنوع، بل قد يعلم أنه من
غاية التدين وعدم تحمله لخلاف الواقع، أو لكونه غضوبا في دفع المنكر،
أو لجهات أخرى غير الميل، كما شاهدناه مرارا.
ب: قالوا: الرد بالتبرع ليس لكونه جرحا، بل لأنه تهمة، فلو شهد
في غير ذلك أو بعد ذلك إذا سئل عنه تقبل. وظاهر المسالك الإجماع على
عدم كونه جرحا (2).
أقول: قد عرفت تصريح الشيخ والحلي بعدم جوازه، وأنه
كالكتمان (3).
ثم لو كان موجبا للتهمة فلا يوجب السؤال بعده لانتفائها، بل هي
باقية، فيجب عدم قبولها أيضا.
نعم، على ما ذكرنا في الصورة الأخيرة: أنه لأجل كونه مدعيا، فيصح

(1) قال به في القواعد 2: 238.
(2) المسالك 2: 408.
(3) راجع ص 263.
268

ذلك، لأن بعد السؤال يخرج عن كونه كذلك.
ج: قد عرفت أن شهادة المتبرع تقبل في حق الله مطلقا، وقد وقع
الخلاف في الحقوق المشتركة، ومقتضى الدليل قبولها في حق الله، إذ
لا مدعي له، دون حق الآدمي في الصورة التي لا تقبل فيه.
ومن حقوق الله: الوقف للمصالح العامة، والوصية لها، وليس
المتولي الخاص أو العام فيها مدعيا في الوقفية، إذ لا حق له مخصوصا به.
نعم، له ادعاء التولية، ولا تسمع شهادته فيها، فتأمل.
المسألة العاشرة: إذا شهد اثنان لشخصين بوصية مثلا، أو حق على
شخص، وشهد الشخصان للشاهدين بمثله، تقبل شهادتهم جميعا،
للعمومات.
قال المحقق الأردبيلي: لحصول الشهادة، وعدم المانع من التهمة
المتوهمة، فإنه قد يتوهم إنما شهد الأولان لتواطئهما مع الآخرين أنهما إن
شهدا لهما يشهدان هما لهما أيضا، وذلك توهم باطل، لبعد العدل - بل
المسلم - عن مثل هذه الخديعة (1). انتهى.
ونفيه التهمة هنا وإثباته في بعض موارد أخر - كالعداوة، أو التبرع، أو
نحوهما - عجيب.
وكذا لا ترد باختفاء الشاهد عن المشهود عليه، للتحمل كما صرحوا
به، بل ظاهر الشهيد الإجماع عليه (2)، لما مر من العمومات، ودعاء الحاجة
إليه.
المسألة الحادية عشرة: اختلفوا في شهادة بعض الرفقة في الطريق

(1) مجمع الفائدة والبرهان 12: 388.
(2) نقله عن غاية المراد في الجواهر 41: 100.
269

لبعض على قاطع الطريق..
فردها بعضهم مطلقا (1).
وفرق بعضهم بين ما إذا أخذ منه شئ وتعرض لذكر المأخوذ منه،
وما لم يؤخذ منه، أو لم يتعرض، وبين ما إذا ظهرت العداوة بينه وبين
اللصوص، وما لم تظهر (2).
ومنهم من قبلها مطلقا (3).
ومستند الرد: ظهور التهمة إما مطلقا أو في بعض الصور، وإطلاق
رواية محمد بن الصلت (4).
ومستند الثاني: العمومات، ومنع التهمة أو عدم إيجابها للرد مطلقا،
وضعف الرواية، أو معارضتها مع العمومات بالعموم من وجه، وترجيح
العموم.
وبعد ما عرفت ما تقدم هنا تعلم قوة الثاني.
السابع من شروط الشاهد: طهارة المولد.
أي عدم كونه ولد الزنا المعلوم كونه كذلك.
فلا تقبل شهادته على الحق المشهور بين المتقدمين والمتأخرين،
وعن السيد والشيخ وابن زهرة الإجماع عليه (5)، للنصوص المستفيضة،

(1) كالعلامة في القواعد 2: 237.
(2) كالسبزواري في الكفاية: 282.
(3) كالشهيد في الدروس 2: 127.
(4) الكافي 7: 394 / 2، التهذيب 6: 246 / 625، الوسائل 27: 369 أبواب
الشهادات ب 27 ح 2.
(5) السيد في الإنتصار: 247، الشيخ في الخلاف 2: 627، ابن زهرة في الغنية
(الجوامع الفقهية): 625.
270

كصحيحة الحلبي (1)، ومحمد (2)، وموثقة زرارة (3)، ورواية أبي بصير (4)،
وصحيحة علي المروية في كتابه (5)، المؤيدة جميعا بروايات أخر مصرحة
بأن ولد الزنا شر الثلاثة، وأنه لا ينجب (6).
وقيل: تقبل إذا كان عدلا مطلقا، حكاه في الكفاية (7). ولعله
لعمومات قبول شهادة العدل الراجحة - بما ذكرنا سابقا - على الروايات
المانعة.
وعن الشيخ وابن حمزة أنها تقبل في الشئ اليسير دون الكثير (8)،
لموثقة عيسى بن عبد الله: عن شهادة ولد الزنا، فقال: " لا تجوز إلا في
الشئ اليسير إذا رأيت منه صلاحا " (9).
ويجاب عن دليل المخالف الأول: بمنع رجحان العمومات هنا،
لمخالفة روايات المنع لمذهب أكثر العامة كما في المسالك (10)، وتشعر بها
رواية أبي بصير.

(1) التهذيب 6: 244 / 612، الوسائل 27: 376 أبواب الشهادات ب 31 ح 6.
(2) الكافي 7: 395 / 6، التهذيب 6: 244 / 613، الوسائل 27: 375 أبواب
الشهادات ب 31 ح 3.
(3) الكافي 7: 396 / 8، التهذيب 6: 244 / 614، الوسائل 27: 376 أبواب
الشهادات ب 31 ح 4.
(4) الكافي 7: 395 / 4، بصائر الدرجات: 9 / 3، الوسائل 27: 374 أبواب
الشهادات ب 31 ح 1.
(5) الوسائل 27: 377 أبواب الشهادة ب 31 ح 8، البحار 10: 287.
(6) غوالي اللآلئ 3: 533 / 22، مسند أحمد 2: 311.
(7) الكفاية: 283.
(8) الشيخ في النهاية: 326، ابن حمزة في الوسيلة: 230.
(9) التهذيب 6: 244 / 611، الوسائل 27: 376 أبواب الشهادات ب 31 ح 5.
(10) المسالك 2: 409.
271

مع إشعار رواية عدم نجابته - وكونه شر الثلاثة (1)، وعدم جواز
إمامته (2)، والنهي عن الاغتسال بغسالته، وأنه لا يطهر إلى سبعة آباء، كما
في رواية ابن أبي يعفور (3) - بعدم عدالته، بل يمكن إثباته بذلك،
فلا تدخل في العمومات.
وعن دليل الثاني: بضعفه، لشذوذه وندرته، كما صرح به جماعة (4).
والمسألة قليلة الجدوى جدا، لندرة من علم كونه ولد الزنا، ثم كونه
عادلا ظاهرا.
الثامن من شرائط الشاهد: الذكورة في الجملة، بمعنى أنها تشترط
في بعض الحقوق دون بعض.
والأول أيضا على قسمين، لأنه إما تشترط فيه الذكورة المحضة،
فلا تقبل فيه شهادة النساء أصلا، لا منضمة مع الذكور ولا منفردة، أو
يشترط فيه وجود الذكر وإن كان مع النساء، فلا تقبل فيه شهادتهن منفردات
وإن قبلت منضمة مع الذكور.. فهذه ثلاثة أقسام.
القسم الأول: ما تشترط فيه الذكورة المحضة، فلا تقبل فيه شهادة
النساء أصلا، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يشترط في ثبوت الهلال الذكورة المحضة،
فلا تقبل فيه شهادة النساء منفردات، ولا منضمات مع الرجال، بلا خلاف

(1) المتقدمة جميعا في ص 269.
(2) الوسائل 8: 322 أبواب صلاة الجماعة ب 14 ح 4.
(3) الكافي 3: 14 / 1، الوسائل 1: 219 أبواب الطهارة ب 11 ح 4.
(4) منهم المحقق في الشرائع 4: 132، وصاحب الرياض 2: 439.
272

يوجد في الأول.
وكذا - إلا عن العماني - في الثاني، حيث قال: شهادة النساء مع
الرجال جائزة في كل شئ إذا كن ثقات (1).
وهو شاذ، بل عن الغنية الإجماع على خلافه (2)، بل هو إجماع
محقق حقيقة، فهو الدليل عليه، مضافا إلى الصحاح الثمان:
لابن سنان: " لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال " الحديث (3).
وصحيحة الحلبي: " كان علي (عليه السلام) يقول: لا أجيز في رؤية الهلال إلا
شهادة رجلين عدلين " (4).
والأخرى له أيضا: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تجوز شهادة النساء
في رؤية الهلال، ولا تجوز إلا شهادة رجلين عدلين " (5).
وصحيحة حماد (6) - وهي كسابقتها - والأخرى (7) وهي قريبة منها.
وصحيحة محمد: " لا تجوز شهادة النساء في الهلال " (8).

(1) نقله عنه في المختلف 2: 712.
(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.
(3) الكافي 7: 391 / 8، التهذيب 6: 264 / 702، الإستبصار 3: 23 / 70، الوسائل
27: 353 أبواب الشهادات ب 24 ح 10.
(4) الكافي 4: 76 / 2، الفقيه 2: 77 / 338، الوسائل 10: 288 أبواب أحكام شهر
رمضان ب 11 ح 8.
(5) التهذيب 4: 180 / 498، الوسائل 10: 288 أبواب أحكام شهر رمضان ب 11
ح 7، بتفاوت يسير.
(6) الكافي 4: 77 / 4، الفقيه 2: 77 / 340، الوسائل 10: 287 أبواب أحكام شهر
رمضان ب 11 ح 3.
(7) التهذيب 6: 269 / 724، الإستبصار 3: 30 / 96، الوسائل 27: 355 أبواب
الشهادات ب 24 ح 17.
(8) الكافي 4: 77 / 3، الوسائل 10: 286 أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 2.
273

والأخرى: " لا تجوز شهادة النساء في الهلال ولا في الطلاق " (1).
والعلاء: " لا تجوز شهادة النساء في الهلال " (2).
ورواية شعيب: " لا أجيز في الطلاق ولا في الهلال إلا رجلين " (3).
وبهذه الأخبار المعاضدة بعمل الأصحاب - بل بظواهر الكتاب
والأصل - يخصص إن كان هناك عموم يشمل النساء ثم الهلال.
وأما رواية داود بن الحصين: " لا تجوز شهادة النساء في الفطر إلا
شهادة رجلين عدلين، ولا بأس بالصوم بشهادة النساء ولو امرأة واحدة " (4).
فلا تنافي ما مر، لجواز الصوم احتياطا من دون شهادة أيضا، ومع
التنافي لا تعارضه، سيما مع مخالفتها الإجماع القطعي من الاكتفاء بالمرأة
الواحدة.
المسألة الثانية: تشترط في ثبوت الطلاق الذكورة المحضة أيضا،
ولا تقبل فيه شهادة النساء مطلقا، على الأظهر الأشهر بين من تقدم وتأخر.
للصحاح الثلاث: لمحمد - وقد تقدمت - والحلبي، وفيها: عن
شهادة النساء في النكاح، قال: " تجوز إذا كان معهن رجل، وكان علي (عليه السلام)
يقول: لا أجيزها في الطلاق " قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجل في
الدين؟ قال: " نعم " الحديث (5).

(1) الكافي 7: 391 / 6، الوسائل 27: 353 أبواب الشهادات ب 24 ح 8.
(2) التهذيب 6: 269 / 725، الإستبصار 3: 30 / 97، الوسائل 27: 356 أبواب
الشهادات ب 24 ح 18.
(3) التهذيب 4: 316 / 962، الوسائل 10: 289 أبواب أحكام شهر رمضان ب 11 ح 9.
(4) التهذيب 6: 269 / 726، الإستبصار 3: 30 / 98، الوسائل 10: 291 أبواب
أحكام شهر رمضان ب 11 ح 15.
(5) الكافي 7: 390 / 2، التهذيب 6: 269 / 723، الإستبصار 3: 29 / 95، الوسائل
27: 351 أبواب الشهادات ب 24 ح 2.
274

وبكير وغيره، وفي آخرها: " ولا تجوز فيه " أي في الطلاق " شهادة
النساء " (1).
والروايات التسع: لشعيب، وقد تقدمت، ومحمد بن الفضيل (2)،
والأخرى له (3)، وأبي بصير (4)..
وإبراهيم الخارقي، وفيها: " تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع
الرجال أن ينظروا إليه ويشهدوا عليه، وتجوز شهادتهن في النكاح إذا كان
معهن رجل " إلى أن قال: " ولا تجوز شهادتهن في الطلاق، ولا في
الدم " (5).
وداود بن الحصين: " وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجيز شهادة امرأتين
في النكاح عند الإنكار، ولا يجيز في الطلاق إلا شاهدين عدلين " قلت:
فأنى ذكر الله تعالى: * (فرجل وامرأتان) * (6)؟ قال: " ذلك في الدين إذا
لم يكن رجلان " الحديث (7).

(1) الكافي 6: 61 / 17، التهذيب 8: 48 / 148، الوسائل 22: 26 أبواب الطلاق
مقدماته وشرائطه ب 10 ح 2.
(2) الكافي 7: 391 / 5، التهذيب 6: 264 / 705، الإستبصار 3: 23 / 73، الوسائل
27: 352 أبواب الشهادات ب 24 ح 7.
(3) الفقيه 3: 31 / 94، الوسائل 27: 353 أبواب الشهادات ب 24 ح 7.
(4) الكافي 7: 391 / 4، التهذيب 6: 264 / 704، الإستبصار 3: 23 / 72، الوسائل
27: 351 أبواب الشهادات ب 24 ح 4.
(5) الكافي 7: 392 / 11 وفيه: عن إبراهيم الحارثي، التهذيب 6: 265 / 707،
الإستبصار 3: 24 / 75، الوسائل 27: 352 أبواب الشهادات ب 24 ح 5، وفي
الجميع لا يوجد: إذا كان معهن رجل.
(6) البقرة: 282.
(7) التهذيب 6: 281 / 774، الإستبصار 3: 26 / 81، الوسائل 27: 360 أبواب
الشهادات ب 24 ح 35.
275

وزرارة: عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال: " نعم، ولا تجوز
في الطلاق " الحديث (1).
والسكوني: " شهادة النساء لا تجوز في طلاق ولا نكاح ولا في
حدود الله، إلا في الديون، وما لا يستطيع الرجل النظر إليه " (2).
والكناني: " شهادة النساء تجوز في النكاح، ولا تجوز في
الطلاق " (3).
إلى غير ذلك من النصوص المتكثرة التي لا معارض لها.
خلافا للمحكي عن العماني - كما مر - وعن المبسوط والإسكافي،
فقبلاها (4).
ولم أعثر على دليل لهم سوى عام واحد (5)، يعارض ما مر بالعموم
من وجه، لظهور سائر العمومات من الكتاب والسنة في غير النساء أو
الطلاق، ولولا ترجيح ما مر - بالكثرة والأشهرية، وشذوذ المخالف، بل
موافقة الكتاب - لوجب الرجوع إلى الأصل، وهو مع ما مر.
وسوى ما حكي عن المبسوط من قوله: وروي قبول شهادتهن في
الطلاق مع الرجال (6).

(1) الكافي 7: 391 / 9، التهذيب 6: 265 / 706، الإستبصار 3: 24 / 74، الوسائل
27: 354 أبواب الشهادات ب 24 ح 11.
(2) التهذيب 6: 281 / 773، الإستبصار 3: 25 / 80، الوسائل 27: 362 أبواب
الشهادات ب 24 ح 42.
(3) التهذيب 6: 667 / 713، الإستبصار 3: 27 / 84، الوسائل 27: 357 أبواب
الشهادات ب 24 ح 25.
(4) حكاه عن العماني والإسكافي في المختلف: 712، المبسوط 8: 172.
(5) التهذيب 6: 242 / 597، الإستبصار 3: 13 / 34، الوسائل 27: 398 أبواب
الشهادات ب 41 ح 20.
(6) حكاه عنه في الرياض 2: 441.
276

وهو أيضا بالشذوذ مردود، وبالنسبة إلى ما مر مرجوح.
ولا يتوهم أخصيته من جميع ما مر لاختصاصه بما كان معه رجل،
لخصوصية رواية داود بذلك أيضا.
والظاهر عدم الإشكال في تعدي الحكم إلى الطلاق بالعوض - إن قلنا
بجوازه - أيضا، لكونه طلاقا قطعا.
وهل يتعدى إلى الخلع والمباراة أيضا، أم لا؟
المشهور كما في كلام جماعة (1): التعدي، بل عن الغنية عليه
الإجماع البسيط (2)، وعن المختلف المركب (3).
واستدل له بهما، وفي ثبوتهما إشكال، ومنقولهما غير حجة.
وبالأصل، وهو - بما أشير إليه من بعض العمومات - مندفع.
وبكونهما من أفراد الطلاق وبمعناه، وقبوله مشكل.
إلا أنه يمكن إثباته بقولهم (عليهم السلام) في الروايات المتكثرة من الصحاح
وغيرها: " وكان الخلع تطليقة " و: " خلعها طلاقها " (4).
وكذا في المباراة أيضا.
ولكن في بعض الروايات الجاعلة لهما قسمين للطلاق إشعار
بالتباين، مضافا إلى أن عدهما تطليقة ليس صريحا في كونهما طلاقا، إلا أنه
يمكن التعدي بالأصل، ورد العام المذكور بالشذوذ في المورد.
وحكي هنا قول آخر بالتفصيل، فترد لو كان المدعي المرأة، وتقبل

(1) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 413، وصاحب الرياض 2: 441.
(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.
(3) المختلف: 714.
(4) الوسائل 15: 490 أبواب الخلع والمباراة ب 3.
277

لو كان الرجل، لتضمنه دعوى المال والدين المستلزمة للبينونة، وتقبل
شهادتهن على المال والدين مطلقا (1).
وهو حسن لو ثبتت الكلية الأخيرة بحيث تشمل المورد، وأما قبولها
وتخصيصها بغير المورد فيتوقف على ثبوت مخصص غير الأصل، فتأمل.
والمسألة لا تخلو عن الإشكال.
المسألة الثالثة: تشترط في الحدود الذكورة المحضة - إلا ما استثني،
وما تجئ الإشارة إلى الخلاف فيه - بلا خلاف فيه يوجد كما عن الغنية (2)
وفي غيره (3)، وصرح بعض متأخري المتأخرين بالاتفاق عليه.
لرواية السكوني المتقدمة (4)، ورواية غياث بن إبراهيم: " لا تجوز
شهادة النساء في الحدود، ولا في القود " (5)، ونحوها رواية إسماعيل (6).
وصحيحة جميل وابن حمران: تجوز شهادة النساء في الحدود؟
قال: " في القتل وحده " (7).
وأما رواية البصري: " تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجل " (8).

(1) انظر المسالك 2: 413.
(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.
(3) كالرياض 2: 443.
(4) التهذيب 6: 281 / 773، الإستبصار 3: 25 / 80، الوسائل 27: 362 أبواب
الشهادات ب 24 ح 42.
(5) التهذيب 6: 265 / 709، الإستبصار 3: 24 / 77، الوسائل 27: 358 أبواب
الشهادات ب 24 ح 29.
(6) التهذيب 6: 265 / 710، الإستبصار 3: 24 / 78، الوسائل 29: 140 أبواب
دعوى القتل وما يثبت به ب 2 ح 8.
(7) الكافي 7: 390 / 1، التهذيب 6: 226 / 711، الإستبصار 3: 26 / 82، الوسائل
27: 350 أبواب الشهادات ب 24 ح 1.
(8) التهذيب 6: 270 / 728، الإستبصار 3: 30 / 100، الوسائل 27: 356 أبواب
الشهادات ب 24 ح 21.
278

والرضوي: " وتقبل " أي شهادة النساء " في الحدود " (1)..
فبالشذوذ خارجان عن الحجية، فلا يصلحان لمعارضة ما مر.
ثم هذه الأخبار - كما ترى - مختصة بالحدود، وقد ألحقوا بها جميع
حقوق الله حتى المالية أيضا، كالزكاة والخمس والنذر الكفارة، وصرح
بعضهم بعدم الخلاف فيه (2)، وادعى بعضهم الاتفاق على انحصار قبول
شهادة النساء في الحقوق المالية الإنسانية.
ولكن الظاهر من الروضة عدم كونه اتفاقيا، حيث نسب الإلحاق إلى
المصنف، فقال: وهذه الأربعة ألحقها المصنف بحقوق الله سبحانه - وإن
كان للآدمي فيها حظ، بل هو المقصود منها - لعدم تعين المستحق على
الخصوص (3). انتهى.
ومنه يظهر إمكان القدح في شمول دعوى الاتفاق المتقدمة على
الحصر للمنع في الأربعة أيضا.
بل يظهر إمكان إرادة الشهيد في الدروس عدم الإلحاق، حيث صرح
بالقبول في الحقوق المالية مطلقا، ولم يتعرض لذكر الأربعة (4).
بل يمكن مثل ذلك في كلام جمع من القدماء - كالنهاية والسرائر -
حيث لا تعرض فيهما للإلحاق (5).
وعلى هذا، فلا يمكن إثبات الإلحاق بالإجماع.

(1) فقه الرضا " ع ": 262، مستدرك الوسائل 17: 426 أبواب الشهادات ب 19 ح 8.
(2) كما في الرياض 2: 443.
(3) الروضة 3: 141.
(4) الدروس 2: 137.
(5) النهاية: 333، السرائر 2: 137 - 139.
279

ولذا اقتصر في المسالك في الاستدلال للإلحاق بالأصل (1).
وهو أيضا مخدوش، لأنه إنما كان صحيحا لولا عموم أو إطلاق دال
على قبول شهادة النساء.
مع أن رواية عبد الكريم بن أبي يعفور دالة على قبولها مطلقا: " تقبل
شهادة المرأة والنسوة إذا كن مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالستر
والعفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء والتبرج إلى الرجال في
أنديتهم " (2).
بل يمكن دفع الأصل بالروايات المصرحة بقبول شهادة النساء في
الدين (3) كما يأتي، وهذه أيضا من الديون حقيقة كما صرح به (بعضهم (4)،
وصرحوا به) (5) في بيان إخراج هذه الأمور من أصل التركة قبل الوصية.
واستدلوا له بقوله سبحانه: * (من بعد وصية يوصي بها أو
دين) * (6).. ودعوى تبادر غير ذلك من الديون ممنوعة.
وبما دل على قبول شهادة المرأة لزوجها إذا كان زوجها هو المنذور
له (7).
وقد يستأنس للإلحاق بالأخبار المتضمنة لقبول شهادتهن في أمور

(1) المسالك 2: 413.
(2) التهذيب 6: 242 / 597، الإستبصار 3: 13 / 34، الوسائل 27: 398 أبواب
الشهادات ب 41 ح 20.
(3) الوسائل 27: 350 أبواب الشهادات ب 24.
(4) كصاحب الرياض 2: 443.
(5) ما بين القوسين ليس في " ح ".
(6) النساء: 11.
(7) الوسائل 27: 366 أبواب الشهادات ب 25.
280

خاصة (1)، من جهة ظهورها في الاختصاص.
وفيه - مع أن منها الدين الشامل للمورد، وأن أكثرها مقيدة بالنساء
وحدهن، فلا يشمل شهادة النساء والرجال -: أن هذا ليس في الأكثر إلا
اعتبارا لمفهوم اللقب، وهو باطل.
وعلى هذا، فالأظهر عدم الإلحاق.
ثم الحدود المشترطة فيها الذكورة المحضة تشمل الرجم والجلد،
وحد اللواط والسحق، وإتيان البهيمة، وشرب الخمر، والسرقة، والردة،
والقذف، وقصاص النفس والطرف، وغيرها من أنواع الحدود.
وهل تشمل التعزيرات؟
ظاهر الأخبار: العدم، للتصريح فيها بعدم كونها حدا، فورد فيها: أن
ليس في ذلك حد، ولكن فيه تعزير (2).
وعبر جمع من الأصحاب بحقوق الله الشاملة لها أيضا (3).
ولكن لم أعثر بذلك على نص، فإن ثبت الإجماع - كما هو المظنون -
وإلا فالإطلاق المتقدم يقتضي القبول (4)، إلا أنه يمكن الاستدلال بالحصر
المذكور في رواية السكوني المتقدمة (5)، وبه يقيد الإطلاق المذكور،
فالأظهر فيها عدم القبول.
ثم إنه استثني من الحدود: الرجم، فقبلت فيه شهادة النساء مع
الرجال، على التفصيل الآتي في كتاب الحدود إن شاء الله.

(1) الوسائل 27: 350 أبواب الشهادات ب 24.
(2) الوسائل 18: 571 أبواب نكاح البهائم ووطء الأموات والاستمناء ب 1 ح 3 و 5.
(3) انظر المبسوط 8: 215.
(4) أي رواية عبد الكريم بن أبي يعفور المتقدمة في ص 278.
(5) في ص 274.
281

وعن الإسكافي: إلحاق اللواط والسحق به أيضا (1).
وهو ضعيف غايته كما يأتي.
ومما وقع الخلاف فيه: القتل والجرح الموجبين للقود - دون ما تجب
فيه الدية - فإنه خلاف في ثبوته بها..
فمنع الحلي عن الثبوت بها مطلقا (2)، وهو مذهب الشيخ في الخلاف
والفاضل في التحرير والقواعد (3).
وعن العماني: القبول كذلك، فيقتص من الجاني بشهادتهن مع
الرجال (4). ونسب إلى موضع من الشرائع والإرشاد والقواعد (5)، واحتمله
في التحرير (6).
وذهب الشيخ في المبسوط والنهاية والإسكافي والحلبي والقاضي
والشرائع والنافع والمختلف والإيضاح إلى القبول في الدية دون
القصاص (7)، بمعنى أنه تثبت من شهادتهن في الجناية الموجبة للقود أيضا
الدية، ولا يقتص بشهادتهن. وحاصله: قبول شهادتهن، إلا أنه لا يحكم
بواسطتها بالقصاص.
وهذا - أو القبول في الجملة، ولو بالنسبة إلى الدية - هو الذي نسبه

(1) حكاه عنه في المختلف: 715.
(2) السرائر 2: 138.
(3) الخلاف 2: 606، التحرير 2: 212، القواعد 2: 238.
(4) حكاه عنه في المختلف: 714.
(5) الشرائع 4: 137، القواعد 2: 239.
(6) التحرير 2: 212.
(7) المبسوط 8: 172، النهاية: 333، وحكاه عن الإسكافي في المختلف: 714،
الحلبي في الكافي في الفقه: 436، حكاه عن القاضي في المختلف: 714،
الشرائع 4: 137، المختصر النافع: 288، المختلف: 714، الإيضاح 4: 434.
282

في المسالك إلى أكثر الأصحاب (1).
وهذا هو تحرير الخلاف في المسألة.
وقال صاحب الكفاية: أما القصاص - يعني الجناية الموجبة له -
فاختلف الأصحاب فيه، أولها: القبول مطلقا، وثانيها: عدم القبول مطلقا،
وثالثها: القبول فيما يوجب الدية حسب (2). انتهى.
ولا يخفى ما في كلامه، حيث جعل محل الخلاف الجناية الموجبة
للقصاص، ثم جعل أحد الأقوال القبول فيما يوجب الدية.
ثم إن دليل الأولين: الروايات الأربع من التسع المتقدمة في المسألة
الثانية (3)، وروايتا غياث وإسماعيل المتقدمتان في صدر المسألة (4).
ورواية زرارة: قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ قال:
" لا " (5).
وصحيحة محمد، وفي آخرها: " ولا تجوز شهادة النساء في
القتل " (6).
وصحيحة ربعي: " لا تجوز شهادة النساء في القتل " (7).

(1) المسالك 2: 414.
(2) الكفاية: 285.
(3) راجع ص 273.
(4) راجع ص 276.
(5) الكافي 7: 391 / 9، التهذيب 6: 265 / 706، الإستبصار 3: 24 / 74، الوسائل
27: 354 أبواب الشهادات ب 24 ح 11.
(6) التهذيب 6: 265 / 708، الإستبصار 3: 24 / 76، الوسائل 27: 358 أبواب
الشهادات ب 24 ح 28.
(7) التهذيب 6: 267 / 716، الإستبصار 3: 27 / 87، الوسائل 27: 358 أبواب
الشهادات ب 24 ح 27.
283

مضافة إلى الحصر المصرح به في رواية السكوني المتقدمة (1)،
والروايات المانعة عن شهادتهن في الحدود (2).
ودليل الثاني: صحيحة جميل وحمران المتقدمة (3)، وروايتا الكناني
والشحام:
في الأولى: وقال: " تجوز شهادة النساء في الدم مع الرجال " (4).
وفي الثانية: فقلت: أتجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ فقال:
" نعم " (5).
وحجة الثالث: الجمع بين أخبار القولين الأولين، بحمل أخبار الأول
على المنع في القود، وأخبار الثاني على القبول في الدية.
مستأنسا لهذا الجمع بقوله في روايتي غياث وإسماعيل: " ولا في
القود ".
وبما يشعر به كلام الإسكافي من الإجماع، حيث قال: وإن لم تتم
الشهادة على القتل بالرجال وشاركتهم النساء أوجبنا بها الدية (6).
أقول: أجيب عن الحجة الأخيرة تارة: بأن الجمع فرع التكافؤ،
ولا تكافئ أخبار القبول روايات المنع.

(1) في ص 274.
(2) انظر الوسائل 27: 350 أبواب الشهادات ب 24.
(3) في ص 276.
(4) التهذيب 6: 267 / 713، الإستبصار 3: 27 / 84، الوسائل 27: 357 أبواب
الشهادات ب 24 ح 25.
(5) التهذيب 6: 266 / 712، الإستبصار 3: 27 / 83، الوسائل 27: 359 أبواب
الشهادات ب 24 ح 32.
(6) حكاه عنه في المختلف: 712.
284

وفيه منع ظاهر، إذ لا ترجيح لروايات المنع إلا الأكثرية، ومجرد ذلك
لا يدفع التكافؤ.
وأما عمل الأصحاب، فليس العامل بالأول أكثر من الثاني كثرة موجبة
للترجيح.
ويعارض اعتضاد الأول - بروايات منع القبول في الحدود، والحصر
المذكور - باعتضاد الثاني أيضا بعموم رواية عبد الكريم (1)، وتصريح رواية
البصري (2) والرضوي (3) بالقبول في الحدود.
وقد يدفع التكافؤ ببعض التقريبات الموهونة جدا أيضا.
وأخرى: بإمكان الجمع بحمل المانعة على صورة انفرادهن،
ومخالفها على صورة اجتماعهن مع الرجال.
وفيه: تصريح بعض أخبار المنع به في صورة الاجتماع أيضا،
فلا جمع.
والصواب أن يجاب: بأن هذا هو جمع بلا شاهد، ومثله فاسد..
وليس في قوله: " ولا في القود " شهادة على ذلك أصلا، فهذا القول ضعيف
جدا.
والأخبار من الطرفين وإن كانت معارضة إلا أن بعد تعارضهما - حتى
أخبار المنع والجواز في الحدود - لا يعلم مخصص للحصر المتقدم، وبه

(1) التهذيب 6: 242 / 597، الإستبصار 3: 13 / 34، الوسائل 27: 398 أبواب
الشهادات ب 41 ح 20.
(2) التهذيب 6: 270 / 728، الإستبصار 3: 30 / 100، الوسائل 27: 356 أبواب
الشهادات ب 24 ح 21.
(3) فقه الإمام الرضا " ع ": 262، مستدرك الوسائل 17: 426 أبواب الشهادات ب 19
ح 8.
285

يخصص عموم رواية عبد الكريم.
وتظهر قوة القول الأول، فعليه الفتوى والعمل.
ومما ذكر ظهر وجه القبول في موجبات الدية من القتل والجرح
أيضا، لموافقة الحصر والعموم له، مع أن الظاهر عدم الخلاف فيه.
ثم إن ما ذكرنا من الخلاف إنما هو في شهادتهن مع الرجال، بأن
يشهد رجل وامرأتان أو أكثر.
وأما المنفردات، فلا خلاف في عدم قبول شهادتهن في القتل
والجراح الموجبين للقود مطلقا، إلا ما حكي عن الحلبي، حيث قال بقبول
شهادة امرأتين في نصف الدية، والواحدة في الربع (1)، مستدلا بصحيحة (2)
وضعيفة (3) شاذتين خارجتين عن حيز الحجية بشذوذهما.
مع إمكان الخدش في دلالة الصحيحة بحملها على الدفع خطأ،
وإرادة قبول شهادة المرأة بحسبها - أي بنصف شهادة الرجل - وطلب امرأة
أخرى مع رجل آخر، فتأمل.
المسألة الرابعة: اختلفوا في قبول شهادتهن في الرضاع المحرم، فعن
الخلاف وموضع من المبسوط والسرائر والجامع: المنع (4)، وعن السرائر
والتحرير والمسالك أنه مذهب الأكثر (5)، وعن ظاهر المبسوط دعوى

(1) الكافي في الفقه: 349، وحكاه عنه في المختلف: 714.
(2) الفقيه 3: 31 / 96، التهذيب 6: 267 / 714، الإستبصار 3: 27 / 85، الوسائل 27: 357
أبواب الشهادات ب 24 ح 26.
(3) الفقيه 3: 32 / 98، التهذيب 6: 267 / 715، الإستبصار 3: 27 / 86، الوسائل
27: 359 أبواب الشهادات ب 24 ح 33.
(4) الخلاف 2: 608، المبسوط 8: 175، السرائر 2: 137، الجامع للشرائع: 543.
(5) السرائر 2: 115، التحرير 2: 212، المسالك 2: 414.
286

الإجماع عليه، حيث قال: وشهادة النساء لا تقبل في الرضاع عندنا (1).
ونسبه فيه إلى روايات الأصحاب، بل عن الخلاف دعوى الإجماع عليه
صريحا (2).
وعن العماني والإسكافي والمفيد والديلمي وابن حمزة وموضع من
المبسوط والفاضلين والشهيدين والفخري والصيمري وسائر المتأخرين:
القبول (3)، وعن السيد الإجماع عليه (4).
دليل الأول: الحصران المتقدمان.
وحجة الثاني: عموم رواية عبد الكريم.
وخصوص النصوص المصرحة بجواز شهادة النساء فيما لا يستطيع
الرجال أن ينظروا إليه - كما في بعضها (5) - أو لا يجوز للرجل أن ينظر إليه،
أو لا ينظر إليه الرجل (6).
ولأنه أمر لا يطلع عليه الرجل غالبا، فمست الحاجة إلى قبول
شهادتهن فيه.

(1) المبسوط 5: 411، و ج 8: 175.
(2) الخلاف 2: 609.
(3) حكاه عن العماني والإسكافي في المختلف 2: 716، المفيد في المقنعة: 727،
الديلمي في المراسم (الجوامع الفقهية): 657، ابن حمزة في الوسيلة: 222.
المبسوط 8: 175، المحقق في النافع: 288، العلامة في التحرير 2: 212،
الشهيدان في الدروس 2: 138، واللمعة والروضة 3: 144، الفخري في الإيضاح
4: 435.
(4) السيد في الناصريات (الجوامع الفقهية): 212.
(5) الكافي 7: 392 / 11، التهذيب 6: 365 / 707، الوسائل 27: 352 أبواب
الشهادات ب 24 ح 5.
(6) التهذيب 6: 281 / 773، الإستبصار 3: 25 / 80، الوسائل 27: 362 أبواب
الشهادات ب 24 ح 42.
287

ولمرسلة ابن بكير: امرأة أرضعت غلاما وجارية، قال: " يعلم ذلك
غيرها؟ " قلت: لا، قال: " لا تصدق إن لم يكن غيرها " (1). وتدل بمفهوم
الشرط على تصديقها إذا كان معها غيرها ولو كان ذكرا واحدا وأنثى
واحدة.. وخروج بعض الأفراد بالدليل غير ضائر.
أقول: أما المرسلة ففيها: أن المرضعة فيها إما مدعية أو متبرعة، ومع
ذلك لها نصيب في الشهادة - وهو محرمية الغلام لها، والولدية الرضاعية -
ومثل تلك الشهادة غير مقبولة، لأحد الوجوه الثلاثة، بل ظاهر قوله:
" لا تصدق " أن عدم القبول لأجل كونها مدعية.
وأما ما تقدمها ففيه: أنه أمر لا يطلع عليه الرجال الأجانب غالبا، وأما
غيرهم - كزوج المرضعة وأبيها، وآبائهما، وأب الأم، وأولادها، وإخوانها،
وأولادهم، وأولاد الأخت، وأعمامها وأخوالها - فلم لا يطلع عليه؟! وأي
فرق بينهم وبين النساء؟! ولو كان فرق بشئ يسير لا اعتناء به، مع أنه أي
حاجة إلى ثبوت الرضاع وحصول التحريم؟!.
ومما ذكر يظهر ما في سابقه أيضا، من أن الثدي ليس شئ
لا يستطيع أن ينظر إليه الرجال، أو لا يجوز، أو لا ينظر:
نعم، لا يجوز للرجال الأجانب، ولم تقيد الأخبار بالأجانب، ولو
خص بذلك لكانت الشهادة على ما يتعلق بالمرأة مطلقا كذلك، سيما على
القول بحرمة استماع الأجانب أصواتهن.
فلم يبق إلا العموم المذكور، وتخصيصه بالحصر المتقدم لازم.
فالحق هو القول الأول.

(1) التهذيب 7: 323 / 1330، الوسائل 20: 4012 أبواب عقد النكاح ب 12 ح 3.
288

المسألة الخامسة: اختلفوا في قبول شهادتهن مع الرجال في النكاح:
فعن المفيد والخلاف والديلمي وابن حمزة والحلي وظاهر التحرير:
المنع (1)، وعن الصيمري نسبته إلى المشهور، لرواية السكوني المتقدمة (2).
وعن العماني والإسكافي والصدوقين والحلبي والتهذيبين والمبسوط
وابن زهرة والشرائع والإرشاد والقواعد والإيضاح والدروس وغيرهم من
المتأخرين (3) بل الأكثر - كما عن المسالك (4) -: القبول، وعليه الإجماع عن
الغنية (5).
لصحيحة الحلبي (6)، والروايات السبع لمحمد بن الفضيل، وأبي بصير،
والخارقي، وابن الحصين، وزرارة، والكناني، المتقدمة كلا في المسألة
الثانية (7).
والرضوي: " وتقبل شهادة النساء في النكاح والدين، وكل ما لا يتهيأ
للرجال أن ينظروا إليه، ولا تقبل في الطلاق، ولا في رؤية الهلال " (8).

(1) المفيد في المقنعة: 727، الخلاف 2: 606، الديلمي في المراسم (الجوامع
الفقهية): 656، ابن حمزة في الوسيلة: 222، الحلي في السرائر 2: 139،
التحرير 2: 212.
(2) في ص 274.
(3) حكاه عن العماني والإسكافي في المختلف: 712 و 713، الصدوق في المقنع:
135، وحكاه عنه وعن والده في المختلف: 713، الحلبي في الكافي في الفقه:
439، التهذيب 6: 280، الإستبصار 3: 25، المبسوط 8: 172، ابن زهرة في
الغنية (الجوامع الفقهية): 624، الشرائع 4: 136، القواعد 2: 239، الإيضاح 4:
432، الدروس 2: 137.
(4) المسالك 2: 413.
(5) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.
(6) المتقدمة في 272.
(7) راجع ص 273 و 274.
(8) فقه الرضا " (عليه السلام) ": 262، مستدرك الوسائل 17: 426 أبواب الشهادات ب 19 ح 8.
289

أقول: بعض تلك الأخبار الثمانية وإن كانت مطلقة، ولكن أكثرها
مقيدة بما إذا كان معهن رجل، وبعد حمل مطلقها على المقيد يختص
الجميع بذلك، ويلزم تخصيص رواية السكوني - التي هي دليل المنع -
بذلك، لكونها أعم مطلقا.
ولا ينافيه استثناء الديون المثبت لقبول شهادتهن فيها - مع أنه أيضا
لا يكون مع انفرادهن عن الرجال - لمنع عدم قبول شهادتهن فيها على
الانفراد مطلقا، لقبولها مع اليمين - كما يأتي - فلعله المراد من القبول في
صورة الاستثناء.
مع أنه لو قطع النظر عن ذلك لكان الترجيح لهذه الروايات البتة،
للأشهرية رواية، ومخالفة العامة، كما صرح به شيخ الطائفة (1)، ودلت عليها
تتمة رواية داود بن الحصين السالف بعضها (2).
وأما الجمع بينهما - بحمل المنع على ما إذا كان المدعي الزوج، لأنه
لا يدعي مالا، وحمل القبول على ما إذا كانت المدعية الزوجة، لأن دعواها
متضمنة للمهر والنفقة، كما استوجهه في المسالك (3) - فضعيف غايته، لفقد
التكافؤ، وانتفاء الشاهد عليه.
وظهر من ذلك أن الحق هو القول بالقبول، لكن مقيدا بما إذا كان
معهن رجل، كما هو مذهب الأصحاب، وقيده به في الصحيحة، والروايات
الأربع الأولى (4).

(1) الإستبصار 3: 25.
(2) في ص 273.
(3) المسالك 2: 413.
(4) المتقدمة جميعا في ص 273.
290

وصرح به في رواية إسماعيل بن عيسى: هل تجوز شهادة النساء في
التزويج من غير أن يكون معهن رجل؟ قال: " لا، هذا لا يستقيم " (1)، وبها
تقيد المطلقات.
المسألة السادسة: صرح جماعة بعدم قبول شهادة النساء لا منفردات
ولا منضمات في أمور، كالرجعة، والعدة، والوكالة، والوصاية، والجناية
الموجبة للقود، والعتق، والولاء، والتدبير، والكتابة، والبلوغ، والجرح،
والتعديل، والعفو عن القصاص، والإسلام.
وضبطها في الدروس والمسالك (2) وغيرهما (3) بما كان من حقوق
الآدمي غير المالية ولا المقصود منه المال.
ونسب ذلك الضبط في الأول إلى الأصحاب، مؤذنا بدعوى الإجماع.
ولكن خدش في الإجماع فيه الأردبيلي في شرح الإرشاد، وقال:
لا أعرفه، ولا دليلا لثبوت القاعدة، والأصل قبول الشهادة (4).
أقول: الخدش في الإجماع - في خصوص تلك الأمور وفي تأسيس
القاعدة - في محله، مع أن ما مثلوا به للقاعدة وما لخلافها قد لا ينطبق على
ما مثلوا به له.
وقد يراد ببعض أمثلة القاعدة: المال، وقد يقصد ببعض أمثلة
خلافها: غير المال، ولذا وقع الخلاف في بعض أمثلة كل منهما..
إلا أنه يمكن إثبات الحكم - وهو عدم القبول في جميع ما مثلوا به

(1) التهذيب 6: 280 / 769، الإستبصار 3: 25 / 79، الوسائل 27: 362 أبواب
الشهادات ب 24 ح 39.
(2) الدروس 2: 137، المسالك 2: 413.
(3) كالخلاف 2: 606، الروضة 3: 141.
(4) انظر مجمع الفائدة والبرهان 12: 422 وما يليها.
291

للقاعدة، وما يشابهه من أمثلة خلافها، واختلفوا فيها، مع عدم نص
مخصوص على القبول فيه - بما ذكرنا من الحصر المذكور في رواية
السكوني (1)، المخصص به عموم رواية عبد الكريم (2) ونحوه لو وجد..
بل يمكن إثبات أصل القاعدة به أيضا، لعدم كون كل ما كان مصداقا
لها دينا لغة ولا عرفا، فعدم القبول فيما يندرج تحتها هو الصحيح.
لا يقال: تعارض الحصر المذكور مرسلة يونس، المصرحة بأن
استخراج الحقوق بأربعة، وعد منها الرجل وامرأتين (3)، والحقوق أعم من
المالية وغيرها.
قلنا: إنه عد منها الرجل الواحد واليمين، وقد عرفت اختصاصه
بالديون بالنصوص، ولازمه تخصيص الحقوق بها أيضا، أو التوقف،
فلا يثبت في مطلق الحقوق، والله العالم.
المسألة السابعة: ومن ذلك القسم: كل أمر - غير الديون - لم يثبت
فيه قبول شهادة النساء منفردات أو منضمات فيه بدليل خاص به، للحصر
المتقدم، وستأتي الإشارة إلى بعض أمثلتها في ذيل الأقسام الثلاثة.
القسم الثاني: ما تشترط فيه الذكورة في الجملة لا المحضة، فتقبل
فيه شهادة النساء ولكن مع الرجل، ومن ذلك القسم: النكاح على الأشهر
الأظهر، كما مر.
وقد عرفت الاختلاف في بعض آخر أيضا، كالجناية الموجبة للقود

(1) المتقدمة في ص 274.
(2) المتقدمة في ص 278.
(3) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 4.
292

والطلاق وغيرهما، وعلمت الحق فيها.
ومنه: الديون عند جماعة (1)، والأظهر خلافه، كما يأتي.
وظهر من ذلك أن هذا القسم منحصر - على المختار - في النكاح.
القسم الثالث: ما لا تشترط فيه الذكورة، بل تقبل فيه شهادة النساء
منضمات مع الرجال ومنفردات، مع اليمين أو بدونها.. وها هنا مسائل:
المسألة الأولى: تقبل شهادة النساء في الديون في الجملة، بلا خلاف
كما صرح به جماعة (2)، بل بالإجماع كما عن السرائر والغنية والمختلف (3)
وغيرها (4)، بل بالإجماع المحقق، فهو الحجة فيه.
مع الآية الكريمة: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * (5).
والنصوص المستفيضة، كمرسلة يونس المتكرر ذكرها، وصحيحة
الحلبي، وروايتي داود بن الحصين والسكوني، المتقدمة جميعا في المسألة
الثانية من القسم الأول (6)، والرضوي المتقدم في الخامسة منه (7).
وصحيحة أخرى للحلبي: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أجاز شهادة النساء مع
يمين الطالب في الدين، يحلف بالله أن حقه لحق " (8).

(1) منهم ابن سعيد في الجامع للشرائع: 542، صاحب الرياض 2: 444.
(2) منهم ابن إدريس في السرائر 2: 138، السبزواري في الكفاية: 285، صاحب
الرياض 2: 444.
(3) السرائر 2: 138، الغنية (الجوامع الفقهية): 624، المختلف: 713.
(4) كالمسالك 2: 414.
(5) البقرة: 282.
(6) راجع ص 272 - 274.
(7) راجع ص 287.
(8) الكافي 7: 386 / 7، الفقيه 3: 33 / 106، التهذيب 6: 272 / 739، الإستبصار
3: 32 / 107، الوسائل 27: 271 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 15 ح 3.
293

وثالثة: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أجاز شهادة النساء في الدين وليس
معهن رجل " (1).
ومرسلة الحلبي: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أجاز شهادة النساء في الدين
مع يمين الطالب، يحلف بالله أن حقه لحق " (2).
وموثقة منصور بن حازم المروية في الفقيه: " إذا شهد لطالب الحق
امرأتان ويمينه فهو جائز " (3)، ورواها في التهذيب بواسطة واحد ثقة (4).
ثم مقتضى إطلاق غير الأولى من الروايات المذكورة - بل صريح
الثلاثة الأخيرة سيما الصحيحة الثالثة - قبول شهادتهن ولو انفردن عن
الرجل، كما هو الحق المحكي عن الخلاف والمبسوط والنهاية والإسكافي
والقاضي وابن حمزة والشرائع والإرشاد والقواعد والمختلف وشهادات
التحرير والشهيدين (5)، بل كما قيل: الكليني والصدوق أيضا (6)، وعن
الخلاف: الإجماع عليه (7).

(1) الفقيه 3: 32 / 100، التهذيب 6: 263 / 701، الإستبصار 3: 22 / 69،
الوسائل 27: 356 أبواب الشهادات ب 24 ح 20.
(2) الكافي 7: 390 / 2، التهذيب 6: 269 / 723، الإستبصار 3: 29 / 95، الوسائل
27: 351 أبواب الشهادات ب 24 ح 2.
(3) الفقيه 3: 33 / 105، الوسائل 27: 271 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 15 ح 1.
(4) التهذيب 6: 272 / 738، الوسائل 27: 359 أبواب الشهادات ب 24 ح 31.
(5) الخلاف 2: 607، المبسوط 8: 174، النهاية: 333، حكاه عن الإسكافي في
المختلف: 712، القاضي في المهذب 2: 558، ابن حمزة في الوسيلة: 222،
الشرائع 4: 137، القواعد 2: 239، المختلف: 713، التحرير 2: 212، الشهيد
في الدروس 2: 137، 138، الشهيد الثاني في الروضة 3: 147.
(6) انظر الرياض 2: 444.
(7) الخلاف 2: 607.
294

لما ذكر من الإطلاقات والعمومات الخالية عن المعارض بالمرة.
خلافا للسرائر والنافع وعن قضاء التحرير والتنقيح (1).
للاقتصار على موضع الإجماع ومنصوص الكتاب.
ومفهوم الصحيحة الأولى.
وظاهر مرسلة يونس: " استخراج الحقوق بأربعة [وجوه]: بشهادة
رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان
فرجل ويمين المدعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه " (2).
حيث حصر الاستحقاق بالأربعة، وليس منها النساء المنفردة، مضافا
إلى تصريحها بأنه إن لم يكن رجل فيرجع إلى يمين المدعى عليه.
وصحيحة إبراهيم بن محمد الهمداني: امرأة شهدت على وصية رجل
لم يشهدها غيرها، وفي الورثة من يصدقها، ومنهم من يتهمها،
فكتب (عليه السلام): " لا، إلا أن يكون رجل وامرأتان، وليس بواجب أن تنفذ
شهادتها " (3).
ويرد على الأول: أن الاقتصار على المجمع عليه والمنصوص إذا
لم يكن دليل على غيرهما.
وعلى الثاني: أن التقييد في كلام الراوي، ولا اعتبار بمفهومه، مع أن
مفهومه أيضا ليس من المفاهيم المعتبرة.
وعلى الثالث: أن مفهوم الحصر عام يجب تخصيصه بالدليل، كما

(1) السرائر 2: 116، 138، النافع: 288، التحرير 2: 193، التنقيح 4: 307.
(2) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 271 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 15 ح 2، وما بين المعقوفين من المصادر.
(3) التهذيب 6: 268 / 719، الإستبصار 3: 28 / 90، الوسائل 27: 360 أبواب
الشهادات ب 24 ح 34.
295

خصصه في نفس المرسلة أيضا، حيث صرحت بالثبوت باليمين المردودة
أيضا.
وكذا مفهوم: إن لم يكن رجل، مع أن المذكور فيها: " فإن لم يكن
شاهد "، وإطلاق الشاهد على المؤنث شائع.
وعلى الرابع: أنه مخالف لعمل الأصحاب، ومعارض بالأخبار الكثيرة
من ثبوت الوصية بالمال، كما يأتي.
فروع:
أ: يشترط في الحكم بشهادتهن هنا - منفردات عن الرجال - ضم
اليمين وإن كن أربع نسوة، بلا خلاف فيه يوجد، بل جعله بعض مشايخنا
المعاصرين قطعيا (1).
ويدل عليه مفهوم الحصر في المرسلة، حيث جعلت استخراج
الحقوق - الذي هو الحكم - بالأربعة، خرج منها: النساء مع الرجل
بالإجماع والكتاب والسنة، ومع اليمين بصحيحة الحلبي الثانية ومرسلته
والموثقة، حيث إنه لا يمين مع الرجال إجماعا، فبقي الباقي.
ولا تخرجه رواية السكوني، ولا الرضوي، ولا الصحيحة الثالثة، من
جهة عدم اشتمالها على ذكر اليمين، لأن قبول الشهادة وإجازتها غير
الحكم، واستخراج الحق بها غير مستلزم له، ولذا ورد قبول شهادة الزوج
والولد والأخ وغيرهم، مع أنه لا يحكم بها إلا مع شاهد أو يمين.
مع أن الرضوي ضعيف غير منجبر في المقام، والصحيحة قضية في

(1) انظر الرياض 2: 444.
296

واقعة أو وقائع.
ب: قد سبق - في بحث الحكم بالشاهد واليمين من بحث القضاء -
المراد من الدين، وأنه مال متعلق بالذمة لغة وعرفا، بأي سبب كان، وهو
الدين بالمعنى العام، الشامل للدين بالمعنى الأخص الذي هو القرض.
وكذا المراد من كون الدعوى في الدين أن يكون هو المقصود من
المخاصمة ولو تعلقت بسببه، وأنه يثبت السبب لو كان المقصود من
الدعوى هو الدين، كما لو ادعى الاشتراء منه بمائة لمطالبة المائة، فلو ادعى
المؤجر إجارة البيت لأخذ مال الإجارة يكون دعوى الدين، ولو ادعى
المستأجر الإجارة لم يكن كذلك.
وعلى هذا، فيشمل الدين للقرض، والنسية، والسلف، وثمن
المبيع، والضمان، وغرامة التالف، ودية الجنايات، وغير ذلك مما يتعلق
فيه المال بالذمة، ويكون هو المقصود بالدعوى، سواء تعلقت به ذاتا أو
بسببه تبعا.
ج: قد ألحقوا بالدين جميع الدعاوى المالية، أو ما يكون المقصود
منه المال، ولأجله حكموا بالقبول في دعوى الرهن والإجارة مطلقا،
والقراض، والشفعة، والمزارعة، والمساقاة، والهبة، والإبراء، والوصية
بالمال، والصداق، والإقالة، والرد بالعيب، والغصب، والسرقة من جهة
المال، والخيار، وغير ذلك.
وإلحاقهم يشمل ما لو لم يكن هناك دين أيضا، كما إذا توافقا في
أصل الدين واختلفا في الرهن أو في تعينه، وكما إذا أدى المستأجر
الإجارة، وكما إذا كانت الوصية بالعين، أو الصداق، والغصب بها.
ولا أرى لذلك الإلحاق دليلا، ولم يثبت لي فيه إجماع، وإن نقله في
297

المختلف على الدين والعين (1)، والحصر في رواية السكوني والمرسلة
ينفيه، وقد أشار بذلك المحقق الأردبيلي، حيث قال - بعد حكاية القاعدة
واحتمال الإجماع عليها -: إني لا أعرفهما (2).
وبالجملة: الدليل خير متبع، وهو مع عدم الإلحاق، والاقتصار على
موضع الدليل ومحل الوفاق، كما فعله الشيخ في النهاية والحلي في السرائر
والمحقق في النافع (3).
نعم، تقبل شهادتهن في الوصية بالمال كما يأتي.
المسألة الثانية: يثبت بشهادة النساء منضمات ومنفردات كل ما يعسر
اطلاع الرجال عليه غالبا - كالولادة، والبكارة، والثيبوبة، والحيض، وعيوب
النساء الباطنة، كالقرن (4) والرتق (5) والقرحة في الفرج - بلا خلاف يوجد،
كما صرح به جماعة - منهم ابن زهرة (6) - لمسيس الحاجة، والمعتبرة
المستفيضة..
منها: الروايات الأربع لمحمد بن الفضيل، وأبي بصير، والخارقي،
ورواية السكوني، المتقدمة في المسألة الثانية من القسم الأول (7).
ومنها: صحيحة الحلبي: عن شهادة القابلة في الولادة، قال: " تجوز

(1) المختلف: 713.
(2) انظر مجمع الفائدة 12: 423.
(3) النهاية: 333، السرائر 2: 116، المختصر النافع: 288.
(4) القرن: العفلة، وهو لحم ينبت في الفرج، وفي مدخل الذكر، كالغدة الغليظة،
وقد تكون عظما - مجمع البحرين 6: 299.
(5) الرتق: هو أن يكون الفرج ملتحما ليس فيه للذكر مدخل - مجمع البحرين 5:
167.
(6) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.
(7) راجع ص 273 - 274.
298

شهادة الواحدة " وقال: " تجوز شهادة النساء في المنفوس والعذرة " (1)،
ونحوها صحيحة عبيد الله الحلبي (2).
وصحيحة ابن سنان: " تجوز شهادة النساء وحدهن بلا رجال في كل ما
لا يجوز للرجال النظر إليه، وتجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس " (3).
أقول: المنفوس: الولد.
وموثقة ابن بكير: " تجوز شهادة النساء في العذرة، وكل عيب لا يراه
الرجال " (4).
ورواية داود بن سرحان: " أجيز شهادة النساء في الصبي صاح أو
لم يصح، وفي كل شئ لا ينظر إليه الرجل تجوز شهادة النساء فيه " (5).
ورواية السكوني - الواردة في امرأة شهدت النساء المأمورات بالنظر
إليها بالبكارة -: " وكان يجيز شهادة النساء في مثل ذلك " (6)، وبمضمونها
رواية زرارة (7).

(1) الكافي 7: 390 / 2، التهذيب 6: 269 / 723، الإستبصار 3: 29 / 95، الوسائل
27: 351 أبواب الشهادات ب 24 ح 2.
(2) الفقيه 3: 31 / 95، الوسائل 27: 364 أبواب الشهادات ب 24 ح 46.
(3) الكافي 7: 391 / 8، التهذيب 6: 264 / 702، الإستبصار 3: 23 / 70، الوسائل
27: 353 أبواب الشهادات ب 24 ح 10.
(4) الكافي 7: 391 / 7، التهذيب 6: 271 / 732، الوسائل 27: 353 أبواب
الشهادات ب 24 ح 9.
(5) الكافي 7: 392 / 13، التهذيب 6: 268 / 721، الإستبصار 3: 29 / 93،
الوسائل 27: 354 أبواب الشهادات ب 24 ح 12.
(6) الكافي 7: 404 / 10، التهذيب 6: 278 / 761، الوسائل 27: 354 أبواب
الشهادات ب 24 ح 13.
(7) الفقيه 3: 32 / 97، التهذيب 6: 271 / 735، الوسائل 27: 363 أبواب
الشهادات ب 24 ح 44.
299

والصحاح الثلاث لمحمد (1)، والعلاء (2): هل تجوز شهادتهن
وحدهن؟ قال: " نعم في العذرة والنفساء "، إلا أنه ليس في إحدى
صحيحتي محمد لفظ: وحدهن.
وموثقة البصري (3)، وروايته: " تجوز شهادة النساء في المنفوس
والعذرة " (4).
ويشترط - حيث كن منفردات - كونهن أربعا على الأصح الأشهر، بل
عليه - كما قيل (5) - عامة من تأخر، لأن قبول شهادتهن مخالف للأصل
بالحصرين المتقدمين، فيقتصر فيه على موضع اليقين، وليس إلا الأربع،
لورود المجوزات كلا بلفظ: النساء، الذي هو صيغة الجمع، الغير الصادق
حقيقة إلا على ما زاد على الاثنين، وبضميمة الإجماع المركب يتعين الأربع
فما زاد.
واحتمال كون الجمعية باعتبار القضايا - فلا ينافي اعتبار الوحدة في
بعضها - غير مفيد، إذ لا يصار إلى خلاف الأصل بمجرد الاحتمال.

(1) صحيحة محمد الأولى: الكافي 7: 391 / 6، الوسائل 27: 353 أبواب
الشهادات ب 24 ح 8.
الثانية: التهذيب 6: 270 / 727، الإستبصار 3: 30 / 99، الوسائل 27: 356
أبواب الشهادات ب 24 ح 19.
(2) التهذيب 6: 269 / 725، الإستبصار 3: 30 / 97، الوسائل 27: 356 أبواب
الشهادات ب 24 ح 18.
(3) الكافي 7: 392 / 10، التهذيب 6: 269 / 722، الإستبصار 3: 29 / 94،
الوسائل 27: 355 أبواب الشهادات ب 24 ح 14.
(4) التهذيب 6: 270 / 728، الإستبصار 3: 30 / 100، الوسائل 27: 356 أبواب
الشهادات ب 24 ح 21.
(5) انظر الرياض 2: 445.
300

مع أن الاكتفاء بالواحدة للولادة والإتيان بالجمع لغيرها في صحيحتي
الحلبي وابن سنان مشعر بالفرق.
والأمر بنظر النساء في رواية السكوني يدل على عدم الاكتفاء
بالواحدة والاثنتين، إذ مع الاكتفاء لم يجز الأمر بنظر الزائدة على القدر
المحتاج إليه إلى العورة.
وقد يؤيد ذلك أيضا ببعض الروايات الدالة على أن شهادة امرأتين
عند الله تعالى شهادة رجل (1)، وفيه تأمل.
نعم، يمكن تأييد ذلك - بل الاستدلال - بما يأتي من قوله (عليه السلام) - بعد
حكمه بنفوذ شهادة المرأة في ربع الوصية - أنه: " بحساب شهادتها " (2)،
حيث يدل على أن شهادتها المعتبرة تامة مطلقا هي الأربع.
وفي موثقة سماعة: " القابلة تجوز شهادتها في الولد على قدر شهادة
امرأة واحدة " (3)، وفي صحيحة ابن سنان الآتية (4) أيضا مثله.
خلافا للمحكي عن المفيد والديلمي، فقالا بقبول شهادة امرأتين في
عيوب النساء، والولادة، والاستهلال، والحيض، والنفاس (5)، للصحيحتين
المصرحتين بالاكتفاء بالقابلة في الولادة.
وهما غير دالتين على التعميم الذي ذكراه أولا، ولا على الترتيب
الذي ذكراه ثانيا مطلقا.

(1) الوسائل 27: 271 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 15.
(2) انظر ص 303.
(3) التهذيب 6: 270 / 730، الإستبصار 3: 31 / 103، الوسائل 27: 357 أبواب
الشهادات ب 24 ح 23.
(4) انظر ص 301.
(5) المفيد في المقنعة: 727، الديلمي في المراسم: 233.
301

والتمسك فيه - بالجمع بينهما وبين ما يدل على جواز شهادة
الامرأتين في الاستهلال - غير جيد، لأن جوازها لا يدل على عدم جواز
الأقل - مع أن هذا جمع بلا شاهد - ولا على ثبوت تمام المشهود به، لعدم
إطلاقهما، ووجود المقيد بالربع - كما يأتي - ثالثا.
وللمحكي عن الإسكافي، فقبل شهادة الواحدة في الأمور المذكورة
بحسابها (1)، ولعل مستنده القياس على الاستهلال والوصية، وفساده عندنا
ظاهر.
وهل تثبت الأمور المذكورة بشهادة الرجلين ورجل وامرأتين - حيث
جاز نظر الرجل، أو نظر وتاب - أم لا؟
ظاهر كلام الأصحاب: نعم، وهو كذلك، لعمومات قبول شهادة
العدلين والعدل والامرأتين، كمرسلة يونس وغيرها (2)، بل لولا الدليل على
اختصاص الثبوت بالرجل واليمين بالدين لقلنا به أيضا.
خلافا للمحكي عن القاضي (3)، معللا بحرمة نظر الرجال إليه.
وجوابه يظهر مما ذكرنا، مع أن المرأة أيضا كذلك، لحرمة نظرها إلى
عورة المرأة، والضرورة المجوزة قد تحصل في الرجال أيضا.
المسألة الثالثة: قد عرفت أن مما يثبت بشهادة النساء منفردات
ومنضمات ولادة الطفل حيا، ودلت عليه المستفيضة المتقدمة.
وتمتاز هذه عن غيرها بأنها تقبل فيها شهادة امرأة واحدة أيضا،
ولكن في ربع ميراثه، وشهادة امرأتين في نصفه، وشهادة ثلاث في ثلاثة

(1) نقله عنه في المختلف: 716.
(2) المتقدمة في ص 291 - 293.
(3) المهذب 2: 559.
302

أرباعه، وإذا كملن الأربع يثبت تمام الميراث، بالإجماع كما صرح به في
السرائر (1) وبعض المتأخرين أيضا (2).
وتدل على أصل الثبوت بالواحدة صحيحتا الحلبي وصحيحة ابن
سنان المتقدمة (3)، ورواية جابر: " شهادة القابلة جائزة على أنه استهل أو
برز ميتا إذا سئل عنها فعدلت " (4).
وعلى ثبوت الربع بالواحدة - موثقة سماعة المتقدمة، وصحيحة
عمر بن يزيد: عن رجل مات وترك امرأته وهي حامل، فوضعت بعد موته
غلاما، ثم مات الغلام بعد ما وقع على الأرض، فشهدت المرأة التي قبلتها
به أنه استهل، وصاح حين وقع على الأرض، ثم مات، قال: " على الإمام
أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام " (5).
وعلى ثبوت الربع بها والنصف بالاثنتين: صحيحة ابن سنان: " تجوز
شهادة القابلة في المولود إذا استهل وصاح في الميراث، ويورث الربع من
الميراث بقدر شهادة امرأة "، قلت: فإن كانتا امرأتين؟ قال: " تجوز
شهادتهما في النصف من الميراث " (6).
وعلى ثبوت ثلاثة أرباع بالثلاث والكل بالأربع: مرسلة الفقيه، قال - بعد

(1) السرائر 2: 138.
(2) كالفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 380.
(3) في ص 297.
(4) التهذيب 6: 271 / 737، الوسائل 27: 362 أبواب الشهادات ب 24 ح 38.
(5) الكافي 7: 392 / 12، الفقيه 3: 32 / 101، التهذيب 6: 268 / 720،
الإستبصار 3: 29 / 92، الوسائل 27: 352 أبواب الشهادات ب 24 ح 6، بتفاوت
يسير.
(6) الكافي 7: 156 / 4، التهذيب 6: 271 / 736، الإستبصار 3: 31 / 104،
الوسائل 27: 364 أبواب الشهادات ب 24 ح 45، بتفاوت يسير.
303

نقل صحيحة عمر بن يزيد -: وفي رواية أخرى: " إن كانت امرأتين تجوز
شهادتهما في نصف الميراث، وإن كن ثلاث نسوة جازت شهادتهن في
ثلاثة أرباع الميراث، وإن كن أربعا جازت شهادتهن في الميراث كله " (1).
ويمكن إثبات الربعين والثلاث والأربع - مضافا إلى الإجماع المركب -
بقوله (عليه السلام) في الصحيحة الثانية: " بقدر شهادة امرأة " فإنها تدل على أن
شهادة كل امرأة تثبت الربع.
وأما ما قيل من أن رواية الواحدة تكفي الأربع، إذ يصدق على كل
واحدة منها أنها شهدت للربع (2).
فكان حسنا لو تضمنت لثبوت الربع بشهادة كل مرأة، وليست
كذلك، بل حكمت بثبوت الربع بعد السؤال عن شهادة القابلة، فيمكن أن
يكون السبب للثبوت هو شهادة المرأة، واحدة كانت أو أكثر.
ثم هذه الأخبار - كما ترى - مخصوصة بالقابلة، أما الأوليان
فظاهرتان، وأما الأخريان فلرجوع الضمائر في قوله: " فإن كانتا " و " إن
كانت " و: " إن كن " إلى المرأة التي قبلتها وإلى القابلة، ولا أقل من احتمال
ذلك.
ولا يمكن التمسك بعدم القول بالفصل، لتخصيص الشيخ في النهاية
والحلي في السرائر والمحقق في النافع القابلة بالذكر (3).
إلا أنه يمكن إثبات الحكم في غيرها بقوله: " على قدر شهادة امرأة
واحدة " وقوله: " بقدر شهادة امرأة " في الموثقة والصحيحة، فتأمل.

(1) الفقيه 3: 32 / 102، الوسائل 27: 365 أبواب الشهادات ب 24 ح 48.
(2) انظر الرياض 2: 446.
(3) النهاية: 333، السرائر 2: 138، النافع: 288.
304

فرعان:
أ: لو وضعت الحامل توأمين تقبل شهادة المرأة الواحدة في ثبوت
الربع لكل منهما، لصدق الغلام على كل منهما.
ب: فإن قيل: يثبت بشهادة المرأة الواحدة التولد حيا وميتا - كما
صرح به في رواية جابر - وإذا ثبتت الحياة يثبت تمام الميراث.
قلنا: لم يصرح في رواية جابر بثبوت الحياة بشهادة الواحدة، بل قال
بنفوذ شهادتها، ولازمه ترتب تمام الأثر عليها.. وعلى هذا، فيختص
الحكم بالميراث، ولا يتعدى إلى غيره إن كان.
المسألة الرابعة: ومما يثبت بشهادة المرأة: الوصية بالمال، وهي
أيضا كسابقتها، يثبت الربع بالواحدة، والنصف بالاثنتين، وثلاثة أرباع
بالثلاث، والكل بالأربع، بالإجماع، كما في السرائر (1) وغيره (2).
أما أصل ثبوت الوصية بالمرأة فتدل عليه رواية يحيى بن خالد: رجل
مات وله أم ولد، وقد جعل لها سيدها شيئا في حياته، ثم مات، قال:
فكتب (عليه السلام): " لها ما أثابها به سيدها في حياته معروف ذلك لها، تقبل على
ذلك شهادة الرجل والمرأة والخدم غير المتهمين " (3).
وأما التفصيل المذكور فلصحيحة ربعي: في شهادة امرأة حضرت
رجلا يوصي ليس معها رجل؟ فقال: " يجاز ربع ما أوصى بحساب
شهادتها " (4).

(1) السرائر 2: 138.
(2) كالخلاف 2: 609، كشف اللثام 2: 380.
(3) الفقيه 3: 32 / 99، الوسائل 27: 364 أبواب الشهادات ب 24 ح 47.
(4) الكافي 7: 4 / 4، الفقيه 4: 142 / 486، التهذيب 6: 268 / 718، الإستبصار
3: 28 / 89، الوسائل 27: 355 أبواب الشهادات ب 24 ح 16، بتفاوت.
305

وصحيحة محمد بن قيس: " قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصية
لم يشهدها إلا امرأة، فقضى أن تجاز شهادة المرأة في ربع الوصية " (1).
وموثقة أبان: في وصية لم يشهدها إلا امرأة، فأجاز شهادة المرأة في
الربع من الوصية بحساب شهادتها (2).
والتعدي إلى الربعين فما زاد بالإجماع المركب، وقوله: بحساب
شهادتها.
وأما بعض الأخبار الدالة على عدم قبول شهادتهن منفردات في الوصية
مطلقا - كصحيحة إبراهيم بن محمد (3) وابن بزيع (4) - فلا تصلح
لمعارضة ما مر، لشذوذها المخرج لها عن الحجية، مضافا إلى موافقتها
للعامة كما صرح به شيخ الطائفة (5)، ويشعر به بعض المعتبرة.
فروع:
أ: هل يشترط قبول شهادة المرأة في هذه المسألة والسابقة عليها
بتعذر الرجال - كما في نهاية الشيخ والسرائر وعن القاضي وابن حمزة (6) -

(1) التهذيب 6: 267 / 717 و ج 9: 180 / 720، الإستبصار 3: 28 / 88، الوسائل
27: 355 أبواب الشهادات ب 24 ح 15.
(2) الكافي 7: 4 / 5، التهذيب 9: 180 / 722، الوسائل 19: 317 أبواب أحكام
الوصايا ب 22 ح 2، بتفاوت يسير.
(3) المتقدمة في ص 293.
(4) التهذيب 6: 280 / 771، الإستبصار 3: 28 / 91، الوسائل 27: 362 أبواب
الشهادات ب 24 ح 40.
(5) الإستبصار 3: 29.
(6) النهاية: 333، السرائر 2: 138، القاضي في المهذب 2: 559، ابن حمزة في
الوسيلة: 222.
306

أو لا، كما هو مقتضى إطلاق كلام الأكثر؟
قيل: مقتضى إطلاق النصوص: الثاني (1).
أقول: أين إطلاق النصوص؟! أما أخبار المسألة الأولى فالشائع الغالب
المتبادر فيها يوجب انصرافها إلى صورة التعذر، وأما الثانية فغير واحدة
من أخبارها مخصوصة بصورة التعذر.
نعم، ظاهر إطلاق رواية يحيى القبول مطلقا، ولعله يكفي في إثباته،
والله العالم.
ب: في ثبوت النصف بالرجل في المسألتين، لمساواته الامرأتين في
المعنى، أو الربع، للفحوى، أو سقوط شهادته رأسا، لخروجه عن مورد
النصوص.. أوجه، أوجهها الأخير، وفاقا للإيضاح (2) وغيره، للأصل.
واختار في القواعد والروضة والمسالك الوسط (3)، لما مر.
ويضعف بعدم معلومية العلة في الأصل، فمن أين الأولوية؟!
ج: لا يختص قبول الوصية - على التفصيل المذكور - بالوصية
لشخص معين، بل يجري في الوصية للفقراء، ووجوه البر، وسائر
المصارف العامة، والعبادات العالمية والبدنية، والعتق، والوقف، وغيرها،
لإطلاق النصوص.
د: لو أقر الميت حال حياته بشئ لشخص من دين أو عين، واكتفى
بالإقرار، فهو ليس وصية، فلا يثبت بما تثبت به الوصية.. ولو ضم معه
قوله: أعطوه بعد مماتي، كان وصية.

(1) كما في الرياض 2: 446.
(2) الإيضاح 4: 435.
(3) القواعد 2: 239، الروضة 3: 146، المسالك 2: 414.
307

ه‍: لو أوصى بالزائد عن الثلث اعتبر الربع والربعان والثلاثة أرباع مما
أوصى به، لا من الثلث، فيحكم بثبوت ربع ما أوصى به مثلا، ويعمل فيه
ما يعمل في الوصية، من الرجوع إلى الثلث، وطرح ما زاد.
و: لو أوصى بعين لا يمكن تقسيمه إلا بضرر - كزوج خف، أو فرد
صندوق - يشترك فيه الموصى له بقدر ما ثبت له من الربع وغيره.
ز: لو أوصى بما لا ربع له - كنقل نعشه إلى أحد المشاهد - لم يثبت
فيه شئ، إذ لا ربع له.
ولا يرجع إلى الأجرة، لعدم كونها موصى بها، ويحتمل الرجوع
إليها، لأن الوصية بالنقل تستلزم الوصية بها، فيعمل في الربع ونحوه بما
يعمل به في الوصية بما لا يفي بعمل أوصى به، فيرجع إلى الورثة على
الأظهر.
ونحوه لو أوصى ببناء قنطرة أو رباط أو مسجد على نحو معين،
واحتمال الرجوع إلى الأجرة هنا أظهر.
ج: هل يجوز للمرأة الواحدة ونحوها تضعيف ما أوصى به في
الشهادة حتى يثبت تمام الوصية - فتشهد فيما أوصى بواحد بأربعة، ولو
كانتا اثنتين فباثنين حتى يثبت الواحد - أم لا؟
الظاهر: العدم، لكونه كذبا، ولا دليل على تجويزه هنا.
نعم، لو كذبت لم تضمن قدر الوصية، للأصل.
ولو كذبت، فإن علم به الحاكم رد شهادتها في الزائد على الوصية،
وحكم بربع ما أوصى، وإن لم يعلم يحكم بالربع.
ط: كل ما ذكر فيه رد شهادة المرأة وعدم قبولها إنما هو إذا لم يبلغ
حد الشياع المفيد للعلم للحاكم، وإن بلغ فيعمل بمقتضاها، لوجوب عمل
308

الحاكم بعلمه.. وكذا لو ضمت مع شهادتها القرائن المفيدة للعلم.
ولنختم ذلك الفصل بمسائل أربع:
المسألة الأولى: اختلف الأصحاب في اشتراط الحرية في قبول
الشهادة وعدمه على سبعة أقوال:
الأول: عدمه، فتقبل شهادة المملوك مطلقا، حكي عن الجامع
والشهيد الثاني (1) (رحمه الله) وتبعهما جمع من متأخري المتأخرين، منهم: صاحب
الكفاية والمفاتيح وشارحه (2) وغيرها (3)، ويظهر من المحقق الأردبيلي الميل
إليه (4).
لعمومات قبول شهادة العدل كتابا وسنة، وخصوص المعتبرة
المستفيضة:
كصحيحة البجلي المتضمنة لحكاية درع طلحة، وفيها حكاية عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) في رد شريح: " فقلت: هذا مملوك، ولا أقضي بشهادة
المملوك، وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا " (5).
وصحيحة أخرى له: " لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا " (6).

(1) الجامع للشرائع: 540، الشهيد الثاني في المسالك 2: 407.
(2) الكفاية: 283، المفاتيح 3: 281.
(3) كالرياض 2: 436.
(4) زبدة البيان: 692، مجمع الفائدة 12: 410 - 412.
(5) الكافي 7: 385 / 5، الفقيه 3: 63 / 213، التهذيب 6: 273 / 747، الإستبصار 3:
34 / 117، الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 6،
بتفاوت.
(6) الكافي 7: 389 / 1، التهذيب 6: 248 / 634، الإستبصار 3: 15 / 42، الوسائل
27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 1.
309

وحسنة العجلي: عن المملوك تجوز شهادته؟ قال: " نعم، وإن أول
من رد شهادة المملوك لفلان " (1).
وحسنة محمد: في شهادة المملوك، قال: " إذا كان عدلا فهو جائز
الشهادة، إن أول من رد شهادة المملوك عمر بن الخطاب " (2).
وصحيحة محمد: " تجوز شهادة العبد المسلم على الحر المسلم " (3).
وهي تدل على جواز شهادته على غير الحر وغير المسلم بالطريق
الأولى، وعدم القول بالفصل.
الثاني: عدم القبول مطلقا، وهو مذهب العماني (4)، ونسبه في
المسالك إلى أكثر العامة (5)، ويظهر من الشيخ أنه مذهب عامتهم (6)، ونسبه
في كنز العرفان إلى فقهائهم الأربعة (7).
لصحيحة الحلبي: عن شهادة ولد الزنا، فقال: " لا، ولا عبد " (8).
وصحيحة محمد: تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة على أهل
الكتاب "، وقال: " العبد المملوك لا تجوز شهادته " (9).

(1) الكافي 7: 390 / 3، التهذيب 6: 248 / 635، الإستبصار 3: 16 / 43، الوسائل
27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 2.
(2) الكافي 7: 389 / 2، التهذيب 6: 248 / 633، الإستبصار 3: 15 / 41، الوسائل
27: 345 أبواب الشهادات ب 23 ح 3، بتفاوت يسير.
(3) الفقيه 3: 26 / 69، التهذيب 6: 249 / 636، الإستبصار 3: 16 / 44، الوسائل 27:
346 أبواب الشهادات ب 23 ح 5.
(4) حكاه عنه في المختلف: 720.
(5) المسالك 2: 407.
(6) الخلاف 2: 613.
(7) كنز العرفان 2: 53.
(8) التهذيب 6: 244 / 612، الوسائل 27: 376 أبواب الشهادات ب 31 ح 6.
(9) التهذيب 6: 249 / 638، الإستبصار 3: 16 / 46، الوسائل 27: 348 أبواب
الشهادات ب 23 ح 10.
310

وموثقة سماعة: عما يرد من الشهود؟ فقال: " المريب، والخصم،
والشريك، ودافع مغرم، والأجير، والعبد، والتابع، والمتهم، كل هؤلاء ترد
شهادتهم " (1).
ورواية السكوني، وفيها: " والعبد إذا شهد شهادة ثم أعتق جازت
شهادته إذا لم يردها الحاكم قبل أن يعتق " (2).
دلت بالمفهوم على عدم الجواز قبل العتق.
الثالث: عدم القبول على الحر المسلم، والقبول على غيره، وهو
مذهب الإسكافي، والمحكي عنه - في المختلف والإيضاح والمسالك (3)
وغيرها (4) في جانبي الرد والقبول - هو ما كان عليه، ولم يتعرضوا لما كان
له، والظاهر أن المعنى على أمره، سواء كان له أو عليه.
وكيف كان، فدليله - في جانب القبول - العمومات، ومنطوق صدر
صحيحة محمد الثانية المتقدمة، ومفهوم صحيحته الأخرى الآتية.
وفي جانب الرد فصحيحته الأخرى: " لا تجوز شهادة العبد المسلم
على الحر المسلم " (5)، ومفهوم صدر صحيحته الثانية.
وفي الجانبين الجمع بين الأخبار، والمروي في الخلاف عن

(1) التهذيب 6: 242 / 599، الإستبصار 3: 14 / 38، الوسائل 27: 378 أبواب
الشهادات ب 32 ح 3.
(2) الفقيه 3: 28 / 80، التهذيب 6: 250 / 643، الإستبصار 3: 18 / 51، الوسائل
27: 349 أبواب الشهادات ب 23 ح 13.
(3) المختلف: 720، الإيضاح 4: 429، المسالك 2: 407.
(4) كالكفاية: 283.
(5) التهذيب 6: 249 / 637، الإستبصار 3: 16 / 45، الوسائل 27: 348 أبواب
الشهادات ب 23 ح 12.
311

أمير المؤمنين (عليه السلام): " أنه كان يقبل شهادة بعضهم على بعض، ولا يقبل
شهادتهم على الأحرار " (1).
الرابع: القبول في الشهادة مطلقا، إلا على مولاه خاصة، فلا تقبل
وتقبل له أيضا، ذهب إليه الشيخان والسيدان والديلمي والقاضي وابن
حمزة والحلي والفاضلان والفخري والصيمري (2)، بل الأكثر كما في
الشرائع والدروس والمسالك والكفاية وشرح الإرشاد للأردبيلي (3)، بل عليه
الإجماع في السرائر وعن الانتصار والغنية (4).
أما في الجزء الأول: فلما مر في دليل الأول.
وأما الثاني: فللجمع بينه وبين ما مر دليلا للقول الثاني، وللإجماع
المنقول، والشهرة المحققة، وقياسه على الولد في شهادته على الوالد،
لاشتراكهما في تحريم العقوق.
ولصحيحة الحلبي: في رجل مات وترك جارية ومملوكين، فورثهما
أخ له، فأعتق العيدين، وولدت الجارية غلاما، فشهدا بعد العتق أن
مولاهما كان أشهدهما أنه كان يقع على الجارية، وأن الحمل منه، قال:
" تجوز شهادتهما، ويردان عبدين كما كانا " (5)، ولو لم تكن شهادتهما

(1) الخلاف 2: 613.
(2) المفيد في المقنعة: 726، الطوسي في الخلاف 2: 613، المرتضى في
الانتصار: 246، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 624، الديلمي في
المراسم: 232، القاضي في المهذب 2: 557، ابن حمزة في الوسيلة: 230،
الحلي في السرائر 2: 135، المحقق في الشرائع 4: 131، العلامة في المختلف:
721، الفخري في الإيضاح 4: 430.
(3) الشرائع 4: 131، الدروس 2: 132، المسالك 2: 407، الكفاية: 283.
(4) السرائر 2: 135، الإنتصار: 246، الغنية (الجوامع الفقهية): 624.
(5) التهذيب 6: 250 / 642، الإستبصار 3: 17 / 50، الوسائل 27: 347 أبواب
الشهادات ب 23 ح 7.
312

مردودة على السيد لم يكن لعتقهما فائدة.
وما في كنز العرفان، حيث قال: واختلف في شهادة العبد - إلى أن
قال - وعن أهل البيت روايات أشهرها وأقواها القبول إلا على سيده
خاصة (1).
الخامس: عدم القبول للمولى، والقبول عليه وعلى غيره وله، نقله
في المختلف والإيضاح عن الصدوقين (2)، لمكان التهمة، وصحيحة ابن
أبي يعفور: عن الرجل المملوك المسلم تجوز شهادته لغير مواليه؟ فقال:
" تجوز في الدين والشئ اليسير " (3)، دلت بالمفهوم على عدم القبول
للموالي.
السادس: القبول في غير المولى، وعدمه فيه لا له ولا عليه، نقله في
السرائر والمختلف والإيضاح عن الاستبصار (4)، وفي الثاني عنه وعن
التهذيب، وفي الجميع عن الحلبي، لمكان التهمة في المولى طمعا وخوفا،
وللجمع بين الأخبار.
السابع: القبول على المولى، وعدم القبول له ولا لغيره أو عليه، نقله
في الشرائع والقواعد (5)، وقال في المسالك والكفاية: إن قائله غير
معلوم (6). ولعل مستنده التوفيق بين الأخبار.

(1) كنز العرفان 2: 53.
(2) المختلف: 720، الإيضاح 4: 430.
(3) التهذيب 6: 250 / 640، الإستبصار 3: 17 / 48، الوسائل 27: 347 أبواب
الشهادات ب 23 ح 8.
(4) السرائر 2: 135، المختلف: 720، الإيضاح 4: 430.
(5) الشرائع 4: 131، القواعد 2: 238.
(6) المسالك 2: 407، الكفاية: 283.
313

أقول: أما دليل القول الأول فلا شئ فيه، إلا معارضة بعض الأخبار
المذكورة دليلا لبعض الأقوال المخالفة، ويأتي حالها.
وأما دليل الثاني فيضعف بمعارضة أخباره مع خصوصات أخبار دليل
الأول، وأعميتها مطلقا من بعض تلك الأخبار، لاختصاصه بالمملوك
العدل، فتخصيصها به لازم.
ثم بمعارضتها مع بعض آخر من خصوصاتها بالمساواة، فيجب
الرجوع إلى المرجحات، وهي مع ذلك البعض، لموافقته الكتاب،
ومخالفته العامة، وموافقة هذه الأخبار لهم، وهما من المرجحات القوية.
ثم بمعارضتها لصدر صحيحة محمد الثانية، والمروي في الخلاف،
وصحيحتي الحلبي وابن أبي يعفور، المتقدمة جميعا، مع كونها أخص
مطلقا من تلك الأخبار المانعة.
هذا، مع ما في تلك الأخبار من الشذوذ، والمخالفة لفتوى القدماء
- إلا نادرا - الموجبين لخروجها عن الحجية، بل كونها مخالفة للإجماع في
الجملة، حيث إن مخالفة العماني في انعقاده غير ضائرة.
ومن ذلك يظهر سقوط ذلك القول عن درجة الاعتبار.
ويظهر أيضا ضعف دليل الثالث، لأنه ما كان من جانب القبول وإن
كان مطابقا لأدلة القول الأول ولكن ما في جانب الرد يعارض هذه الأدلة..
فمع بعضها بالعموم المطلق، وهو صحيحة البجلي الأولى، المتضمنة
لشهادة قنبر على من هو مسلم - ظاهرا - وحر.
ومع الباقي بالعموم والخصوص المطلقين، الراجح معارضه بموافقة
الكتاب، ومخالفة العامة، والأشهرية رواية، والأحدثية، التي كلها من
المرجحات المنصوصة المقبولة.
314

مضافا إلى ما قيل من عدم صراحة الصحيحة الأولى (1)، لاحتمال
إرادة عدم الجواز على معناه وهو النهي، لكونه بدون إذن مولاه.. وإن كان
ذلك خلاف الظاهر، لأنه لو كان ذلك لما كان وجه للتخصيص بالعبد
المسلم ولا بالحر المسلم، مع أنها تشمل صورة الإذن أيضا.
وإلى كون دلالة الصحيحة الثانية بمفهوم اللقب، الذي هو ليس
بحجة.
وكون رواية الخلاف ضعيفة غير منجبرة.
هذا كله، مع ما في الجميع من الشذوذ المخرج عن الحجية.
وأما حديث الجمع بين الأخبار ففيه: أن الجمع إنما هو فرع التكافؤ
وحجية الطرفين، وهو هنا مفقود، مع أن الجمع غير منحصر بذلك.
فهذا القول أيضا - كسابقه - ضعيف غايته.
وكذا القول الرابع، لضعف ما استدل به لجانب الرد غاية الضعف..
أما الجمع بين الأخبار فلما عرفت في سابقه.
وأما الإجماع المنقول والشهرة فلعدم حجيتهما أصلا، سيما في
مقابلة الكتاب والسنة المتواترة معنى.
وتوهم تحقق الإجماع - مع مخالفة القديمين والصدوقين والشيخ في
التهذيبين والحلبي وصاحب الجامع (2)، وهم من أركان القدماء، وجماعة

(1) أي صحيحة محمد المتقدمة في ص 308.
(2) حكاه عن القديمين - وهما الإسكافي والعماني - في المختلف: 720، وعن
الصدوقين في المختلف: 720، والإيضاح 4: 430، التهذيب 6: 249 - 251،
الإستبصار 3: 17، الحلبي في الكافي في الفقه: 435، يحيى بن سعيد في الجامع
للشرائع: 540.
315

من المتأخرين (1) وتردد الفاضل في القواعد (2) - توهم فاسد جدا.
وأما قياسه على الوالد والولد فهو أفسد.
وأما صحيحة الحلبي فهي عن الدلالة خالية بالمرة، إذ ليس العتق إلا
في كلام السائل، ومع ذلك هو عتق فاسد، فدلالتها على الجواز أشبه، ولو
دلت فبمفهوم الوصف، وهو ضعيف.
وأما عبارة الكنز فكونها رواية غير معلومة، كما اعترف به المستدل
به، قال - بعد ذكر شواهد على عدم رواية فيه -: وكل هذا ظاهر في عدم
رواية عليه بالخصوص، وأما ما ذكره في الكنز من الرواية لعله اشتباه،
ويشبه أن يكون مراده بها إما الروايات المانعة مطلقا بعد الحمل على المنع
هنا خاصة جمعا، أو خصوص الصحيحة الآتية (3). انتهى.
ومراده من الصحيحة صحيحة الحلبي التي قدمناها.
وأما أدلة سائر الأقوال فضعفها - مما مر في اشتراط انتفاء التهمة، وما
مر في عدم انحصار وجه الجمع، بل دلالة الأخبار بانحصاره في الحمل
على التقية - ظاهر، سيما الاستدلال بصحيحة ابن أبي يعفور، فإن التقييد
فيها إنما هو في السؤال، ولو دل فبمفهوم الوصف، وينافي ذيلها مذهب
المستدل.
ومن جميع ما ذكر ظهر أن الأول هو أصح الأقوال، ومن الله التوفيق

(1) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 407، السبزواري في الكفاية: 283،
الكاشاني في المفاتيح 3: 281.
(2) القواعد 2: 238.
(3) انظر الرياض 2: 437.
316

في كل حال.
المسألة الثانية: ليس شئ من البصر والسمع شرطا في القبول، فتقبل
شهادة الأعمى والأصم إذا جمعا سائر الشرائط، وتحملاها حال الصحة، أو
لم يفتقر المشهود به في الأول إلى الرؤية، وفي الثاني إلى السماع.
بلا خلاف في الأول مطلقا، بل عن الانتصار والخلاف والغنية
الإجماع عليه (1)، وتدل عليه العمومات، وخصوص روايتي محمد بن قيس
وثعلبة بن ميمون (2)، والمروي في الاحتجاج عن محمد بن عبد الله
الحميري، عن صاحب الزمان (عليه السلام) (3).
وكذا في الثاني في الجملة، للعمومات المذكورة، بلا معارض لها،
سوى رواية جميل: عن شهادة الأصم في القتل؟ قال: " يؤخذ بأول قوله،
ولا يؤخذ بالثاني " (4).
وحكي عن النهاية والقاضي وابن حمزة الفتوى بمضمونها (5).
وردها الأكثر بضعف السند، والمخالفة للأصول، لأن القول الثاني إن
كان منافيا للأول كان رجوعا عنه، فيجب رد الأول، كما هي القاعدة في
رجوع الشاهد.. وإن كان موافقا له يكون مؤكدا له، فلا رد.. وإن كان غير
مرتبط به فهو كلام مستقل لا دخل له بالأول.

(1) الإنتصار: 249، الخلاف 2: 612، الغنية (الجوامع الفقهية): 624.
(2) الكافي 7: 400 / 1 و 2، التهذيب 6: 254 / 662 و 663، الوسائل 27: 400
أبواب الشهادات ب 42 ح 1، 2.
(3) الإحتجاج: 490، الوسائل 27: 400 أبواب الشهادات ب 42 ح 4.
(4) الكافي 7: 400 / 3، التهذيب 6: 255 / 664، الوسائل 27: 400 أبواب
الشهادات ب 42 ح 3.
(5) النهاية: 327، القاضي في المهذب 2: 556، ابن حمزة في الوسيلة: 230.
317

ويمكن أن يختار الأول، ويخص رد الشهادة الأولى بغير مورد
الرواية، لأن ما دل على طرح الشهادة الأولى بالرجوع - وهو أيضا مرسلة
جميل (1) - عام، وتخصيصه بالخاص ليس بعزيز،، سيما إذا كان الخاص
معمولا به عند جماعة من الأعيان.
فإذن المختار هو قول الشيخ، ولكن يلزم تخصيصه بالقتل، لأنه
مورد الرواية، وعدم ثبوت الإجماع المركب.
المسألة الثالثة: المعتبر في الشرائط وجودها في الشاهد عند أداء
الشهادة، فلو تحملها فاقدا لبعضها وأداها حال الاستجماع قبلت،
للعمومات، وأصالة عدم الاشتراط حين التحمل، وتدل عليه الروايات
الواردة في موارد مخصوصة، كالصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم، والأجير
إذا فارق، والعبد إذا أعتق، والفاسق إذا تاب، وقد مر شطر منها في طي بيان
تلك الشرائط.
المسألة الرابعة: لا ترد شهادة أرباب الصنائع المكروهة - كالصياغة
وبيع الرقيق - ولا الدنيئة عادة - كالحياكة والحجامة - ولو بلغت غايتها
- كالزبال والوقاد - ولا ذوي العاهات والأمراض الخبيثة - كالأجذم
والأبرص - بعد استجماع الجميع شرائط قبول الشهادة، بلا خلاف يوجد
كما قيل (2)، بل مطلقا كما في الكفاية (3)، بل عن ظاهر السرائر والمسالك
الإجماع عليه (4).

(1) الكافي 7: 383 / 1، الفقيه 3: 37 / 124، التهذيب 6: 259 / 685، الوسائل
27: 326 أبواب الشهادات ب 10 ح 1.
(2) انظر الرياض 2: 446.
(3) الكفاية: 281.
(4) السرائر 2: 118، المسالك 2: 404.
318

وتدل عليه عمومات قبول الشهادة من الكتاب والسنة، مع خلوها
عن المعارض بالمرة، عدا ما توهمه بعض العامة من أن اشتغالهم بهذه
الحرف ورضاهم يشعر بالخسة وقلة المروة (1).
وهو ضعيف غايته، سيما على القول بعدم اعتبار المروة في قبول
الشهادة، وكذا على اعتبارها، إذا لم تكن في ارتكاب هذه الصناعات منافاة
للمروة من غير جهة نفس الصنعة من حيث هي، كما إذا كان من أهلها، أو
لم يلم مثله في مثلها بحسب العادة.
وأما مع الملامة له فيها - بأن كان من أهل بيت العز والشرف، الذي
لا تناسب حاله تلك الصنعة، فارتكبها بحيث يلام - فيتأتى عدم قبول
شهادته حينئذ، على القول باعتبار المروة، وعدم القبول من هذه الجهة غير
عدم القبول من حيث ارتكاب الصنعة من حيث إنها هي، فإن الحيثيات في
جميع الأمور معتبرة.

(1) انظر المغني والشرح الكبير 12: 35 و 48.
319

الفصل الثاني
في بيان مستند الشاهد وما يتعلق به
وفيه مقدمة ومسائل:
أما المقدمة: ففيها ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى
اعلم أن من يخبر عن شئ إما يخبر به عن علم، أو ظن، وكل منهما
إما شرعي، أو عقلي، أو عادي، ومن الأخير: المعلوم أو المظنون بأحد
الحواس الخمس الظاهرية، وقد يحصلان من الحدس أو التجارب أيضا،
ومنه: إخبار الطبيب، والرمال، والمنجم، والقياف، ونحوهم.
الفائدة الثانية: اعلم أن المخبر عن واقعة على ثلاثة أقسام:
الأول: أن يخبر بتفاصيل أسباب علمه أو ظنه بالمخبر به جزءا جزءا،
حتى ينتهي إلى آخر الواقعة، فيقول: رأيت الملك الفلاني في يد زيد منذ
مدة كذا، يتصرف فيه كيف شاء، مدعيا ملكيته من غير معارض له إلى الآن.
أو يقول: سمعت ذلك من جمع يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب،
أو من عدلين.
أو: شاهدت زيدا استقرض من عمرو المبلغ الفلاني، وهو أقرضه
وأقبضه إياه بحضوري.
أو يقول: شاهدت الملك في يده في السنة السابقة ويده عليه
مستصحبة عندي إلى اليوم.
320

أو: يشبه بالقيافة هذا الابن فلانا، ونحو ذلك.
الثاني: أن يخبر بالعلم أو الظن بالمخبر به من غير تفصيل أسباب
العلم أو الظن وموجباته، فيقول: إني أعلم أن هذا الملك ملك زيد، أو
أظنه.
أو: أعلم أن زيدا تشتغل ذمته لعمرو بالمبلغ الفلاني، أو أظنه.
أو: أعلم أن زيدا ابن عمرو، أو أظنه، وغير ذلك.
الثالث: أن يخبر بالمخبر به مطلقا، مجردا عن العلم أو الظن، وعن
تفصيل موجباتهما، كأن يقول: هذا ملك زيد، أو: زيد مشغول الذمة
لعمرو بمبلغ كذا، أو: زيد ابن عمرو، وأمثال ذلك.
الفائدة الثالثة: اعلم أن كلام الفقهاء في هذا المقام إما يكون في بيان
وظيفة الشاهد وتكليفه، أو في وظيفة الحاكم وشأنه.
أما على الأول: فيكون المراد أنه في مقام الشهادة بأي مستند تجوز
له الشهادة بالمشهود به، من العلم أو الظن، ثم العلم بمطلقه، أو الحاصل
بأحد الحواس الظاهرة، أو الشرع، أو العقل، أو التجارب، أو الحدس،
وكذا الظن بمطلقه، أو بالمتاخم للعلم.
وعلى هذا لا يكون لهم كلام في القسم الأول، لأن المشهود به فيه
نفس المستند والدليل والأسباب، دون المدلول والمسبب، وهي لا تحتاج
إلى مستند ودليل، وجواز الشهادة على ذلك النحو بديهي، وعلى الحاكم
الحكم بمقتضاه من النتائج والمدلولات.
إلا أن يقال: إنه يجب أن يكون عالما بذلك المستند، فإذا قال:
رأيت، أو سمعت، كان عالما برؤية فلان، أو سماع الكلام الفلاني، أو
نحوهما.
321

بل وكذا الظاهر أنه ليس كلامهم في القسم الثاني، لأنهم يقولون:
ضابط مستند الشهادة العلم، ولا معنى لكون العلم مستند العلم.
إلا أن يتكلم فيه في أنواع العلوم، أي في أن أي علم يعتبر شرعا،
حتى يجوز للشاهد أن يجعله مبنى الشهادة، ويشهد شهادة علمية بسببه؟
فيقولون: إنه يجب أن يكون المستند في المبصرات حسن البصر مثلا،
ولا تجوز الشهادة العلمية فيها بالعلم الحاصل من السماع.
أو يتكلم فيه فيما يفيد العلم ولا يفيده، حتى يجوز بواسطته الإخبار
بالعلم بالمشهود به، أو لا يجوز.
ولكنهما خلاف الظاهر من مرادهم.
فكلامهم على هذا إنما هو في القسم الثالث، يعني: أن مستند
الشهادة - بالملك المطلق مثلا، أو اشتغال الذمة المطلق، أو غيرهما -
ما هو، وفي أي مقام تصح وتجوز له الشهادة بالمطلق، وفي أيه لا تصح؟
وأما على الثاني، فيكون المراد: أن الحاكم بأي شهادة يجوز له
الحكم أو يجب؟ أبالمستند إلى العلم، أو يجوز العمل بالمستند إلى الظن
أيضا؟
وعلى الأول: فبالمستند بأي علم؟ فهل يختص بالعلم الحاصل من
حسن البصر في المبصرات، وحسن السمع في المسموعات، وهكذا، أو
يحكم بالمستند إلى العلم مطلقا ولو بالحاصل من السماع في المبصرات؟
وعلى هذا، لا يكون كلامهم إلا في القسم الأول، إذ في القسمين
الأخيرين لم يذكر مستند ولا سبب حتى يقال: إنه هل يجوز للحاكم الحكم
به أم لا؟
نعم، يمكن أن يكون هناك كلام آخر، وهو: أنه هل يجوز للحاكم
322

الحكم بالشهادة المطلقة من غير بيان العلم أو الظن، أو بالشهادة العلمية من
غير ذكر مستند العلم، أنه هل هو الحس، أو السماع، أو التجربة، أو
الشرع، أو غير ذلك؟
المسألة الأولى: قالوا: إن ضابط المستند وما يصير به الشاهد شاهدا:
العلم القطعي العادي بلا خلاف فيه، في غير ما يجئ الخلاف فيه.
لمرسلة الفقيه: " لا تكون الشهادة إلا بعلم، من شاء كتب كتابا ونقش
خاتما " (1).
وروايتي علي بن غياث (2) وعلي بن غراب (3): " لا تشهدن بشهادة
حتى تعرفها كما تعرف كفك ".
وفي النبوي: وقد سئل عن الشهادة، [قال]: " هل ترى الشمس؟ "
فقال: نعم، فقال: " على مثلها فاشهد، أو دع " (4).
قال في السرائر: وما روي عن الأئمة الأطهار في مثل هذا المعنى أكثر
من أن يحصى (5).
ويدل عليه أيضا: أنه لولاه للزم الكذب، لأن من يخبر عن شئ
ظاهر في أنه يخبر عن الواقع عالما به، ولو قيده بالعلم أيضا يصير صريحا
فيه، فلو لم يكن عالما كان كاذبا.

(1) الفقيه 3: 43 / 146، الوسائل 27: 341 أبواب الشهادات ب 20 ح 2.
(2) الكافي 7: 383 / 3، التهذيب 6: 259 / 682، الوسائل 27: 341 أبواب
الشهادات ب 20 ح 1.
(3) الفقيه 3: 42 / 143، الوسائل 27: 341 أبواب الشهادات ب 20 ح 1.
(4) الشرائع 4: 132، الوسائل 27: 342 أبواب الشهادات ب 20 ح 3، وما بين
المعقوفين من المصدرين.
(5) السرائر 2: 131.
323

نعم، لو كان ظانا وأخبر عن ظنه به، وقال أظن كذا، لم يكن كذبا
وجاز أيضا، كما صرح به في الكفاية (1)، للأصل، فإنه ليس بشهادة حتى
يدخل تحت النهي، ولو سلم فالمشهود به هو ظنه وليس كاذبا فيه، إلا أنه
غير معتبر إجماعا.
المسألة الثانية: ثم إنهم زادوا على ذلك وقالوا: يعتبر أن يكون ذلك
العلم حاصلا إما بالرؤية أو بالسماع.
فالأول في الأفعال.
والثاني في الأقوال، كالأقارير والعقود ونحوها.
وقد يقال: أو بالسماع والرؤية، إذ تفتقر الشهادة على القول لرؤية
القائل.
وهو أيضا مراد من لم يضم معه الرؤية، قالوا: إلا فيما تتعذر أو
تتعسر فيه الرؤية أو السماع - كالنسب والوقف ونحوهما مما يأتي - فإنه
يكفي فيه التسامع والاشتهار.
والسماع المأخوذ في ذلك غير السماع المتقدم، فإن المراد فيما تقدم
هو أن يكون المسموع هو عين المشهود به، وهنا أن يكون إخبارا عنه.
فالعلم في الأول حسي حاصل عن الحس، وفي الثاني مستفاد من
قرينة امتناع تواطئهم على الكذب.
وأيضا الحاصل من الأول هو العلم البتة إذا كانت الحاسة صحيحة
والقول واضحا، وأما الثاني فقد لا يحصل منه إلا الظن.
ولا يخفى أنه تخرج من ذلك الشهادة على اللمس أو الذوق أو الشم

(1) الكفاية: 283.
324

فيما يحتاج إليه.
ومنهم من قال: بالرؤية - كالأفعال - أو السماع - كالوقف والنسب - أو
بهما، كالعقود والأقارير (1).
ولا يخفى ما فيه، فإن السماع الأول أيضا يحتاج إلى رؤية المسموع
منه.
والقول: بأن المرئي هنا غير المشهود له أو عليه.
قلنا: المسموع أيضا كذلك كما مر، مع أن ذكر السماعين يدل على
اتحاد المراد منهما، وليس كذلك..
ومنهم من بدل الرؤية بالمشاهدة - كما في الشرائع - فقال بالمشاهدة
أو السماع (2)، وأراد من السماع هو المعنى الثاني، أي التسامع.
وفسر بعضهم المشاهدة في كلامه بالمعنى الشامل للذوق والشم
واللمس أيضا (3).
وفيه أيضا: أنه كان حسنا لولا حصره المشاهدة في الأفعال. وأيضا
المشاهدة بهذا المعنى تشمل السماع بالمعنى الأول أيضا.
وبالجملة: لم أعثر على كلام منقح في التعبير في ذلك المقام.
والصواب أن يقال: إنه يجب أن يكون مستنده: المشاهدة الشاملة
للشهود بكل من الحواس الخمس الظاهرية، التي هي مبادئ اقتناص العلوم
في المحسوسات.
ثم نتكلم في السماع بالمعنى الثاني، في أنه هل يكفي ذلك في شئ

(1) انظر الروضة 3: 135.
(2) الشرائع 4: 132.
(3) انظر الرياض 2: 446.
325

أم لا؟ وعلى الأول ففي أي موضع يكفي، وأي قدر يكتفى فيه؟ فهل
يشترط أن يفيد العلم أو الظن المتاخم له، أو يكفي مطلق الظن؟
فنحن نتكلم في هذه المسألة في الأول، ونتبعها في الثالثة بالثاني.
فنقول: قد صرحوا بأنه يجب أن يكون مستند الشهادة هو أحد
الحواس الظاهرة.
بل قال بعضهم: الأصل في الشهادة عندهم القطع المستند إلى الحس
الظاهر، اعتبارا منهم للمعنى اللغوي مهما أمكنهم (1). انتهى.
وقوله: مهما أمكنهم، إشارة إلى الاعتذار للشهادة بالتسامع والاشتهار
في بعض الأمور، كما يظهر مما ذكره قبل الكلام المذكور.
ولا يتوهم أن العلم الحاصل بالتسامع أيضا مستند إلى حاسة السمع.
فإنه علم حاصل بواسطة مقدمات أخر من بعد تواطئهم على الكذب،
ولذا يختلف باختلاف السامع في سبق الشبهة وعدمه، وسهولة القبول
وعدمها، واختلاف المخبر عنه جلاء وخفاء، واختلاف المخبرين وثوقا
وعدمه، ولو كان مجرد التوقف على مبدئية الحس لم يكن علم غير حسي،
فإن العلم بالصانع من المصنوعات يتوقف على مشاهدتها، والعلم بحدوث
العالم بالتغير يحتاج إلى إحساس التغير.
ثم الدليل على اعتبار العلم المستند إلى المشاهدة الحسية هو ما ذكره
بعضهم من أن المفروض أن الشاهد في مقام الشهادة، والشهادة - كما مر
في صدر المقصد - هي الحضور أو الإخبار عما شاهده وعاينه، وهما
- بالنسبة إلى العالم الغير المستند علمه إلى الحس - مفقودان، إذ يقال له

(1) انظر الرياض 2: 447.
326

عرفا ولغة: أنه غير حاضر وغير مخبر عما شاهده.
وإلى هذا يشير كلام الشهيد في الدروس حاكيا عن بعض الأصحاب،
حيث قال: ولا بد عند الإقامة من إتيان الشاهد بلفظ الشهادة، فيقول: أشهد
بكذا، وأنا شاهد عليه الآن بكذا، أو: شهدت عليه، ولو قال: أعلم، أو
أتيقن، أو أخبر عن علم أو حق، لم يسمع، قاله بعض الأصحاب (1).
انتهى.
ولا يعارضه ما قيل من إطلاق الفتاوى والنصوص المتقدمة،
المتضمنة للفظ العلم والمعرفة (2)، المتقدمة في المسألة الأولى.
لأن الفتاوى وإن كانت في العنوان مطلقة، ولكن الأكثر قيدوها بعده
بالمشاهدة أو الرؤية، وما أرادوا المطلق، وإلا لم يجعلوا الشهادة في النسب
والوقف وأشباههما - مما يكتفون فيها بالاستفاضة - مستثناة، سيما عند
الأكثر المشترطين للاستفاضة العلمية.. ولو سلم إطلاق البعض لم يصلح
للمعارضة.
وأما النصوص فلا عموم فيها أصلا، لتضمنها لفظ الشهادة أيضا،
فمدلولها أنه لا بد مع الحضور من العلم والمعرفة، ولا يكفي مطلق
الحضور حتى الذي لم يفد غير الظن، مع أن العلم في المرسلة (3) ليس
عاما، بل معناها: أنه لا يكون الإخبار عما شاهده إلا مع علم به، والأخبار
المتعقبة لها مخصوصة بعلم خاص، هو العلم بالكف وبالشمس المرئية،
واختصاصهما بالعلم الحاصل عن المشاهدة ظاهر، فهي أيضا أدلة على

(1) الدروس 2: 135.
(2) انظر الرياض 2: 447.
(3) أي مرسلة الفقيه المتقدمة في ص 321.
327

المطلوب.
وتدل عليه أيضا المستفيضة من الصحاح وغيرها، الواردة في شهود
الزنا، المتضمنة لمثل قولهم: " حتى تقوم البينة الأربعة أنهم رأوه يجامعها "
أو " أنهم رأوه يدخل ويخرج " (1).
بل يمكن دعوى الإجماع عليه أيضا، لتصريح الكل بذلك،
ولم يذكروا علما آخر سوى العلم الحاصل من التسامع في موارد خاصة،
وجعلوه مستثنى من القاعدة بالدليل.
ومما ذكرنا ظهر ما في كلام المحقق الأردبيلي، حيث قال - بعد
ما نقل عنهم: إنه لا يجوز كون مستند الشهادة في الأفعال السماع من الغير -:
وفيه تأمل، إذ يجوز أن يعلم هذه الأمور بالسماع من الجماعة الكثيرة
بقرائن أو غيرها، بحيث يتيقن ولم يبق عنده شبهة أصلا، كسائر
المتواترات والمحفوفات بالقرائن، فلا مانع من الشهادة حينئذ، لحصول
العلم (2). انتهى.
فإنه لا كلام في جواز حصول العلم بما ذكر، بل بغيره أيضا من
التجارب والقرائن، كما يعلم كون الليلة ثاني الشهر فصاعدا برؤية ظل
الشاخص ونحوها.
وإنما الكلام في أنه هل يجوز جعل كل علم مناط الشهادة؟ مع أنه
خلاف مقتضاها اللغوي والعرفي، وخلاف مدلول النص المصرح بأنه على
مثل رؤية الشمس وعلى معرفة كما يعرف الكف يشهد (3)، كيف؟! ولو

(1) انظر الوسائل 28: 94 أبواب حد الزنا ب 12.
(2) مجمع الفائدة 12: 444.
(3) راجع ص 321.
328

كان المناط العلم مطلقا لم ينحصر بالعلم الحاصل من التسامع، بل يحصل
كثيرا ما من التجارب والحدسيات والاستقراء، بل عن قول ثلاثة أو اثنين أو
واحد، كما ذكروه في الأصول.. واختلفوا في أنه هل يحصل العلم من
الخبر الواحد، أم لا؟ وعلى الأول هل يطرد، أم لا؟
فإن قيل: عدم اعتبار هذه العلوم لاختلافها شدة وضعفا وتخلفها
كثيرا.
قلنا: تحقق هذا التخلف والاختلاف في العلم الحاصل من التسامع
أكثر بكثير.
ولا تنافي ما ذكرنا رواية حفص بن غياث: أرأيت إذا رأيت شيئا في
يدي رجل، أيجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال: " نعم " قال الرجل: أشهد أنه
في يده ولا أشهد أنه له فلعله لغيره، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): " أفيحل
الشراء منه؟ " قال: نعم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " فلعله لغيره، فمن أين
جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك: هو لي، وتحلف
عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟! " الحديث (1)..
لأن ذلك أيضا شهادة مستندة إلى حس البصر، وهو الرؤية في يد
زيد، واليد معرف شرعي للملكية الظاهرية، أي كونه محكوما له بالملكية
ما لم يعلم خلافها.
بل اليد التي لم يعلم فيها عدم الملكية هي نفس الملكية الظاهرية،
فإن الملكية ارتباط جعلي من الشارع، إما واقعا - وهي ما كان كذلك في
نفس الأمر، وهي لا يظهر خلافها - أو ظاهرا، وهي كونها كذلك على

(1) الكافي 7: 387 / 1، الفقيه 3: 31 / 92، التهذيب 6: 261 / 695، الوسائل
27: 292 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 25 ح 2، بتفاوت يسير.
329

الظاهر.
وللواقعية أسباب، وللظاهرية معرفات، هي أيضا أسبابها، وأحد
معرفاتها اليد.. كما أنه تجوز الشهادة على الزوجية بمشاهدة الزوج
والزوجة وسماع عقد النكاح بينهما، وبتطهير الثوب برؤية غسله على ما هو
المقرر في الشرع، وبنجاسته برؤية وصول بول الإنسان إليه، وبالطلاق
بالحضور في مجلسه، وهكذا.. فإن نفس الزوجية والتطهير والتنجيس
وزوال عقد النكاح ليست أمورا محسوسة، ولا ترتبها على الأسباب
المذكورة محسوسا، ولا ترتبا عقليا ولا عاديا، بل ترتب شرعي بجعل
الشارع، فبمشاهدة الموجبات الشرعية يشهد بالموجب، بالفتح..
وكذلك الغصب، واشتغال الذمة بالقرض، والشهادة بالوقف بسماع
الصيغة ورؤية الإقباض، ونحوها، بل كذلك في جميع الشهادات الحسية.
فإنه إذا سمع قول زيد: إن علي ألفا لعمرو، يشهد عليه بالإقرار،
وهي شهادة حسية، مع أن اللفظ المذكور محتمل للتجوز والتخصيص
والحذف ونحوها، بدون قرينة، أو بقرينة مخفية عليه، وسببه أن اللفظ
المذكور مفيد للاعتراف وضعا ما لم تعلم القرينة.
وكذلك إذا قال: أعرف فلان بن فلان، فإن ابنيته له أمر شرعي
مترتب على اشتهار نسبه، أو إقرار والده، أو تحقق الفراش ونحوه،
فالمحسوس شئ، والمشهود به شئ آخر مترتب على المحسوس إما
بحكم الشرع، أو الوضع، أو العقل، أو العرف، فكذلك الملكية بعينها
بالنسبة إلى اليد.
وقد ثبت مما ذكر أن الأصل في الشهادة هو الاستناد إلى العلم
الحضوري، وعدم كفاية الحصولي على سبيل الإطلاق.
330

المسألة الثالثة: قد استثنوا من الأصل المذكور أمورا مخصوصة،
فاكتفوا في جواز الشهادة فيها بالعلم الحصولي لا مطلقا، بل بالتسامع
والاستفاضة.
ثم إنهم اختلفوا في تعداد تلك الأمور، فمنهم من خصها بالنسب
وحده، وهو الإسكافي (1).
وعدها في النافع أربعة، بزيادة: الملك المطلق، والوقف، والزوجية (2).
وفي الخلاف جعلها ستة، بزيادة: الولاء، والعتق (3).. وكذلك في
الكفاية، ولكنه نقص: الولاء والزوجية، وزاد: الموت والولاية (4).
وفي القواعد سبعة بزيادة: الموت، والولاية للقاضي، ونقص:
الولاء (5).
وفي التحرير ثمانية بزيادة: الولاء (6).
وبعضهم تسعة بزيادة: الرق، والعدالة، ونقص: الولاية (7).
ومن متأخري المتأخرين من لم يحصرها في أمور مخصوصة، بل
جوزها في كل ما تتعذر فيه المشاهدة في الأغلب (8).
وعدها في الشرائع في باب الشهادات ثلاثة: النسبة، والموت،

(1) نقله عنه في التنقيح الرائع 4: 310.
(2) النافع: 289.
(3) الخلاف 2: 611.
(4) الكفاية: 283.
(5) القواعد 2: 240.
(6) التحرير 2: 211.
(7) كما في الرياض 2: 447.
(8) كما في كشف اللثام 2: 381.
331

والملك المطلق (1)، وفي باب القضاء سبعة، بزيادة: ولاية القاضي،
والنكاح، والوقف، والعتق (2).
وظني أن المسألتين مختلفتان، فإن الكلام تارة في مستند الشهادة وما
تجوز الشهادة بسببه.
وأخرى فيما يثبت به الشئ وإن لم تجز الشهادة بذلك الثبوت، بل
يكون مناطا لحكم من ثبت عنده وتكليفه، كشهادة العدلين، فإنه يثبت بها
المشهود به عند من شهدا عنده، ويثبت ما هو تكليفه بها، ولا تجوز
الشهادة بها عند الأكثر.. وكذا العدل الواحد لو قلنا بإفادته العلم في بعض
الموارد وأفاده.. وكذا الخبر الواحد المحفوف بالقرينة العلمية، فإنه يحكم
به الحاكم، لوجوب قضائه بعلمه، وليس للشاهد أن يشهد به.. إلى غير
ذلك.
فمراد المحقق في الأول بيان مستند الشاهد، وفي الثاني بيان مستند
كل شخص في حقه، وعلى هذا يمكن أن يكون قول المحقق - بعد عد
الثلاثة وذكر مسائل أخرى -: والوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة (3)، زيادة
الأمرين على الثلاثة، حيث إنه ذكرهما في باب الشهادة ويمكن أن يكون
المراد: الثبوت الذي ذكرناه، بل الظاهر أنه ليس غير ذلك، حيث إنه أدرج
النكاح بعد ذلك في القسم الثالث من مستند الشاهد، قال: الثالث: ما يفتقر
إلى السماع والمشاهدة، كالنكاح (4)، إلى آخره.

(1) الشرائع 4: 133.
(2) الشرائع 4: 70.
(3) الشرائع 4: 134.
(4) الشرائع 4: 135.
332

ونحوه في الكفاية، ولكنه - بعد عده الستة المتقدمة مما يشهد فيه
بالاستفاضة، وذكر مسائل أخرى - قال: والوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة
عند جماعة (1). انتهى.
وهذا أظهر في تغاير المسألتين، لذكر الوقف في الموضعين.
ثم إنهم استدلوا على استثناء ما ذكروه بوجوه:
منها: ما قيل من عدم وجدانه الخلاف فيه - بعد عد التسعة المذكورة
- إلا عن الإسكافي (2).
ووهنه - بعد ما ذكرنا من أقوالهم - ظاهر، إذ لم يذكر التسعة إلا الشاذ
النادر، ولعله رأى بعض ذلك مذكورا في مقام الثبوت فأدرجه في مقام
مستند الشاهد.
ومع ذلك صرح الشهيد الثاني (3) وبعض من تبعه (4) بمنع الجواز في
الموت، وذكر أوجها بالمنع في النسبة إلى الأم.
ونسب في التنقيح الجواز في الموت والملك المطلق إلى الأكثر، وفي
الوقف والولاء والعتق والنكاح إلى الخلاف والفاضلين (5)، وظهور ذلك في
الخلاف ظاهر، وكذا عبارة الكفاية المتقدمة.
هذا، مع أنه لا حجية في عدم وجدان الخلاف أصلا، سيما محكية.
وأما دعوى الإجماع في مثل هذه المعركة فجزاف، منشؤه ضيق
الفطن.

(1) الكفاية: 284.
(2) انظر الرياض 2: 447.
(3) المسالك 2: 410.
(4) كالفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 381.
(5) التنقيح الرائع 4: 310.
333

ومنها: ما قيل في النسب من أنه أمر لا مدخل فيه للرؤية، وغاية
الممكن رؤية الولادة على فراش الإنسان، لكن النسب إلى الأجداد
المتوفين والقبائل القديمة لا تتحقق فيه الرؤية ومعرفة الفراش، فدعت
الحاجة إلى اعتماد التسامع والاستفاضة (1).
وفيه أولا: أن الاستفاضة إن لم تكن مثبتة لشئ ومعتمدا عليها
فكيف تصلح مستندة للشاهدين؟!
وإن كانت مثبتة ومعتمدا عليها فيثبت بها النسب عند الحاكم، الذي
عليه أن يحكم بعلمه، وكذا كل من اطلع على الاستفاضة، فإن كل أحد
مكلف بعلمه، فلا حاجة غالبا إلى شهادة الشاهدين، التي يجب أن تكون
مستندة إلى الحس، فثبت النسب بالاستفاضة عند الحاكم وغيره.
وإن لم تجز الشهادة لأجلها والحاجة أحيانا إلى إثباته عند حاكم
بشاهدين - كما لم يمكن الإثبات بالاستفاضة عند الحاكم ووقع تنازع -
لا تصير دليلا لإثبات أمر مخالف للنص والأصل، وإلا لثبت بالاستفاضة كل
شئ، إذ ليس شئ إلا وقد يتعذر إثباته بشاهدين مشاهدين للمشهود به،
بل يمكن التعدي إلى غير الاستفاضة أيضا.
وثانيا: إنا نسلم جواز الشهادة في النسب بالاستفاضة، ولكن لا لكونه
مستثنى، ولا لدعاء الحاجة وعدم الاطلاع على الفراش والولادة.
بل لأنا نقول: إن النسب الشرعي هو ما اشتهر واستفاض، فابن
الشخص من شاع وذاع بين الناس ببنوته له من غير معارض.
فإنا لا نقول: إن ابن شخص شرعا مثلا منحصر بمن انعقد من

(1) انظر المسالك 2: 410، الرياض 2: 447.
334

نطفته، بل هو بحكم العقل.
ومن ولد على فراشه بحكم الشرع بقوله: " الولد للفراش " (1).
ومن أخرجته القرعة في المشتبه، كما نطقت به الأخبار (2) وأطبقت
عليه الفتاوى.
ومن أقر به الأب ولم يعارضه الابن بالأخبار المستفيضة والإجماع.
ومن شاع واشتهر واستفاض بين الناس أنه ابنه من غير معارض
بالإجماع القطعي، بل الضرورة الدينية، بل ضرورة كل دين.
فبناؤهم كلا من لدن آدم إلى ذلك الزمان أنهم ينسبون الأولاد إلى
الآباء بذلك، فكون من اشتهر في حقه ذلك ابنا شرعيا مجمع عليه، بل بناء
المواريث وغيرها من الأحكام الشرعية على مجرد الاشتهار.
وكذا غير الابن من الأنسباء، بل لولا ذلك لم يثبت نسب غالبا، كما
يأتي في المسألة الآتية.
فشهرة النسب من غير معارض كشهرة كونه زيدا..
فكما يشهد: أني رأيت زيدا، بمجرد ثبوت كونه زيدا بالاشتهار من
غير استثناء وعدم منافاة لاستناد الشهادة إلى الحس..
فكذا النسب، فالمشهود به هو الأبنية مثلا - كالزيدية في شخص زيد
- ومستنده إحساس الاشتهار - الذي هو موجبها شرعا - بحاسة السمع،
يعني: أن المشهود به مسموع كسماع الاعتراف وصيغ العقود، فإنك إذا
سمعت: بعت، من البائع، تشهد بالبيع، لأن ذكر هذا القول في مقام الإنشاء
بيع لا أنه إخبار عن البيع ومثبت له..

(1) التهذيب 8: 183 / 640، الوسائل 22: 430 أبواب اللعان ب 9 ح 3.
(2) الوسائل 27: 257 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 13.
335

فكذا الاشتهار، فإن المشتهر بذلك من غير معارض ابن شرعا، لا أن
الشهرة إخبار عن أمر آخر هو الأبنية..
وكذلك في سائر النسب.
ومنها: ما ذكروه في بعض سائر الأمور المذكورة، فقيل: يثبت
الموت بالاستفاضة، لتعذر مشاهدة الميت في أكثر الأوقات للشهود،
والملك المطلق لا يمكن الشهادة عليه بالقطع، والوقف لو لم تسمع فيه
الاستفاضة لبطلت الوقوف على تطاول الأزمنة، لتعذر بقاء الشهود،
والشهادة الثالثة عندنا غير مسموعة، والوقوف للتأبيد (1).
وكذا العتق والزوجية والرقية والولاية وغيرها، فقيل: لو لم يجز في
الشهادة فيها الاكتفاء بالسماع للزم بطلان أكثر تلك الحقوق بتطاول الأزمان
والدهور (2).
ويظهر ما فيها مما ذكرنا أولا في الوجه السابق.
مضافا إلى أن تعذر مشاهدة الميت وسائر ما استندوا فيه إلى التعذر أو
التعسر ليس بأكثر من تعذر مشاهدة كثير مما صرحوا فيه باشتراط
المشاهدة، كالرضاع - سيما مع شرائط التحريم به - والغصب، والسرقة،
والاصطياد، والإتلاف، والولادة، وغيرها.. ولا أرى فرقا بين البيع أو الهبة
أو الإجارة وبين العتق والنكاح ونحوهما.
وإلى أن إثبات تلك الحقوق في الأزمنة المتطاولة لا تنحصر جهته
بشهادة الشاهدين بها بالاستفاضة، بل يمكن الإثبات بنفس الاستفاضة عند
الحاكم وبيد الموقوف عليه أو المتولي على الموقوف، وبالأخبار المحفوفة

(1) انظر التحرير 2: 211.
(2) انظر المسالك 2: 410، كشف اللثام 2: 381.
336

بالقرائن العلمية، وبتصرف المولى أو ورثته في الرقيق.
وقد ظهر من ذلك أن الحق عدم جواز الشهادة بشئ بمجرد
الاستفاضة سوى النسب، لا لأجل كونه مستثنى، بل لما ذكرنا.
وأما غير الشهادة، فيثبت كل شئ بالاستفاضة إذا أفاد العلم عند من
حصلت له الاستفاضة.
المسألة الرابعة: اختلف الأصحاب في الاستفاضة - التي هي مستند
الشهادة عند من يجوز استنادها إليها ودليل النسب الشرعي، أو مستند
الحاكم وغيره لا لأجل الشهادة بل لأجل الثبوت عنده على ما ذكرنا - هل
يشترط إيراثها العلم القطعي، أو الظن المتاخم للعلم خاصة، أو يكفي
مطلق الظن؟ على أقوال ثلاثة:
الأول: لجماعة، منهم: المحقق في الشرائع والنافع والفاضل في
جملة من كتبه وصاحب التنقيح (1) وغيرهم (2)، وهو ظاهر كل من جعل
ضابط الشهادة العلم، من غير استثناء الاستفاضة الظنية.
اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن، وللأخبار المتقدمة المعتبرة
للعلم في الشهادة (3)، والظواهر من الكتاب (4) والسنة (5) الناهية عن اتباع
الظن والعمل به.

(1) الشرائع 4: 132، النافع: 289، الفاضل في القواعد 2: 239، والتحرير 2:
211، التنقيح 4: 311.
(2) كالسبزواري في الكفاية: 284.
(3) الوسائل 27: 341 أبواب الشهادات ب 20.
(4) يونس: 36، النجم: 28.
(5) الوسائل 27: 40 أبواب صفات القاضي ب 6 ح 8، و ص 58 ح 40، 42.
337

والثاني: محكي عن الإرشاد واللمعتين والدروس والمسالك (1).
واستدل له بأن الظن المتاخم للعلم أقوى من الحاصل من قول
الشاهدين، فيستفاد من مفهوم الموافقة - بالنسبة إلى الحاصل من الشاهدين
الذي هو حجة منصوصة - حجيته أيضا.
وبأنه لو لم يعتبر هذا القدر من الظن فقد يحصل الضرر العظيم في
أمثال ما ذكر من اعتبار الاستفاضة فيه، لأن حصول العلم بها نادر جدا.
والثالث: منقول عن المبسوط والخلاف (2).
محتجا (3) بأنه يجوز لنا الشهادة بأن خديجة زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
كما نقضي بأنها أم فاطمة (عليها السلام)، ويجوز لنا الشهادة لها بزوجيته، مع أن
العلم فيها غير حاصل، لأنه لو كان حاصلا لكان بالتواتر، وهو هنا مفقود،
لأن شرطه الاستناد إلى الحس، والظاهر أن المخبرين في الطبقة الأولى
لم يخبروا عن المشاهدة، بل عن السماع.
وبأنه لو لم يعتبر الظن الحاصل من الاستفاضة لزم عدم الثبوت في
أكثر ما ذكر، سيما فيما يطلب فيه التأبيد، حيث إن شهادة الفرع الثالثة غير
مسموعة عندنا.
أقول: أورد (4) على الدليل الأول للقول الثالث: بمنع فقد شرط التواتر
في تزويج خديجة، لأن الطبقة الأولى بالغون حد التواتر، لأن النبي (صلى الله عليه وآله)
كان أعلى قريش حينئذ، وكان أبو طالب - المتولي لتزويجه - رئيس بني

(1) الإرشاد 2: 160، اللمعة والروضة 3: 136، الدروس 2: 134، المسالك 2:
410.
(2) المبسوط 8: 183، الخلاف 2: 611.
(3) نقل الاحتجاج في التحرير 2: 211.
(4) أورده في المسالك 2: 411 - 412.
338

هاشم، وخديجة من أجلاء بيوتات قريش، وخطب في المسجد الحرام
بمجمع من قريش، فيمكن بلوغ المشاهدين حد التواتر، وكذا يمكن بلوغ
المخبرين عن طبقتهم السابقة في كل طبقة، فبعد حصول العلم يحكم
بحصول الشرط - كما قالوا - في عدد التواتر.
وعلى الثاني (1): بأن كما أن الشهادة الثالثة الفرعية غير مسموعة
فكذلك الظنية، فتخصيص الثاني ليس بأولى من الأول (2)، بل [الأول] (3)
أولى، لعدم استلزامه مخالفة الكتاب والعقل.
والقول بأن عدم قبول الثالثة إجماعي دون عدم قبول الظنية.
مردود بعدم معلومية الإجماع حتى في المورد في الأول، كيف؟!
وجوزه الفاضل في المختلف في رد ذلك الدليل (4)، وهو وإن كان واحدا إلا
أن الشيخ أيضا مثله.
ثم أقول: إنه يرد على الأول أيضا أولا: أنه لو سلم عدم إمكان التواتر
فحصول العلم بالخبر المحفوف بالقرينة ممكن، فلم ليس كذلك هنا؟!
كيف؟! ولو لم تكن زوجية خديجة معلومة لسرت الظنية إلى أعقاب
خديجة أيضا، وصار الكل ظنيا.. وفساده ظاهر.
والظاهر أن الاستدلال بذلك الدليل لإثبات جواز الشهادة بالاستفاضة
لا لأجل إثبات اعتبار الاستفاضة الظنية، وحينئذ يرد عليه أيضا ما مر من أن
الثبوت بالاستفاضة - ولو كانت علمية - لا يستلزم جواز الشهادة بها، غايته

(1) أورده في المختلف: 729، وحكاه في المسالك 2: 411.
(2) أي أن تخصيص النهي عن الشهادة الظنية بالوقف - مثلا - تحصيلا لمصلحة ثبوته
ليس بأولى من تخصيص النهي عن الشهادة الثالثة بذلك.
(3) في " ح " و " ق ": الثاني، والصحيح ما أثبتناه.
(4) المختلف: 729.
339

أنه لم يجز لنا الشهادة في مقام التنازع والمرافعة في تلك الواقعة، وأي
محذور فيه؟! ولا نزاع ولا منازع.
ويرد على الثاني أيضا ما مر من أنه لا يستلزم عدم جواز الشهادة
بالاستفاضة عدم إمكان الثبوت بها عند الحاكم وغيره، فإن الثبوت لا يستلزم
جواز الشهادة، كما في شهادة العدلين، بل المرأة الواحدة في ربع الوصية.
وبذلك ظهر ضعف القول الأخير بالنسبة إلى الشهادة، وكذا بالنسبة
إلى نفس الثبوت عند الحاكم وغيره، بأن يجعل الاستفاضة الظنية موجبة
للثبوت، فإن الأصل عدم الثبوت بها، وعمومات النهي عن العمل بالظن
وعدم إعبائه عن الشئ تمنع اعتباره.
ثم أضعف من ذلك بالنسبة إلى الشهادة ما حكي عن الشيخ أيضا،
من كفاية السماع عن العدلين فصاعدا، فيصير بسماعه شاهد أصل ومتحملا
للشهادة، لأن ثمرة الاستفاضة هي الظن، وهو حاصل بهما (1).
وفيه أولا: منع اعتبار الاستفاضة المثمرة للمظنة.
وثانيا: أنه لو سلم ينبغي الاقتصار عليه، لعدم دليل على العموم.
وثالثا: أنه لو كان سببا لاعتبار مطلق الظن لزم اعتباره ولو حصل من
واحد - ولو أنثى - أو فاسق.
والجواب بالاختصاص بما ثبت اعتباره شرعا، أو ما أفاد الظن
القوي.
مردود بأنه إن أريد اعتباره مطلقا أو في مقام الشهادة فلم يثبت ها هنا
أيضا.

(1) المبسوط 8: 181، وحكاه عنه في الرياض 2: 448.
340

وإن أريد اعتباره في الجملة فأي ملازمة بينه وبين اعتباره في مورد
خاص غير ما ثبت اعتباره فيه؟!
وأما الظن القوي، فقد يحصل - من شهادة فاسقين، أو عدل
وفاسقين، أو عدل واحد - ظن أقوى من شهادة عدلين آخرين.
نعم، تعتبر شهادة العدلين في مقام الثبوت مطلقا، إلا ما أخرجه
الدليل، كالزنا.
نعم، يمكن أن يستدل للشيخ بمكاتبة الصفار الصحيحة، وفيها: هل
يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع
الأرضين التي [له] فيها إذا تعرف حدود هذه القطاع بقوم من أهل هذه
القرية إذا كانوا عدولا؟ فوقع (عليه السلام): " نعم، يشهدون على شئ مفهوم
معروف إن شاء الله تعالى " (1).
ولكنها مصرحة بحصول التعرف، الذي هو حقيقة في العلم للشاهد،
ومع ذلك متضمنة للقوم الذي ظاهره الأكثرية من العدلين، ويشعر به الإتيان
بضمير الجمع له، فيحتمل الشياع المفيد للعلم.
فهي تصلح دليلا لمن يعتبر الاستفاضة العلمية، ومع ذلك إرادة
الإشهاد وتحمل الشهادة منها محتملة، فيتحمل ويؤدي بما تحمل من
شهادة القوم، فيكون شاهد فرع، فلا تصلح دليلا له أيضا، فتأمل.
والقول الثاني أيضا كالأخير في فساد المستند..
أما أول مستندهم، فلأن الأولوية إنما تنهض حجة لو كانت العلة في
حجية شهادة العدلين إفادتها المظنة، وليست كذلك، بل هي من الأسباب

(1) التهذيب 6: 276 / 758، وفي الكافي 7: 402 / 4، والوسائل 27: 407 أبواب
الشهادات ب 48 ح 1، بتفاوت يسير. وما بين المعقوفين من المصادر.
341

الشرعية - كاليد - حتى أنها لو لم تفد مظنة أصلا لكانت حجة أيضا.
مع أنه لو كان ذلك المناط في حجيتها وجب أن يدار مدار الظن
الأقوى، حتى لو فرض حصوله من شهادة الفاسقين أو الصبي أو القرائن
دون شهادة العدلين كان حجة دون شهادتهما، وهو باطل.
مع أن الظن الأقوى أعم من المتاخم للعلم، وأيضا الظن الحاصل من
العدلين له مراتب مختلفة جدا، ولا يعلم أن أيتها المراد هنا، وكذلك
المتاخم للعلم.
هذا كله، مع أن الأصل أيضا محل المنع حتى عندهم، فإنهم
لا يجوزون الشهادة بشهادة العدلين فكيف يجعلونها أصلا للإثبات؟!
نعم، لو كان الكلام بالنسبة إلى أصل الثبوت لم يرد عليه ذلك، بل
يرد بما ذكر أولا.
وأما ثانيهما، فلمنع ندرة حصول العلم من الاستفاضة، بل هو كثير
غاية الكثرة، وما لم يحصل فيه العلم بها لا تعتبر استفاضته، ولا حرج فيه
ولا ضرر، بل قد يوجب الضرر في الطرف الآخر بمجرد الظن الغير
المعتبر.
فهذا القول أيضا - كالأخير - في غاية الضعف، فلم يبق إلا الأول،
وهو الصحيح فيما اعتبرنا فيه الاستفاضة من الشهادة أو الثبوت.
ولكن لي ها هنا كلاما آخر، وهو أن من يقول باعتبار الاستفاضة
العلمية في النسب ما أراد من متعلق العلم الذي هو المعلوم بالاستفاضة؟
فهل مراده التولد من النطفة؟ فالعلم به محال غالبا.
أو التولد على فراش الشخص؟ فلا يشاهده غالبا إلا اثنتان من
النسوان وثلاثة أو نحوها، فكيف يحصل العلم؟! سيما إذا لم نقل بكون
342

الأمة والمنقطعة فراشا، وكذلك إقرار الوالد.
بل المشاهد المحسوس أن بتقاليب الدهر وتصاريف الزمان يجئ
هذا من خراسان إلى العراق وبالعكس، ومن فارس إلى أحدهما وبالعكس،
ومن العرب إلى العجم وبالعكس، ومن الترك إليهما وبالعكس، وهكذا،
فيتوطن في المقام الثاني، وينسب فيه إلى أبيه أو قبيلته بقول أربعة أو
ثلاثة، بل بقول نفسه، ويبقى في ذلك البلد، ويشتهر فيه بتلك النسبة بعد
مدة، سيما إذا ماتت الطبقة الأولى، بحيث ينسبه بها جميع أهل البلد أو
المملكة، وأكثر الأنسباء إلى الطبقات التي فوق الأولى أو الثانية كذلك.
نعم، يحصل العلم من الاستفاضة في النسبة، وذلك أيضا من أقوى
الشواهد على ما قلنا من أن نفس الاستفاضة هو سبب تحقق النسبة، ونسب
شخص من اشتهر بنسبته إليه من غير معارض..
ومرادنا من الاستفاضة العلمية: أن يعلم أن كل أحد يعرف المنتسبين
بنسبتهما إلى الآخر، ونقول: هذا نفس النسبة المخصوصة، كالأبنية مثلا..
فلو نذر أحد لشخص لبني تميم يبرأ بالإعطاء إلى من ينسبه كل من
يعرفه [في هذا البلد إليهم] (1) وإن لم يعلم سبب نسبتهم.
بل وكذا نقول في مثل الوقف، فإن المعلوم فيه بالاستفاضة لا بد وأن
يكون هو صيغة الوقف والإقباض، ونحن نجد من أنفسنا أن ما استفاضت
وقفيته ولا نشك فيها - كالمساجد العظيمة الجامعة في المدن الكبيرة
والمدارس والرباطات والقناطر والقباب والقنوات الوقفية - لا نظن من
أغلبها صدور صيغة الوقف، فكيف من العلم به؟!
وهذا أيضا من أقوى الشواهد على ما ذكرنا من أن مناط ثبوت الوقفية

(1) في " ق " و " ح ": إلى هذا البلد إليه، والظاهر ما أثبتناه.
343

في الأغلب يد الموقوف عليهم أو المتولي الخاص أو العام، والاستفاضة
المفيدة استفاضة تلك اليد، وهذه اليد ممكنة الشهود غالبا، وكذا الكلام في
أمثالهما.
المسألة الخامسة: المشهور بين الأصحاب - كما صرح به جماعة (1) -
جواز الشهادة بالملك المطلق لشخص بمشاهدة الشئ في يده مع تصرفه
فيه مكررا - بنحو البناء والهدم والإجارة والصبغ والقص والخياطة وغيرها -
بلا منازع له، وعن الخلاف الإجماع عليه (2)، وفي الشرائع نفي الريب
عنه (3)، وعن المبسوط نسبته إلى روايات الأصحاب (4)، وحكي القول به
عن الصدوق والكليني والخلاف والحلبي والقاضي والحلي وعامة
المتأخرين (5) ونسب الخلاف فيه إلى النافع (6).
وفيه تأمل، لأنه جعل الأولى الشهادة بالتصرف دون الملك، وهو
على الجواز أدل منه على المنع، فلا يكون في المسألة مخالف معلوم وإن
حكاه في المبسوط (7) وغيره (8) قولا.
لا لما قيل من قضاء العادة بأن ذلك لا يكون إلا بالملك، وجواز
شرائه منه، وأنه متى حصل عند المشتري جاز له دعوى الملكية، ولو ادعى

(1) منهم السيوري في التنقيح 4: 310، السبزواري في الكفاية: 284.
(2) الخلاف 2: 611.
(3) الشرائع 4: 134.
(4) المبسوط 8: 182.
(5) الصدوق في الفقيه 3: 31، الكليني في الكافي 7: 387، الخلاف 2: 611،
الحلبي في الكافي في الفقه: 437، القاضي في المهذب 2: 561، الحلي في
السرائر 2: 130، وحكاه عنهم وعن عامة المتأخرين في الرياض 2: 451.
(6) المختصر النافع: 289.
(7) المبسوط 8: 182.
(8) كما في إيضاح الفوائد 4: 440، الكفاية: 284.
344

عليه فأنكر جاز له الحلف (1)..
حتى يرد عليه بعض ما ذكره الأردبيلي وصاحب الكفاية (2).
ويحتمل إمكان منع قضاء العادة، ولو سلم فلا يفيد إلا المظنة،
والشهادة بها غير جائزة، بل وكذلك العلم كما عرفته.
ومنع استلزام جواز الشراء ودعوى الملكية والحلف لجواز الشهادة.
بل لرواية حفص بن غياث المتقدمة في المسألة الثانية (3)، المنجبر
ضعفها - لو كان - برواية المشايخ الثلاثة لها، وموافقتها الشهرة العظيمة
المحققة والمحكية والإجماع المحكي، المعتضدة بأخبار أخر مرت في باب
القضاء، الدالة على كون الأصل في اليد الملكية، سيما موثقة يونس
المصرحة بأن: " من استولى على شئ فهو له " (4).
ولا ينافيها ما مر من اشتراط العلم الحسي في جواز الشهادة، لأن
الملكية الظاهرية الشرعية - التي هي المشهود بها، بل لا ملكية إلا الشرعية -
معلومة قطعا، لحكم الشارع بها مع اليد المذكورة، كما مر بيانه في المسألة
المذكورة.
احتج في النافع لما ذكره: بأن اليد والتصرف دلالة الملك وليس
بملك (5).
وفيه: أنه إن أراد بالدلالة أنها مخبرة عن الملك - كالاستفاضة
والعدلين - فكونها دلالة ممنوع.

(1) انظر المسالك 2: 411.
(2) مجمع الفائدة 12: 459 - 460، الكفاية: 284.
(3) راجع ص 327.
(4) التهذيب 9: 302 / 1079، الوسائل 26: 216 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 3.
(5) النافع: 289.
345

وإن أراد أنها سبب للملك الظاهري ومولد له - كقوله: علي كذا
لزيد، فإنه دلالة الاعتراف وسبب ومولد له - فكذلك، وهو نفس الملكية
الظاهرية.
وإلى هذا يشير قول من قال: إنه يمكن دعوى الضرورة في إفادة اليد
المتصرفة - بل مطلقا - الملكية، وعليه بناء الفقهاء، بل والمسلمين كافة (1).
انتهى.
فإن المراد من إفادتهما: سببيتهما لها.
وأما ما أورد عليه أيضا من أن بعد تسليم الدلالة على الملكية لا وجه
للمنع عن الشهادة عليها، وإن هو حينئذ إلا كالاستفاضة، فكما تجوز
الشهادة على الملكية بها من غير لزوم إقامة الشهادة على الاستفاضة فكذا
هنا (2).
فمردود بأن كونه كالاستفاضة لا يوجب جواز الشهادة به، لأن
الاستفاضة عنده مستثناة من قاعدة لزوم الاستناد إلى الحس بالإجماع أو
الضرورة، ولا يلزم منه استثناء ما هو مثلها في الإفادة.
ثم بما ذكرنا تظهر الشهادة باليد خاصة أيضا، كما نقله في الكفاية عن
أكثر المتأخرين (3)، وادعى بعضهم إطباق جمهور المتأخرين عليه (4).
وأما ما قيل من أن اليد - أو هي مع التصرف - لو أوجبت الملك
لم تسمع دعوى من يقول: الدار التي في يد زيد، أو في يده ويتصرف فيها

(1) انظر الرياض 2: 452.
(2) انظر الرياض 2: 452.
(3) الكفاية: 284.
(4) كما في الرياض 2: 452.
346

لي، كما لا تسمع لو قال: ملك زيد لي (1).
ففيه: أن هذا إنما كان يصح لو قلنا إنهما يفيدان الملكية الواقعية،
وأما الظاهرية فلا، إذ معناه: أن الدار التي ملك زيد ظاهرا لي واقعا.
المسألة السادسة: لا تجوز الشهادة برؤية الشاهد خطه وخاتمه إذا
لم يتذكر الواقعة وإن أمن التزوير - بلا خلاف - إذا لم يكن معه عدل آخر
ولا المدعي ثقة، للإجماع، والأصل، وعمومات اشتراط العلم، وأدلة اعتبار
الحس - كما مرت - وخصوص المعتبرة، كمرسلة الفقيه المتقدمة في
المسألة الأولى (2)..
وحسنة الحسين بن سعيد: جاءني جيران لنا بكتاب زعموا أنهم
أشهدوني على ما فيه، وفي الكتاب اسمي بخطي قد عرفته، ولست أذكر
الشهادة، وقد دعوني إليها، فأشهد لهم على معرفتي أن اسمي في الكتاب
ولست أذكر الشهادة؟ أو لا تجب لهم الشهادة علي حتى أذكرها، كان
اسمي في الكتاب [بخطي] أم لم يكن؟ فكتب: " لا تشهد " (3).
ورواية السكوني: " لا تشهد بشهادة لا تذكرها، فإنه من شاء كتب
كتابا ونقش خاتما " (4).
وإن عرف خطه وخاتمه، وعلم أنه خطه، وكان معه عدل آخر، وكان
المدعي ثقة، ففي جواز الشهادة مع عدم التذكر خلاف..

(1) انظر الشرائع 4: 134.
(2) راجع ص 321.
(3) الكافي 7: 382 / 2، التهذيب 6: 259 / 684، الإستبصار 3: 22 / 67، الوسائل
27: 322 أبواب الشهادات ب 8 ح 2، وما بين المعقوفين من المصادر.
(4) الكافي 7: 383 / 4، التهذيب 6: 259 / 683، الإستبصار 3: 22 / 66، الوسائل
27: 323 أبواب الشهادات ب 8 ح 4.
347

فعن الشيخ في النهاية والمفيد والإسكافي والقاضي والديلمي ووالد
الصدوق (1)، بل - كما قيل (2) - الصدوق والكليني أيضا: جواز الشهادة، وبه
أفتى بعض متأخري المتأخرين (3)، ويظهر من بعضهم دعوى شهرة القدماء
عليه (4).
لصحيحة عمر بن يزيد: الرجل يشهدني على الشهادة، فأعرف خطي
وخاتمي، ولا أذكر من الباقي قليلا ولا كثيرا، قال: فقال لي: " إذا كان
صاحبك ثقة ومعك رجل ثقة فاشهد له " (5).
والرضوي: " وإذا أتى الرجل بكتاب فيه خطه وعلامته ولم يذكر
الشهادة فلا يشهد، لأن الخط يتشابه، إلا أن يكون صاحبه ثقة ومعه شاهد
آخر ثقة، فيشهد حينئذ " (6).
وذهب الشيخ في الاستبصار والفاضل ووالده وولده وأكثر المتأخرين
إلى عدم الجواز (7)، للعمومات، وأدلة اعتبار الحس، والمعتبرة المتقدمة،
وترجيح هذه على الصحيحة والرضوي لأكثريتها وأوفقيتها للأصول.

(1) النهاية: 330، المفيد في المقنعة: 728، حكاه عن الإسكافي في المختلف:
724، القاضي في المهذب 2: 561، الديلمي في المراسم (الجوامع الفقهية):
657، حكاه عن والد الصدوق في المختلف: 724.
(2) انظر الرياض 2: 453، وهو في الفقيه 3: 43، الكافي 7: 382.
(3) في " ح ": صاحب الوافي وشارح المفاتيح - منه رحمه الله تعالى. انظر الوافي
16: 1031 - 1033.
(4) كما في الرياض 2: 453.
(5) الكافي 7: 382 / 1، الفقيه 3: 43 / 145، التهذيب 6: 258 / 681، الإستبصار
3: 22 / 68، الوسائل 27: 321 أبواب الشهادات ب 8 ح 1، بتفاوت يسير.
(6) فقه الرضا " ع ": 261، مستدرك الوسائل 17: 413 أبواب الشهادات ب 5 ح 3.
(7) الإستبصار 3: 22، الفاضل في المختلف: 725، والده وولده في الإيضاح 4: 443.
348

وصريح المحقق وظاهر الدروس التردد (1)، لمعارضة جهة الترجيح
المذكورة مع جهة خصوصية الصحيحة.
والتحقيق: أن الصحيحة وإن كانت أخص مطلقا من المعتبرة ولكنها
أعم من وجه من عمومات اشتراط العلم، لأعميتها من مفروض الصحيحة،
واختصاصها بالعلم، وعموم الصحيحة بالنسبة إلى صورة حصول العلم
وعدمه، فإن حصوله بمعرفة الخط والخاتم وضم الثقة والوثوق بالمستشهد
ليس بعزيز، بل هو الغالب، سيما مع تذكر أصل إشهاده له، كما يدل عليه
قوله: يشهدني، فيكون التعارض بالعموم من وجه، فيعمل بهما في صورة
العلم، لعدم الاختلاف، وفي صورة عدم العلم يعمل بالعمومات، لرجحانها
بما مر، وبموافقة الأصل، كما عن المختلف (2) وظاهر بعض آخر (3).
ولا ينافي ذلك أدلة اعتبار استناد الشهادة إلى الحس، لأن المعلوم هنا
ليس مجرد المشهود به - كما في الاستفاضة العلمية - بل يعلم بما ذكر
إحساس الشاهد وحضوره، فهو أيضا مستند إلى الحس، غاية الأمر أنه
لا يتذكر الإحساس، وعلمه من الخارج.
مع أنه لو لم يكن استنادا إليه لم يضر، لأن تخصيص العام بمخصص
صحيح صريح موافق لعمل أساطين القدماء ليس بعزيز، ولكنه يجب
التخصيص بمورد الصحيحة، من تذكر الإشهاد، وكون صاحبه رجلا
لا امرأة.
المسألة السابعة: لا شك في جواز شهادة الشاهد الاستصحابي

(1) المحقق في المختصر النافع: 290، الدروس 2: 134.
(2) المختلف: 725.
(3) كالتنقيح الرائع 4: 316.
349

بما شهده في السابق مقيدا به، من غير ضم الاستصحاب، كأن يشهد بأنه:
كان ملكه بالأمس، أو: كان في يده كذلك، أو: اعترف بالأمس بملكيته،
أو: أخذ منه المبلغ الفلاني بالأمس قرضا، أو: غصب بالأمس، ونحو
ذلك.
وكذا مع ضم الاستصحاب، كقوله: كان ملكه بالأمس، وهو إلى الآن
مستصحب.
أو ضم ما يؤدي مؤداه، نحو قوله: ولا أعلم له مزيلا، و: لا أدري
أزال ملكه عنه أم لا، لأن جميع ذلك هو مشهوده ومعلومه.
وهل تجوز له الشهادة بالملك المطلق أو الشغل المطلق أو نحوهما
بالاستصحاب - كما تجوز له الشهادة بالملك المطلق باليد - أم لا؟
الظاهر: نعم، بل قال بعض فضلائنا المعاصرين: إن جواز اعتماد
الشاهد على الظن الحاصل له من جهة الاستصحاب مما لا خلاف فيه،
ولا إشكال يدانيه (1). انتهى.
ويدل عليه: أنه لولا جواز ذلك لم تجز الشهادة بالملك المطلق
أصلا، إذ حصول العلم بالملك في آن الشهادة من المحالات العادية غالبا،
إذ نقل الملك قد يحصل من نفس المالك بنفسه، بحيث لا يطلع عليه أحد
غيره - بنذر أو وقف أو غيره من الأمور - أو مع عدم اطلاع الشاهد، كأن
يكون مالكا لداره اليوم، ونقلها في الليلة إلى زوجته أو ولده.
وأيضا الاستصحاب سبب شرعي، ومولد للمستصحب كاليد، فكما
تجوز له الشهادة فكذا به.

(1) انظر رسالة في القضاء (غنائم الأيام): 710.
350

فإن قيل: الاستصحاب سبب لولا المزيل واقعا، فلعله تحقق المزيل
ولم يعلم به الشاهد.
قلنا: كذلك اليد، سبب لولا المعارض أو اعتراف ذي اليد بخلافه،
فلعله تحقق من دون اطلاع الشاهد.
والحل: أن كلا منهما دليل شرعي للشاهد، وهو يشهد عن معلومه
ولو بواسطة الشرع، لا عن معلوم غيره.
وأيضا يجوز للشاهد الاستصحابي شراء الملك ممن كان يعلم أنه له
أمس، ثم ادعاء ملكيته والحلف عليه، فله أن يشهد بملكية من كان ملكه
سابقا، بالعلة المنصوصة في رواية حفص المتقدمة (1).
هذا، مضافا إلى خصوص المعتبرة المجوزة للشهادة بالاستصحاب:
كصحيحة ابن وهب: إن ابن أبي ليلى يشهدني الشهادة على أن هذه
الدار مات فلان وتركها ميراثا، وأنه ليس له وارث غير الذي شهدنا له،
فقال: " اشهد، فإنما هو على علمك " قلت: إن ابن أبي ليلى يحلفني
الغموس (2)، قال: " احلف، إنما هو على علمك " (3).
فإن ترك الميت للدار ميراثا، وانتفاء وارث آخر له، ليس إلا

(1) في 327.
(2) في الحديث: " اليمين الغموس هي التي تذر الديار بلاقع " اليمين الغموس: هي
اليمين الكاذبة الفاجرة التي يقطع بها الحالف ما لغيره، مع علمه أن الأمر بخلافه،
وليس فيها كفارة لشدة الذنب فيها، سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم
في النار. وفي الحديث: " اليمين الغموس هي التي عقوبتها دخول النار " وهي أن
يحلف الرجل على مال امرئ مسلم أو على حقه ظلما - مجمع البحرين 4: 90.
(3) الكافي 7: 387 / 2، التهذيب 6: 262 / 696، الوسائل 27: 336 أبواب
الشهادات ب 17 ح 1، بتفاوت.
351

باستصحاب الوجود في الأول، والعدم في الثاني.
وموثقته: الرجل يكون له العبد والأمة، قد عرف ذلك، فيقول: أبق
غلامي أو أمتي، فيكلفونه القضاة شاهدين بأن هذا غلامه أو أمته، لم يبع
ولم يهب، فنشهد على هذا إذا كلفناه؟ قال: " نعم " (1).
والأخرى: الرجل يكون في داره، ثم يغيب عنها ثلاثين سنة، ويدع
فيها عياله، ثم يأتينا هلاكه، ونحن لا ندري ما أحدث في داره، ولا ندري
ما حدث له من الولد، إلا أنا لا نعلم نحن أنه أحدث في داره شيئا
ولا حدث له ولد، ولا تقسم هذه الدار بين ورثته الذين ترك في الدار،
حتى يشهد شاهدا عدل أن هذه الدار دار فلان بن فلان، مات وتركها ميراثا
بين فلان وفلان، أفنشهد على هذا؟ قال: " نعم "، ونحوها روايته (2).
وأما ما في ذيل تلك الرواية: الرجل يكون له العبد والأمة، فيقول:
أبق غلامي وأبقت أمتي، فيؤخذ في البلد، فيكلفه القاضي البينة أن هذا
غلام فلان لم يبعه ولم يهبه، أفنشهد على هذا إذا كلفناه، ونحن لا نعلم أنه
أحدث شيئا؟ قال: " فكلما غاب عن يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو
غاب عنك لم تشهد عليه "..
فلا يثبت سوى مرجوحية الشهادة، ولا بأس بها.
فإن قيل: الشهادة إن كانت جائزة كانت واجبة، فلا معنى
لمرجوحيتها.

(1) الوسائل 27: 337 أبواب الشهادات ب 17 ح 3، الوافي 16: 1034 أبواب القضاء
والشهادات ب 140 ح 10.
(2) الكافي 7: 387 / 4، التهذيب 6: 262 / 698، الوسائل 27: 336 أبواب
الشهادات ب 17 ح 2.
352

قلنا: الواجب هو الشهادة بما هو عنده، لا بالملك المطلق والشئ
المستصحب مطلقا، فالمعنى: أنه لم يشهد أنه كذا وكذا، وإن وجبت
الشهادة بأنه كان كذا وكذا، ولم يعلم حدوث شئ.
وبذلك جمع في الوافي بين تلك الرواية وبين الموثقة الأولى، فقال
في بيانها: وإنما تجوز الشهادة على أنه كان له، لا على أنه الآن له، وبهذا
يجمع بينه وبين الخبر الآتي، حيث حكم بعدم جواز الشهادة في مثله (1).
انتهى.
هذا، ثم إنه يظهر من بعض الفضلاء المعاصرين: أن جواز شهادة
الشاهد بالاستصحاب إنما هو إذا كان البقاء معلوما له أو مظنونا، ولم يكن
اتكاله على مجرد الاستصحاب وإن كان شاكا أو ظانا خلافه..
قال: فكما أن المجتهد قد يرجح الظاهر على الأصل، ويقطع
الاستصحاب بسبب ظهور خلافه وأظهريته، ويسقط عنده عن درجة
الحجية، فكذلك الشاهد في إخباره، قد يكون على ظن بما علمه سابقا،
وبأنه باق لعدم سنوح سانحة، ووجود أمارات تفيد الظن بالبقاء، وقد
تسنحه سوانح تزلزله عن ذلك الظن، ويصير شكا أو وهما، فحينئذ لا يمكنه
الإخبار، لا بالعلم ولا بالظن (2). انتهى.
وفيه: أنه مبني على ما تقرر عنده، من أن حجية الاستصحاب من
جهة إفادته الظن، وأما على التحقيق المستفاد من أدلته - من أنه حجة بنفسه
ولو لم يفد الظن - فلا وقع لذلك الكلام.
المسألة الثامنة: كل ما ذكر إنما هو في بيان تكليف الشاهد ووظيفته

(1) الوافي 16: 1034.
(2) انظر رسالة في القضاء (غنائم الأيام): 710.
353

في أداء الشهادة ومستندها.
وأما الحاكم وتكليفه في القبول واستنتاج الحكم منها فهو أمر آخر،
غير لازم لذلك، فإن جواز الشهادة للشاهد لا يستلزم جواز الحكم بكل
ما تجوز له الشهادة، كما في شهادة الجرح والتعديل، فإنه لا شك في جواز
الشهادة بالتعديل المطلق، والجرح كذلك للعالم به، ولكن لا يجب
على الحاكم عند الأكثر، بل لا يجوز له الحكم به إلا مع بيان السبب، أو
اتفاق الشاهد مع الحاكم في أسبابهما.
وعلى هذا، فالأهم هنا بيان تكليف الحاكم، وأنه بأي شهادة يحكم.
والمحصل: أن فيما سبق كان الكلام في مستند الشهادة، وبقي الكلام في
مستند الحكم - أي الشهادة التي تصلح مستندا للحكم - أنه هل يكفي
الإطلاق في الشهادة، بأن يقول: هذا ملك زيد، أو: له على عمرو كذا، أو:
باع زيد داره لعمرو، أو: غصب، ونحو ذلك، أو: أعلم أنه كذا؟
أو لا يكفي، بل يشترط فيه بيان المستند، وذكر السبب من الحس،
أو الاستفاضة، أو اليد، أو الاستصحاب، أو نحوها مما هو مستند الشاهد؟
وبعبارة أخرى: هل يشترط أن تكون الشهادة حسية - بأن تذكر
محسوساته - أو تكفي العلمية؟
الحق: هو الأول، لوجهين:
أحدهما: أنه قد عرفت الاختلاف الشديد فيما يصلح أن يكون
مستندا للشهادة، فإن الأكثر قالوا بوجوب الاستناد إلى الحس وعدم كفاية
مطلق العلم.
ومنهم من استثنى العلم الحاصل بالاستفاضة في موارد خاصة، ولهم
اختلاف كثير في تلك الموارد.
354

ثم اختلفوا في الاستفاضة المثمرة لجواز الشهادة، أنها هل هي
العلمية أو الظنية؟
ثم اختلف المكتفون بالظنية، هل هي الظن المتاخم للعلم، أو يكفي
مطلق الظن؟
ومنهم من اكتفى بالظن الحاصل من شهادة العدلين.
ومنهم من اكتفى برؤية الخط والخاتم مع ضم الثقة.
وزاد جمع شرط كون المدعي أيضا ثقة.
ومنهم من اكتفى في الشهادة بالملك بالاستفاضة مع اليد والتصرف.
ثم اختلفوا في التصرف أنه هل يكفي مطلقه أو تشترط تصرفات
خاصة؟ وهل تشترط فيه المدة الطويلة أم لا؟
ومنهم من اكتفى باليد والتصرف.
ومنهم من اكتفى باليد.
ثم في تشخيص اليد الدالة على الملكية اختلاف شديد - مر في
مقصد القضاء - من جهة فهم ما هو يد، وتعارض أسباب صدق اليد،
وشرائطه، وموارد اكتفاء اليد.
ثم اختلفوا في الشهادة بالاستصحاب، وفي أنه هل يشترط معه الظن
بالبقاء، أو يكفي عدم الشك في خلافه، أو عدم الظن به، أو لا يشترط
شئ من ذلك؟ إلى غير ذلك من وجوه الاختلافات.
ومع ذلك الاختلاف وتشتت الآراء والمذاهب كيف يعلم الحاكم
بتحقق ما هو الشهادة الصحيحة عنده بمجرد الشهادة المطلقة؟ حتى يجوز
له الحكم بها أو يجب، والأصل عدمهما، وعدم تحقق الشهادة المقبولة.
وإلى هذا ينظر كلام الحلي في السرائر، بعد نفيه تحمل شاهد الفرع
355

لشهادة شاهد الأصل، بدون الاسترعاء، وسماع الشهادة عند الحاكم،
وبدون ذكر السبب.
قال: مثل أن سمعه يقول: أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن
فلان درهما، فإنه لا يصير بهذا متحملا للشهادة على شهادته، لأن قوله:
أشهد بذلك، ينقسم إلى الشهادة بالحق، ويحتمل العلم به على وجه
لا يشهد به، وهو أن يسمع الناس يقولون: على فلان كذا وكذا (1). انتهى.
وبمثل ذلك صرح الشيخ في المبسوط (2)، على ما حكي عنه.
هذا كله، مع ما في اشتباه العلم والظن على كثير كثيرا، واختلاف
الناس في سهولة القبول وصعوبته، واختلاف الأسباب في إفادة العلم
وعدمها بالنسبة إلى الأشخاص، وحصول العلم القطعي لبعضهم بما لا يفيده
عند الأكثر، فإني شاهدت ذلك كثيرا..
فمن العدول من شهد بشهادة قطعية، فعلمت أنه لم يشاهد المشهود
عليه، فسألته عن ذلك، فقال: علمت بالتواتر والشياع، فقلت: كم شهد
عندك من الأشخاص؟ فانتهى إلى ثلاثة أو أربعة من أوساط الناس
ومجاهيلهم.
وكثير منهم كانوا ممن شهدوا قطعا على شخص غير حاضر في البلد،
فاستفسرت منهم، قالوا: علمنا ذلك بمكاتيب شركائنا من البلدة الفلانية،
مع أن مكاتيبهم لم تكن مستندة إلى حس أيضا.
ومنهم من قال: كتب إلي ولدي، وأعرف خطه، وهو غير كاذب.
ومنهم من قال - بعد الشهادة العلمية والاستفسار منه -: أنه مكتوب

(1) السرائر 2: 129.
(2) المبسوط 8: 232.
356

بخطي وخاتمي، وأقطع بأني لا أكتب إلا عن علم.
وشهد في بعض الوقائع عندي نحو من أربعين نفرا، كان جمع منهم
من العدول، وحصلت لي ريبة من جهة مضي مدة طويلة من الواقعة،
وقصور سني الشهود عن درك هذه المدة، فاستفسرت من جمع من
عدولهم، فاستندوا إلى شهادة جمع كثير من هؤلاء الأربعين، فتفحصت
منهم، فاستند كثير منهم إلى طائفة أخرى منهم، إلى أن انتهت شهادة الباقين
إلى حكم بعض المنصوبين لمنصب الحكم والمدعي لمرتبته، من غير
تعمق في علمه أو عدالته.
فإن قيل: العدالة مانعة عن الشهادة بالمطلق مع الاختلاف في
المستند، فمع الإطلاق يعلم أنه أراد ما هو المجمع عليه، أو المقبول عند
الحاكم.
وأيضا تمنع العدالة عن الشهادة بالعلم بالأسباب الضعيفة الغير
المفيدة للعلم غالبا.
قلنا في الجواب عن الأول بمثل ما أجابوا عمن اكتفى بالإطلاق في
التعديل لمثل ذلك، فإن العدالة لا تستلزم الاطلاع على هذه الاختلافات،
ولا تنافي البناء على مذهب مجتهده.
مع أنه قد لا يفيد الموافقة لرأي الحاكم أيضا، فإن الشاهدين قد
يشهدان بالاستصحاب مع ظن البقاء، وعلمهما بجوازها عند الحاكم،
ويشهد آخران بخلافه، لأجل اليد الحالية، وعلمهما باعتبارها عند الحاكم،
فلو لم يستفسر الحاكم، وحكم بمقتضى التعارض، كان حاكما بمقتضى
الاستصحاب مع وجود المزيل، إذا كان الحاكم يقدم اليد الحالية على
الملكية السابقة.
357

وعن الثاني: بأن حصول العلم وسهولة القبول ليس أمرا اختياريا
تمنعه العدالة، وبعد حصوله لم يكذب الشاهد في شهادته بالعلم، أو
لا حرج عليه، سيما إذا لم يسمع الاختلاف في وجوه الشهادات، أو
لم يسمع إلا اشتراط العلم فيها.
وثانيهما: أنه قد عرفت - وصرح به جماعة (1) - أن الشهادة هي
الإخبار عما شاهده وعاينه، ولم يعلم شمولها لغير ذلك، فلا تدل عمومات
قبول الشهادة إلا على وجوب قبول الخبر الكذائي في ترتيب الحكم عليها،
والأصل عدمه في غير ذلك.
وإلى هذا ينظر كلام الشهيد في الدروس - كما تقدم في المسألة الثانية
- ناقلا عن بعض الأصحاب، حيث قال بلا بدية الإتيان بلفظ الشهادة،
وعدم سماع قول الشاهد: إني أعلم أو أتيقن أو أخبر عن علم أو حق (2).
وذلك لأن هذه الأقوال لا تفيد الاستناد إلى الحس، بخلاف قوله:
أشهد، فإن معناه الإخبار عن الحضور والمشاهدة.
ولكن هذا لا يفيد في الأكثر أيضا، لأن غالب الشهود في هذه الأزمنة
لا يعرفون معنى الشهادة، سيما في البلاد العجمية، فلا يفرقون بين الشاهد
والمخبر.
ولعل هذا وجه عدم اكتفاء الحلي والمبسوط - كما مر - بالإتيان بلفظ
الشهادة أيضا.
فإن قيل: قد ذكرت أن الشهادة بالملك المطلق والاستصحاب أيضا
شهادة عن المحسوس، حيث إن اليد الحاضرة والسابقة كانتا محسوستين،

(1) كصاحب الرياض 2: 446.
(2) الدروس 2: 135.
358

والشارع جعل اليد والاستصحاب سببا لحصول الملكية الظاهرة بذلك
المحسوس، فهما أيضا شهادتان حسيتان.
قلنا: الشهادة: الإخبار عن الحس والمشاهدة، لا عن المحسوس
والمشاهد.
المسألة التاسعة: إذا شهد الشاهد عند الحاكم لزيد باليد ثبت عنده
اليد، ومقتضاها الملكية، فيحكم له بها، لأن اليد مستلزمة لها، سواء علمت
بالمشاهدة أو ثبتت بالبينة، فيكون حينئذ الثابت بالبينة: اليد، وبها وبالقاعدة
الشرعية: الملكية، وإن شئت نسبت الثانية إلى الشهادة أيضا.
وإذا شهد بملكية الأمس، فإما يكتفي بها، أو يضم معها ما يفيد
استصحابه أيضا.
فعلى الأول: تثبت ملكية الأمس بالبينة، وملكية اليوم باستصحاب
الحاكم، لأنه أمر شرعي يجب عليه اتباعه.
وبه صرح في القواعد، قال -: أما أنه لو شهد بأنه أقر له بالأمس ثبت
الإقرار، واستصحب موجبه، وإن لم يتعرض الشاهد (1) للملك الحالي (2).
انتهى.
وحكي عن بعض آخر أيضا (3)، وجعله الشهيد الثاني مقتضى إطلاق
كلام المحقق (4)، بل الظاهر عندي أنه مقتضى كلام القوم، وإن رجحوا اليد
عليه لكونها مزيلة للاستصحاب.

(1) في المصدر: المالك.
(2) القواعد 2: 234.
(3) انظر كشف اللثام 2: 187.
(4) المسالك 2: 392.
359

وأما ما ربما يظهر من بعض معاصرينا، من الإشكال في جواز عمل
الحاكم هنا بالاستصحاب، استنادا إلى أن الثابت جواز العمل بعلمه، أما
عمله بظنه فلا دليل عليه..
فمما لا ينبغي الإصغاء إليه، فإنه لا يعمل بظنه من حيث هو ظن، بل
هو يعمل بمقتضى الدليل الشرعي الذي هو الاستصحاب.
وأي فرق بين قاعدة الاستصحاب وقاعدة العمل بالبينة؟! فإن شيئا
منهما لا يفيد العلم.
وجعل الثاني تعبديا والأول عملا بالظن شطط من الكلام.
مع أنه تجوز شهادة الشاهد بالاستصحاب، وحكم الحاكم باستصحاب
الشاهد لو صرح به.
وليت شعري كيف صار الاستصحاب حجة للشاهد مع النهي عن
الشهادة بدون العلم؟! وصار استصحابه حجة للحاكم دون استصحاب
نفسه؟!
نعم، لو قال: بأن هذا ليس إثباتا للحق بالبينة الآن - كما صرح به قبل
ذلك في مسألة أخرى - لا اعتراض لنا عليه.
وعلى الثاني: فإما تكون الضميمة صريح الاستصحاب، فيقول: كان
ملكه بالأمس، واعتقد أنه ملكه حينئذ بالاستصحاب.
أو ما يفيد مفاده، فيقول: ولا أعلم له مزيلا.
أو تكون الضميمة ما يفيد شكه، فيقول: ولا أدري أزال ملكه عنه أم
لا؟
ومما ذكرنا ظهر الحكم في جميع تلك الصور أيضا، لعدم منافاة
شئ من هذه الأقوال لاستصحاب الحاكم الملكية السابقة، فيستصحبها،
360

فيكون الحكم بالبينة والاستصحاب معا.
وأما الحكم بالبينة فقط فلا يتحقق في شئ من هذه الصور، لأن
استصحاب الشاهد أو عدم علمه بالمزيل أو نحوهما ليس حجة للحاكم،
ولا يطلق عليه الشهادة.
وذلك غرض الفاضل في القواعد، حيث قال في الصورة الأولى: إن
في قبول الشهادة إشكالا (1).
فإن غرضه الإشكال في إثبات الملكية الحالية بالبينة، لا بنفس
استصحاب الحاكم، وهو في محله، لأن الحاكم مأمور بعلمه باستصحاب
نفسه، وأما استصحاب الشاهد فهو وظيفته، ولا يفيد للحاكم شيئا، ولكنه
لا يثمر ثمرة بعد جواز استصحاب الحاكم.
نعم، لو كان الحاكم ممن لا يقول بحجية الاستصحاب والشاهد قائلا
بها تظهر الفائدة.
والتحقيق: عدم السماع حينئذ، لأن القدر الثابت جواز الشهادة له
بالاستصحاب، وأما جواز العمل بالشهادة الاستصحابية فلا دليل عليه أصلا.
وقد يفرق بين الصورتين الأوليين وبين الأخيرة، فتسمع في الأوليين
دون الأخيرة، بل ينسب إلى المشهور.
واستدل عليه: بأن الأوليين تفيدان أنه يعلم البقاء أو يظنه، وعلم
الشاهد وظنه المستند إلى دليل شرعي حجة شرعية. وأما الثانية فإنما تفيد
الشك، وعدم بقاء الظن.
وفساده أظهر من أن يخفى..

(1) القواعد 2: 234.
361

أما أولا: فلأنه أي دلالة للأوليين على بقاء العلم أو الظن؟! بل هما
أعمان منهما ومن الشك ومن ظن الخلاف، فإنه لا ينافي الاستصحاب.
وإن كان مراده الظن الاستصحابي فهو متحقق في الأخيرة أيضا.
وأما ثانيا: فلأن قوله: لا أدري، أعم من بقاء الظن أيضا، فلا ينفيه.
وأما ثالثا: فلأن أي دليل على حجية ظن الشاهد من حيث هو ظنه؟!
وأما الاستصحاب فهو حجة في صورة الشك أيضا إجماعا، بل هو حجة
مع ظن الخلاف أيضا، إلا إذا كان مستندا إلى دليل شرعي، وهو في حكم
العلم.
مع أن ظن الشاهد لو كان حجة فإنما هو حجة لنفسه، دون غيره.
والله الموفق والمعين.
362

الفصل الثالث
فيما يتعلق بتحمل الشهادة وأدائها
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يحصل التحمل للشهادة بالمشاهدة لما تكفي هي
فيه، وبالسماع لما يكفي هو فيه، ولو لم يستدع أحد طرفي الشهادة أو
كلاهما عليه، بل لو قالا له: لا تشهد ولا تتحمل.
بلا خلاف يوجد، إلا ما حكي عن الإسكافي في السماع (1).
وهو شاذ لا يعبأ به، لعدم دليل على اشتراط الاستدعاء في صيرورته
شاهدا مع حصولها بأحد الأمرين عرفا ولغة، وفرض حصول العلم اللازم
فيها المأمور بالشهادة معه كتابا وسنة.
مضافا إلى خصوص المعتبرة المصرحة لخيار الشاهد بين إقامة
الشهادة وعدمها في صورة عدم الاستدعاء (2)، ولولا كونه متحملا لما كان
وجه لجواز الشهادة.
ومنه يظهر حصول التحمل بالخباء، وسماع كلام المشهود عليه.
ولا يصير متحملا بشهادة العدلين عنده إلا [لشهادتهما] (3).
ولا بقول المشهود له وسكوت المشهود عليه، لأنه أعم من الرضا.
ولا بإشارة الأخرس إلا [لطريق] (4) إشارته، لجواز خطائه في فهمها،

(1) حكاه عنه في المختلف: 729.
(2) انظر الوسائل 27: 317 أبواب الشهادات ب 5.
(3) في " ح " و " ق ": بشهادتهما، والظاهر ما أثبتناه.
(4) في " ح " و " ق ": بطريق، والظاهر ما أثبتناه.
363

ولعدم كون الفهم مستندا إلى حس، والله العالم.
المسألة الثانية: المشهور - كما في المسالك والكفاية وشرح الإرشاد
للأردبيلي (1) وغيرها (2) - وجوب تحمل الشهادة إذا دعي إليه، وهو مذهب
الشيخ في النهاية والمفيد والإسكافي والحلبي والقاضي والديلمي وابن زهرة
والفاضلين والفخري والشهيدين والصيمري (3)، وغيرهم من المتأخرين (4).
لقوله سبحانه: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * (5).
فإن ظاهر سياق الآية أنها للدعاء إلى التحمل، لأنها منساقة في
معرض الإرشاد للأمر بالكتابة، ونهي الكاتب عن الإباء، ثم الأمر بالإشهاد،
ونهي الشاهد عن الإباء.
مع أن هذا المعنى للآية مستفاد من المستفيضة، كصحيحة هشام في
قول الله تعالى: * (ولا يأب الشهداء) * قال: " قبل الشهادة " وفي قول الله
تعالى: * (ومن يكتمها) * (6).

(1) المسالك 2: 415، الكفاية: 286، مجمع الفائدة 12: 517.
(2) كالمفاتيح 3: 284.
(3) النهاية: 328، المفيد في المقنعة: 728، نقله عن الإسكافي في المختلف:
722، الحلبي في الكافي في الفقه: 436، القاضي في المهذب 2: 560،
الديلمي في المراسم (الجوامع الفقهية): 657، ابن زهرة في الغنية (الجوامع
الفقهية): 625، المحقق في الشرائع 4: 137، العلامة في القواعد 2: 240،
الفخري في الإيضاح 4: 442، الشهيد الأول في اللمعة (الروضة البهية 3):
137، والدروس 2: 123، الشهيد الثاني في المسالك 2: 415 والروضة 3:
137.
(4) منهم ابن فهد الحلي في المقتصر: 392، الفاضل الهندي في كشف اللثام 2:
382.
(5) البقرة: 282.
(6) البقرة: 283.
364

قال: " بعد الشهادة " (1).
وصحيحة الحلبي: في قول الله عز وجل: * (لا يأب الشهداء) *
فقال: " لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة يشهد عليها أن يقول: لا أشهد
لكم " وقال: " ذلك قبل الكتاب " (2).
ومثلها موثقة سماعة (3) ورواية الكناني (4) إلى قوله: " لا أشهد لكم ".
ورواية محمد بن الفضيل: في قول الله عز وجل * (ولا يأب الشهداء) *
فقال: " إذا دعاك الرجل لتشهد له على دين أو حق لم ينبغ لك أن تقاعس
عنه " (5).
وما في تفسير الإمام (عليه السلام) - بعد ذكر التفسير الآتي -: وفي خبر آخر:
قال: " نزلت فيمن دعي لسماع الشهادة فأبى، ونزلت فيمن امتنع عن أداء
الشهادة إذا كانت عنده * (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * " (6).
ولرواية داود بن سرحان: " لا يأب الشاهد أن يجيب حين يدعى
قبل الكتاب " (7).

(1) الكافي 7: 380 / 4، الفقيه 3: 34 / 112، التهذيب 6: 275 / 750، الوسائل
27: 309 أبواب الشهادات ب 1 ح 1.
(2) الكافي 7: 380 / 2، الوسائل 27: 310 أبواب الشهادات ب 1 ح 4.
(3) الكافي 7: 379 / 1، التهذيب 6: 275 / 753، الوسائل 27: 310 أبواب
الشهادات ب 1 ح 5.
(4) الكافي 7: 379 / 2، التهذيب 6: 275 / 751، الوسائل 27: 309 أبواب
الشهادات ب 1 ح 2.
(5) الكافي 7: 380 / 3، التهذيب 6: 276 / 754، الوسائل 27: 310 أبواب
الشهادات ب 1 ح 7.
(6) تفسير العسكري " ع ": 676 / 379، الوسائل 27: 314 أبواب الشهادات ب 2 ح 8.
(7) الكافي 7: 380 / 6، التهذيب 6: 276 / 755، الوسائل 27: 310 أبواب
الشهادات ب 1 ح 6.
365

والمدائني: " إذا دعيت إلى الشهادة فأجب " (1).
مضافا إلى دعاء الضرورة إليه غالبا في المعاملات والمناكحات،
فوجب بمقتضى الحكمة إيجابه رفعا لحسم مادة النزاع.
خلافا للحلي - حاكيا له عن المبسوط أيضا - قال: والذي يقوى في
نفسي أنه لا يجب التحمل، وللإنسان أن يمتنع من الشهادة إذا دعي إليها
ليتحملها، إذ لا دليل على وجوب ذلك عليه، وما ورد في ذلك فهو أخبار
آحاد.
فأما الاستشهاد بالآية، والاستدلال بها على وجوب التحمل، فهو
ضعيف جدا، لأنه تعالى سماهم شهداء، ونهاهم عن الإباء إذا دعوا إليها،
وإنما يسمى شاهدا بعد تحملها، فالآية بالأداء أشبه. وإلى هذا القول يذهب
شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطه (2). انتهى.
ولكن نسب في المختلف والإيضاح إلى المبسوط القول الأول (3).
ويدل على ما ذكره الحلي - من كون الآية بالأداء أشبه - المروي عن
تفسير الإمام في تفسير هذه الآية: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسيرها:
" من كانت في عنقه شهادة فلا يأب إذا دعي لإقامتها، وليقمها " (4).
أقول: في تمامية الدليل الأخير للقول المشهور نظر، لرفع الضرورة
بالأمر بعدم الإنكار، والاستقامة على الحق، ثم بتوقف اليمين.
وكذا في دلالة رواية المدائني، لاحتمال إرادة الأداء.

(1) الكافي 7: 380 / 5، التهذيب 6: 275 / 752، الوسائل 27: 309 أبواب
الشهادات ب 1 ح 3.
(2) السرائر 2: 126، وانظر المبسوط 8: 186.
(3) المختلف: 722، الإيضاح 4: 441.
(4) تفسير العسكري " (عليه السلام) ": 676 / 378، الوسائل 27: 314 أبواب الشهادات ب 2 ح 7.
366

بل وكذا رواية داود، وليس قوله: " قبل الكتاب " نصا ولا ظاهرا في
التحمل.
ومنه يظهر ضعف دلالة غير صحيحة هشام، وخبر الإمام على تفسير
الآية بالتحمل أيضا.
نعم، هما تدلان عليه، ولكن يعارضهما الخبر الأخير عن التفسير،
إلا أنه لا يصلح لمعارضتهما، لوجوه، أقواها: مخالفته لفهم معظم الأصحاب
من المتقدمين والمتأخرين، مع ما يمكن من الكلام في ثبوت التفسير عن
الإمام.
فلا ينبغي الريب في حمل الآية على التحمل، ومعه تثبت حرمة
الإباء، وبها يثبت وجوب التحمل عند الدعاء.
ويدل على هذا القول أيضا أمر الله سبحانه بالإشهاد في الآية (1)،
وأخبر عنه في الأخبار، كما في روايتي عمر وعمران ابني أبي عاصم: " إن
أربعة لا تستجاب لهم دعوة، أحدهم: رجل كان له مال فأدانه بغير بينة،
فيقول الله عز وجل: ألم آمرك بالشهادة؟! " (2).
وهو لا يستقيم بدون إيجاب التحمل أيضا، بل الأول مفهم للثاني،
والثاني قرينة عليه عرفا، كما يظهر من أمر العبد بأخذ المال من عبد آخر،
أو أخذ دراهم من شخص، أو نحو ذلك.
فالحق هو المشهور.

(1) البقرة: 282.
(2) الكافي 5: 298 / 2، 1 وفيه: عمار وعمر [ان]، وفي التهذيب 7: 232 / 1014
عن عمران، وأورده في الوسائل 18: 338 أبواب القرض والدين ب 10 ح 1 عن
الكافي والتهذيب. والظاهر اختلاف نسخ الكافي - انظر هامش الوافي 9: 1536.
367

وأما صحيحة القداح: " جاء رجل من الأنصار إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال:
يا رسول الله، أحب أن تشهد لي على نحل (1) نحلتها ابني، قال: ما لك ولد
ساه؟ قال: نعم، فقال: نحلتهم كما نحلته؟ قال: لا، قال: فإنا معاشر
الأنبياء لا نشهد على حيف (2) " (3).
حيث إن المراد بالحيف ليس الحرام، وإلا حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ببطلان نحلته، بل خلاف الأولى، ولا يجوز ترك الواجب لذلك، وليس
ذلك أيضا من الخصائص.
فلا تنافي المختار، لأنه ما دعا الرسول (صلى الله عليه وآله)، بل قال: " أحب ".
مع أنه يمكن أن يعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحمل غيره، فإنه قضية في
واقعة.
ومعنى قوله: " فإنا معاشر الأنبياء " إلى آخره، يمكن أن يكون: إنا
لا نترك الحائف على حيفه، بل ننصحه حتى يتركه.. فلم يشهد (4) عليه.
فروع:
أ: هل الوجوب على الكفاية؟ كما عن الشيخ في المبسوط والنهاية
والإسكافي والفاضلين والفخري والشهيدين والصيمري (5) وغيرهم من

(1) أي هبة - مجمع البحرين 5: 478، وفي روضة المتقين 6: 183: نخل...
(2) يعني على الظلم والجور - مجمع البحرين 5: 42. وفي الفقيه: الجنف، وهو
الميل والعدول عن الحق - مجمع البحرين 5: 33.
(3) الفقيه 3: 40 / 134، الوسائل 27: 414 أبواب الشهادات ب 55 ح 1.
(4) في " ق ": نشهد...
(5) المبسوط 8: 186، النهاية: 328، حكاه عن الإسكافي في المختلف: 725،
المحقق في الشرائع 4: 138، العلامة في القواعد 2: 240، الفخري في الإيضاح
4: 442، الشهيد الأول في اللمعة (الروضة البهية 3): 137، والدروس 2:
123، والشهيد الثاني في الروضة 3: 137، والمسالك 2: 415.
368

المتأخرين (1).
أو على العينية؟ كما حكي في الإيضاح عن ظاهر المفيد والحلبي
والقاضي والديلمي وابن زهرة (2).
قيل: ظاهر الآية والأخبار: الثاني، إلا أن إطباق المتأخرين على الأول
يرجحه، مضافا إلى فحوى الخطاب المستفاد من الحكم بكفائية الأداء،
وإلى إشعار جعل وجوبه مقابلا لوجوب الأداء (3).
ولا يخفى ما في هذه الوجوه من الضعف البين، فإن - بعد تسليم
ظهور الآية والأخبار في أمر، وفتوى كثير من أساطين القدماء عليه - أي
وقع لإطباق المتأخرين؟! وأي أولوية للتحمل في الكفائية من الأداء؟!
مع أنه يحصل المطلوب - الذي هو ثبوت الحق - بأداء الشاهدين،
ولا تبقى فائدة للشهادة بعده، بخلاف التحمل، فإن موت بعض الشهداء
حين الحاجة محتمل، وكذا نسيانه أو فسقه أو غيبته أو جهل حاله عند
الحاكم، ففائدة غير الشاهدين كثيرة.
ولا إشعار للمقابلة المذكورة أصلا.
فالصواب: الاستدلال بظاهر الآية على الكفائية، لأن الله سبحانه أمر
أولا باستشهاد الرجلين، وإن لم يكونا فرجل وامرأتان، ثم قال عز شأنه:

(1) كالسبزواري في الكفاية: 286.
(2) الإيضاح 4: 441، وهو في المقنعة: 728، الكافي في الفقه: 436، المهذب
2: 561، المراسم (الجوامع الفقهية): 657، الغنية (الجوامع الفقهية): 625.
(3) انظر الرياض 2: 450.
369

* (ولا يأب الشهداء) *، اللام في ذلك للعهد الذكري، فالمعنى: ولا يأب
الرجلان والرجل والمرأتان من الإجابة، فالنهي للرجلين أو الرجل
والامرأتين المستشهد عنهما، لا كل أحد، فبعد إجابتهما لا أمر بالشهادة
ولا نهي عن الإجابة، كما هو شأن الواجب على الكفاية.. والأصل عدم
الوجوب على الغير.
ومنه يظهر عدم ثبوت غير الكفائي مما ذكرنا دليلا أيضا من الأمر
بالإشهاد، وأما سائر الأخبار فقد عرفت عدم ثبوت دلالتها على وجوب
التحمل.
ب: قيد الشيخ في النهاية (1) وجماعة (2) الوجوب بأنه إنما هو على
من له أهلية الشهادة، وأطلق جمع آخر (3).
والتقييد - بالنسبة إلى من لا تتصور في حقه الأهلية، كالولد على
والده، والمرأة في الطلاق، ونحوه - واضح.
وأما من تمكن في حقه الأهلية فالظاهر فيه أيضا ذلك، لأن الشاهد
المأمور باستشهاده في الكتاب الكريم إنما هو ممن ترضون من الشهداء،
فالمنهي عن الإجابة أيضا يكون هو ذلك، كما يظهر وجهه مما مر.
ج: هل يجب في التحمل حفظ المشهود به عن النسيان بكتابة
ونحوها؟
الظاهر: لا، للأصل، وأصالة عدم النسيان، واحتماله مع الكتابة

(1) النهاية: 328.
(2) منهم المحقق في الشرائع 4: 137، العلامة في القواعد 2: 240، الشهيد الأول
في اللمعة (الروضة البهية 3): 137، الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 382.
(3) منهم المحقق في النافع: 289، الشهيد الثاني في المسالك 2: 415، السبزواري
في الكفاية: 286.
370

أيضا.
د: يجب في تحمل الشهادة لشخص أو عليه أن يعرفه إما بعينه، بأن
ينظر إليه، ويثبته في خاطره، بحيث يمتاز عن غيره عنده عند الأداء، أو
يعين وصفه وحليته، بحيث لا يشاركه غيره فيهما عادة، ويثبته إلى وقت
الأداء.
أو يعرفه باسمه ونسبه، بحيث يمتاز عن غيره، بأن يكون معروفا
عنده ابتداء.
أو يعرفه حين التحمل معرفة علمية حاصلة من الشياع، حيث عرفت
أن الشياع معرف للأنساب (1) أو يعرفه بشهادة رجلين عدلين، بالإجماع كما
قيل، ويدل عليه كلام الحلي في السرائر أيضا (2)، كما يشعر به كلام
الكفاية (3).
لأصالة حجية شهادة العدلين، كما بينا في موضعه.
ولرواية ابن يقطين: " لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة وليست
بمسفرة إذا عرفت بعينها أو حضر من يعرفها، فأما إن لا تعرف بعينها
ولا يحضر من يعرفها، فلا يجوز للشهود أن يشهدوا عليها وعلى إقرارها
دون أن تسفر " (4).
وقوله: " أو حضر من يعرفها " وإن شمل الواحد أيضا والمرأة، إلا أن
الأقل من العدلين خارج بالإجماع.

(1) في " ق ": للإنسان.
(2) السرائر 2: 126.
(3) الكفاية: 284.
(4) الكافي 7: 400 / 1، الفقيه 3: 40 / 131، التهذيب 6: 255 / 665، الإستبصار
3: 19 / 57، الوسائل 27: 402 أبواب الشهادات ب 43 ح 3.
371

ومكاتبة الصفار الصحيحة: فهل يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع
هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع الأرضين التي له فيها، إذا تعرف حدود
هذه القطاع بقوم من أهل هذه القرية إذا كانوا عدولا؟ فوقع (عليه السلام): " نعم،
يشهدون على شئ مفهوم معروف إن شاء الله تعالى " (1).
وهي وإن كانت في معرفة حدود القطاع، إلا أنه لا فرق بين معرفة
الشخص والحد.
وقريبة منها مكاتبته الأخرى (2).
وأما مكاتبته الصحيحة الثالثة: في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس
لها بمحرم، هل يجوز له أن يشهد عليها وهي من وراء الستر ويسمع
كلامها، إذا شهد رجلان عدلان أنها فلانة بنت فلان التي تشهدك، وهذا
كلامها، أو لا تجوز له الشهادة حتى تبرز ويثبتها بعينها؟ فوقع (عليه السلام):
" تتنقب وتظهر للشهود " (3)..
فحملها بعضهم على التقية، ولأجلها جعلها مرجوحة بالنسبة إلى
الرواية المتقدمة، حيث إنه لا تجوز عند العامة الشهادة على إقرار المرأة
دون أن تسفر فينظر إليها الشهود ولو عرفت بعينها، كما ورد في رواية
صحيحة (4).
والظاهر أنها لا تنافي الرواية، لأن الظاهر أن المراد بالشهود: الذين
يعرفونها أنها فلانة، دون الرجل الذي أراد أن يشهد عليها، كما حملها عليه

(1) التهذيب 6: 276 / 758، وفي الكافي 7: 402 / 4، والوسائل 27: 407 أبواب
الشهادات ب 48 ح 1.
(2) الفقيه 3: 153 / 676، الوسائل 27: 407 أبواب الشهادات ب 48 ح 1.
(3) الفقيه 3: 40 / 132، الإستبصار 3: 19 / 58.
(4) انظر الرياض 2: 451.
372

الشيخ في الاستبصار (1)، ويدل عليه جمع الشهود، وقوله: " تتنقب "، لأن
الظاهر أن التنقب لهذا الرجل والظهور للشهود، حيث إنه يجب أن يكون
الظهور لهم في حضوره، حتى يشهدوا على عينها.
وإن كان المراد بالشهود: الرجل، لم يحتج إلى التنقب.
ولا يتوهم أن ذلك ينافي ما مر من لزوم استناد الشهادة إلى الحس،
وإبطال قول الشيخ بجواز الشهادة الأصلية بشهادة العدلين (2).
لأن المشهود به هنا أيضا - وهو إقرار المرأة - مستند إلى الحس.
والمعلوم بالعدلين هو بعض متعلقات المشهود به دون نفسه.
وليس ذلك إلا كالشهادة على حضور مشاهدة بيع وكيل زيد أو وصي
الصغير - الثابتة وكالته ووصايته بالعدلين - ملكا لغيره، فإن المشهود به
مستند إلى الحس.
وكذا إذا شهد بملكية عمرو الملك الفلاني - الذي ابتاعه من أم
الغلام، التي ورثت هذا الملك منه بشهادة امرأة واحدة - ليست شهادته
مستندة إلى قول امرأة.
فإن المفروض عدم التنازع في كون المشهود لها أو عليها الامرأة
الفلانية وعدمه، أو في وكالة الوكيل المذكور، أو في وصاية الوصي، أو
حياة الغلام، بل في أمر آخر محسوس للشاهد.
نعم، لو أنكر حينئذ المشهود عليه كونها تلك الامرأة أو الوكالة أو
الوصاية أو الحياة لم تجز الشهادة بالعدلين والامرأة الواحدة بكونها امرأة
فلانية ووكيلا ووصيا والغلام حيا.

(1) الإستبصار 3: 19.
(2) المبسوط 8: 181.
373

ثم إنه على ما ذكرنا - من جواز الشهادة على إقرارها بتعريف العدلين
لها - هل يجب استناد شهادته إلى شهادتهما بمعرفتها؟ كما عن الحلي في
السرائر والفاضل في التحرير (1) وغيره، أم يجوز ذكر الشهادة مطلقة؟
الظاهر: الثاني، إن كان مذهب الحاكم كفاية معرفة العدلين في هذه
الشهادة، ويعلمه الشاهدان، وإلا فلا، والوجه واضح.
ه‍: يجوز أن تسفر المرأة وتكشف عن وجهها ليعرفها الشاهدان لها
أو عليها، إذا لم يمكنهما معرفتها بشهادة العدلين العارفين لها شخصا أو
نسبا، بلا خلاف يوجد، كذا قيل (2).
أقول: إن قلنا بجواز نظر الأجنبي إلى وجه الأجنبية من غير ريبة
فلا حاجة إلى قيد عدم إمكان المعرفة بالعدلين، وإن لم نقل به يجب
التقييد به، وبضرورة الشهادة أيضا، فتأمل.
المسألة الثالثة: من تحمل شهادة فإما يكون بالاستدعاء - أي التماس
صاحب الحق للتحمل - أو بدونه.
فإن كان بالاستدعاء يجب عليه الأداء حين طلبه، إجماعا قطعيا، بل
ضرورة، وحكاية الإجماع عليه مستفيضة (3)، والآيات عليه دالة، والأخبار
عليه متواترة.
وإن كان بدونه، فالمشهور بين المتأخرين - بل نسب إلى جمهورهم (4) -
الوجوب أيضا، وهو مختار الحلي (5)، لما مر.

(1) السرائر 2: 126، التحرير 2: 211.
(2) انظر الرياض 2: 451.
(3) القواعد 2: 240، المسالك 2: 415، الروضة 3: 138، الرياض 2: 449.
(4) كما في الرياض 2: 449.
(5) السرائر 2: 132.
374

وذهب جماعة من القدماء - منهم: الإسكافي والشيخ في النهاية
وظاهر الحلبي والقاضي وابنا حمزة وزهرة، بل الكليني والصدوق (1)، بل
نسبه بعضهم إلى المشهور بين القدماء (2) - إلى عدم الوجوب حينئذ، بل هو
بالخيار، إن شاء شهد، وإن لم يشأ لم يشهد، للصحاح الأربع لمحمد
وهشام:
الأولى: " إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، إن شاء شهد،
وإن شاء سكت " (3).
والثانية: في الرجل يشهد حساب الرجلين، ثم يدعى إلى الشهادة،
[قال:] " إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد " (4).
والثالثة: " إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار، إن
شاء شهد، وإن شاء لم يشهد " (5).
ومثلها الرابعة، وزاد فيها: وقال: " إنه إذا أشهد لم يكن له إلا أن
يشهد " (6).

(1) نقله عن الإسكافي في المختلف: 729، النهاية: 330، الحلبي في الكافي في
الفقه: 436، القاضي في المهذب 2: 561، ابن حمزة في الوسيلة: 233، ابن
زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625، الكليني في الكافي 7: 381، الصدوق
في الفقيه 3: 33.
(2) كما في الرياض 2: 449.
(3) الكافي 7: 381 / 2، التهذيب 6: 258 / 678، الوسائل 27: 318 أبواب
الشهادات ب 5 ح 3، بتفاوت.
(4) الفقيه 3: 33 / 107، الوسائل 27: 319 أبواب الشهادات ب 5 ح 6، وما بين
المعقوفين من المصدرين.
(5) الكافي 7: 382 / 5، الوسائل 27: 317 أبواب الشهادات ب 5 ح 1، وفيهما: وإن
شاء سكت.
(6) الكافي 7: 381 / 1، التهذيب 6: 258 / 679، الوسائل 27: 318 أبواب
الشهادات ب 5 ح 2.
375

والروايتين، إحداهما لمحمد: عن الرجل يحضر حساب الرجلين،
فيطلبان منه الشهادة على ما سمع منهما، قال: " ذلك إليه، إن شاء شهد،
وإن شاء لم يشهد، فإن شهد شهد بحق قد سمعه، وإن لم يشهد فلا شئ
عليه، لأنهما لم يشهداه " (1).
والثانية ليونس مرسلة: " إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها،
فهو بالخيار، إن شاء شهد، وإن شاء أمسك، إلا إذا علم من الظالم فيشهد،
ولا يحل له إلا أن يشهد " (2).
وأما رواية محمد: في الرجل يشهد حساب الرجلين، ثم يدعى إلى
الشهادة، قال: " يشهد " (3).
فغير منافية لما مر، لأن قوله: " يشهد " لا يفيد الوجوب، ولو سلم
فيخصص عندهم بما إذا حضر بالاستدعاء.
وصريح النافع والكفاية (4) وبعض مشايخنا المعاصرين (5) وظاهر
المسالك (6) وبعض آخر ممن تأخر عنه (7): التردد، لمعارضة تلك الأخبار
مع إطلاقات الكتاب والسنة بوجوب أداء الشهادة، المعتضدة بالشهرة
المتأخرة.

(1) الكافي 7: 382 / 6، التهذيب 6: 258 / 677، الوسائل 27: 318 أبواب
الشهادات ب 5 ح 5.
(2) الكافي 7: 382 / 4، التهذيب 6: 258 / 680، الوسائل 27: 320 أبواب
الشهادات ب 5 ح 10، بتفاوت.
(3) الفقيه 3: 33 / 108، الوسائل 27: 319 أبواب الشهادات ب 5 ح 7.
(4) النافع: 290، الكفاية: 286.
(5) كصاحب الرياض 2: 449.
(6) المسالك 2: 415.
(7) كالكاشاني في المفاتيح 3: 285.
376

ولا يخفى ما فيه، فإن الإطلاق لا يعارض التقييد الصريح
المنصوص، الموافق لعمل أعيان القدماء، بل - كما قيل (1) - شهرتهم،
فلا مناص عن ترجيح القول الثاني، وعليه الفتوى.
ثم عدم الوجوب عند عدم الاستدعاء - على المختار - إنما هو إذا
لم يعلم الشاهد ذهاب حق المحق بسكوته، وإن علم ذلك تجب عليه
الشهادة، كما صرح به الصدوق في الفقيه والشيخ في النهاية (2)، كما نطقت
به المرسلة المتقدمة.
وتدل عليه رواية إبراهيم عن أبي الحسن (عليه السلام): عن رجل طهرت
امرأته من حيضها، فقال: فلانة طالق، وقوم يسمعون كلامه، ولم يقل لهم:
اشهدوا، أيقع الطلاق عليها؟ قال: " نعم، هذه شهادة، أفيتركها
معلقة؟! " (3).
قال: وقال الصادق (عليه السلام): " العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوما " (4).
يعني: أن العلم شهادة وإن لم يشهد عليه مع الظلم. وذلك يشعر بأنه
إذا لم يكن صاحبه مظلوما ليس مطلق العلم بدون الإشهاد شهادة.
ومنه يظهر جواب آخر عن العمومات والإطلاقات للشيخ وتابعيه.

(1) انظر الرياض 2: 449.
(2) الفقيه 3: 34، النهاية: 330.
(3) الفقيه 3: 34 / 109، الوسائل 27: 319 أبواب الشهادات ب 5 ح 8، وفيهما:
عن علي بن أحمد بن أشيم، عن أبي الحسن (عليه السلام)، ولم نعثر على رواية عن إبراهيم
بهذا المتن.. نعم، وردت بدون قوله: " أفيتركها معلقة " عن إبراهيم بن هاشم، عن
صفوان، عن أبي الحسن (عليه السلام) - انظر: الكافي 6: 72 / 4، التهذيب 8: 49 / 155،
الوسائل 22: 50 أبواب الطلاق ب 21 ح 2.
(4) الفقيه 3: 34 / 110، الوسائل 27: 319 أبواب الشهادات ب 5 ح 9.
377

وهل الوجوب - مطلقا على القول الأول، ومع الاستدعاء على الثاني -
عيني أو كفائي؟
الظاهر إطباق الأولين واتفاقهم على الثاني، بل حكايات إجماعهم
عليه مستفيضة، لأن المطلوب من أداء الشهادة إحقاق الحق، فمع حصوله
حصل المطلوب، ولا يتحصل الحاصل.
والحاصل: أن الفرق بين الكفائي والعيني أنه:
إن علم بتصريح الشارع أو بدليل آخر أن مطلوب الشارع نفس
الفعل، دون الفاعل، وأمكن تحققه من بعض، فهو الكفائي.
وإن احتمل مدخلية الفاعل أيضا، وشمل دليل الحكم الفاعل، فهو
العيني.
ويعلم هناك بضرورة العقل أن المطلوب ليس إلا إحقاق الحق، فبعد
تحققه لا يبقى طلب، وهو معنى الكفائي.
وربما يشعر بذلك ما في رواية جابر، من قوله: " من كتم شهادة أو
شهد بها ليهدر دم امرئ مسلم، أو ليزوي بها مال امرئ مسلم، أتى يوم
القيامة ولوجهه ظلمة مد البصر " (1).
حيث دلت بالمفهوم على أنه من كتم لا لغير ذلك - ومنه: عدم
الحاجة إلى شهادته - لم يكن كذلك.
ومما ذكرنا تظهر الكفائية على القول الثاني أيضا، والظاهر أنه أيضا
مراد القائلين به.
وأما جعل الوجوب مع الاستدعاء عينيا، لأنه المستفاد من الروايات

(1) الكافي 7: 380 / 1، الفقيه 3: 35 / 114، التهذيب 6: 276 / 756، ثواب
الأعمال: 225 / 3، الوسائل 27: 312 أبواب الشهادات ب 2 ح 2.
378

المفصلة، وجعله فارقا بين النزاعين، ورد كلام المختلف الجاعل نزاعهم
لفظيا بذلك (1)، كما في الكفاية تبعا للمسالك (2)..
فغير جيد جدا، لأن عموم الروايات وإطلاقها إن أفاد العينية لاشترك
بين القولين، وإن كان النظر إلى حصول إحقاق الحق فكذلك.
فإن قلت: فما الفرق بين القولين على هذا؟ حيث إن أرباب القول
الثاني مع عدم الإشهاد أيضا يقولون بالوجوب مع توقف إحقاق الحق عليه.
قلت: الفرق ظاهر غاية الظهور، فإن شأن الكفائي الوجوب على كل
أحد، إلا مع العلم بأداء الواجب عن غيره، فمع عدم العلم يكون واجبا
عليه، ولا يسقط باحتمال الأداء..
فأهل القول الأول يقولون بوجوب أداء الشهادة على كل أحد، إلا إذا
علم نهوض غيره لأدائه مطلقا.
وأهل الثاني يقولون بذلك أيضا مع الاستدعاء، وأما بدونه فيقولون
بالوجوب مع العلم بعدم إحقاق الحق، وأما ما لم يعلم ذلك واحتمل
الإحقاق بغيره فلا يجب.
يصرح بذلك قول الصدوق: فمتى علم أن صاحب الحق المظلوم
وجبت عليه الشهادة (3).
وكذا الشيخ في النهاية، حيث قال: إلا أن يعلم أنه إن لم يقمها بطل
حق مؤمن (4).
هكذا ينبغي أن يحقق المقام.

(1) المختلف: 725.
(2) الكفاية: 286، المسالك 2: 415.
(3) الفقيه 3: 34.
(4) النهاية: 330.
379

فروع:
أ: ما ذكر هنا - من وجوب الأداء - وفيما تقدم - من وجوب التحمل -
إنما هو إذا لم يخف الشاهد على ضرر عليه، أو على غيره من المؤمنين ولو
كان المشهود عليه، كما إذا كان المشهود عليه فقيرا غير متمكن من الأداء،
ولا من الإثبات، ويقع بالشهادة عليه في حبس أو نحوه، فإنه لا تجب
الشهادة حينئذ إجماعا، بل تحرم.
لنفي الضرر والضرار في الآيات والأخبار عموما.
وخصوص رواية علي بن سويد: " فأقم الشهادة لله " إلى أن قال:
" فإن خفت على أخيك ضيما فلا " (1). والضيم: الظلم.
ورواية داود بن الحصين: " أقيموا الشهادة على الوالدين والولد،
ولا تقيموها على الأخ في الدين الضير " قلت: وما الضير؟ قال: " إذا تعدى
فيه صاحب الحق الذي يدعيه قبله خلاف ما أمر الله به ورسوله، ومثل
ذلك: أن يكون لرجل على آخر دين، وهو معسر، وقد أمر الله بإنظاره
حتى ييسر، قال: * (فنظرة إلى ميسرة) * (2) ويسألك أن تقيم الشهادة، وأنت
تعرفه بالعسر، فلا يحل لك أن تقيم الشهادة حال العسر " (3).
وفي رواية محمد بن القاسم الواردة في المعسر المديون: وإن كان
عليه الشهود من مواليك قد عرفوا أنه لا يقدر، هل يجوز أن يشهدوا عليه؟

(1) الكافي 7: 381 / 3، التهذيب 6: 276 / 757، الوسائل 27: 315 أبواب
الشهادات ب 3 ح 1.
(2) البقرة: 280.
(3) الفقيه 3: 30 / 89، التهذيب 6: 257 / 675، الوسائل 27: 340 أبواب
الشهادات ب 19 ح 3، بتفاوت يسير.
380

قال: " لا يجوز أن يشهدوا عليه " (1).
ويشترط في السقوط بالضرر أن يكون الضرر غير مستحق، فلو كان
للمشهود عليه حق على الشاهد لا يطالبه، وتوجب شهادته المطالبة،
فلا يكفي ذلك في سقوط الوجوب، لأنه ضرر مستحق.
نعم، لو لم يقدر على الأداء، ولم يمكنه إثبات الإعسار، ووقع
بشهادته في المشقة، كان عذرا.
ولا يسقط أيضا بمنع نفع متوقع عنه - كما إذا كان عنده للمشهود
عليه مال مضاربة ينتفع بربحه، فاسترده بالشهادة - لأنه ليس ضررا، إلا إذا
توقفت معيشته عليه.
ومن الحرج المسقط للوجوب: سفر البحر لمن يخافه، والسفر
الطويل الموجب للتضرر في الحضر، أو تحمل البرد أو الحر الشديد، أو
نحوها.
ب: لو احتاج الأداء أو التحمل إلى مؤنة سفر يسقط الوجوب، لأنه
ضرر، إلا أن يتحملها المشهود له فيجب.
ج: لو أنفذ الشاهد شاهدي فرع مقبولي الشهادة على شهادته - فيما
تسمع فيه شهادة الفرع - لا يجب عليه أداؤها بنفسه، لصدق الأداء، وعدم
الكتمان.
ولا يسقط بالكتابة ولو مع ضم قرينة موجبة للعلم بشهادته، لأنها
ليست أداء ولا مقبولة.
د: لو كان هناك شاهد واحد فقط، وكان الحق مما يثبت بالشاهد

(1) الكافي 7: 388 / 2، التهذيب 6: 261 / 693، الوسائل 27: 339 أبواب
الشهادات ب 19 ح 1.
381

واليمين، وكانت اليمين ممكنة ولو بعد حين - كما في الغائب والصغير -
وجب الأداء، للعموم.
ولو لم يثبت بالشاهد واليمين، أو لم يمكن اليمين، فالمصرح به في
كلام جماعة: عدم الوجوب (1)، لعدم الفائدة، إلا مع احتمال تمام العدد.
وهل يجب لو احتمل حينئذ وصول بعض الحق بشهادته بصلح
ونحوه؟
الظاهر: نعم، للعموم.
ولو شهد أحد العدلين لا يجوز للآخر ترك الشهادة من جهة إمكان
إثبات الحق بضم اليمين، لأن في اليمين مشقة، وللعموم.
ه‍: لو كان الشاهد فاسقا، فإن جوز تأثير شهادته في الحق - ولو
بصيرورته عدد الشياع، أو قرينة، أو سببا لردع المشهود عليه عن الإنكار،
أو موجبا لوصول شئ من الحق بصلح - وجب عليه الأداء، وكذلك إن
أمكن له جعل نفسه مقبول الشهادة حينئذ بالتوبة، للعمومات، وإلا
لم يجب، لعدم الفائدة.
ولو أمكن للفساق - بأداء الشهادة عند حاكم الجور - إيصال الحق إلى
مستحقه، فصرح بعضهم بالوجوب (2).
ولعله لأجل أدلة إعانة المظلوم، والنهي عن المنكر، أو لعموم
وجوب أداء الشهادة.
ولكن هذا إذا لم يمكن التوصل إلى الحق بنوع آخر، ولم يكن
الحاكم من الطواغيت الذين يحرم أخذ الحق بحكمهم.

(1) منهم الشهيد الثاني في الروضة 3: 139، صاحب الرياض 2: 450.
(2) انظر الرياض 2: 450.
382

و: لو كان هناك شاهد - أو شاهدان - لم يعلمه المشهود له:
فإن علم ثبوت الحق بعدلين آخرين لم يجب عليه شئ.
ولو لم يعلم ثبوته وجب عليه الإعلام والأداء، للعمومات.
وكذا في الشاهد الواحد الممكن ثبوت الحق به مع اليمين.
والله الموفق والمعين.
383

الفصل الرابع
في الشهادة على الشهادة
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تقبل الشهادة على الشهادة، لا بمعنى أنها تقبل في
حق شاهد الأصل من حيث إنه قال كذا وكذا، لأنها ليست شهادة على
الشهادة، بل هي شهادة، وثبت حكمها، ودل على قبولها جميع العمومات
المتقدمة، وليست عنوانا على حدة.
بل بمعنى أنها تقبل في حق الأصل من حيث إنه شاهد بكذا وكذا.
والحاصل: أنه ليس المراد أنها تقبل في شهادة الأصل، بل تقبل فيما
شهد به الأصل، ألا ترى أنهم يقولون: إنها لا تقبل مع إمكان حضور شاهد
الأصل ولا في الحدود، فإنه لا شك في أنه يثبت بها قول شاهد الأصل بما
قال، ولو مع الإمكان، ولو في الحدود.. بل لا يقبل حينئذ ما شهد به
الأصل، ولا يترتب عليه أثره فيه.
ثم الدليل على قبولها بالمعنى المراد: الإجماع القطعي في الجملة،
بل الضرورة.
وتدل عليه مرسلة الفقيه: " إذا شهد رجل على شهادة رجل فإن
شهادته تقبل، وهي نصف شهادة، وإن شهد رجلان عدلان على شهادة
رجل فقد ثبتت شهادة رجل واحد " (1).

(1) الفقيه 3: 41 / 135، الوسائل 27: 404 أبواب الشهادات ب 44 ح 5.
384

أي ثبتت شهادة واحد من حيث إنها شهادة، ويترتب عليها حكم
شاهد واحد فيما شهد به الأصل، وبقي شاهد آخر في حقه.
وأما أصل قول الأصل فهو قد ثبت تاما بشهادة الفرعين، ولم تكن
فائدة للتقييد بالواحد، وذلك تصريح من الإمام بما ذكرنا من المراد..
وأيضا يصرح به قوله (عليه السلام): " وهي نصف شهادة "، أي لما شهد به
الأصل، ونصفها الآخر شهادة الفرع الآخر، وهذه شهادة واحد لما شهد به
الأصل، ويحتاج إلى شهادة آخر ليتحقق الشاهدان على ما شهد به الأصل،
المحتاج ثبوته إلى أربعة أنصاف.
وتدل عليه أيضا رواية غياث بن إبراهيم: " إن عليا (عليه السلام) كان لا يجيز
شهادة رجل على شهادة رجل واحد، إلا شهادة رجلين على شهادة
رجل " (1).
دلت بمفهوم الاستثناء على إجازة شهادة رجلين على شهادة رجل،
أي من حيث إنها شهادة، فيتحقق بها شاهد واحد على ما شهد به الأصل.
وأما مجرد شهادة الأصل من حيث إنها قوله فلا شك في إجازة
شهادة رجل واحد فيها، بمعنى: أنها تقبل بواحد من الشاهدين، كما هو
المعهود من الشارع في القبول والإجازة.
يدل عليه جميع ما مر من الأخبار المجيزة لشهادة الزوج والوالد
والولد والأخ (2).
وتدل عليه أيضا صحيحة محمد - على ما في الفقيه -: في الشهادة

(1) الفقيه 3: 41 / 136، الوسائل 27: 403 أبواب الشهادات ب 44 ح 4.
(2) راجع ص 244 و 253. وانظر الوسائل 27: 366، 367 كتاب الشهادات ب 25،
26.
385

على شهادة الرجل، وهو بالحضرة في البلد، قال: " نعم، ولو كان خلف
سارية، يجوز ذلك إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلة تمنعه من أن يحضر
ويقيمها، فلا بأس بإقامة الشهادة على الشهادة " (1).
وهذا أيضا نص في أن المراد إثبات المشهود به الذي شهد به
الأصل، دون مجرد شهادة الأصل.
والرضوي: " فإذا شهد رجل على شهادة رجل فإن شهادته تقبل،
وهي نصف شهادة، وإذا شهد رجلان على شهادة رجل فقد ثبتت شهادة
رجل واحد، وإن كان الذي شهد عليه في مصره " (2).
وضعف بعض هذه الأخبار - لو كان - مجبور بعمل الأصحاب.
وأما الاستدلال بعمومات قبول الشهادة - كما وقع عن جمع من
المتأخرين (3) - فغير جيد، لأنها إنما تفيد لو كان المراد إثبات نفس ما شهد
به الأصل، وأما إثبات ما شهد هو به فلا، إذ لا ملازمة بين ثبوت شهادة
الأصل وثبوت ما شهد به، كما في صورة إمكان الأصل، وفي الحدود، وفي
الفرعية الثالثة.
ثم ها هنا أمور ثلاثة: ما شهد به الأصل من الحق، وشاهد الأصل،
وشاهد الفرع..
ومقتضى إطلاق الأخبار المذكورة - بل عموم بعضها - أصالة قبول
الشهادة على الشهادة في الأول مطلقا، سواء كان ما شهد به الأصل من

(1) الفقيه 3: 42 / 141، الوسائل 27: 402 أبواب الشهادات ب 44 ح 1.
(2) فقه الرضا " (عليه السلام) ": 261، مستدرك الوسائل 17: 442 أبواب الشهادات ب 37
ح 1.
(3) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 415، السبزواري في الكفاية: 286،
صاحب الرياض 2: 454.
386

حقوق الله عز جاره، أو من حقوق الآدميين.
وسواء كانت الأولى من الحدود، أو رؤية الأهلة، أو المالية من
الأوقاف العامة، والزكوات، والكفارات، والنذور إن قلنا إنها حق الله.
وسواء كانت الثانية من الأموال - كالقرض، والقراض، والديون،
والغصب، والإتلاف، والوصية، وغيرها - أو من غير الأموال - كالعقود،
والإيقاعات، والأنكحة، والفسوخ، والعقوبات كالقصاص وغيره، والطلاق،
والنسب، والعتق، وعيوب النساء، والولادة، والوكالة، والوصاية، وغير
ذلك - بل الحكم في غير الحدود مما لا خلاف فيه، كما صرح به غير
واحد (1)، بل إجماعي كما ذكره جماعة (2).
وكذا الحكم في الثاني، فتقبل الشهادة على الشهادة، سواء كان شاهد
الأصل رجلا، أو امرأة، أو رجلا وامرأة فيما تقبل فيه شهادة الامرأة، أو
صبيا أو ذميا فيما تقبل فيه شهادتهما.. والظاهر أنه إجماعي وإن قصرت
الأخبار المذكورة عن إفادة الحكم في المرأة.
وأما الثالث - أي شاهد الفرع - فالأخبار مقصورة على الرجل، بل
مقتضى رواية غياث اختصاص شاهد الفرع المقبول شهادته بالرجال أيضا،
وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله سبحانه.
المسألة الثانية: يشترط أن يشهد على شهادة كل من الأصلين فرعان
عدلان إجماعا، له، وللنصوص المتقدمة.

(1) كالسبزواري في الكفاية: 286، صاحب الرياض 2: 454.
(2) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 415، الروضة 3: 149، الفاضل الهندي في
كشف اللثام 2: 384.
387

ولا يشترط تغاير فرعي كل أصل لفرعي الآخر، للإطلاق، فتجوز
شهادة اثنين على كل واحد من الأصلين، وشهادة فرع مع أحد الأصلين
على الآخر، وبالعكس، ونحو ذلك، بلا خلاف أيضا - كما قيل (1) -
للإطلاق.
المسألة الثالثة: قد استثني من الأصل المذكور: الحدود، فلا تقبل
فيها شهادة الفرع إذا كانت من حقوق الله المحضة، إجماعا محكيا
مستفيضا (2) ومحققا.
له، ولروايتي طلحة بن زيد وغياث بن إبراهيم:
الأولى: عن علي (عليه السلام) أنه كان لا يجيز شهادة على شهادة في حد (3).
والثانية: " لا تجوز شهادة على شهادة في حد، ولا كفالة في حد " (4).
وكذا في الحدود المشتركة بينه تعالى وبين الآدميين - كحد القذف
والسرقة - عند الأكثر، كما في الإيضاح والمسالك والكفاية (5)، وعن التنقيح
والروضة (6)، وهو مختار الفاضل في التحرير والقواعد وولده في
الإيضاح (7)، وهو الأظهر، لعموم الخبرين، ودرء الحدود بالشبهة الحاصلة
منهما.

(1) انظر الرياض 2: 455.
(2) كما في الإرشاد 2: 165، الإيضاح 4: 444، المسالك 2: 416، الرياض 2: 454.
(3) التهذيب 6: 255 / 667، الوسائل 27: 404 أبواب الشهادات ب 45 ح 1.
(4) الفقيه 3: 41 / 140، التهذيب 6: 256 / 671، الوسائل 27: 404 أبواب
الشهادات ب 45 ح 2.
(5) الإيضاح 4: 444، المسالك 2: 416، الكفاية: 286.
(6) التنقيح 4: 317، الروضة 3: 150.
(7) التحرير 2: 215، القواعد 2: 241، الإيضاح 4: 444.
388

خلافا للمحكي عن المبسوط وابن حمزة والنكت والمسالك (1)،
ونسب إلى الإيضاح أيضا (2) - وهو خطأ - للأصل المذكور، وضعف
الخبرين، وقاعدة ترجيح حق الآدمي.
والأصل مخصص بما مر، والضعف بما ذكر منجبر، والقاعدة غير
ثابتة، مع أنها إنما تفيد لو ثبت القبول في مطلق حقوق الآدميين.
ثم المصرح به في كلام الأكثر: القبول في القصاص مع كونه حدا،
لكونه حق الآدمي، وظاهر المسالك إجماعنا عليه (3).
ولكن قال الشيخ في النهاية: ويجوز أن يشهد رجل على شهادة
رجل - إلى أن قال: - وذلك أيضا لا يكون إلا في الديون والأملاك والعقود،
فأما الحدود فلا يجوز أن تقبل شهادة على شهادة (4).
وقال الحلي أيضا في السرائر: فذلك لا يكون أيضا إلا في حقوق
الآدميين من الديون والأملاك والعقود، فأما الحدود فلا يجوز أن تقبل فيها
شهادة على شهادة (5).
وظاهرهما - كما ترى - عدم القبول في القصاص أيضا، كما هو
مقتضى عموم الخبرين، فإن ثبت إجماع على القبول فيه، وإلا فلا يمكن
القول به، إلا عند من رد الخبرين بالضعف، وعدم الجابر في المقام.
ولو اشتمل المشهود به على حد وغيره من الأحكام - كاللواط

(1) المبسوط 8: 231، ابن حمزة في الوسيلة: 233، حكاه عن نكت الشهيد في
الرياض 2: 454، المسالك 2: 416.
(2) نسبه إليه صاحب الرياض 2: 454.
(3) المسالك 2: 416.
(4) النهاية: 328.
(5) السرائر 2: 127.
389

المترتب عليه نشر حرمة أم المفعول وأخته وبنته أيضا، والزنا بالعمة
والخالة المستلزم لتحريم بنتهما، ووطء البهيمة المثبت لتحريم لحمها،
ونحو ذلك - فلا شك في عدم ثبوت الحد.
وفي عدم قبولها في سائر الأحكام أيضا - لتلازم الأمرين، وكونهما
معلولي علة واحدة - وقبولها فيها - للعموم المذكور، خرج منه الحد بالنص
والإجماع، فيبقى الباقي - وجهان، أظهرهما: الثاني، لما ذكر، كما اختاره
في الشرائع والتحرير والقواعد والإرشاد والدروس والمسالك واللمعة
والروضة (1).
والتلازم المدعى ليس بعقلي لا يتخلف، بل ملازمة شرعية بالعموم،
فيقبل التخصيص، كعلية المعلول للأمرين، أي جعل الشارع المشهود به
علة للأمرين بالعموم، فيجوز التخصيص فيما وجد مخصص.
وهذا مرادهم من قولهم: علل الشرع معرفات يجوز انفكاك معلولاتها
عنها بالدليل.
والمحصل: أنه تقبل الشهادة في ثبوت الملزوم والعلة، الذي هو
سبب الأمرين، ولكن يتخلف عنه اللزوم والعلية لأحد الأمرين هنا بالدليل.
المسألة الرابعة: وقد استثني أيضا من الأصل المذكور: ما إذا تمكن
الأصل من إقامة الشهادة حين طلبها بنفسه، بأن كان حاضرا في البلد، أو
في موضع يمكنه الحضور من غير مشقة لا تتحمل غالبا، ولم يكن له عذر
من حضور مجلس الأداء، من مرض أو زمانة (2) أو خوف عدو أو نحو ذلك.

(1) الشرائع 4: 140، التحرير 2: 216، القواعد 2: 241، الدروس 2: 141،
المسالك 2: 418، اللمعة والروضة 3: 150.
(2) يقال: زمن الشخص زمنا وزمانة فهو زمن - من باب تعب - وهو مرض يدوم
زمانا طويلا - مجمع البحرين 6: 260.
390

فإنه مع ذلك التمكن لا تسمع شهادة الفرع، على الحق المشهور بين
الأصحاب - كما صرح به جماعة (1) - بل عن الخلاف الإجماع عليه (2)،
لصحيحة محمد المتقدمة (3).
خلافا للمحكي عن بعض الأصحاب، كما ذكره في الخلاف (4)،
ولم يعين القائل، وقال في الدروس: إنه جنح إليه في الخلاف (5). ولعله
لنقله دليل عدم الاشتراط، والسكوت عنه.. وفي دلالته على الميل تأمل.
وقال في الدروس - بعد حكاية قول الإسكافي: إنه لو أنكر شاهد
الأصل بعدما شهد عليه اثنان لم يلتفت إلى جحوده -: إن فيه إشارة إلى أن
تعذر الحضور غير معتبر (6).
وفيه نظر، لأن الجحود لا ينحصر بالحضور، بل يمكن حصول العلم
به بالشياع، أو القرينة المفيدة للعلم.
مع أنه يمكن أن يكون الشرط عندهم التعذر أولا، ويكون حكم
مسألة جحود الأصل غير ما نحن فيه، كيف؟! وقد صرح الإسكافي
بالاشتراط، قال: ولا بأس بإقامتها وإن كان المشهود على شهادته حاضر
البلد أو غائبا، إذا كانت له علة تمنعه من الحضور للقيام بها (7).

(1) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 417، الفاضل الهندي في كشف اللثام 2:
385، صاحب الرياض 2: 456.
(2) الخلاف 2: 629.
(3) في ص 383 و 384.
(4) الخلاف 2: 630.
(5) الدروس 2: 141.
(6) الدروس 2: 141.
(7) حكاه عنه في المختلف: 723.
391

ومن ذلك يظهر ما في كلام بعض آخر - كالمحقق الأردبيلي (1) -
حيث نسب الخلاف إلى والد الصدوق، فإنه أيضا لم يذكر إلا قبول شهادة
الثاني بعد إنكار الأول.
وكيف كان، فالمخالف شاذ نادر، يمكن دعوى الإجماع على
خلافه، ومع ذلك فالصحيحة ترده.
ثم مقتضى الصحيحة اشتراط عدم إمكان حضور الأصل، والأصحاب
اكتفوا بالمشقة التي لا تتحمل غالبا - كجماعة (2) - أو مطلق المشقة، كبعض
آخر (3).
ويمكن الاستدلال لجواز القبول مع المشقة الشديدة - التي تسمى
حرجا - بأنه لا يجب على الأصل حينئذ أداؤها بنفسه، لنفي الضرر
والحرج، فبقي إما إبطال حق المشهود له، أو قبول شهادة الفرع، والأول
باطل إجماعا، فلم يبق إلا الثاني.
فرعان:
أ: هل يشترط في القبول تعذر الأصل مطلقا، أو يكفي تعذر الأصلين
اللذين يشهد على شهادتهما؟
الظاهر: الثاني، للأصل، وعدم دلالة الصحيحة على الأزيد من
تعذرهما، فلو تعذر حضور عدلين أصلين، ولكن كان للمشهود له عدلان
أصلان آخران أيضا، فيجوز له إقامة الفرعين على الأصلين الأولين، وتقبل

(1) مجمع الفائدة والبرهان 12: 486.
(2) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 417، صاحب الرياض 2: 456.
(3) منهم الشيخ في النهاية: 329، الخلاف 2: 629، المبسوط 8: 233، العلامة
في التحرير 2: 215، القواعد 2: 242.
392

شهادتهما، ويجوز للحاكم الاكتفاء بها.
ب: هل الشرط تعذر الأصل عن الإقامة حال إشهاد للفرع أو حال
طلب الأداء والمرافعة؟
الوجه هو: الثاني، لأنه المستفاد من الصحيحة، فلو أشهده مع إمكان
الإقامة تقبل، لو لم يمكن له الإقامة حين طلبها، ولو انعكس الأمر لم تقبل.
ولو تعذر حال إقامة الفرع، ثم رفع العذر قبل الحكم، فظاهر
الصحيحة عدم قبول الفرعية.. وحملها على عدم صحة أداء الفرع دون
سماع شهادته - كما عن النكت - احتمال بعيد، مع أنه لا معنى لصحتها إلا
قبولها.
المسألة الخامسة: قد عرفت أن مقتضى رواية غياث بن إبراهيم (1)
عدم قبول شهادة النساء في الفرع، وهو - فيما إذا كان المشهود به في
الأصل مما لا تقبل فيه شهادة النساء - موضع وفاق.
وأما فيما كان مما تقبل فيه شهادتهن منفردات أو منضمات ففيه
خلاف، فذهب في السرائر والشرائع والقواعد والتحرير والإيضاح والنكت
والمسالك والتنقيح (2) وغيرهم من المتأخرين (3) - بل قيل: لم أجد فيه
مخالفا (4) - إلى المنع، بل نسب القول بالجواز إلى الندرة (5).

(1) المتقدمة في ص 383.
(2) السرائر 2: 128، الشرائع 4: 140، القواعد 2: 242، التحرير 2: 216،
الإيضاح 4: 448، ونقله عن النكت في الرياض 2: 455، المسالك 2: 418،
التنقيح 4: 319.
(3) انظر كفاية الأحكام: 287، والمفاتيح 3: 293.
(4) انظر الرياض 2: 455.
(5) انظر الرياض 2: 455.
393

للرواية المذكورة، مضافة إلى الحصر المستفاد من رواية السكوني:
" شهادة النساء لا تجوز في طلاق ولا نكاح ولا حدود، إلا الديون
وما لا يستطيع إليه النظر للرجال " (1).
ولا شك أن شهادتهن الفرعية إنما هي على الشهادة، وهي ليست من
الديون ولا ما لا يستطيع إليه النظر للرجال.
فإن قيل: المراد من ذلك ليس أن يكون خصوص المشهود به
الديون، بل تكون هي مقصود المستشهد من طلب الإقامة، وإلا تثبت
الحدود أيضا بشهادة الفرع، لأن المشهود به فيها أيضا الشهادة دون الحد.
قلنا: معنى قوله: " إلا الديون " أنه تسمع شهادتهن في الديون،
وشهادة الفرع ليست منها حقيقة، والخروج عن الحقيقة في الحد بالقرينة
- حيث إنه لا يمكن أن يكون المراد شهادة الفرع على نفس الحد -
لا يوجب الخروج عنها فيما لا قرينة فيه.
مع أن المذكور في روايتي الحدود: أنه لا تقبل شهادة على شهادة في
حد (2)، وقوله: " في حد " متعلق بالشهادة الثانية.
خلافا للمحكي عن الإسكافي والخلاف وموضع من المبسوط (3)،
واختاره في المختلف (4)، وعن الخلاف: الإجماع عليه ووردت الأخبار به (5).
للإجماع المنقول.

(1) التهذيب 6: 281 / 773، الإستبصار 3: 25 / 80، الوسائل 27: 362 أبواب
الشهادات ب 24 ح 42.
(2) راجع ص 386.
(3) نقله عن الإسكافي في المختلف: 724، الخلاف 2: 630، المبسوط 8: 234.
(4) المختلف: 724.
(5) الخلاف 2: 630.
394

والأخبار المشار إليها في الخلاف.
وللأصل.
وعموم قوله سبحانه: * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * (1).
وخبر السكوني المذكور.
وفحوى ما دل على قبول شهادة الأصل فيما تقبل فيه.
والكل مردود:
أما الأول: فبعدم الحجية، سيما فيما كان مخالفا للشهرة المحققة.
وأما الثاني: فبعدم وجود خبر، فضلا عن الأخبار إن أريد منها ما
يدل على خصوص المورد، وإن أريد منها مثل رواية السكوني فقد عرفت
أنها على الخلاف دالة.
وأما الثالث: فبأن الأصل بما مر مندفع، مع أنه لا أصل له، بل الأصل
خلافه.
وأما الرابع: فبأن الآية واردة في الدين، والمورد ليس منه، بل في
رواية داود بن الحصين أنها مخصوصة به، ففيها - بعد قول القائل: فأنى
ذكر الله تعالى قوله: * (فرجل وامرأتان) *؟ - قال: " ذلك في الدين، إذا
لم يكن رجلان فرجل وامرأتان " (2).
وجعل ذلك أيضا دينا لو كان هو المشهود به للأصل، فقد عرفت
ما فيه.
وبه ظهر رد الخامس أيضا.

(1) البقرة: 282.
(2) التهذيب 6: 281 / 774، الإستبصار 3: 26 / 81، الوسائل 27: 360 أبواب
الشهادات ب 24 ح 35.
395

وأما السادس: فبأن العلة في الأصل غير معلومة، ثم الأولوية
ممنوعة.
فهذا القول ضعيف كتردد النافع والإرشاد والدروس والروضة (1)، كما
حكي عنها.
المسألة السادسة: قال الشيخ في المبسوط - وتبعه سائر الأصحاب -:
إن شاهد الفرع يصير متحملا لشهادة شاهد الأصل بأحد أسباب ثلاثة:
أحدها: الاسترعاء، وهو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: أشهد
أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان درهما، فاشهد على شهادتي، أو نحو
ذلك.
سمي استرعاء لالتماس شاهد الأصل رعاية شهادته. وألحق به
جماعة: أن يسمع أنه يسترعي آخر (2).
والثاني: أن يسمع شاهد الفرع شاهد الأصل يشهد بالحق عند
الحاكم، فإذا سمعه يشهد به عنده صار متحملا لشهادته.
الثالث: أن يشهد الأصل بالحق، ويعزيه إلى سبب وجوبه، فيقول:
أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان ألف درهم من ثمن ثوب أو
عبد أو دار أو ضمان (3).
قالوا: والأول هو أعلى المراتب، وحصول التحمل به مما لا خلاف
فيه، كما صرح به في الكفاية (4) وغيره (5)، بل عن الإيضاح والتنقيح

(1) النافع 2: 290، الإرشاد 2: 165، الدروس 2: 141، الروضة 3: 152.
(2) منهم العلامة في المختلف: 729.
(3) المبسوط 8: 231.
(4) الكفاية: 287.
(5) كالرياض 2: 455.
396

والمسالك الإجماع عليه (1).
ودونه الثاني، ودونه الثالث، لوقوع الخلاف فيهما عن الإسكافي،
فإنه قال بالتحمل في صورة الاسترعاء خاصة (2)، وظاهره المنع فيما
عداها.. وفي الأخيرة عن الفاضلين (3) وغيرهما (4)، فترددوا فيها.
ولكن قال الكل بعدم التحمل في غير تلك الصور، وهو الصورة
الرابعة، وهي أن يقول: أشهد أن عليه كذا، من دون استرعاء، ولا في
مجلس الحكم، ولا ذكر سبب.
قال في السرائر: فأما إن لم يكن هناك استرعاء، ولا سمعه يشهد عند
الحاكم، ولا عزاه إلى سبب وجوبه - مثل أن سمعه يقول: أشهد أن لفلان
ابن فلان على فلان بن فلان درهما - فإنه لا يصير بهذا متحملا للشهادة
على شهادته. انتهى (5).
إلا أن في الشرائع استشكل فيها (6).
قيل: لاشتمالها على الجزم الذي لا يناسب العدل أن يتسامح به،
فالواجب إما القبول فيها - كما في الثالثة - أو الرد كذلك، لكن الأول بعيد،
بل لم يقل به أحد، فيتعين الثاني (7).
قيل - بعد ذكر هذه المراتب -: إنها خالية عن النص، فينبغي الرجوع

(1) الإيضاح 4: 445، التنقيح 4: 319، المسالك 2: 416.
(2) نقله عنه في المختلف 729.
(3) المحقق في الشرائع 4: 139، الفاضل في القواعد 2: 241.
(4) كالشهيد في الدروس 2: 142.
(5) السرائر 2: 129.
(6) الشرائع 4: 139.
(7) انظر مفاتيح الشرائع 3: 294.
397

إلى مقتضى الأصول، وهو اعتبار علم الفرع بشهادة الأصل، من دون فرق
بين الصور، فلو فرض أن لم يحصل العلم في صورة الاسترعاء لم يجز أداء
الشهادة على شهادته، ولو فرض حصوله في الرابعة جاز، بل وجب (1).
وإلى هذا أشار في التنقيح، حيث قال: والأجود أنه إن حصلت قرينة
دالة على الجزم وعدم التسامح قبلت، وإن حصلت قرينة على خلافه
- كمزاح وخصومة - لم تقبل (2).
وكذا المحقق الأردبيلي، قال: والأقوى أنه إن تيقن عدم التسامح صار
متحملا، وإلا فلا (3).
أقول: لا يخفى أن نظر الشيخ ومن تبعه إلى القاعدة المتقدمة،
المدلول عليها بالنصوص، وبمقتضى معنى الشهادة - من أن مستند الشاهد
يجب أن يكون العلم الحاصل من الحس، أو الاستفاضة في موارد
مخصوصة، أو ظن خاص على بعض الأقوال كما مر، ولا يفيد في قبول
الشهادة أو في تحققها كل علم ولا كل ظن - فإنه على هذا لا يصير الفرع
متحملا لشهادة الأصل إلا إذا علم أنه شهادة، أي مستند إلى ما ذكر.
ويعلم ذلك بكل من المراتب الثلاث:
أما الأولى: فلأنه يأمر الأصل برعاية شهادته، والشهادة بها لا تكون
إلا للإقامة، ولما لم تجز الإقامة إلا مع استناد شهادة الأصل إلى العلم المعتبر
في الشهادة، ولا يكفي كل علم، يعلم أن ما شهد به شهادة شرعية، فيكون
متحملا للشهادة.

(1) انظر الرياض 2: 455.
(2) التنقيح 4: 320.
(3) مجمع الفائدة والبرهان 12: 478.
398

وأما الثانية: فلأن على ما ذكر لا يجوز للأصل الشهادة عند الحاكم إلا
مع استنادها إلى ما ذكر، فبعد سماعها حينئذ يعلم الشهادة الشرعية، ويصير
متحملا.
وأما الثالثة: فلأن ذكر السبب قرينة على مشاهدة السبب، لأنه ظاهر
فيها، فيصدق تحمل الشهادة.
بخلاف المرتبة الرابعة، فإن الفرع لما لم يكن في مقام الإشهاد،
ولا في مقام الشهادة، ولم يذكر أيضا قرينة ظاهرة في المشاهدة - وكثيرا
ما يطلق لفظ الشهادة في الأخبار على الجازم مطلقا، بأي نوع حصل
الجزم، حتى عرفها به بعض الفقهاء (1)، وتداول استعمالها فيه عرفا عند
أهل العرف، بل المتشرعة - لا يعلم أن شهادته هل هي بالعلم الحاصل من
المشاهدة، أو مطلق العلم، فلا تقبل.
وقد صرح بذلك الحلي في السرائر، حيث إنه - بعد ما نقلنا عنه،
وذكر عدم التحمل بالمرتبة الرابعة - قال: لأن قوله: أشهد بذلك، ينقسم إلى
الشهادة بالحق، ويحتمل العلم به على وجه لا يشهد به، وهو أن يسمع
الناس يقولون كذا وكذا، فلذا وقف التحمل لهذا الاحتمال، فإذا حقق
ما قلنا زال الإشكال (2). انتهى.
وبما ذكرنا ظهر أن ما قيل كما نقلنا عنه -: إنه ينبغي الرجوع إلى
مقتضى الأصول - ناشئ عن الغفلة عن فهم مراد الشيخ، بل مراده هو
مقتضى الأصول، واعتبار مطلق العلم ليس بمقتضاه.
وكذا ظهر ما في كلام صاحب التنقيح والمحقق الأردبيلي.

(1) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 400.
(2) السرائر 2: 129.
399

وكذا ما في كلام الشرائع - من الاستشكال في الفرق بين المرتبتين
الأخيرتين، من جهة أن الأخيرة أيضا مشتملة على الجزم، ولا يناسب
العدل التسامح به - فإن مراد الشيخ ليس التسامح بالجزم، بل التسامح في
الجزم، أي في سبب الجزم، وليس فيه عدم مناسبته للعدالة، إذ ليس في
الأخيرة في مقام إشهاد ولا إقامة شهادة حتى يجب عليه البناء على الجزم
بالسبب المعين.
هكذا ينبغي أن يحقق المقام.
ومع ذلك ففي حصول التحمل بالمرتبة الثالثة كلام، لاحتمال بنائه
في ذكر السبب على مطلق العلم، دون المشاهدة، إذ ليس هو فيها في مقام
الشهادة أو الإشهاد، فتردد الفاضلين ومن لحقهما فيها في موقعه.
وكذا ينبغي أن يخصص التحمل في الأولين أيضا بما إذا كان الأصل
عالما بأحكام الشهادة، كما هو مفروضهم هنا وفي مقام بيان مستند الشاهد.
المسألة السابعة: تسمع شهادة الفرع لو مات الأصل بعد إشهاده
الفرع أو جن، إذ ليست شهادة الفرع إثباتا للمشهود به، بل إثبات لأن
الأصل كان شاهدا، ولإطلاق الأخبار.
وكذا لا يضر عمى الأصل، وإن كان المشهود به مما يحتاج إلى
البصر، بعد ما كان الأصل بصيرا حين التحمل.
ولو طرأ فسق أو ردة أو نحو ذلك مما يمنع عن قبول شهادته، فإن
كان بعد الحكم فلا يضر إجماعا، ووجهه ظاهر.
وإن كان قبله، فإن كان قبل الإشهاد فلا شك في منعه عن القبول.
وإن كان بعده، فإن كان بعد شهادة الفرع عند الحاكم، فهو مثل
طريان الفسق للشاهد بعد الشهادة وقبل الحكم، ويأتي أن الظاهر أنه
400

لا يمنع من القبول.
وإن كان قبلها، فقال المحقق الأردبيلي ما ملخصه: إنه قيل: تبطل
وتطرح، لأن شهادة الفرع فرع الأصل، وهي ليست مقبولة حينئذ، ولأن
قبولها يوجب الحكم بشهادة الفاسق والكافر، ولأن شهادة الفرع شهادة
ناشئة عن فاسق حين الشهادة.
وفيه تأمل، إذ ما ذكر وجوه ومناسبات، فلو وجد دليل آخر من عقل
أو نقل على ذلك، وإلا فليس بتام، لأن الفرعية لا يستلزم بطلانها بفسق
الأصل، فإنا لا نجد مانعا لسماع شهادة الفرع على أصل كان عند إشهاده
عدلا، فإن المدار في قبول الشهادة عند الأداء.
ولا نسلم أن الحكم بشهادة الأصل، بالفرع، على التسليم فإنه وقت
الإشهاد كان عدلا، فهو بمنزلة من شهد عند الحاكم ثم صار فاسقا، وقد مر
أن قبول شهادته قوي، مع أن ذلك منقوض بما إذا جن الأصل، بل مات أو
عمي.
وبالجملة: لو كان لهم دليل على ذلك من نص أو إجماع فهو متبع،
وإلا فالحكم محل التأمل (1). انتهى.
وهو جيد جدا، بل الظاهر أنه لا تأمل في عدم المانعية.
المسألة الثامنة: لو شهد الفرع فأنكر الأصل ما شهد به فمقتضى
القواعد أنه إن كان بعد الحكم لم يلتفت إلى الأصل، لمضي الحكم،
واستصحابه.
وإن كان قبله، فإن كان إنكاره بحضوره عند الحاكم والتلقي بالإنكار

(1) مجمع الفائدة والبرهان 12: 482 - 483.
401

لم يلتفت إلى شهادة الفرع، لما مر من أن سماعها مشروط بتعذر حضور
الأصل.
وإن كان مع تعذر حضوره بإنفاذ خبر محفوف بالقرينة، أو إشهاد
عدلين آخرين، أجيزت شهادة الفرع أيضا، لثبوت الأصل بشهادتهما
بمقتضى الأخبار المتقدمة، وعدم دليل على قبول الإنكار.
إلا أن ها هنا صحيحتين منافيتين لبعض ما ذكر:
إحداهما للبصري: في رجل شهد على شهادة رجل، فجاء الرجل
فقال: لم أشهد، فقال: " تجوز شهادة أعدلهما، وإن كانت عدالتهما واحدة
لم تجز شهادته " (1).
والأخرى لابن سنان (2)، وهي أيضا كالأولى.
وبمضمونهما أفتى الصدوقان والشيخ في النهاية والقاضي ابن
البراج (3)، وكذا ابن حمزة، ولكنه فيما إذا أنكر بعد الحكم، وأما قبله
فيطرح الفرع (4)، وقريب منه الفاضل في المختلف (5)، وإن كان صريح
الإيضاح أنه موافق للمتأخرين (6).
أقول: أما الأولون فكلامهم مطلق، فإن أرادوا قبل الحكم - كما هو

(1) الفقيه 3: 41 / 137، الوسائل 27: 405 أبواب الشهادات ب 46 ح 1.
(2) الكافي 7: 399 / 1، التهذيب 6: 256 / 670، الوسائل 27: 405 أبواب
الشهادات ب 46 ح 3.
(3) حكاه عن والد الصدوق في المختلف: 723، الصدوق في المقنع: 133،
النهاية: 329، القاضي في المهذب 2: 561.
(4) الوسيلة: 234.
(5) المختلف: 723.
(6) الإيضاح 4: 449.
402

الظاهر - ففتواهم موافقة لقواعد الاستدلال، لأن الصحيحين واردان في
حضور الأصل، فحكمهم بعدم سماع الفرع مع التساوي في العدالة ومع
أعدلية الأصل يوافق الصحيحين وصحيحة محمد (1) المتضمنة لاشتراط
سماع الفرع بعدم حضور الأصل.. وأما سماع الفرع مع أعدليته، فلتعارض
الصحيحين مع مفهوم الصحيحة، وكون الصحيحين أخصين مطلقا فيقدمان
على الصحيحة.
وكذا إن أرادوا قبل الحكم وبعده، لأن نفوذ حكمه إنما هو
بالاستصحاب المندفع بالصحيحين.
وأما الآخران فلا يوافق قولهما - في صورة أعدلية الفرع - لقواعد
الاستدلال، لإيجابه طرح الصحيحين الخاصين بلا موجب.
إلا ما قيل من اشتمالهما على شهادة الفرع الواحد وسماعها، وهو
مخالف للإجماع (2) أو من مخالفتهما للشهرة المتأخرة، وأكثرية أدلة رد
الفرع مع الحضور.
ويضعف الأول: بوضوح أن المراد سماع الواحد بقدر الواحد، وهو
هنا نصف شهادة، أو ذكر الرجل على سبيل التمثيل والمراد شاهد الفرع.
والثاني: بعدم تأثير الشهرة المتأخرة في حجية الصحيحين، مع عمل
جمع من القدماء - الذين هو بنو عذرة الحديث - بهما.. ولا أكثرية لأدلة رد
الفرع مع حضور الأصل
ومن ذلك يظهر أن الترجيح لقول الصدوقين والنهاية، ولا حاجة إلى

(1) المتقدمة في ص 383 و 384.
(2) انظر الرياض 2: 456.
403

ارتكاب بعض المحامل البعيدة، كما ارتكب كلا منها طائفة (1).
المسألة التاسعة: يشترط في سماع شهادة الفرع أن يسمي الأصل،
ويعرفه شخصه حين شهادته عند الحاكم.
ولا يكفي أن يقول: أشهدني شخص أو عدل، لأنه قد يكون الذي
أشهده معلوم الفسق عند الحاكم أو المدعى عليه، أو كان فيه موجب لرد
الشهادة.
ولا يشترط فيه تعديل الفرع للأصل، ولا اعترافه بصدقه في الشهادة،
للأصل.
المسألة العاشرة: لا تقبل شهادة على شهادة على شهادة - وهي
الشهادة الثالثة - مطلقا، بالإجماع المحقق، والمحكي مستفيضا (2)، له،
وللأصل، ولرواية عمرو بن جميع، المنجبر ضعفها - لو كان - بما ذكر،
وفيها: " ولا تجوز شهادة على شهادة على شهادة " (3).

(1) انظر المختلف: 723، الإيضاح 4: 449، الرياض 2: 456.
(2) كما في المسالك 2: 415، مفاتيح الشرائع 3: 292، الرياض 2: 456.
(3) الفقيه 3: 42 / 142، الوسائل 27: 404 أبواب الشهادات ب 44 ح 6.
404

الفصل الخامس
في توافق الدعوى والشهادة وتوارد الشهود
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يشترط في قبول الشهادة مطابقتها للدعوى، فإن
خالفت الشهادة للدعوى كلا أو بعضا طرحهما، كأن يدعى عشرة ثمن
المبيع، وشهدا بعشرة أجرة الدار.
ولا تضر الزيادة أو النقصان ما لم يخالف الدعوى، فلو ادعى عشرة
ثمن المبيع، وشهدا بالعشرة أو بالعكس، لم يطرح.
المسألة الثانية: يشترط توارد الشاهدين على معنى واحد ولو
اختلف اللفظان، ولو اختلفا لم يضر ما لم يختلف المعنى.. فلو شهد
أحدهما: أنه غصب، والآخر: أنه أخذ ظلما، ثبت الغصب.. وكذا لو
شهد أحدهما بالعربية، والآخر بالعجمية.
المسألة الثالثة: لا يشترط في قبول الشهادة بيان جميع مشخصاته
- من الزمان والمكان والأوصاف - إجماعا، فلو شهدا بمشاهدتهما بيعه الدار
الفلانية بالثمن الفلاني يكفي، ولو لم يعينا زمانا ولا مكانا، ولا كيفية
الصيغة، ولا النقد أو النسيئة، أو غير ذلك - ما لم تتضمن الدعوى قيدا
يحتاج إلى بيان لثبوته - للإجماع، والأصل، وإطلاق الأخبار.
وكذا لو شهدا بإقراره بشئ أو وصية أو وصايته أو توكيله أو نحو
ذلك، فلا يشترط بيان وقته، ولا زمانه، ولا لغته، ولا لفظه.
وكذا لو شهدا بمشاهدة موت زيد، أو تزويجه امرأة.
405

نعم، قد يحتاج إلى ذلك في تفريق الشهود.
ولو شهدا بطلاق امرأته بعد إنكار الزوج فهل يحتاج إلى ذكر العدلين
وبيانهما، أم لا؟
الظاهر: نعم، إذ لا يتحقق الطلاق ما لم يكن في محضر العدلين،
وقد يكون من يعلمه الشاهد عدلا فاسقا عند الحاكم.
ويمكن أن يقال: إن الدعوى والإنكار إن كانا على أصل الطلاق
لا يحتاج في ثبوته إلى ضم العدلين، وإن كانا على صحته وفساده احتاج،
وعلى هذا فلو ادعت الزوجة الطلاق، وأنكره الزوج، وشهدا بمجرد الطلاق
يثبت، ولكن لا يحكم الحاكم بالبينونة، لعدم ثبوت صحته.. ويحتمل
الحكم بها أيضا، إذ لم يدع الزوج الفساد، والظاهر الصحة.
والوجه: أنه لا دليل تاما على الظهور، ولا على حجيته لو سلم،
فلا يحكم إلا بنفس الطلاق، ولكن ليس على الحاكم تتبع الصحة والفساد
ما لم يكن مدع له، للأصل، فيحكم بالطلاق فقط، ويخليهما ونفسهما، إلا
إذا ادعى أحدهما الفساد.
المسألة الرابعة: يشترط في قبول الشهادتين عدم تكاذبهما - أي
لم يناقض أحدهما الآخر، وأمكن اجتماعهما - فلو تكاذبا لم تقبل
الشهادتان، فلو شهد أحدهما: أنه قتل زيدا يوم الخميس أو في السوق،
والآخر: أنه قتله يوم الجمعة أو في البيت، لم تقبل.
إلا أن يدعي المدعي أحدهما معينا، وشهد آخر موافقا لدعواه أيضا،
أو ضم اليمين مع أحد شاهديه، إذا كان مما يثبت بالشاهد واليمين.
ويتحقق التكاذب فيما لم يحتمل التكرر، فلو احتمله لم يتكاذبا،
ولكن يتوقف ثبوت ما ادعاه المدعي على ضم شاهد آخر أو يمين مع
406

أحدهما، كأن يشهد أحدهما: أنه سرق الشئ الفلاني يوم الخميس،
والآخر: أنه سرقه يوم الجمعة، مع إمكان السرقة أولا وإعادته ثم السرقة
ثانيا.
وكذا لو شهد أحدهما ببيعه بدينار، والآخر بدينارين، مع إمكان إقالة
الأول، ثم البيع ثانيا.
المسألة الخامسة: يشترط في قبولهما ورودهما على فعل واحد،
فلو ورد كل منهما على فعل غير الآخر لم يثبت شئ، إلا مع إحدى
الضميمتين مع واحد من الشاهدين.
وفرعوا عليه فروعا كثيرة:
منها: أن يشهد أحدهما بالبيع، والآخر بالإقرار بالبيع، فقالوا: لم تتم
الشهادة.
ومنها: أن يشهد على فعل، واختلفا في زمانه أو مكانه أو وصفه
الذي يدل على تغاير الفعلين، كأن يشهد أحدهما: أنه غصبه دينارا يوم
السبت أو في الدار، والآخر: أنه غصبه يوم الجمعة أو في السوق، أو
يشهد أحدهما: أنه غصبه دينارا مصريا، والآخر: بغداديا، فلا تتم، لأن
الفعلين متغايران، ولم يشهد بكل منهما إلا شاهد واحد.
ومنها: أن يشهد أحدهما: أنه سرق دينارا، والآخر: أنه سرق
درهما.
ومنها: أن يشهد أحدهما: أنه باع هذا الثوب منه أمس، والآخر: أنه
باعه اليوم، أو أحدهما: أنه طلقها أو تزوجها أمس، والآخر: أنه طلقها أو
تزوجها اليوم، فلا يثبت شئ من البيع أو الطلاق والتزويج.
وقال في التحرير: ويحتمل القبول، لأن المشهود به شئ واحد
407

يجوز أن يعاد مرة بعد أخرى، فيكون واحدا، واختلافهما في الوقت ليس
باختلفا فيه. قال: والأول أقرب (1).
ومنها: أن يشهد أحدهما: أنه أقر أنه غصب ثوبا، والآخر: أنه أقر
أنه غصب دينارا.
ومنها: أن يشهد أحدهما: أنه قذف غدوة، والآخر: أنه قذف عشية
أو قال أحدهما: إنه قذفه بالعربية، والآخر: إنه قذفه بالعجمية.
إلى غير ذلك من الفروع.
ثم قالوا: لو شهد أحدهما: أنه أقر بقتل أو دين أو غصب ببغداد أو
يوم الخميس أو بالعربية، والآخر: أنه أقر بذلك بعينه بالكوفة أو يوم
السبت أو بالعجمية، ثبت المقر به، لأنه إخبار عن شئ واحد، والمقر به
واحد شهد اثنان بالإقرار به، فإن جمع الشهود لسماع الشهادة متعذر.
ولو شهد أحدهما بالإقرار بألف، والآخر بألفين، ثبت الألف بهما،
والآخر بانضمام اليمين.
ولو شهد أحدهما: أنه سرق ثوبا قيمته دينار، والآخر: أنه سرق ثوبا
قيمته ديناران، ثبت الدينار بشهادتهما.
أقول: لو شهد أحدهما: أنه أوصى لزيد بمائة يوم الخميس أو في
المرض الفلاني أو في مكان كذا وبوصايته على صغيره كذا، والآخر: بأنه
أوصى به يوم الجمعة أو في المرض الآخر أو في مكان كذا، لم أعثر فيه
على تصريح منهم على أنه من قبيل الأول أو الثاني، إلا أن ظاهرهم أنهم
بعده يقبلونه.

(1) التحرير 2: 214.
408

ثم أقول: إنه قد يستشكل في الفرق بين كثير من فروع الأول وفروع
الثاني، فإن المعتبر عندهم إن كان اتحاد نفس الفعل المدلول عليه بالشهادة
مطابقة المشهود به، فظاهر أنه لم يتحقق فيما ذكروه للفروع الثانية، لظهور
تغاير الإقرارين والمسروقين والوصيتين.
وإن كفى اتحاد لوازمه ومتضمناته فهو أيضا يتحقق في كثير من فروع
الأول، فإن لازم كل من البيع والإقرار به كون المبيع ملكا للمشهود له.
ويستلزم أو يتضمن كل من غصب الأمس دينارا وفي الدار واليوم
وفي البيت لغصب الدينار، وكذا البيع.
ويستلزم أو يتضمن كل من قذف الغداة والعشي وبالعربية والعجمية
للقذف.
فيتحقق في هذه الفروع أيضا المشهود به الواحد.
وحله أن يقال: إنه يكفي اتحاد الأجزاء واللوازم أيضا، لأنها أيضا
مشهود بها، لأن الإخبار عن الملزوم والكل إخبار عن اللازم والجزء،
فتصدق شهادة العدلين على هذا الشئ الواحد، ولكن لما يشترط في
سماع الشهادة والحكم بها كون المشهود به أمرا موجودا واحدا في
الشهادتين، فلا تسمع الشهادة على أمر غير ممكن الوجود - كالجنس
بلا فصل، أو النوع بلا تشخص - أو على أمر موجود في كل شهادة بوجود
غير وجوده في الأخرى، كما إذا كان في إحداهما هو الحيوان الناطق، وفي
الأخرى الصاهل.
وعلى هذا، فلو شهد أحدهما بالفرس والآخر بالإبل، لا يحكم
بالحيوان المطلق، لعدم إمكان وجوده الخارجي، ولا بأحدهما، لأنه غير
الآخر.
409

وعلى هذا، فإن كان التغاير المفروض في الملزوم أو الكل المشهود به
مسريا ومتعديا إلى اللازم والجزء، وبدونه لم يتحقق أحدهما، لم تسمع
الشهادة على أحدهما، لأنه إما غير متحقق الوجود أو غير متحدين - كمثال
الغصب والقذف والبيع، المذكورات في فروع الأول - لأنه إن أخذ المشهود
به جنس هذه الأمور بلا فصل لم يمكن وجوده خارجا وإن اتحد في
الشهادتين.. وإن أخذ الجنس مع الفصل وإن أمكن وجوده ولكن فصله
المشهود به ليس أمرا واحدا، وغير المشهود به لا وجه لإثباته.
وإن كان التغاير في الملزوم خاصة من غير التعدي إلى اللازم، وكان
اللازم ممكن التحقق في الخارج، تسمع الشهادة عليه ويثبت، كمثال
الإقرار والوصية في الفروع الثانية، فإن الملزوم - الذي هو الإقرار - وإن
تغاير في الشهادتين وقتا أو قدرا، ولكن لازمهما - الذي هو تعلق حق المقر
له بالمقر به، أو القدر الناقص، أو استحقاق الموصى له للموصى به بعد
موته - أمر واحد ممكن الوجود في الخارج، والمشخصان المذكوران في
الشهادة ليسا مشخصين للازم أصلا، فيكون اللازم مشهودا به، غاية الأمر
عدم بيان بعض مشخصاته، وهو غير مضر - كما مر في المسألة الثالثة -
وليس من قبيل الشهادة بالفرس والإبل المتعدي فيها تغاير المشخصين إلى
اللازم أيضا.
نعم، يشترط في ثبوت المقر به في الشهادة على الإقرارين: العلم
باتحاد المقر به فيهما، فلو احتمل التغاير لم يثبت، كما إذا شهد أحدهما:
أنه أقر لزيد بدينار في العام الماضي، والآخر: أنه أقر له به أمس، ولم يعلم
من الخارج اتحاد المقر به.
ولا يفيد ضم الاستصحاب بالأولى إلى الأمس حتى يتحدا، لأن
410

الاستصحاب فرع الثبوت، ولذا لا تثبت - بشهادة واحد بملكية زيد في
شئ في العام الماضي، وأخرى بملكيته اليوم - ملكية اليومية، بخلاف
ما لو شهدا معا بالملكية في الماضي، فإنها تثبت على ما ذكرنا في موضعه
من جواز استصحاب الحاكم.
فإن قيل: فعلى هذا يلزم ثبوت ملكية المشهود له للمشهود به في
الفرع الأول من الفروع الأولى - وهو ما إذا شهد أحدهما بالبيع والآخر
بالإقرار به - لأن لازم كل منهما ملكية المشهود له للمبيع، وهو أمر واحد
ممكن الوجود.
قلنا: نعم، يلزم ذلك، ولو قلنا به ما أتينا بمنكر من القول وزورا، إذ
لم يدل دليل عقلي ولا نقلي على خلافه، ولم يثبت إجماع على بطلانه وإن
ذكره الفاضلان (1) وغيرهما (2)، وتبعهم جمع ممن لحقهم (3).

(1) المحقق في الشرائع 4: 141، العلامة في التحرير 2: 213.
(2) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 418.
(3) كالسبزواري في الكفاية: 287.
411

الفصل السادس
في الطوارئ من موت الشهود وفسقهم ورجوعهم عن الشهادة
في العقوبات، أو البضع، أو الأموال، وحكم شهادة الزور.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لو شهد عدلان على أمر عند الحاكم، فطرأ فسقهما
بعده، فإن كان بعد الحكم لم يضر، ولا ينقض إجماعا، له، وللاستصحاب.
وإن كان قبله، فإن كان المشهود به من حقوق الله فيطرح الشهادة
إجماعا محققا ومحكيا (1)، له، ولدرء الحدود بالشبهة، ولا شك أن مثل
ذلك يسمى شبهة.
وإن كان من حقوق الناس ففيه خلاف، فذهب الشيخ في الخلاف
وموضع من المبسوط والحلي والمحقق والفاضل في التحرير والقواعد
وموضع من الإرشاد إلى عدم القدح (2)، لأن المعتبر فيهما هو العدالة حال
الأداء.
وفي موضع آخر من المبسوط والفاضل في المختلف وموضع من
الإرشاد والشهيد في الدروس إلى القدح (3).
لكونهما فاسقين حال الحكم، فيلزم الحكم بشهادة الفاسقين.

(1) كما في الكفاية: 287، الرياض 2: 457.
(2) الخلاف 2: 632، المبسوط 8: 244، الحلي في السرائر 2: 179، المحقق في
الشرائع 4: 142، التحرير 2: 213، القواعد 2: 247، الإرشاد 2: 168.
(3) المبسوط 8: 233، المختلف: 728، الإرشاد 2: 165، الدروس 2: 132.
412

وللقياس على رجوعهما قبل الحكم، وموت المشهود له قبله، ولأن
طرو الفسق يضعف ظن العدالة.
وأما جعل المدار على العدالة حال الأداء - كما هو دليل القول الأول -
فهو عين النزاع، ومصادرة على المطلوب.
ويضعف الأول: بأن المسلم أن الممنوع هو الحكم بشهادة الفاسق
إنما هو مع الفسق وقت الأداء لا مطلقا.
والثاني: بأن القياس باطل، مع أنه مع الفارق، لأن الرجوع دل على
عدم جزمهم، واستناد الحكم يكون إليه.
وموت المشهود له يوجب فقد طالب الحكم وصاحبه، مع أنه ينازع
فيه لو لم يكن مجمعا عليه، ومعه لا يقاس.
وحصول الضعف في ظن العدالة ممنوع جدا.
وأما جعل دليل الأولين مصادرة فدفعه: أن المراد أنه لم يثبت
تخصيص عمومات قبول الشهادة بأزيد من اشتراط عدالة الشاهد حال
الأداء، لأنه المجمع عليه، والزائد ممنوع.
ومن ذلك ظهر أن الحق هو القول الأول.
المسألة الثانية: لو مات الشاهدان قبل الحكم أو قبل تزكيتهما،
أو جنا، أو عميا، أو أغمي عليهما، لم تبطل الشهادة، فيحكم بها، لاستناده
إلى الشهادة المستجمعة للشرائط حين الأداء، ولم يعلم توقفه على شئ
آخر، والأصل عدمه على ما مر في المسألة الأولى.
المسألة الثالثة: لو شهدا لمن يرثانه، فمات قبل الحكم، فانتقل
المشهود به إليهما، قالوا: لم يحكم بشهادتهما، وعن الشهيد الثاني إسناده
413

إلى الجميع (1)، ونفى عنه الخلاف في المفاتيح (2) وشرحه، لاستلزامه اتحاد
المدعي والشاهد حال الحكم.
واستشكل فيه في الكفاية (3)، وخدش فيه المحقق الأردبيلي (4)، لأن
المال ينتقل إلى المورث فهو المدعي، والشاهد إنما هو شاهد حال الأداء
دون الحكم.
وهما في محلهما، إلا أن يثبت الإجماع على القدح.
ولو كان لهما في الميراث المشهود به شريك، فهل تثبت حصة
الشريك بشهادتهما، أم لا؟
اختار في الدروس: الأول، لأن المانع المذكور في حقهما مفقود.
ورجح في القواعد: الثاني (5)، لأن الشهادة لا تتبعض.
والتحقيق: أنه إن كان شهادة في حق نفسه في حصته لا تقبل في
الجميع، لما سبق من عدم قبول شهادة من له في المشهود به نفع ونصيب،
وإلا فتقبل.. والحق هو الثاني، لما مر من عدم ثبوت كونه شهادة لنفسه،
وكان سبب الإشكال في حصته خوف الإجماع، وهو هنا مفقود.
ومنه يظهر الحال فيما إذا كانت هناك وصية أو دين، سيما المستوعب منه.
المسألة الرابعة: لو شهد عدلان بأنه أوصى خالد لزيد بمال، ثم
عدلان وارثان بأنه رجع عن تلك الوصية إلى الوصية لعمرو، فقال في

(1) المسالك 2: 419.
(2) المفاتيح 3: 296.
(3) الكفاية: 287.
(4) مجمع الفائدة والبرهان 12: 524.
(5) القواعد 2: 247.
414

الإرشاد بعدم قبول شهادة الوارثين (1)، لأن المال يؤخذ من يدهم، فهما
بمنزلة المدعى عليه. وتنظر فيه في القواعد (2)، واستشكله في الشرائع (3).
ونقل عن المبسوط قبولها (4)، ورجحه المحقق الأردبيلي (5)، وهو
الظاهر، لعموم أدلة قبول الشهادة، ومنع كونهما بمنزلة المدعى عليه.
ومنه يظهر قبول شهادة العدلين من الورثة بدين أو وصية مطلقا،
ولا يختص بقدر حصتهم من المشهود به.
المسألة الخامسة: لو رجع الشهود عن شهادتهم على ما توجب
عقوبة - من قصاص نفس، أو طرف، أو قطع، أو حد لله، أو لآدمي - فإما
يكون الرجوع قبل الحكم أو بعده، قبل الاستيفاء أو بعده، وعلى التقادير:
إما يكون الرجوع بالإقرار بالتعمد، أو الخطأ، أو بالتشكيك.
فإن كان قبل الحكم فتلغو الشهادة، ويوقف الحكم مطلقا بالإجماع.
له، ولمرسلة جميل الصحيحة عن ابن أبي عمير: في الشهود إذا
شهدوا على رجل، ثم رجعوا عن شهادتهم، وقد قضي على الرجل
" ضمنوا ما شهدوا به، وغرموا، وإن لم يكن قضي طرحت شهادتهم،
ولم [يغرم] الشهود شيئا " (6).

(1) الإرشاد 2: 168.
(2) القواعد 2: 230.
(3) الشرائع 4: 145.
(4) المبسوط 8: 253.
(5) مجمع الفائدة والبرهان 12: 526.
(6) الكفاية 7: 383 / 1، الفقيه 3: 37 / 124، التهذيب 6: 259 / 685، الوسائل
27: 326 أبواب الشهادات ب 10 ح 1، بدل ما بين المعقوفين في " ح " و " ق ":
يغرموا، وما أثبتناه من المصادر.
415

مضافا إلى الأصل، لاختصاص ما دل على وجوب الحكم بالبينة
- بحكم التبادر - بصورة عدم الرجوع قطعا.
وأما رواية السكوني: " من شهد عندنا، ثم غير، أخذنا بالأولى،
وطرحنا الأخرى " (1).
فهي غير ظاهرة في الرجوع، ولو سلم فلا تقاوم المرسلة التي هي
كالصحيحة، ولعمل كل الأصحاب مطابقة، ولو سلم فيرجع إلى الأصل
الذي هو مع المرسلة.
وحينئذ، فإن كان المشهود به الزنا جرى على الراجع حكم القذف،
فيجب عليه الحد إن كان موجبا له، أو التعزير إن كان موجبا له، إن اعترف
بالتعمد وإن قال: أخطأت أو ترددت، ففي وجوب الحد وجهان.
وإن كان بعد الحكم قبل الاستيفاء، نقض الحكم، وتبطل الشهادة،
سواء كان المشهود به حقا لله تعالى - مثل: الزنا واللواط - أو لآدمي - كقطع
السارق وحد القاذف - بلا خلاف ظاهر، إلا ما حكي عن المحقق والفاضل في
بعض كتبه وولده من التردد (2).. وليس في موقعه، لوجوب درء الحدود
بالشبهات، وهذا شبهة وأي شبهة؟! وبه يدفع استصحاب مقتضى الحكم.
وإن كان بعد الاستيفاء، فعليهم مثل ما على المباشر للقتل أو الجرح
أو الضرب بعينه، فإن قالوا: تعمدنا، ثبت لأولياء المقتول أو المجروح أو
المضروب المشهود عليه القصاص في موضع القصاص على المباشر،

(1) الفقيه 3: 27 / 74، التهذيب 6: 282 / 775، الوسائل 27: 328 أبواب
الشهادات ب 11 ح 4، بتفاوت يسير.
(2) المحقق في الشرائع 4: 143، والفاضل في القواعد 2: 243، وولده في
الإيضاح 4: 451.
416

والدية في موضع الدية على المتعمد، على التفصيل المبين في أحكام
القصاص والديات، على المقطوع في كلام الأصحاب، كما في الكفاية (1).
فإن شاء في الرجم قتل واحدا من الأربعة، وأدى الثلاثة الأخر ثلاثة
أرباع الدية [إلى] (2) ورثة الشاهد المقتول، وإن شاء قتل الجميع وأدى نفسه
ثلاث ديات إلى ورثة الأربعة.
وفي القتل إن شاء قتل الاثنين، وأدى دية واحد إلى وارثهما، وإن
شاء قتل واحدا، ورد الآخر نصف الدية إلى وارثه.
وكذا الحكم في الجراحات.
ويظهر الحكم أيضا فيما إذا أراد ولي المرجوم قتل اثنين أو ثلاثة
منهم.
وإن قالوا: قد أخطأنا في الشهادة، أو شككنا فيها، فعليهم الدية
خاصة، كما في القاتل والجارح خطأ.
وإن قال بعض الشهود: تعمدنا، وبعضهم: أخطأنا، فعلى العامد
القود، وعلى الخاطئ الدية، بعد اعتبار التوزيع المفصل في باب الاشتراك.
وبالجملة: يفعل بالشهود ما يفعل بالمباشر من غير فرق، بلا خلاف
في شئ من ذلك - كما صرح به جماعة (3) - بل الظاهر أنه إجماعي،
والأصل فيه - معه ومع حديث: " إقرار العقلاء على أنفسهم جائز " (4) -
الروايات المستفيضة:

(1) الكفاية: 288.
(2) أضفناها لاقتضاء السياق.
(3) منهم صاحب الرياض 2: 457.
(4) الوسائل 23: 184 كتاب الإقرار ب 3 ح 2، ورواه ابن أبي جمهور في غوالي اللآلئ 3:
442 / 5.
417

كرواية الجرجاني: في أربعة شهدوا على رجل أنه زنى فرجم، ثم
رجعوا وقالوا: قد وهمنا، " يلزمون الدية، فإن قالوا: تعمدنا، قتل أي
الأربعة شاء ولي المقتول، ورد الثلاثة ثلاثة أرباع الدية إلى أولياء المقتول
الثاني، ويجلد الثلاثة كل واحد منهم ثمانين جلدة، وإن شاء ولي المقتول
أن يقتلهم رد ثلاث ديات على أولياء الشهود الأربعة، ويجلدون ثمانين كل
واحد منهم، ثم يقتلهم الإمام " وقال في رجلين شهدا على رجل أنه سرق
فقطع، ثم رجع واحد منهما، وقال: وهمت في هذا ولكن كان غيره:
" يلزمه نصف دية اليد، [ولا تقبل شهادته في الآخر، فإن رجعا جميعا
وقالا: وهمنا، بل كان السارق فلانا، يلزمان دية اليد،] ولا تقبل شهادتهما
في الآخر، وإن قالا: تعمدنا، قطع يد أحدهما بيد المقطوع، ويرد (1) الذي
لم يقطع ربع دية الرجل على أولياء المقطوع اليد، فإن قال المقطوع الأول:
لا أرضى أو تقطع أيديهما معا، رد دية يد، فتقسم بينهما، وتقطع
أيديهما " (2).
وصحيحة الأزدي: عن أربعة شهدوا على رجل بالزنا، فلما قتل رجع
أحدهم عن شهادته، قال: " يقتل الراجع، ويؤدي الثلاثة إلى أهله ثلاثة
أرباع الدية " (3).
ورواية مسمع: في أربعة شهدوا على رجل بالزنا، ثم رجم، فرجع
أحدهم، فقال: شككت في شهادتي، قال: " عليه الدية " قال: قلت: فإنه

(1) في " ق " والكافي: ويؤدي...
(2) الكافي 7: 366 / 4، التهذيب 10: 311 / 1161، وأورد ذيلها في الوسائل 29:
181 أبواب قصاص الطرف ب 18 ح 1، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصادر.
(3) الكافي 7: 384 / 5، التهذيب 6: 260 / 690، الوسائل 27: 329 أبواب
الشهادات ب 12 ح 2.
418

قال: شهدت عليه متعمدا، قال: " يقتل " (1).
ومرسلة السراد: في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا، ثم رجع
أحدهم بعد ما قتل الرجل، قال: " إن قال الرابع: أوهمت، ضرب الحد
وغرم الدية، وإن قال: تعمدت، قتل " (2).
ورواية أخرى لمسمع: قضى في أربعة شهدوا على رجل أنهم رأوه
مع امرأة يجامعها، فرجم، ثم رجع واحد منهم، قال: " يغرم ربع الدية إذا
قال: شبة علي، فإن رجع اثنان وقالا: شبه علينا، غرما نصف الدية، وإن
رجعوا جميعا وقالوا: شبه علينا، غرموا الدية، وإن قالوا: شهدنا بالزور،
قتلوا جميعا " (3).
ورواية السكوني: في رجلين شهدا على رجل أنه سرق، فقطعت
يده، ثم رجع أحدهما وقال: شبه علينا: " غرما دية اليد من أموالهما
خاصة " (4).
وروايته الأخرى: " أن رجلين شهدا على رجل عند علي (عليه السلام) أنه
سرق، فقطع يده، ثم جاءا برجل آخر فقالا: أخطأنا، هو هذا، فلم يقبل
شهادتهما، وغرمهما دية الأول " (5) وقريبة منها رواية محمد بن قيس (6).

(1) الفقيه 3: 30 / 90، الوسائل 27: 329 أبواب الشهادات ب 12 ح 3.
(2) الكافي 7: 384 / 4، التهذيب 6: 260 / 691، الوسائل 27: 328 أبواب
الشهادات ب 12 ح 1.
(3) الكافي 7: 366 / 1، التهذيب 10: 312 / 1163، الوسائل 29: 129 أبواب
القصاص في النفس ب 64 ح 1.
(4) التهذيب 6: 285 / 788، الوسائل 27: 332 أبواب الشهادات ب 14 ح 2.
(5) التهذيب 10: 153 / 613، الوسائل 27: 332 أبواب الشهادات ب 14 ح 3.
(6) الكافي 7: 384 / 8، التهذيب 6: 261 / 692، الوسائل 27: 332 أبواب
الشهادات ب 14 ح 1.
419

والرضوي: فإن شهد أربعة عدول على رجل بالزنا، أو شهد رجلان
على رجل بقتل رجل أو سرقة، فرجم الذي شهدا عليه بالزنا، وقتل الذي
شهدوا عليه بالقتل، وقطع الذي شهدوا عليه بالسرقة، ثم رجعا عن
شهادتهما وقالا: غلطنا في هذا الذي شهدنا، وأتيا برجل وقالا: هذا الذي
قتل، وهذا الذي سرق، وهذا الذي زنى، قال: " تجب عليهما دية المقتول
الذي قتل، ودية يد الذي قطع بشهادتهما، ولم تقبل لشهادتهما على الثاني
الذي شهدوا عليه، وإن قالوا: تعمدنا، قطعا في السرقة، وكل من شهد
شهادة الزور في مال أو قتل لزمه دية المقتول بشهادتهما، ولم تقبل
شهادتهما بعد ذلك " الحديث (1).
ولو رجع بعض الشهود خاصة بعد القتل أو القطع أو الجرح لم يمض
إقرار من رجع إلا على نفسه، لاختصاص حكم الإقرار بالمقر، وعدم إلزام
أحد باقرار غيره، فإن كانت الشهادة على القتل فلولي المقتول قتل الراجع
في موضع القصاص بعد أن يرد عليه نصف ديته، وإن أخذ الدية في
موضعها فليس له إلا أخذ نصف الدية.
وإن كان القتل في الرجم يرد الولي ثلاثة أرباع دية المقتول إن قتله،
وأخذ منه ربع الدية إن أراد الدية.. وعلى هذا لو رجع منهم اثنان أو ثلاثة.
وأما رواية السكوني الأولى (2) - الدالة على تغريم الشاهدين دية اليد
مع رجوع أحدهما - فمع مخالفتها للأصول وفتوى الأصحاب كلا، معارضة
مع ذيل رواية الجرجاني (3) الموافقة لعلم الأصحاب، فطرحها لازم.

(1) فقه الرضا " (عليه السلام) ": 263 بتفاوت، مستدرك الوسائل 17: 420 أبواب الشهادات
ب 11 ح 4.
(2) المتقدمة في ص 417.
(3) المقدمة في ص 415.
420

ثم إن الحكم المذكور لرجوع البعض في غير الرجم موضع وفاق،
وأما فيه فهو المشهور بين الأصحاب، وخالف فيه الشيخ في النهاية،
والإسكافي والقاضي على ما حكي عنهما، فقالوا: لو شهد أربعة بالزنا،
فرجم، ثم رجع أحدهم عمدا قتل وأدى الثلاثة على ورثته ثلاثة أرباع
الدية، وإن أخطأ ألزم الراجع ربع الدية (1).
وتدل على قولهم صحيحة الأزدي المتقدمة (2)، وهي في ذلك
صريحة، وبالنسبة إلى ما يخالفها من الأصول خاصة، وشهرة خلافها بين
المتأخرين - مع عمل طائفة من فحول القدماء واحتمال عمل جمع آخر
منهم - لا تخرجها عن الحجية.
ورواية مسمع الثانية (3) ليست لها معارضة كما توهم، إذ تعلق ربع
الدية عليه مع الخطأ لا ينافي ذلك الحكم، فالعمل بها ليس ببعيد.
ثم برواية مسمع هذه يجب تقييد روايته الأخرى (4)، ومرسلة
السراد (5)، بحمل الدية فيهما على قدر الحصة، حملا للمجمل على
المبين.
المسألة السادسة: لو رجع الشهود فيما يتعلق بالبضع - كأن شهد
شاهدان مقبولان بالطلاق - فإن ثبت أنهما شاهدا زور لم يحصل الفراق،
وإن لم يثبت ولكن رجعا أو أحدهما، فقالوا: إن كان قبل حكم الحاكم

(1) النهاية:: 335، نقله عن الإسكافي في المختلف: 726، القاضي في المهذب
2: 563.
(2) المتقدمة في 416.
(3) المتقدمة في 417.
(4) المتقدمة في 416.
(5) المتقدمة في 416.
421

فكذلك ولا يلزمهما شئ إلا التعزير إن لم يكن لهما عذر مقبول، وإن
رجعا بعد حكمه بالمفارقة فلا ينتقض الحكم، بل يثبت الطلاق، لأنه ثبت
بالبينة المقبولة، وقضى به الحاكم بالقضاء المبرم، فلا يبطل بمجرد رجوع
الشهود المحتمل للصحة والفساد، فإن الثابت بدليل شرعي لا ينتقض إلا
بدليل شرعي آخر.
وهل يغرمان الصداق برجوعهما؟
قال جماعة: ينظر، فإن كان ذلك قبل دخول الزوج الأول غرما نصف
المهر المسمى للزوج الأول، وإن كان بعده لم يغرما شيئا، قاله الشيخ في
الخلاف والحلي والفاضل في القواعد والتحرير والإرشاد (1) وأكثر
المتأخرين عنه (2).
أما الأول: فلاتلافهما عليه نصف المهر المسمى اللازم بالطلاق
فيضمنانه، وأما الثاني: فلأصالة البراءة وعدم تحقق إتلاف، لاستقرار تمام
المهر بالدخول، والبضع لا يضمن بالتفويت كما بين في موضعه.
وخالف في ذلك الشيخ في النهاية والاستبصار والقاضي (3) والحلبي
على ما حكي عنه في المختلف (4)، بل الظاهر أنه مذهب الصدوق
والكليني (5)، فقالوا: لو شهدا بطلاق امرأة، فتزوجت، ثم رجعا، ردت
الزوجة إلى الزوج الأول بعد الاعتداد من الثاني، وغرم الشاهدان المهر كلا

(1) الخلاف 2: 633، الحلي في السرائر 2: 145، القواعد 2: 245، التحرير 2:
216، الإرشاد 2: 166.
(2) منهم يحيى بن سعيد في الجامع: 546، الشهيد في الدروس 2: 144.
(3) النهاية: 336، الإستبصار 3: 38، القاضي في المهذب 2: 563.
(4) المختلف: 726.
(5) الصدوق في الفقيه 3: 36، الكليني في الكافي 7: 384.
422

أو بعضا للثاني.
لصحيحة محمد: عن رجلين شهدا على رجل غائب عن امرأته أنه
طلقها، فاعتدت المرأة وتزوجت، ثم إن الزوج الغائب قدم فزعم أنه
لم يطلقها وأكذب نفسه أحد الشاهدين، فقال: " لا سبيل للأخير عليها،
ويؤخذ الصداق من الذي شهد ورجع، فيرد على الأخير، ويفرق بينهما،
وتعتد من الأخير، ولا يقربها الأول حتى تنقضي عدتها " (1).
وموثقة إبراهيم بن عبد الحميد: في شاهدين شهدا على امرأة بأن
زوجها طلقها، فتزوجت، ثم جاء زوجها فأنكر الطلاق، قال: " يضربان
الحد ويضمنان الصداق للزوج، ثم تعتد، وترجع إلى زوجها الأول " (2).
بحملها على صورة تكذيب الشاهدين نفسيهما، أو ثبوت كونهما
شاهدي زور، للاتفاق على أن مجرد إنكار الزوج لا يوجب ذلك الحكم.
وكلام الشيخ في المبسوط لا يخلو عن إبهام في فتواه (3)، ونقل في
المسألة أقوال أخر شاذة (4)؟ وصرح في المختلف بالتوقف في المسألة (5)،
وهو ظاهر الشهيد في اللمعة والمحقق الأردبيلي وصاحب الكفاية (6).
ورد الأولون قول الشيخ وتابعيه: بأنه مخالف للقاعدة القطعية

(1) التهذيب 6: 285 / 789، الوسائل 27: 330 أبواب الشهادات ب 13 ح 3.
(2) الكافي 7: 384 / 7، التهذيب 6: 260 / 689، الإستبصار 3: 38 / 128،
الوسائل 27: 330 أبواب الشهادات ب 13 ح 1.
(3) المبسوط 8: 247.
(4) انظر المسالك 2: 420، الكفاية: 288.
(5) المختلف: 726.
(6) اللمعة (الروضة البهية 3): 155 - 157، المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة
12: 498 - 502، الكفاية: 288.
423

المجمع عليها، من عدم جواز نقض الحكم المبرم الثابت بالدليل الشرعي
ورفع اليد عنه بمجرد الاحتمال من غير استناد إلى دليل شرعي آخر.
وبه أجابوا عن الصحيحة والموثقة، ولذلك أوجبوا طرحهما أو
تأويلهما.
مضافا إلى ما في الموثقة من مخالفة أخرى للقواعد المقطوع بها،
وهي قبول مجرد إنكار الزوج وإن لم يكن معه رجوع الشاهد، وإيجاب
الحد عليه وضمانه.
هذا، مع ما في الصحيحة والموثقة من الشذوذ.
أقول: كل ذلك مبني على حملهم كلام الشيخ وتابعيه والروايتين على
ما عنونوا به مسألتهم من رجوع الشاهدين بعد حكم الحاكم بشهادتهما
بثبوت الطلاق.
مع أنه ليس في كلامهما من الحكم عين ولا أثر، ولا في الروايتين،
بل عنوان كلامهما هو تزوج المرأة بشهادة الشاهدين من غير ذكر حكم
ولا حاكم، وكذلك الروايتان، وهو ظاهر في شهادتهما عندها، بل الصحيحة
على بعض نسخها صريحة في ذلك، حيث إن صدرها فيه هكذا: عن
رجلين شهدا على رجل غائب عند امرأته أنه طلقها (1).
ويؤيده ما في موثقة أخرى لإبراهيم المذكور، حيث صدرها هكذا:
في امرأة شهد عندها شاهدان بأن زوجها مات، فتزوجت، ثم جاء زوجها،
الحديث (2).

(1) انظر الكافي 6: 149 / 2، الفقيه 3: 36 / 120، الإستبصار 3: 38 / 129.
(2) الفقيه 3: 36 / 119، التهذيب 6: 286 / 791، الوسائل 27: 303 أبواب الشهادات
ب 13 ح 2، وفيها: عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام).
424

وعلى هذا، فلا باعث لهم على ذلك الحمل وجعل فتواهم وروايتهم
مخالفة للقاعدة المقطوع بها، فإنه قد تقرر عندهم أن شهادة الشاهدين
حجة لكل أحد شهدا عنده لنفسه وإن لم يكن ثبوته عنده مفيدا للغير، إلا
إذا كان حاكما، وهو أيضا حين الترافع إليه، ولذا تصوم المرأة وتفطر
بشهادة الشاهدين عندها بالهلال، وكذا في التنجس والتطهر وغصبية الماء،
من غير حكم حاكم.
وحينئذ إذا شهد الشاهدان ثم رجعا لا يكون ما شهدا به ثابتا عنده،
لأن القدر الثابت هو حجيتها لكل أحد ما لم يرجعا، وما دل على حجيتها
يدل على حجية رجوعهما أيضا، فبعد الرجوع يكون وجود الشهادة
كالعدم، فترجع المرأة إلى الزوج الأول، بل وكذا لو كان معها حكم حاكم
بدون منازعة واختلاف وترافع إليه، فإن القدر المسلم هو نفوذ حكمه
وعدم جواز نقضه بعد الاختلاف والترافع، وأما بدون ذلك فلا، كما بينا
مفصلا في عوائد الأيام (1)، ولذا ذهب الأكثر إلى عدم قبول حكمه بثبوت
الهلال عنده، وكذا أمثاله.
نعم، يجب إنفاذ حكمه ولا يجوز نقضه مع النزاع والترافع، وأين
ذلك في كلام الشيخ وتابعيه وروايتهم؟! بل الظاهر خلاف ذلك كما ذكرنا.
فأقول: إن كان مراد الأولين ما هو ظاهر الشيخ وأتباعه والروايتين،
فأين القاعدة القطعية - بل الظنية - التي يخالفها؟! وأين القضاء المبرم أو
غير المبرم؟!
وإن أرادوا ما كان بعد الحكم الصادر بعد الترافع فأين ذلك في كلام

(1) عوائد الأيام: 280.
425

الشيخ وأتباعه وأخبارهم؟!
وظهر من ذلك: أن عنوان المسألة إن كان مجرد الشهادة - كما هو
محط كلام الشيخ - فلا مستند للأولين فيما ذهبوا إليه من عدم جواز
النقض، والحق مع الشيخ وتابعيه.
وإن كانت الشهادة بعد الترافع فالحق معهم ولا يجوز النقض، بل
ظني أنه لا مخالف لهم في ذلك.
وإن كان الأعم فالحق التفصيل.
بل لو أغمضنا عما ذكرنا وجعلنا العنوان للفريقين هو ما كان بعد
الحكم النافذ والقضاء المبرم، وقلنا بدلالة الروايتين عليه أيضا - كما هو
ظاهر الأولين، ولذا عدوهما مخالفتين للقاعدة - فنقول: أي ضرر في ذلك
الحكم؟!
قولهم: يلزم نقض الحكم الثابت بالدليل الشرعي من غير دليل
شرعي آخر.
قلنا: أي دليل شرعي أقوى من الصحيح (1) والموثق (2) الموافقين
لفتوى جمع من أساطين القدماء وغير المخالفين لفتوى جمع من
المتأخرين حيث ترددوا في المسألة (3)، مع نقل أقوال أخر فيها أيضا عن
جماعة؟!
وهل يطلق على مثل ذلك الحديث: الشاذ النادر؟!
وهل ذلك الدليل أضعف من حديث درء الحدود بالشبهات، الذي

(1) المتقدم في ص 420 و 421.
(2) المتقدم في ص 421.
(3) كما في المختلف: 726، الروضة 3: 157.
426

نقضوا به الحكم المبرم في الحدود كما مر؟! مع أنه يمكن الكلام في
تعيين الشبهة وصدقها في المورد.. ولعله لذلك مال المحقق الأردبيلي إلى
جواز نقض الحكم في المسألة مطلقا (1).
ولكن الصواب أن الروايتين غير ظاهرتين في ذلك المعنى.
والحق في المسألة هو ما ذكرنا من متابعة الشيخ في صورة عدم
صدور حكم بعد التنازع والترافع، والقول بعدم جواز النقض مع صدوره
كذلك، كما حمل به كلام الشيخ وروايته جماعة من الأصحاب، إلا أنهم
عدوه حملا وتأويلا، وأنا أقول: إنه ظاهر الكلام والرواية.
وإذ عرفت أن الحق هو رجوع المرأة إلى الزوج الأول مع عدم
الترافع، وبقاؤها على زوجية الثاني بدونه، فعلى الأول يكون على الشاهد
الراجع ما على الزوج الثاني من الصداق كما صرح به في الصحيح (2)
والموثق (3)، وعلى الثاني لا يكون عليه شئ مع دخول الأول، للإجماع،
والأصل، وعدم تفويته مالا عليه.
وأما مع عدم الدخول فهل يكون نصف المهر أو لا؟
ظاهر الأكثر: الأول، لما مر، وظاهر بعض المتأخرين التردد فيه (4)،
وهو في موقعه جدا، للزوم النصف بمجرد العقد وتلفه به، سواء كانت
باقية على التزويج أو حصل موت أو طلاق، فلم تتضمن الشهادة اتلافا،
للزومه على أي تقدير، فلا وجه لغرمه له.

(1) انظر مجمع الفائدة 12: 498.
(2) المتقدم في ص 420 و 421.
(3) المتقدم في ص 421.
(4) انظر التحرير 2: 217، المختلف 2: 726.
427

وتوجيه الإتلاف - بأنه كان معرض السقوط بالردة والفسخ من قبلها،
فكأنه لم يكن لازما ولزم بإقرارهما - نادر جدا، لأن مجرد ذلك الاحتمال
العقلي - الذي لا يلتفت إليه عقل سليم - لا يصدق [عليه] (1) الإتلاف
الموجب للضمان عرفا، بل غايته احتمال إتلاف ضعيف غايته.. وهل
يترك أصل البراءة - الذي هو القاعدة المجمع عليها، المدلول عليها كتابا
وسنة - بمثل ذلك الاحتمال؟!
فإن قلت: إلزام ما هو محتمل السقوط - ولو بالاحتمال الضعيف
أيضا - ضرر عليه.
قلنا: لو سلم ذلك فاللازم ضمان ما يصلح أن يكون بإزاء ذلك الضرر
عرفا وقيمة له لا نصف الصداق، مع أنها قد تكون أبرأته عن النصف، أو
تصالحه بشئ قليل بعد الصداق، فالقول بضمان نصف الصداق مشكل.
وتوهم الإجماع المركب فيه - بعد وجود أقوال شتى في المسألة، ولو
كان بعضها ضعيف المأخذ - فاسد، والأصل يحتاج رفعه إلى دليل ثابت،
وإلا فهو أقوى دليل، والله الموفق.
فروع:
أ: لو شهدا بالطلاق، ففرق، فرجعا، فقامت بينة أنه كان بينهما رضاع
محرم - مثلا - فلا غرم على القول به، إذ لا تفويت أصلا.
ب: لو شهدا بالرضاع المحرم، وحكم به الحاكم بعد الترافع، ففرق،
ثم رجعا، لم ينقض الحكم، ولا غرم، كما صرح به في القواعد (2)، لعدم

(1) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة العبارة.
(2) قال في القواعد 2: 245 ولو شهدا برضاع محرم ثم رجعا ضمنا على القول
بضمان البضع وإلا فلا.
428

تفويت أصلا، إذ ليس على الزوج صداق.
وقيل بغرامة الصداق كله، إذ التنصيف إنما هو في الطلاق. ولا أدري
وجهه.
ج: لو شهدا للزوج بالنكاح وقد دخل، غرما لها ما زاد من مهر المثل
عن المسمى إن كان، ولو طلق قبل الدخول فلا غرم. ولو كانت الشهادة
للزوجة، غرما للزوج ما قبضته إن لم يدخل، وإلا فالزائد من المسمى إن
كان. كذا قال في الدروس (1).
وينبغي تقييد المسألتين بما إذا لم يكن الزوج مدعيا للزوجية في
الأولى، والزوجة لها في الثانية، فتأمل جدا.
المسألة السابعة: لو رجع الشهود فيما يتعلق بالمال، فإن كان قبل
القضاء من الحاكم بعد الترافع إليه، لم يحكم بلا خلاف، بل بالإجماع، له،
وللمرسلة المتقدمة في صدر المسألة الخامسة (2).
وإن كان بعده، فإن كان بعد استيفاء المحكوم له وتلف العين عنده،
لم ينقض الحكم، وغرم الشهود الراجعون ما غرم به المشهود عليه،
بلا خلاف كما صرح به جماعة (3)، بل بالإجماع كما في السرائر
والقواعد (4)، بل محققا، له، وللمرسلة المتقدمة المذكورة، ورواية السكوني
المتعقبة لها (5).
وكذا إن كان قبل التلف ولو مع الاستيفاء أيضا، على الأشهر الأقوى،

(1) الدروس 2: 144.
(2) راجع ص 413.
(3) منهم السبزواري في الكفاية: 288.
(4) السرائر 2: 147، 148، القواعد 2: 245.
(5) راجع ص 413.
429

بل عليه عامة متأخري أصحابنا، بل قدمائهم في صورة الاستيفاء، كما يظهر
من المبسوط والسرائر (1)، للمرسلة، والرواية التي لها متعقبة، مضافة إلى
استصحاب الحكم الواجب إنفاذه.
خلافا للمحكي عن النهاية والقاضي وابن حمزة، فقالوا: إن كانت
العين قائمة ولو عند المحكوم له ارتجعت منه ولم يغرم الشاهد شيئا (2).
واستدل لهم بأن الحق ثبت بشهادتهما، فإذا رجعا سقط، كما لو كان
قصاصا (3).
ولأن حكم دوامه يكون بدوام شهادتهما، كما أن حدوثه كان
بحدوثها.
والأول عين النزاع، والقياس على القصاص مع الفارق، لأن الشبهة
في القصاص مؤثرة.
والأخير يصح لو قلنا بأن العلة المبقية هي العلة الموجدة، وهو غير
لازم.
واستدل له في الكفاية (4) بصحيحة جميل: في شاهد الزور، قال: " إن
كان الشئ قائما بعينه رد على صاحبه، وإن لم يكن قائما ضمن بقدر
ما أتلف من مال الرجل " (5).
وهو - كما قاله بعض مشايخنا المعاصرين (6) - غفلة واضحة، لوضوح

(1) المبسوط 8: 246، السرائر 2: 148.
(2) النهاية: 336، القاضي في المهذب 2: 564، ابن حمزة في الوسيلة: 234.
(3) انظر المختلف: 727.
(4) الكفاية: 288.
(5) الكافي 7: 384 / 3، الفقيه 3: 35 / 116، التهذيب 6: 259 / 686، الوسائل
27: 327 أبواب الشهادات ب 11 ح 2.
(6) وهو صاحب الرياض 2: 457.
430

الفرق بين شهادة الزور والرجوع عن الشهادة، فإنه لا يثبت من الرجوع كون
شهادتهما زورا مخالفة للواقع، بل يتردد بين صدق الأولى والثانية، ومعه
كيف يقطع بكون الأولى زورا كما هو مورد الصحيحة؟! ونحن نقول
بحكمها في موردها.
وحكي عن بعض من تأخر من أصحابنا الفرق بين الرجوع قبل
الاستيفاء وبعده، فجزم بنقض الحكم في الأول خاصة دون الثاني (1)،
ومستنده غير واضح.
المسألة الثامنة: إذا ثبت أن الشاهدين شهدا بالزور والكذب، نقض
الحكم واستعيدت العين مع بقائها، ومع تلفها أو تعذر ارتجاعها يضمن
الشهود، بغير خلاف ظاهر كما عن السرائر (2)، لمرسلة جميل وصحيحته
المتقدمتين (3).
وصحيحته الأخرى في شهادة الزور: " إن كان الشئ قائما، وإلا
ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل " (4).
وصحيحة محمد: في شاهد الزور ما توبته؟ قال: " يؤدي من المال
الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله إن كان النصف أو الثلث إن كان شهد
هذا وآخر معه " (5).

(1) حكاه عنه في الرياض 2: 457.
(2) حكاه عنه في الرياض 2: 457 وانظر السرائر 2: 149.
(3) تقدمت المرسلة في 413، والصحيحة عن قريب.
(4) الكافي 7: 384 / 6، التهذيب 6: 260 / 688، الوسائل 27: 328 أبواب
الشهادات ب 11 ح 3.
(5) الكافي 7: 383 / 2، التهذيب 6: 260 / 687، الوسائل 27: 327 أبواب
الشهادات ب 11 ح 1.
431

وبالصحيحين الأولين يقيد إطلاق المرسلة والصحيحة الأخيرة بضمان
الشهود بالنسبة إلى بقاء العين وعدمه.
وهل يقيد الضمان في صورة التلف بعدم إمكان الرجوع إلى المحكوم
له، أم لا؟
الظاهر: لا، لعدم المقيد، ولكن الظاهر أن المراد أنه ضامن، كما أن
المحكوم له أيضا كذلك إذا علم أنه يعلم أن لا حق له، فللمحكوم عليه
الرجوع إلى أيهما شاء.
وإذا رجع إلى الشاهد فهل له الرجوع إلى المحكوم له؟
فيه إشكال، والأصل يقتضي العدم.
ثم إنه يجب تشهير شاهد الزور في بلده وما حولها، ليجتنب
شهادتهم ويرتدع غيرهم، وتعزيرهم بما يراه الحاكم، للموثقات الثلاث
لسماعة (1).
فروع للمسائل المتقدمة:
أ: لو شهد في واقعة أكثر من العدد المعتبر في شهود تلك الواقعة
- كالستة في الزنا، والثلاثة في القتل والمال - فرجع الزائد المستغنى عنه
خاصة، فعن المحقق: عدم توجه غرم (2)، لثبوت الحق بالقدر المعتبر،

(1) الأولى: الفقيه 3: 35 / 117، ثواب الأعمال: 225 / 4، الوسائل 27: 333
أبواب الشهادات ب 15 ح 1.
الثانية: التهذيب 6: 263 / 699، الوسائل 27: 334 أبواب الشهادات ب 15
ح 2.
الثالثة: الكافي 7: 241 / 7.
(2) قال في الشرائع 4: 144 وربما خطر أنه لا يضمن.
432

وقيام الحجة وعدم نقضها، وعدم ثبوت إتلاف، فوجود من رجع كعدمه.
واستوجه جماعة - منهم: الشيخ والفاضل وولده (1) - توجه الغرم على
الراجع بالنسبة، لثبوت الحق بالمجموع من غير ترجيح، ولأنه لو رجع
الجميع كان على كل واحد الغرم بحصته.
وفيه: منع استلزام المقدمتين للمطلوب أصلا، ولو استدل هؤلاء
بإطلاق الأخبار نمنع، لأن ما يتضمن الرجوع بين ما يشتمل على حكم
رجوع الجميع أو مخصوص بما لم يزد الشاهد عن العدد المعتبر.
ويظهر من بعض متأخري المتأخرين الفرق بين الشهادة دفعة
وبالتعاقب، فعلى الأول يغرم، وكذا على الثاني إن كان الراجع هو السابق،
ولا يغرم إن كان هو الشاهد بعد الثبوت.
وفيه: أنه كان حسنا لو كان موجب الثبوت هو الشهادة، وليس
كذلك، بل هو الحكم الواقع بعد شهادة الجميع.
والحاصل: أن الغرم إنما هو لثبوت الإتلاف ولو بإقرار الراجع بعد أن
كان الإتلاف مستندا إليه، وليس هنا كذلك، إذ الإتلاف بعد رجوعه يمكن
بالاثنين الآخرين.
ولو فرض أن الاثنين شهدا، فحكم، ثم رجعا، وشهد آخران، فما
أتلف الراجع شيئا، إذ بعد رجوعه أتلفه عليه غيره، فالمال متلف رجع أم
لا.
فلو أخذ المحكوم عليه من الراجع ثلث ما شهدوا به يلزم بقاء الحق
وعدم أخذه منه مع ثبوت الكل في ذمته بشهادة العدلين وحكم الحاكم

(1) الشيخ في الخلاف 2: 634، الفاضل في القواعد 2: 246، ولده في الإيضاح
4: 457.
433

بشهادتهما، والأصل أيضا براءة ذمة الراجع هنا.
نعم، لو رجع الكل يغرم الجميع بالنسبة، لعدم المرجح، ولو رجع
اثنان من الثالثة يغرمان النصف بالسوية، وهكذا.
ب: إذا رجع مجموع الشهود المعتبرون يغرمون بالسوية، والواحد
يغرم النصف.
وإذا رجع الرجل والامرأتان فيما ثبت بهم فالنصف على الرجل
والنصف على الامرأتين، لأن كل امرأة نصف الرجل، كما صرح به في
تفسير الإمام، راويا عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " عند الله تعالى
شهادة امرأتين بشهادة رجل، لنقصان عقولهن ودينهن " (1).
وإذا رجع الواحد في الشاهد واليمين فعلى الراجع النصف.
وقيل: الكل (2)، لأن اليمين شرط قبول الشهادة وتأثير السبب لا جزء
السبب.
وفيه نظر، والأصل ينفي الزائد عن النصف.
ج: قال في القواعد: لو رجع الشاهدان فأقام المشهود له غيرهما
مقامهما، ففي الضمان إشكال (3).
ووجه الإشكال: إطلاق الأخبار الشامل للمورد، ولا تفيد إقامة الغير
في تقييده، وكون المال متلفا بشهادة الغير.. ولعل الأول أظهر، فإن كون
شخص مستحقا للقتل لا يوجب رفع القصاص عمن قتله من غير جهة

(1) تفسير الإمام العسكري " (عليه السلام) ": 675 / 377 وفيه: عدل الله...، الوسائل 27:
335 أبواب الشهادات ب 16 ح 1.
(2) كما في التحرير 2: 218.
(3) القواعد 2: 247 - 248.
434

الاستحقاق.
د: لو رجع شهد العتق ضمنوا القيمة، لإطلاق المرسلة (1).
ه‍: لو رجع شهود التزكية، قالوا: عليهم الضمان والدية دون
القصاص، وهو حسن.
و: لو رجع شاهد الفرع، فإن كذبه الأصل في الرجوع فلا ضمان،
وإلا فالضمان على شاهد الفرع.
ولو رجع الأصل بعد الحكم بشهادة الفرع ضمنا.
ولو كذبا شهود الفرع لم يلتفت إلى تكذيبهما، ولم يغرما شيئا،
ولا شهود الفرع لو لم يرجعا.
والحمد لله والصلاة على رسوله وآله.
تم كتاب القضاء والشهادات في ليلة الأحد، الخامس عشر من
شهر ربيع المولود، سنة 1245.

(1) المتقدمة في 413.
435