الكتاب: بلغة الفقيه
المؤلف: السيد محمد بحر العلوم
الجزء: ٣
الوفاة: ١٣٢٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: تحقيق وتعليق : السيد حسين ابن السيد محمد تقي آل بحر العلوم
الطبعة: الرابعة
سنة الطبع: ١٩٨٤ م - ١٣٦٢ ش - ١٤٠٣
المطبعة:
الناشر: منشورات مكتبة الصادق - طهران
ردمك:
ملاحظات: مكتبة العلمين العامة - النجف الأشرف

مكتبة العلمين العامة
النجف الأشرف
(11)
بلغة الفقيه
مجموعة بحوث ورسائل وقواعد فقهية لامعة تسد
ضرورة الفراغ في التشريع الاسلامي والفقه
الاستدلالي لا غنى للفقيه والقانوني عن معرفتها.
تصنيف
الحجة المحقق السيد محمد آل بحر العلوم - قدس سره -
شرح وتعليق
الفقيه الورع السيد محمد تقي آل بحر العلوم - دام ظله -
الجزء الثالث
1

منشورات مكتبة الصادق
طهران ناصر خسرو پاساژ مجيدي
الطبعة الرابعة
1984 ميلادي
1362 شمسي
1403 قمري
2

مكتبة العلمين العامة
النجف الأشرف
(11)
بلغة الفقيه
مجموعة بحوث ورسائل وقواعد فقيهة قيمة تسد
ضرورة الفراغ في التشريع الاسلامي والفقه
الاستدلالي، لا غنى للفقيه والحقوقي عن معرفتها.
تصنيف
الحجة المحقق السيد محمد آل بحر العلوم - قدس سره
تحقيق وتعليق
السيد حسين ابن السيد محمد تقي آل بحر العلوم
الجزء الثالث
3

بسمه تعالى
لقد طبع الجزءان: الأول والثاني من الكتاب بتعاليق وشروح سيدنا الوالد قدس سره
في حياته. ولعدم عثورنا بعد وفاته على تعاليق أخرى من قبله، رجحنا إكمال
الكتاب بجزئيه الآخرين بتعليقاتنا الموجزة، حرصا " منا على اكمال الكتاب، والله
الموفق للصواب. 1 رجب / 1396 ه‍ الحسين بن التقي آل بحر العلوم
4

رسالة
في منجزات المريض
5

بسم الله الرحمن الرحيم
6

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وآله خاتم
النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، المعصومين، حجج الله على الخلق أجمعين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
(مسألة): اختلفت كلمات الأصحاب في نفوذ منجزات المريض
في مرض موته: من الأصل، أو الثلث على قولين:
وتنقيح المسألة هو أن يقال: إن تصرف المريض في ملكه عينا " أو
منفعة في مرض موته، تمليكا " كان التصرف أو فك ملك كالعتق
ونحوه (1) لا يخلو: أما منجز، أو معلق والمعلق: أما معلق على غير
موته وإن وجد المعلق عليه بعد الموت أو معلق على الموت وهو:
أما أن يكون زمان ما بعد الموت ظرفا " للمنشأ دون الانشاء، أو يكون ظرفا "
لهما معا "، كقوله: أعطوا زيدا " بعد وفاتي ألفا ".
ثم المنجز: أما أن يكون عن حق واجب عليه كالديون والكفارات
وأروش الجنايات وبدل الغرامات ومنه النذر المطلق أو متبرعا " به،
مجانا " كان كالوقوف والصدقات، والعطايا والهبات المجانية، أو بمعاوضة
تساويه في المثل أو القيمة كالبيع أو الإجارة بثمن المثل وأجرته، أو بما
دون ذلك، ويعبر عنها بالمعاوضة المحاباتية:

(1) مثال الأول واضح، كأن يقول: ملكت فلانا " داري، وشبهه
ومثال الثاني، كالوقوف العامة على عموم المنتفعين بها من مواردها، مثل
الحسينيات والمدارس والمساجد والمرابط ونحوها. فإنها تحرير الملكية
وفكها إلى غير عودة، وليست تمليكا "، لا لجهة، ولا لشخص.
7

إذا عرفت ذلك فنقول (1): أما ما كان معلقا " على الموت ومؤجلا
به، فمخرجه الثلث اجماعا " بقسميه (2) من غير فرق بين ما كان
وصية تمليكية أو عهدية (3) وما هو ملحق بها حكما "، وإن كان غيرها

(1) الملاحظ: إن تفصيل الأقسام المذكورة غير جار على ضوء
ترتيبها الاجمالي.
(2) الاجماع: هو اتفاق خاص من قبل عامة الفقهاء على فتوى
شرعية، بحيث يعلم اجمالا بدخول المعصوم (ع) مع المجمعين بنحو
مقرر في علم الأصول.
وهو قسمان: محصل، وهو تحصيل ذلك الاتفاق المذكور على مسألة
شرعية من قبل مدعيه، والحق امتناع ذلك الاطلاع المباشر عادة في هذا
الزمان ونحوه.
ومنقول، وهو نقل ذلك الاتفاق المذكور بالخبر الواحد، فيكون
من صغرياته، غير أن الفرق بينهما: إن الراوي للخبر ينقل قول المعصوم (ع)
رأسا "، وناقل الاجماع ينقل السبب المثبت للحجة التي يعرف منها رأي
المعصوم (ع).
وهذا القسم من الاجماع سهل الادعاء، ممكن الوقوع في هذه الأزمنة
(لزيادة الاطلاع والتعرف على حقيقة الاجماع وحجيته وإمكانه تراجع كتب
الأصول من الفريقين).
(3) الوصية: هي: عهد خاص بتمليك عين أو منفعة أو تسليط
على تصرف بعد الوفاة.
واختلف الفقهاء في أنها: من العقود أو الايقاعات. والظاهر أنها
من الايقاعات، ولكنها مع ذلك بحاجة إلى القبول في تنفيذ ها.
وأركانها أربعة: الموصي، الوصي، الموصى به، الموصى إليه
أو له. ولكل منها شروط. وأحكام مفصلة في مضانها من كتب الفقه
وبحكم تعلق الوصية بالمال والمنفعة نارة - وبالتصرف أخرى - يصح
انقسامها إلى:
وصية تمليكية. وهي انشاء الموصي تمليك عين أو منفعة لشخص معين
أو أشخاص، أو جهة معينة أو جهات ومن ملحقاتها: الايصاء بالتسليط
على حق من حقوقه القابلة للانتقال كالشفعة مثلا
ووصية عهدية. وهي: ايصاء الموصي لشخص معين أو أكثر بتنفيذ
وصيته التي رسمها مما يتعلق بتجهيزه أو استيجار الحج والصلاة والصوم ونحوها
من العبادات عنه. ومن ذلك: الولاية على أولاده الصغار أو المجانين
والسفهاء من الكبار في إدارة شؤونهم.
ومن ملحقات العهدية كما أشار في المتن: الايصاء بتحرير الملك
وفكه كايقاف داره مسجدا " أو حسينية، نحوهما. ومن ذلك عتق عبده في
سبيل الله. ولتفصيل الموضوع يراجع باب الوصايا من كتب الفقه للفريقين.
8

موضوعا "، كالتدبير، بناء على أنه عتق، لا وصية بالعتق (1) والنذر المقيد
بالموت على الأقوى فيه (2) ولكون الخروج عن الملك في ذلك مقيدا "

(1) التدبير: هو عتق المملوك مقيدا " بوفاة مالكه وإنما سمى بذلك
بحكم صيغته المتعارفة كأن يقول المالك لمملوكه: (أنت حر دبر وفاتي).
وهو قسمان: مطلق، كقول المالك لعبده إذا مت فأنت حر،
أو أنت حر دبر وفاتي. ومقيد كقول المالك لعبده مثلا (إذا
مت في سفري هذا فأنت حر).
والظاهر أن التدبير بقسميه عتق وتحرير ملك، لا وصية بالعتق
وإن جاز رجوع المولى فيه بعد ذلك إذا كان بنحو الوصية.
(2) الضابط في متعلق النذر ملكية الناذر للمنذور، والقدرة على
الوفاء به، لأن النذر تكليف، وهو محال في غير المقدور، ولقوله صلى الله عليه وآله:
" لأنذر فيما لا يملك ابن آدم " - كما في سنن أبي داود ج‍ 3 باب النذر
فيما لا يملك وهل يكتفي بتحقق ذلك الشرط النذر فقط أم لا بد
من استمراره إلى حين الوفاء بالنذر؟ فإن اكتفي بمحض تحققه حين العقد
كما في المتن فيصح النذر المقيد بالموت، لتحقق التملك والقدرة
حينئذ وإلا فيشكل صحة النذر (التفصيل في كتاب النذر من
كتب الفقه الموسعة).
9

بما لا يملك عند تحققه إلا الثلث من ماله.
وأما المعلق على غير الموت، فبحكم المنجز في التفصيل الآتي، وإن تحقق
الشرط والمعلق عليه بعد الموت، ما لم يبطل التصرف به.
وأما المنجز: فإن كان عن حق واجب عليه قبل المرض، فلا اشكال
في خروجه عن محل النزاع، وإنه ينفذ من الأصل.
وإن كان عن حق وجب عليه في مرضه بسبب من الأسباب،
فإن كان من التسبيبات القهرية كالاتلاف ونحوه، نفذ من الأصل بلا
خلاف أيضا ". وإن أوجد السبب في المرض اختيارا ". وإن كان من قبيل
الاستدانة المجانية كالضمان تبرعا عن الغير، والكفالة التبرعية الموجبة لغرامة
ما على المكفول عند تعذر احضاره، فالظاهر نفوذه من الأصل أيضا "، خلافا " لبعض
كالمحقق في (الشرائع) (1) لأن التصرف إنما هو في نفسه وذمته، دون
ماله المتعلق به حق الوارث على القول بنفوذه من الثلث وإن استتبع الوفاء

(1) قال في لواحق كتاب الضمان ضمن مسائل: " الثانية
إذا ضمن المريض في مرضه ومات فيه، خرج ما ضمنه من ثلث تركته
على الأصح " ويظهر رأيه أيضا في مسائل القسم الثاني من لواحق
كتاب الوصية الخاص بتصرفات المريض.
10

من ماله فإن الذمة غير داخلة في الحجر المسبب عن المرض، كما أنها غير
داخلة في الحجر المسبب عن الفلس بعد أن كان الحجر فيه متعلقا " بالمال
دون الذمة.
لا يقال بالفرق بين الحجر لفلس الحجر لمرض بتقريب: إن شغل الذمة
في الأول لا يزاحم حق الغرماء بناء على اختصاص الحجر فيه بالموجود من المال
بخلاف الذمة هنا فإنها تزاحم حق الوارث لتعلق حقه بماله الموجود، وبما
يوجد عند تحققه إلى زمان الموت، والوفاء إنما يكون من ماله الذي لا يمكن
فرض تحققه إلا متعلقا " به حق الوارث، فالذمة هنا مزاحمة لحقوق الورثة، وفي
الفلس لا تزاحم حقوق الغرماء، فالضمان مثلا يستلزم تفويت مال على الوارث
لولاه لكان موروثا " له.
لأنا نقول: لا يجدي الفرق المذكور لو سلم بعد أن كان الضمان بنفسه
ليس تصرفا " في المال الممنوع عنه، وبه يتحقق عنوان الدين المقدم على حق
الوارث، ضرورة أنه لا إطلاق في معقد إجماع أو متن رواية بالنسبة إلى ما يمنع
عنه في مرضه حتى يعارض ما دل على نفوذ الدين من الأصل بنحو العموم
والخصوص المطلق أو من وجه حتى يمكن تقديمه عليه، بل الدليل الدال
على نفوذه من الثلث بعد تسليمه وارد في موارد مخصوصة، وإنما يتسرى
منها إلى ما يكون مثلها بعد القطع باتحاد المناط، فيبقى دليل تقدم الدين سليما "
عن المعارض مندرجا " تحت الأصول والقواعد الموجبة لنفوذه من الأصل.
وأما النذر المطلق المتبرع به الواقع في مرضه: فإن كان متعلقا " بمال
في ذمته نفذ من الأصل أيضا "، كما لو نذر في الصحة لما عرفت في الدين (1)
وينفذ من الثلث بناء عليه لو تعلق بعين من أمواله، كما لو نذر في مرضه

(1) وذلك من التعليل الذي ذكره آنفا " - بقوله: لأن التصرف
إنما هو في نفسه وذمته، دو ماله.
11

أن يعطي فرسا " من أفراسه أو كتابا " من كتبه، للمنع عن التصرف فيه الموجب
لعدم انعقاد النذر عليه فيما زاد على الثلث إلا بالإجازة.
ومنه يظهر الوجه في التفصيل فيما لو اشترى من ينعتق عليه في مرضه
بين ما لو اشتراه بثمن في الذمة فإن الثمن دين والانعتاق قهري بحكم
الشرع، وما لو اشتراه بعين من أمواله، فإن الانعتاق وإن كان قهريا " إلا
أن الثمن مفوت على الوارث، فينفذ من ثلثه، وفي الزائد يتوقف على
الإجازة، من غير فرق بين كون الشراء بملزم كالنذر أو بغير ملزم
في الصورتين.
ودعوى أن بذل الثمن المعين فيه إنما هو بإزاء ما يساويه في القيمة
ومثل هذه المعاوضة ينفذ من الأصل بلا خلاف، لعدم المحاباة فيه:
(مدفوعة) باتحاد المناط بينه وبين المحاباة في صدق التفويت عرفا " عند
الاقدام على هذه المعاوضة بعد احراز عدم سلامة المعوض له فتأمل.
ولو تصدق طلبا " للعافية لا لرجاء الثواب فكبذل الأجرة للطبيب وشراء
الدواء في نفوذه من الأصل أيضا ".
بل ينفذ منه أيضا " بذل كل ما تعود منفعته لنفسه كمؤونته ومؤونة عياله
وأضيافه ولو بنحو التوسعة، كما لو وقع منه ذلك في حال الصحة، بلا خلاف
أجده فيه. ولو أجاز المريض المعقود على ماله فضولا بما يفيد التمليك بالمحاباة
أو مجانا ". بناء على جريانه في غير البيع أيضا "، نفذ من الثلث على القول
به، بناء على النقل، وكذا على الكشف لو وقع العقد في المرض أيضا
ولو وقع قبله فالأظهر ذلك أيضا " لكون الاستناد إلى المالك إنما هو بالإجازة
الواقعة في المرض، لا سيما على الكشف الحكمي. ويحتمل نفوذه من الأصل
فيه على الكشف الحقيقي (1)

(1) أي بناء على جريان العقد الفضولي في غير البيع من أنواع
العقود كما هو الصحيح لانطباق الأدلة عليه.
أقول: ذكر فقهاؤنا رضوان الله عليهم في كتاب البيع من
موسوعاتهم الفقهية: أن من جملة شروط المتعاقدين أن يكونا نافذي التصرف
فعلا وفرعوا على ذلك مسألة عقد الفضولي وهو الشخص الثالث الكامل
التصرف، غير المتعاقدين وهو: إما أن يعقد للمالك، أو لنفسه، والأول:
فقد يسبقه منع المالك، وقد لا يسبقه.
والقدر المتيقن من شمول أدلة الجواز والصحة هو الفضولي العاقد للمالك
غير المسبوق بالمنع، وإن قيل بالبطلان لأدلة ضعيفة.
وأما في صورة سبق المنع من المالك، فالقول بالبطلان معروف،
وإن كان الأقوى والأشهر الصحة أيضا " لشمول الأدلة العامة له.
وكذلك الكلام في الصورة الثالثة المتمحضة في الغاصب غالبا "
فقد اشتهر القول بالطلاق لعدة أدلة، ولكن الحق والأشهر هو الصحة
لمشموليته أيضا " للعمومات غير المفرقة بين المقامين.
هذا وقد اختلفوا في أصل جواز عقد الفضولي وعدمه مطلقا "، والتفصيل
المذكور بين العاقد للمالك بقسميه جوازا "، ولنفسه منعا "، والتفصيل
بين العقود جوازا "، والايقاعات منعا "، إلى غيرها من الخلافات المفصلة في
بابها من كتب الفقه ولكل قول أدلة ومؤيدات، لا يسع المجال استعراضها.
والظاهر كما تعضده الأدلة المفصلة في مضانها صحة عقد الفضولي
بل وايقاعه أيضا "، للعمومات الشاملة لجميع الأنواع، ولخصوص بعض الأدلة
الواردة في موارد التفصيل المذكورة.
وكذلك بناء على صحة الفضولية لا فرق بين كون الثمن
شخصيا "، أو كليا " في ذمة الأصيل، كما لا فرق أيضا " في صحة الفضولي
بين العقود اللفظية أو المعاطاة على القول بإفادتها للملك في نفسها.
ولا بد أن يتعقب عقد الفضولي بناء على جوازه مطلقا " أو على
بعض التفصيلات الآنفة الذكر: أما إجازة المالك ذلك العقد بحكم
كونه أحد طرفيه، فيصح، وأما الرد، فيبطل. فالكلام بإيجاز إذا
حول الإجازة، والمجيز، والمجاز، فنقول:
أما الإجازة بالنسبة إلى عقد الفضولي، فلا بد من حصولها في تصحيحه:
أما بناء على كونها جزء السبب في التأثير، أو شرط الصحة على غرار
الشرط المتأخر بناء على امكانه في نفسه أو شرطية وصف التعقب
المقارن العقد كما ستعرف وعلى كل فقد اختلفوا في تخريج ارتباط
الإجازة المتأخرة بالعقد المتقدم على أقوال.
الأول النقل، أي أنها ناقلة ومصححة للعقد من حين صدورها
من المالك، ولا تترتب آثار العقد من النقل والانتقال والثمرات الأخرى
إلا من حين صدورها، لا من حين صدور العقد، حتى كأن العقد الصحيح
وقع من الآن، لا من ذي قبل.
هكذا قبل في تصوير النقل، وإن أشكل عليه بلزوم تأثير المعدوم،
فإن العقد المتقدم حال الإجازة المتأخرة معدوم، وليست الإجازة تمام
السبب في النقل، بل هي إما جزؤه مع العقد، أو شرط صحته، وتمام
السبب هو العقد.
ولكن الحق صحة التصوير ودفع الاشكال بأن العقد ليس نفس
الألفاظ حتى ينعدم بتصرم الزمن، وإنما هو المعنى الاعتباري الحاصل من
الألفاظ إلى حين الإجازة، فهي ليست لاحقة بأمر معدوم، وليس للأمر
المعدوم وهو الألفاظ أي صعيدية في ترتب الآثار والأحكام.
الثاني الكشف، بمعنى أن الإجازة المتأخرة كاشفة عن صحة
العقد السابق، وباعثة على ترتب الآثار من حينه، لا من حينها، حتى كأن
الإجازة وقعت مقارنة للعقد.
وربما قيل بامتناع الكشف على هذا التصوير لاستلزامه القول بالشرط
المتأخر، وهو محال التعقل كتأثير المعدوم، وتقدم المعلول على علته،
ولكن الحق امكان تصور الشروط المتأخرة في التشريعيات كالتكوينيات
ولذلك عدة تخريجات، منها على رأي المحقق الخراساني قدس سره
في كفايته: من أن العلة في الأمور الاعتبارية التي لا وجود لها إلا بمنشأ
انتزاعها ليس إلا لحاظ ما هو منشأ الانتزاع، فكما يمكن لحاظ المقارن يمكن
لحاظ المتقدم والمتأخر على حد سواء. ومنها على رأي صاحب الفصول
على ما حكي عنه من أن شرط الصحة في العقد الفضولي، هو وصف
تعقب الإجازة، لأنفسها، وهذا الوصف والعنوان حاصل حين العقد،
فليس من قبيل الشرط المتأخر واقعا ".
ويظهر من القائلين بالكشف أنهم صوروه بتصويرات ثلاثة.
كشف حقيقي بمعنى أن الإجازة المتأخرة تكشف عن تأثير العقد من
حين تحققه تأثيرا " تاما "، وهو القول المشهور بين الفقهاء الذين يتهضمون
تأثير الشرط المتأخر بالرغم من تأخر زمانه.
وكشف تعبدي، وهو نفس الأول مع تخريج التأخير بتصور اللحاظ
كما عليه الآخوند أو التعقب كما عليه الفصول وذلك مذهب
غير المتهضمين لتأثير الشرط المتأخر من الفقهاء فهما بحسب الواقع
معنى واحد، وإن اختلفا بحسب المبنى، والتخريج.
وكشف حكمي، وهو معنى وسط بين الكشف الحقيقي، والنقل،
والتفصيل بين آثار العقد وأحكامه في ترتيب بعضها من حيث العقد وتعطيل
بعضها الآخر إلى حين الإجازة، فالإجازة المتأخرة لا تؤثر بالنقل والانتقال
في الملكية من حين العقد، ولكنها تؤثر من حينه في النماءات غير
المملكة، فهو من حيث ترتب النماءات غير المملكة، كشف حقيقي،
ومن حيث عدم ترتب ملكية المبيع إلى المشتري الأصيل، نقل حقيقي،
ولهذا كان وسطا " بين الاثنين.
وهناك ثمرات وآثار تختلف في ترتبها باختلاف المباني في الإجازة
بين الكشف بأنواعه والنقل، ولعل من أهمها موضوع النماءات الحاصلة
بعد العقد، فبناء على الكشف الحقيقي والتعبدي هي لمن انتقلت العين
إليه، وهو المشتري الأصيل، وعلى الكشف الحكمي والنقل هي لمن انتقلت
عنه، وهو المالك.
وهناك ثمرات بين أنواع الكشف والنقل ذكرت في أبوابها من كتب
الفقه، لا يسعنا استعراضها في هذا المجال.
ثم إن الأنسب بالقواعد من أقوال الإجازة هو النقل ثم الكشف الحكمي
ثم التعبدي. وأما الحقيقي مع اعتبار الإجازة جزء سبب أو شرطا "
للتأثير، فمشكل بدون تأويل وتخريج كما عرفت والإجازة من المالك
قد تكون بالقول الصريح مثل (أجزت وأمضيت) ونحوهما، وقد
تكون بغيره، كالكتابة والإشارة والفعل، وكل ما يدل بصراحة على الرضا
بمضمون العقد.
ولا تورث الإجازة، لأنها من الأحكام ومن شؤون السلطنة على
الملك، وليست من الحقوق القابلة للإرث. وينبغي مطابقة الإجازة للعقد
المجاز، اطلاقا " وتقييدا " من حيث الثمن والمثمن، والاعتبارات الأخر،
لأنها من متمماته، سواء قلنا بكونها جزء سبب أو شرطا " في الصحة.
ويشترط في الإجازة: أن لا يسبقها الرد من المالك، لأنها تجعل
المجيز أحد طرفي العقد، فلا بد من تحقق رضاه به، ومع سبق الرد
لا يتحقق ذلك.
ولا تعتبر الفورية فيها، بل للمالك حق الإجازة أو الرد في أي وقت
شاء، بحكم ارتباط العقد به، ولصدق العمومات عليه كآيتي البيع، والعقود
في أي وقت، غاية الأمر أن ينفتح باب خيار الفسخ للمشتري الأصيل
عند تضرره بالتأخير.
وأما المجيز وهو المالك فلا بد من كونه جائز التصرف بالبلوغ
والعقل، والاختيار وعدم الحجر المالي لفلس أو سفه ونحوهما أو مرض
موت بناء على عدم نفوذ منجزات المريض من الأصل كما هو الحق في
المسألة بلا فرق في ذلك بين البناء في الإجازة على الكشف بأنواعه
أو النقل.
وهل يكفي توفر ذلك الشرط وهو جواز التصرف حين الإجازة،
أم لا بد من تحققه حين العقد أيضا "؟ قولان في المسألة:
والظاهر كفاية توفره حين الإجازة فقط، وإن كان حين العقد ممنوع
التصرف، فلو كان محجورا " حين العقد، وارتفع حجره حين الإجازة صحت
إجازته، بخلاف العكس، إذ الملاك صحة تصرفه فيما يؤول إليه من
التصرفات بالخصوص، فإن الإجازة تصرفه، والعقد تصرف غيره.
وأما المجاز وهو عقد الفضولي فلا كلام لنا في اعتبار ما يعتبر
في غيره من العقود اللفظية، لأنه من مصاديقها، بحكم الأدلة المجوزة
وإنما الكلام في أن الشروط ههنا هل يعتبر اجتماعها في العقد حين العقد،
أم حين الإجازة؟، أم من زمان العقد إلى زمان الإجازة؟ وجوه ثلاثة
في المسألة؟
والتحقيق كما يترائي من أدلة المقام التفصيل بين الشروط،
فبعضها دخيل في ماهية العقد وتقومه كالقصد والعقل والتمييز والبلوغ
على القول به في المتعاقدين، وكالمالية والملكية في العوضين، وكالتنجيز
والعربية بناء عليها في ألفاظ العقود، فهذه ونحوها لا بد من اعتبارها
في حال العقد، إضافة إلى حال الإجازة، إذ بدونها يختل صدق
العقدية حينئذ، وعقد الفضولي كما هو الحق هو العقد المتكامل القابل
للتأثير لولا رضا المالك.
وبعض الشروط ليس لها دخالة في تقوم العقد ككون المعاملة غير
غررية أو غير ربوية وكون العوضين غير نجسي العين أو محرمين كالخمر
وآلات القمار، ونحو ذلك، فلا حاجة إلى توفرها حين العقد، بل بكفي توفرها حين
تحقق الإجازة، وإن كانت حين العقد مفقودة.
(وفي كتاب البيع من الموسوعات؟ الفقهية بحوث مفصلة وفروع
مفيدة في الإجازة والمجيز والمجاز لا يسع المقام ذكرها).
12

ثم إن التصرف الممنوع عنه يعم التصرف في العين أو المنفعة المملوكة
بحيث لولاه لكان موروثا "، فلا يشمل تصرفه بإجارة نفسه بدون أجرة المثل،
13

وتزويج المرأة نفسها بأقل من مهر المثل، لعدم التفويت على الوارث بخلاف
نقل منفعة العبد أو الأمة بدون المثل لدخولها في المحاباة بعد أن كانت متمولة
14

مملوكة، بل ولا يشمل ما كان من الحقوق باسقاطها نحو حق الشفعة وحق
الخيار، وإن كان مآله المال، بخلاف الابراء من الدين.
15

فظهر أن محل النزاع إنما هو في المنجزات المتبرع بها، تمليكا " كان أو فك
ملك مجانا " أو بمعاوضة محاباتية.
16

إذا عرفت ذلك، فنقول: ليعلم أولا، إن معنى كون المنجزات من
الأصل على القول به واضح، ومعناه على القول به من الثلث
17

كونه موقوفا " مراعى إلى أن يكشف الحال بالبرء الكاشف عن النفوذ من
الأصل من حين التصرف، أو بالموت الكاشف عن نفوذه من الثلث كذلك
18

إذا كان بقدره، ونفوذ قدر الثلث منه إذا كان قاصرا " عنه، وبطلانه في
الزائد عليه مع عدم الإجازة من حين التصرف، فيكون الموت كاشفا " عن
تعلق حق للورثة بالمال من حين المرض الموجب لعدم نفوذ التصرف فيما
لهم فيه حق إلا بإجازتهم، كالوصية التي تبطل من حينها فيما زاد على الثلث
مع عدم الإجازة.
(وتوهم) الفرق بأن الوصية اخراج للمال عن الملك في زمان
ينتقل فيه المال إلى الورثة لا يملك منه إلا الثلث، وفي المقام اخراج له
عن ملكه حينما يملك المال كله (فاسد) لأنه يكفي في المنع تعلق حق الغير
به كالرهن الممنوع عن تصرف المالك فيه، لتعلق حق الاستيفاء به، وإن
كان مملوكا " له.
لا يقال: لم لا نحكم بنفوذه من الأصل في الواقع، وللوارث ابطاله
عند الانتقال إليه، فينفذ حينئذ من الثلث من حين الموت كالفسخ بالخيار
الموجب للبطلان من حينه لا من حين العقد.
لأنا نقول: بعض التصرفات بعد فرض وقوعه صحيحا " في الواقع
لا يمكن طرو الفساد عليه كالعتق الموجب للتحرير، إذ لا يعود الحر ملكا "
وكالوقف المأخوذ في معناه التأبيد، ولا قائل بالتفصيل بين ما يقبل طرو
الفساد وغيره. هذا بالنسبة إلى حكمة المسألة في الواقع. وأما في مرحلة
الظاهر، فهل للمالك المتصرف في مرضه تنفيذ تصرفه وتسليط المعطى له
على المال بالتسليم له، أو التخلية بينه وبينه مطلقا " أم لا كذلك؟ وجهان:
والأوجه بل الأقوى هو الأول
ويحتمل التفصيل بين ما يسعه الثلث حين التصرف وما لا يسعه كذلك،
فله التنفيذ في الأول، لأصالة سلامة المال عن التلف مع عدم تعين حق
الوارث في خصوص ما تصرف فيه، وليس له ذلك في الثاني، لأصالة
19

عدم تجدد مال له بعد التصرف حتى يتدارك به حق الوارث فيما تصرف فيه.
وفيه: أن شرط الصحة وفاء الثلث به عند الوفاة، لا حين التصرف،
وأصالة سلامة المال لا يثبت بها عنوان الوفاء عند الوفاة، لأنها من الأصول
المثبتة التي لا معول عليها (1).

(1) المتيقن إن الشارع المقدس يأمر بعدم نقض اليقين والمضي عليه
إلا بيقين مثله. وذلك هو معنى أصل الاستصحاب. أي أنه يوجب ترتيب
آثار الشئ المتيقن الثابتة بواسطة اليقين، وتلك الآثار لا بد أن تكون هي
الآثار الشرعية المجعولة من قبل الشارع لأنه هو الآمر بترتيبها ولأنها هي
القابلة للجعل الشرعي دون غيرها من الآثار العقلية والعادية.
وعليه فإن المتيقن المستصحب: إما أن يكون نفسه حكما " من الأحكام
الشرعية المجعولة من قبل الشارع كوجوب شئ أو حرمته أو إباحته وأمثالها،
وإما أن يكون من الموضوعات الخارجية أو اللغوية ونحوهما كحياة زيد
وموته، وكرية الماء ورطوبة الإناء وغير ذلك مما هو سوى الأحكام الشرعية
ومعنى الاستصحاب في القسم الأول هو أن المجعول في زمان الشك حكم
ظاهري مساو للحكم المتيقن في زمان اليقين في جميع الآثار المترتبة عليه،
وذلك هو معنى وجوب البقاء عليه.
وأما في القسم الثاني فليس المجعول في زمان الشك جميع الآثار
المترتبة على المتيقن في زمان اليقين، بل المجعول الآثار الشرعية منها فقط
دون العقلية والعادية ودون ملزوماته وما هو ملازم معه لملزوم ثالث يشتركان
في الترتب عليه وغير ذلك، فاستصحاب حياة زيد مثلا معناه الأمر بوجوب
ترتيب الآثار الشرعية فقط التي كانت في حال اليقين حال الشك كصيانة
أمواله وحرمة تزويج زوجته وأمثالهما، وليس معناه ترتيب جميع الآثار
حتى العادية والعقلية كاستمرار نموه ونبات شعره ونحوهما على أنه ربما
يترتب على تلك الآثار العادية حكم شرعي كما لو نذر الصدقة عند نبات
شعر ولده، ولكن المستصحب هو الحياة، فلا بد أن يكون المترتب عليها
مباشرة هي الآثار المجعولة شرعا ". وما سوى ذلك من ترتب الآثار العادية
أو العقلية هي المصطلح عليها بالأصول (المثبتة) التي لا يعول عليها الشارع
الآمر بالاستصحاب. وتأتي في التطبيق على ما نحن فيه فنقول: إن سلامة
المال من التلف ليس بنفسه حكما " شرعيا " حتى يصح استصحابه على ضوء
القسم الأول، بل هو من الموضوعات الخارجية، وعليه فوفاؤه بالثلث
وسعته له ليس من الآثار الشرعية للسلامة ليصح استصحابه على ضوء القسم
الثاني منه. وإنما ذلك أثر عادي ولازم خارجي للمال لا ينتهي إلى الشارع
بصلة حتى يأمر بترتيبه على المال حال الشك، كما كان حال اليقين، إلا
على تخريج الأصل المثبت غير المعتبر شرعا " كما عرفت هذا بإيجاز،
وللتفصيل مظانه من كتب الأصول.
20

ووجه الثاني وهو المنع مطلقا " أن المريض بالمرض المعقب بالموت
ليس له سلطنة تامة في ملكه كما كان له في حال الصحة وجواز التنفيذ
فرع وجود السلطنة كذلك عليه، وهو غير محرز بعد أن كان المرض
محفوظا " بظهور الأمارات الردية الكاشفة غالبا " عن تعقب الموت. نعم ليس
له أن يتصرف تصرفا " منافيا " للتصرف الأول إن كان ملزما "، للزومه من قبله،
وإن توقف نفوذه على انكشاف الحال، فهو نظير الأصيل في البيع الفضولي
قبل الإجازة، بناء على لزومه بالنسبة إليه (1)، بل هنا أولى منه.
وفيه أيضا " أن مرجع الشك في الجواز وعدمه إلى الشك في تعلق

(1) يريد بالأصيل: طرف الفضولي، سواء كان بائعا " أم مشتريا "،
فإن المعاملة من قبله لازمة إلى أن يأتي دور الإجازة أو الرد من قبل
المالك الحقيقي، وإن لم يجز له التصرف بما تحت يده حينئذ.
21

حق الغير به وعدمه، والأصل عدمه، وهو مقدم على الظاهر حيث فرض
وجوده إلا في مورد قام الدليل على تقديمه عليه.
وبالجملة: ليس مطلق المرض سببا " للمنع عن التصرف وموجبا " لتعلق
حق الغير بالمال، بل السبب المرض الخاص، وهو المعقب بالموت، فالشك
فيه شك في وجود السبب، والأصل عدمه، واستصحاب السلطنة السابقة
على المرض محكم، فالأقوى الجواز مطلقا، ولعله الوجه في قيام السيرة على
عدم الضبط على المريض في تصرفاته والمنع عن بعضها، مع أن القول
بنفوذه من الثلث منسوب إلى مشهور المتأخرين، بل في موضع من (المسالك)
إلى عامتهم (1) ومنه يظهر ضعف الاستدلال به للقول بنفوذه من الأصل
كما ستعرف.
هذا ولا فرق فيما ذكرنا من جواز التنفيذ مطلقا " بين كون المنع عن
التصرف لتعلق حق الغير به، أو للتعبد، وإن كان لحكمة الارفاق بالوارث
لأن الشك فيه حينئذ شك في التكليف، والأصل عدمه، غير أن الأصل
فيه على الأول موضوعي، وعلى الثاني حكمي (2).

(1) قال الشهيد الثاني رحمه الله في كتاب الوصايا القسم الثاني
من اللواحق في تصرفات المريض عند شرحه لقول المحقق: وأما منجزات
المريض إذا كانت تبرعا "... (. إذا تقرر ذلك فنقول: اختلف
الأصحاب في تصرفات المريض المنجزة المتبرع بها على ذلك الوجه، فذهب
الأكثر ومنهم الشيخ في المبسوط والصدوق وابن الجنيد وسائر المتأخرين
إلى أنها من الثلث كغير المنجزة.)
(2) والفرق بينهما أن الأصل الموضوعي ما كان فيه مجرى الاستصحاب
من الموضوعات الخارجية كحياة زيد وموته مثلا - والأصل الحكمي
ما كان مجرى الاستصحاب فيه حكما " من الأحكام الشرعية كوجوب الامتثال وحرمة
الارتكاب مثلا، ففي مثال ما نحن فيه: يكون استصحاب تعلق حق الغير
موضوعيا "، لا تترتب عليه إلا آثاره الشرعية المجعولة فقط، بخلاف ما إذا
كان المنع للتعبد الشرعي فإنه، استصحاب حكمي بنفسه.
22

نعم ربما يظهر الفرق بينهما في نفوذ الإجازة وتأثيرها لو أجاز قبل
الموت على الأول، لتضمنها معنى الاسقاط وعدمه على الثاني، لعدم
جريانها في الأحكام.
اللهم إلا أن يقال بتأثيرها، وإن لم يتعلق حق بالمال، كالوصية التي
تنفذ فيما زاد على الثلث لو أجاز الوارث في حياة الموصى وصحته، بناء على
الأشهر فيه، مع عدم تعلق حق للوارث بالمال حين الإجازة، وليس معنى
الإجازة فيها إلا الرضا بعد الإرث، لا الاسقاط الذي لا يتعقل قبل
ثبوت الحق، فليكن هنا كذلك وإن قلنا به للتعبد.
ولكن فيه مع ذلك: أن لزوم الالتزام بعدم الإرث في الوصية على
القول به إنما هو لقيام الدليل عليه فيها المحمول على ذلك، دون الاسقاط
المفروض كونه من إسقاط ما لم يجب، ولم يقم مثله دليل في المقام حتى
يجب حمله على ذلك.
وعليه فتظهر الثمرة بينهما في ذلك، بل ربما احتمل ظهور الثمرة
بينهما أيضا " في نفوذ اقراره في مرض الموت على تقدير كون المنع للتعبد،
لأن المنع عن التصرف لذلك لا يستلزم المنع عن نفوذ الاقرار بعد عموم
دليله، وعدم نفوذه على تقدير كون المنع مسببا " عن تعلق حق الغير به
لكونه حينئذ من تعلق الاقرار بحق الغير فلا ينفذ، ولذا وقع الخلاف في
نفوذه من أهل القول بنفوذ المنجزات من الثلث كما ستعرف.
وهو فاسد في كل من طرفيه: أما الأول، فعلى اطلاقه لأنه يمكن
أن نقول بنفوذ المنجز من الثلث تعبدا "، ونقول مع ذلك بعد نفوذ
23

الاقرار مع التهمة، للدليل الدال على عدمه معها، المخصص لعمومات
أدلة الاقرار. وأما الثاني فلأن حق الوارث بناء عليه إنما هو متعلق بمال المورث وتركته
التي ليس المقر به منها بحكم أدلة الاقرار، ولا يقاس بعدم نفوذه في المفلس المحجور
عليه لو أقر بالعين دون الدين، إذ لعل المانع عنه فيه هو حجر الحاكم
الذي هو بمنزلة حكمه النافذ لا لتعلق حق الغرماء، وإن علل به في بعض
عباراتهم، لكونه من المصادرة المحضة (1)، كيف ولولاه لأمكن دعوى
نفوذ إقراره فيه أيضا "، كما قيل به، وإن كان الأقوى عدم نفوذه هناك
ونفوذه في المقام.
إذا تبين لك ذلك كله، فلنرجع إلى الأقوال في المسألة وأدلتها فنقول:
القول بنفوذه من الأصل هو المحكي عن (المقنعة) واختاره الشيخ
(في النهاية) والخلاف، وهو صريح (الإنتصار) و (الغنية) وبني
حمزة والبراج وإدريس و (كشف الرموز) والقمي (ره) في (أجوبة مسائله)
وجدي في (الرياض) وولده الخال في (المناهل) وصاحب (الحدائق)
حاكيا " له أيضا " عن الشيخ الحر العاملي، والمحدث الشيخ عبد الله بن صالح
البحراني، واختاره المقدس الأردبيلي في (شرح الإرشاد) والسبزواري
في (الكفاية) وشيخنا المرتضى في بعض تحريراته، وعمنا الأستاذ في
(ملحقات برهانه) بل في (السرائر): إنه الأظهر بين الطائفة، وفي موضع
آخر منه: أنه الصحيح من المذهب، وفي (الكشف للآبي) نسبته إلى الأكثر
وقيل: إنه المشهور عند القدماء، بل في (الإنتصار) و (الغنية) دعوى
الاجماع عليه.
وها نتلو عليك جملة من عباراتهم تسهيلا للوقوف عليها عند الحاجة:
قال الشيخ في (هبة النهاية): " والهبة في حال المرض صحيحة

(1) المقصود من المصادرة: هو فرض الحكم والدعوى بلا دليل.
24

إذا قبضها وليس للورثة الرجوع فيها، فإن لم يقبضها ومات كان ما وهب
راجعا " إلى الميراث، وكذلك ما يتصدق به في حال حياته، والبيع في
حال المرض صحيح كصحته في حال الصحة إذا كان المريض مالكا " لرأيه وعقله (1)
وقال في (الخلاف في باب الهبة): إذا وهب في مرضه المخوف شيئا "
وأقبضه ثم مات فمن أصحابنا من قال: لزمت الهبة في جميع الموهوب، ولم
يكن للورثة فيها شئ، ومنهم من قال: يلزم في الثلث ويبطل فيما زاد
عليه، وبه قال جميع الفقهاء، دليلنا على الأول: أخبار الطائفة المروية في
هذا الباب، والرجوع إليها هو الحجة في هذه المسألة (2).
وفيه أيضا " في باب الوصية: " تصرف المريض فيما زاد على الثلث
إذا لم يكن منجزا " لا يصح بلا خلاف، وإن كان منجزا " مثل العتاق والهبة
والمحاباة فلأصحابنا فيه روايتان: إحديهما أنه يصح والأخرى أنه لا يصح
وبه قال الشافعي وجميع الفقهاء، ولم يذكروا فيه خلافا "، دليلنا على الأول
الأخبار المروية من طرق أصحابنا ذكرناها في الكتاب الكبير " (3)
وفيه أيضا " في باب الشفعة: " إذا باع في مرضه المخوف شقصا "
وحابى فيه من وارث صح البيع، ووجبت به الشفعة بالثمن الذي وقع
عليه البيع، وعند الفقهاء يبطل البيع لأن المحاباة هبة ووصية، ولا وصية
لوارث، ويبطل في قدر المحاباة إلى أن قال دليلنا أن هذا بيع صحيح فمن
جعل المحاباة فيه وصية فعليه الدلالة " (4).

(1) راجع: كتاب الوصايا، باب الاقرار في المرض والهبة فيه،
ص 620 طبع دار الكتاب العربي بيروت.
(2) راجع: مسألة (21) وهي آخر مسألة من كتاب الهبة.
(3) راجع: مسألة 12 من كتاب الوصايا. وبقصد بالكتاب الكبير: التهذيب.
(4) راجع: مسألة 40 من كتاب الشفعة.
25

وقال في (السرائر) في (باب الهبات): (إذا وهب في مرضه
المخوف شيئا " وأقبضه ثم مات فمن أصحابنا من قال: تلزم الهبة في جميع
الشئ الموهوب، سواء كان الثلث أو أكثر من الثلث، وهو الصحيح
من المذهب الذي تقتضيه الأصول) (1).
وأيضا " فيه في باب الوصية: (لأن ذلك ليس بتدبير، وإنما
ذلك عطية منجزة في الحال، والعطايا المنجزة صحيحة على الصحيح من المذهب
لا تحسب من الثلث، بل من أصل المال) (2).
وأيضا " في موضع آخر منه: (قال محمد بن إدريس (ره) إن أراد
بأنه بت عتقه في حال حياته ولم يجعله مدبرا " بعد موته فإنه ينعتق جميعه
ولا يستسعى في شئ لأن هذه عطية منجزة في الحال إلى أن
قال: إلا على مذهب من قال من أصحابنا أن العطايا المنجزة تكون أيضا "
مثل المؤخرة تخرج من الثلث إذا كانت في مرض الموت، والأول هو الأظهر
بين الطائفة وعليه الفتوى وعليه العمل (3).
وفيه أيضا " في باب المهور من كتاب النكاح: (والصحيح أنها إذا

(1) راجع باب الهبات والنحل من كتاب الوقوف والصدقات
ص 382 الطبعة العلمية في قم سنة 1390 ه‍.
(2) راجع باب الوصية من كتاب الصدقات ص 386 الطبعة الثانية
في قم، أثناء عرض مسألة: ما إذا أوصى بعتق عبده وكان دين.
(3) المسألة في كتاب الصدقات، باب الوصية المبهمة والوصية بالعتق
ص 390 من الطبعة الآنفة. وهذه الجملة ذيل لكلام الشيخ الطوسي رحمه الله
وأصل المسألة هكذا: قال شيخنا رحمه الله في نهاية: وإن أعتق مملوكا "
له بعد موته ولا يملك غيره أعتق ثلثه واستسعى فيما بقي لورثته، قال محمد ابن إدريس..
26

أبرأته من مهرها سقط جميعه، وصح الابراء لأن هذا جميعه ليس بوصية
وإنما هو عطية منجزة قبل الموت والوصية بعد الموت، وإنما هذه الرواية
على مذهب من قال من أصحابنا: إن العطاء في المرض، وإن كان منجزا "
يخرج من الثلث مثل العطاء بعد الموت، والصحيح من المذهب أن العطاء
المنجز في حال مرض الموت يخرج من أصل المال لا من الثلث لأنه قد
أبانها من ماله وتسلمها المعطى وخرجت من ملك المعطي، لأنه لا خلاف أن
له أن ينفق جميع ماله في حال مرضه، فلو كان ما قاله بعض أصحابنا
صحيحا " لما جاز ذلك ولما كان يصح منه النفقة بحال (1).
وقال السيد في (الإنتصار): (ومما انفردت به الإمامية أن من
وهب شيئا " في مرضه الذي مات فيه إذا كان عاقلا مميزا " تصح هبة ولا يكون
من ثلثه، بل يكون من صلب ماله، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهبوا
إلى أن الهبة في مرض الموت محسوبة من الثلث، دليلنا الاجماع المتردد،
ولأن تصرف العاقل في ماله جائز، وما تعلق للورثة بماله حق، وهو
حي، فهبته جائزة، ولذلك صح بلا خلاف نفقة جميع ماله على نفسه

(1) راجع هذه المسألة في باب المهور من كتاب النكاح ص 303
من الطبعة الآنفة الذكر، والعبارة هذه تتبع مسألة ما إذا أبرأت المرأة
زوجها من جميع مهرها في حال مرضها ولم تملك سواه. وقبل هذه العبارة
هكذا: وروي أنه لا يجوز للمرأة أن تبرئ زوجها من صداقها في حال
مرضها إذا تملك غيره، فإن أبرأته سقط عن الزوج ثلث المهر وكان الباقي
لورثتها، أورد هذه الرواية شيخنا في نهاية ايرادا " لا اعتقادا "، كما أورد
أمثالها مما لا يعمل هو به ورجع عنه. لأنها مخالفة للأدلة لأن الانسان
العاقل الغير مولى عليه مسلط على التصرف في ماله، يتصرف فيه كيف
يشاء، والصحيح.
27

في مأكل ومشرب) (1).
وقال في (الغنية في باب الهبة): (والهبة في المرض المتصل
بالموت محسوبة من أصل المال لا من الثلث بدليل الاجماع المشار إليه) (2).
وقال ابن البراج في الوصية: (إذا جمع بين عطية منجزة وعطية
مؤخرة دفعة واحدة ولم يخرجا من الثلث كيف يفعل بهما؟ الجواب: إذا جمع
بين ذلك ولم يخرجا من الثلث قدمت العطية المنجزة لأنها سابقة وتلزمه في
حق المعطى فيجب فيها ما ذكرناه من التقديم على المؤخرة التي لم تلزم
انتهى) فتأمل (3).
وقال في الوسيلة في باب الوصية: (فإن أوصى في حال الصحة
أو في المرض غير المخوف أو المشتبه ونجز كان من أصل المال) انتهى (4)
وظاهره يعطي القول به من الثلث وإن كان المحكي عنه على لسان
غير واحد القول به من الأصل.
وفي (كشف الرموز) بعد ذكر أدلة القولين: (والأشبه أن
جميع تصرفاته من الأصل لوجوه إلى أن قال الرابع: لفتوى أكثر

(1) راجع (الإنتصار للمرتضى) بعنوان مسائل شتى: مسألة في
الهبة أيضا ": ص 224 طبع النجف الأشرف سنة 1391 ه‍.
(2) راجع: الغنية للسيد أبي المكارم بن زهرة المطبوعة ضمن
(الجوامع الفقهية): فصل في الهبة.
(3) راجع كتاب: جواهر الفقه للقاضي بن البراج المطبوع ضمن
الجوامع الفقهية في إيران آخر باب المسائل التي تتعلق بالوصايا.
(4) وتتمة العبارة هكذا: وإن لم ينجز كان من الثلث، راجع
الوسيلة إلى نيل الفضيلة لابن حمزة المطبوع ضمن الجوامع الفقهية بعنوان
فصل في بيان أحكام الوصية.
28

الأصحاب (1) وقال السبزواري في (الكفاية): (وأما التبرعات المحضة
كالهبات والصدقات وما في حكمها كالبيع بأقل من ثمن المثل والشراء بأزيد
منه في القدر الزائد مما أخذه من العوض، فاختلف الأصحاب في حكمها
فقيل أنها تمضي من الثلث، وقيل: من الأصل، وهو أقرب،
للأصل) (2).
وأما القول بنفوذه من الثلث، فهو مذهب جم غفير من الأصحاب
نتلو عليك أيضا " جملة من عباراتهم.
قال الشيخ في (المبسوط) في باب الوصية: (رجل أعتق عبدا " له،
لا مال له غير، في مرضه المخوف، نظر فيه: فإن لم يجزه الورثة بطل العتق
في ثلثي العبد، وصح في الثلث، ويكون الولاء في الثلث له) (3).

(1) كشف الرموز للحسن اليوسفي الآبي، وهو كشف وشرح
لرموز كتاب (المختصر النافع) لأستاذه المحقق الحلي، ولعله أول شرح
لهذا الكتاب. والكتاب لا يزال من نفائس المخطوطات، يقول السيد بحر
العلوم في رجاله المطبوع (ج‍ 2 ص 182): في آخر الحديث عن الكتاب
ومؤلفه: " وعندي من كتابه نسخة قديمة بخط بعض العلماء، وعليها
خط العلامة المجلسي طاب ثراه وفي آخرها: إن فراغه من تأليف
الكتاب في شهر شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وتاريخ نقل النسخة
سنة ثمان وستين وسبعمائة ".
(2) راجع: آخريات كتاب الوصية، الثالثة من مسائل تصرفات
المريض وقبل كلمة: (للأصل) هذه الجملة: وهو أقرب، مع قبول
الأحاديث المعارضة للحمل على الوصية وعدم إبائها عن ذلك، كما فعل مولانا. "
(3) راجع ذلك في أوائل كتاب الوصايا (ج‍ 4 ص 10) طبع
المكتبة المرتضوية إيران.
29

وقال في (الغنية) في عتق المالك عبده: (العتق في مرض الموت
من أصل التركة، إن كان واجبا "، وإن كان متبرعا " به فهو من الثلث) (1).
وفي (النافع) في كتاب الوصية: (الثامنة تصرفات المريض:
إن كانت مشروطة بالوفاء فهي من الثلث، وإن كانت منجزة وكان فيها
محاباة أو عطية محضة، فقولان، أشبههما إنها من الثلث) (2).
وفي موضع آخر منه في الوصية أيضا ": (ولو أعتق مماليكه عند
الوفاة أو أوصى بعتقهم ولا مال له سواهم أعتق ثلثهم بالقرعة (3).
وفي باب الحجر منه أيضا ": (والمريض ممنوع من الوصية بما زاد عن
الثلث، وكذا في التبرعات المنجزة على الخلاف) (4).
وقال في (الشرايع) في باب الحجر: (والمريض ممنوع من الوصية
فما زاد على الثلث اجماعا "، ما لم يجز الورثة، وفي منعه من التبرعات المنجزة
الزائدة عن الثلث خلاف بيننا، والوجه المنع) (5).
وفي كتاب الوقف منه أيضا ": (أما لو وقف في مرض الموت:
فإن أجاز الورثة، وإلا أعتبر من الثلث كالهبة والمحاباة في البيع، وقيل:

(1) بهذا المضمون لا بنصه يوجد في فصل الهبة من كتاب الغنية.
(2) المختصر النافع للمحقق الحلي، كتاب الوصايا، آخر أحكام
الوصية ص 193 طبع النجف.
(3) نفس المصدر الآنف، وأوائل المسألة هكذا: (الخامسة
إذا أوصى بعتق عبده أو أعتقه عند الوفاة، وليس له سواء، انعتق ثلثه
ولو أعتق ثلثه عند الوفاة، وله مال، أعتق الباقي من ثلثه..).
(4) أنظر: آخر كتاب الحجر ص 170 من نفس الطبعة.
(5) راجع: آخر الفصل الأول من كتاب الحجر، أول ص 102
من ج‍ 2 طبع النجف سنة 1389 ه‍،
30

يمضي من أصل الشركة، والأول أشبه (1).
وفي كتاب الهبة منه أيضا ": (السابعة إذا وهب في مرضه المخوف
وبرء صحت الهبة، وإن مات في مرضه ولم تجز الورثة اعتبرت من الثلث
على الأظهر) (2).
وفي كتاب العتق منه أيضا ": (الحادثة عشرة: العتق في مرض
الموت يمضي من الثلث، وقيل: من الأصل، والأول مروي) (3).
وقال العلامة في التبصرة " الخامس: المريض وتمضي وصيته في
الثلث خاصة، ومنجزاته المتبرع بها كذلك إذا مات في مرضه) (4).
وقال في وصيته أيضا ": (وتصرفات المريض من الثلث، وإن
كانت منجزة، وأما الاقرار: فإن كان متهما " فكذلك وإلا فمن
الأصل ") 5).
وقال في (التحرير) في كتاب الحجر: (الرابع عشر: المريض
محجور عليه إلا في ثلث ماله في التبرعات كالهبة والصدقة والعتق، ولو

(1) راجع: أوائل كتا ب الوقف: (ج‍ 2 ص 212) من نفس الطبعة.
(2) راجع: آخر كتاب الهبات: (ج‍ 2 ص 232) من نفس الطبعة.
(3) راجع: آخر مسألة من الملحقات بالفصل الأول (ج‍ 3 ص 110)
من طبع النجف.
(4) راجع: الفصل الثالث من كتاب الديون في الحجر
وأسبابه الستة، وهي: الصغر والجنون والسفه والملك والمرض والفلس.
(5) راجع ذلك في آخريات الفصل الثالث في الوصايا من
كتاب الهبات.
31

اشتمل البيع على المحاباة مضى ما قابل رأس المال من الأصل) والزيادة
من الثلث، ولو أجازت الورثة صح جميع ما أجازوا فيه (1).
وقال في كتاب الهبة منه أيضا ": " الثاني عشر: المريض، إذا وهب
وأقبض: فإن برأ أو شرط ثوابا " يوازن القيمة، خرجت من صلب المال،
وإن تبرع بالهبة ومات في ذلك المرض أخرجت من الثلث " (2).
وفي كتاب الوقف منه أيضا ": " وأما المريض فإن برأ من مرضه
صح وقفه، وإن مات فيه أخرج من ثلث المال، ولو أجاز الورثة خرج
من الأصل " (3).
وفي الوصية منه أيضا ": " تصرفات المريض قسمان: مؤجلة ومنجزة
إلى أن قال: وإن وقعت في مرض الموت فقولان أقربهما خروجها
من الثلث، وكذا إذا وهب في الصحة وأقبض في مرض الموت، وأما
الاقرار: فإن كان المريض متهما " كان من الثلث، وإن كان مأمونا " أخرج
من أصل المال " (4).
وفي كتاب العتق منه أيضا: " وكذا لو أعتقه عند موته منجزا "،
ولا شيء غيره، عتق من الثلث " (5).
وفي موضع آخر منه: " والعتق في مرض الموت من الثلث على

(1) راجع ذلك في آخر الفصل الأول من المقصد الرابع من كتاب
الحجر برقم (يد) أي (14) بالحساب الأبجدي.
(2) الفصل الثاني من كتاب الهبة بعنوان (يب أي 12)
(3) راجع ذلك في خلال الفصل الثالث في شرائط الوقف من
فصول المقصد الثاني في الوقف.
(4) راجع: الفصل الثامن منه في تصرفات المريض بعنوان (آ).
(5) راجع: الفصل الرابع منه في الأحكام بعنوان (ط 9).
32

الأقوى " (1).
وموضع آخر منه: " العاشر: لو أعتق المريض ثلاثة متساوية
هي التركة، فعتق أحدهم بالقرعة، ثم ظهر عليه دين مستوعب، بطل
العتق والقسمة " (2).
وقال في موضع آخر بعده: " إذا نذر المريض العتق فالوجه أنه
من الثلث " (3).
وقال في (التذكرة) في باب الوقف: " مسألة: يصح وقف
المريض كما يصح وقف الصحيح، إلا أن بين علمائنا خلافا " في أنه هل
يمضي من الأصل أم الثلث، والمعتمد الثاني " (4).
وقال بعده بمسألة: " تذنيب: ولو وقف في مرض موته وعليه
دين مستوعب بطل الوقف على الأقوى، لأن منجزات المريض كالوصية
عندنا " (5).
وقال أيضا " في كتاب العتق منه: " قد بينا أن الوصية تعتبر من
الثلث فتمضي فيه خاصة، وكذا التبرعات الصادرة في مرض الموت على
الأقوى " ثم فرع على وقوعها من الثلث فروعا ".
وفي (المختلف): بعد نقل القول بالثلث عن جماعة قال: " وهو
المعتمد " (6).

(1) راجع: (حرف ز أي 7) من نفس الفصل.
(2) راجع: رقم (ي أي رقم 10) من نفس الفصل.
(3) راجع: رقم (يا أي 11) من نفس الفصل الآنف.
(4) راجع المسألة العاشرة من مسائل البحث الرابع في اللواحق، والتهذيب في المسألة الحادية عشرة منه.
(5) راجع المسألة العاشرة من مسائل البحث الرابع في اللواحق، والتهذيب في المسألة الحادية عشرة منه.
(6) راجع: كتاب الهبات وتوابعها، الفصل الخامس في الوصايا:
مسألة: عطايا المريض المنجزة، قال: وللشيخ قول آخر في المبسوط
إنها من الثلث وهو قول الصدوق.. الخ.
33

وقال في (الإرشاد) في باب الوصية: " وأما المنجزات الواقعة
في مرض الموت المتبرع بها كالهبة والعتق، ففيها قولان: أقربهما أنها من
الثلث ولو برأ لزمت إجماعا " (1).
وفي الوقف منه: " ولو اشترى المديون المريض أباه، لم يعتق إلا
بعد الدين من الثلث، ولو اشتراه محاباة عتق قدر المحاباة ".
وقال في (القواعد) في باب الوصية: " الفصل الثالث في تصرفات
المريض، وهي قسمان إلى أن قال وأما المعجلة للمريض، فإن كانت
تبرعا " فالأقرب أنها من الثلث إن مات في مرضه وإن برأ لزمت
إجماعا ": (2).
وقال ولده في (الإيضاح) في شرحه: " اختلفت الفقهاء في
تصرفات المريض المنجزة المتبرع بها، أعني التي بلا عوض غير الاقرار،
فقال بعضهم: أنها من الثلث كالمعلقة بالموت، وهو اختيار والدي المصنف
والشيخ في (المبسوط) والصدوق وابن الجنيد، ومفهوم قول الشيخ في
(الخلاف). وقال المفيد في (المقنعة) والشيخ في النهاية وابن البراج وابن إدريس أنها من الأصل، والأول هو الأصح عندي، لوجوه " (3)

(1) راجع: إرشاد العلامة: المطلب الرابع في تصرفات المريض
ضمن المقصد الرابع في الوصايا من كتاب العطايا.
(2) راجع: قواعد العلامة: الفصل الثالث في تصرفات المريض
ضمن المقصد الرابع في الوصايا ضمن كتاب الوقوف والعطايا.
(3) راجع: (ج‍ 2 ص 592 594) الطبعة العلمية بقم
سنة 1388 ه‍.
34

وقال أيضا " في آخر المسألة: " خاتمة: المنجزة المتبرع بها
تشارك الوصايا في خروجها من الثلث عندنا، وتأخرها عن الديون وتزاحم
الوصايا " (1).
وفي (القواعد) في كتاب الوقف منه: " ولو وقف المريض على
ابنه وبنته ولا وارث غيرهما دفعه دارا " هي تركته، فإن أجاز لزم، وإلا
صح في الثلث " (2).
وفي (جامع المقاصد في شرحه): " أي لو وقف المريض على
ابنه وبنته إلى أن قال فإذا رد لم يصح تصرفه فيما زاد على الثلث " (3).
وفي وصية القواعد أيضا ": " والفصل الثالث في تصرفات المريض،
وهي قسمان: منجزة ومعلقة إلى أن قال وأما المعجلة للمريض،
فإن كانت تبرعا " فالأقرب أنها من الثلث، إن مات في مرضه " (4).
وأيضا " بعده قال: " الأقرب عندي أن كل تصرف وقع في مرض
اتفق الموت معه سواء أكان مخوفا " أم لا، فإنه يخرج من الثلث، إن
كان تبرعا " وإلا فمن الأصل، وقيل: إن كان مخوفا " فكذلك وإلا فمن
الأصل كالصحيح " (5).
وقال أيضا " بعده: " مسائل: الأولى الهبة والعتق والوقف

(1) راجع: (ج‍ 2 ص 592 594) الطبعة العلمية بقم
سنة 1388 ه‍.
(2) راجع: الفصل الثاني في اللواحق من الكتاب.
(3) راجع: ذلك في نفس العنوان (قوله): ولو وقف المريض..
(4 و 5) راجع: الفصل الثالث في تصرفات المريض من المقصد
الرابع في صفحة واحدة.
35

والصدقة المندوبة محسوبة من الثلث كالوصية " (1).
وقال في (جامع المقاصد) في شرح كلام الماتن في المواضع الثلاثة:
قال في شرح الموضع الأول: " اختلف الأصحاب في تصرفات المريض
المنجزة إذا كانت تبرعا ": فقال الشيخ في (المبسوط) والصدوق وابن
الجنيد: إنها من الثلث كغير المنجزة، واختاره المصنف، وقال المفيد
في (المقنعة) والشيخ في (النهاية) وابن البراج وابن إدريس: إنها من
الأصل، والمختار الأول " (2).
وقال في شرح قول الماتن في الموضع الثاني: " بعد أن علم أن تصرفات
المريض من الثلث وإن كانت منجزة إذا كانت تبرعا " الخ (3).
وقال في شرح الموضع الثالث: " وجه القرب عموم الأخبار الدالة
على الحجر على المريض فيما زاد عن الثلث " (4).
وفي كتاب الحجر منه بعد قول الماتن " وإن كانت منجزة على
رأي بشرط موته في ذلك المرض قال: " هذا هو الأصح عملا بصحيح
الأخبار " (5).
وقال الشهيد في (اللمعة) في باب الهبة: " ولو وهب أو وقف

(1) راجع: الفصل الثالث في تصرفات المريض من المقصد الرابع
في صفحة واحدة.
(2) العنوان الآنف الذكر في شرح قوله: وأما المعجلة للمريض.. الخ
(3) راجع: نفس العنوان بعد ذلك في شرح قوله: في بيان مرض
الموت: الأقرب عندي.. الخ.
(4) راجع: نفس العنوان بعد ذلك بصفحتين تقريبا " في
شرح قوله: في التبرعات وفيه مسائل.. الخ.
(5) راجع ذلك في نفس الكتاب في شرح قوله: وإن كانت منجزة.
36

أو تصدق في مرض موته فهي من الثلث إلا أن يجيز الوارث " (1).
وفي باب الحجر منه أيضا ": " والمريض ممنوع مما زاد عن الثلث،
وإن تنجز على الأقوى " (2).
وفيه أيضا " في باب العتق في شروط المعتق: " ويشترط بلوغ المولى
واختياره إلى أن قال وكونه غير محجور عليه لفلس أو مرض فيما
زاد عن الثلث " (3).
وفي موضع آخر منه: " فمن أعتق شقصا من عبده عتق كله،
إلا أن يكون المعتق مريضا " ولم ببرء، ولم يخرج من الثلث إلا مع
الإجازة " (4).
وقال (في الدروس في باب العتق): " ووقف المريض: ماض
من الثلث إذا لم يجزه الوارث " (5).
وأيضا فيه في كتاب الوصية: " درس، منجزات المريض المشتملة على

(1) راجع ذلك بعنوان: الثاني الهبة (ج‍ 3 ص 196)
طبع النجف الأشرف سنة 1987 ه‍، وصاحب اللمعة هو الشهيد الأول.
(2) راجع ذلك بنفس المصدر الآنف (ج‍ 4 ص 106 من طبع
النجف الأشرف).
(3) راجع ذلك في كتاب العتق من شرح اللمعة للشهيد الثاني (ج‍ 6
ص 240 241) طبع النجف والعبارة هي المتن للشهيد الأول.
(4) المصدر الآنف نفسه (ص 261 262) بعنوان السراية في
العتق. والمقصود بالشقص بالكسر: الجزء.
(5) هذه الجملة مذكورة في أول كتاب الوقف بعنوان (وله
شروط، أحدها أهلية الواقف).
37

تفويت المال بغير عوض كالهبة والعتق والوقف، أو على محاباة كالبيع بالثمن
الناقص أو الشراء بالزائد، حكمها حكم الوصية في أصح القولين " (1).
وفي (غاية المرام في باب الوصية): " القول إنها من الأصل قول
الشيخ في النهاية إلى أن قال: وقال: في (المبسوط) ومحمد بن بابويه
وابن الجنيد: إنها من الثلث، واختاره المصنف والعلامة وهو المعتمد،
والمستند الروايات " (2).
وقال في المسالك في كتاب الحجر بعد قول المصنف وفي منعه من
التبرعات المنجزة " وفي وقوع هذه وشبهها من أصل المال أو من الثلث
قولان: أحدهما إنها من الأصل إلى أن قال والثاني أنها من الثلث، ذهب
إليه جماعة من المتقدمين، منهم الصدوق والشيخ في أحد قوليه، واختاره
عامة المتأخرين. ومنهم المصنف وهو الأقوى " (3).

(1) راجع: أوائل كتاب الوصية من الدروس للشهيد الأول بعنوان:
(ويعتبر في الموصي شروط ثلاثة إلى قوله: وثالثها خروجه من
الثلث أو إجازة الوارث).
(2) غاية المرام في شرح شرائع الاسلام لمؤلفة الشيخ مفلح بن الحسن
الصيمري، تلميذ أبي العباس أحمد بن فهد الحلي، والكتاب لا يزال من
نفائس المخطوطات، رأينا في مكتبة الشيخ الهادي من آل كاشف الغطاء جد الشيخ علي
كاشف الغطاء حفظه الله. وقد عين نسبة الكتاب لمؤلفه المذكور المحقق الثبت الإمام
الطهراني قدس سره راجع: هذه الجملة في أخريات كتاب الوصية
من الكتاب المذكور في منجزات المريض.
(3) مسالك الأفهام في شرح شرائع الاسلام للشهيد الثاني قدس
سره راجع ذلك في آخر الفصل الأول من كتاب الحجر، وعبارة المتن
الكاملة كما مرت عليك آنفا " هكذا: " والمريض ممنوع من الوصية
بما زاد عن الثلث اجماعا "، ما لم تجز الورثة، وفي منعه من التبرعات
المنجزة الزائدة عن الثلث خلاف بيننا والوجه المنع ".
38

وأيضا " فيه في كتاب العتق بعد قول الماتن: أما لو وقف في مرض
الموت فإن أجاز الورثة، وإلا أعتبر من الثلث كالهبة والمحاباة في البيع. وقيل
يمضي من أصل التركة، والأول أشبه قال: " هذا هو الأظهر " (1).
وقال أيضا " في باب الهبة: " وأما إذا اتفق موته في مرضه: فإن
كان المرض مخوفا " بمعنى غلبة الهلاك معه فالأظهر أن منجزاته من الثلث
حيث لا يجيز الوارث " (2).
وقال في (الروضة) في كتاب الحجر بعد قول الماتن: " وإن
تنجز على الأقوى: " للأخبار الكثيرة الدالة عليه منطوقا " ومفهوما " وقيل:
يمضي من الأصل " (3).

(1) وجدنا هذه العبارة متنا " وشرحا " في أوائل كتاب الوقوف
والصدقات. وتتمة عبارة الشرح تحت عنوان (وقيل يمضي..) هكذا:
".. وقد تقدم الكلام فيه وسيأتي تحقيقه في الوصايا ".
(2) راجع: آخر كتاب الهبات في شرح قول الماتن " إذا وهب
في مرضه المخوف وبرئ صحت الهبة.. "، وقبل هذه الجملة قوله:
" لا خلاف في أن المريض إذا برئ من مرضه ينفذ تصرفه مطلقا "، وأما
إذا اتفق.. " وتتمة العبارة: " وقيل: يكون من الأصل. وسيأتي
تحقيق في الوصايا.. ". ويشير في هذين الموردين إلى التحقيق المسهب
الذي شرح به قول الماتن " القسم الثاني في تصرفات المريض " من
كتاب الوصايا.
(3) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الثاني قدس
سره راجع ذلك في شرح قول الماتن " والمريض ممنوع مما زاد على الثلث
وإن نجز على الأقوى ": ج 4 ص 106 طبع النجف.
39

وفي باب الوصية منه: " واعلم أن المنجزة تشارك الوصية في الخروج
من الثلث في أجود القولين " (1).
وفي باب الهبة منه أيضا " بعد قول الماتن: فهي من الثلث
قال: " على أجود القولين " (2).
وفي (المهذب البارع) بعد قول الماتن: وكذا في التبرعات المنجزة
على الخلاف: " أقول المشهور أنها من الثلث، وهو أحد قولي الشيخ
في (المبسوط والنهاية) قاله الصدوق وأبو علي وظاهره الخلاف،
واختاره المصنف و (العلامة) وقال الشيخان في النهاية والمقنعة: أنها من الأصل
إلى أن قال والروايات بالأول " (3). انتهى.
وعنه في (المقتصر) اختياره أيضا ".
وفي (المعالم لابن قطان): " ويحجر على المريض في ثلثي ماله،
فلو تبرع منه بشئ منجزا أو وصية لم يصح إن مات في مرضه ولم يجز
الورثة " (4).

(1) راجع: الفصل الثالث في الأحكام من كتاب الوصايا (ج‍ 5
ص 64) من طبع النجف.
(2) راجع: ج‍ 3 ص 196 من طبع النجف في شرح قول الماتن:
ولو وهب أو وقف أو تصدق في مرض موته فهي من الثلث.
(3) المهذب البارع في شرح الشرائع لمصنفه أحمد بن محمد بن فهد
الحلي، ولا يزال من نفائس المخطوطات، رأينا نسخة الخطية في مكتبة
الشيخ علي حفيد (الهادي من آل كاشف الغطاء) حفظه الله. والمسألة
مذكورة في أخريات كتاب الوصية منه
(4) معالم الدين للشيخ محمد بن شجاع القطان تلميذ الشيخ المقداد.
والكتاب من نفائس المخطوطات.
40

وفي (المقابيس للشيخ أسد الله التستري) بعد حكاية القولين عن
الأصحاب قال: " والمعتمد الأول وهو أنها من الثلث " (1).
وفي التنقيح بعد ذكر أدلة الثلث، قال: " والفتوى على هذا " (2).
وهو مختار الفاضل الجواد في (شرح اللمعتين) (3) وشيخنا في (الجواهر) (4)
وجدنا في رسالة مستقلة، وإن عدل عنه إلى الأصل في الرياض (5).
هذا ما وسعنا من نقل عباراتهم، والانصاف أن القولين متكافئان]

(1) راجع: ذلك في كتاب الوصية منه بعنوان (مقباس، اختلف
الأصحاب في منجزات المريض).
(2) التنقيح الرائع من مختصر النافع، شرح مفصل للمختصر في
مجلدين ضخمين، تأليف الفاضل المقداد السيوري من أعلام القرن التاسع
الهجري، والكتاب لا يزال من نوادر المخطوطات.
(3) أشرنا في تعليق ص 124 من الجزء الأول من البلغة: أنه يحتمل
أن يريد المصنف: شرح اللمعة المسمى بالأنوار الغروية للفاضل الشيخ
محمد جواد بن الشيخ محمد تقي بن الشيخ محمد الأحمدي، الشهير بملأ كتاب
وهو من نفائس المخطوطات.
(4) قال في كتاب الحجر: والسادس المريض، وهو ممنوع
من الوصية بما زاد عن الثلث كالصحيح اجماعا " محصلا ومحكيا " مستفيضا "
أو متواترا ".. إلى آخر عبارة المتن والشرح ويقول بعد ذلك: وفي
منعه من التبرعات المنجزة الزائدة عن الثلث خلاف بيننا إلى قوله:
ولكن مع ذلك كله فالوجه المنع من التبرع بالزائد فلا ينفذ على
الورثة إلا مع إجازتهم
(5) قال السيد الطباطبائي في كتاب الرياض (ج‍ 2 كتاب الوصايا) متنا "
وشرحا ": " الثامنة تصرفات المريض إذا كانت مشروطة بالوفاء،
ويعبر عنها بالوصية، فهي من الثلث مع عدم إجازة الورثة. وإن
كانت منجزة غير معلقة عليها.. فقولان، أشبههما وأشهرهما بين المتأخرين
أنها نخرج من الثلث.. إلى قوله: والحلي والمرتضى وابن زهرة أخرجوه
من الأصل، وهو المشهور بين القدماء ظاهرا "، بل لعله لا شبهة فيه جدا "
إلى قوله والمسألة محل اشكال وريبة لاختلاف النصوص وقبول جل
منها التأويل مما يؤول إلى الآخر مع غموض المرجحات وتعارض الوجوه
الاعتبارية من الطرفين، إلا أن الترجيح للأخبار الأخيرة (أي أخبار الأصل)
إلى قوله: ولقد كتبت في المسألة رسالة منفردة رجحت فيها خلاف
ما هنا (أي الثلث) لغفلتي عن الشهرة القديمة، فالمصير إلى القول الثاني أقوى ثم أقوى ".
وسبب تعبير سيدنا صاحب المتن عن صاحب الرياض ب‍ (جدنا)
باعتبار أن السيد مير على الطباطبائي رحمه الله صاحب الرياض أبو
أمه، فهو جده لأمه.
41

في المعروفية بين الأصحاب، والظاهر تحقق الشهرة على الأصل بين
القدماء، وعلى الثلث بين المتأخرين. وأما عند متأخري المتأخرين، ولا سيما
بين المعاصرين فلا أستبعد انقلاب الشهرة إلى ما عليه أكثر القدماء.
وكيف كان يدل على النفوذ من الأصل بعد الأصل (1) وعمومات

(1) المراد من الأصل هنا: الاستصحاب التنجيزي، وهو استصحاب
السلطنة على ماله التي كانت له قبل المرض إلى ما بعده التي من آثارها
نفوذ تصرفاته من الأصل. وأما جريان الاستصحاب التعليقي بأن يقال:
كان بحيث لو تصرف نفذ تصرفه من الأصل فيستصحب، فمبني على كون
المستصحب حكما " شرعيا " وهو فرع كون الملازمة الثابتة بين التصرف والنفوذ
من الأصل حكما " للشارع مجعولا منه للمالك من حيث هو مالك، لا أمرا "
اعتباريا " ينتزعه العقل من الموضوع فيحكم به فكم من فرق واضح بين
قولنا: عصير العنب إذا غلا كان حكمه كذا، وقولنا: العصير المغلي حكمه
كذا، فيجري الاستصحاب التعليقي في الأول لكون الملازمة بين الغليان
والتنجس مثلا " ثابتة شرعا " مجعولة منه للعصير بما هو عصير، وإن كان
تنجزه بالغليان، ولا يجزي في الثاني، إذ لا حكم للعصير شرعا " مطلقا " قبل
الغليان. وفي المقام يحتمل كون النفوذ حكما " للتصرف بأن يكون موضوعه
المالك للتصرف لا المالك إذا تصرف كان حكمه النفوذ، وعليه فلا يجري
الاستصحاب التعليقي أيضا "، إذ لا حكم للشارع مطلقا " قبل التصرف، وإن
أريد كون النفوذ من آثار السلطنة المجعولة للمالك فهو من الاستصحاب
التنجيزي لا التعليقي فافهم (منه قدس سره).
42

سلطنة الناس على أموالهم، واجماعي الانتصار والغنية المعتضدين بذلك
وبالشهرة المحكية، بل المحققة بين القدماء: الأخبار الخاصة التي منها
موثقة عمار المروية في الكتب الأربعة: " عن ابن أبي عمير عن مرازم عن
عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الميت أحق بماله ما دام
فيه الروح، يبين به، فإن قال بعدي فليس له إلا الثلث " غير أن في
(الفقيه) وما حضرني من نسختي الكافي مكان فإن قال بعدي (فإن
تعدى) (1) وعليه فمعناه التعدي من زمن الحياة إلى ما بعد الموت،
فيكون موافقا " لما في (التهذيبين) (2) في المعنى لا بمعنى التعدي عن الثلث

(1) راجع: الكافي للكليني، كتاب الوصايا، باب أن صاحب
المال أحق بما له ما دام حيا "، حديث رقم (7) ولم نجد نص الحديث بسنده
المذكور في كتاب الفقيه للصدوق (ج‍ 4 ص 149) طبع النجف باب
97 في أن الانسان أحق بماله..
(2) لعله يريد بالتهذيبين: كتابي الشيخ الطوسي في الأخبار (التهذيب
والاستبصار) والتثنية باسم أحدهما للتغليب كالحسنين والقمرين
لأهمية كتاب التهذيب وشهرته
راجع من التهذيب: (باب 10 الرجوع في الوصية، حديث رقم
(756) ج‍ 9 ص 188 طبع النجف، وفيه جملة (فإن قال بعدي) كما
في المتن. وهكذا يوجد في الاستبصار (ج‍ 4 ص 122). طبع النجف،
حديث رقم (463).
43

إلى ما يزيد عليه، كما احتمله في (الجواهر) لعدم تقدم ذكر الثلث قبله
حتى يوافق التعدي عنه إلى ما زاد عليه.
ومنها في (الكافي) بالسند المتقدم مروي هكذا: " قال قلت، الميت
أحق بماله ما دام فيه الروح يبين به، قال نعم فإن أوصى به فليس له
إلا الثلث " (1) والظاهر أنها رواية مستقلة، وهي موافقة لما في (التهذيبين)
ومؤيدة لما احتملناه من (التعدي) في بعض نسخ الكافي، ودلالتهما على النفوذ
من الأصل بمكان من الظهور.
ومنها موثقته الثالثة في (التهذيب، والاستبصار): " وعن أبي
عبد الله عليه السلام في الرجل يجعل بعض ماله لرجل في مرضه؟ فقال:
إذا أبانه جاز " (2) وظاهر السؤال يعطي كون المرض مرض الموت،
لأنه مظنة المنع عن التصرف فيه فيما زاد على الثلث، والنفوذ منه إذا
كان بقدره فما دون كما عليه العامة، فناسب السؤال عنه من الإمام.

(1) لم نجد في الكافي بهذا الباب المذكور والسند المزبور إلا تلك
الرواية الآنفة الذكر فالظاهر أن الرواية واحدة في المقامين
لا اثنتان، والله العالم.
(2) راجع من التهذيب: (ج‍ 9 ص 190 طبع النجف)
حديث رقم (864) باب الرجوع في الوصية، ومن الإستبصار:
ج‍ 4 ص 120 طبع النجف باب 74 أنه لا تجوز الوصية بأكثر من
الثلث) حديث رقم (11).
44

ومنها موثقته الرابعة المروية في (الكتب الأربعة): " عنه عليه
السلام قال: الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح إن أوصى به كله فهو
جائز له " (1) واشتمالها على ما لا نقول به: من نفوذ الوصية بكل ماله
لا يضر في الاستدلال بصدرها على المطلوب، فلتحمل الوصية فيها على
التنجيز أو غيره من المحامل كما قيل وإن كان يحتمل غير بعيد
عندي إرادة أن الرجل أحق بماله في تعيين وصيته فيما شاء من أعيان ماله
كله، إذ له تعيين ذلك، وعليه فلا دلالة في الرواية على المنجزات بالكلية
لا من الأصل ولا من الثلث.
ومنها موثقته الخامسة في (التهذيب والفقيه والكافي): " عنه عليه
السلام قال: صاحب المال أحق بماله ما دام فيه شئ من الروح، يضعه حيث
شاء " (2). ومنها في (الكافي والتهذيب والاستبصار) " عن أبي بصير

(1) راجع من التهذيب: (باب 10 الرجوع في الوصية حديث
رقم (753) ج‍ 9 طبع النجف بسنده عن عمار الساباطي، ومن الاستبصار
(ج‍ 4 ص 121 طبع النجف) باب 74 لا تجوز الوصية بأكثر من الثلث
حديث رقم (9). ومن الكافي للكليني ج‍ 7 ص 7 طبع الجديد طهران
باب أن صاحب المال أحق بماله، حديث رقم 2 بنفس السند. ومن
كتاب (من لا يحضره الفقيه للصدوق) ج‍ 4 ص 150 طبع النجف، باب
97 أن الانسان أحق بماله، بنفس السند.
(2) راجع من التهذيب: ج‍ 9 ص 186 طبع النجف باب 10 حديث
رقم (1)، ومن الفقيه (ج‍ 4 ص 149 طبع النجف) باب 97 حديث
رقم (1)، ومن الكافي (ج‍ 7 ص 7 باب أن صاحب المال أحق بماله)
حديث رقم (1).
45

عنه عليه السلام: " قال قلت له: الرجل له الولد يسعه أن يجعل ماله
لقرابته؟ فقال: هو ماله يصنع به ما شاء إلى أن يأتيه الموت، أن لصاحب
المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حبا " إن شاء وهبه وإن شاء تصدق به
وإن شاء تركه إلى أن يأتيه الموت، فإن أوصى به فليس له إلا الثلث،
إلا أن الفضل في أن لا يضيع من يعوله ولا يضر بورثته " (1)
ومنها خبر سماعة في (الكافي والتهذيب): " قال قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: الرجل يكون له الولد أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال:
هو ماله يصنع به ما شاء إلى أن يأتيه الموت " (2).
ومنها حسنة أبي شعيب المحاملي في (التهذيب والكافي): " عنه
عليه السلام قال: الانسان أحق بماله ما دامت الروح في بدنه " (3).
ومنها صحيح صفوان الذي أجمعوا على تصحيح ما يصح عنه في
(الكافي): " عن مرازم عن بعض أصحابنا عنه عليه السلام في الرجل

(1) راجع من الكافي: (باب إن صاحب المال أحق بماله حديث
رقم 10)، ومن التهذيب: باب الرجوع في الوصية حديث رقم 8
ج‍ 9 ص 188 طبع النجف. ومن الاستبصار: باب أنه لا تجوز الوصية
بأكثر من الثلث، حديث رقم (12).
(2) راجع من الكافي: كتاب الوصايا، باب أن صاحب المال
أحق بماله، حديث رقم (5). ومن التهذيب، كتاب الوصايا باب 10
الرجوع في الوصية، حديث رقم (2) تسلسل (749).
(3) راجع من التهذيب: كتاب الوصايا، باب 10 الرجوع في
الوصية، حديث رقم (4) تسلسل (751)، ومن الكافي: كتاب
الوصايا، باب أن صاحب المال أحق بماله، حديث رقم (5) طبع طهران
46

يعطي الشئ من ماله في مرضه؟ فقال: إذا أبان به فهو جائز وإن أوصى
به فهو من الثلث " (1).
ومنها مرسلة الكليني في (الكافي) عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم: " أنه أعاب رجلا من الأنصار أعتق مماليكه لم يكن له غيرهم فقال:
تركت صبية صغارا " يتكففون الناس " (2). والاعابة مستلزمة للنفوذ من
الأصل لأنه الموجب لحرمان الصبية الصغار.
ومنها صحيحة محمد بن مسلم في (الكافي والاستبصار): " عنه عليه
السلام قال: سألته عن رجل حضره الموت فأعتق مملوكه وأوصى بوصية
وكان أكثر من الثلث؟ قال: يمضي عتق الغلام ويكون النقصان فيما
بقي " (3) بناء على أن تقديم العتق لنفوذه من الأصل، وإلا فينبغي تقديم
ما هو مقدم في الذكر، والنقصان فيما بقي من المسؤول عنه، وهو الوصية
لكونها أكثر من الثلث، لا كون مجموع العتق والوصية أكثر من الثلث
حتى يكون دليلا على نفوذه من الثلث.
ومنها مرسلة ابن أبي عمير في (الكافي): " عنه عليه السلام في
رجل أوصى بأكثر من الثلث وأعتق مملوكه في مرضه؟ فقال: إن كان

(1) راجع من الكافي: كتاب الوصايا، باب أن صاحب المال
أحق بماله، حديث رقم (6)، طبع طهران الحديث.
(2) راجع من الكافي نفس المصدر الآنف الذكر، آخر حديث
رقم 10: ج‍ 7 ص 9 طبع طهران الحديث.
(3) راجع من الكافي: المصدر الآنف الذكر، باب من أوصى
بعتق أو صدقة، حديث رقم (4) ومن الإستبصار: ج‍ 4 ص 120،
طبع النجف، حديث تسلسل (454)
47

أكثر من الثلث، رد إلى الثلث، وجاز العتق " (1) بإرادة جوازه من
الأصل لا من الثلث بالتقريب المتقدم.
وبالجملة فالانصاف: أن هذه الروايات وافية الظهور في الدلالة على
النفوذ من الأصل، سيما ما كان فيها مقابلا للوصية النافذة من الثلث.
وأما ما أستدل به على النفوذ من الثلث فأخبار: بعضها لا ظهور
فيه على المدعى، بل على خلافه أظهر " وبعضها مع ضعف السند
متضمن لما لا يلتزم به أحد، وبعضها لو سلم ظهوره فمع معارضته لما
هو أقوى منه دلالة لا تكافئ ما تقدم من أدلة الأصل.
فمن الأول أخبار: منها النبوي: " إن الله قد تصدق عليكم
بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم " (2).
وفيه أنها ظاهرة في إرادة بقاء مقدار مما ينتقل عنه إلى غيره بالموت
لينتفع به بالوصية بعد الموت وهو المناسب للصدقة، دون التصدق ببعض ما كان
كله له، كيف وهو من حرمانه من أكثر ماله حين ما يملكه.
ومنها ما عن (البحار): " وليس للميت من ماله إلا الثلث فإذا
أوصى بأكثر من الثلث رد إلى الثلث " (3).

(1) الكافي للكليني: كتاب الوصايا، باب من أوصى بعتق أو
صدقة أو حج الحديث الأول.
(2) في مستدرك الوسائل، كتاب الوصايا، باب جواز الوصية
بثلث المال الحديث هكذا: " وفي درر اللئالي عن معاذ بن جبل عن النبي
صلى الله عليه وآله أنه قال: إن الله تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم
زيادة في حسناتكم ".
(3) في الوسائل: كتاب الهدايا باب 10 جواز الوصية بثلث المال
روايات كثيرة بهذا المضمون.
48

فهو كما ترى من ظهوره في الوصية. والعجب ممن استدل به على المنجز.
ومنها خبر أبي حمزة: " إن الله يقول يا بن آدم تطولت عليك
بثلاث إلى قوله وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدم خبرا " " (1).
وفيه ما تقدم: من أن التطول يناسب العطية حيث ما يكون المقتضي
للحرمان موجودا "، وهو هنا الموت الموجب لانتقال ماله كله إلى وارثه
لولا التطول عليه ببقاء ثلثه له للوصية به فيما ينفعه بعد موته،
ومنها مصححة علي بن يقطين: " ما للرجل من ماله عند موته؟ قال:
الثلث، والثلث كثير " (2).
ومنها مصححة يعقوب بن شعيب " عن الرجل يموت، ماله من
ماله؟ فقال: له ثلث ماله " (3).
ومنها خبر عبد الله بن سنان: " للرجل عند موته ثلث ماله قال
بعد ذلك: وإن لو يوص فليس على الورثة امضاؤه " (4).

(1) في الوسائل، كتاب الوصايا باب كراهة ترك الوصية نص
الحديث هكذا: " عن أبي حمزة عن بعض الأئمة عليهم السلام قال:
إن الله تعالى يقول يا بن آدم تطولت عليك بثلاثة: سترت عليك ما لو يعلم
به أهلك ما واروك وأوسعت عليك فاستقرضت منك فلم تقدم خيرا "،
وجعلت الخ.. ".
(2) في الوسائل ج 13 ص 363 الطبعة الحديثة باب 10 حديث رقم 8
هكذا: قال: سألت أبا الحسن عليه السلام ما للرجل. الخ.
(3) في الوسائل الجديدة (ج 13 ص 362) حديث تسلسل (24570)
يرويه عن شعيب بن يعقوب ويرويه عن الكليني والشيخ عن يعقوب بن
شعيب كما في المتن - ولعله الأصح، وتكملته: وللمرأة أيضا ".
(4) راجع الوسائل ج 13 باب 10 حديث تسلسل (7) طبع الجديد
49

والتقريب هو ظهور كلمة (عند) وقوله (يموت) في الاشراف
على الموت، دون تحققه بظهور أماراته المتحققة في المرض المتضمنة لكون
الذي له في هذا الحال هو الثلث وما عداه ليس له، المحمول على إرادة
نفي مطلق التصرف فيما زاد عليه الذي منه المنجز.
وفيه مع وجوب تقييدها حينئذ بالتصرفات التبرعية ظاهرة أو محمولة
على إرادة الوصية المتحققة قبل الموت عند الاشراف عليه غالبا "، سيما بقرينة
ذيل خبر ابن سنان، مع أن الاطلاق (يموت) (وعند الموت) وإرادة
وقوعه وتحققه شايع كثير فيه وفي أمثاله من نحو الرجل يبيع وينكح
ويهب ويقف ونحو ذلك، مع أن خبر البحار المعبر فيه بالميت قرينة على
إرادة السؤال عنه عليه السلام من حيث تحقق الموت وتلبسه به.
وبالجملة فلا مجال لانكار ظهورها في الوصية.
ومنها خبر السابري: " عن امرأة استودعت رجلا مالا فلما حضرها
الموت قالت له: إن المال الذي دفعته إليك لفلانة إلى أن قال في ذيله: وإن
كانت متهمة فلا يحلف ويضع الأمر على ما كان، فإنما لها من مالها
ثلثه " (1).
وفيه مع كونه من مسألة الاقرار في مرض الموت دون المنجز فيه،
وستعرف القول به في الثلث مع التهمة ضعيف السند ممنوع جبره.
ومن الثاني أخبار: منها خبر أبي ولاد: " عن الرجل يكون لامرأته
عليه الدين فتبرئه منه في مرضها؟ قال: بل تهبه له فتجوز هبتها. ويحسب

(1) الوسائل الجديدة كتاب الوصايا باب 16 حديث تسلسل (2)
ونص الحديث بسنده هكذا: عن العلا بياع السابري قال: سألت
أبا عبد الله عن امرأة..
50

ذلك من ثلثها إن كانت تركت شيئا " (1).
ونحوه خبر سماعة أيضا ": " عن الصادق عليه السلام عن الرجل
يكون لامرأته عليه صداق أو بعضه فتبرء ذمته في مرضها؟ قال: لا،
ولكن إن وهبت جاز له ما وهبته من ثلثها " (2).
ومنها مصححة الحلبي " عن الرجل يكون لامرأته عليه الصداق أو
بعضه فتبرئه منه في مرضها؟ فقال: لا " (3).
وفيه: أنها متضمنة لبطلان الابراء رأسا، ولم يقل به أحد، وصحة
هبة الدين لمن هو عليه، ولعل الأكثر لا يصححونه كبيع الدين ممن هو
عليه، وإن كان من المحتمل قويا صحته، وكون مفاده الابراء، لا
التمليك الحقيقي، كما احتملناه أيضا " في شراء أحد العمودين: أنه بيع
يكون مفاده الانعتاق لا التمليك حقيقة، ولو آنا ما بناء على أن بدلية
الثمن عن الدين في الأول مفاده السقوط، وعن الرقية في الثاني مفاده
الانعتاق.
وبالجملة فالتفصيل بين الابراء والهبة ببطلان الأول، وصحة الثاني
لم يقل به أحد، فكيف يمكن رفع اليد بها عن تلك الأدلة، مع ضعف
السند، وعدم الجابر أيضا ".
ومن الثالث: روايات العتق التي هي العمدة لهم في الاستدلال على
مطلوبهم.

(1) الوسائل، كتاب الوصايا، باب إن من أوصى بأكثر من الثلث
حديث رقم (11).
(2) الوسائل الجديدة، كتاب الوصايا، باب 17 حديث تسلسل 16
(3) المصدر الآنف الذكر باب 17 حكم التصرفات المنجزة حديث 15
51

ومنها خبر علي بن عقبة: " في رجل حضره الموت فأعتق مملوكا " له
ليس له غيره فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك، كيف القضاء فيه؟ قال:
ما يعتق منه إلا ثلثه، وسائر ذلك الورثة أحق بذلك، ولهم ما بقي " (1)
ونحوه خبر عقبة بن خالد (2).
ومنها خبر أبي بصير " أن أعتق رجل عند موته جارية له ثم أوصى
بوصية أخرى ألغيت الوصية وأعتقت الجارية من ثلثه، إلا أن يفضل من
ثلثه ما يبلغ الوصية " (3).
ومنها خبر السكوني: " إن رجلا أعتق عبدا له عند موته لم يكن له
مال غيره، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يستسعي
في ثلثي قيمته للورثة " (4).
ومنها النبوي العامي: " إن رجلا من الأنصار أعتق ستة أعبد له
في مرضه ولا مال له غيرهم، فاستدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) راجع: الوسائل للحر العاملي، كتاب الوصايا (باب 11 إن
من أوصى بأكثر من الثلث) حديث رقم (4).
(2) ذكر نصه في الوسائل باب 17 حديث (13). وهذا
نصه: ".. عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته
عن رجل حضره الموت فأعتق مملوكا " له ليس له غيره. فأبى الورثة أي
يجيزوا ذلك، كيف القضاء فيه قال: ما يعتق منه إلا ثلثه ".
(3) الوسائل باب 11 حديث رقم (6) إلا أن فيه كلمة (خادما ")
في أول الحديث بدل كلمة (جارية).
(4) في الوسائل، كتاب العتق باب 64 من أعتق بعض مملوكه
حديث رقم (5) ".. عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (ع):
قال: إن رجلا.. ".
52

وجزأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة) (1)
ومنها رواية إسماعيل بن أبي همام: " في رجل أوصى عند موته
بمال لذوي قرابة وأعتق مملوكا " وكان جميع ما أوصى به يزيد على الثلث
كيف يصنع في وصيته؟ قال: يبدأ بالعتق فينفذه " (2).
ومنها صحيحة ابن مسلم: " عن رجل حضره الموت فأعتق غلامه
وأوصى بوصية وكان أكثر من الثلث؟ قال: يمضي عتق الغلام ويكون
النقصان فيما بقي " (3).
ومنها حسنته: " في رجل أوصى بأكثر من ثلثه وأعتق مملوكه في
مرضه؟ فقال: إذا كان أكثر من الثلث يرد إلى الثلث وجاز العتق " (4)
بدعوى ظهور لفظ (أعتق) في العتق المنجز، لأن الوصية بالعتق عتق
في المستقبل دون الماضي، فيجب حمل اللفظ على معناه الحقيقي فإن تم في
العتق تم في غيره بالأولوية، وعدم القول بالفصل.

(1) ذكر هذا الحديث المرسل عن النبي صلى الله عليه وآله
عن علي عليه السلام وعن الإمام الكاظم عليه السلام بمضامين متقاربة
في كتاب الجواهر كتاب الوصايا في شرح قول المصنف: مسائل أربع:
الأولى إذا أعتق أو أوصى بعتق عبيده وليس له سواهم.
(2) الكافي للكليني، كتاب الوصايا، باب من أوصى بعتق أو صدقة
أو حج حديث رقم (3).
(3) سبق آنفا " تخريج هذا الحديث عن الكافي والاستبصار.
(4) الكافي للكليني كتاب الوصايا باب من أوصى بعتق أو صدقة..
حديث رقم (1).
53

وفيه مضافا " إلى معارضتها لمرسلة الكافي المتقدمة (1) المتضمنة لإعابة
النبي صلى الله عليه وآله المستلزمة لنفوذ العتق من الأصل، وإلى شيوع
اطلاق (أعتق) على التدبير والوصية به في الأخبار وكلمات الفقهاء تبعا "
لها يجب حملها على ذلك لوجود القرينة الصارفة عن الظهور لو سلم
في بعضها كخبر أبي بصير الموصف فيه للوصية المعطوفة على العتق بثم
كلمة أخرى الصريحة في كون الأولى وصية بالعتق لا عتق منجز، وتقديمه
للتقدم بالذكر مع كونه مدلولا عليه بثم أيضا "، مع ظهور البدأة بالعتق
في بعضها والجواز مطلقا " في الآخر في كون العتق منجزا " ينفذ من الأصل
وإلا يقتضي البدأة بالأقدم فالأقدم، والجواز مع وفاء الثلث به لا مطلقا ".
ومنها: الأخبار الواردة في عتق المملوك وعلى المعتق دين لا يملك غيره
وهي ثلاثة
الأولى صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج: " قال سألني أبو عبد الله
عليه الصلاة والسلام: هل يختلف ابن أبي ليلى وابن شبرمة؟ فقلت:
بلغني أنه مات مولى لعيسى بن موسى وترك عليه دينا " كثيرا " وترك مماليك
يحيط دينه بأثمانهم فأعتقهم عند الموت فسألهما عيسى بن موسى عن ذلك
فقال ابن شبرمة: أرى أن يستسعيهم في قيمتهم فيدفعها إلى الغرماء فإنه
قد أعتقهم عند موته، وقال ابن أبي ليلى، أرى أن أبيعهم وأدفع أثمانهم
إلى الغرماء فإنه ليس له أن يعتقهم عند موته وعليه دين يحيط بهم، وهذا
أهل الحجار اليوم يعتق الرجل عبده وعليه دين كثير فلا يجيزون عتقه

(1) تقدمت الإشارة إليها ففي آخر باب إن صاحب المال أحق بماله
من الكافي: كتاب الوصايا: " وروى أن النبي قال لرجل من الأنصار
أعتق مماليك له لم يكن له غيرهم فعابه النبي صلى الله عليه وآله وقال: ترك صبية صغارا " يتكففون الناس ".
54

إذا كان عليه دين كثير، فرفع ابن شبرمة يده إلى السماء، فقال: سبحان
الله يا بن أبي ليلى، متى قلت: هذا القول؟ والله ما قلته إلا طلب خلافي
فقال أبو عبد الله عليه السلام: وعن رأي أيهما صدر؟ قال قلت: بلغني
أنه أخذ برأي ابن أبي ليلى، وكان له في ذلك هوى فباعهم وقضى دينه
قال: فمع أيهما من قبلكم؟ قلت مع ابن شبرمة وقد رجع ابن أبي ليلى إلى
رأي ابن شبرمة بعد ذلك، فقال أما والله إن الحق لفي الذي قال ابن أبي
ليلى وإن كان قد رجع عنه، فقلت له: هذا ينكسر عندهم في القياس،
فقال: هات قايسني، فقلت: أنا أقايسك؟ فقال: لتقولن بأشد ما يدخل
فيه من القياس، فقلت له: رجل ترك عبدا " لم يترك مالا غيره، وقيمة
العبد ستمأة درهم ودينه خمسمأة درهم، فأعتقه عند الموت كيف يصنع؟
قال: يباع العبد فيأخذ الغرماء خمسمأة درهم، ويأخذ الورثة مأة درهم
فقلت: أليس قد بقي من قيمة العبد مأة درهم عن دينه؟ فقال: بلى
قلت: أليس للرجل ثلثه يصنع به ما يشاء؟ قال: بلى، قلت: أليس
قد أوصى للعبد بالثلث من المأة حين أعتقه؟ فقال: إن العبد لا وصية له
إنما أمواله لمواليه، فقلت له: فإن كان قيمة العبد ستمأة درهم ودينه
أربعمأة؟ قال كذلك يباع العبد فيأخذ الغرماء أربعمأة درهم، ويأخذ
الورثة مأتين، ولا يكون للعبد شئ، قلت له: فإن كان قيمة العبد
ستمأة درهم ودينه ثلاثمائة درهم؟ فضحك، وقال: من ههنا، أتى
أصحابك: فجعلوا الأشياء شيئا " واحدا "، ولم يعلموا السنة، إذا استوى مال
الغرماء ومال الورثة أو كان مال الورثة أكثر من مال الغرماء ولم يتهم
الرجل على وصيته، أجيزت وصيته على وجهها. فالآن يوقف هذا فيكون
نصفه للغرماء، ويكون ثلثه للورثة ويكون له السدس " (1).

(1) الكافي للكليني، كتاب الوصايا، باب من أعتق وعليه دين،
الحديث الأول.
55

والخبر صريح في التفصيل بين ما كان الدين نصف قيمة العبد فما
دون، وبين ما زاد عليه، صح العتق ونفذ من الثلث في الأول وبطل
في الثاني، وكان بين الورثة والغرماء.
وإليه يرجع الخبر الثاني، وهو صحيحة زرارة: " عن أحدهما
عليهما السلام في رجل أعتق مملوكه عند موته وعليه دين؟ قال: إن كان
قيمته مثل الذي عليه ومثله جاز عتقه وإلا لم يجز " (1).
والخبر الثالث في الصحيح: " إذا ملك المملوك سدسه استسعى " (2)
بتقريب أنه لا يملك السدس إلا حيث يكون الدين نصف قيمته فما دون،
وذكر السدس لبيان أقل المرتبة.
وفيه: إنها محمولة على الوصية بقرينة ذكرها مكررا " في الأول، وإن
تضمنت ما يخالف القاعدة فيها أيضا "، لاقتضائها في الوصية نفوذ العتق
في ثلث ما زاد على الدين مطلقا "، وإن ملك أقل من السدس المنبعث عن
زيادة الدين على النصف، واختصاص البطلان بما إذا كان الدين محيطا "
بالقيمة كما يعطيه إطلاق الصحيح: " في الرجل يقول: إن مت فعبدي
حر، وعلى الرجل دين؟ قال: إن توفي وعليه دين قد أحاط بثمن العبد
بيع العبد، وإن لم يكن أحاط بثمن العبد استسعى في قضاء دين مولاه

(1) الكافي، كتاب الوصايا باب من أعتق وعليه دين، حديث 2
(2) الرواية عن أبي البختري عن أبي عبد الله الصادق (ع) كما
استدل بها العلامة في المختلف في باب منجزات المريض، مسألة عطايا
المريض المنجزة وفي الوسائل كتاب الوصايا باب 39 إن من أعتق مملوكا "
لا يملك غيره حديث رقم (1).
56

وهو حر إذا وفاه " (1) لكن يجب تقييده بتلك الأخبار المفصلة، حملا
للمطلق منها على المقيد.
ومنها ما ورد في عطية الوالد لولده، المفصل فيه بين وقوعه في حالتي الصحة
والمرض، كخبر جراح المدائني: " عن عطية الوالد لولده؟ قال إذا أعطاه
في صحته جاز " (2).
وخبر سماعة: عن عطية الوالد لولده؟ فقال: أما ما كان صحيحا "
فهو ماله يصنع به ما يشاء، فأما في مرضه فلا يصلح " (3) المحمولة على
الكراهة لايجابه الشحناء والبغضاء بينهم، بقرينة التعبير في الأخير بلا
يصلح، وبما ورد في الخبر الآخر من التفصيل بين الاعسار والايسار (4).
واستدلوا أيضا " بعد الأخبار بأدلة لا يخفى وهنها.
منها التمسك بأصالة عدم انتقال الزائد على الثلث.

(1) الوسائل، المصدر الآنف حديث رقم (3) باسقاط بعض
الكلمات.
(2) في الوسائل باب 17 حديث (14) ".. عن جراح المدائني
قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن عطية الوالد لولده يبينه؟ قال:
إذا أعطاه في صحته جاز ".
(3) الوسائل كتاب الوصايا باب 17 حكم التصرفات المنجزة
حديث (11).
(4) يشير إلى خبر أبي بصير كما في الوسائل بنفس المصدر حديث
(12) قال: " سألت أبا عبد الله (ع) عن الرجل يخص بعض ولده
بالعطية؟ قال: إن كان مؤسرا " فنعم، وإن كان معسرا " فلا " وجملة
(وبما ورد الخ) عطف على جملة " لكن يجب تقييده بتلك الأخبار ".
57

وفيه: إنها محكومة لأصالة بقاء سلطنة المالك، لكون الشك فيه مسببا "
عن الشك في بقائها.
ومنها ما في (المختلف) قائلا: " لنا إن امضاء الوصية من الثلث
مع القول بخروج العطايا المنجزة من الأصل مما لا يجتمعان، والمقدم حق
فالتالي باطل، أما صدق المقدم فبالاجماع والأخبار المتواترة الدالة عليه. وأما
بيان عدم الاجتماع، فلأن المقتضى لحصر الوصية في الثلث إنما هو النظر إلى
حق الورثة والابقاء عليهم، وفي الأحاديث دلالة على التنبيه على هذه العلة
وهي موجودة في المنجزات، فتساويا في الحكم " (1) ونبه عليه ولده في
الإيضاح أيضا " (2).
وفيه: إن عدم نفوذ الوصية فيما زاد على الثلث إنما هو لكونه تصرفا "
في مال الوارث وملكه فيتوقف على إجازته، وأين ذلك من المنجز الذي
هو تصرف من المالك في ملكه، فكيف يقاس المنجز بالوصية؟.

(1) راجع أول مسألة منه في منجزات المريض في أخريات كتاب العطايا
الفصل الخامس في الوصايا ويشير بذلك إلى وحدة المناط بين المسألتين
فلا بد أن يتحدا في الحكم أيضا "، وهذا القياس يسمى بقياس تنقيح المناط
المفروض الحجية كقياس منصوص العلة والأولوية.
(2) قال فخر المحققين في آخر كتاب الوصايا منه الفصل الثالث
في تصرفات المريض: (ج 2 ص 593 طبع قم): " لو كانت من
الأصل لقدم العتق المتبرع به على الدين، والتالي باطل فالمقدم مثله. بيان
الملازمة: إن المريض لا يصلح للمانعية حينئذ، فبقي حكم الصحة لأصالة
البقاء، وأما بطلان التالي فلما رواه زرارة في الصحيح عن الصادق (ع):
" إذا ترك الدين عليه ومثله أعتق المملوك واستسعى ".
58

ومنها ما قيل من: لزوم خروج المنجز من الأصل اختلال حكمة
حصر الوصية في الثلث لامكان التجاء كل من يريد الزيادة في الوصية إلى
عقد منجز فيعاوض جميع ماله بدرهم مثلا فرارا " عن رد الوصية.
وفيه: إن جريان مثل ذلك في الفقه غير عزيز بل نظائره أكثر من
أن تحصى، فإن بيع الأثمان يعتبر فيه التقابض بخلاف الصلح عليها فيجوز
الالتجاء إلى الصلح، وكذلك الربا، بناء على اختصاصه بالبيع، مع ما ذكر
في محله من الحيل الشرعية لتحصيل ما يراد أخذه من الربا وكذا التخلص
عن حق الشفعة بالصلح، بناء على اختصاصها بالبيع، وعن خيار المجلس
بغير البيع من العقود، إلى غير ذلك.
ومنها كونه مقتضى الجمع بين النصوص بالجمع الدلالتي (1) حملا
لاطلاق الأحقية ونحوه القاضي بنفوذ جميع التصرفات على التقييد بما دل
على المنع عن بعضها من التبرع والمحاباة.

(1) التعارض بمصطلح الأصوليين: هو تنافي الدليلين اللفظيين
التأمين من حيث الحجية ولقد اشتهر بينهم أن الجمع بينهما أولى من الطرح
إذ بحكم التكاذب بينهما لا يمكن الأخذ بهما معا " فلا بد إذا ". إما من تذويب
التكاذب واقعا " بالجمع بينهما، أو اللجوء إلى المرجحات السندية المشهورة
الخمسة أو الستة، وأخيرا " فيتساقطان. ولقد بحث الأصوليون طرقا " للجمع
بينهما بعضها محل وفاق، وبعضها محل خلاف في الصحة، وأهم طريق
متفق عليه في كيفية الجمع الجمع الدلالتي، وهو الجمع العرفي وقد يسمى
بالجمع المقبول أي عند العرف، وموارده كثيرة، بعضها أظهر من بعض
وربما نوقش في صحة بعضها. ومن موارده المتفق عليها ما إذا كان أحد
الدليلين قرينة وشاهدا " على التصرف بمدلول الآخر فيحمل ذلك الآخر عليه
فحينئذ يذوب التكاذب واقعا " بين الدليلين وإن كان ظاهرا " بينهما.
ويعم هذا الباب كل موارد تقديم النص على الظاهر أو الأظهر
على الظاهر وذلك لأن الجمع العرفي كذلك يخرج الدليلين عن واقعية
التكاذب فلا تصل النوبة إلى دور المرجحات السندية لأنها في حال الحيرة
ولا حيرة حينئذ. فمن مواد هذا الجمع ما إذا كان بين الدليلين عموم وخصوص
من وجه أو مطلق فيقدم الخاص على العام عرفا "، لأقوائية طهوره وهكذا
إذا كان بينهما اطلاق وتقييد فيقدم المقيد على المطلق لنفس ملاك الاقوائية
في الظهور، وما في المتن إشارة إلى ذلك الجمع.
59

وفيه عدم قابلية النصوص المقيدة بعدما عرفت لتقييد تلك المطلقات
الآبي ظهورها عن التقييد المؤيدة بعمومات: سلطنة الانسان على ماله،
والاجماعات المحكية المعتضدة بالشهرة بين القدماء ومتأخري المتأخرين،
ومخالفتها لمذهب العامة الموجبة لحمل ما يخالفها لو سلم ظهورها على التقية
وإن لم يكن فيها اشعار بها وإشارة إليها، إذا لم يعتبر ذلك في الحمل
عليها في الأخبار العلاجية إذ يكفي في الحمل عليها الموافقة لفتوى بعضهم
فضلا عن الموافقة لفتاويهم أجمع، بل ربما يحتمل قويا " إرادة خصوص
المنجزات من تلك الأخبار سؤالا وجوابا " حيث كان اتفاق الجمهور على
المنع عنه فيما زاد على الثلث فأوجب ذلك السؤال عنه من الإمام (ع)
فأجاب عليه السلام عن ذلك بما يفيده تلويحا "، ومن البعيد أن يكون مفاد
هذه الأخبار على كثرتها مفاد " الناس مسلطون على أموالهم " فافهم.
وبالجملة فلا مناص عن القول بنفوذ المنجزات من الأصل لما ذكر
مؤيدا ذلك كله بما قيل: من قيام السيرة على عدم الضبط عن المريض في
تصرفاته، الكاشف ذلك عن نفوذه من الأصل. إلا أنه فيه ما تقدم
من كونه أعم منه ومن جواز التسليم والتنفيذ للمعطى من حين التنجيز اتكالا
على مقتضى الأصول في ذلك، بناء على الثلث أيضا "
60

هذا ومما يتفرع على النفوذ من الثلث أمور:
الأول تقدم الدين عليها كالوصية لأن الثلث لا يكون إلا بعد
اخراج الدين وعلى نفوذها من الأصل تقدمها على الدين، إذ على القول
بالأصل لم يفرق المنجز بين وقوعه في المرض أو في الصحة التي لا اشكال
في تقدمه على الدين وإن لم يكن له مال غيره، فيبقى الدين حينئذ
بلا وفاء.
والعجب من شيخنا في (الجواهر) بنى على تقديم الدين عليه عند
أهل القول بنفوذه من الأصل أيضا " غير الحلي منهم، حيث قال بعد أن
حكي عن ابن إدريس نفوذ عتق المريض من الأصل وسقوط الدين من
رأس ما لفظه: " وأصحابه الموافقون له في كون المنجزات من الأصل
لا يوافقونه فيما إذا زاحم التنجيز الدين، بل يخصونه بالنسبة إلى الورثة
وإلا كانوا محجوجين بهذا الصحيح وغيره، بل لعل مقابلته بالقول
بالخروج من الثلث المعلوم كون المراد منه بعد خروج الدين تشهد بعدم
المزاحمة المزبورة " انتهى (1).
ولعل مراده تقديم الدين عليه في خصوص العتق إذا كان على المعتق
دين يبلغ نصف قيمة العبد فما دون، للأخبار المتقدمة، لا تقديمه عليه
مطلقا "، إذ مع عدم مساعدة دليل عليه لا يقول به أحد من أهل القول
بالنفوذ من الأصل، بل يوافقون الحلي في تقديمه المنجز على الدين. نعم
في خصوص العتق المذكور ربما يقال به، تعبدا " بالنصوص الواردة فيه

(1) راجع: هذا المطلب ونص العبارة المذكورة في أوائل كتاب
الحجر من الجواهر، أثناء العرض المفصل عن منجزات المريض، في
شرح قول المحقق: " وفي منعه من التبرعات المنجزة الزائدة عن الثلث
خلاف بيننا، فالوجه المنع ".
61

واطلاق الحلي بتقديم المنجز مطلقا " على الدين مبني على أصله: من عدم
العمل بأخبار الآحاد " (1)

(1) الخبر الواحد: هو غير البالغ درجة التواتر المفيد للقطع، وإن تعددت رواته.
وهو نوعان: منه ما يفيد القطع، وإن كان مخبره واحدا "، كما
إذا احتف بقرائن تفيد اليقين بصدوره، وهذا النوع مما لا شك في حجيته
لا لذاته بل لانتهائه إلى القطع المفروض الحجية
ومنه ما ليس بتلك الدرجة من إفادة القطع. وفي حجية مثل هذا
النوع من الخبر الواحد وعدمها وقع الخلاف بين السيد المرتضى وأتباعه
والشيخ الطوسي وأتباعه، فأنكر السيد حجيته إذا لم يكن محفوفا " بقرائن
تدل على صحته، وتبعه من الخاصة: القاضي ابن البراح، وأبو المكارم
ابن زهرة. والطبرسي صاحب المجمع، وابن إدريس الحلي صاحب
السرائر، وغيرهم. ومن العامة: ابن علبة، والأصم، والقاشاني من
أهل الظاهر، وغيرهم.
وقال شيخ الطائفة الطوسي بحجيته، وإن لم يفد العلم ولم يكن
محفوظا " بقرائن تدل على صحته، وعليه عامة الفقهاء المتأخرين من الإمامية.
وربما نسب القول بالحجية أيضا " إلى كثير من العامة كابن شريح
والحسن البصري والصيرفي من الشافعية وأحمد بن حنبل، وداود
الظاهري، والحسين الكرابيسي، وحكى ذلك عن مالك بن أنس أيضا "
كما ذكر ذلك ابن حزم في الأحكام.
وفي الحقيقة: إن مركز الخلاف بين الفريقين في وجود الدليل على
الجواز وعدمه، فالمنكر كفريق السيد المرتضى علم الهدى ينكر وجود
الدليل القطعي على الحجية. والقائل بالحجية كفريق الشيخ الطوسي
يرى قيام الدليل على ذلك.
فالخلاف ليس في حجية الخبر غير المفيد للعلم وعدم الحجية. وإنما
في قيام الدليل على الحجية وعدمه، فهو صغروي في الحقيقة مع اعتراف
كل من الفريقين بحجية الخبر المفيد للعلم.
وكل من الفريقين يعضد رأيه بالأدلة الأربعة، الكتاب والسنة
والاجماع والعقل، وبالمؤيدات الكثيرة، ولا يسع المجال لاستعراضها ومناقشتها
وابن إدريس الحلي من مؤيدي السيد المرتضى في انكار حجية الخبر الواحد
غير المفيد للعلم كما في المتن ولكن الذي يستعرض أدلة الفريقين ويستوعب
المسألة درسا " وتحقيقا " في مظانها من كتب أصول الفقه للعامة والخاصة،
لا يجد بدا " من موافقة الشيخ الطوسي من القول بحجية الخبر الواحد
بحد ذاته وإن لم يفد القطع، وذلك لكثرة الآيات الواردة في هذا
الخصوص كمفهوم آية النبأ، ومنطوق آية النفر، وآية حرمة الكتمان،
وآية الذكر.
وكذلك لورود السنة النبوية عملا وقولا في ذلك: فمن العملية
ما تواتر نقله من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وآله أمرائه وقضاته ورسله وسعاته
إلى الأطراف وهم آحاد لقبض الصدقات وحل العهود وتقريرها
وتبليغ الأحكام، وذلك يدل بالملازمة على حجية أقوالهم ووجوب الأخذ
منهم، ومن القولية: روايات متواترة لفظا " ومضمونا "، استعرضتها عامة
كتب الأصول وقد ذكرت منها طوائف كثيرة، منها ما ورد في مقام
الترجيح بين الخبرين المتعارضين بالأعدل والأشهر والأصدق والقول
بالتخيير عند التساوي، ومنها ما ورد في ارجاع آحاد الرواة إلى
آحاد أصحاب الأئمة عليهم السلام، ومنها ما دل على وجوب الرجوع
إلى الرواة والثقاة والعلماء، ومنها ما دل على الترغيب في كتابة الروايات
وحفظها وبثها. ومنها ما دل على ذم الكذب والتحذير من الكذابين
والوضاعين. ومنها ما ورد في تسويغ الرجوع إلى أمثال كتب الشلمغاني
وبني فضال، ونحوهم من المنحرفين في الرأي، الصدوقين في النقل،
إلى غير ذلك من طوائف الروايات التي يستفاد من مجموعها رضى الأئمة
عليهم السلام، بل رغبتهم بالعمل بالخبر الواحد، وإن لم يفد القطع
هكذا في رسائل الشيخ الأنصاري وكفاية الآخوند وغيرهما من كتب الأصول
وأما دعاوي الاجماع على العمل بالخبر الواحد مطلقا "، فقد تواترت
باستمرار على ألسنة عموم الفقهاء منذ عهد الشيخ إلى اليوم.
وأما دليل العقل واستقراء طريقة العقلاء في ذلك، فعن الحجة
النائيني كما في تقريرات تلميذه الكاظمي قدس سرهما قوله: " وأما
طريقة العقلاء، فهي عمدة أدلة الباب بحيث لو فرض أنه كان سبيل إلى
المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على
الاعتماد على خبر الثقة والاتكال عليه في محاوراتهم ".
وأخيرا "، نقول إن من يستعرض المسألة في مظانها من كتب أصول
الفريقين: الخاصة والعامة، ويتأمل في أدلة الطرفين، لا يجد مناصا " إلا
الاعتراف بحجية العمل بالخبر الواحد أفاد العلم أم لم يفد.
ولزيادة التفصيل في هذا الموضوع يراجع بابه من كتب الأصول للفريقين
ككفاية الآخوند ورسائل الأنصاري وإرشاد الفحول والأحكام لابن حزم وغيرها.
62

وبالجملة فالأخبار المفصلة في عتق المديون إن قلت بظهورها في
الوصية كما عرفت قلت بتقديم المنجز على الدين مطلقا "، بعد البناء
على نفوذه من الأصل، عملا بالقاعدة مع عدم المخرج عنها، وإن قلت
63

بظهورها في المنجز حملا للماضي على معناه الحقيقي أو الأعم منه ومن
الوضعية من باب عموم المجاز، التزمنا بالتفصيل المتقدم تعبدا " بالأخبار
64

الخاصة مع الاقتصار على موردها من التفصيل في دين المعتق من غير
تعد منه إلى غيره من سائر المنجزات، فيرجع فيها إلى تقديم المنجز
على الدين مطلقا ".
الثاني بتعيين المنجز ثلثا "، إن كان بقدره وتعيينه من الثلث، إن
كان دونه لأن ذلك بحكم تعيين الميت ثلثه في مال مخصوص بعد أن
كان له تعيين ذلك، وليس للوارث مزاحمة المنجز له في العين المنجزة
وتبديلها بغيرها.
الثالث كون العبرة بثلث المال عند الموت لا حين التنجيز كالوصية
التي يعتبر فيها الثلث حين الموت لا حينها.
الرابع تقديم المتقدم منها فالمقدم في المنجزات المرتبة مع زيادتها
على الثلث مطلقا ". وإن كان فيها عتق متأخر، فيقدم المنجز المتقدم عليه
اجماعا " كالوصايا المتزاحمة، غير أنه في الوصايا قيل بتقدم العتق وإن كان
متأخرا " في الذكر كما عن الشيخ والإسكافي، ولكن المشهور فيها بنوا على
العمل بالترتيب المذكور فيها، وإن كان فيها عتق متأخر ولعل مستند
الشيخ وابن الجنيد (1) ما تقدم من قوله: " يبدأ بالعتق " في الأخبار المتقدمة.

(1) ابن الجنيد هو الإسكافي، وهو محمد بن أحمد بن الجنيد أبو علي
الكاتب الإسكافي، من أعاظم الفرقة وأعيان الطائفة وأفاضل قدماء الإمامية
وأكثرهم علما " وفقها " وأدبا "، وأكثرهم تصنيفا " وأحسنهم تحريرا "، وأدقهم
نظرا "، متكلم فقيه، محدث أديب، واسع العلم، صنف في الفقه والكلام
والأصول والأدب الكتابة وغيرها. تبلغ مصنفاته عدا أجوبة مسائله
نحوا " من خمسين كتابا.. " هكذا ذكره وأطراه السيد بحر العلوم في
فوائده الرجالية (ج‍ 3 ص 206 طبع النجف) ويستمر في استعراض كتبه
ومؤلفاته إلى قوله في آخر ص 207 وهذا الشيخ على جلالته في
الطائفة ورياسته وعظم علمه: قد حكي القول عنه بالقياس، ونقل
ذلك عنه جماعة من أعاظم الأصحاب، ومع ذلك فقد أثنى عليه علماؤنا
وبالغوا في إطرائه ومدحه وثنائه. ". وهو من أعلام القرن الرابع الهجري
ومن معاصري الشيخ الكليني قدس سرهما.
65

ولو اجتمعت منجزات ووصايا وزاد المجموع على الثلث، فلا إشكال
بل لا خلاف في تقديم المنجزات على الوصايا مطلقا "، وإن تأخر عنها في
الذكر وكان النقصان في الوصية، لأن التنجيز تمليك فعلي، وقدتم السبب
من قبل المعطى، وإن كان مراعى في التخريج بالموت. ولا كذلك الوصية
فإنها معلقة على الموت الذي هو بمنزلة الجزء من السبب.
هذا كله في المنجزات، وأما الاقرار في مرض الموت، فلا يخلو:
أما أن يكون الاقرار بدين أربعين، وعلى التقديرين: فإما أن يكون لأجنبي
أو للوارث. وعلى التقادير: فإما أن يكون متهما " في إقراره أو لا يكون
متهما " فيه:
اختلفت كلماتهم في نفوذه من الأصل مطلقا "، أو التفصيل بحسب
الصور المتقدمة والقيود الواردة في بعض النصوص من التقييد بكونه عدلا
أو مرضيا " أو مليا " أو مصدقا ": على أقوال.
وليعلم أولا كما سبق أنه لا ملازمة بين القول بنفوذ المنجزات من
الأصل ونفوذ الاقرار منه أيضا " كما ادعاه في (المهذب) (1) لامكان

(1) المهذب البارع في شرح المختصر النافع للمحقق الحلي، تأليف
الشيخ أحمد بن محمد بن فهد الحلي المتولد سنة 757 ه‍ والمتوفى سنة 841 ه‍،
ولا يزال الكتاب من نفائس المخطوطات في مكتبة آل كاشف الغطاء
الخاصة، وهو مجلد ضخم مستوعب للشرح والتفصيل والتحقيق، قال
في آخر كتاب الوصايا منه في شرح قول المحقق: " أما الاقرار للأجنبي
فإن كان متهما " على الورثة فهو من الثلث، وإلا فهو من الأصل ":
" أقول: إقرار المريض هل يمضي من الأصل، أو يتقيد بالثلث كالوصية؟
ابن إدريس على الأول، وهو لازم لكل من جعل المنجزات من الأصل ".
66

التخلف في الثاني بنفوذه من الثلث في مورد التهمة، تعبدا " بالأدلة الخاصة
فيه، كما أنه لا ملازمة بين القول بنفوذ المنجز من الثلث ونفوذ الاقرار
منه أيضا " وإن نسب إليه ذلك أيضا " في (ملحقات البرهان) (1) إلا أني لم أجده
فيما حضرني من نسخة (المهذب) بل الموجود فيه التصريح بالعدم (2).
وإنما نمنع الملازمة فيه لخروج المقر به عن كونه تركة الميت وماله
ومتعلقا " به حق الغير بعمومات أدلة (إقرار العقلاء) فيكون خارجا " من

(1) هي مجموعة صغيرة تحتوي على أربعة رسائل موجزة: في المسافة
الملفقة، والرجوع عن قصد الإقامة، وميراث الزوجة، وتصرفات المريض
اعتبرها مصنفها وهو الفقيه المحقق السيد على بحر العلوم الطباطبائي
صاحب البرهان القاطع من ملحقات كتابه (البرهان).
قال أعلى الله مقامه في آخريات الرسالة الرابعة من المجموعة:
" وأما الاقرار من المريض بمال للغير، فربما استظهر من اتفاق الأصحاب
غير الحلي وسلار على عدم نفوذه مطلقا " من الأصل - القول بخروج المنجزات
من الثلث إلى قوله: وعن المهذب: إن القول بكون المنجز من
الأصل يلزمه القول بنفوذ الاقرار من الأصل، والقول بكونه من الثلث
يلزمه القول بأن الاقرار من الثلث. ".
(2) ففي المهذب تتمة العبارة الآنفة الذكر هكذا: " ومن قال:
إنها من الثلث: منهم من قال: الاقرار من الأصل. ومنهم من فصل
والتفصيل في موضعين: (1) في الفرق بين العين والدين (2) وفي الفرق
بين الوارث والأجنبي إلى آخر كلامه..
67

الأصل، وإن قلنا بخروج المنجزات من الثلث.
هذا واستدل شيخنا في (الجواهر) على خروج المنجزات من الثلث
بالأدلة الدالة على نفوذ الاقرار منه في مورد التهمة ثم قال: " ولا ينافيه
النفوذ من الأصل مع عدم التهمة، إذ لعله تعلق لا يمنع من الاقرار مع
عدم التهمة، فإن تعلق الحقوق بالنسبة إلى ذلك مختلف " (1) انتهى.
وتقريب الاستدلال بها على مدعاه في المنجز إنما هو لكون المانع
عن النفوذ فيما زاد على الثلث في غير مورد التهمة تعلق حق الوارث به
وهو كما يمنع من نفوذ الاقرار فيه كذلك يمنع من نفوذ المنجز فيه أيضا "
لوجود الملاك، وهو تعلق حق الغير به، فيكون من تنجيز ما تعلق به
حق الغير، وهو باطل.
قلت: لنا في كلا طرفي كلامه تأمل، أما التعليل بعدم المنافاة
ففيه أن حق الغير بعد فرض تعلقه لا يمكن نفوذ الاقرار في متعلقه
وإن لم يكن متهما "، لعدم شمول دليل الاقرار له، بعد أن كان مورده
النفوذ على نفسه دون غيره. (ودعوى) اختلاف الحقوق بالنسبة إلى
ذلك (أمر) لا نعقله بعد فرض التعلق.
وأما التقريب، ففيه أنه كما يحتمل أن يكون المانع تعلق حق الغير به
وعليه فيمنع في المنجز أيضا " كذلك يحتمل أن يكون المانع لزوم التفويت
على الوارث والاضرار به، وإن لم يتعلق له به حق فعلي، وحيث

(1) فقد ذكر قبل هذه الجملة قوله: مضافا " إلى نصوص الاقرار
المتضمنة لنفوذه من الثلث مع التهمة، وبدونها من الأصل ولولا تعلق حق
الوارث في الجملة بحيث لا يمضي الاقرار عليه، لم يكن وجه للنفوذ من
الثلث.. ولا ينافيه. راجع: كتاب الحجر في أخريات شرح
قول المحقق: وفي منعه من التبرعات المنجزة الزائدة عن الثلث خلاف بيننا.
68

لا ضرر ولا تفويت على الوارث لو نفذ من الثلث التزمنا بنفوذه فيه،
عملا بدليل الاقرار في الجملة (1) ولا يتوهم على هذا الوجه لزوم
القول بالتفصيل بين التهمة وعدمها في المنجز أيضا ". مع أنه لا قائل به
لأن التنجيز انشاء للنقل وإيجاد لسببه وداعي التفويت لا يوجب سقوط أثر
الانشاء وليس هو كالاقرار من مقولة الخبر المحتمل فيه الصدق والكذب
حتى يلغي الشارع احتمال الكذب في غير التهمة ويعتبره فيها.
وبعبارة أخرى: الاقرار، وإن كان خبرا " عن أمر سابق يحتمل
فيه الصدق والكذب، إلا أن غلبة الصدق فيما عليه أوجب جعله الشارع
طريقا " إلى الواقع، لأن العاقل لا يقر غالبا " بما فيه ضرر عليه، وفي
مورد التهمة يضعف ذلك الظهور، ويقوى احتمال الكذب فيه لداع من
الدواعي، فيسقط عن الطريقية، ولا كذلك الأسباب والانشاءات في
تأثيرها وإيجاد مسبباتها، وإن اختلف الدواعي. نعم يلزم القول بالتفصيل
في المنجز أيضا "، ولو كان وجه المنع في الاقرار مع التهمة تعلق حق الوارث
وهو مما يضعف كونه الوجه في ذلك أيضا ".
إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلى ذكر الأقوال وأدلتها فنقول: اختلفت
كلماتهم في نفوذ الاقرار في مرض الموت على أقوال:

(1) إشارة إلى الحديث النبوي المشهور على ألسنة الفقهاء والمذكور
في كتبهم الفقهية في مقام الاستدلال على إلزام المقر بما أقر به، وهو
قوله صلى الله عليه وآله: " إقرار العقلاء على أنفسهم جائز " قال: الحر العاملي
في الوسائل أوائل كتاب الاقرار، باب صحة الاقرار من البالغ العاقل:
" وروى جماعة من علمائنا في كتب الاستدلال عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:
إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ".
69

أحدها: نفوذه من الأصل مطلقا "، وهو المحكى عن السرائر،
والغنية، والمراسم وكشف الرموز. وعن الأولين: دعوى الاجماع
عليها (1).

(1) ففي أخريات كتاب الصدقات من (كتاب السرائر) لمحمد
ابن إدريس الحلي، باب الاقرار في المرض ص 391 طبع حجري، قوله:
" إقرار المريض على نفسه جائز للأجنبين وللوارث وعلى كل حال،
إذا كان عقله ثابتا " في حال الاقرار، يكون ما أقر به من أصل المال،
سواء كان عدلا أو فاسقا، متهما على الورثة أو غير متهم، وعلى كل
حال سواء كانت مع المقر له بينة أو لم تكن، لاجماع أصحابنا المنعقد:
أن إقرار العقلاء جائز فيما يوجب حكما في شريعة الاسلام ".
وفي كتاب الغنية للسيد أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني بعنوان
(فصل في الاقرار) ضمن كتاب التجارة، عبارته في أول الفصل هكذا:
" ويصح إقرار المحجور عليه واقرار المريض للوارث وغيره بدليل الاجماع
المشار إليه. " وعبارته في آخر الفصل هكذا: " ومن أقر بدين في
حال صحته ثم مرض فأقر بدين آخر في حال مرضه صح، ولا يقدم
دين الصحة على دين المرض إذا ضاق المال عن الجميع بل يقسم على قدر
الدينين بدليل قوله تعالى: " من بعد وصية يوصى بها أو دين " من
غير فضل ".
ومن ملاحقة العبارتين يظهر رأيه جليا " في تقديم الاقرار بالدين من
الأصل مستدلا بالاجماع.
وفي كتاب المراسم العلوية في الأحكام النبوية المطبوع ضمن الجوامع
الفقهية في إيران للشيخ حمزة أبي يعلى سلار بن عبد العزيز الديلمي من
أعلام القرن الخامس الهجري، قال في أخريات كتاب العتق والتدبير
والمكاتبة، بعنوان ذكر الاقرار في المرض: " من كان عاقلا يملك
أمره فيما يأتي ويذر، فاقراره في مرضه كاقراره في صحته " أي في الاخراج
من الأصل.
70

ثانيها التفصيل بين التهمة، فينفذ من الثلث مطلقا "، وعدمها فينفذ
من الأصل كذلك، سواء كان بدين أو بعين لأجنبي أو للوارث، وهو
المنسوب إلى الأكثر.
ثالثها إنه من الأصل مع العدالة وعدم التهمة مطلقا "، ومن الثلث
مع عدمها مطلقا "، وهو المحكي عن القاضي ونهاية الشيخ (1).
رابعها إن كان المقر عدلا فهو من الأصل، وإلا فمن الثلث
حكاه في مفتاح الكرامة والجواهر قولا ولم ينسباه إلى قائل.
خامسها أنه للأجنبي من الأصل مطلقا "، وللوارث كذلك مع عدم
التهمة، ومن الثلث معها، وهو محكي عن ابن حمزة (2)

(1) لم نجد ذلك جليا " في مظانه من كتاب جواهر الفقه للقاضي
ابن البراج، ولكن رأيه هذا منقول في عامة الموسوعات الفقهية،
وفي نهاية الشيخ الطوسي قدس سره آخر كتاب الوصايا، باب
الاقرار في المرض والهبة، ص 617 طبع دار الكتاب العربي في بيروت
هكذا: " اقرار المريض جائز على نفسه للأجنبي وللوارث على كل حال
إذا كان مرضيا " موثوقا " بعدالته، ويكون عقله ثابتا " في حال الاقرار، ويكون
ما أقر به من أصل المال، فإن كان غير موثوق به، وكان متهما "، طولب المقر له
بالبينة، فإن كانت معه بينة أعطي من أصل المال وإن لم يكن معه بينة
أعطي من الثلث، إن بلغ ذلك. فإن لم يبلغ فليس له أكثر منه ".
(2) قال ابن حمزة المشهدي في كتاب الوسيلة المطبوع بالحجر ضمن
الجوامع الفقهية، في فصل الاقرار، قبل كتاب النفقات: " واقرار
المريض إذ كان صحيح العقل مثل اقرار الصحيح إلا في حق بعض
الورثة لشئ إذا كان متهما "، فإذا أقر له ولم يكن للمقر له بينة على
ما أقر له به، كان في حكم الوصية ".
71

سادسها ما هو المحكي عن المقنع: من نفوذه من الثلث في حق
الوارث، ولم يعلم فتواه في الأجنبي (1).
سابعها ما هو المحكي عن المقنعة: من أنه إن كان بدين فهو من
الأصل مطلقا "، وإن كان بعين وكان عليه دين يحيط بما في يده قبل إقراره
إن كان عدلا مأمونا "، ولم يقبل إقراره إن كان متهما " (2).
ثامنها أنه إن كان مأمونا " فهو من الأصل، صحيحا " كان أو مريضا "
لوارث أو لأجنبي بدين أو بعين، وإن كان متهما " فهو من الثلث مطلقا "
وهو المحكي عن أبي الصلاح، ولم أجد موافقا " له في التفصيل بين التهمة
وعدمها في حال الصحة، بل قيل بعد حكايته عنه لا خلاف في
نفوذه من الأصل في الصحة مع التهمة أيضا ".
تاسعها نفوذه من الثلث للورثة مطلقا " مع التهمة وعدمها، وللأجنبي

(1) المقنع للصدوق رحمة الله طبع بالحجر في إيران مع الجوامع
الفقهية، قال في أوائل باب الوصايا " وإذا أقر الرجل وهو
مريض لوارث بدين، فإنه يجوز إذا كان الذي أقر به دون الثلث " ولم
يذكر غير الوارث.
(2) كمال العبارة في مقنعة الشيخ المفيد طبع حجري في إيران،
باب الاقرار في المرض هكذا: " واقرار العاقل في مرضه للأجنبي والوارث
سواء، وهو ماض واجب لمن أقر به. وإذا كان على الرجل دين يحيط
بما في يديه، فأقر بأنه وديعة لوارث وغيره، قبل إقراره إن كان عدلا
مأمونا "، وإن كان متهما " لم يقبل إقراره... "
72

التفصيل بين التهمة وعدمها، وهو اختيار النافع (1).
ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف الأخبار التي:
منها خبر منصور بن حازم: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه دينا "؟ فقال: إن كان الميت مرضيا
فأعطه الذي أوصى له " (2).
ومنها خبر أبي أيوب عنه أيضا " (3).
ومنها خبر العلا بياع السابري: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
امرأة استودعت رجلا مالا فلما حضرها الموت قالت له: إن المال الذي
دفعته إليك لفلانة، وماتت المرأة فأتى أوليائها للرجل فقالوا له: إنه كان
لصاحبتنا مال ولا نراه إلا عندك فاحلف لنا ما لها قبلك شئ، أفيحلف لهم
فقال: إن كانت مأمونة عنده فيحلف لهم، وإن كانت متهمة فلا يحلف
لهم ويضع الأمر على ما كان فإنما لها من مالها ثلثه " (4).
ومنها خبر أبي بصير: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل
معه مال مضاربة، فمات وعليه دين وأوصى إن هذا الذي ترك لأهل

(1) تمام العبارة في المختصر النافع للمحقق آخر كتاب الوصايا هكذا
".. أما الاقرار للأجنبي، فإن كان متهما " على الورثة فهو من الثلث
وإلا فهو من الأصل. وللوارث من الثلث على التقديرين.
(2) الوسائل، كتاب الوصايا، باب 16 صحة الاقرار للوارث
حديث رقم (1).
(3) في نفس المصدر آخر الحديث الثاني يشير الحر العاملي إلى خبر
أبي أيوب عن الإمام الصادق (ع). وبهذا النص برقم (8) بنفس الباب.
(4) المصدر نفسه حديث رقم (2).
73

المضاربة أيجوز ذلك؟ قال: نعم إذا كان مصدقا " (1).
وصحيح الحلبي: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يقر
لوارث بدين فقال يجوز إذا كان مليا " (2).
ومنها خبره الآخر: " أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن رجل
أقر لوارث بدين في مرضه أيجوز ذلك قال " نعم إذا كان مليا " (3).
ومكاتبة محمد بن عبد الجبار إلى العسكري عليه السلام: " عن امرأة
أوصت إلى رجل وأقرت له بدين ثمانية آلاف درهم وكذلك ما كان لها
من متاع البيت من صوف وشعر وشبة وصفر ونحاس وكل ما لها أقرت به
للموصى له وأشهدت على وصيتها وأوصت أن يحج عنها من هذه التركة
حجتان ويعطى مولى لها أربعمأة درهم وماتت المرأة وتركت زوجها، فلم
ندر كيف الخروج من هذا واشتبه علينا الأمر، وذكر كاتب إن المرأة
استشارته فسألته أن يكتب لهم ما يصح لهذا الوصي فقال لها لا تصح تركتك
لهذا الوصي إلا باقرارك له بدين يحيط بتركتك بشهادة الشهود وتأمريه
بعد أن ينفذ ما توصيه به، فكتبت له بالوصية على هذا. وأقرت للوصي
بهذا الدين، فرأيك أدام الله عزك في مسألة الفقهاء قبلك عن هذا وتعريفنا
ذلك لنعمل به إن شاء الله تعالى؟ فكتب عليه السلام بخطه إن كان الدين
صحيحا " معروفا " ومفهوما " فيخرج الدين من رأس المال، وإن كان لم يكن الدين
حقا " أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها كفى أو لم يكف " (4).
ومنها خبر إسماعيل بن جابر: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن

(1) المصدر نفسه حديث رقم (14).
(2) المصدر نفسه بنفس الباب. حديث رقم (5).
(3) المصدر نفسه بنفس الباب. حديث رقم (7). (4) المصدر نفسه حديث رقم (10).
74

رجل أقر لوارث وهو مريض بدين له عليه؟ قال: يجوز إذا أقر به
دون الثلث " (1).
ومنها خبر سماعة: " سألته عمن أقر لوارث بدين عليه وهو مريض
قال يجوز عليه ما أقر به إذا كان قليلا (2).
ومنها خبر أبي ولاد: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل
اعترف لوارث له بدين في مرضه؟ فقال لا تجوز وصيته لوارث ولا اعتراف له
بدين " (3).
ومنها خبر السكوني: " قال أمير المؤمنين عليه السلام في رجل أقر
عند موته لفلان وفلان: لأحدهما عندي ألف درهم ثم مات على تلك الحال
أيهما أقام البينة فله المال فإن لم يقم واحد منهما البينة فالمال بينهما
نصفان " (4).
ومنها خبر سعد بن سعد: " عن الرضا عليه السلام قال: سألته
عن رجل مسافر حضره الموت فدفع مالا إلى رجل من التجار فقال له إن
هذا المال لفلان ابن فلان ليس لي فيه قليل ولا كثير فادفعه إليه يصرفه
حيث شاء، فمات ولم يأمر فيه صاحبه الذي جعله له بأمر ولا يدري صاحبه
ما الذي حمله على ذلك كيف يصنع؟ قال يضعه حيث شاء " (5).

(1) الوسائل كتاب الوصايا، باب الاقرار للوارث، حديث رقم (3).
(2) المصدر نفسه، حديث رقم (9).
(3) في الوسائل، كتاب الوصايا، باب 15 جواز الوصية للوارث
حديث (12) هكذا: وعنه عن القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبد الله. الخ
(4) راجع: مستدرك الوسائل، كتاب الوصايا باب 24 إن من
أقر الواحد من اثنين.
(5) الوسائل كتاب الوصايا، باب 16 حديث رقم (6).
75

وأنت خبير بأن القول المشهور وهو التفصيل بين التهمة وعدمها
بالنفوذ من الثلث مطلقا " أو من الأصل كذلك هو مقتضى الجمع بين هذه
الأخبار بعد ارجاع بعض القيود التي فيها ككونه عدلا أو مرضيا " أو ثقة
أو مصدقا " أو مليا "، سيما بناء على تفسير الملاة بالوثاقة كما عن الصحاح
إلى المأمونية المقابلة للتهمة، فيكون مرجح الكل إلى التفصيل بين التهمة
وعدمها، بها تخصص عمومات أدلة الاقرار التي مقتضاها نفوذه من الأصل
ولو مع التهمة في مرض الموت، ضرورة إن في كل من الأقوال المتقدمة
عدا القول بالتفصيل المذكور طرحا " لبعض هذه النصوص أو جلها
مع عدم الداعي إليه، فراجع.
بقي هنا إشكال في ضمن إشكال.
الأول أن مقتضى مفهوم النصوص المتقدمة كما قيل سقوط
الاقرار مع التهمة رأسا "، لا نفوذه من الثلث.
الثاني بعد فرض النفوذ عليه يقتضي نفوذه على قدر نسبة ما يخصه
من المال وهو الثلث، لا نفوذ كله منه كما ينفذ على المعترف من الورثة
مع انكار الباقي بدين على مورثهم بقدر نصيبه من الإرث، لا كله.
والجواب: أما عن الأول، فمع قيام الاجماع بقسميه على عدم
حرمان المقر له مما أقر به المقر ونفوذه من ثلثه، إشعار جملة من النصوص به
بل دلالتها عليه، كما في ذيل خبر العلا من التعليل لعدم الحلف بأنما لها
من مالها الثلث، فإنه لا ربط لذكر ذلك إلا من حيث نفوذ ما أقرت به
من الثلث، وذيل روايتي إسماعيل بن جابر، وسماعة، بناء على ظهور
إرادة الثلث فما دون من الأولى، وإرادة الثلث من القليل في الثانية.
ومنه يعلم الجواب عن الثاني أيضا "، مضافا " إلى وضوح الفرق بينه
وبين اعتراف أحد الورثة بدين على الميت، ضرورة أن المخاطب بالوفاء
76

هنا هو المقر بعد ثبوت الدين عليه باقراره، فيكون وفاء ما عليه مما له من
المال وهو الثلث، ولا كذلك في الوارث، فإن المخاطب بالوفاء جميع
الورثة، فعلى المعترف بنسبة ما يخصه من الإرث باعترافه، فما أبعد ما بين
المقيس والمقيس عليه. نعم يقاس المقام بما لو علم الوصي بدين على الميت
مع انكار الورثة وعجزه عن اثباته، فإنه يجب عليه وفاؤه من الثلث مع
عدم التمكن من غيره وليس إلا لكون الدين على الميت، والوصي نائب
عنه ومخاطب به، حيث لا طريق له على الوارث، فظهر لك من مجموع
ما ذكرنا أن الأقوى في مسألة المنجزات في مرض الموت نفوذها من الأصل
وفي مسألة الاقرار فيه نفوذه منه أيضا "، سواء كان بدين أو بعين لأجنبي
كان أو للوارث، إلا في صورة التهمة، فإنه ينفذ من الثلث مطلقا " في
الصورة المزبورة، وحيث قوينا نفوذه المنجز من الأصل كفينا مؤنة التعرض
لبقية الفروع المبتنية على نفوذه من الثلث.
والله
العالم بحقائق أحكامه
77

رسالة
في حرمان الزوجة من بعض الإرث
79

بسم الله الرحمن الرحيم
80

أجمعت الإمامية على ما قيل عدا الإسكافي (1) على حرمان الزوجة
في الجملة إرثا " من تركة زوجها. وإنما اختلفوا في موضعين (الأول):
فيما تحرم منه من أعيان التركة (الثاني): فيمن تحرم منه من الزوجات
مطلقا "، أو خصوص غير ذات الولد منها.
أما الموضع الأول فقد اختلفت كلماتهم في ذلك على أقوال:
أحدها وهو المنسوب إلى الشيخ في (النهاية) وابن حمزة وابن
البراج وأبي الصلاح والتقى (2): بل قيل هو المشهور حرمانها

(1) نسبة إلى (إسكاف) بالكسر، وهي النهراوانات بين بغداد
وواسط. وهو نفس ابن الجنيد محمد بن أحمد أبو علي الكاتب، وكان من
أعاظم الفقهاء الإمامية، ومن مقدميهم في العلم وكثرة التصنيف في مختلف
فنون العلم والأدب، وكأن يقول بحجية القياس، ويوافق العامة في كثير
من فتاواه توفي بالري سنة 381 ه‍ (راجع عن تفصيل ترجمته: رجال
السيد بحر العلوم مع تعليقاته: ج‍ 3 ص 205 224 (طبع النجف).
(2) هكذا في الأصل مع العطف. ولعل الصحيح بدون واو العطف
فإن أبا الصلاح هو نفسه التقي بن نجم بن عبيد الله الحلي المعاصر للعلمين
السيد المرتضى والشيخ الطوسي، وله مصنفات في الفقه كثيرة منها
(الكافي) ولعله لا يزال من نفائس المخطوطات (ترجم له السيد
بحر العلوم في رجاله ج‍ 2 ص (131 - 134) طبع النجف الأشرف.
81

من مطلق الأرض، سواء كانت بياضا " أو مشغولة بزرع أو بناء أو
نخل أو شجر أو غير ذلك (1) ويقوم البناء وما فيه من الآلات
كالطوب (2) والبوب والخشب والقصب وغير ذلك من الآلات المستدخلة
في البناء، ويعطى حقها من قيمة ذلك، ونسب إلى أهل هذا القول توريثها
من عين النخل والشجر، وعليه يكون حرمانها عندهم من مطلق الأرض مطلقا "
عينا " وقيمة، ومن البناء وما فيه من الآلات عينا " لا قيمة، وتوريثها من عين

(1) ففي (النهاية للشيخ الطوسي ص 642) طبع دار الكتاب
العربي: " والمرأة لا ترث من زوجها من الأرضين والقرى والرباع
من الدور والمنازل، بل يقوم الطوب والخشب وغير ذلك من الآلات
وتعطي حصتها منه، ولا تعطي من نفس الأرض شيئا وقال بعض
أصحابنا إن هذا الحكم مخصوص بالدور والمنازل دون الأرضين والبساتين
والأول أكثر في الروايات، وأظهر في المذهب،
وفي (الوسيلة إلى نيل الفضيلة لأبي جعفر محمد بن علي بن حمزة
الطوسي، المطبوع مع الجوامع الفقهية طبعة حجرية في إيران) في فصل
ميراث الأزواج: ".. وإن لم تكن (أي الزوجة) ذات ولد منه
(أي الزوج) لم يكن لها حق في الأرضين والقرى والمنازل والدور
والرباع ".
وأما القاضي ابن البراج. فلم نجد رأيه في ذلك صريحا " في مظانه
من كتابه جواهر الفقه، المطبوع ضمن الجوامع الفقهية، ولكن ينسب
إليه ذلك في عامة الموسوعات الفقهية كما في المتن.
وأما أبو الصلاح التقي الحلبي، فلم يحضرني كتابه (الكافي) المخطوط
كما عرفت ولكن المنقول عنه ذلك أيضا " في عامة الموسوعات الفقهية.
(2) الطوب بالضم: الآجر كما عن القاموس.
82

النخل والشجر.
لكن لم أجد في النهاية ذكر النخل والشجر (1) حتى يعلم توريثها من
عينهما أو من قيمتهما ولعل النسبة من جهة اختصاص الحرمان في الذكر
بالأرض واختصاص التقويم في الذكر بالبناء والآلات، وليس النخل
والشجر منهما فيكونان باقيين في عمومات الإرث، الموجب للإرث من
عينهما كسائر الأموال، إلا أنه كما يحتمل ذلك، مع عدم جواز النسبة
بمجرد ذلك، كذلك يحتمل ادخالهما في الآلات التي ترث من قيمتها
لا من عينها، وكيف كان
الثاني مثل الأول مع توريثها من قيمة النخل والشجر، وهو
للعلامة في القواعد والشهيد في الدروس (2) وجمع كثير، بل نسبه غير واحد
كالقواعد وغيره إلى المشهور. بل لعله قول من تقدم من القدماء
بناء على إلحاقهما بالآلات، كما عرفت. وعلى فتحرم من مطلق الأرض
عينا " وقيمة، وتعطى من قيمة ما عليها من الأعيان الثابتة مطلقا "، فتحرم

(1) ولعل في آخر عبارة (النهاية) الآنفة الذكر إشارة إلى ذلك
حيث يقول ". وقال بعض أصحابنا. " فإن كلمة (البساتين) ترمز
إلى النخل والشجر، والله العالم.
(2) قال العلامة في قواعده في أخريات الفصل الرابع من كتاب
الفرائض: " أما الروجة: فإن كان لها ولد.. وإن لم يكن لها
ولد، فالمشهور أنها لا ترث من رقبة الأرض شيئا ". وتعطي حصتها من
قيمة الآلات والأبنية والنخل والشجر. ".
وقال الشهيد الأول في دروسه: كتاب الميراث بعنوان (درس
وثالث عشرها ": " الثالث لو خلت الزوجة عن ولد لم ترث من
رقبة الأرض شيئا "، وتعطي قيمة الآلات والأبنية والشجر. ".
83

من عينها لا من قيمتها، ولو كان نخلا " أو شجرا ".
الثالث اختصاص الحرمان بخصوص أرض الرباع، وهي الدور
والمساكن عينا " وقيمة، ومن عين ما فيها من البناء دون قيمته وترث من
غير ذلك عينا "، وإن كان أرضا "، كسائر أمواله. وهو منسوب إلى
المفيد (1) وابن إدريس (2) وكاشف الرموز (3). ومال إليه في

(1) قال الشيخ المفيد كما في المقنعة باب ميراث الأزواج غير
ذوي الأولاد: ". ولا ترث الزوجة شيئا " مما يخلفه الزوج من الرباع
وتعطي قيمة الخشب والطوب والبناء والآلات فيه، وهذا هو منصوص
عليه عن نبي الهدى عليه وآله الصلاة والسلام وعن الأئمة من عترته.
والرباع: هو الدور والمساكن دون البساتين والضياع ".
(2) قال محمد بن إدريس العجلي الحلي في كتابه (السرائر: كتاب
الفرائض أثناء فصل: وإذا انفرد الولد من الأبوين وأحد الزوجين):
" وكذا ذهب السيد المرتضى فيما رواه أصحابنا وأجمعوا عليه: من
أن الزوجة التي لا يكون لها من الميت ولد لا ترث من الرباع والمنازل
شيئا ". والحق بعض أصحابنا جميع الأرضين من البساتين والضياع وغيرها
وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر، والأول اختيار الشيخ المفيد إلى قوله:
والصحيح أنها لا ترث من نفس التربة ولا من قيمتها، بل يقوم الطوب
والآلات وتعطي قيمة ".
(3) كشف الرموز أول شرح للمختصر النافع للمحقق الحلي، تصنيف
الفقيه الحسن بن أبي طالب الآبي اليوسفي معاصر المحقق الحلي وتلميذه الأقدم
وهو من نفائس المخطوطات (راجع عنه وعن مؤلفه، رجال السيد بحر العلوم
ج‍ 2 ص 179 186 مع التعليقات) طبع النجف. ويظهر من السيد
في رجاله: أن المحقق المنقول عنه في هذا الكتاب يرى الحرمان من
الرباع لمطلق الزوجة، حتى لو كانت ذات ولد فلاحظ.
84

(المختلف) إلا أن قرار فتواه على قول الشيخ (1). وقواه في الكفاية (2)

(1) مختلف الشيعة في أحكام الشريعة للعلامة الحلي قدس سره
ففي كتابه الفرائض منه، مسألة حرمان الزوجة من الأرض والرباع يقول:
" مسألة قال الشيخ في النهاية: المرأة لا ترث من زوجها من الأرضين
والقرى والرباع من الدور والمنازل.. " وبعد أن يستعرض آراء
الفقهاء القدماء في المسألة كالقاضي بن البراج وأبي الصلاح الحلي وابن
حمزة والشيخ المفيد وابن إدريس والسيد المرتضى وغيرهم يقول:
" والذي يقوي في نفسي أن هذه المسألة تجري مجرى المسألة المتقدمة في
تخصيص الأكثر من الذكور بالمصحف والسيف، وأن الرباع، وإن لم
يسلم في الزوجات، فقيمتها محسوبة لها. " وفي آخر المسألة يختم كلامه
بقوله: " وبعد هدا كله فالفتوى على ما قاله الشيخ رحمه الله ".
(2) راجع من كفاية السبزواري، كتاب المواريث، البحث الرابع
في الميراث بحسب السبب، وفيه فصول: الأول في بعض الأحكام
المتعلقة بميراث الأزواج، وفيه مسائل: " الثالثة المشهور بين علمائنا
حرمان الزوجة عن شئ من ميراث الزوج في الجملة إلى قوله:
وللأصحاب اختلاف في هذه المسألة في موضعين: (الأول) فيما يحرم
منه وقد اختلف في الأصحاب على أقوال إلى قوله: الثالث
حرمانها من الرباع، وهي الدور والمساكن دون البساتين والضياع،
وتعطي قيمة الآلات والأبنية من المساكن، وهو قول المفيد وابن إدريس "
وبعد ذكر الأقوال في المسألة يستعرض الروايات التي يظهر منها الخلاف
في الأقوال، ثم يأخذ في ترجيح الأقوال على ضوء ترجيح أدلتها والجمع
بين متعارضاتها، فيرجح أولا قول السيد المرتضى، وهو رابع الأقوال
لقوة دليله. وأخيرا ": يختم المورد بقوله: " وبعد قول السيد فقول المفيد
ومن تبعه لا يخلو عن قوة ".
85

وهو ظاهر النافع (1) والمحكى عن تلميذه في شرحه (2).
الرابع وهو للمرتضى رحمه الله تعالى: (3) اختصاص الحرمان

(1) وذلك لقول المحقق الحلي الصريح في (مختصر النافع، كتاب
الميراث، المقصد الثاني في ميراث الأزواج: " ويرث الزوج من جميع
ما تركته المرأة، وكذا المرأة عدا العقار، وترث من قيمة الآلات
والأبنية. ".
(2) لا ندري ماذا يقصد الماتن ب‍ (تلميذه وشرحه) بعد أن
ذكر (كشف الرموز للمحقق الآبي) تلميذ المحقق الحلي وهو أول شروح
النافع بعد شرح المصنف نفسه له والذي يستعرض شروح (النافع).
المدرجة في (الذريعة للمرحوم الطهراني) ويواكب تلاميذ المحقق الحلي
المذكورة في مصادر ترجمته لم يجد تلميذا " شارحا " للكتاب غير المحقق الآبي
المذكور، فإن أقدم ما أطلعنا عليه من شروح، هو (التنقيح الرائع)
للفاضل المقداد السيوري المتوفى سنة 826 ه‍. و (المهذب البارع للشيخ
أحمد بن محمد بن فهد الحلي المتوفى سنة 841 ه‍. وهذان العلمان لا يمكن
لهما معاصرة أو تلميذة المحقق الحلي المولود سنة 602 والمتوفى سنة 676 ه‍
عادة بحكم البون الشاسع بين التاريخين. وأخيرا، فلم نجد تخريجا "
واضحا " لما يريده الماتن قدس سره من هذه الجملة على أن عدم
الوجدان لا يدل على عدم الوجود. والله العالم.
(3) قال السيد في كتابه (الإنتصار: ص 301) طبع النجف
سنة 1391: " مسألة، ومما انفردت به الإمامية القول بأن الزوجة
لا ترث من رباع المتوفى شيئا "، بل تعطي بقيمة حقها من البناء والآلات
دون قيمة العراص، وخالف باقي الفقهاء في ذلك، ولم يفرقوا بين الرباع
وغيرها في تعلق حق الزوجات: والذي يقوي في نفسي أن هذه المسألة
تجري مجرى المسألة المتقدمة في تخصيص الأكبر من الذكور بالسيف
والمصحف، وأن الرباع، وإن لم تسلم إلى الزوجات، فقيمتها محسوبة لها ".
86

بالرباع أرضا " وعمارة، لكن عينا " لا قيمة، فتعطى حقها من قيمتها أرضا "
وعمارة، وتوريثها من غير ذلك عينا " ولو كان ضيعة وعقارا ".
هذه أربعة أقوال في حرمان الزوجة. إن صحت نسبة توريثها من
عين النخل والشجر إلى الشيخ وأتباعه.
وقول وهو لابن الجنيد: عدم حرمانها من شئ وتوريثها من عين
كل شئ كغيرها من الورثة (1). فالمسألة بالنسبة إلى ميراث الزوجة خماسية
الأقوال أو رباعيتها.
ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف الأخبار الواردة في المقام عن الأئمة
الأطهار عليهم السلام. وها نتلوا عليك جملة ما وقفنا عليه:
منها موثقة عبيد بن زرارة والبقباق: " قلنا لأبي عبد الله
عليه السلام: ما تقول في رجل تزوج امرأة ثم مات عنها وقد فرض لها
الصداق؟ قال: لها نصف الصداق " وترثه من كل شئ، وإن ماتت

(1) كما مرت الإشارة من الماتن إلى قوله باستثنائه في أول المسألة.
وتذكر مخالفته هذه في عامة كتب الفقه بهذا الموضوع. ولا عجب منه
فإنه كثير المخالفة للإمامية في آرائه الفقهية، بالرغم من كونه من مفاخرهم
وأعاظمهم كما عرفت ذلك من السيد بحر العلوم في رجاله.
87

فهي كذلك " (1).
ومنها رواية البقباق وابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (ع) قال:
: سألته عن الرجل هل يرث من دار امرأته أو أرضها من التربة شيئا "،
أو يكون في ذلك بمنزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئا "؟ قال: يرثها وترثه
من كل شئ ترك وتركت " (2).
ومنها رواية محمد بن مسلم، قال " " قال أبو عبد الله عليه السلام
ترث المرأة الطوب ولا ترث من الرباع شيئا "؟ قال: قلت: كيف ترث
من الفرع ولا ترث من الرباع شيئا "؟ فقال لي: ليس لها منهم نسب ترث به
وإنما هي دخيل عليهم فترث من الفرع، ولا ترث من الأصل، ولا يدخل
عليهم داخل بسببها " (3).
ومنها رواية زرارة ومحمد: " ولا ترث النساء من عقار الدور شيئا "
ولكن يقوم البناء والطوب، وتعطى منها ثمنها أو ربعها " (4).
ومنها رواية يزيد الصائغ: " إن النساء لا يرثن من رباع الأرض
شيئا "، ولكن لهن قيمة الطوب والخشب " (5).
ومنها روايته أيضا ": " عن النساء: هل يرثن من الأرض؟

(1) كتاب الوسائل للحر العاملي كتاب النكاح، أبواب المهور باب
58، حديث (8): عن عبيد بن زرارة وفضل أبي العباس قالا: قلنا
لأبي عبد الله (ع) وفضل هو الملقب بالبقباق.
(2) الإستبصار للشيخ الطوسي، باب 94 حديث رقم 12.
(3) الإستبصار باب 94 حديث (4).
(4) الوسائل، كتاب الفرائض باب 6، حديث رقم (7).
(5) في الوسائل، كتاب الفرائض باب 6، حديث (11) قال:
سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن النساء..
88

فقال لا، ولكن يرثن قيمة النبأ، قال: قلت فإن الناس لا يرتضون أبدا "
فقال: إذا ولينا ولم يرض الناس ضربناهم بالسوط، فإن لم يستقيموا
ضربناهم بالسيف " (1).
ومنها رواية الصفار عن بصائر الدرجات عن عبد الملك: " قال
دعا أبو جعفر عليه السلام بكتاب علي عليه السلام فجاء به جعفر
مثل فخذ الرجل مطويا "، فإذا فيه: إن النساء ليس لهن من عقار الرجل
إذا توفي عنهن شئ، فقال: أبو جعفر عليه السلام: هذا والله
خط علي عليه السلام وإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله " (2).
ومنها رواية موسى بن بكير الواسطي: " قال قلت لزرارة:
إن بكيرا " حدثني عن أبي جعفر عليه السلام إن النساء لا ترث امرأة
مما ترك زوجها من تربة دار، ولا أرض إلا أن يقوم البناء والجذوع
والخشب، فتعطى نصيبها من قيمة البناء، وأما التربة فلا تعطى شيئا " من
الأرض ولا تربة دار، قال زرارة: هذا مما لا شك فيه " (3).
ومنها ما كتبه الرضا عليه السلام إلى محمد بن سنان فيما كتب من
جواب مسائله: " علة المرأة أنها لا ترث من العقار شيئا " إلا قيمة الطوب
والنقض، لأن العقار لا يمكن تغييره وقلبه، والمرأة قد يجوز أن ينقطع
ما بينها وبينه من العصمة، ويجوز تغييرها وتبديلها، وليس الولد والوالد
كذلك، لأنه لا يمكن التفصي بينهما، والمرأة يمكن الاستدلال بها فما يجوز

(1) الوسائل، المصدر الآنف الحديث قبل ذلك رقم (8) عن يزيد
الصائغ عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن النساء.
(2) الوسائل، أبواب ميراث الأزواج، باب 6 حديث (17).
(3) الوسائل، بنفس المصدر الآنف، حديث رقم (15) والاستبصار
باب 94، حديث رقم (11) طبع النجف.
89

أن يجئ ويذهب كان ميراثه فيما يجوز تغييره وتبديله إذا أشبهه، وكان
الثابت المقيم على حاله كمن كان مثله في الثبات والقيام " (1).
ومنها رواية محمد وزرارة: " إن النساء لا يرثن من الدور ولا من
الضياع شيئا "، إلا أن يكون أحدث بناء فيرثن ذلك البناء " (2).
ومنها رواية حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام: " قال
إنما جعل للمرأة قيمة الخشب والطوب لئلا يتزوجن، فيدخل عليهم من
يفسد مواريثهم " (3).
ومنها رواية ميسرة بياع الزطي عن عبد الله عليه السلام
" قال: سألته عن النساء ما لهن من الميراث؟ فقال: لهن قيمة الطوب
والبناء والخشب والقصب، فأما الأرضون والعقار فلا ميراث لهن فيه، قال قلت:
فالثياب؟ قال: الثياب لهن نصيبهن، قال: قلت: كيف صار ذا ولهذه
الثمن والربع مسمى؟ قال: لأن المرأة ليس لها نسب ترث به وإنما هي دخيل
عليهم، وإنما صار هذا هكذا لئلا تزوج المرأة فيجئ زوجها أو ولد
من قوم آخرين، فيزاحم قوما " في عقارهم " (4).

(1) الوسائل، كتاب الفرائض والمواريث، باب 6 حديث (14).
(2) الإستبصار، باب 94، حديث (10) عن محمد بن مسلم وزرارة
عن أبي جعفر..،
(3) الوسائل، كتاب الفرائض والمواريث، باب 6 حديث (9).
(4) الإستبصار باب 94، حديث (8). والزط - بالضم -:
طائفة من أهل الهند، معرب (جت) وإليهم ننسب الثياب الزطية هكذا
في كتب اللغة: فيكون المقصود من (بياع الزطي) بياع الثياب المنسوبة
إلى الزط. ولعل في الرواية شاهدا " على ذلك لسؤال الراوي عن الثياب
والله العالم.
90

ومنها رواية مؤمن الطاق: " لا يرثن النساء من العقار شيئا "،
ولهن من قيمة البناء والشجر والنخل " (1).
ومنها رواية زرارة ومحمد: " لا ترث النساء من عقار الأرض
شيئا " (2).
ومنها رواية عبد الملك بن أعين: " ليس للنساء من الدور والعقار
شئ " (3).
ومنها رواية الفضلاء الخمسة: " المرأة لا ترث من تركة زوجها
من تربة دار أو أرض إلا أن يقوم الطوب والخشب قيمة، فتعطى ربعها
أو ثمنها، إن كان له ولد، من قيمة الطوب والجذوع والخشب " (4).
ومنها رواية طربال المتضمنة لما ستعرف، ومنها موثقة زرارة.
ومنها صحيحة زرارة: " إن المرأة لا ترث فيما ترك زوجها عن
القرى والدور والسلاح والدواب شيئا " وترث من المال والفراش والثياب

(1) في الوسائل، أبواب ميراث الأزواج، باب 6 حديث (16):
عن الأحول عن أبي عبد الله، قال: سمعته يقول. والمقصود بالأحول:
هو مؤمن الطاق، أبو جعفر محمد بن علي بن النعمان الكوفي الصيرفي،
تلميذ الإمامين الباقرين عليهما السلام.
(2) في الاستبصار، طبع النجف كتاب المواريث باب 94، حديث
رقم (3) الحديث عن أبي جعفر عليه السلام.
(3) في الوسائل، كتاب الفرائض باب 6 من أبواب ميراث الأزواج
حديث (10) عن أحدهما عليهما السلام..
(4) المصدر الآنف حديث (5). ويقصد بالفضلاء الخمسة هم:
زرارة وبكير وفضيل وبريد ومحمد بن مسلم، فإنهم بجمعهم رووا الحديث
عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
91

ومتاع البيت مما ترك، ويقوم النقض والأبواب والجذوع والقصب، فتعطى
حقها منه " (1) وموثقته مثلها إلا أن (الرقيق) فيها بدل (الفرش)
وليس فيه الأبواب. ورواية طربال نحو الموثقة إلا أنه قال فيها
(ويقوم النقض والأجذاع والقصب والأبواب) (2).
ومنها رواية محمد بن مسلم: " النساء لا يرثن من الأرض ولا من
العقار شيئا " (3).
ومنها رواية الصدوق في (الفقيه) عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة:
" في النساء إذا كان لهن ولد أعطين من الرباع " (4)
إذا وقفت على ما تلوناه عليك من الأخبار فاعلم إن كلا من هذه
الأقوال عدا المشهور يركن قائله إلى بعض منها، فنقول:
حجة الإسكافي: عمومات الكتاب، منضما " إليها روايتا عبيد بن
زرارة، وابن أبي يعفور المتقدمة، وقريب منهما خبر أبي الجارود الدالة
على توريثها من كل شئ.
وفيه: أنها مخصصة بعد الاجماع المحصل، فضلا عن المنقول
البالغ فوق حد الاستفاضة على حرمانها في الجملة بالأخبار المتقدمة،

(1) الوسائل كتاب الفرائض باب 6 من ميراث الأزواج حديث (1)
(2) في الاستبصار، باب 94 حديث (9)، الحديث بسنده عن
خطاب ابن أبي محمد الهمداني عن طربال بن رجا عن أبي جعفر (ع):
" أن المرأة لا ترث مما ترك زوجها من القرى والدور والسلاح والدواب
شيئا "، وترث من المال والرقيق والثياب ومتاع البيت مما ترك ويقوم النقض
والجذوع والقصب فتعطي حقها منه ".
(3) الوسائل كتاب الفرائض باب 6 من ميراث الأزواج حديث (4).
(4) الوسائل، أبواب ميراث الأزواج، باب 7 حديث (2).
92

فلتحمل تلك الأخبار (1) على التقية، لأن الحرمان من منفردات الإمامية
مع إشعار الثانية بها حيث أقر السائل على ما هو مركوز في ذهنه:
من حرمان الزوجة، وإنما سأل عن حرمان الزوج وعدمه وأجاب بالمساواة
بينهما تقية.
حجة المرتضى: الجمع بين عمومات الإرث، والمتيقن مما دل على
الحرمان، وهو الرباع، بحمل الحرمان فيها على الحرمان من العين،
والإرث فيها من القيمة.
وفيه: مع منافاته لما دلت عليه نصوص الرباع: من التفصيل
القاطع للشركة باختصاص التقويم فيها بالآلات والأبنية دون عراصها
أن ذلك ليس جمعا " بين الدليلين بل هو طرح لهما، إذ ليس كل من
العين والقيمة مندرجا " في العام اندراج المصاديق فمفهوم الكلي حتى يكون
حمل كل منهما على بعض أفراده عملا به في الجملة، بل هو طرح لهما
بالكلية، ولو سلم فلا شاهد لهذا الجمع الذي لا يمكن المصير إليه إلا بعد
قيام شاهد عليه.
حجة المفيد: تخصيص عموم الكتاب بما تواترت عليه نصوص
الباب: من أرض الرباع التي هي القدر المتيقن منها، واختصاص التقويم
ببنائها وآلاتها البنائية، القاضي بالحرمان من عراصها عينا " وقيمة، ومن
البناء عينا " لا قيمة، فيبقى غيرها من سائر الأرضين وما عليها باقيا " تحت
عموم المواريث، لأصالة العموم مع عدم اليقين بالتخصيص، ومقتضاه
الإرث من أعيان ذلك مطلقا ".
وفيه: إن العمومات، كما هي مخصصة بالرباع، كذلك مخصصة

(1) أي رواية عبيد وابن أبي يعفور وخبر أبي الجارود الدالة على
عموم التوريث من كل شئ.
93

بما دل على حرمانها من مطلق الأرض والضيعة والعقار والقرى: من النصوص
المتقدمة، واختصاص بعضها بالرباع في الذكر لا ينافي ذكر ما يعمها في
غيره، كما أن اشتمال بعضها على ما لا تحرم من عينها كالسلاح والدواب
لا يضر بالتمسك بها في غيرهما، إذ هو كالعام المخصص في كونه حجة
في الباقي، مع احتمال تنزيلهما كما قيل على أعيان الحياة بإرادة
السيف من السلاح والراحلة من الدواب، كما وردت في بعض أخبار الحياة
وإن لم نقل بأنها منها، وحينئذ فلا يبقى شك في التخصيص حتى يتمسك فيه
بأصالة العموم.
حجة الشيخ وأتباعه بناء على توريثها عندهم من عين النخل
والشجر تخصيص عمومات الإرث بما دل على حرمانها من مطلق الأرض:
من تلك النصوص القاضية بحرمانها منها عينا " وقيمة، وتخصيصها بالحرمان
من عين النبأ وآلاته بما دل مستفيضا " على تقويمها وإعطائها من القيمة،
ويبقى غير البناء مما هو ثابت في الأرض كالنخل والشجر وغيرهما باقيا " في
عمومات الإرث الموجب لاستحقاقها من العين دون القيمة.
وفيه: مع أن النصوص النافية للإرث من العقار والقرى التي
مقتضاها نفي الإرث من الأرض وما فيها عينا " وقيمة بعد تخصيصها بما
دل على تقويم البناء وإعطائها من قيمته، هي أخص من عمومات الإرث
ومقتضاها بعد الحمل عليه حرمانها في غير البناء مما هو ثابت في الأرض
كالنخل والشجر من العين والقيمة معا " كالعراص، لا توريثها من عينها
ودعوى الاجماع على عدم حرمانها من النخل والشجر عينا " وقيمة فمع
أن ثاني الشهيدين في (رسالته) يظهر منه التأمل في تحققه لا يثبت الاستحقاق
من عين ذلك دون القيمة إن أغلب النصوص، وإن اختص في
التقويم بالنبأ والآلات الخارج عنهما النخل والشجر، إلا أن مصححة
94

(مؤمن الطاق) صرحت بتقويم النخل والشجر أيضا "، المنتجة بعد
التخصيص بها حرمانها من عينهما، دون القيمة كغيرها من الأبنية
وآلاتها.
ومن ذلك يظهر لك حجة القول المشهور المنصور، وهو حرمانها
من مطلق الأرض مطلقا " عينا " وقيمة، وإرثها من قيمة مطلق ما هو ثابت
عليها حتى النخل والشجر، وأنه مقتضى الجمع والعمل بالنصوص المتقدمة
المؤيدة بالشهرة المحكية مطلقا "، أو بين المتأخرين، وبموافقته المحكمة المعبر عنها
بالعلة في مكاتبة (ابن سنان) (1) لعدم الفرق في الافساد بين الرباع
وغيرها من العقار المفسر بكل ملك ثابت له أصل، فيشمل الدار والأرض
والنخل والضيعة، فهي أعم من الرباع المفسرة بخصوص المنازل والمساكن.
فظهر من ذلك كله أن الأقوى في المسألة حرمانها من مطلق الأرض
مطلقا "، عينا " وقيمة، ومن مطلق أعيان ما عليها من الأبنية، وآلاتها المثبتة
والنخل والشجر ونحوهما عينا " لا قيمة، فترث من قيمة ذلك كله دون
أعيانها، إلا أنه مع ذلك لا محيص عن الصلح عند العمل حيثما يمكن
لأن الاحتياط لا يترك في مثل المقام
(الموضع الثاني): هل يعم الحرمان مطلق الزوجة أو يختص
بغير ذات الولد منها؟ قولان معروفان.
الأول: منسوب كما في الرياض وغيره إلى ظاهر الكليني والمفيد
والمرتضى وللشيخ في الاستبصار والحلبي وابن زهرة وصريح الحلي وجماعة
من المتأخرين، ومنهم المحقق في النافع، وتلميذه الآبي، بل في الرياض

(1) وهي ما كتبه الإمام الرضا عليه السلام: إلى محمد بن سنان فيما
كتب من جواب مسائله كما تقدم والمقصود بالعلة هي قوله (ع):
" لأن العقار لا يمكن تغييره ".
95

بعد أن قواه نسب الاجماع عليه إلى السرائر ومحكى الخلاف (1).
والثاني: منسوب إلى الشيخ في النهاية والتهذيب والصدوق في الفقيه
بل في (المسالك) نسبه إلى أجلاء المتقدمين، وجملة المتأخرين بعد أن
نسبه أولا إلى المشهور خصوصا " بين المتأخرين (2) وفي (الكفاية)
نسبته أيضا ": إلى المشهور بين المتأخرين (3)، وفي الرياض إلى أكثر المتأخرين (4)

(1) قال في أخريات المقصد الثاني في ميراث الأزواج من كتاب
المواريث " واعلم أن مقتضى اطلاق العبارة وغيرها من عبائر الجماعة
مما أطلق فيه الزوجة، عدم الفرق فيها بين كونها ذات ولد من زوجها
أم لا، وهو الأقوى وفاقا " لكثير من أصحابنا كالكليني والمفيد والمرتضى
والشيخ في الاستبصار والحلبي وابن زهرة ظاهرا " والحلي وجماعة من
المتأخرين صريحا " وفي السرائر، وعن الخلاف الاجماع عليه ".
(2) قال في هذا الباب من كتاب الفرائض: " الثاني في بيان
من تحرم من الإرث مما ذكر من الزوجات، وقد اختلف الأصحاب فيه
أيضا ": فالمشهور خصوصا " بين المتأخرين وبه صرح المصنف في الكتاب:
اختصاص الحرمان بغير ذات الولد من الزوج إلى قوله مضافا " إلى
ذهاب جماعة من أجلاء المتقدمين كالصدوق والشيخ في التهذيب وجملة
المتأخرين إليه. ".
(3) قال السبزواري في كفاية، أخريات كتاب المواريث: " ولهم
ههنا اختلاف آخر فيمن تحرم من الإرث من الزوجات، فالمشهور خصوصا "
بين المتأخرين اختصاص الحرمان بغير ذات الولد من الزوج ".
(4) فإنه قال بعد عبارته الآنفة الذكر: " وأكثر المتأخرين
خصوا الحكم بغير ذات الولد. ".
96

وعليه المحقق في الشرايع (1) والعلامة في المختلف (2) والتحرير والارشاد
والقواعد والتبصرة، والشهيد في اللمعة (3) واستحسنه الفاضل المقداد
في (التنقيح) (4).
وبالجملة الانصاف، أن القولين متكافئان في المعروفية، إلا أنه لا دليل
على التفصيل المذكور إلا مقطوعة ابن أذينة المتقدمة، أما بجعلها شاهد جمع
بين الروايات المطلقة بالحرمان، والمطلقة بتوريثها من عين كل شئ كموثقة

(1) قال في المسألة الخامسة من المقصد الثاني في مسائل من أحكام
الأزواج: " إذا كان للزوجة من الميت ولد، ورثت من جميع ما ترك،
ولو لم يكن لم ترث من الأرض شيئا، وأعطيت حصتها من قيمة الآلات
والأبنية ".
(2) قال في أخريات كتاب الفرائض وأحكامه: " مسألة، قال الشيخ
في النهاية: المرأة لا ترث من زوجها من الأرضين والقرى والرباع من
الدور والمنازل إلى قوله: وهذا الحكم الذي ذكرناه إنما يكون إذا
لم يكن للمرأة ولد من الميت، فإن كان لها منه ولد أعطيت حقها من جميع
ما ذكرناه " ونكتفي بهذا عن مراجعة بقية كتبه المذكورة.
(3) قال ضمن عنوان القول في ميراث الأزواج: " وتمنع
الزوجة غير ذات الولد من الأرض مطلقا " عينا " وقيمة، وتمنع من الآلات
والأبنية عينا " لا قيمة. " وأيضا " فإنه مختار الروضة، فإنه بعد ذلك
يقول: " واعلم أن النصوص مع كثرتها في هذا الباب خالية عن
الفرق بين الزوجتين، بل تدل على اشتراكهما في الحرمان. وإن كان
في الخالية من الولد أقوى ".
(4) هو من الشروح القديمة للمختصر النافع، ولا زال من نفائس
المخطوطات كما عرفت سابقا ".
97

عبيد بن زرارة، ورواية ابن أبي يعفور المتقدمتين بحملهما على ذات
الولد، وحمل تلك المطلقات النافية على غير ذات الولد بشهادة المقطوعة
عليه، أو تخصيص المطلقات النافية بالمقطوعة، لكون التعارض بينهما من
تعارض العام والخاص المطلق بعد حمل المطلقات المثبتة للإرث على
التقية، لكونه مذهبا " للجمهور كافة، مع إشعار رواية ابن أبي يعفور بها
كما عرفت لكن الشأن في ثبوت كونها رواية لا رأيا " منه
والذي يعطى كونها رواية رواية أجلاء الرواة عنه، بارسالها على نسق
الرواية وتدوين مشايخ الحديث لها في أصولهم المعمولة لتدوين الروايات
فيها، مع كون من عرفت من أعاظم فقهائنا رضوان الله عليهم
الذاهبين إلى القول بالتفصيل إليها، والاعتماد فيه عليها وابن إدريس
بنى على كونها رواية، وإن رماها بالشذوذ، ولم يعمل بها بناء على أصله
في أخبار الآحاد (1).
ويؤيد ذلك أيضا " مضافا " إلى كونه من أجلاء الرواة ومشايخهم
من أصحاب الصادق والكاظم عليهما السلام أنه صاحب أصل وكتاب،
له كتاب في المواريث أيضا " (2)، ومن المعلوم أن المدون في أصولهم

(1) فإنه قال في أخريات الفصل: وإذا انفرد الولد من الأبوين
وأحد الزوجين من كتاب الفرائض من السرائر آخر ص 401 طبع إيران
حجري: " هذا إذا لم يكن لها من الميت ولد، فأما إذا كان لها منه
ولد أعطيت سهمها من نفس جميع ذلك، على قول بعض أصحابنا،
وهو اختيار محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، تمسكا " منه برواية شاذة
وخبر واحد لا يوجب علما " ولا عملا. ".
(2) ففي (رجال النجاشي حرف العين باب عمر وعمرو وعثمان)
قوله: عمر بن محمد بن عبد الرحمان بن أذينة.. إلى آخر نسبه الذي
ينهيه إلى عدنان، ثم يقول: شيخ أصحابنا البصريين ووجههم،
روى عن أبي عبد الله عليه السلام بمكاتبة، له كتاب الفرائض.. "
وفي رجال الشيخ الطوسي باب أصحاب الكاظم عليه السلام قوله:
" عمر بن أذينة ثقة، له كتاب ".
98

رواياتهم التي يتلقونها من الأئمة عليهم السلام. ومن مجموع ذلك كله
ربما يحصل للفقيه العلم العادي بكونها رواية، مضافا " إلى لزوم القول
بالتفصيل أقلية التخصيص في عموم الكتاب.
إلا أن الانصاف مع ذلك كله، أن تقييد تلك المطلقات على كثرتها
وعموم بعضها الناشئ من ترك الاستفصال واختلاف رواتها مع تفاوت
زمانها بمقطوعة واحدة عندي محل تأمل، وإن اقتضته الصناعة بعد
فرض كونها حجة، لأن الخاص وإن كان واحدا " مقدم على العمومات
وإن كثرت.
فالأوجه هو الحرمان مطلقا "، وإن كانت ذات ولد، كما تقتضيه الحكمة
المنصوص عليهما في الأخبار المتقدمة للحرمان أيضا "، وإن كانت أضعف
منها في غير ذات الولد كما قيل.
وأقلية التخصيص إنما يركن إليها عند الشك فيه، لا مع قيام
الدليل عليه.
وأما إجماع الحلي بعد تسليمه فموهون بما عرفت من الخلاف
في المسألة، ولعل دعواه منه الاجماع على القاعدة المستفادة من تلك المطلقات
المتواترة معنى في الدلالة عليها.
نعم ربما يتوهم في المقام، بل قد توهمه بعض المعاصرين، تخصيص
المطلقات بغير ذات الولد مع قطع النظر عن مقطوعة ابن أذينة (1) بدعوى

(1) الآنفة الذكر القائلة: " في النساء إذا كان لهن ولد
أعطين من الرباع " فإنها كالصريحة في التقييد، منطوقا " ومفهوما "، فلا
مجال للتصرف فيها بخلاف غيرها من المطلقات. ووجه تسميتها بالمقطوعة
لعدم اسناد القول فيها إلى إمام، وإنما هي عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة
في النساء إلى آخر الحديث، فلم يعرف أنها عن إمام معصوم. وإن كان
المعروف عن ابن أبي عمير أنه لا يروي إلا عن إمام معصوم، وذلك مما
يوثق الرواية ويعطيها اعتمادا "، وإن كانت مقطوعة: خصوصا " إذا اعتمدنا
على رواية الصدوق فإنه في الفقيه رواها عن ابن أبي عمير فقط.
99

اقتضاء الترتيب في علاج الأخبار المتعارضة، وذلك بتقريب أن الأخبار
الآمرة بإرثها مطلقا " من كل شئ، مخصصة أولا بالاجماع على حرمان
غير ذات الولد، الخارجة به عن عمومها، وبعده تنقلب النسبة، وتكون
بينها وبين المطلقات النافية للإرث نسبة العام والخاص المطلق، فتخصص
تلك المطلقات بها، المنتج للتفصيل بعد الحمل عليه، كما لو ورد عن
المولى الأمر باكرام العلماء وورد عنه النهي عن إكرامهم، وورد عنه:
لا تكرم النحويين، فالتعارض بين اكرام العلماء، ولا تكرم العلماء من
تعارض المتباينين، إلا أنه بعد تخصيص عموم (أكرم العلماء) بخصوص
النهي عن إكرام النحويين، لكونه أخص منه مطلقا "، انقلبت النسبة بين
عموم (أكرم العلماء) بعد إخراج من خرج منهم بالخاص، وبين عموم
(لا تكرم العلماء) إلى العموم والخصوص المطلق، فيحمل العام منهما
على الخاص، المنتج بعد الحمل عليه لوجوب إكرام غير النحويين من
العلماء، وحرمة إكرام النحويين منهم، وفيما نحن فيه كذلك.
إلا أنه توهم فاسد، وإن كانت الكلية مسلمة في التخصيص بالمتصل
وما يجري مجراه من كلام الأئمة عليه السلام المنزل منزلة كلام واحد
من متكلم واحد، إلا أنها لا تجري في المقام، لعدم قيام الاجماع عليه
100

بعنوانه المخصوص، والأخذ بالقدر المتيقن لا يكشف عن رأي المعصوم
عليه، فلعل رأيه موافق لما يعمه، وعليه فيكون مباينا " لتلك الأخبار
لا أخص منه، وهو واضح.
بقي هنا أمور ينبغي التنبيه عليها:
الأول: الظاهر من كلام من خص الحرمان بالرباع، كالمفيد ومن
تبعه: إرادة ما يعم الدار وغيرها من مطلق الأبنية الشامل لبيوت الدواب
والغنم ومحارز الغلة وعلف الدواب وغير ذلك من الخانات والدكاكين والحمامات
والمسابك، بل كل بنية أعدت لأي مصلحة كانت، فتحرم من أرضها
وترث من بنائها، في مقابل الأرض الفارغة أو المشغولة بغير البناء: من
زرع أو نخل أو شجر أو غير ذلك. قال جدنا في (الرياض): " الظاهر
كما صرح به جماعة من غير خلاف بينهم أجده: أنه لا فرق في الأبنية
والمساكن على القول باعتبارها بين ما يسكنه الزوج وغيره ولا بين
الصالح للسكنى كالحمامات والأرحية وغيرها، إذا صدق عليه اسم
البناء " (1) وفي المختلف: " قال المفيد: ولا ترث الزوجة شيئا " مما يخلفه
الزوج من الرباع وتعطى قيمة الخشب والطوب والبناء والآلات فيه،
وهذا منصوص عليه عن نبي الهدى عليه وعلى آله السلام، وعن الأئمة
عليهم السلام، من عترته عليهم السلام. والرباع هي الدور والمساكن
دون البساتين والضياع " (2) انتهى.

(1) ذكر ذلك في آخر المقصد الثاني في ميراث الأزواج من كتاب
المواريث، وأول العبارة هكذا: " وهنا فوائد مهمة يطول الكلام بذكرها
جملة إلا أنا نذكر منها ما لا بد منه وهو أن الظاهر. "
(2) هذه العبارة ضمن: " مسألة قال الشيخ في النهاية: المرأة لا ترث
من زوجها " في بحث إرث الزوجة من كتاب الفرائض وأحكامه.
101

ولعله مستفاد من مقابلته للبساتين والضياع، وإلا فالظاهر عدم شمول
المنازل والمساكن المفسرة بهما الرباع، لمطلق الأبنية حتى الدكاكين والحمامات
ونحوهما ولكن الظاهر ذلك بقرينة المقابلة، ورواية يزيد الثانية عن
النساء: " هل يرثن الأرض؟ فقال: لا ولكن يرثن قيمة البناء "
والبناء في كلامه مطلق، وكل بناء ترث من قيمته لا من عينه تحرم من
أرضه عينا " وقيمة، بل لعل الكلية عكسا " أيضا " مسلمة، فكل أرض تحرم
منها عينا " وقيمة، يقوم ما عليها من البناء والآلات، فنرث منها قيمة
لا عينا ".
ومنه يظهر دخول النخل والشجر في الآلات، ولذا نسب القول
بإرثها من قيمتها إلى المشهور، وإلى الشيخ وأتباعه أيضا " كما في المختلف
مع أنه لا نص عليهما في كلامهم.
الثاني: الآلات التي تحرم من عينها وترث من قيمتها.
منها ما هو معلوم الدخول فيها كالطوب، وهو الآجر المفخور المستدخل
في البناء الثابت في الأرض، ومطلق الأخشاب والأعتاب والشبابيك،
ولو كانت حديدا " المستدخلة في البناء، بل الثابتة بنحو العمود، لوضع
البناء وآلاته عليه كالدلقات (1) المعمولة للطوارم في عصرنا، بل والسلم
المنصوب للصعود والنزول المستدخل في البناء ولو كان من الخشب، بل
والمرآة والزجاج المستدخلة في البناء والأبواب والشبابيك. ومن ذلك أيضا "
حائط البستان المعبر عنه بالطوف، سواء قلنا بإرثها من عين النخل
والشجر أو من قيمتهما، لكونه من البناء المقوم، خلافا " للمحكي عن ثاني
الشهيدين في (رسالته) حيث قال: " وأما حيطان البساتين وغيرها من

(1) الدلقات بفتحتين مصطلح خاص في الأسطوانات الخشبية، المستعملة
يومئذ -.
102

الأملاك فبحكم البناء إن لم نقل باختصاصه بالرباع، وإن قلنا بإرثها من
عين الأشجار تبعه البناء " (1) انتهى. وفيه: أنه لا ملازمة بين حكم
المحاط والمحيط بعد صدق البناء عليه، إذ كل منهما يتبع دليله.
ومنها ما هو معلوم الخروج عنها، فترث من عينها، لا من
قيمتها وهو الآلات المنفصلة عن البناء، سواء كانت مبنية ثم انفصلت
بالهدم والقلع، أم أعدت للبناء والوضع فيه، ولكن بعد لم يوضع فيه،
بل ولو وضع على البنيان بنحو السقف ولكن بعد لم يثبت فيه بالبناء عليه
ولو ببناء أطرافه، ترث من عينها أيضا ".
ومنها ما هو مشكوك كالجذوع المنصوبة على الأرض لوضع أغصان
الكرم عليه، والقدور المنصوبة في الدكاكين لطبخ (الهرايس) والرؤوس
ومحال صنع الحلوى، فيرجع حكمه إلى الأصل الموجب للإرث من عينها
ويمكن جعل الضابط فيما يقوم وتعطى من القيمة، وما لا يقوم وتعطى من
العين: جزئيته من بناء ذلك المحل والعقار من دار ودكان أو حانوت أو
حمام أو مسبك فما عد جزء منها تعطى من قيمته، وإلا فترث من عينه،
لا كل ما يثبت في الأرض بحيث لا يعد من أجزاء البناء، والعمارة كالتخت
المنصوب في البيت، وإن ثبتت أركانه في الأرض، والمنبر من الخشب
المثبت كذلك، فإنها ترث من أعيانها، لا من قيمتها. والظاهر دخول
(صفرية الحمام) فيما تقوم، لثبوت جزئيتها منه، وإن لم نقل بجزئية
القدور المنصوبة في الدكاكين للمطابخ المذكورة، إذ لا أقل من الشك في
جزئيتها منها.

(1) هي رسالته المطبوعة ضمن مجموعة رسائله الصغيرة: في صلاة
الجمعة، والحبوة وكشف الريبة وغيرها، راجع هذه العبارة في الرابع
من مباحث المطلب الخامس من الرسالة.
103

الثالث في كيفية التقويم. والكلام فيه يقع في مرحلتين:
الأولى: يقوم ما ترث من قيمته من الأعيان ثابتة مستحقة للبقاء.
إلى أن تفنى مجانا "، لا بأجرة. أما كونها ثابتة، فلكونها موروثة كذلك
ولو بالقيمة. وأما كونها مجانا "، فلعدم وجود موجب لاستحقاق الأجرة
لأن السبب لها " اشغال ملك الغير بوضع ما يملكه فيه. والمرأة على
الأقوى لم تملك العين الشاغلة لملك الغير حتى تستحق عليها الأجرة،
وليس اعطاؤها القيمة بدلا عن العين المملوكة لها، بل تملكها للقيمة
بأصل الإرث، ولو بنحو البدلية عن العين (1) والتدارك لماليتها.
ومما ذكرنا ظهر لك ضعف ما احتمله ثاني الشهيدين في (رسالته)
من تقويمها باقية أجرة، معللا بأن الأرض لا تستحق فيها شيئا، وما تستحق

(1) توضيح المطلب: أن ملك المحال أو المظروف ولم يملك المحل
والظرف فتملكه للحال بمجرده لا يوجب استحقاق البقاء في محل يملكه
غيره ولو ثبت استحقاقه للبقاء بدليل خارج، فبمجرده لا يثبت أيضا "،
الوضع بنحو المجانية لأن جواز الوضع يمكن بنحو المجان أو بالعوض،
والعام لا يدل على خصوص الخاص، فما لم يثبت من الخارج كون الوضع
بنحو المجان اقتضت القاعدة كونه بالأجرة، لأنه شاغل لملك الغير،
فلا بد من تداركه بالأجرة عوضا " عن المنفعة المستوفاة، ومعلوم أن لزوم
التدارك إنما هو مسبب عن التصرف في ملك الغير بابقاء ملكه فيه فهذا
السبب مفقود في المقام، إذ الزوجة لم تملك العين أولا، ثم ينتقل حقها إلى
البدل، بل تملك القيمة من أول الأمر، ولو بدلا عن العين وتداركا "
لماليتها فالموجب للأجرة بوضعه لم تملكه أبدا "، وما ملكته وهو القيمة
غير موجب للأجرة (منه دام ظله).
104

فيه موضوع في تلك الأرض (1)، وإن ضعفه هو بما يرجع محصله إلى
التمسك في نفيها باطلاق النصوص باستحقاقها قيمة ذلك، وبالاقتصار
على القدر المتيقن: من تخصيص عمومات القرآن تقليلا للتخصيص بقدر
الامكان (2)، إلا أن التضعيف ضعيف، لامكان دعوى كون المطلقات
مهملة من حيث الكيفية، وإنما هي مسوقة لبيان توريثها من القيمة،
لا من العين (ودعوى) التقليل والاقتصار على القدر المتيقن (موهونة)

(1) قال: في رسالته الصغيرة المطبوعة في ضمن رسائل صغيرة أخرى
من مباحث المطلب الخامس في بيان الحكمة في هذا الحرمان: " الخامس:
كيفية التقويم لما تستحق فيه القيمة من البناء والشجر على القول به: أن
يقوم مستحق البقاء في الأرض مجانا " إلى أن يفني، ثم تعطي من قيمة الربع
أو الثمن، هذا هو الظاهر الموافق للأصول، لأن الأصل إرثها من عين
كل شئ، فإذا عدل عنه إلى القيمة في بعض الموارد وجب الاقتصار
فيما خالف الأصل على ما به يتحقق المعنى المخصص، وهنا كذلك،
ولأن البناء والشجر موضوع بحق في ملك مالكه، فلا وجه لتقويمه مستحقا "
بأجرة، ويحتمل تقويمه كذلك بأجرة، التفاتا " إلى أن الأرض لا يستحق
فيها شيئا "، والبناء والشجر الذي يستحق فيه موضوع في تلك الأرض
التي ليست لها، ومشغل لها، فيجمع بين حقها وحق الورثة في الإرث بتقويمها
مستحقة البقاء بأجرة " وأشار بذلك إلى المرحلة الثانية من التقويم.
(2) قال بعد ذلك: " ويضعف بأن النصوص مطلقة في
استحقاقها قيمة ذلك، والأصل فيه كونه على هيأته التي هو عليها وقت
التقويم، ولأن ذلك تخصيص لعموم القرآن، فيقتصر فيه على موضع
اليقين تقليلا للتخصيص بقدر الامكان، فيجب زيادة القيمة ما أمكن
لكونه خلاف الأصل. ".
105

جدا " (كما أن) ما ذكره وجها " للمجانية بقوله: " هذا هو الظاهر الموافق
للأصول لأن الأصل إرثها من عين كل شئ، فإذا عدل عنه إلى القيمة
في بعض الموارد وجب الاقتصار فيما خالف الأصل على ما به يتحقق المعنى
المخصص، وهو هنا كذلك. ولأن البناء والشجر موضوع بحق في ملك
مالكه، فلا وجه لتقويمه مستحقا " بأجرة (1) انتهى (ليس) بوجيه
من وجوه غير خفية.
الرابع: لو لم يكن مع الزوجة وارث غير الإمام، وقلنا بعدم الرد
عليها، فهل تحرم مما كانت تحرم منه، لو كان معها وارث أم لا؟ وجهان:
من دعوى عدم انصراف المطلقات في الأخبار المخصصة إليها مع عدم
اتيان حكمة الحرمان هنا أيضا "، ومن اقتضاء التدرج في طبقات الإرث وقيام
اللاحقة مقام السابقة الحرمان أيضا "، مضافا " إلى مفاد الأخبار عدم استحقاقها
الإرث، لا تقديم الوارث عليها من باب المزاحمة والتقديم.
الخامس: هل يتعين على الوارث دفع حصة الزوجة من القيمة
أم له الدفع من العين وتجبر الزوجة حينئذ على القبول؟ قولان:
اختار ثانيهما جماعة نظرا " إلى ظهور علة الحرمان في الارفاق بالوارث
والتوسعة له، وعدم ظهور الأمر بالتقويم والدفع من القيمة على أزيد من
الجواز لكونه في مظنة توهم إرثها من العين، فلا يفيد أزيد من الجواز
كالأمر الوارد في مورد الخطر الذي لا يفيد أزيد من الإباحة، وإلى أنه
ابقاء لآية المواريث على عمومها في الآلات والأبنية، لأنه على تقديره
يتعلق إرثها بنفس الأعيان، وإن كان الموارث غيرها ولاية التبديل والمعارضة

(1) وهذه الجملة بعض عبارته التي نقلناها بنصها آنفا " في
كيفية المرحلة الثانية من التقويم، فلاحظ
106

عنها بالقيمة كالزكاة، بناء على تعلق حق الفقراء بالعين (1) ولمالك النصاب
دفع بدله من القيمة.
إلا أن الأقوى: هو الأول، نظرا " إلى ظاهر الأخبار الدالة على
نفي إرثها من العين وإنما ترث من القيمة، وإن مفادها تعلق إرثها
بالقيمة من أول الأمر، إلا أنها ترث حينئذ من العين، ثم ينتقل حقها
إلى القيمة (وكون) العلة هي الارفاق والتوسعة (فمع) أنها حكمة
وأن عبر عنها بالعلة (2) يمكن أن تكون منشأ لتشريع الحكم بذلك بجعل
إرثها من القيمة ولو حسما " لمادة الفساد غالبا "، (وكون) الأمر بالتقويم
في مظنة توهم الإرث من العين، ليس بأولى من كونه في مظنة توهم
حرمانها من العين والقيمة معا " كالأرض فيكون ظاهرا " في تعيين الإرث من
القيمة، وبقاء العام على عمومه يرجع إليه عند الشك في التخصيص، لا مع
وجود المخصص، لما عرفت من كون الإرث من القيمة مفاد ظواهر
الأخبار المستفيضة، بل المتواترة معنى. وقياسه بالزكاة قياس مع الفارق

(1) المشهور بل عن مصابيح السيد بحر العلوم -: إنه كاد أن
يكون اجماعا "، تعلق الزكاة بالعين، لا بالذمة بدليل قوله عليه السلام:
" فيما سقت السماء العشر، وفيما سقى بالدوالي نصف العشر. وبغيرها من
الروايات الكثيرة المذكورة في الرسائل باب 4 من أبواب زكاة الأنعام
وباب 1 من أبواب ما نجب فيه الزكاة. ثم اختلف القائلون بالتعلق بالأعيان
هل على نحو الإشاعة في الكل والشركة، أم على الكلي في المعين
(التفصيل في كتاب الزكاة من كتب الفقه).
(2) والحكمة ليست كالعلة في دوران الحكم مدارها وجودا " وعدما "
كما هو المسلم في باب الأصول.
107

لظهور أخبارها نحو قوله عليه السلام: فيما سقت السماء العشر " (1) في
تعلق حق الفقراء بالعين، غير أنه قام الدليل على جواز إعطائه القيمة بدلا
عن العين، وتكون من قبيل المعاوضة القهرية على الفقراء، ولم يقم مثله
دليل هنا على تعلق إرثها بالعين إلا ظاهر العموم الذي قد عرفت تخصيصه
بظواهر المستفيضة الدالة على كون إرثها من القيمة دون العين، مع احتمال
جريان ذلك في الزكاة أيضا " كما ستعرف.
السادس: هل يجوز للوارث قبل اعطاء الزوجة حقها من القيمة
التصرف في تلك الأعيان بالتصرفات المتلفة أو الناقلة، أو يكون كالمحجور
عليه ليس له ذلك، بل يكون مراعى بدفع القيمة لها؟ وجهان، بل
قولان:
اختار الأول منهما: شيخنا في (الجواهر) تبعا " لثاني الشهيدين في
(رسالته) نظرا " إلى أن القيمة حق لها في ذمته كسائر ديونه التي لا يمنع
الامتناع عن أدائها عن التصرف في أمواله. نعم يجبر على الوفاء، مع
المماطلة ويجوز التقاص من ماله، حيث لا يمكن جبره.
قلت: الأقوى هو الثاني على كل من القولين في التنبيه السابق.
أما بناء على تعلق حقها بالعين وللوارث دفع القيمة فواضح، لأن
الحق لا يتحول عن العين إلا بدفع القيمة، فهو ثابت ما دام لم يدفع البدل
لأن النقل لا يحصل إلا بالدفع، وليس كالبيع الذي فيه يحصل النقل
والانتقال بالعقد، ووجوب دفع العوضين حينئذ من آثار ملك العينين،
بل يشبه المقام بالمعاطاة التي يحصل فيها النقل بنفس التسليم والتعاطي،

(1) بهذا النص وبمضامينه روايات كثيرة عن أئمة أهل البيت
عليهم السلام ذكرت في أبواب زكاة الغلاة من كتاب الزكاة في
الوسائل وغيرها من كتب الأخبار.
108

فما دام لم يدفع القيمة إلى الزوجة لم ينتقل حقها من العين إلى البدل،
فلا ينفذ التصرف فيه قبله، لكونه من التصرف في متعلق حق الغير أيضا "،
وأما بناء على تعلق إرثها بالقيمة من أول الأمر كما هو الأقوى
فلأن إرثها، وإن لم يتعلق بعين البناء والآلات، إلا أنه متعلق بماليتها،
ولزوم دفع القيمة من باب التدارك لمالها من مالية الأعيان فأشبه الضمان
بالقيمة لما يتلفه من القيميات من كونه تداركا " لمالية التآلف بعد القاء
الخصوصيات المشخصة عند العقلاء في التالف القيمي، فالتصرف في العين
باتلافها أو نقلها بماليتها موقوف على تدارك ما للزوجة في ماليتها بالإرث.
وبالجملة: نسبة مالية الأعيان المقومة المتعلق بها حق الزوجة، نسبة نفس
الأعيان، لو كان حقها متعلقا " بها في عدم نفوذ التصرف إلا بعد التدارك.
وبما ذكرنا: يظهر لك دفع توهم ورود التوالي الفاسدة على القول
بارئها القيمة من أول الأمر: من وجوب دفع القيمة على الوارث، وإن
لم يتمكن من العين، كالمغصوبة عند الموت لدخولها في ملكه قهرا " الموجب
لشغل ذمته لها بالبدل، ومثله ما لو تلفت بعد الموت فورا " باستقرار القيمة
في ذمته، مع أنه لا أظن أحدا " يلتزم به، وإن التزم به الأستاذ عمنا رحمه الله
في (ملحقات برهانه) (1) أوليس إلا لكون القيمة تداركا " للمالية،
فإذا تلفت بتلف العين لا بتفريط لم يضمنها الوارث، وإنما يضمنها لو تأخر،
التدارك وكان بتفريط منه، فتستحق القيمة عليه حينئذ.
وأما النماء المتحقق بعد الموت كأجرة المساكن وثمرة النخل، بناء

(1) ففي آخر الرسالة المخطوطة ضمن رسائل أخرى يقول في عرض
ذكره لثمرات المسألة: " منها إن تلف البناء أو الشجر بعد الموت بأن
جاء سيل وأخذ ما على الأرض طالبت الزوجة الورثة بثمنها أو ربعها من
قيمتها لأن محل القيمة التي للزوجة هو ذمة الورثة.. ".
109

على حرمانها من العين دون القيمة، فهو مختص بغيرها من الورثة لا تستحق
هي منه مطلقا "، وإن تأخر التدارك، وكان بتفريط، لأن النماء من توابع
ملك العين، لا ملك المالية.
وبذلك يظهر ضعف ما في (ملحقات البرهان): من ابتناء ذلك
على ما قواه: من دخولها بمجرد الموت في ملك الوارث واشتغال ذمته
بالقيمة، حيث قال: " منها إن تلف البناء والشجر بعد الموت، بأن جاء
سيل وأخذ ما على الأرض طالبت الزوجة الورثة بثمنها أو ربعها من قيمتها
لأن محل القيمة التي للزوجة هو ذمة الورثة، وبمجرد الموت تنتقل العين
إلى ملك الورثة، وبمجرده أيضا " تستقر قيمتها في ذمتهم، ولذا لو نمت
بعد الموت بأن أثمر الشجر بعد موت الزوج ليس للزوجة في الثمر شئ
وإذا تلف ملك أحد لا يوجب سقوط حق الآخر. لكن في (مفتاح
الكرامة): إن هذه القيمة مستحقة من التركة، وليست متعلقة في ذمة
الورثة، فلو غصبت التركة من الورثة لم يضمنوا لها، وإن عادت بعد
الغصب عاد حقها، وهذا غير موافق لظاهر الأدلة " (1) انتهى.
ولا يخفى عليك مواقع التأمل في كلامه، ولعل ما عن (المفتاح)
إشارة إلى ما ذكرنا.

(1) (ملحقات البرهان) هي مجموعة من رسائل أربعة صغار: في
المسافة الملفقة، والرجوع عن قصد الإقامة، وتصرفات المريض وميراث
الزوجة، تأليف الحجة آية الله المحقق السيد على بحر العلوم صاحب
(البرهان القاطع) اعتبرها من ملحقاته. وهذه العبارة توجد في أخريات
رسالته الأخيرة، في ميراث الزوجة. وتاريخ خط هذه المجموعة من
الرسائل بخط المؤلف سنة 1286 ه‍.
110

ثم إنه يحتمل قويا " جريان مثل ما ذكرناه هنا في الزكاة أيضا "،
بدعوى تعلق حق الفقراء بمالية الأعيان الزكوية، فللفقير العشر من المالية
أو مالية العشر من النصاب. ودفع القيمة تدارك لماله من مالية الأعيان
دون البدلية عن نفسها، غير أنه مخير في تداركها بدفع المالية القائمة
بتلك الأعيان أو بغيرها، وهو مقتضى الجمع بين ما ورد مما هو ظاهر
في التعلق بالعين كالعشر في الغلات (1)، وما هو ظاهر في التعلق بالمالية
كالشاة في الإبل (2)، الظاهر من كون ذلك تقديرا " للمالية المجعولة
للفقير في نصاب الإبل مثلا بل وكذلك الشاة من نصب الغنم
مما هو من جنسه (3)، فإن مرجع ذلك تعيين ما يستحقه الفقير من المالية

(1) كرواية زرارة: عن أبي جعفر عليه السلام: كما في أبواب
زكاة الغلات من الوسائل - قال: " ما أنبتت الأرض من الحنطة والشعير
والتمر والزبيب ما بلغ خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا "، فذلك ثلثمائة
ففيه العشر وما كان منه يسقي بالرشا والدوالي والنواضح، ففيه نصف
العشر " وأمثالها في الباب كثير.
(2) كما ورد كثيرا " في باب تقدير النصب في الإبل من كتاب زكاة
الوسائل كصحيحة زرارة: عن أبي جعفر عليه السلام قال: " ليس فيما
دون الخمس من الإبل شئ، فإذا كانت خمسا "، ففيها شاة، فإذا عشرة،
فإذا كانت عشرا "، ففيها شاتان، فإذا بلغت خمسة عشر ففيها ثلاث من
الغنم، فإذا بلغت عشرين ففيها أربع من الغنم، فإذا بلغت خمسا " وعشرين
ففيها خمس من الغنم، فإذا زادت واحدة ففيها ابنة مخاض إلى خمس
وثلاثين.. ".
(3) كرواية الفضلاء الخمسة كما في المصدر الآنف الذكر باب
تقدير النصب في الغنم: " عن أبي جعفر. وأبي عبد الله عليهما السلام:
في كل أربعين شاة، وليس فيما دون الأربعين شئ، حتى تبلغ
عشرين ومائة، فإذا زادت على مائة وعشرين ففيها شاتان.. فإذا
زادت على المائتين شاة واحدة، ففيها ثلاث شياه، فإذا بلغت ثلثمائة
ففيها مثل ذلك ثلاث شياه زادت واحدة ففيها أربع شياه حتى
تبلغ أربعمائة، فإذا تمت أربعمائة كان على كل مائة شاة.. ".
111

القائمة بتلك الأعيان المنتشرة في جميع أجزائها بما يساوي شاة مثلا.
وبذلك يظهر: أن ما ثبت جوازه للمالك من العزل والقسمة والتبديل
ونحو ذلك مما هو مخالف لقواعد الشركة، كله جار على القاعدة، لا مخالف
لها، وإنما ثبت تخصيصها بدليل خاص.
السابع: أنه على القول بالتفصيل بين ذات الولد وغيرها، لو اجتمعتا
فهل يجوز الأولى كمال النصيب من العراص وغير البناء، وعليها دفع
نصف قيمة البناء للأخرى، لأنها ترث الثمن في ذلك بالفريضة، غير
أنه مع التعدد تقسم بينهن والمحرومة بحكم المعدومة في ذلك، فتختص هي
بها، وعليها دفع ما ترث الأخرى منها؟ أم لها نصف ذلك، ويرجع
الباقي إلى الورثة، وعليهم دفع نصيب الأخرى من القيمة، لأنها تحجب
الأولى عن الكمال، لصدق التعدد بوجودها، وإن لم ترث لحرمانها
بالدليل؟ وجهان: والأول هو الأقوى، لما عرفت من عدم الدليل على
الحجب، مع الحرمان.
الثامن: الأقوى توزيع الدين على ما ترث منه الزوجة وما تحرم منه
لتعلق الدين استيفاء بمجموع التركة، وليس للوارث غيرها، اخراج
الدين كله مما ترث منه ليسلم له ما تحرم منه، كما أن ليس لها اخراجه
بكله مما تحرم منه، لأن في كل منهما ضررا " على الآخر، وهو منفي
عقلا ونقلا، مضافا " إلى أن العدل والانصاف يقتضيان التوزيع.
112

التاسع حق الزوجة حق مالي يجوز الصلح عليه، فلو صالح
المحرومة عن حقها مصالح وجب دفع القيمة إلى من انتقل الحق إليه
بالصلح، سواء كان أجنبيا " أو بعض الورثة، وهو واضح، وإن توهم
بعض المعاصرين بطلان الصلح مطلقا "، بناء على ما احتمله في دفع القيمة
من كونه حكما " تكليفيا محضا لا شائبة فيه للوضع كما لو نذر اعطاء درهم
لزيد، وفساد المبني بمكان من الوضوح لمخالفته صريح الأخبار الناطقة
بإرثها من القيمة.
وما أبعد ما بين هذا القول، والقول بتعلق حقها بالأعيان، وللوارث
تبديله بالقيمة.
العاشر الأقوى على القول بالتفصيل بين ذات الولد وغيرها
أنه لا فرق في الولد بين الذكر والأنثى والخنثى، ولا بين الولد وولد
الولد، وإن لم يكن وارثا "، لوجود الولد الصلبي، ولا بين كونها ولدته
في نكاح ترث به أولا، كما لو أولدها في المتعة ثم تزوجها بعقد دائم
ومات عنها كذلك، بل ولا بين ما لو أولدها بنكاح صحيح أو ملحق به كالشبهة
لو تزوجها بعد ذلك ومات عنها، إذا كانت الشبهة لهما، بل وإن
اختصت به دونها لكونها ذات ولد منه، وفيما لو اختصت بها دونه
إشكال: من أنه زان، فليست بذات ولد منه شرعا "، ومن أنها ذات
ولد صحيح بالنسبة إليها، كل ذلك لاطلاق (المقطوعة) بناء على الاعتماد
عليها في التفصيل بين ذات الولد وغيرها. و (دعوى) الانصراف في
بعض الصور المذكورة إن سلمت (فهو) من الانصراف البدوي
بالذي لا تعويل عليه.
الحادي عشر لو ملكت الزوجة شيئا " من رقبة الأرض يساوي
فرضها أو أزيد في حياة زوجها بأحد الأسباب المملكة، فحكمها بالنسبة
113

إلى البناء والآلات حكم ما لو لم تملك شيئا " من العراص، ولأن ذلك حكمها
بالإرث، فلا ينافي ملكها الرقبة بغيره من الأسباب.
الثاني عشر إذا كان في الأرض التي لم ترث منها لا عينا " ولا
قيمة زرع ولم يبلغ أوان حصاده، ورثت من عين الزرع، فهل لمالك
الأرض أمرها بالقلع، أو عليه التبقية بالأجرة؟ وجهان:
وهذه من فروع مسألة من ملك زرعا " في أرض لم يملك بقاءه فيها وكان
الوضع فيها بحق، وقد اختلفوا هناك على أقوال:
وتنقيح المسألة هو أن يقال: إن الملكية بهذا النحو (مرة) تكون
بالإجارة (وأخرى) بالمزارعة (وثالثة) بالانتقال بالإرث.
أما إذا كانت بالإجارة، كما لو استأجر أرضا " مدة لم يدرك الزرع
فيها، فأما أن تكون المدة غير كافية لبلوغ الزرع عادة، أو كانت كافية
غير أنه اتفق تأخيره، وعلى الثاني: فأما أن يكون التأخير بتفريط من
المستأجر، أو لا بتفريط منه. فإن كان الأول، بأن استأجر مدة تقصر
عادة عن ادراك الزرع فيها، فلمالك الأرض بعد انقضاء المدة أمره بقلعه
من دون أرش عليه، وإن تضرر به الزارع، لأنه أتى من قبله، حيث
أقدم على مدة لا تفي للزرع فيها، وإلزام مالك الأرض بالتبقية، ولو
بأجرة، نوع ضيق عليه لا يجب تحمله، ولا يجدي كون الزرع في مدة
الإجارة كان بحق، إذ لا يوجب ذلك حقا " له فيما زاد عليها، فهو فيه
ظالم مندرج في منطوق: " ليس لعرق ظالم حق " (1) ومثله ما لو
كانت المدة كافية، ولكن التأخير كان بتفريط من الزراع، لوحدة المناط.

(1) حديث نبوي شريف وقوله: " لعرق ظالم " بالتنوين في
كليهما. وغلط من قرأه بالإضافة، هكذا رواه أبو داود عن سعيد بن بريد
والنسائي والترمذي كذلك، وأخرجه الطيالسي وغيره عن زمعة بن صالح
وعبد الله بن عمر وذكرته عامة كتب الأخبار من العامة والخاصة كما ورد
ذكره في كتاب كشف الخفاء. للعجلوني وغيره من معاجم الحديث.
114

وأما لو كان التأخير بغير تفريط منه، بل بآفة سماوية من كثرة برد
أو قلة الأمطار، فعليه التبقية ولكن بأجرة لا مجانا "، لأن في القلع
قبل بلوغه ضررا " على الزارع من غير تسبيبه، والاقدام منه عليه، وابقاؤه
في المدة الزائدة ضرر على المالك، وكل منهما منهي عن الاضرار، فلا بد
من تدارك هذا الضرر الحادث بآفة سماوية، وهو إنما يحصل بأحد وجهين
أما القلع مع الأرش، أو الابقاء مع الأرش، أو الابقاء بأجرة (1) إلا
أن التدارك هنا يتعين على الزارع بدفع الأجرة، لأن الضرر، وإن لم
يأت منه، إلا أنه جاء من قبل زرعه، دون الأرض، فعليه تداركه إن
أراد الابقاء، وإلا فله قلع زرعه، وإن كان قصيلا. وبعبارة أخرى،
شمول (لا ضرر) للضرر المجبور بالأجرة، وتوجهه نحو الزارع أضعف
ظهورا " من شموله لضرر القلع المجبور بالأرش المتوجه نحو مالك الأرض
فإذا قدم دليل نفي الضرر في جانب الزارع عليه في جانب المالك فلا
يتمسك حينئذ، بعموم (الناس مسلطون) لكونه محكوما " لدليل نفي
الضرر.
وأما إذا كان بالمزارعة، فإذا كان التأخير بتفريط من الزارع،
فحكمه حكم الإجارة فيه: من أنه للمالك قلعه بلا أرش عليه، وإن لم
يكن بتفريط منه، فيتخير المالك بين القلع وعليه الأرش، والابقاء وله

(1) في النسخ المطبوعة والمخطوطة ذكر وجهين في حين أن الصور
المذكورة ثلاثة. فلا بد من تأويل الوجهين، من حيث القلع والابقاء وإن
كان الابقاء بصورتين.
115

الأجرة، وإنما كان له الخيرة بينهما في المزارعة دون الإجارة، لأن الزرع
مشترك بينهما، ولا يجبر المالك على ابقاء حصته من الزرع، فله قلعه قصيلا
كما كان للمستأجر ذلك، غير أن قلعه لحصته مستلزم لضرر الزارع في
حصته، فوجب عليه حينئذ تداركه بالأرش، ولذا كان مالك الأرض
في المزارعة مخيرا ". بين القلع وعليه الأرش، وبين الابقاء، وله الأجرة
وليس له القلع في الإجارة، وإن كان بأرش، بل يتعين عليه الابقاء
بالأجرة.
وإلى ما ذكرنا من الفرق في الحكم بالتخيير والتعيين، بين المزارعة
والإجارة صرح العلامة في (القواعد) حيث قال: في باب الإجارة:
" فإن استأجر للزرع وانقضت المدة قبل حصاده: فإن كان لتفريط
المستأجر كأن يزرع ما يبقى بعدها فكالغاصب، وإن كان لعروض برد أو
شبهه، فعلى المؤجر التبقية، وله المسمى عن المدة وأجرة المثل عن
الزائد " (1).
وقال في باب المزارعة منه: " فلو ذكر مدة يظن فيها الادراك
فلم يحصل، فالأقرب أن للمالك الإزالة مع الأرش أو التبقية بالأجرة
سواء كان بسبب الزارع كالتفريط بالتأخير أو من قبل الله كتأخير الأهوية
وتأخر المياه " (2) انتهى. غير أن حكمه في التسوية بين التفريط وعدمه
في المزارعة، ينافي قوله: في الإجارة مع التفريط " كالغاصب الذي
حكمه جواز القلع للمالك بلا أرش ".

(1) راجع كتاب الإجارة الثالث في إجارة الأرض والعقارات.
(2) راجع: الفصل الثاني من المقصد الثاني في المزارعة، وأوله:
الثاني في تعيين المدة.
116

وأما فيما نحن فيه، وهو الانتقال بالإرث فحكمه حكم المزارعة،
لكون الزرع أو الثمرة على النخل والشجر مشتركة بين الزوجة لكونها
ترث من عين ذلك، وبين الوارث غيرها، فيتخير الوارث غيرها بين القلع
ودفع الأرش إليها والابقاء وأخذ الأجرة منها، لوجود ما ذكرنا من ملاك
التخيير في المزارعة هنا أيضا "، فافهم.
هذا آخر ما أردنا بيانه في هذه المسألة
ولله الحمد أولا وآخرا
117

رسالة
في الرضاع
119

بسم الله الرحمن الرحيم
120

مسألة
اتفقت كلمة فقهائنا، بل الفقهاء كافة اتفقوا، على سببية الرضاع
لنشر الحرمة في الجملة.
ولنصدر المسألة تيمنا " بما يدل عليه من الكتاب والسنة المستفيضة بل
المتواترة معنى.
فمن الأول قوله: عز من قائل: " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم
وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي
أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في
حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن،
فلا جناح عليكم، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، وإن تجمعوا
بين الأختين، إلا ما قد سلف، إن الله كان غفورا " رحيما " (1) وهذه
الآية الشريفة مع قوله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم " (2) دلت
على أسباب التحريم من النسب والرضاع والمصاهرة.
ومن الثاني أخبار: منها ما رواه في الكافي والتهذيب: " عن
عبد الله بن سنان في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: سمعته
يقول: يحرم من الرضاع ما يحرم من القرابة " (3).

(1) سورة النساء / 23.
(2) سورة النساء / 22 وتكملة الآية هكذا ".. من النساء إلا ما قد
سلف إنه كان فاحشة ومقتا " وساء سبيلا ".
(3) باب الرضاع من الكافي، كتاب النكاح رقم الحديث (1).
121

ومنها ما رواه في الكافي في الصحيح: " عن إبراهيم بن نعيم
الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه سئل عن الرضاع؟ فقال:
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " (1).
ومنها ما رواه في الكافي: " عن عبد الله بن سنان في الصحيح
أو الحسن عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يصلح للمرأة أن ينكحها
عمها ولا خالها من الرضاعة " (2).
ومنها ما رواه في الكافي والفقيه عن أبي عبيدة الحذاء في الصحيح
قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: " لا تنكح المرأة على عمتها
ولا خالتها ولا على أختها من الرضاعة، وقال: إن عليا " عليه السلام: ذكر
لرسول الله صلى الله عليه وآله بنت حمزة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أما علمت
أنها ابنة أخي من الرضاعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله: وعمه
حمزة قد رضعا من امرأة " (2).
ونحوها رواية أبان عمن حدثه، وحسنة الحلبي، المرويتان في
الكافي " (4).

(1) في نفس المصدر حديث رقم (2) من الباب، الحديث عن
أبي الصباح الكناني، والظاهر أنه هو المسمى (بإبراهيم بن نعيم) وبنفس
النص، حديث رقم (3) من الباب عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله
عليه السلام.
(2) كتاب النكاح، باب نوادر في الرضاع، حديث رقم (10).
(3) راجع من الكافي: باب نوادر في الرضاع من كتاب النكاح،
حديث رقم (11).
(4) أما رواية أبان عمن حدثه فهي هكذا: " عن أبي؟ عبد الله (ع)
قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: عرضت على رسول الله ابنة حمزة
فقال: أما علمت أنها ابنة أخي من الرضاع ".
وأما صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله قال: قال أمير المؤمنين (ع)
في ابنة الأخ من الرضاع: لا آمر به أحدا " ولا أنهى عنه، وإنما أنهى عنه
نفسي، وولدي، وقال: عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله أن يتزوج ابنة
حمزة، فأبى رسول الله وقال: هي ابنة أخي من الرضاع " وكلاهما في
باب الرضاع من كتاب النكاح رقم (4، 5).
122

ومنها ما رواه في الكافي: " عن عبد الله بن سنان في الصحيح
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل وأنا حاضر عن امرأة أرضعت
غلاما " مملوكا لها من لبنها حتى فطمته، فهل لها أن تبيعه؟ قال: فقال:
لا هو ابنها من الرضاعة، حرم عليها بيعه وأكل ثمنه، قال ثم قال: أليس
رسول الله صلى الله عليه وآله قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب " (1).
ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي وابن سنان: " عن
أبي عبد الله عليه السلام في امرأة أرضعت ابن جاريتها قال: تعتقه " (2).
ومنها ما رواه عن أبي بصير وأبي العباس وعبيد كلهم جميعا ": " عن
أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يملك أمه من الرضاعة، ولا أخته ولا
عمته، ولا خالته، فإنهن إذا ملكن عتقن، وقال: كلما يحرم من النسب
فإنه يحرم من الرضاع " (3).

(1) باب النوادر من كتاب النكاح حديث رقم (16) وفي الوسائل
في باب 17 من أبواب ما يحرم من الرضاع.
(2) الوسائل باب 17 من أبواب ما يحرم من الرضاع حديث (2)
(3) في الوسائل، باب 4 من أبواب بيع الحيوان حديث رقم (1) وهو طويل والمذكور هنا آخره.
123

ومنها ما رواه في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن العبد الصالح
عليه السلام: " قال: قلت له أرضعت أمي جارية بلبني؟ قال: هي
أختك من الرضاعة، قال: قلت: فتحل لأخي من أمي لم ترضعها بلبنه
يعني ليس بهذا البطن ولكن ببطن آخر، قال: والفحل واحد؟ قلت:
نعم هو أخي لأبي وأمي، قال: اللبن للفحل، صار أبوك أباها وأمك
أمها " (1).
ومنها في الموثق عن سماعة: " قال: سألته عن رجل كان له
امرأتان، فولدت كل واحدة منهما غلاما "، فانطلقت إحدى امرأته فأرضعت
جارية من عرض الناس، أينبغي لابنه أن يتزوج بهذه الجارية؟ قال: لا
لأنها أرضعت بلبن الشيخ " (2).
ومنها ما عن أحمد بن محمد ابن أبي نصر: " قال سألت أبا الحسن
الرضا عليه السلام: عن امرأة أرضعت جارية ولزوجها ابن من غيرها
أيحل للغلام ابن زوجها أن يتزوج الجارية التي أرضعت فقال: اللبن
للفحل " (3).
ومنها في الصحيح: " عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام
في رجل تزوج امرأة فولدت منه جارية، ثم ماتت المرأة، فتزوج أخرى
فولدت منه ولدا "، ثم إنها أرضعت من لبنها غلاما "، أيحل لذلك الغلام الذي
أرضعته أن يتزوج ابنة المرأة التي كانت تحت الرجل قبل المرأة الأخيرة؟

(1) الوسائل كتاب النكاح باب (8) من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث (3) والمقصود من العبد الصالح هو الإمام موسى بن جعفر (ع).
(2) المصدر الآنف الذكر، باب 6 حديث رقم (6).
(3) الوسائل، كتاب النكاح باب 6 من أبواب ما يحرم الرضاع
حديث (7).
124

قال: ما أحب أن يتزوج ابنة فحل قد رضع من لبنه " (1).
ومنها في الحسن عن الحلبي: قال: " قلت لأبي عبد الله (ع)
أم ولد رجل قد أرضعت صبيا "، وله ابنة من غيرها، تحل لذلك الصبي
هذه الابنة؟ فقال: ما أحب أن يتزوج ابنة رجل قد رضعت من لبن
ولده " (2).
ومنها عن التهذيب في الموثق: " عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله
عليه السلام، قال: إذا رضع الرجل من لبن امرأة حرم عليه كل شئ
من ولدها، وإن كان الولد من غير الرجل الذي كان أرضعته بلبنه،
وإذا أرضع من لبن رجل حرم عليه كل شئ من ولده وإن كان من غير
المرأة التي أرضعته " (3).
ومنها ما عن الكافي: " في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن
أبي عبد الله عليه السلام، قال: لو أن رجلا تزوج جارية رضيعا " فأرضعته
امرأته فسد نكاحه. قال: وسألته عن امرأة رجل أرضعت جارية أتصلح
لولده من غيرها؟ قال لا: قلت: فنزلت منزلة الأخت من الرضاعة؟ قال:
نعم من قبل الأب " (4).
وبهذا الاسناد عن الحلبي و عبد الله بن سنان: " عن أبي عبد الله
عليه السلام: في رجل تزوج جارية صغيرة فأرضعتها امرأته أو أم ولده؟

(1) المصدر الآنف الذكر حديث رقم (5).
(2) المصدر الآنف الذكر، حديث رقم (8).
(3) المصدر الآنف الذكر، باب 15 حديث (3).
(4) الوسائل، باب 15 من أبواب ما يحرم بالرضاع، حديث
رقم (1).
125

قال: تحرم عليه " (1).
ومنها رواية عثمان عن أبي الحسن عليه السلام قال: قلت له:
" إن أخي تزوج امرأة فأولدها فانطلقت، فأرضعت جارية من عرض الناس
فيحل لي أن أتزوج تلك الجارية التي أرضعتها امرأة أخي؟ قال: لا، إنه
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " (2).
ومنها رواية مسمع: " عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
أمير المؤمنين عليه السلام: ثمانية لا تحل مناكحتهم إلى أن قال أمتك
وهي عمتك من الرضاعة، أمتك وهي خالتك من الرضاعة " (3) الحديث.
ومنها روايته الأخرى: " وعنه عليه السلام قال: عشر لا يجوز
نكاحهن إلى أن قال أمتك وهي عمتك من الرضاعة، وأمتك وهي
خالتك من الرضاعة " (4).

(1) الوسائل: كتاب النكاح أبواب ما يحرم بالرضاع باب 10،
حديث (2). الكافي، باب نوادر في الرضاع حديث (6).
(2) الوسائل، كتاب باب 8 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث رقم (7).
(3) في كتاب النكاح من الكافي باب في نحوه، حديث (1) بسنده
هكذا: ".. عن مسمع بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام:
قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: ثمانية لا تحل مناكحتهم أمتك
أمها، أمتك أو أختها، أمتك، وأمتك، وهي عمتك من الرضاعة، وأمتك
وهي خالتك من الرضاعة، أمتك وهي أرضعتك، أمتك، وقد وطئت
حتى تستبرأها بحيضة، أمتك وهي حبلى من غيرك، أمتك وهي على سوم
أمتك ولها زوج ". ومثله في الوسائل كتاب النكاح.
(3) في أبواب ما يحرم بالرضاع روايات كثيرة بهذا المضمون
توجد في عامة كتب الأخبار. وبهذا المضمون والسند في كتاب الوسائل
كتاب النكاح، باب 8 من أبواب ما يحرم بالرضاع.
126

ومنها رواية مسعدة بن زياد عن أبي عبد الله عليه السلام: " يحرم
من الإماء عشر: لا تجمع بين الأم والبنت، يعني في النكاح، ولا بين
الأختين إلى أن قال ولا أمتك وهي عمتك من الرضاعة، ولا أمتك
وهي خالتك من الرضاعة، ولا أمتك وهي رضيعتك " (1).
ومنها صحيحة محمد بن مسلم: عن أبي جعفر عليه السلام: في
رجل فرج بامرأة، أيتزوج أمها من الرضاعة أو بنتها؟ قال: لا (2)
إلى غير ذلك من الأخبار.
وتمام الكلام في هذه المسألة ينتهي في طي مقدمة، ومباحث
وخاتمة.
أما المقدمة، فهي أن ربط الرضاع من سنخ ربط النسب الذي هو
ربط بين النسب والمنسوب إليه ربط تكوين واشتقاق، فإن الولد متكون
من والديه، ومادته الأصلية مشتقة من مادتهما السارية في جميع الطبقات
النازلة سريان المصادر في جميع مشتقاتها (3)، ولذا كان نماء كل بذر

(1) الوسائل، كتاب النكاح باب 8 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث (9).
(2) المصدر الآنف، باب 6 من زنا بامرأة حرمت عليه بنتها
وأمها، حديث رقم (1) و (2).
(3) بناء على ما هو التحقيق من أن المصادر هي أصول المشتقات،
لا الأفعال، فإن المبدأ فيها موجود في جميع مشتقاته، ففي ضرب وضارب
ومضروب ومضرب وغيرها من المشتقات يوجد المبدأ كاملا غير منقوص.
127

من جنس أصله. " من يزرع الشوك لم يحصد به عنبا " (1) وليس
إلا لسريان حقيقة الأصل في فروعه، ولعل الرضاع بشرائطه كما يعرب
عنه ما قيل: " إن لحمة الرضاع كلحمة النسب " (2): له تأثير في ذلك
الربط الأصلي ولو بنحو الاشتداد أو موجب لما يضاهيه من الربط الذي
يكون من سنخه، وإن كان ضعيفا " في مرتبة الربطية، ولذا يجتمع معه
في بعض الأحكام، ويفترق عنه في بعضها الآخر. وبذلك الربط الحاصل
منه إليهما، ومنهما إليه نسبا " ورضاعا " تحصل الارتباطات صاعدة ونازلة
المعبر عنها بالعناوين السبعة النسبية (3) وما يضاهيها من الرضاع، وحيث

(1) هو عجز بيت لشاعر عربي جاهلي أو مخضرم، لا نعرف
قائله: ويروي مع صدره كما في مجمع الأمثال للميداني هكذا:
إذا وترت امرءا " فاحذر عداوته من يزرع الشوك لم يحصد به العنبا
قال الميداني: لا يقال: حصدت العنب، بل قطفته، ولكن الشاعر
العربي وضع الحصد مكان القطف والمقصود منه: من أساء إلى انسان
فليتوقع. وهو على غرار المثل المعروف: " أعجز من جاني العنب من
الشوك "، قال حمزة: وهذا الشاعر أخذ هذا المثل من حكيم من حكماء
العرب من قوله: من يزرع خيرا " يحصد غبطة، ومن يزرع شرا " يحصد
ندامة، ولن يجتني من شوكة عنبة ".
(2) هذا الكلام من ألسنة الفقهاء بحكم اشتراك الرضاع مع النسب
في تأثير المنع، وليس حديثا " ولا رواية على الظاهر وإنما الحديث
النبوي المذكور في عامة كتب الحديث للفريقين هو قوله صلى الله عليه وآله: " الولاء
لحمة كلحمة النسب " فجاء هذا الكلام على هذا الغرار بحكم وجود
الملاك في الثلاثة.
(3) في كتب الفقه: إن أسباب التحريم ستة: النسب، الرضاع
المصاهرة، استيفاء العدد، اللعان، الكفر والارتداد بشروط مفصلة
هناك.
والأصناف المحرمة من النسب سبعة وهي المقصودة بالعناوين السبعة
في المتن، وهي:
(1) الأم والجدة وإن علت لأب كانت أم لأم أم لهما.
(2) والبنت الصلبية وبناتها وإن نزلن وبنات ابنها وإن
نزلن أيضا "
(3) والأخوات لأب كن أو لأم أولهما وبناتهن وبنات أولادهن.
(4) والعمات، سواء كن أخوات أبيه لأبويه أم لأحدهما، وكذا
أخوات أجداده وإن علون.
(5) والخالات لأب أو لأم أو لهما وكذا خالات الأب والأم
وإن علون.
(6) وبنات الأخ، سواء كان الأخ لأبوين أم لأحدهما سواء
كانت بنته الصلبية أم بنت بنته وإن نزلت، أو بنت ابنه، وبناتهن
وإن نزلن
(7) وبنات الأخت وإن نزلن.
هذه المحرمات من النساء على الرجال. ومقابل ذلك يحرم من الرجال
على النساء أيضا "، فيحرم على لمرأة أبوها وإن علا وابنها وإن نزل
وأخوها وابن أخيها وابن الأخت، والعم والخال وإن ارتفعا -.
(عن كتب الفقه: كتاب النكاح)
128

إنا لم نحط به علما " وبكميته وبشرائط حصوله اقتصرنا فيه على ما أعرب
عنه الدليل، وأوضح لنا منهج السبيل الموجب للرجوع فيما شك إلى
ما تقتضيه الأصول.
129

وأما المباحث، فالأول منها في بيان معنى العبارة التي تضمنتها
أخبار الفريقين، واستفاض نقلها بينهم، وهي: (يحرم من الرضاع
ما يحرم من النسب).
فنقول: ما يحرم من النسب من العناوين السبعة النسبية إذا وجد
نظيره في الرضاع أوجب الحرمة بإرادة العنوان من الموصول، وإلا فنفس
من يحرم من النسب لا معنى لكونه يحرم من الرضاع، كما هو ظاهر العبارة
فلا بد من انتزاع عنوان يكون وجوده مناطا " للحكم، وإنما وقع التعبير
بذلك لبيان اعتبار اتحاد العنوان الحاصل منهما، فيكون حاصل المعنى:
إن الرضاع يوجب ربطا " على حد ربط النسب، وعلاقة نحو علاقته،
كما يعرب عنه تشبيه لحمته بلحمته، فالعلائق السبعة الرضاعية تحرم كما
تحرم العلائق السبعة النسبية، وبعبارة أخرى: إن الرضاع يحدث ما يحدثه
النسب من العناوين السبعة، ويفعل فعله في تحققها بعد تنزيل الرضاع
منزلة الولادة في ذلك، فيجري مجراه في التحريم، سواء كان الحكم به
بسبب النسب أو بسبب المصاهرة كأم الزوجة الرضاعية، فإنها محرمة على
زوج بنتها من الرضاع، ولكنها بالمصاهرة لا بالرضاع كما ستعرف.
الثاني: هو أن الثابت من نصوص التحريم بالرضاع، إنما هو
ما يحدث به أحد تلك العناوين المحرمة من النسب دون لوازمها. فلو
أرضعت أجنبية أخاك فبنتها، وإن كانت أخت أخيك، إلا أن أخت الأخ
في النسب إنما تحرم لكونها أختا "، لا لكونها أخت أخ، فلو تجرد عن
عنوان الأخت في الرضاع لم تكن محرمة، بل ربما تنفك أخت الأخ عن
عنوان الأخت في النسب أيضا "، فيجوز له نكاحها كما لو كانت امرأة لها
بنت ثم تزوجها أبوك، فأولدها ولدا " هو أخوك من أبيك، وأخته من أمه
أخت أخيك نسبا " من أمه، وليست بأختك أصلا، فلا مانع عن تزويجك إياها
130

لما عرفت أن عنوان أخت الأخ من حيث هو ليس من العناوين المحرمة في
النسب، وكذا يجوز لك تزويج المرضعة، وإن كانت أم أخيك، لأن
أم الأخ إنما تحرم عليك في النسب، أما لكونها أما لك أو لكونها منكوحة
أبيك فحيث ينفك عنهما في الرضاع، لم تنشر الحرمة بينهما.
وبالجملة فالمدار في التحريم بالرضاع على تحقق ما به يحرم في النسب
كالأمومة والأخوة والبنوة مثلا فأم الأخ الرضاعي من النسب
أو الرضاع لا تحرم على أخيه لأن حرمة أم الأخ من النسب إنما تحرم:
إما لكونها أما " له أو منكوحة أبيه، وكل منهما موجب للحرمة. وحيث
يتجرد عنوان أم الأخ عنهما لم تحرم، سواء كانت أما نسبية للأخ الرضاعي
أو أما " رضاعية للأخ النسبي، فضلا عن الأم الرضاعية للأخ الرضاعي. وكذلك
أخت الأخ من الرضاع، فإنها لا تحرم على أخيه، لأن أخت الأخ من
النسب إنما تحرم لكونها أختا " لا أخت أخ، فحيث تجردت أخت
الأخ عن عنوان الأخت لم تكن محرمة، سواء كانت أختا " من الرضاع
لأخيه من النسب، أو أختا " من النسب لأخيه من الرضاع. وكذا أخت
العمة وأخت الخالة لا تحرم ما لم تكن عمة أو خالة. وكذا في البنوة أيضا "
فإن أخت الابن من النسب محرمة: إما لكونها بنتا " له أو ربيبة، وكل
منهما موجب للحرمة، فلو تجرد عنوان أخت الابن عنهما كالأخت الرضاعية
للابن النسبي أو الأخت النسبية للابن الرضاعي لا يقتضي الحرمة من حيث
القاعدة، وإن قلنا بها لدليل خاص كما ستعرف.
وحيث تبين لك الضابط في مدار التحريم ظهر لك ضعف ما استثناه
في (التذكرة): من أربعة نسوة يحرمن في النسب، وقد لا يحرمن في
الرضاع، وهن: أم الأخ، والأخت، وأم ولد الولد وجدة الولد
وأخت الولد ثم قال بعد عدهن: وهذه الصور الأربع مستثناة من
131

قولنا يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) ضرورة عدم دخولهن في عموم
القاعدة حتى يصدق الاستثناء للذي معناه اخراج ما لولاه لدخل، اللهم إلا
أن يكون استثناء من توهم الدخول.
وأضعف منه: ما ذهب إليه الحلي في (السرائر) قال بعد
حكايته قول الشيخ في المبسوط: من أنه يجوز للفحل أن يتزوج بأم هذا
المرضع وبأخته وبجدته ما لفظه: " أما تزويجه بأخته وبجدته فلا يجوز
بحال لأنا في النسب لا نجوز أن يتزوج الانسان بأخت ابن ولا بأم امرأة
بحال إلى أن قال: والذي يقتضيه مذهبنا أن أم أم ولده من الرضاع
محرمة عليه، كما أنها محرمة عليه من النسب، لأنه أصل في التحريم من
غير تعليل، فعلى هذا امرأة لها لبن أرضعت بنتا " لقوم الرضاع المحرم،
ولتلك البنت المرضعة أخت، فإنه يحل لابن المرضعة الذي قد شربت هذه
البنت المرضعة منه أن يتزوج بأختها وهي أخت أخيه من الرضاع، لما مضى
من الأصل، وهو أنه إنما يحرم هذا المرتضع وحده، ومن كان من نسله
دون من كان في طبقته وهذه من طبقته، لأنه لا نسب بينه وبين أخت أخيه

(1) ففي أخريات كتاب النكاح، آخر المبحث الأول من الفصل
الثاني في الرضاع قال: " أخت ولدك في النسب حرام عليك لأنها
إما بنتك أو ربيبتك. وإذا أرضعت أجنبية ولدك فبنتها أخت ولدك،
وليست بنتا ولا ربيبة ولا تحرم أخت الأخ في النسب ولا في الرضاع
إذا لم تكن أختا " له بأن يكون له أخ من الأب وأخت من الأم، فإنه
يجوز للأخ من الأب نكاح الأخت من الأم. وفي الرضاع لو أرضعتك
امرأة وأرضعت صغيرة أجنبية منك يجوز لأخيك نكاحها وهي أختك من
الرضاع، وهذا الصور الأربع مستثناة من قولنا: " يحرم من الرضاع
ما يحرم من النسب ".
132

ولا رضاع " (1) انتهى.
وكأنه لما رأى عدم انفكاك جدة المرتضع، وكذا أختها عن التحريم
عن الأب في النسب وانفكاكه عنه في أخت الأخ بالنسبة إلى أخيه فيه
أجرى الرضا مجراه في ذلك، فحم بالتحريم في الأولين وبالحل في الأخير
وكأنه غفل عن كون سبب التحريم في الجدة لكونها أم زوجة لا لكونها
جدة، وفي أخت البنت لكونها بنتا " أو ربيبة، لا لكونها أخت بنت مع عدم
وجودهما في الرضاع، لأن المرضعة لا تكون بحكم الزوجة لأب المرتضع
حتى تكون أمها أم زوجة لتحرم بالمصاهرة، ولا أخت البنت بنتا ".
نعم نقول: بحرمة أخت البنت، لا للقاعدة، بل للدليل الخاص (2)
والحلي لم يستند إليه في التحريم، بل استند فيه إلى القاعدة، هو
كما ترى.
ثم إن مقتضى الضابط المتقدم حسبما عرفت وإن كان جواز
نكاح أخت الابن، ما لم تكن بنتا " أو ربيبة إلا أن النصوص الخاصة
نصت بتحريمها على الأب، وهي القاعدة المعروفة: من أنه لا ينكح أب
المرتضع في أولاد صاحب اللبن نسبا ورضاعا ولا في أولاد المرضعة نسبا
لا رضاعا، خلافا للطبرسي فألحق الرضاع منهم بالنسب، بناء منه على
كفاية اتحاد المرضعة في نشر الحرمة بالرضاع، وإن تعدد الفحل كما يأتي.
والنصوص المخرجة لها عن القاعدة، هي: صحيحة علي بن مهزيار:
" قال: سأل عيسى بن جعفر أبا جعفر الثاني (ع) عن امرأة أرضعت لي
صبيا " فهل يحل لي أن أتزوج بنت زوجها؟ فقال ما أجود ما سألت،

(1) كتاب النكاح، باب الرضاع وما يحرم من ذلك: ص 294 طبع
إيران حجري.
(2) ولعله لما في الوسائل، باب 16 من أبواب ما يحرم من الرضاع.
133

من ههنا يؤتى أن يقول الناس: حرمت عليه امرأته من قبل لبن الفحل
هذا هو لبن الفحل لا غيره، فقلت له: إن الجارية ليست بنت المرأة
التي أرضعت لي، هي بنت غيرها، فقال: لو كن عشرا " متفرقات
ما حل لك منهن شئ، وكن في موضع بناتك " (1) وهي صريحة في
أولاد الفحل مطلقا " من الرضاع أو النسب مطلقا "، وإن لم تكن من المرضعة.
وما رواه الكليني في الصحيح: " عن عبد الله بن جعفر قال: كتبت إلى
أبي محمد (ع): امرأة أرضعت ولد الرجل، هل تحل لذلك الرجل أن يتزوج
ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقع: لا يحل له " (2). وما رواه أيوب بن
نوح في الصحيح: " قال: كتب علي بن شعيب إلى أبي الحسن (ع): امرأة
أرضعت بعض ولدي هل يجوز لي أن أتزوج بعض ولدها؟ فكتب: لا يجوز
ذلك لك، لأن ولدها صارت بمنزلة ولدك " (3) وموردها أولاد المرضعة
واطلاقه يعم ما لو كان من غير صاحب اللبن، لكن مع الاقتصار على
أولادها من النسب، بناء على اعتبار اتحاد الفحل في اللبن المحرم، وتنزيلا
للولد والبنت فيهما على معناهما الحقيقي، وهن صحاح، عمل بها المشهور
لا بأس باستثناء موردها عن القاعدة، مع امكان دعوى عدم المنافاة بينها وبين
ما تقتضيه أصالة الحل في غير العناوين المحرمة في النسب، إذ ليست النسبة
بينهما إلا نسبة الأصل إلى الدليل الوارد عليه، لعدم ما يدل على الحصر

(1) راجع: الوسائل باب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع في اشتراط
اتحاد الفحل في نشر الحرمة حديث رقم (10).
(2) في الوسائل، كتاب النكاح باب 16 من أبواب ما يحرم من
الرضاع حديث رقم (2).
(3) الوسائل، باب 16 من أبواب ما يحرم بالرضاع في حرمة نكاح
أبي المرتضع في أولاد صاحب اللبن حديث رقم (1).
134

في حديث: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
اللهم إلا أن يقال: إن الحديث ونحوه في مقام اعطاء القاعدة
التي يجب اطرادها طردا " وعكسا ". فتخصص الكلية السلبية حينئذ
بالنصوص الخاصة.
وكيف كان فيتفرع على القول به تحريم الزوجة على زوجها لو أرضعت
ولدها أمها التي هي جدة الولد من أمه، لأن الزوجة حينئذ من أولاد
المرضعة نسبا "، وقد عرفت أنه لا ينكح أب المرتضع في أولاد المرضعة
نسبا "، لعدم الفرق في التحريم بالرضاع بين سبعة على النكاح أو لحوقه به.
ثم: إن مورد النصوص الخارج بها عن القاعدة: هو حرمة
نكاح أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن. وهل يحرم نكاح الفحل،
صاحب اللبن، في أولاد أب المرتضع كما في (الخلاف) و (النهاية)
وغيرهما، أو لا يحرم، كما عليه المشهور ظاهرا "؟ وجهان، بل قولان:
ينشئان: من الرجوع إلى القاعدة في غير مورد النص المخرج له عنها،
ومن وحدة المناط بعد تنزيل إخوة الولد منزلة الولد من غير فرق بين
كون الولد المنزل عليه ولد نسبيا " أو رضاعيا ".
وفيه: مضافا " إلى خروجه عن مورد النص الموجب لاندراجه تحت
القاعدة المقتضية للحل، أنه من القياس الذي لا نقول به، لأن ربط
النسب في التحريم على أبيه أقوى من ربط الرضاع، فالمنزل منزلة القوى
لا يقاس به المنزل منزلة الضعيف، وهو الولد من الرضاع، مع أن التنزيل
منزلة الضعيف ليس منطوق نص حتى يقال: بالتحريم، لعدم الفائدة
مع عدمه، بل هو تنزيل مستنبط من القياس بالتنزيل المنصوص، فهو
من القياس، مع ما عرفت من وضوح الفرق بين المقيس والمقيس عليه،
فالأقوى عدم التحريم فيه، وإن قلنا بالتحريم في الأول.
135

وهل: نسبة إخوة المرتضع من الرضاع إلى أمه من النسب كنسبتهم
إلى أبيه فيكونوا بمنزلة أولادها في التحريم أم لا؟ وجهان:
ذهب شيخنا المرتضى قدس سره في رسالته الرضاعية إلى الأول
حيث، قال: " والرواية أي رواية ابن مهزيار وإن اختصت بتحريم
ولد الفحل على أب المرتضع، إلا أن تحريمهم على أمه أيضا " ثابت بالاجماع
المركب ظاهرا "، مع أن كونهم بمنزلة بنات أبي المرتضع يستلزم كونهم
بمنزلة بنات أمه " (1) انتهى.
قلت: تنزيلهم منزلة أولاد الأب لا يستلزم تنزيلهم منزلة أولاد الأم
لتكون لهم أما "، ولو بالتنزيل حتى تحرم أمها عليهم، لكونها لهم حينئذ
بمنزلة الجدة. نعم غاية الأمر ثبوت تحريمها عليهم بنفسها لكونها، إن
لم تثبت أمومتها لهم، فهي منكوحة أبيهم التنزيلي، وزوجة الأب لا تحرم
أمها على أولاد زوجها، فتظهر الثمرة في تحريم أمها عليهم وعدمه.
مع إمكان أن يقال: يحتمل عدم تحريمها أيضا " عليهم لأنها ليست بزوجة
أب لا من الرضاع ولا من النسب، وزوجة الأب من النسب محرمة،
والأب من الرضاع كالأب من النسب في ذلك، ولا دليل على كون
المنزلة منزلة الأب من جهة إخوة ولده المنزلين منزلة أولاده بحكم الأب في
تحريم زوجته عليهم، إذ لا أبوة بينهم، لا من الرضاع ولا من النسب،
بل هو بمنزلة الأب لمن هو بمنزلة الولد، فالقدر الثابت من الرواية تنزيلهم
منزلة أولاده في خصوص تحريمهم عليه، دون غيره، فتأمل هذا.
وأما نكاح إخوة المرتضع من النسب في إخوته من الرضاع،
أي أولاد أب المرتضع في أولاد الفحل مطلقا "، وفي أولاد المرضعة نسبا "،

(1) رسالة استدلالية مفصلة طبعت في أخريات كتاب المكاسب في
مجلد واحد
136

فالأشهر، بل الأقوى جوازه، لأنهم بالنسبة إليهم ليس إلا إخوة الأخ
وإنما تحرم إخوة الأخ في النسب، لكونهم إخوة لا أخوة أخ، فإذا انفك
عنوان (إخوة الأخ) عن الإخوة كما هنا لا يوجب التحريم، وإن
نزلوا في النصوص الخاصة منزلة أولاد الأب، فإن تحريم أولاد الأب
بعضهم على بعض ليس من حيث كونهم أولاد أب، بل من حيث كونهم
إخوة، خلافا " للخلاف والنهاية والسرائر، وقواه في الكفاية، حيث قال:
" والوجه الاستدلال على التحريم بأن كونهم بمنزلة الولد يقتضي أن يثبت
لهم جميع الأحكام الثابتة للولد من حيث الولدية لعدم تخصص في المنزلة،
ومن جملة أحكام الولد تحريم أولاد الأب عليه، فإذن، القول بالتحريم
لا يخلو عن قوة " (1) انتهى.
وفيه ما تقدم: من أن تحريم أولاد الأب بعضهم على بعض ليس
من حيث كونهم أولاد أب، بل، من حيث كونهم إخوة ويدل عليه
عطف الأخوات على الأمهات في المحرمات النسبية والرضاعية، وإلا لاكتفى
عن ذلك بذكر (وبناتهن)، وليس إلا لكون المعتبر عنوان الأخوة دون
عنوان أولاد الأب أو الأم.
اللهم إلا أن يقال بل قد قيل (2) إن الأخوة التي نيطت بها
الحرمة في آية المحرمات ليس مفهومها العرفي بل الحقيقي إلا كون
الشخصين ولدا " لواحد، فكونهم أولادا " لأبيه أو لأمه عين كونهم إخوة له
لا أنه عنوان آخر ملازم له.

(1) المقصود منها: كفاية الأحكام للسبزواري، راجع ذلك ضمن
كتاب النكاح البحث الثاني من الفصل الثاني في أسباب التحريم.
(2) القائل: شيخنا المرتضى في رسالته الرضاعية (منه).
137

وفيه: منع اتحاد أولاد الأب مع الإخوة في المعنى، وإن كلا " منهما
عين الآخر، ضرورة أن عنوان أولاد الأب من حيث هو غير ملحوظ فيه
إلا ربط كل واحد منهم إلى الأب بربط التكوين، والتولد، والملحوظ
في عنوان الإخوة ليس إلا ربط بعضهم مع بعض باشتراكهم في ذلك
الربط الحاصل بالتوالد، فالربط الملحوظ في عنوان أحدهما غير الربط
الملحوظ في عنوان الآخر، وإن كانا متلازمين لا ينفك أحدهما عن الآخر
بل لا ملازمة بينهما في الرضاع، كما ينفكان في أولاد المرضعة رضاعا " مع
تعدد الفحل، ضرورة أنهما أولاد أم، ولا أخوة بينهما، بناء على المشهور
من اعتبار اتحاد الفحل في ثبوت عنوان الإخوة كما ستعرف.
مضافا " إلى امكان أن يقال: إن أولاد الأب يعم ما كان نسبته
إليه بواسطة أولا بواسطة، وما كان بواسطة لا يوجب التحريم كأولاد
حاشية الأب والجد إلا ما كان من حاشية نفسه كأولاد الأخ والأخت،
وتنزيل أولاد الفحل منزلة أولاده إنما هو بواسطة المرتضع، فلا يصدق
عليهم إخوة، ولا أولاد أخ أو أخت، فالأقوى جواز نكاح بعضهم في
بعض، وإن حرم نكاح كل من الطرفين على المرتضع لكونهم إخوته،
وعلى أبيه لكونهم أولاده أو ربيبته أو بمنزلة أولاده، ولكن الاحتياط
لا يترك في جميع ذلك.
الثالث: لم يفرق في تنزيل الرضاع منزلة النسب: بين كون
التحريم به أو بالمصاهرة كالعناوين الخمسة المحرمة بها (1) فإن أم الزوجة

(1) وهي زوجة الأب، وإن علا، وزوجة الابن وإن نزل وأم الموطوءة
حلالا أم حراما " وأم المعقود عليها وإن علت وابنة الموطوءة فنازلا
على الفاعل، سواء تقدمت ولادتها على الوطئ أم تأخرت عنه على تفصيل في
هذه العناوين الخمسة، مستوفي في محرمات النكاح من كتب الفقه.
138

الرضاعية أم للزوجة بالتنزيل ومحرمة على الزوج، لكن بالمصاهرة لا بالرضاع
فلا ينافي تحريمها بالمصاهرة كونها أما " بالرضاع، وإن هو إلا من فعل
الرضاع فعل النسب، لا فعل المصاهرة، ضرورة أن علقة المصاهرة التي هي علاقة
حاصلة بين كل من الزوجين وأقرباء الآخر منتزعة من وجود علقتين:
علقة الزوجية، وعلقة النسب، فإذا وجدتا حدثت منهما علقة ثالثة هي
الموجبة للحرمة، وهي المصاهرة، ففي المثال المتقدم: علقة الزوجية
موجودة بالوجدان، وعلقة النسب موجودة بالرضاع المنزل منزلته في تحقق
عنوان الأمومة، فحدثت من وجوديهما علقة المصاهرة، فأوجب التحريم،
فالحرمة مسببة عن المصاهرة، لا من الرضاع كي يتوهم أن الرضاع لا يفعل
فعل المصاهرة، وأين هو من فعل المصاهرة، وإنما فعل فعل النسب من
إحداث عنوان الأمومة للزوجة الرضيعة، فهو تنزيل الرضاع منزلة
النسب لا منزلة المصاهرة.
وكذا تحرم حليلة الابن الرضاعي، لتنزيله بالرضاع منزلة ابنه في
النسب، فتحرم بالمصاهرة.
وكذا تحرم بالمصاهرة منكوحة الأب الرضاعي بعد تنزيله منزلة أبيه
في النسب، وبنت الزوجة المدخولة بها في الرضاع لكونها ربيبة له
بالرضاع بعد تنزيلها منزلة البنت بالنسب. والجمع بين أخت الزوجة الرضاعية
بعد تنزيلها منزلة الأخت النسبية، ففي ذلك كله تحريم بالمصاهرة بعد
ايجاد الرضاع علقة القرابة، (ودعوى) اختصاص تحريم العناوين السبعة
الرضاعية في الصدق بالنسبة إلى من تحرم عليه، أو اختصاص حرمة المصاهرة
بما إذا كانت علقة القرابة حاصلة من خصوص النسب دون المنزل منزلته
(موهونة) لأنه تقييد للأدلة من غير دليل.
وبذلك يظهر ضعف ما احتمله قويا " في (القواعد): من عدم
139

التحريم لو أرضعت أمته الموطوءة زوجته الصغيرة حيث قال: ولو أرضعت
أمته الموطوءة زوجته حرمتا إلى أن قال ويحتمل قويا " عدم التحريم
بالمصاهرة " (1).
قلت أما: حرمة الأمة، فلكونها أما " لزوجته بالرضاع المنزل منزلة
أمها من النسب. وأما الزوجة، فلكونها بنت موطوئته بالرضاع، إن
كان اللبن من غيره، وبننه إن كان اللبن منه، فتحريمهما في غير صدق
البنتية بالمصاهرة، لكن بعد تنزيل الرضاع منزلة النسب. ومنشأ
ما احتمله قويا " كونه من تنزيل الرضاع منزلة المصاهرة، وهو توهم فاسد
كما عرفت.
الرابع: أركان الرضاع الموجبة لنشر الحرمة ثلاثة: الرضيع والمرتضعة
وصاحب اللبن، كأركان النسب المتحققة بالولد ووالديه، فتنشر الحرمة
بالرضاع من الرضيع إليهما، وإلى كل من أبوي كل منهما فصاعدا " مطلقا "
نسبا " ورضاعا "، خلافا " للقواعد وثاني المحققين في شرحه في بعض صور الثاني
كما ستعرف وإلى أولادهما فنازلا، وإلى حاشية كل منهما، ومن
أبويهما دون أولادهما لأن بنت العم والعمة وكذا بنت الخال والخالة
لا يحرمن عليه، ومنهما إليه فنازلا من غير فرق في جميع الطبقات صعودا "
ونزولا بين النسب والرضاع، إذا وجد به العنوان المحرم بالنسب،
فالمرضعة أم للرضيع، وصاحب اللبن أب له، وآباؤهما وأماتهما أجداد
وجدات، وأخوتهما عم وعمة، وخال وخالة، وأولادهما إخوة له،
وأولادهم أولاد أخ أو أخت، وأولاده بالنسبة إليهما أولاد ابن أو بنت لهما
فتنشر الحرمة في جميع ذلك نسبا " ورضاعا " على الشرط المتقدم.

(1) كتاب النكاح، الفصل الأول في الرضاع من المحرمات السببية
في أخريات المطلب الثالث منه.
140

وعنوان العمومة والخؤولة لكل من الأبوين ثابت له أيضا "، فعم الأم
وعمتها عم له، وعمة، وخال الأب وخالته خال له وخالة وإن ترامت
فكل من العمومة والخؤولة لكل من الأبوين وإن ترامت بوسائط متعددة
تنزل منزلتهما بلا واسطة، فتجري عليها أحكامها، كغيرها من العناوين
المتصاعدة والمتنازلة.
وبالجملة: يحرم على الانسان أصوله وفصوله، وكل فصل من أول
أصل، وأول فصل من كل أصل بعده، فلا تحرم بنات العم والعمة
ولا بنات الخال والخالة.
وبعبارة أخرى: يحرم على الانسان ذوو قرابته مطلقا "، إلا فروع
حاشيتي أصوله، من غير فرق في ذلك كله بين النسب والرضاع. وكذا
تحرم بالمصاهرة على الزوج أصول الزوجة مطلقا ". وفصولها مع الدخول بها
والجمع بين الأختين مطلقا "، وعلى الزوجة أصول الزوج وفصوله مطلقا "
في كل ذلك تنزيلا للرضاع منزلة النسب.
الخامس: في شروط نشر الحرمة بالرضاع التي يرجع اعتبار بعضها
في المرضعة وبعضها في الرضيع وبعضها في الرضاع.
أما الأول: فيشترط في المرضعة: أن تكون امرأة حية، در لبنها
عن نكاح، أي وطئ صحيح، غير حائل، فلا تحرم بلبن الخنثى المشكل.
لو وطئت شبهة، لعدم إحراز الأنوثة، سيما على القول بكونها حقيقة
ثالثة فضلا عن لبن الذكر أو البهيمة ولا الميتة، ولو كانت امرأته لعدم
صدق الارضاع المصرح به في آية الرضاع، ولا غير الموطوءة، وإن كانت
ذات بعل، ولا الحائل، وإن كانت موطوءة بنكاح صحيح، ولا مع الحمل
أو الولادة إن كان من الزنا، اجماعا " بقسميه في ذلك كله. وإن
تردد في اعتبار الحياة بعض، وهو لا يضر بالاجماع المعتضد بدعوى غير
141

واحد ظهور الاتفاق عليه، كما عن (كاشف اللثام) وغيره. مضافا " إلى
الأخبار الصحيحة، أو بحكمها، ففي رواية عبد الله بن سنان: " قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام: عن لبن الفحل؟ قال: هو ما أرضعت
امرأتك من لبنك ولبن ولدك: ولد امرأة أخرى، فهو حرام " (1).
وما رواه في الكافي: " عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: سألته عن امرأة در لبنها من غير ولادة فأرضعت جارية وغلاما " من
ذلك اللبن هل يحرم بذلك اللبن ما يحرم من الرضاع؟ قال: لا " (2)
ورواه الصدوق باسناده: " عن أبي عمير عن يونس عن يعقوب
مثله " (3) وما رواه الشيخ: " عن يعقوب بن شعيب قال: قلت:
لأبي عبد الله عليه السلام: امرأة در لبنها من غير ولادة فأرضعت ذكرانا "
وإناثا " أيحرم من ذلك الرضاع؟ فقال لي: لا " (4) وما رواه في الكافي
أيضا: " عن بريد العجلي في حديث قال: سألت أبا جعفر عليه السلام
عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله: يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب، فسر لي قال: فقال: كل امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة
أخرى من جارية أو غلام، فذلك الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله " (5).

(1) الوسائل، كتاب النكاح باب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث رقم (4).
(2) المصدر المذكور باب (9) حديث رقم (1).
(3) المصدر المذكور نفسه وبعد ذكر الحديث قال: ورواه
الصدوق.. الخ.
(4) المصدر الآنف الذكر في نفس الباب حديث رقم (2).
(5) الوسائل، كتاب النكاح باب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث (5)
وتكملة الحديث بعد ذلك: وكل امرأة أرضعت من لبن فحلين كانا لها
واحدا " بعد واحد من جارية أو غلام، فإن ذلك رضاع ليس بالرضاع
الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وإنما
هو من نسب ناحية الصهر رضاع ولا يحرم شيئا "، وليس هو سبب رضاع
من ناحية لبن الفحولة فيحرم ".
142

ويلحق: وطئ الشبهة في نشر الحرمة بالصحيح على الأصح خلافا "
للحلي، لتردده فيه (1) ولعله للأصل، والاقتصار على المتيقن في اللحوق به
على النسب.
ويدفعه مضافا " إلى دعوى الاجماع عليه المعتضد بالشهرة المستفيضة
ومساواته له في أغلب الأحكام إطلاقات أدلة الرضاع أو عمومها مع
الاقتصار على المتيقن من الزنا في الخروج عنها وثبوت النسب بالشبهة واللبن
عندهم يتبع النسب.
هذا: إذا كانت الشبهة لهما. وإن اختصت بأحدهما اختص به
حكمه، لثبوت النسب بالنسبة إليه، دون غيره، واللبن يتبع النسب.
فإن اختصت بها دونه حرمت هي على الرضيع لكونها أما " له، وكذا
بناتها نسبا " ورضاعا " من هذا اللبن، لثبوت الأخوة بينهم بالفرض من
الأم، وكذا من غيره على قول الطبرسي (2).

(1) بل لعله جازم بالعدم، حيث قال في السرائر في أوائل كتاب النكاح
أثناء البحث عن المحرمات: " فأما عقد الشبهة ووطئ الشبهة فعندنا
لا ينشر الحرمة ولا يثبت به تحريم المصاهرة بحال. وإنما أصحابنا رووا:
أنه يلحق به الولد ولا يجد فاعله.. ".
(2) هو أبو علي الطبرسي: الفضل بن الحسن بن الفضل صاحب تفسير
مجمع البيان المتوفى سنة 548 ه‍ المدفون في المشهد الرضوي. قال: في
هذه المسألة بعدم اشتراط اتحاد الفحل. بل يكفي في نشر الحرمة
الرضاعة اتحاد المرضعة فقط، أخذا " بعموم واطلاق صدق الأخوة
بين جميع الذين أوضعتهم من ألبانها وإن كانت من فحول متعددة، وقياسا "
على تحريم التناكح بمحض صدق الأخوة النسبية، والحديث النبوي يقول:
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. ولكن رأيه هذا يصطدم بروايات
صحيحة عن أهل البيت عليهم السلام تقيد ذلك الاطلاق المدعى، يراجع
في تفصيل المسألة ما ذكر في المتن من الروايات.
143

وبالجملة: تحرم عليه المرضعة وأصولها وفصولها وحاشيتها وحاشية
أصولها، دون فصول الحواشي. ولا تنشر الحرمة لو كان أنثى بينها وبين
الفحل بالرضاع، وإن حرمت عليه بالمصاهرة، بناء على حصولها بالزنا
السابق، فبنتها من النسب تحرم عليه بالمصاهرة، لكونها بنت موطوئته
ولو بالفجور، فتحرم بنتها من الرضاع عليه أيضا " بها تنزيلا للرضاع
منزلة النسب، فتحرم بالمصاهرة عليه وعلى أصوله دون فصوله، إذ
لا مصاهرة بينهم، ولا إخوة بالرضاع. وكذا يختص حكم الرضاع
بالفحل لو اختصت الشبهة به دونها.
ويحتمل غير بعيد عدم نشر الحرمة مطلقا "، ولو بالنسبة إلى من
اختصت به، لكونها بحكم من در لبنه بنفسه لا تأثير له بعد بطلان
النكاح بالنسبة إلى صاحبه، فكأنه أرضعته بلبنها من غير فحل أو بلبنه
من غير أمومة، وعليه فلا تحرم بنت الموطوءة رضاعا " على الواطئ "
وإن قلنا: بثبوت المصاهرة بالزنا لعدم تحقق الرضاع الناشر. حتى ينزل
منزلة النسب، بل ولا تحرم عناوين النسب أيضا " لذلك، فلا تحرم
المرضعة على الرضيع، وإن اختصت الشبهة بها دونه.
هذا: وهل يكتفى بالحمل، في نشر الحرمة باللبن أو يعتبر فيه
الولادة؟ قولان: نسب ثانيهما إلى الأكثر، بل عن الخلاف والغنية
144

والسرائر ودعوى الاجماع عليه (1). ولعله الأقوى لذلك، مضافا " إلى
الأصل بعد تقييد المطلقات لو سلم كونها مسوقة لبيان ذلك بما دل
على التقييد بها في الأخبار المتقدمة. ودعوى ورود القيد مورد الغالب
فلا يفيد تقييدا ": وليست بأولى من حمل المطلقات عليه، فيبقى الأصل سليما
في غير مورد التقييد.
وعليه: فهل يعتبر أن تكون الولادة في محل يمكن أن يعيش فيه
الولد، أو يكفي انفصاله مع ولوج الروح فيه، أو يكفي مطلقا "، ولو
بالسقط قبله؟ احتمالات: والأقوى الرجوع فيه إلى صدق الولادة عرفا ".
هذا: ولا فرق في النكاح الصحيح بين كونه بعقد دائم أو منقطع
أو بملك اليمين ونحوه، اجماعا " بقسميه وتنزيلا للفظ (امرأتك)
ونحوه في الأخبار على إرادة من يستحق نكاحه، كما لا فرق بين كون
المرضعة باقية في حبال الزوج أو بانت عنه بطلاق ونحوه. وإن طالت
المدة، ما لم تتجاوز عن الحولين، إن اعتبرناهما في ولد المرضعة، كما هو
قول، ولا فمطلقا " وإن طالت أحوالا مع استمرار اللبن فيها أو على عوده
بعد انقطاعه، لأصالة بقاء اللبن علي ما كان يحال عليه، بل وإن تزوجت

(1) قال الشيخ في الخلاف آخر كتاب الرضاع: " مسألة، إذا در
لبن امرأة من غير ولادة فأرضعت صبيا " صغيرا " لكم ينشر الحرمة، وخالف
جميع الفقهاء في ذلك، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ". وفي الغنية
للسيد أبي المكارم بن زهرة في أخريات كتاب النكاح، باب الرضاع قوله:
" ومن شروط تحريم الرضاع: أن يكون لبن ولادة، لا در بدليل إجماع
الطائفة " وفي السرائر لابن إدريس الحلي أوائل كتاب النكاح: قوله:
" ومن شروط تحريم الرضاع: أن يكون لبن ولادة من عقد أو شبهة
عقد، لا لبن در أو لبن نكاح حرام، بدليل اجماعنا ".
145

بآخر، ما لم تحمل منه، سواء زاد أم نقص أم انقطع ثم عاد، لأن اللبن
مما قد يزيد وينقص، ولم يحدث ما يحال عليه، فهو منسوب إلى الأول
ب‍ وإن حملت منه، مع استمرار اللبن وعدم حدوث زيادة فيه، فهو
منسوب إلى الأول أيضا "، للأصل حيث لم يعلم تجدد ناقل عنه، بل عن
(التذكرة): " لا نعلم فيه خلافا " (1)، بل وإن حدثت فيه زيادة
يمكن استنادها إلى الحمل للأصل مع الشك في الاستناد، خلافا " للشافعي
في أحد قوليه: إن زاد أربعين يوما " فاللبن لهما عملا بالظاهر من أن
الزيادة بسبب الحمل الثاني. وفي (المسالك) بعد حكايته عنه قال:
" وهذا قول موجه على القول بالاكتفاء بالحمل، وإن كان العمل على
الأول " (2).

(1) في البحث الثالث في اللبن من فصل الرضاع (الثاني) من
أقسام مسألة إذا طلق الرجل زوجته أو مات عنها ولها منه لبن هكذا:
" الثاني إن تزوجت بأخرى وبقي لبن الأول بحاله لم يزد ولم ينقص ولم
تلد من الثاني فهو للأول، سواء حملت من الثاني أم لم تحمل ولم نعلم
فيه خلافا " لأن اللبن كان للأول ولم يتجدد بما يجعله من الثاني، فيبقى
للأول ".
(2) قال في شرح قول المصنف بعنوان السبب الثاني من أسباب
التحريم الرضاع: " ولو طلق الزوج وهي حامل منه " قال: " الرابعة
أن يكون بعد الحمل من الثاني وقبل الوضع، ولكن تجدد في اللبن زيادة
يمكن استنادها إلى الحمل من الثاني فاللبن للأول أيضا " قطع به في (التذكرة)
استصحابا " لما كان.. ونقل عن الشافعي في ذلك قولين أحدهما مثل قوله
والآخر أنه إن زاد بعد أربعين يوما " من الحمل الثاني، فهو لهما عملا بالظاهر
من أن الزيادة لسبب الحمل الثاني فيكون اللبن للزوجين وهذا قول.. "
146

وفيه: أن الظاهر لا يلتفت إليه في مقابل الأصل حتى على القول
بالاكتفاء بالحمل، لأن الاكتفاء بالحمل على القول به حيث
لا يكون هناك ما هو أقوى منه في الاستناد إليه.
أما لو أنقطع اللبن عن الأول انقطاعا " بينا "، ثم عاد في وقت
يمكن أن يكون للثاني، فالمنسوب إلى قطع الأصحاب كما في (المسالك)
إنه يكون للثاني، وعلله فيه بأنه لما انقطع ثم عاد كان سببه الحمل
فأشبه ما إذا نزل بعد الولادة (1) وهو جيد لانقطاع الأصل بانقطاعه عن
الأول وبالحمل من الثاني يمكن استناده إليه والإحالة عليه، حينئذ
فنشر الحرمة به وعدمه مبني على الخلاف المتقدم في الاكتفاء بالحمل فيه
أو اعتبار الولادة.
أما إذا وضعت حملها فاللبن بعد الوضع للثاني خاصة، وعن
(التذكرة) " اجماع الكل عليه، سواء زاد أم نقص القطع أم اتصل " (2)
وعلله في (المسالك) بأن لبن الأول انقطع بولادة الثاني فإن حاجة المولود
إلى اللبن تمنع كونه لغيره (3)، وهو حسن وقد عرفت أنه لو استمر

(1) المصدر الآنف الذكر من المسالك الصورة الخامسة من تلك
الصور قال: إن ينقطع اللبن عن الأول انقطاعا " بينا " ثم يعود في وقت
يمكن أن يكون للثاني فقد قطع المصنف والأصحاب بأنه يكون للثاني. "
(2) في المصدر الآنف الذكر من التذكرة قال في الرابع من
الأقسام: " أن تحمل من الثاني وتلد فاللبن بعد الولادة للثاني
خاصة بالاجماع قاله كل من يحفظ عند العلم سواء زاد أو لم يزد
أو انقطع أو اتصل، لأن لبن الأول انقطع بولادة الثاني فإن حاجة المولود
إلى اللبن تمنع كونه لغيره ".
(3) ذكر ذلك في المسألة السادسة من المصدر الآنف الذكر.
وهذا التعليل ليس للمسالك، وإنما هو للتذكرة كما مر عليك
وإنما نقله المسالك عن التذكرة حرفيا " بلا إشارة إلى قائله فيتصور سيدنا
الماتن قدس سره أنه للمسالك فنسبه إليه.
147

اللبن إلى الوضع من الثاني كان ما قبل الوضع للأول مطلقا "، إلا في صورة
ما إذا انقطع انقطاعا " بينا " ثم عاد بعد الحمل الممكن فيه استناده إليه.
وأما الثاني (1) فيعتبر في المرتضع: أن يكون سنه دون الحولين
ويكفي فيه تمامية رضاعه بتماميتهما، فلو ارتضع أو وقع المتمم بعدهما
لم ينشر إجماعا بقسميه ومنقوله فوق الاستفاضة. ويدل عليه مضافا "
إليه الحديث المروي بطرق معتبرة " لا رضاع بعد فطام " (2) وما بمعناه
الظاهر بحكم التبادر، والسياق في إرادة ذلك، دون ولد المرضعة.
والمراد به سن الفطام لا تحققه، فلو ارتضع قبلهما بعده أو بعدهما قبله (3)
نشرت الحرمة في الأول، ولم تنشر في الثاني، بلا خلاف أجده
فيهما، إلا ما يحكى عن ظاهر ابن أبي عقيل في الأول (4)، وعن صريح]

(1) أي من شروط نشر الحرمة في الرضاع، وهي أنواع ثلاثة كما
مر آنفا، وقد سبق الحديث عن شروط النوع الأول منه (المرضعة)
والثاني في شروط المرتضع.
(2) يراجع من نكاح الوسائل باب 15 من أبواب الرضاع، أنه
يشترط في نشر الحرمة بالرضاع كونه في الحولين ففيه روايات كثيرة بهذا
النص وبمضمونه.
(3) أي قبل الحولين بعد الفطام، أو بعد الحولين قبل الفطام.
(4) هو الحسن بن علي بن أبي عقيل أبو محمد العماني الحذاء، من
أعلام القرن الرابع الهجري ومن أساتذة الشيخ المفيد قدس سرهما.
148

الإسكافي في الثاني (1) ونفى عنه البعد في (الكفاية) (2) جمودا " منهما
على لفظ الفطام، الظاهر في فعليته وتحققه، إلا أنه من المعلوم إرادة
استحقاق الفطام المتحقق بكمال الحولين منه، ولو بمعونة فهم الأصحاب
وتفسيره في خبر حماد بن عثمان: " قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: لا رضاع بعد فطام قال قلت: جعلت فداك، وما الفطام؟ قال:
الحولان اللذان قال: الله عز وجل " (3). نعم يوافق قول الإسكافي
خبر داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام " الرضاع بعد الحولين
قبل أن يفطم يحرم " (4) إلا أنه مرمي في (التهذيب) بالشذوذ،
وموهون بأعراض الأصحاب عنه، ولذا حمله في (الإستبصار) على التقية.
وهل يعتبر الحولان في ولد المرضعة أيضا "، بمعنى اعتبارهما من
ولادتها، أم لا؟ قولان: المشهور على الثاني، وهو الأحوط، بل الأقوى
لاطلاقات أدلة الرضاع، المتيقن تقييدها باعتبارهما في المرتضع، خلافا "
لما عن التقي وابني زهرة، وحمزة، فذهبوا إلى الأول، وعن الغنية الاجماع
عليه، مستندين في ذلك إلى إطلاق أو عموم حديث " لا رضاع بعد فطام "
وإلى تفسير ابن بكير فيما ورد من سؤال ابن فضال منه في المسجد:
" فقال له: ما تقولون في امرأة أرضعت غلاما " سنتين ثم أرضعت صبية

(1) هو محمد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب الإسكافي المتوفى في
الري سنة 381 ه‍. وهو ومعاصره ابن أبي عقيل من قدماء الإمامية وأعاظم
الطائفة. وكثيرا " ما كانا يخالفان فقهاء الإمامية في فتواهم وآرائهم.
(2) في كتاب النكاح، البحث الثاني في شروط الرضاع.
(3) الوسائل، كتاب النكاح باب 5 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث رقم (5).
(4) المصدر المذكور حديث رقم (7).
149

لها أقل من سنتين حتى تمت السنتان: يفسد ذلك بينهما؟ قال: لا يفسد
ذلك بينهما لأنه رضاع بعد فطام وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وآله
(لا رضاع بعد فطام) أي أنه إذا تم للغلام سنتان أو الجارية، فقد خرج
من حد اللبن ولا يفسد بينه وبين من شرب لبنه " (1).
وعليه فلا تنشر الحرمة لو بلغه أحدهما فضلا عنهما، وإنما تنشر
فيما لو وقع الرضاع في الحولين من سن المرتضع وولد المرضعة معا ".
وفيه: أن المورد ليس من المطلق أو العام حتى يتمسك باطلاقه أو
عمومه، وإن توهم ذلك من ورود النكرة في سياق النفي، بعد أن كان
أمر الفطام دائرا " بين اعتباره في المرتضع أو في ولد المرضعة، بحيث
لو تساوى الاحتمالان لكان مجملا لا عاما "، لأن النكرة المنفية هي لفظ
الرضاع، دون الفطام، وعموم (لا رضاع) يتبع سعة المتعلق، وتفسير
ابن بكير مع أنه اجتهاد منه لا رواية معارض بما عن (الفقيه) في
تفسيره: إن معناه إذا رضع الصبي حولين كاملين ثم شرب بعد ذلك من
لبن امرأة أخرى ما شرب لم يحرم ذلك الرضاع، لأنه رضاع بعد فطام
أي بعد بلوغ سن الفطام، وإن احتمل عدم المنافاة بين التفسيرين، لاحتمال
أنه ذكر بعد الأفراد في مقابلة العامة الذين يحرمون ح برضاع الكبير،
وإجماع (الغنية) موهون بما عرفت، فالأقوى ما عليه الأشهر، بل المشهور
وأما الثالث: وهو ما يعتبر في الرضاع فأمور.
منها أن يكون الرضاع بلبن واحد وهو معتبر بوجهين:
(الأول): اعتباره في القدر المحرم من الرضعات، وهو معتبر
فيه على سائر الشرائط المعتبرة في أصل التأثير، بحيث لو تعدد
الفحل فيه لم ينشر الحرمة مطلقا " حتى بين الرضيع والمرضعة، واعتباره

(1) المصدر المذكور، حديث رقم (6).
150

بهذا الوجه موضع وفاق. إلا ممن يكتفي في التحريم بمسمى الرضاع أو
الرضعة الواحدة، وهو قول متروك كما سيأتي وتصويره كما قيل
إذا أرضعته امرأة بعض الرضعات بلبن فحل ثم تزوجت بآخر بعد مفارقتها
الأول وأرضعته تتمة الكمية المعتبرة بلبن الثاني مع عدم تخلل المنافي برضاع
أجنبي في المدة الواقعة بين الرضاعين مع فرض تغذيته بالمأكول في تلك المدة
فإن الرضاع حينئذ لا تأثير له في التحريم أصلا، بل يعتبر في تأثير
الرضاع اتحاد الفحل والمرضعة معا " في الكمية المعتبرة بلا خلاف فيه.
الثاني: هل يعتبر اتحاد الفحل أيضا "، في نشر الحرمة بين المرتضعين
أم يكفي فيه اتحاد المرضعة، وإن تعدد الفحل؟ قولان:
الأقوى كما عليه المشهور شهرة عظيمة: هو الأول، بل حكاية
الاجماع عليه مستفيضة كما عن المبسوط والسرائر والتذكرة وغيرها
فلو أرضعت واحدة تمام الرضعات المعتبرة بلبن فحل ثم أرضعت بعد
ذلك آخر أو أخرى بلبن فحل آخر كذلك، لم تنشر الحرمة بين المرتضعين
وإن نشرت بين كل منهما والمرضعة وصاحب لبنه.
ويدل عليه مضافا " إلى الاجماعات المعتضدة بالشهرة المحصلة فضلا
عن المستفيضة صحيحة العجلي أو حسنته قال: " سألت أبا جعفر (ع)
إلى أن قال فسر لي ذلك أي: يحرم من الرضاع. الخ، فقال:
كل امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد امرأة أخرى من جارية أو غلام
فذلك الرضاع الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله، وكل امرأة أرضعت
من لبن فحلين كانا لها واحدا " بعد واحد من جارية أو غلام، فإن ذلك
رضاع ليس بالرضاع الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يحرم
من الرضاع ما يحرم من النسب، وإنما هو من نسب ناحية الصهر رضاع
ولا يحرم شيئا "، وليس هو سبب رضاع من ناحية لبن الفحولة
151

فيحرم " (1) وصحيحة الحلبي: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
الرجل يرضع من امرأة وهو غلام فهل يحل له أن يتزوج أختها لأمها من
الرضاعة؟ فقال: إن كان المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل
واحد، فلا يحل، وإن كان المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن
فحلين فلا بأس بذلك " (2) وموثقة عمار الساباطي: " أنه سئل الصادق
عليه السلام، عن غلام رضع من امرأة أيحل له أن يتزوج أختها لأبيها
من الرضاعة؟ قال فقال: لا، فقد رضعا جميعا " من لبن فحل واحد من
امرأة واحدة؟ قال قلت: يتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ قال فقال:
لا بأس بذلك، إن أختها التي لم ترضعه كان فحلها غير فحل التي أرضعت
الغلام، فاختلفت الفحلان، فلا بأس " (3) مؤيدا " بذلك العلة المستفادة
من المعتبرة المستفيضة في نشر الحرمة مع اتحاد الفحل، وإن تعددت
المرضعة، وهي كون البن للفحل وإن اتحاده هو المناط فيه.
خلافا " للطبرسي فذهب إلى الثاني (4) وتبعه عليه (الفيض) في
محكى مفاتيحه. وليس لهما دليل على ذلك إلا إطلاقات الرضاع، وعموم
حديث " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " الذي يجب الخروج عنها
بتلك الأدلة المعتبرة الدالة على شرطية اتحاد الفحل في ذلك، ورواية محمد
ابن عبيدة الهمداني: " قال: قال الرضا عليه السلام: ما يقول أصحابك

(1) الوسائل، كتاب النكاح باب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث رقم (1) والمراد بالعجلي: هو بريد العجلي.
(2) نفس المصدر المذكور، حديث رقم (3).
(3) نفس المصدر الآنف الذكر حديث رقم (2).
(4) أي عدم اشتراط اتحاد الفحل بل يكفي اتحاد المرضعة في
التحريم.
152

في الرضاع؟ قال قلت: كانوا يقولون: اللبن للفحل حتى جائتهم الرواية
عنك: أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فرجعوا إلى قولك،
قال فقال لي: وذلك لأن أمير المؤمنين سألني عنها البارحة فقال لي:
أشرح لي اللبن للفحل، وأنا أكره الكلام، فقال لي: كما أنت حتى
أسألك عنها: ما قلت في رجل كانت له أمهات أولاد شتى فأرضعت واحدة
منهن بلبنها غلاما " غريبا " أليس كل شئ من ولد ذلك الرجل من أمهات
الأولاد الشتى محرما " على ذلك الغلام؟ قال قلت بلى، قال فقال أبو الحسن
عليه السلام: فما بال الرضاع يحرم من قبل الفحل ولا يحرم من قبل
الأمهات وإنما حرم الله الرضاع من قبل الأمهات وإن كان لبن الفحل
أيضا " يحرم " (1) التي لا تقاوم تلك الأدلة لاعراض الأصحاب عنه،
وموافقتها لمذهب العامة، فهي محمولة على التقية حيث كان مذهبهم
الفتوى بذلك، على ما حكاه في (السرائر) حيث قال: " إن كان لأمه
من الرضاع بنت من غير أبيه من الرضاع، فهي أخته لأمه عند المخالفين
من العامة لا يجوز له أن يتزوجها. وقال أصحابنا الإمامية بأجمعهم:
يحل له تزويجها لأن الفحل غير الأب وبهذا فسروا قول الأئمة عليهم السلام
في ظاهر النصوص وألفاظها المتواترة: أن اللبن للفحل، يريدون: لبن
فحل واحد " (2) انتهى.
فإذا " ما عليه المشهور هو الأقوى، وإن كان الاحتياط لا ينبغي تركه
إذ لولا لزوم تنزيل الأخبار على الفرض النادر، بل الاندر، لأمكن حملها

(1) الوسائل، كتاب النكاح باب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث رقم (9).
(2) كتاب النكاح، باب الرضاع ومقدار ما يحرم من ذلك وتتمة
العبارة. وأما إذا كان فحلان ولبنان فلا يحرم ".
153

على اعتبار اتحاد الفحل في القدر المحرم، كما يشم ذلك من خبر (العجلي)
المشعر باعتباره في أصل النشر والتأثير. ومن التقييد بوحدة المرضعة في
الخبرين الأخيرين مع عدم اعتبار وحدتها إلا في ذلك اتفاقا ".
هذا وما أبعد كما قيل بين قول الطبرسي المكتفي في التحريم
بوحدة المرضعة مطلقا حتى بين المرتضعين، وبين قول العلامة في القواعد
من اعتبار اتحاد الفحل مطلقا "، حتى في غيرهما حيث قال: " العاشر
لا تحرم أم المرضعة من الرضاع على المرتضع ولا أختها منه، ولا عمتها
منه. ولا خالتها ولا بنات أختها، ولا بنات أخيها، وإن حرمن بالنسب
لعدم اتحاد الفحل " (1) انتهى.
وأغرب منه موافقة الشارح له في (جامع المقاصد) (2)، حيث
التفت إلى جهة الاشكال، وأجاب بما يكون ردا " على نفسه حيث قال في
شرحه: " أطبق الأصحاب على أن حرمة الرضاع لا تثبت بين مرتضعين
إلا إذا كان اللبن لفحل واحد، وقد حققنا هذا فيما تقدم وأوردنا النص

(1) كتاب النكاح، المطلب الثالث في أحكام الرضاع فروع (ي)
وهو رمز العاشر.
(2) للمحقق الكركي قدس سره - وهو نور الدين علي بن
عبد العالي الكركي العاملي الملقب بالمحقق الثاني، له كتب ومؤلفات فقهية
وغير فقهية كثيرة، وأهم كتبه الفقهية شرح قواعد العلامة في ست مجلدات
المسمى ب‍ (جامع المقاصد) طبع منها ثلاثة، وبقي الآخر مخطوطا "، توفي
يوم الغدير 18 ذي الحجة من سنة 940 ه‍ على الأصح وكانت وفاته
في النجف الأشرف ودفن فيها.
والعبارة الآتية مذكورة في مسائل الرضاع ضمن كتاب النكاح منه
وهي (12 مسألة) وهذه المسألة شرح العاشرة منها.
154

الوارد بذلك وحكينا خلاف الطبرسي، فعلى هذا لو كان لمن أرضعت
صبيا " أم من الرضاع لم تحرم تلك الأم على الصبي لأن نسبتها إليه بالجدودة
إنما يتحصل من رضاعه من مرضعته ورضاع مرضعته منها، ومعلوم أن
اللبن في الرضاعين ليس لفحل واحد، فلا تثبت الجدودة بين المرتضع
والأم المذكورة لانتفاء الشرط فينتفي التحريم، ومن هذا يعلم، أن أختها
من الرضاع وعمتها منه وخالتها منه لا يحرمن، وإن حرمن بالنسب،
لما قلناه من عدم اتحاد الفحل، ولو كان المرتضع أنثى لم يحرم عليه
أبو المرضعة من الرضاعة ولا أخوها منه ولا عمها منه، ولا خالها منه،
لمثل ما قلناه، فإن قيل: عموم قوله عليه السلام: " يحرم من الرضاع
ما يحرم من النسب " يقتضي التحريم هنا، وأيضا " فإنهم قد أطلقوا على
مرضعة المرضعة أنها أم، وعلى المرتضعة بلبن أبي المرتضع: إنها أخت،
فتكون الأولى جدة، والثانية خالة، فيندرجان في عموم التحريم للجدة
والخالة، وكذا البواقي، قلنا: الدال على اعتبار اتحاد الفحل خاص،
فلا حجة في العام حينئذ وأما الاطلاق المذكور فلا اعتبار به مع
فقد الشرط، فإنهم أطلقوا على المرتضع أنه ابن للمرضعة، وعلى المرتضعة
منها بلبن فحل آخر: إنها بنت لها أيضا "، ولم يحكموا بالأخوة المثمرة للتحريم
بين البنت والابن لعدم اتحاد الفحل " انتهى.
وأنت خبير بما فيه، لأن الأخبار الخاصة المخصصة لعموم الحديث
" يحرم من الرضاع " ونحوه التي عمدتها صحيحة الحلبي، وموثقة عمار (1)

(1) أما صحيحة الحلبي فهي " قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن
الرجل يرضع من امرأة وهو غلام أيحل له أن يتزوج أختها لأمها من
الرضاعة؟ فقال: إن كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل واحد
فلا يحل وإن كانت المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحلين
فلا بأس بذلك " وأما موثقة عمار الساباطي التي سميت بالموثقة لأجله
من حيث كونه فطحيا " فهي: " قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
غلام رضع من امرأة، أيحل له أن يتزوج أختها لأبيها من الرضاع؟
فقال: لا، فقد رضعا جميعا " من لبن فحل واحد من امرأة واحدة.
قال: فيتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ قال: فقال: لا بأس بذلك
إن أختها التي لم ترضعه كان فحلها غير فحل التي أرضعت الغلام، فاختلف
الفحلان، فلا بأس " كلاهما في الوسائل باب 6 من أبواب الرضاع المحرم.
155

قد صرحتا بتحريم أخت المرضعة على المرتضع إذا ارتضعتا من لبن فحل
واحد، ومن المعلوم أن لبن ارتضاع المرضعة مغاير للبن المرتضع منها
بالفحولة، وبالجملة: فشرط اتحاد الفحل بهذا الوجه بناء على اعتباره
لم يعتبر إلا في تحقق عنوان الأخوة بين المرتضعين دون غيره من العناوين.
ومنها (1) الكمية، وهي معتبرة عندنا، إذ لا يكفي مسمى الرضاع
في نشر الحرمة، بل ولا الرضعة الواحدة، وإن كانت كاملة بأن يمتلئ بطن
الصبي ويتضلع، خلافا " لمعظم أهل الخلاف في الأول، فاكتفوا في النشر
بمسماه، وإن قل، كأبي حنيفة وأصحابه ومالك والأوزاعي والثوري والبلخي
والليث بن سعد عن ما حكي عنهم بل عن الأخير دعوى اجماع
أهل العلم على نشر الحرمة بمثل ما يفطر به الصائم، راوين الفتوى بذلك
عن علي عليه السلام، وابن عباس وابن عمر، مستندين إلى إطلاقات أدلة
الرضاع من الكتاب والسنة.
وعن الشيخ في (التبيان) والحلي في (السرائر) حكاية ذلك عن

(1) أي: من شروط الرضاع المحرم، عطفا " على قوله الآنف الذكر:
وأما الثالث وهو ما يعتبر في الرضاع فأمور: منها أن يكون الرضاع
بلبن فحل واحد.. الخ.
156

بعض أصحابنا، ولم نعثر على القول به منا إلا ما يحكى عن المصري في
(دعائم الاسلام) (1) أنه روى عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنه قال:
" يحرم من الرضاع كبيره وقليله حتى المصة الواحدة " ثم قال: وهذا قول
بين صوابه لمن تدبره وقوله عليه السلام " لأن الله تعالى يقول: " وأمهاتكم
اللاتي أرضعنكم " والرضاع على القليل والكثير. ويوافقه مكاتبة علي بن
مهزيار لأبي الحسن عليه السلام: " يسأله عما يحرم من الرضاع؟ فكتب
إليه قليله وكثيره حرام " (2).
وللإسكافي منافي الثاني فيما حكى عنه أنه قال: " قد اختلفت
الرواية من الوجهين جميعا " في قدر الرضاع المحرم، إلا أن الذي أوجبه
الفقه عندي واحتياط المرء لنفسه: أنه كلما وقع عليه اسم رضعة وهي
ملأة بطن الصبي أما بالمص أو الوجور محرم للنكاح ".
ولعله نظرا " منه إلى ما ورد في الضعيف برجال العامة والزيدية
" عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السلام: أنه قال: الرضعة
الواحدة كالمأة رضعة لا تحل له أبدا " (3) والقوي: " الرضاع الذي

(1) هو النعمان بن محمد بن منصور قاضي مصر، كان في بدء حياته
مالكيا " ثم استبصر، ويعرف بالقاضي النعمان أبي حنيفة الشيعي تميزا " له عن
أبي حنيفة المشهور. ولد على الأصح سنة 259 ه‍ وتوفى في مصر سنة
363 ه‍، وصلى عليه المعز لدين الله، ودفن هناك له ترجمة ضافية في
تحقيقاتنا على الجزء الرابع من (رجال السيد بحر العلوم).
(2) الوسائل، كتاب النكاح باب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث (10).
(3) المصدر نفسه حديث (12).
157

ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتى يمتلئ ويتضلع " (1) والحسن
المضمر: " سألته عما يحرم من الرضاع قال إذا رضع حتى تمتلئ بطنه فإن
ذلك ينبت اللحم والدم وذلك الذي يحرم " (2).
إلا أن الجميع كما ترى، إذ المطلقات على تقدير كونها مسوقة
لبيان ذلك يجب تقييدها بما دل على اعتبارات التقديرات الآتية في
التحريم، والروايات المتقدمة مع ضعف سندها، وعدم العمل بها،
واحتمال بعضها لبيان كمية الرضعة المحتسبة بالتقدير بالعدد لا تقاوم
النصوص المستفيضة. بل المتواترة معنى على اعتبار التقدير لما لا يكون
ذلك منه كما ستعرف بل وصريح بعضها عدم الاكتفاء بالرضعة أو
الرضعتين المعتضدة بالاجماعات المحكية عن (الخلاف) (ونهج الحق)
ومواضع من التذكرة.
ثم إن الكمية المعتبرة عندنا لها تقديرات ثلاثة: بحسب الأثر
والزمان والعدد.
أما الأول، فهو ما أنبت اللحم وشد العظم. ويدل عليه مضافا "
إلى الاجماعات المستفيضة المحكية عن التذكرة والايضاح والمسالك وتلخيص
الخلاف وغيرها المعتضدة بنفي الخلاف عنه في كلام جماعة ما استفاض
عن الصادق عليه السلام: من التحديد بذلك في الصحيح: " ما يحرم
من الرضاع، إلا ما أنبت اللحم وشد العظم " (3) والصحيح: " قلت:

(1) المصدر نفسه باب 4 حديث (2) وآخره هكذا: " حتى يتضلع
ويمتلئ وينتهي بنفسه " وهو مرسل ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه السلام.
(2) المصدر نفسه باب 4 حديث (1) عن ابن أبي يعفور.
(3) باب 2 من أبواب ما يحرم من الرضاع من نكاح الوسائل
حديث (14).
158

فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال ما أنبت اللحم والدم " (1) وصحيحة
علي بن رئاب قال قلت: ما يحرم من الرضاع؟ قال ما أنبت اللحم وشد
العظم، قلت فيحرم عشر رضعات؟ قال: لا، لأنه لا ينبت اللحم
ولا يشد العظم عشر رضعات " (2) والحسن: " لا يحرم من الرضاع
إلا ما أنبت اللحم والدم " (3) ومرسلة ابن أبي عمير التي هي بحكم
الصحيحة: " والرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتى
يتضلع ويتملأ وينتهي من نفسه " (4).
والخبر: " قلت له يحرم من الرضاع الرضعة والرضعتان والثلاث؟
فقال: لا إلا ما اشتد عليه العظم وأنبت اللحم " (5).
وخبر هارون بن مسلم: " عن أبي عبد الله عليه السلام: لا يحرم
من الرضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم، فأما الرضعة والرضعتان
والثلاث حتى بلغ عشرا " إذا كن متفرقات فلا بأس " (6) وخبر عبيد
ابن زرارة: " عن أبي عبد الله عليه السلام: سألته عن الرضاع ما أدنى

(1) بهذا المضمون تقريبا " باب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث (2).
(2) باب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع من نكاح الوسائل حديث
رقم (2) الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام.
(3) المصدر نفسه باب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث (1)
وهي حسنة حماد بن عثمان عنه عليه السلام.
(4) المصدر نفسه باب 4 حديث (2).
(5) المصدر نفسه باب 2 حديث (23) الحديث عن عبد الله بن
سنان عن أبي الحسن عليه السلام.
(6) المصدر نفسه باب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث (19).
159

ما يحرم منه؟ قال: ما أنبت اللحم والدم، ثم قال: ترى واحدة ينبته؟
فقال: لا، فقلت: اثنتان أصلحك الله؟ فقال: لا، قال: فلم
أزل أعد عليه حتى بلغت عشر رضعات " (1) بناء على مخالفة الجواب
بما بعد (حتى) لما قبلها، وخبره الآخر عنه أيضا ": " في حديث إلى
أن قال: فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال ما أنبت اللحم والدم
فقلت: وما الذي ينبت اللحم والدم؟ فقال كان يقال عشر رضعات،
قلت: فهل يحرم عشر رضعات؟ فقال: دع ذا، ما يحرم من النسب
فهو يحرم من الرضاع " (2).
إلى غير ذلك من النصوص، ولا يضر اشتمال بعضها على الدم بدل
العظم، سيما بناء على إرادة الغريزي منه وهو الذي ينسب إليه الانبات
لا الذي يستحيل إليه الغذاء في الكبد قبل الانتشار منه إلى الأعضاء كما في
كشف اللثام، (3) ولا الاقتصار في بعضها على ما أنبت اللحم، سيما بناء على
الملازمة بينه وبين ما يشد العظم، أو تخصيصه بما دل على شد العظم أيضا "
إن اعتبرنا التأثير فيهما كما هو الأقوى لكونه مقتضى الجمع بين النصوص

(1) المصدر نفسه، باب 2 حديث (21).
(2) المصدر نفسه، حديث (18). وهي صحيحة عبيدة،
(3) هذه نص عبارة (كشف اللثام في شرح قواعد الأحكام)
للشيخ بهاء الدين محمد بن الحسن بن محمد الأصبهاني المشهور بالفاضل الهندي
المتوفى في أصفهان سنة 1137 ه‍ والمدفون فيها. وقد وردت في بيان
كمية الرضعة المحرمة التي تقدر بواحدة من ثلاث: إما العدد أو انبات
اللحم أو اشتداد العظم. وأول الجملة هكذا بعد استعراض روايات
الباب: " والمراد بالدم فيها أي في حسنة حماد وصحيحة عبيدة
الغريزي، وهو الذي ينسب إليه الانبات.. ".
160

ثم الظاهر منها إرادة فعلية النبت لا أهلية الانبات. فلو منع عنه
مانع لمرض ونحوه لم تنشر الحرمة مع احتماله، وهو الأحوط، كما أن
الظاهر أيضا " كونه الأصل في التقدير، والأخيران معتبران من باب الأمارة
عليه كما يعطيه صريح بعضها.
وعليه، فلو علم بتخلف الأثر عن التقديرين الآخرين، فلا نشر
للحرمة، وتنشر لو تخلفا عنه بأن حصل، ولما يكمل العدد أو الزمان
فيكونان مرجعين ما لم يحرز عدمه، خلافا " لجماعة فاعبروها أصولا وأسبابا "
متعددة للتحريم بحيث لو أنفرد كل منها عن أخويه نشرت الحرمة، ولآخرين
فاعتبروا العدد أصلا، وظاهر النصوص هو الأول.
هذا وربما يقال: إن التقدير بالأثر إنما يناسب القول بكفاية الرضعة
الواحدة، بل المسمى، لما هو مسلم عند الأطباء: من فعل الطبيعة في
الغذاء بعد وروده في المعدة، فإنه يطبخ فيها وينجذب صفوه بتوسط
العروق الماسا ويقا إلى الكبد، وتبقى فضلته في قعر المعدة، ثم ينضج
في الكبد وتطبخه طبخا " ثانيا "، فتنوعه إلى أربعة أنواع، تعلوها رغوة
صافية متلونة بالصفرة، سميت صفراء، وعاؤها المرارة، ورسوبها السوداء
متلون بالسوداء المشوب بالخضرة، وعاؤه الطحال وما بينهما، لا بمرتبة الرغوة
في الصفرة ولا بمرتبة السوداء في الرسوب، هو الدم والبلغم، فما رق منه
وتم نضجه تلون بالحمرة، وهو الدم، وما لم يتم هو البلغم ولا وعاء لهما
فينشر الدم مصاحبا " للبلغم إلى أعضاء البدن، فيتخلف بدلا عما تحلل من
البدن، فإن انقطع المدد عن الدم من الغذاء مدة بحيث لا يمكن استحالته
بدلا عما تحلل، تخلف البلغم حينئذ عن الدم بعد تلونه بلونه في التحليل إلى
ما يكون بدلا عما تحلل، حتى يأتيه المدد، فالدم الحاصل من الغذاء وإن
قل هو الناشر إلى البدن ويأخذ كل ذي قسط قسطه، ويكون بدلا لما
161

تحلل منه، فيحصل النمو به لكل جزء من أجزاء البدن. وأين ذلك
من اعتبار العدد أو الزمان بعد حصول الأثر بالرضعة الواحدة، بل
بالأقل منها.
وفيه: إن المعتبر ليس مطلق النمو، بل النمو الخاص، وهو ما زاد
على المسمى بما يدرك بالحس، ولو لأهل الخبرة موازيا " لما يحصل بالعدد
أو الزمان، إذ ليس موضوع الحكم هنا إلا كسائر موضوعات الأحكام
الشرعية المبتنية على الصدق العرفي دون المداقة الفلسفية.
ولو سلم فلا يعلم حصوله مع احتمال فساده في مرتبة من المراتب
المتقدمة بحيث يمنع عن الاستحالة إلى ما يكون بدلا عما يتحلل من البدن
وإصالة السلامة لا يثبت بها النمو الذي هو شرط التحريم.
هذا والمرجع في تحققه هو أهل الخبرة، والأقوى أنه يعتبر فيه
ما يعتبر في الشهادة من العدد والعدالة، لاعتبار العلم بذلك، أو ما يقوم
مقامه، ولا يكفي الواحد، وإن كان عدلا أفاد الظن، لعدم الدليل
على الاكتفاء به.
ولشيخنا في (الجواهر) طريق آخر للعلم بتحققه معترف بانفراده به
حيث قال فيه: " وللعلم بالأثر طريقان: أحدهما الرجوع إلى قوله أهل
الخبرة إلى أن قال وثانيهما أن يتحقق الرضاع مدة طويلة كشهرين
أو ثلاثة مثلا مع اختلال شرط الزمان والعدد، كما إذا كانت
الرضعات ناقصة واشترطنا الكمال في المدة كالعدد أو تحقق الفصل في
المدة قبل إكمال العدة، وقلنا: بعدم اشتراط التوالي في النشر بالأثر، فيحكم
بالتحريم بهذا الطريق، لأن العادة قاضية باستقلاله مثلا في إنبات
اللحم وشد العظم وإن لم يرجع فيه إلى أهل الخبرة، وهذا القسم وإن
162

لم يصرحوا به إلا أنه داخل فيما قالوه " (1) انتهى.
وحاصله بتوضيح منا حصول العلم العادي بالنمو البالغ حد
الأثر المعتبر شرعا " بالرضعات الواقعة في المدة الطويلة بعد ضم ما حصل
من اللواحق إلى السوابق، وإن كان الحاصل من كل منها بنفسه لا يجدي
في المقدار، إلا أن الحاصل من المجموع يبلغ الحد المعتبر، وإن تخلل
بين النموات الحاصلة من الرضعات نموات حاصلة من غيرها، لعدم
اعتبار التوالي في التقدير بالأثر.
وفيه: إن ذلك أنما يتم بعد احراز مقدمتين: حدوث النمو بكل
من الرضعات لينضم بعضه إلى بعض، وهو ممنوع لاحتمال فساده في مرتبة
من مراتب الطبخ، والنضج في المعدة أو في الكبد أو في النشر إلى حيث
ينتهي إلى نمو البدن منه، وقد عرفت أن أصالة الصحة لا تثبت النمو
ودوامه بعد فرض حصوله إلى أن يبلغ المجموع القدر المعتبر، وهو ممنوع
أيضا "، لأن البدن يتحلل منه ويتخلف بدله وإصالة البقاء مع أنه ضعف
في ضعف لا يثبت تحقق عنوان الشرط المعتبر في الأثر، ولعله لذا لم
يجعلوه طريقا " للعلم به، كما اعترف به هو رحمه الله.
وأما الثاني (2) فهو التقدير بالزمان، وهو رضاع يوم وليلة بحيث
يرتضع كلما يحتاج إليه الصبي حتى يرتوي، ويصدر بنفسه، تنزيلا للرضعة
والرضاع في الأخبار على المتعارف، وقوله (ع): في مرسلة ابن أبي عمير:

(1) قال قدس سره في كتاب النكاح في عرض كلامه عن
شروط الرضاع المحرم تحت عنوان الشرط الثاني الكمية: " وكيف
كان، فللعلم بالأثر طريقان.. ".
(2) أي من شروط المرتضع، فالشرط الأول كما مر آنفا " هو
المشار إليه بقوله: أن يكون سنه دون الحولين..
163

" الرضاع الذي ينبت اللحم والدم هو الذي يرضع حتى يتملى ويتضلع وينتهي
بنفسه " (1) كخبر ابن أبي يعفور: " سألته عما يحرم من الرضاع؟
قال: إذا رضع حتى يمتلئ بطنه فإن ذلك ينبت اللحم والدم وذلك الذي
يحرم " (2) بناء على اعتباره كذلك في الكشف بالعدد أو الزمان عن
الأثر، ولو تعبدا "، وإلا فلو تحقق الأثر بغيرهما كفى في التحريم.
ويدل على التحريم بهذا التقدير بعد الاجماع المستفيض نقله،
المعتضد بدعوى الاتفاق عليه من غير واحد موثقة زياد بن سوقة:
" قلت لأبي جعفر عليه السلام: هل للرضاع حد يؤخذ به؟ قال:
لا يحرم الرضاع أقل من رضاع يوم وليلة أو خمس عشرة رضعة متواليات
من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينهما رضعة امرأة غيرها،
فلو أن امرأة أرضعت غلاما " أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد
وأرضعتهما امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات، لم يحرم
نكاحهما " (3) وضعف السند مع أن الموثقة حجة مجبور بعمل
الطائفة بها فيه (4) وإن عورض في العدد بروايات أخر.
وما عن (المقنع): أنه: سئل الصادق عليه السلام: هل لذلك
حد؟ فقال: لا يحرم من الرضاع إلا رضاع يوم وليلة أو خمس عشرة

(1) الوسائل، كتاب النكاح باب 4 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث (2).
(2) المصدر نفسه حديث رقم (1).
(3) المصدر نفسه باب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع حديث
رقم (1).
(4) أي بالموثقة في التقدير بالزمان.
164

رضعة متواليات لا يفصل بينهن " (1).
والظاهر أنها رواية أخرى، وإرسالها مجبور بما عرفت.
ولا يعارضه تحديد المدة بثلاثة أيام متواليات كما عن (الفقه) المنسوب
إلى الرضا عليه السلام: " والحد الذي يحرم به الرضاع مما عليه عمل
العصابة، دون كل ما روى، فإنه مختلف: ما أنبت اللحم وقوى العظم
وهو رضاع ثلاثة أيام متواليات أو عشر رضعات متواليات محررات مرويات بلبن
الفحل " وبخمسة عشر يوما " في مرسلة الصدوق المحكية عن (هدايته):
" أنه سئل الصادق عليه السلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؟
" ولا يحرم من الرضاع الارضاع خمسة عشر يوما " ولياليهن وليس بينهن
رضاع " (2) لاعراض الأصحاب عنهما، وتطرق الموهنات عليهما مع
احتمال قطع الحديث على النسب في الثاني، فيكون الباقي فتوى منه، ولا
موافق له عليه حينئذ.
ولا التحديد بسنة في صحيح علاء بن رزين عن الصادق (ع):
" سألته عن الرضاع، فقال: لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضع من
ثدي واحد سنة " (3) وإن صح سنده إلا أنه متروك العمل به معرض
عنه، مع اشتماله على اعتبار وحدة الثدي المعلوم عدمه، إلا أن يكون
كناية عن وحدة المرضعة، فيجب طرحه، أو تصحيفه بالضم والتشديد
أو بالكسر مع الإضافة إلى ضمير الارتضاع: على أن المراد في الحولين
اللذين هما سن الرضاع والسنة فيه، فيوافق خبر الحلبي عن الصادق (ع):

(1) وأول عبارة (المقنع للصدوق) هكذا: " ولا يحرم من الرضاع
إلا ما أنبت اللحم وشد العظم " راجع: آخر كتاب النكاح منه. ومثله في
الوسائل في باب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع.
(2) المصدر نفسه من الوسائل حديث رقم (15).
(3) المصدر نفسه من الوسائل حديث رقم (13).
165

" لا يحرم من الرضاع إلا ما كان حولين كاملين " (1) وخبر عبيد بن
زرارة أو زرارة عنه (ع) أيضا ": " سألته عن الرضاع؟ فقال: لا يحرم
من الرضاع إلا ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين " (2) بناء على
إرادة حولي المرتضع المعتبر فيهما وقوع الرضاع، ولا فرق في اليوم أو
الليلة بين الطويل منهما والقصير لانجباره أبدا " بالآخر. كيف ولو اعتبر
التساوي بينهما وجب حمل الآخر على يومي الاعتدال، وما يقرب منهما
في السنة، وهو مع بعده ينافي كونه علامة. نعم في الاكتفاء
بالتلفيق لو وقع في أثناء أحدهما لحصول المعنى أو وجوب الاحتساب
من أولهما للأصل مع الاقتصار على المتيقن من الخروج عنه قولان:
اختار ثانيهما جدنا في (الرياض) تبعا " لجماعة، ولعل الأول هو
الأقوى والأقرب إلى اعتبار العدد في كونهما علامتين للأثر.
وأما الثالث: (3) وهو التقدير بالعدد، فقد اختلفت كلمات الفقهاء
بعد شذوذ القول بكفاية الرضعة الواحدة كما عرفت، مع أن الواحد ليس
من العدد، وإن تألفت منه الأعداد، على قولين:
بين قائل بالعشر ونسب ذلك إلى مشهور القدماء منهم: المفيد وابن
أبي عقيل والمرتضى وسلار وابن البراج وأبي الصلاح وابن حمزة على ما حكى
عنهم وهو المحكى عن المختلف والايضاح، واستقر به في اللمعة،
وهو أحد قولي ابن إدريس حيث قال: في أول النكاح من السرائر:
" المحرم عشر رضعات متواليات في الصحيح من المذهب، وذهب بعض

(1) المصدر نفسه باب 5 حديث (10).
(2) المصدر نفسه باب 5 حديث رقم (8).
(3) وهو الثالث من شروط المرتضع، وهي الأثر، والزمان،
والعدد: المشار إليه الآن.
166

أصحابنا إلى خمس عشرة رضعة، معتمدا " على خبر واحد، ورواية عمار بن
موسى الساباطي، وهو فطحي المذهب مخالف للحق، مع أنا قد قدمنا
أن أخبار الآحاد لا يعمل بها ولو رواها العدل، فالأول مذهب السيد
المرتضى وخيرته وشيخنا المفيد، والثاني خيرة شيخنا أبي جعفر الطوسي
والأول هو الأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب " (1) وإن قال في
أول باب الرضاع: " الذي يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم وشد العظم
على ما قدمناه، فإن علم ذلك وإلا كان الاعتبار بخمس عشرة رضعة على
الأظهر من الأقوال، وقد حكينا الخلاف فيما مضى إلا أنا اخترنا هناك
التحريم بعشر رضعات، وقويناه، والذي أفتى به وأعمل عليه الخمس
عشرة رضعة لأن العموم قد خصصه جميع أصحابنا المحصلين والأصل
الإباحة والتحريم طارئ، فالاجماع من الكل يحرم بخمس عشرة رضعة
فالتمسك بالاجماع أولى وأظهر فإن الحق أحق أن يتبع " انتهى. وهذا منه
يدل على اضطرابه في المسألة.
وبين قائل بالخمس عشرة، وهو خيرة الشيخ والعلامة في التذكرة
والارشاد والتبصرة والتلخيص، وظاهر القواعد والتحرير والشرايع، بل
اختلفت كلماتهم في الأشهر من القولين: فعن المختلف والمقتصر، وغاية المرام
ونهاية السيد: إن العشر هو قول الأكثر، وفي (الروضة) نسبته إلى
المعظم، وعن التذكرة وزبدة البيان، والمفاتيح: أن المشهور هو الخمس

(1) فإنه قال: " ومن شروط تحريم الرضاع أن يكون ما ينبت
اللحم ويشد العظم، فإن لم يحصل ذلك فيوما " وليلة أو عشر رضعات "
هكذا أول العبارة، وتكملتها: " لأن الرضاع يتناول القليل والكثير
فالاجماع حاصل على العشرة وتخصيصها، ولأن بعض أصحابنا يحرم بالقليل
من الرضاع والكثير ويتعلق بالعموم، فالأظهر ما اخترنا ".
167

عشرة: وعزاه في (كنز العرفان) إلى الأكثر، وفي (كنز الفوائد) إلى
عامة المتأخرين، وفي المسالك: إلى أكثرهم، قال: " وأكثر القدماء
على القول بالعشر " ودفع بذلك التنافي بين كلامي العلامة في المختلف
والتذكرة.
ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف الأخبار في ذلك: فمن ذهب إلى
العشر استدل بعد العمومات بروايات منها: رواية فضيل بن يسار:
" عن الباقر عليه السلام قال: لا يحرم من الرضاع إلا المخبور، قلت:
وما المخبور؟ قال أم تربي أو ضئر تستأجر أو أمة تشترى، ثم ترضع عشر
رضعات يروى الصبي وينام " (1) ومنها: الموثق عن عمر بن يزيد قال:
" سألت الصادق عليه السلام عن الغلام يرضع الرضعة والثنتين؟ فقال:
لا يحرم، فعددت عليه حتى أكملت عشر رضعات، قال إذا كانت
متفرقة فلا " (2) ومنها خبر هارون بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام:
" لا يحرم من الرضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم فأما الرضعة والرضعتان
والثلاث حتى بلغ عشرا " إذا كن متفرقات فلا بأس " (3) ومنها خبر عبيد
ابن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " سألته عن الرضاع ما أدنى
ما يحرم منه؟ قال: ما أنبت اللحم والدم ثم قال ترى واحدة
ينبته؟ فقال: لا، فقلت: اثنتان أصلحك الله فقال: لا، قال:

(1) الوسائل، كتاب النكاح باب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث رقم (11) باختلاف بسيط في بعض كلمات الحديث.
(2) المصدر الآنف ذكره حديث رقم (5)
(3) المصدر الآنف الذكر حديثان: رقم 9 و 19 منه، وفي كل منهما
هارون عن مسعدة بن زياد العبدي.
168

فلم أزل أعد عليه حتى بلغت عشر رضعات " (1) وعنها خبره الآخر
أيضا " في حديث إلى أن قال: " فما الذي يحرم من الرضاع؟ فقال:
ما أنبت اللحم والدم، فقلت: وما الذي ينبت اللحم والدم؟ فقال:
كان يقال عشر رضعات، قلت: فهل يحرم عشر رضعات؟ فقال:
دع ذا، ما يحرم من النسب فهو يحرم من الرضاع " (2).
ومن ذهب إلى الخمس عشرة استدل بروايات: منها موثقة ابن سوقة
المتقدمة. ومنها موثقة عبيد بن زرارة " عن أبي عبد الله عليه السلام:
قال سمعته يقول: عشر رضعات لا يحرمن شيئا " (3) ونحوه خبر ابن
بكير عنه أيضا " (4) ومنها: صحيحة علي بن رئاب عنه أيضا ": " قال:
قلت: ما يحرم من الرضاع؟ قال: ما أنبت اللحم وشد العظم، قلت:
فيحرم عشر رضعات؟ قال: لا، لأنه لا ينبت اللحم ولا يشد العظم
عشر رضعات " (5) ومنها مرسلة (المقنع) المتقدمة في التقدير بالزمان.
والأحسن في الجمع بين أخبار القولين مع معارضتها ببعضها الدال
على العشر بالمفهوم الذي لا يقام المنطوق في المعارضة والحصر في رواية
فضيل المعلوم عدم اختصاص التحريم بما فيها مع اشتمال سنده على
محمد بن سنان المجروح عند الأكثر، والتعليل بعدم الانبات بالعشرة
في صحيحة ابن رئاب، الموجب لتقديم الخبر المعلل على غيره، مع
أقوائية سنده.

(1) المصدر الآنف الذكر حديث رقم (21).
(2) المصدر الآنف الذكر حديث رقم (18).
(3) المصدر الآنف الذكر حديث رقم (3).
(4) المصدر الآنف الذكر حديث رقم (4).
(5) المصدر الآنف الذكر حديث رقم (2).
169

حمل أخبار العشر على التقية، كما يشعر به، بل يومي إليه نسبته إلى
قائل في قوله: (كان يقال) في خبر عبيد بن زرارة، سيما قوله فيه:
" دع ذا " والجواب بما لا يطابق سؤاله، وليس إلا الاعراض عن بيان
عدم النشر بالعشر، بذكر جملة أخرى على التقية، فإذا بطل النشر
بالعشر انحصر العدد المحرم بخمس عشرة، إذ لا قائل بالتحريم فيما بينهما
من العدد، والخمسة عشر مع دلالة النص عليه اجماعي، بل لا خلاف
في التحريم به.
ثم إنه يعتبر في العدد: التوالي، بمعنى عدم تخلل رضعة من امرأة
أخرى، اجماعا "، وللموثقة المتقدمة المصرحة به، وبتفسيره، وبذلك فلا يقدح
تخلل غيرها من المأكول وغيره للأصل، ولتفسيره في النص بما عرفت.
وفي اختصاص القدم بتخلل الكاملة منها، لوحدة المراد منها ومن الرضعة
المعتبرة في العدد بحسب السياق بعد تنزيلها على التعارف، أو يعمها
والناقصة أيضا "، فيقدح تخلل مسماها لنفي الطبيعة الوجب لنفي جميع
أفرادها، ولعله الأقوى.
وجهان: بل قولان. وهو معتبر أيضا " في التقدير بالزمان، لكن
بمعنى عدم تخلل مطلق المأكول والمشروب، رضاعا " كان أو غيره في المدة
المضروبة حدا " لا للتقيد به في الموثقة، وإلا، لا اختص القدح بما فسر به
مع ظهور تخصيص التقييد به بالجملة الأخيرة، بل لأن ذلك مقتضى
انطباق الرضاع في المدة المزبورة.
وتقييده بامرأة واحدة من لبن فحل واحد:
توضيحه: أن القدر المحرم أيا " ما كان من التقديرات الثلاث يعتبر
فيه بالنص والاجماع اتحاد الفحل والمرضعة معا "، فلو تلفق العدد
مثلا من مرضعتين، بطل الاحتساب، وإن اتحد الفحل، كما لو
170

ارتضع ما دون العدد من مرضعة، وارتضع المكمل كذلك من غيرها،
لم تنشر الحرمة، وإن انحد الفحل، لعدم صيرورته بذلك أبا "، ولا
المرضعات أمهات لانتفاء الشرط الموجب لانتفاء المشروط، بخلاف ما لو
ارتضع من واحدة تمام القدر من لبن فحل، ومن أخرى دونه من
ذلك اللبن أيضا "، تحققت الأبوة للفحل، والأمومة للأولى، لوجود شرط
التحريم، ولم يتحقق الأمومة للثانية لفقد الشرط. وإن حرمت على
المرتضع لو كان ذكرا " لا لكونها أمه، بل لكونها منكوحة أبيه.
وبالجملة: رضاع القدر المحرم لا بد أن يكون من مرضعة واحدة.
وحيث يتحقق ذلك في العدد، وإن تخلل المأكول فيه ما لم يتخلل الرضاع
في أثنائه، احتيج إلى قيد التوالي بهذا المعنى فيه، ولا يتحقق ذلك في
الزمان مع تخلل الغذاء مطلقا "، لعدم انطباق الرضاع معه على تمام المدة، الذي
معناه أن يرتضع كل ما يحتاج إليه من لبن امرأة واحدة، فإن لم يكن بغير اللبن
لم يكن رضاعا " وإن كان منه بارضاع أجنبية، لم يكن من امرأة واحدة
فقوله: " رضاع يوم وليلة من امرأة واحدة " يعطي منافاة التخلل مطلقا " ولذا
قال جدي (رحمه الله) في (الرياض): " وإن لا يفصل بين الرضعات
برضاع غير المرضعة والمأكول والمشروب في الزمانية خاصة دون العددية
فيمنع فيها الفصل برضاع غير المرضعة خاصة " (1) انتهى.
وما أبعد ما بينه وبين القول بعد اعتبار التوالي أصلا، حتى الرضعة
والرضعتين في التقدير بالمدة، لصدق رضاع يوم وليلة عرفا " مع التخلل
المذكور، فضلا عن تخلل غيره.

(1) أوائل كتاب النكاح في شروط الرضعات العددية والزمانية،
شرح قول المحقق " ويعتبر في الرضعات قيود ثلاثة ".
171

وفيه مساواة اعتبار الزمان هنا للزمان في ضرب المسافة، ويوم
التراوح مع فرضه حدا " للرضاع الواقع فيه، المحمول بيان كميته بعد امتناع
رضاع مستمر في تمام المدة على التغذي به كلما احتاج إليه، وإلا لزم
تأخير البيان عن وقت الحاجة، بعد أن كان الظرف حدا " لوقوع المظروف
فيه، وهو واضح.
ومنها: أي من الأمور المعتبرة في الرضاع: أن يكون الارتضاع
من الثدي على المشهور شهرة عظيمة كاد أن يكون من المتفق عليه، عدا
الإسكافي والشيخ في المحكى عن موضع من (مبسوطه)، دون المواضع الأخر
فاكتفيا بالوجور، ولعله (للمرسل) عن الصادق عليه السلام: " وجور
الصبي اللبن بمنزلة الرضاع (1) الموهون مع إرساله باعراض
الأصحاب عنه، واحتمال إرادة التغذي في المنزلة و (لدعوى) شمول
الرضاع له، فيدخل تحت اطلاقات أدلة التحريم بالرضاع، الممنوع
صدقها عليه بحكم العرف، وتبادر الغير منه، (ولحصول) الانبات
الموجب للتحريم به، فيحكم بوجود المعلول بعد وجود علته، وهو مسلم
إن كانت العلة مطلق النشوء لا النشوء الخاص الحاصل من الرضاع المتبادر
منه غيره، مع كونها من العلة المستنبطة التي لا تعويل عليها، لاحتمال أن
يكون للرضاع مدخلية في التحريم بالأثر كما للحمل أو الولادة مدخلية في
التأثير، بل ولا يجدي الوجور من الثدي إلى حلق الصبي، ما لم يكن
بالتقامه الثدي وامتصاصه، بل ولا بد أن يكون على النحو المتعارف، بل
قد يشكل لو التقم وامتص من الثدي لا من موضع معتاد، لو فرض ثقب فيه
فضلا عن غير الثدي، لخروجه عن اطلاقات أدلة الرضاع بعد تنزيله على

(1) الوسائل، كتاب النكاح باب 7 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث رقم (3).
172

المتعارف، فضلا عما لو أدخل اللبن في جوفه من ثقب ونحوه أو أكله
جبنا " ونحوه، لعدم صدق الرضاع على ذلك كله.
ومنها: أن يكون الرضاع بلبن غير ممزوج بغيره بحيث يخرجه عن
عن اسمه، ولو في فيه بسكر ونحوه، بل ولو بلعابه المخرج له عن
إطلاق اسم اللبن عليه.
المبحث السادس: هو أنه لا فرق في التحريم بالرضاع بين سبقه
على النكاح أو لحوقه له، فكما يبطل به النكاح ابتداء، يبطل به استدامة
من غير خلاف أجده فيه، بل الاجماع بقسميه عليه.
مضافا " إلى اطلاقات أدلة الرضاع الشاملة للتحريم به حدوثا " ودواما "
وخصوص الخبرين المتقدمين: صحيحة الحلبي أو حسنته عن أبي عبد الله
عليه السلام: " قال لو أن رجلا تزوج جارية رضيعة فأرضعتها امرأته
فسد نكاحه " والآخر بهذا الاسناد عنه أيضا ": " في رجل تزوج جارية
صغيرة فأرضعتها امرأته أو أم ولده؟ قال: تحرم عليه "، ولأن العنوان
المتحقق به مثل النسب لا يمكن فرض جواز النكاح معه وتحققه مما يترتب
على وقوعه قهرا " من دون تخلف فيه، وترتب الحكم على العنوان الحاصل به
ضروري لا يدانيه شك ولا شبهة من غير فرق بين كون التحريم بالرضاع
أو بالمصاهرة بعد تنزيل الرضاع فيها منزلة النسب كما تقدم.
ويتفرع عليه فروع:
الأول: لو كانت له زوجة صغيرة فأرضعتها من يفسد نكاحها
بالرضاع كأمه وجدته وأخته وزوجة الأب والأخ إذا كان بلبنهما، فإنه
يفسد نكاحها حينئذ لصيرورتها أختا " أو عمة أو خالة على الأولين،
وبنت أخت على الثالث وأختا " أو بنت أخ على الأخيرين، فيبطل به
لاحقا " كما يبطل به سابقا "، لما عرفت من تضافر النصوص والفتاوى بذلك
173

وفي سقوط مهرها وعدمه أو التشطير وجوه، بل لعلها أقوال:
وتفصيل المسألة هو أن المرتضعة: إن اختص السبب المحرم بها بأن
انفردت به، كما لو سعت بنفسها إلى ثدي المرضعة فامتصت منه بدون
شعورها كما لو كانت نائمة أو بحكمها، فالوجه سقوط مهرها، وعللوه بأن
الفسخ جاء من قبلها، فكان كالردة قبل الدخول (1).
ويحتمل التشطير، لأنه فسخ قبل الدخول فأشبه بالطلاق المنصف
للمهر، والموت على القول به.

(1) الردة بالكسر الاسم من الارتداد عن الدين. وأصحاب
الردة على ما نقل منهم: من ارتد عن الاسلام إلى الجاهلية، ومنهم
من أنكروا فرض الزكاة بعد النبي صلى الله عليه وآله والتفصيل في محله والمرتد
عن الاسلام إلى الكفر قسمان: إما عن فطرة الاسلام، فيقتل في الحال
وتعتد زوجته حين الارتداد عدة الوفاة وتقسم تركته بين ورثته. وإن
تأخر قتله فتاب لا تسقط هذه الأحكام بتوبته لكنها مفيدة لطهارة بدنه
وصحة عباداته وتملكه الجديد.
وأما المرتد عن غير فطرة، بل عن ملة بأن كان كافرا " فأسلم ثم
ارتد، فيستتاب عدة مرات. فإن تاب، وإلا قتل في الرابعة وتعتد زوجته
عدة الطلاق، فإن تاب في العدة رجعت الزوجية، وإلا بانت منه،
ولا تقسم أمواله إلا بعد القتل. عن رسالة الأحكام لسيدنا الوالد
قدس سره وفي الحديث عن أهل البيت عليهم السلام: " كل مسلم
بين مسلمين ارتد عن الاسلام وجحد محمدا صلى الله عليه وآله بنبوته، وكذبه، فإن
دمه مباح لكل من سمع ذلك منه، وامرأته بائنة منه فلا تقربه ويقسم
ماله على ورثته وتعتد امرأته عدة المتوفى عنها زوجها وعلى الإمام أن يقتله
إن أتي به إليه ولا يستتيبه " عن كتب الأخبار.
174

ويحتمل عدم سقوط شئ من المهر بالعقد، فيستصحب حتى
يثبت السقوط، ولا دليل عليه بعد تنزيل فعلها لعدم القصد والشعور
منزلة العدم والتشطير إنما ثبت في الطلاق لدليله، فلا يقاس به غيره.
ويضعف بعد مدخلية القصد في حكم الوضع، لأن غايته عدم
الإثم، لا عدم السقوط، فإذا " الأقوى: السقوط كما عليه الفتوى.
وإن اختص السبب بالمرضعة، بأن انفردت بارضاعها من دون
ضرورة، فلا يسقط شئ من مهرها، لأن الفسخ جاء من قبل المرضعة
لا من قبلها. والتشطير قد عرفت ما فيه. وفي رجوع الزوج على المرضعة
بذلك وعدمه؟ وجهان: مبنيان كما قيل على ضمان منفعة البضع
لأنها مما تقابل بالمال في كثير من الموارد، وعدمه لأنها غير متمولة وإن
قوبلت أحيانا " بالمال. ولعل الأظهر، بل الأقوى: رجوع الزوج عليها
حتى على القول بعدم ضمان منفعة البضع، غير أنه على القول به يرجع
عليها بمهر المثل لكونه قيمة المنفعة المفوتة عليه، ويرجع عليها بما يغرم
لها، لو قلنا بعدمه للضر الوارد عليه من قبلها.
(ودعوى) ثبوت غرامة المهر إنما هو بالعقد لا بالفسخ الطارئ كما
في (المسالك) فلا ضرر من قبلها (ضعيفة) لأن الاقدام منه بالعقد
إنما هو على المهر المعوض بالمنفعة أو الانتفاع، وهو ليس بضرر، وإنما
الضرر دفعه بلا عوض، الموجب لتضييعه عليه، وهو مسبب عن فعلها.
وعليه فيرجع بما يغرم من المسمى، زاد على مهر المثل أو لا، ويحتمل
الرجوع بمهر المثل فيما لو زاد المسمى فإن الزيادة ضرر أقدم عليه بالعقد
وإنما الفائت عليه بفعلها ما يساوي مهر المثل أو الأقل منه من المسمى.
لا يقال: إن دفع الزيادة إنما كان بإزاء المعوض من البضع، ولو
لخصوصية دعته إليه، والفرض أنه لم يسلم له ذلك.
175

لأنا نقول: إن الخصوصية داعية إلى الاقدام على الضرر وتحمله
لا أن دفع الزائد معها ليس بضرر كي يقال: دفعه بدونه ضرر جاء
من قبلها.
وإن كان إرضاعها لضرورة كالخوف عليها من التلف، فقد قيل
بعدم ضمانها هنا، وإن قلنا بضمانها، لو قصدت به الافساد، لأن الفعل
جائز لها، بل واجب عليها، فكان كما لو حفر بئرا " في ملكه، فإنه
لا يضمن المتردي فيها، مضافا " إلى كونها محسنة: " وما على المحسنين من
سبيل " (1).
وفيه: وضوح الفرق بين المقام المستلزم لصدق الاتلاف والضرر
على الزوج، وبين حفر البثر غير المستلزم للتردي فيها، والاحسان لو سلم
ايجابه الجبران في المقام فغايته الرجوع على الصغيرة في مالها بما تغرم
للزوج، لا عدم ضمانها له بما أضرته به أو أتلفته عليه، ولو اشتركا
في السبب، فستعرف الكلام فيه إن شاء الله.
الثاني: لو كان له زوجتان: كبيرة، وصغيرة فأرضعت الكبيرة
الصغيرة حرمت الكبيرة مؤبدا "، لأنها صارت أم زوجته، وأم الزوجة
محرمة أبدا "، والصغيرة كذلك، إن كان الرضاع بلبنه أو لم يكن ولكن دخل
بها، لأنها على الأول بنته، وعلى الثاني ربيبته التي دخل بأمها، وكل
منهما لا ينفك التحريم عنه، وإن لم يدخل بها انفسخ به نكاح الصغيرة
أيضا "، لامتناع نكاح الأم وبنتها، وإبطال أحدهما بالخصوص ترجيح بلا

(1) فقرة من آية (91) من سورة التوبة، وتمام الآية هكذا:
" ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون
حرج إذا نصحوا لله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم "
أي ما عليهم سبيل بالحجة والعقوبة والمؤاخذة بحكم احسانهم وتفضلهم.
176

مرجح، فكان كما لو عقد عليهما دفعة، من غير فرق في البطلان بين
الحدوث والدوام، وجاز له تجديد العقد عليها، لأنها حينئذ ربيبة لم يدخل
بأمها، ومثلها يجوز العقد عليها.
ويدل عليه ما تقدم: من النص (1) وخبر علي بن مهزيار: " عن
أبي جعفر عليه السلام، قال قيل له: إن رجلا تزوج بجارية صغيرة
فأرضعتها امرأته، ثم أرضعتها امرأته الأخرى، فقال ابن شبرمة: حرمت
عليه الجارية وامرأتاه، فقال أبو جعفر عليه السلام: أخطأ ابن شبرمة،
تحرم عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولا، فأما الأخيرة فإنها لا تحرم
عليه، لأنها أرضعتها وهي بنته " (2).
وهذه النصوص كافية في إثبات المدعى: من ابطال النكاح السابق
بالرضاع اللاحق.
وضعف سند الأخير (3) واشتماله على ما يمكن المناقشة فيه على التخطئة
في تحريم الثانية لكونها مرضعة لبنته دون زوجته لبينونتها بارضاع الأولى
بتقريب: أنه إنما يتم بناء على اعتبار فعلية الزوجة في تحريم أمها على
الزوج، وهو ممنوع، بل يكفي في التحريم كونها أم امرأته ولو كانت
زوجة بمنع اعتبار التلبس بالمبدء في قوله تعالى: " وأمهات نسائكم " كما

(1) إشارة إلى صحيحة الحلبي: " لو أن رجلا تزوج جارية رضيعة
فأرضعتها امرأته فسد نكاحه " وخبره الآخر: " رجل تزوج جارية صغيرة
فأرضعتها امرأته أو أم ولده قال تحرم عليه ".
(2) الوسائل، كتاب النكاح باب 14 من أبواب ما يحرم بالرضاع
حديث (1) والخبر في غير مورد المسألة، ولكنه شامل لها بالانطباق.
(3) وهو خبر ابن مهزيار، فإن في طريقه صالح بن أبي حماد وهو
ضعيف لدى علماء الرجال.
177

ستعرف الكلام فيه في الفرع الآتي.
لا يضر بعد الجبر، والعمل بمضمونه في إثبات المدعى لتصريحه
بانفساخ نكاح الصغيرة، والأولى من المرضعتين.
وبالجملة: لا إشكال في حكم المسألة بعد وضوح مدركها: من
تطابق النصوص والفتاوى عليه.
فلا يلتفت إلى ما عسى أن يقال على تحريم الكبيرة مؤبدا " لصيرورتها
بالارضاع أم الزوجة: بأنه بمجرد صدق الأمية والبنتية يتحقق انفساخ
النكاح، فيستحيل صدق أمية الزوجة فعلا، ضرورة استلزام صدق
الأمية فسخ الزوجية، لأنه أول آنات صدق البنتية.
أو يقال على انفساخ نكاح الصغيرة أيضا "، مع عدم الدخول بأمها المرضعة
بعدم الموجب لانفساخ نكاحها، مع اقتضاء الأصل بقاءه واختصاص الأم
بالانفساخ بناء على تعميم الزوجة لمن كانت زوجة (1) لتحقق سبب التحريم
فيها وابقاء الربيبة على عقدها الأول من غير حاجة إلى تجديد العقد عليها
لصحة نكاح الربيبة، مع عدم الدخول بأمها، وإن عقد عليها أولا،
ثم انفسخ عقدها، ولا يقاس المقام بالعقد على الأم وبنتها دفعة لعدم التأثير
في كل من العقدين الموجب لعدم تحقق الزوجية لكل منهما.
إذ ذلك كله مع أنه اجتهاد في مقابل النص (2) يدفع الأول منهما:

(1) وإن لم تكن بالفعل زوجة، بل هي ربيبة غير مدخول بأمها،
فتكون الأم على هذا مشمولة لقوله تعالى: في تعداد المحرمات
من النساء: " وأمهات نسائكم " فتحرم: وذلك على اختيار أن المشتق
حقيقة في الأعم مما تلبس بالمبدأ بالفعل وفيما انقضى عنه المبدء وتلبس
بالفعل بغيره.
(2) تلك النصوص المشار إليها آنفا " من خبر ابن مهزيار وغيره.
178

أولا ": أنه يكفي في التحريم المؤبد صدق الأمية، ولو على من كانت زوجة
على المشهور شهرة عظيمة، وثانيا " إن مرتبة انفساخ الزوجية متأخرة طبعا "
عن مرتبة صدق الأمية والبنتية، لأنها معلولة، والمعلول متأخر عن العلة
بالذات، وإن اقترنا بالزمان، وهذا القدر من التأخر ولو طبعا "
كاف في تحقق سبب التحريم. والثاني منهما: بأن المانع هو امتناع اتحاد
زمان زوجية الأم وبنتها، وهو كما يمنع عن تأثير العقدين ابتداء كذلك
يمنع عن دوام أثرهما، وبعد الانفساخ لا مانع عن تجديد العقد على البنت
ما لم يدخل بأمها.
هذا: وقد تقدم الكلام في ما يتعلق بثبوت مهر الصغيرة حينئذ
وسقوطه مطلقا "، أو على التفصيل المتقدم، وأما الكبيرة، فيثبت مهرها
بعد الدخول مطلقا " وقبله أيضا "، إن لم يكن الفسخ من قبلها، وإلا فيسقط
كله مطلقا "، ولو كان لضرورة، لأن الفسخ كان من قبلها، والتشطير
خلاف الأصل. ومع الضرورة فالأقوى فيه السقوط أيضا "، بعد أن كان
الفسخ من قبلها. نعم لا يبعد رجوعها على الصغيرة في مالها بما تضررت
بالاحسان عليها.
ولو استند التحريم إلى فعليهما، بأن كان السبب المحرم مشتركا " بينهما
كأن أرضعتها الكبيرة مختارة عشر رضعات، ثم انفردت الصغيرة بخمسة
أخر من غير شعور الكبيرة بناء على التحريم بالخمس عشرة.
يحتمل الحوالة في التحريم على الأخير، فتكون العشرة حينئذ شرطا "
في تحقق التحريم بالأخير، وعليه فحكم الكبيرة حكم النائمة في إرضاعاتها
العشر التي تثبت مهرها، لعدم كون الفسخ من قبلها، فتكون حكم الصغيرة
كما لو انفردت في تمام العدد في سقوط مهرها.
ويحتمل التقسيط، ولعله الأقوى، لأن للسبب مركب من آحاد العدد
179

فكل منها جزء منه، فيسقط من الكبيرة ثلثا مهرها بفعلها، ويثبت لها
الثلث، إن لم نقل بالتشطير للفرقة قبل الدخول، ويسقط الباقي أيضا "
بالفرقة، إن قلنا به، لأنه أقل من النصف الساقط بها، ويسقط من
الصغيرة بفعلها الثلث ويثبت لها الثلثان على الزوج، إن لم نقل بالتشطير
وإن قلنا به فيثبت لها عليه السدس، لسقوط الثلث بفعلها والنصف بالفرقة
فيسلم السدس لها من المهر.
ويحتمل العكس في ترتيب التقسيط على التشطير: بتقديم السقوط
بالفرقة على السقوط بالفعل، وحينئذ فيسقط من مهر الصغيرة النصف
بالفرقة ثم الثلث بفعلها، فيثبت لها على الزوج ثلث المهر، ويسقط من
الكبيرة حينئذ النصف بالفرقة ثم الثلثان بفعلها فيبقى لها السدس من
مهرها، وفي رجوع الزوج بما يغرمه لكل منهما على الأخرى ما تقدم.
هذا والذي يظهر من تتبع كلماتهم أن المدار في سقوط المهر وعدمه
على كون الفسخ من قبلها وعدمه، إلا أن شيخنا في الجواهر علل السقوط
بوجه، إن تم كان مقتضاه السقوط مطلقا "، وإن لم يكن الفسخ من قبلها
حيث قال في الفرع الأول: " ولو انفردت المرضعة بالارتضاع مثل أن
سعت إليها فامتصت ثديها من غير شعور المرضعة سقط مهرها لبطلان
العقد الذي باعتبار استدامته يثبت استدامة استحقاق المهر، بل كل عقد
يتعقبه الفسخ والانفساخ من طرف أو طرفين يبطل تسبيبه، ومنه الإقالة
والخيار في البيع المقتضيين رد الثمن إلى المشتري، والمبيع إلى البايع،
بل ذلك روح البطلان الذي هو كالصحة، المستلزم حصولها في طرف
ثبوتها في الطرف الآخر، ومن هنا لم يذكر أحد في المقام وجها " لثبوت
المهر " (1) انتهى.

(1) هذه الجملة مجموعة من متن الشرائع وشرح الجواهر، ذكرها
في أحكام الرضاع ومسألة العشرة من كتاب النكاح في شرح قول
المحقق: " الرابعة الرضاع المحرم بمنع من النكاح سابقا "، ويبطله لاحقا " "
180

قلت: ما ذكره شيخنا وجها " لذلك وجيه إن عد عقد النكاح من
عقود المعاوضات حقيقة، وليس كذلك لأنه عقد شرع لحدوث علقة
الارتباط بين الزوجين من حيث انتفاع كل منهما بالآخر بالانتفاع الخاص
من وطئ ونحوه، وإن شئت قلت: حقيقته تسليط كل منهما صاحبه
على نفسه من حيث الانتفاع الخاص به، غير أن تسليط الزوجة للزوج
على نفسها كذلك أوجب انتفاء سلطنتها التي كانت لها على نفسها قبله،
واختصت السلطنة على الانتفاع الخاص بالزوج، بخلاف الزوج فإنه باق
على ما كان عليه من سلطنة التسليط على نفسه ولذلك صارت الزوجة مملوكا "
بضعها للزوج بهذا المعنى، لأن الانتفاع بها مختص به، ووقع التعبير عن
ذلك بالهبة في قوله عز من قائل: " وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن
يستنكحها " (1) وهذا التسليط منها مرة يكون مجانا " فتكون مفوضة وأخرى يعطى
بإزائه شئ يكون المبذول لها كالنحلة فتكون، حينئذ ممهورة، وليس الغرض
المقصود من العقد إلا التناكح والتناسل غالبا " دون تملك المهر، ولذا لا يبطل
العقد ببطلانه أو الاخلال به، ولا يعد ركنا " من أركانه، بخلاف المعاوضة
التي ليست معناها إلا تبديل مال بمال، الموجب لرجوع كل بدل إلى
صاحبه ببطلان التبديل وانتفاء البدلية، ولذا كان كل من العوضين ركنا "
من العقد.

(1) آية (50 من سورة الأحزاب) وأول الآية هكذا: " يا أيها
النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللآتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما
أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك
اللآتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت.. ".
181

وإن أبيت إلا كونه معاوضة، فالمعوض نفس التسليط الحاصل بالعقد
لطرو الانفساخ في الأثناء غير أنه لو كان من قبلها كان ذلك منها رفعا "
لتسليطها ورجوعها عن فعلها عرفا "، وليس كذلك لو لم يكن من قبلها.
نعم لو كان عوضا " عن السلطنة الحاصلة بالتسليط أمكن دعوى الرجوع به
مطلقا "، لاستلزام بطلان المعوض بطلان العوض.
وبعبارة أخرى: المهر بعد تسليمه يكون عوضا " عن التسليط
الذي هو فعلها، ولذا كان الايجاب منها، وبعد تحققه بالعقد وفرض صحته
فالاستدامة لأثره، وهو التسلط والسلطنة، وبطلان الاستدامة بالفسخ
الطارئ لا من قبلها يشبه تلف المعوض بعد التسليم، ولا كذلك لو كان
من قبلها، فإنه رجوع منها عرفا " عما فعلته، وابطال لما بذلته، فلا تستحق
المهر حينئذ، ولذا تراهم فصلوا في سقوط المهر وعدمه: بين كون الفسخ
من قبلها، وعدمه مع كون بطلان استدامة العقد المستلزم لرجوع كل من
المعوضين إلى صاحبه بمرأى منهم ومنظر. فافهم.
الثالث: لو كانت له زوجة كبيرة فأرضعت له زوجتين صغيرتين
حرمن عليه أجمع، إن كان الرضاع بلبنه وكذا إن لم يكن، ولكن كان
قد دخل بالكبيرة، لصيرورة الكبيرة بذلك أم زوجته، والصغيرتين بنتيه
على الأول وبنتي منكوحته على الثاني مطلقا "، من غير فرق بين ما لو
ارتضعتا دفعة أو على التعاقب، لأن الثانية حينئذ أيضا "، ربيبته التي قد
دخل بأمها. وإن لم يكن قد دخل بها وكان اللبن من غيره حرمت الكبيرة
مؤبدا "، لكونها أم زوجته، وانفسخ نكاح الصغيرتين، وإن ارتضعتا دفعة
لعدم اجتماع نكاح الأم وبنتها في وقت، وجاز تجدد العقد على كل منهما
لأنهما ربيبتان لم يدخل بأمهما، وإن كان على التعاقب حرمت الكبيرة
وانفسخ نكاح الأولى دون الثانية، لأنها صارت ربيبة بعد انفساخ زوجته
182

المرضعة، ولم يدخل بأمها، فلا موجب لانفساخ نكاحها، بخلاف الأولى
لاتحاد نكاح الأم وبنتها في وقت واحد وأما الكلام في مهورهن،
فيعلم مما تقدم.
الرابع: لو كان له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة، فأرضعتها إحدى
الكبيرتين الرضاع المحرم، ثم أرضعتها الأخرى كذلك حرمت الصغيرة
مؤبدا "، إن كان بلبنه، أو لم يكن ولكن دخل بأحديهما، لأنها، إما
بنته أو ربيبته التي دخل بأمها، والأولى من المرضعتين مؤبدا " مطلقا "،
وإن لم يدخل بها لأنها أم زوجته. وتحرم الثانية أيضا " على المشهور شهرة
عظيمة، لصدق " وأمهات نسائكم " عليها الشاملة لمن هي أم زوجة فعلا
أو صارت أم من كانت زوجة، لأن الإضافة تكفي في صدقها أدنى الملابسة
مع منع جريان " نسائكم " المضاف مجرى المشتق أولا " ولو سلم جريانه
مجراه، فنمنع اعتبار التلبس في صدق المشتق ثانيا " ولو سلم فنمنع
اعتباره في المقام ثالثا " وإن اعتبرناه في غيره لعدم اعتباره في " نسائكم "
في آية تحريم الربائب بالنص والاجماع، (والتفكيك) بينهما: بدعوى
عدم استلزام صرف ظهور أحدهما بقرينة صرف ظهور ما لم تقم عليه قرينة
(ركيك) تأباه وحدة السياق، مضافا " إلى ما يظهر من موارد التحريم
بالمصاهرة كون السبب مجرد حدوث علقتي النسب والزوجية وما بحكمها
في الخارج، ولا دليل على شرطية اتحادهما في الزمان. بل يمكن أن يستدل
عليه في المقام بحديث " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " لأن أم
الزوجة في النسب محرمة، فأمها من الرضاع كذلك من غير فرق بين سبق
الأمومة ولحوقها، غير أن الأمومة من النسب لا يمكن فرض تحقق عنوانها
بعد الزوجية لتأخر التكوين. بخلاف عنوان الأمومة من الرضاع، ولذا
تحرم الربيبة لو تأخر حدوث عنوان البنتية والأمية عن انفساخ الزوجية.
183

وقيل كما عن الشيخ في (النهاية) وابن الجنيد: لا تحرم الثانية
لأنها أرضعتها، وهي بنته. نعم هي أم من كانت زوجة، فلا تحرم:
أما بناء على اعتبار التلبس بالمبدء في صدق المشتق وقد عرفت ما فيه،
أو لخبر علي بن مهزيار المتقدم الصريح في ذلك (1).
وفيه مع ضعف سنده بصالح بن أبي حماد أنه مرسل، لأنه
في (الكافي) رواه عن أبي جعفر عليه السلام (2) وأبو جعفر عند
الاطلاق يراد به الباقر عليه السلام مؤيدا " بكون المخطئ ابن شبرمة
الذي أدركه عليه السلام. ولو أريد به الجواد عليه السلام، لأن
ابن مهزيار أدركه، لم يعلم أنه أخذ منه، لظهور كلمة (رواه) في غيره
فالارسال محقق على التقديرين. ولعله لذا أعرض المشهور عن هذه الفقرة
من مضمونه. فالأقوى: ما عليه المشهور: من تحريم الثانية أيضا ".
ومما ذكرنا يظهر مواقع التأمل في كلام شيخنا في (الجواهر) حيث
اختار عدم تحريم الثانية، قائلا بعد الاستدلال بخبر ابن مهزيار: ما لفظه:

(1) أي في عدم الحرمة وذلك بصراحة ذيله القائل: " فأما الأخيرة
فإنها لا تحرم عليه لأنها أرضعته وهي بنته " والتعليل يعطي اشتراط فعلية
التلبس في المشتق.
(2) وكذلك في الوسائل: كتاب النكاح باب 14 من أبواب ما يحرم
بالرضاع ينقله هكذا عن الكليني: " محمد بن يعقوب عن علي بن محمد عن
صالح بن أبي حماد عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر عليه السلام قال:
" قيل له: إن رجلا تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته، ثم أرضعتها
امرأة له أخرى؟ فقال ابن شبرمة: حرمت عليه الجارية وامرأتاه، فقال
أبو جعفر عليه السلام: أخطأ ابن شبرمة: تحرم عليه الجارية وامرأته
التي أرضعتها أولا، وأما الأخيرة فلم تحرم عليه كأنها أرضعت ابنته ".
184

" ولا يلزم منه عدم حرمة ربيبته التي هي بنت من كانت زوجته المدخول
بها، ضرورة الفرق بين مصداق قوله تعالى: " وربائبكم اللآتي في
حجوركم من نسائكم اللآتي دخلتم بهن " وبين قوله: " أمهات نسائكم "
فإن الأولى صادقة قطعا " علي بنت من كانت زوجة، بخلاف الثانية، الظاهرة
في اعتبار اجتماع الأمية والزوجية، خصوصا " مع اشتراط بقاء المبدأ في
صدق المشتق إن شابهه، على أنه قد عرفت انحصار المحرم في الرضاع بما
يحرم من النسب، وليس في النسب من انحصر صدقها في أم من كانت
زوجة، إذ أم المطلقة مثلا ليس حرمتها لذلك بل لتحقق الصدق قبل
الطلاق وهو سبب التحريم مؤبدا " فليس حرمتها لأنها أم من كانت زوجته
بل لأنها كانت أم زوجة فعلا.. بخلاف الربيبة، فإن في النسب بنت من
كانت زوجة مندرجة تحت الآية الشريفة، فيحرم مثلها في الرضاع " (1).
ولعل الذي دعاه إلى الفرق حتى قطع بدخول بنت من كانت زوجة
في آية تحريم الربائب كلمة: " دخلتم بهن " فيها.
وأنت خبير بأن الدخول لا مدخلية له في صدق " نسائكم " على من
كانت زوجة، إن اعتبرنا التلبس في صدق المشتق حقيقة.
الخامس: لو كانت له زوجة صغيرة، فأرضعتها أمته الموطوءة،
حرمت الموطوءة مؤبدا "، لأنها أم زوجته، والصغيرة أيضا " كذلك مطلقا "
لأنها: إما بنته أو ربيبته التي دخل بأمها إلا أنه لا يرجع هنا على الموطوءة
بمهر الصغيرة، لو ثبت لها عليه مهر، وإن قلنا بالرجوع على الكبيرة بمهر

(1) هذه الجملة شرح لقول المحقق في أخريات المسألة الرابعة من
أحكام الرضاع " ولو كان له زوجتان وزوجة رضيعة فأرضعتها إحدى
الزوجتين أولا، ثم أرضعتها الأخرى حرمت المرضعة الأولى والصغيرة دون
الثانية، لأنها أرضعتها وهي بنته ".
185

الصغيرة في الفروع المتقدمة إن كانت الأمة مملوكة له، لأن السيد لا يثبت له على
مملوكته مال، إلا إذا كانت مكاتبة مطلقا "، ولو كانت مشروطة، لصيرورتها
بحيث يمكن له الاستحقاق عليها وإن كانت موطوءة بالعقد أو بالتحليل
فيستتبع به بعد عتقها.
خلافا " لشيخنا في (الجواهر) حيث مال إلى الاستتباع مطلقا " ولو
كانت مملوكته، عملا بقاعدة الضمان في اتلاف المال (1).
وهو ضعيف، للفرق الواضح بين مملوكه ومملوك غيره، لأن الأول
لا يمكن الاستحقاق له عليه، والثاني لا يمكن الاستيفاء منه، لمزاحمة حق
مالكه المقدم على حقه، فيستتبع بعد العتق، لعدم المزاحمة حينئذ. ولو
قيل بتأخر الاستحقاق في الأول إلى العتق، لزم تخلف المعلول عن علته.
السادس: لو كان لاثنين زوجتان: كبيرة وصغيرة، فطلق كل منهما
زوجته، وتزوج بالأخرى، ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة الرضاع المحرم
حرمت الكبيرة عليهما مطلقا "، وإن لم يدخلا بها، لصيرورتها أم زوجة
بالنسبة إلى أحدهما، وأم من كانت زوجته بالنسبة إلى الآخر، بناء على
الأقوى: من التحريم بذلك، وحرمت الصغيرة عليهما، إن دخلا بها،
على من دخل، إن اختص الدخول بأحدهما، لصيرورتها ربيبته التي دخل
بأمها، كما أنه لو فرض اللبن لأحدهما صارت بنتا ".
بقي هنا مسائل: الأولى إذا قال: هذه أختي من الرضاع أو بنتي أو

(1) قال في شرح قول المحقق في أحكام الرضاع من كتاب النكاح:
" الخامسة: لو كانت له أمة يطأها، فأرضعت زوجته الصغيرة حرمتا جميعا "
عليه، ويثبت مهر الصغيرة، ولا يرجع به علي الأمة:.. إلا أن
الانصاف عدم خلو ذلك عن التأمل، إن لم يكن إجماعا "، ضرورة اشتراك
ضمانه مال الغير، ويتبع به بعد العتق إن أعتق.. ".
186

أمي مع إمكان ذلك بأن لا يكذبه الحس بحسب سنهما على وجه لا يمكن
ارتضاعهما من لبن واحد، أو ارتضاعها من لبنه أو ارتضاعه منها إذ لا
أثر لقوله حينئذ فلا يخلو: إما أن يكون الاقرار منه قبل العقد عليها
أو بعده وعلى التقديرين: فإما أن تصدقه، أو تكذبه، أولا بأن لا يعلم
الحال. ولو كان بعد العقد: فإما أن يكون قبل الدخول بها أو بعده.
وعلى التقديرين، فإما أن يكون قد سمى لها مهرا " أولا، وعلى التسمية:
فأما أن يكون المسمى بقدر مهر المثل أو أكثر منه أو أقل.
فنقول: أما إذا كان قبل العقد، حكم بتحريمها عليه ظاهرا " مطلقا "
صدقته أو لا، فلا يجوز له التزويج بها، وإن أكذب نفسه، لعموم
نفوذ: " إقرار العقلاء على أنفسهم ". نعم لو أظهر لدعواه تأويلا محتملا
بأن قال: " إني اعتمدت في الاقرار على قول من أخبرني، ثم تبين لي
أن مثل ذلك لا يثبت به الرضاع، وأمكن في حقه ذلك ففي (المسالك)
احتمل القبول لامكانه، إلا أنه قال بعده: " وأطلق الأصحاب عدم قبوله
مطلقا "، لعموم: اقرار العقلاء على أنفسهم جائز وعليه العمل " (1) انتهى
وقوى في (الجواهر) قبول قوله في تكذيب نفسه بابداء التأويل المحتمل
في حقه مع تصديقها له، مناقشا " في شمول الخبر لهذه الصورة حيث
قال بعد نقل كلام (المسالك) عن الأصحاب: " وفيه أن المتيقن من
الخبر المزبور الزام المقر بما أقر به لمن أقر لمن مع المخالفة له، لا أن
المراد به إلزامه بذلك، وإن وافقه المقر له على الكذب في الاقرار إلى
أن قال بعد نقل كلام العلامة وشارحيه واستغرابه منهم عدم احتمالهم
القبول في هذه الصورة ونقل ما عن أبي حنيفة القبول مطلقا "، وأنه على

(1) راجع ذلك في شرح قول المحقق في المسألة السابعة من أحكام
الرضاع: " إذا قال: هذه أختي من الرضاع ".
187

اطلاقه غير جيد: ضرورة عدم قبوله مع المخاصمة ما لفظه: " نعم
ما قلناه في صورة التصديق على الكذب في الاقرار لا يبعد قبوله في المقام
وفي غيره من المقامات من البيع والملكية والوقفية والزوجية ونحو ذلك،
بل إن لم يقم اجماع، أمكن دعوى القبول في حال عدم العلم من الخصم
فضلا عن صورة الموافقة له على الاقرار الصوري، والمسألة محتاجة إلى
تأمل تام في غير المقام من أفرادها " (1) وقال قبل ذلك في صدر المسألة:
" فإن أكذب نفسه ووافقته المرأة على ذلك، احتمل قويا " جواز النكاح
لانحصار الحق فيهما ".
قلت: تنقيح هذه المسألة: هو أن يقال: الرجوع عن الاقرار مرة
يكون بانكاره نفس الاقرار الذي هو فعل من أفعاله، وأخرى بانكاره
لما أقر به من البيع أو الوقف ونحوهما، ومرة ثالثة بانكاره لصحة الاقرار
بدعوى صورية إقراره أو كونه مكرها " عليه، ونحو ذلك من الدعاوي
المستلزم ثبوتها بطلان الاقرار.
لا كلام في عدم قبول إنكاره في الصورتين الأوليين بمعنى عدم
الاصغاء إليه، لكونه إنكارا " بعد اقرار.
وأما الصورة الأخيرة فالأقوى قبول قوله بمعنى الاصغاء إليه كسائر
الدعاوى المسموعة، لكن على موازين القضاء. فيطالب بالبينة، وعلى
المنكر اليمين حيث يتوجه عليه، ولذا يثبت لو صدقه المنكر، لانحصار
الحق فيهما كما ذكره في (الجواهر) ولعله على غير هذه الصورة ينزل
إطلاق كلام الأصحاب، لو سلم، وحينئذ فيبطل نفوذ الاقرار وأثره بالنسبة
إليهما، دون غيرهما، لعدم ثبوت الزوجية في الواقع، حتى يجوز لأم الزوجة

(1) راجع العبارة بطولها في شرح المسألة السابعة من كلام المحقق
كما أشرنا إليه.
188

مثلا الكشف عن معاصمها عنده " بخلاف ما لو أقام على دعواه بينة
أو حكم بثبوتها الحاكم، فإنه يبطل بذلك الاقرار من أصله في الواقع.
وإن كان بعد العقد، وكان قبل الدخول، حكم عليه بالتحريم،
لنفوذ الاقرار في حقه، فإن صدقته فلا شئ لها من المهر، لبطلان العقد
وكذلك أن لم تصدقه، ولكن أقام على ذلك بينة أو حلف اليمين المردودة
لو ادعى عليها العلم بذلك فأنكرت مع ردها اليمين، وإلا فلا ينفذ الاقرار
في حقها، فلها المهر كملا "، لثبوته بالعقد، أو النصف على القول بالتشطير
الفسخ قبل الدخول، سيما وقد جاء من قبله.
وإن كان بعد الدخول، وصدقته على ذلك. فالعقد باطل: فإن
اعترفت بالعلم قبله، فلا شئ لها عليه، لأنها بغي بالدخول، وإن ادعت
تجدد العلم لها بعده قبل قولها. وحينئذ: فيحتمل ثبوت المسمى لها، بناء
على أن العقد هو سبب ثبوت المهر، لأنه مناط الشبهة، فكان كالصحيح
لتضمين البضع بما وقع عليه التراضي في العقد.
ويحتمل ولعله الأقوى ثبوت مهر المثل مطلقا "، وإن زاد على المسمى
لبطلان العقد الموجب لبطلان ما تضمنه من المهر ومنع إلحاق الشبهة بالصحيح
إلا في عدم الإثم وبعض الأحكام فيضمن لها قيمة المثل، جريا " على قاعدة
ضمان تلف الأموال وما بحكمها، أو الرجوع إلى المسمى، إن ساواه، أو
كان أقل منه، لقدومها على الرضا عن البضع بالأقل، فلا يلزمه الزائد.
ويضعف بأن مهر المثل والمجعول شرعا " في قيمته، ورضاها بدون
وجه شرعي لا عبرة به.
وإن كذبته في إقراره، لم ينفذ في حقها إقراره، ولم يجز لها
التزويج من غيره، وجاز لها مطالبته بحقوقها، وإن لم يجز له مطالبتها
بحقوقه، لمنافاتها إقراره النافذ في حقه، إلا أن يقيم بينة على ما أقر به
189

فيثبت بها بطلان النكاح الموجب لبطلان حقوقها على إلا المهر، فيثبت لها
بالدخول حسبما تقدم من مهر المثل أو المسمى مطلقا " أو على التفصيل
ولو أكذب نفسه بابداء التأويل المحتمل في حقه في صورتي: ما بعد
العقد قبل الدخول، وبعده، وصدقته في التكذيب، فالكلام فيه ما تقدم
من تصديقها لتكذيب نفسه في الصورة المتقدمة قبل العقد.
هذا كله في الممهورة، ومنه يعلم حكم ما لو كانت مفوضة في جميع
الصورة المتقدمة، والله العالم.
الثانية: لا تقبل الشهادة على الرضاع وإن وصفه بالمحرم مطلقة،
بل لا بد أن تكون مفصلة بأن يشهد على الارتضاع في الحولين من الثدي
خمس عشرة رضعة أو عشر رضعات متواليات من امرأة واحدة من لبن
فحل واحد بلبن الحمل أو الولادة عن نكاح صحيح أو بحكمه، من غير
خلاف أجده ممن تعرض لهذا الفرع.
وعللوه بوقوع الاختلاف الكثير بين الفقهاء فيما يعتبر في التحريم به
من الشروط: فقد يعتبر عند الحاكم في التحريم بالرضاع مالا يعتبر فيه
عند الشاهد: أما اجتهادا " أو تقليدا " منه لغيره.
وأشكل عليه باستلزام ذلك اعتبار ذكر التفصيل في غيره من الشهادات
أيضا "، لسريان العلة في غيرها من أغلب موارد الشهادة، قال في (المسالك)
بعد التعليل بذلك: " ومثل هذا، ما لو شهد الشاهدان بنجاسة الماء مع
الاختلاف الواقع بين الفقهاء فيما تحصل به نجاسة " (1) وفي (الجواهر)

(1) في شرح المسألة الثانية منه للمحقق من أحكام الرضاع من
كتاب النكاح وهي قوله: " لا تقبل الشهادة بالرضاع إلا مفصلة. "
قال الشهيد الثاني قدس سره في كلام له قبل هذه الجملة المذكورة في المتن،
واعلم أن ما ذكر من اعتبار التفصيل يتم مع اختلاف مذهب الشاهد
لمذهب الحاكم في الشرائط واحتمال الاختلاف. أما مع العلم باتفاقهما
على الشرائط كما لو كان الشاهد مقلدا " للحاكم فيها موثوقا " بمراعاة مذهبه فالوجه
عدم الافتقار إلى التفصيل وإن كان أحوط، خروجا " من خلاف الأصحاب
حيث أطلقوا اشتراطه، ومثل هذا.. ".
190

بعد ذكر عدم قبولها إلا مفصلة، والتعليل بذلك، وحكاية ما تقدم من
(المسالك) قال: " وصريحه كظاهر غيره سراية المسألة في كل ما كان
المشهود به ذا شرائط مختلف فيها أو أسباب كذلك، ومنه حينئذ الملك
والبيع والوقف والزوجية والطلاق ونحو ذلك مما يقطع الفقيه بملاحظة
أفرادها بعدم اعتبار التفصيل في الشهادة بها، ومنه ينقدح الاشكال
فيما نحن فيه إلى أن قال بعد المبالغة في الاشكال على الفرق بين
المقام وغيره: " فالمتجه طرد الحكم في الجميع نحو ما سمعته من (المسالك)
إذ احتمال الخصوصية في الرضاع لم نتحققها " (1) وقال بعض الفضلاء (2)
في تعليقه على (الروضة) في الرد على التعليل لذلك بالاختلاف في
شرائطه: أنه لو تم لزم وجوب التفصيل في جميع الشهادات حتى في
الملك والبيع ونحو ذلك لوقوع الاختلاف في بعض أسباب الملك، وبعض
شروط البيع مع قبول الشهادة في جميع ذلك مجملة غير مفصلة، والظاهر
أن اعتبارهم التفصيل في الشهادة على الرضاع مستند إلى النص لدلالة بعض
الظواهر عليه كما بيناه (في رسالة الرضاع).

(1) تجد هذه العبارة بتفصيلها في شرح المسألة الثامنة المذكورة
للمحقق من مسائل الرضاع في النكاح.
(3) القائل: أقا محمد على الهزار جريبي المازندراني (منه).
ولد 1188 وتوفي سنة 1245 ه‍ من مؤلفاته الكثيرة: تعليقته المفصلة على
(روضة الشهيد الثاني) من الطهارة إلى الديات (منا)
191

والعجب منه أنه في (رسالته الرضاعية) استند في اعتبار التفصيل
إلى وقوع السؤال من الإمام عن عدد الرضعات ممن أخبر بوقوع رضاع
بين اثنين.
وأنت خبير بأن عدم قبول قول من أخبر بالرضاع لا يستلزم عدم
قبول من أخبر بوقوع الرضاع المحرم وأطلق من غير ذلك التفصيل،
لأن الأول أعم من الثاني، فلا يكون شهادة به. وبعبارة أخرى: مرة
تكون الشهادة على وقوع رضاع، وأخرى على الرضاع المحرم، ومرة
ثالثة على وقوعه مفصلا. لا كلام في قبل الأخير، كما أنه لا كلام في
عدم كفاية الأول في الحكم بالتحريم. وإنما الكلام في الصورة الثانية
التي هي غير مورد الأخبار التي استند إليها في اعتبار التفصيل في خصوص
الشهادة على الرضاع. ولذا لم نجد منهم من استند في المقام إلى النص
وإنما استندوا إلى العلة المتقدمة.
هذا وتمام الكلام في المسألة ينتهي في مقامين:
الأول: في طريق الشهادة، والثاني في المشهود به.
أما الأول فنقول: إذا شهد الشاهد شهادة مطلقة، فمقتضى القاعدة
عدم قبولها، لأن الشهادة في الحقيقة إخبار عن ثبوت النسبة بحسب علمه
واعتقاده، إذ لا طريق له إليه إلا العلم، وتصديق خبره بما دل على
تصديق خبر العادل، وليس معناه إلا تصديقه في علمه به وكونه معتقده
ومعلوما " له، وأين ذلك من ثبوت المخبر به في الواقع مع وقوع الخطأ فيه
كثيرا "، إلا إذا تعلق بالمحسوسات أو بما كان منتهيا " إلى المبادي الحسية (1)

(1) فالمحسوسات واضحة الأمثلة، وأما المنتهية إليها من الحدسيات
كاثبات الملكات النفسية مثل العدالة والعفاف ونحوهما من طريق المبادي
المحسوسة المتمثلة بالأعمال الخارجية.
192

اللهم إلا أن يكون مفاد دليل " صدق العادل " تصديقه في المخبر به
وكونه مطابقا " للواقع، وهو إنما يتم حيث يكون المخبر به من الأمور الحسية
أو المنتهية إليها، لأن احتمال الكذب منفي في حق العادل بما دل على
تصديقه، واحتمال الخطأ منفي بالأصل لندرة وقوعه في المحسوسات ولغوية
احتماله فيها عند العقلاء، ولذا خص الأكثر اعتبار الشهادة فيما كان
المشهود به من الأمور الحسية أو منتهيا " إليها.
وأما الثاني، فالمشهود به: مرة يكون له واقع لا يختلف باختلاف
الآراء والأنظار، كالملكية والزوجية ونحوهما وإنما الاختلاف في بعض
أسبابه، وأخرى يكون مما لا واقع له متفقا " عليه، بل تحققه واقعا يختلف
باختلاف الآراء كبعض الأسباب الشرعية، فإن البيع بالفارسية مثلا
عند بعض سبب، وعند آخر غير سبب.
فإن كان المشهود به من القسم الأول، قبلت الشهادة به مطلقة،
لأنه شئ متحد له واقع غير متخلف فيه، يمكن استناده في تحققه إلى
الحس، فلا يكلف بالتفصيل ذكر السبب.
ولا كذلك لو كان من القسم الثاني لعدم ثبوت واقع إلا بحسب معتقده
فلا بد من ذكره مفصلا في شهادته به حتى يعلم موافقته فيه للحاكم وعدمه
وليس معنى تصديقه في هذه الصورة إلا تصديق خبره دون المخبر به.
ومن الثاني الفسق، والعدالة بناء على أنها عبارة عن حسن الظاهر (1)

(1) العدالة في اللغة معناها الاستقامة والاعتدال في كل شئ
وعدم الجور والانحراف يمينا " وشمالا. وفي مصطلح الفقهاء حيث أخذوها
شرطا " في كثير من المسائل والأحكام كمسألة التقليد وإمامة الجماعة والطلاق
والشهادات اختلف في حقيقتها: أنها الملكة النفسانية الباعثة على اتيان
الواجبات وترك المعاصي، أو أنها فعل الواجبات وترك المحرمات عن
ملكة، أو أنها الاستقامة العملية والسلوك في جادة الشرع باتيان الواجبات
وترك المحرمات، أو أنها: الاسلام وعدم ظهور الفسق في الخارج، أو
أنها، حسن الظاهر فحسب، ولكل من هذه الآراء قائلون وأدلة وصلات
بأخبار أهل البيت عليهم السلام: ولو أمعنا التأمل والتحقيق في هذه الآراء
الخمسة لتمخضت عن رأيين متعارضين فقط، فإن الأولين ربما يجتمعان
في مفهوم واحد، فيخضع أحدهما للآخر وتكون الحصيلة: أن العدالة
نتيجة عمل خارجي وانطواء نفسي، والآخران، الظاهر أنهما من الطرق
الكاشفة عن حقيقة العدالة، لاهي نفسها، كما أن للعدالة طرقا " أخرى
تكشف عنها غير حسن الظاهر وعدم ظهور الفسق، وهي العلم، والبينة
والوثوق والاطمئنان، والشياع والاستفاضة على ما قيل.
ثم اختلفوا في المعاصي التي تهدم العدالة، هل تنقسم إلى صغيرة
وكبيرة أم كل الذنوب كبائر؟ وإنما الاختلاف بينهما نسبي.
ثم اختلف القائلون بالتقسيم في المائز بينهما فالمشهور: إن الكبيرة
ما توعد عليها النار في الكتاب، وقيل: محض التوعد، سواء من الكتاب
أم من السنة. وقيل: الكبيرة هي ما رتب لها في الشريعة حد معين.
وقيل: الكبيرة: هي المعلومة الحرمة بدليل قاطع كاجماع أو كتاب أو
سنة، وقيل: غير ذلك في تعريف الكبيرة، وبالمعاكسة تعرف الصغيرة
لأن الكبر والصغر من المعاني المتضائفة التي يعرف أحدها بمعاكسة الآخر
ثم اختلفوا أيضا " بعد الاتفاق بقدح الكبيرة في العدالة واستمرارها
هل تقدح الصغائر فيها أيضا "، وكذا منافيات المروة وهي الصفات الموجبة
للخسة والدناءة على اختلافها؟ إلى غير ذلك من مسائل الخلاف بين
الفقهاء في موضوع العدالة وطرقها وقادحيتها وغير ذلك يراجع في تفصيل
ذلك: موضوع العدالة في أبواب الاجتهاد وإمامة الجماعة والشهادات
من الموسوعات الفقهية وكتب الأخبار.
193

لتوقفهما على معرفة المعاصي حتى يكون مرتكب واحد منهما فاسقا "، ومتجنب
الكل ظاهرا " عادلا، وكم من فعل يكون معصية عند بعض، ولا يكون معصية
عند آخر، فلعل الشاهد استند في تفسيقه إلى صدور فعل منه يراه معصية
بالاجتهاد أو التقليد، ولا يراه الحاكم معصية، وفي تعديله بحسن الظاهر
عنده لتجنبه ظاهرا " عن جملة أمور لا يرى غيرها معصية حتى يكون ارتكابه
194

معصية، ويراه الحاكم معصية نعم على القول بأنها هي الملكة، تقبل
الشهادة بها مطلقة، لأن لها واقعية كالملكية والزوجية.
ومنه أيضا ": سببية الرضاع للتحريم، فكم من رضاع يراه بعض سببا "
للتحريم شرعا "، وينكره الآخر، ولا يرى سببيته له شرعا "، فلا تكفي
شهادته الرضاع المحرم إلا مفصلة بذكر سبب التحريم من الكمية والكيفية.
هذا مع أن ما كان من القسم الثاني يؤول في الحقيقة إلى الفتوى
فإن ترتب المترتب على ما يراه سببا " فتوى منه بذلك واجتهاد في سببية السبب
وهو غير مقبول ولا متبع. ولا كذلك ما كان من القسم الأول، فإنه له
واقع يشهد بثبوته وتحققه في الواقع، ولا تؤول الشهادة عليه إلى الفتوى
والاجتهاد.
نعم لو أن ما كان من القسم الثاني يجري فيه الأصل الموضوعي كما
لو كان له فردان: صحيح وفاسد لم يسئل عن تفصيله، للحمل على الصحيح
بأصالة الصحة، غير أن الكلام فيه في أن اجزاء الأصل: هل هو وظيفة
الشاهد أم وظيفة الحاكم. والظاهر هو الأول لأن الحاكم وظيفته الحكم بالبينة
لا بالبينة والأصل.
نعم ليس على الشاهد بيان الاستناد إليه في شهادته، بل قد يقال:
بافساده الشهادة بذكر المستند في بعض الموارد، قال الشهيد في (القواعد):
195

" ذكر الشاهد السبب في الشهادة: قد يكون سببا " كما في صورة الترجيح
وقد يكون فعله وتركه سواء كما في صور كثيرة، وقيل قد يكون ذكر
السبب قادحا " في الشهادة كما لو قال: اعتقد أن هذا ملكا للاستصحاب
وإن كان في الحقيقة مستندا " إلى الاستصحاب. وكذا لو صرح بأن هذا
ملكه، علمته بالاستفاضة، وهذا ضعيف، لأن الشرع جعل الاستفاضة
من أسباب التحمل، فكيف يضر ذكرها، وإنما يضر ذكر الاستصحاب إن
قلنا به لأنه يؤذن بشكه في البقاء. ولو أهمل ذكره وأتى بصورة الجزم
زال الوهم. ولو قيل بعدم الضرر أيضا "، كان قويا ". وكذا الكلام لو
قال: هو ملكه، لأني رأيت يده عليه أو رأيته يتصرف فيه بغير مانع
وغاية ما يقال: إن الشاهد ليس له وظيفة ترتب المسببات على الأسباب
إنما يشهد بما يعلم، وإنما ذلك وظيفة الحكام. قلنا: إذا كان الترتيب
شرعيا " وحكاه الشاهد، فقد حكي صورة الواقعة، فكيف ترد الشهادة بما
هو مستندها في الحقيقة (1) انتهى.
وبالجملة: لو كان في المقام أصل موضوعي يمكن استناده كأصالة
الصحة، والاستصحاب ونحوهما لا مانع من الاستناد إليه، لأن الأصل
حينئذ يكون بالنسبة إليه كالرؤية بعد فرض اعتباره.
لا يقال: أن الأصل لا يوجب العلم بالمشهود به، ولا ريب أن العبرة
بالعلم لا غير، كما يستفاد من الأخبار المتواترة.
لأنا نقول: معنى اعتبار الأمارة ترتب جميع الآثار على ما قامت
عليه، ومن المعلوم أن جواز الشهادة أيضا " من الآثار، فلا بأس بأدائها

(1) توجد هذه العبارة في قواعد الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي
الدمشقي المتوفى سنة 786 ه‍ ص 170 طبع إيران حجري بعنوان: قاعدة
في ذكر السبب في الشهادة.
196

بصورة الجزم من غير حاجة إلى ذكر المستند.
فتحصل مما ذكرنا أن المشهود به. إن كان من الأمور الواقعية
جازت الشهادة عليها مطلقة ولم يفتقر قبولها إلى ذكر التفصيل، كالشهادة
على الملكية أو الزوجية ونحوهما مما قامت السيرة القطعية المتلقاة خلفا " عن
سلف إلى زمن المعصوم عليه السلام على قبولها مطلقة في أمثال ذلك من
غير استفصال منه على أسبابها.
وإن كان من غيرها، فإن كان هناك أصل موضوعي فكذلك، وإلا
فلا بد من التفصيل، فيقبل منه ما كان معتقده اجتهادا " أو تقليدا موافقا "
لمعتقد الحاكم، ولا يقبل؟ ما كان مخالفا " له.
نعم غير بعيد استثناء صورة ما لو علم الحاكم موافقته لمذهبه وكان
واثقا " به، فيقبلها عنده، مطلقة غير منفصلة، كما استثناها بعض، إلا أنه
خلاف إطلاقهم المنع عن قبولها مطلقة، فالرضاع مما لا تقبل الشهادة فيه
مطلقة. وكذا الشهادة على النجاسة، فإنها أيضا " مما اختلفت فيها الأقوال
فإن العصير مثلا طاهر عند واحد، ونجس عند آخر (1).
وكذا الكر، فإنه أيضا " ليس من الأمور الواقعية، بل يختلف باختلاف
آراء المجتهدين: فرب مقدار من الماء هو كر عند بعض، وليس بكر
عند آخر (2) فالشهادة في أمثال ذلك لا تقبل مطلقة.

(1) العصير العنبي إذا غلا واشتد بنفسه أو بالواسطة ولم يذهب ثلثاه اختلفوا
في نجاسته بعد اتفاقهم على حرمته إذا أسكر كالمسكرات عموما " فالمشهور
ألحقوا النجاسة بالحرمة، وغيره فرقوا بينهما حتى في الخمر وعامة المسكرات
فقالوا بالحرمة لا النجاسة عن الموسوعات الفقهية في أحكام النجاسات.
(2) اختلف الفقهاء في مقدار الكر الوارد في لسان الأخبار، الذي
به يعصم الماء المطلق من الانفعال بالنجاسة: على أقوال شتى، فقيل
هو ما بلغ مكسر مساحته (27 شبرا ")، وقيل (26 شبرا ")، وقيل
ثلاثة وأربعين شبرا " إلا ثمن الشبر، وقيل غير ذلك عن الموسوعات الفقهية
وكتب الأخبار في أوائل كتاب الطهارة
197

وبعد الوقوف على ما ذكرنا يظهر لك: أن العلة في اعتبار التفصيل
في الشهادة على الرضاع ليست سارية في جميع موارد الشهادات كما تقدم
من الجواهر ولا مخصوصة بخصوص الرضاع حتى يقع الاشكال في وجه
الخصوصية مع وجودها في غيره أيضا "، بل تختلف بحسب المقامات في
موارد الشهادات حسبما ذكرنا.
هذا: ولا يتوهم الفرق على ما قلنا بين ما لو شهد على الرضاع على
أحد العناوين السبعة المسببة عنه، فيقال بالقبول مطلقة في الثاني كالشهادة
على الأمومة والبنتية، فإنها كالشهادة على الملكية والزوجية، ضرورة عدم
الفرق بينهما بعد أن كانت العناوين المحرمة مسببة عن الأسباب المختلفة
في تحققها، ولذا عطف غير واحد الصورة الثانية على الأولى في تعداد
الأمثلة كالعلامة في بعض كتبه، والكركي، وكاشف اللثام وشيخنا في
(الجواهر)، بل منهم من اقتصر في المثال على الصورة الثانية كالداماد
في (الرسالة الرضاعية) حيث قال فيها: " مسألة: لا تسمع الشهادة
في الرضاع مطلقة كما يسمع الاقرار به مطلقا "، بل لا بد من التفصيل،
فلو شهد الشاهدان بأن هذا ابن هذه من الرضاع أو أخوها مثلا لم
تسمع حتى يقولا: نشهد أنها أرضعته من لبن الولادة عشر رضعات تامات
إلى أن قال صرح بذلك الأصحاب، وذهبت إليه العامة، لأن
النصاب المتعلق به التحريم مختلف فيه كمية وكيفية: فبعضهم حرم بالقليل
وبعضهم بالايجاز (1) إلى غير ذلك من الاختلافات، فلا بد من ذكر الكمية

(1) أوجره ايجارا ": الشئ في فيه: جعله فيه
198

والكيفية، وسائر ما اختلف في اعتباره إلى أن قال بعد ذلك:
ضابطة إعلمن: أن هذا الحكم ليس مختصا " بباب الرضاع، بل أنه أصل
ضابط في مطلق الشهادة فيما اختلف فيه آراء المجتهدين " (1) انتهى.
هذا كله في الشهادة على الرضاع مطلقة. ولو شهد على الاقرار به
مطلقا "، قبلت الشهادة في ثبوت الاقرار، وإن كان مطلقا "، لنفوذه في
حق المقر مطلقا " مفصلا كان أو مطلقا " و (دعوى) أن المقرر بما ظن محرما "
ما ليس منه (يدفعها) أنه أمر آخر لا تعلق له بالشهادة على الاقرار الذي
مع ثبوته لا يجب على الحاكم استفصاله، لعموم مؤاخذة العقلاء باقرارهم
وهو واضح، لا شك فيه ولا شبهة تعتريه.
الثالثة: لو ملك أحد عموديه من الرضاع انعتق عليه كالنسب على
الأظهر الأشهر، بل المشهور، ولا سيما بين المتأخرين، بل عن بعض دعوى
الاجماع عليه، للمعتبرة المستفيضة الدالة على الانعتاق فيه، مع تضمن
بعضها للاستدلال عليه بحديث " يحرم من الرضاع " (2) فلا يعارضها

(1) توجد هذه العبارة في أخريات الرسالة المسماة بضوابط الرضاع
ص 117 طبع إيران حجري والسيد الداماد هو محمد باقر بن محمد الحسيني
الاسترآبادي المعروف بالسيد الداماد لأن والده كان صهرا " للمحقق الثاني
الكركي، توفي سنة 1041 ه‍ ودفن في النجف الأشرف.
(2) الروايات المعتبرة بهذا المضمون كثيرة، تجدها في عدة أبواب
وكتب من كتب الأخبار، ككتاب العتق، وباب الرضاع من النكاح
وفي كتاب الضمان، وفي كتاب التجارة باب 4 من أبواب بيع الحيوان
من كتاب الوسائل، روايات كثيرة نذكر منها ما يلي: " محمد بن الحسن باسناده
عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن
أبي بصير وأبي العباس وعبيد، كلهم عن أبي عبد الله عليه السلام:
قال: إذا ملك الرجل والديه أو أخته أو عمته أو خالته أو بنت أخيه
أو بنت أخته وذكر أهل هذه الآية من النساء عتقوا جميعا " ويملك
عمه وابن أخيه وابن أخته والخال. ولا يملك أمه من الرضاعة ولا أخته ولا
عمته ولا خالته، إذا ملكن عتقن، وقال: ما يحرم من النسب فإنه يحرم من
الرضاع. وقال يملك الذكور ما خلا والدا " أو ولدا "، ولا يملك من النساء
ذات رحم محرم قلت: يجري في الرضاع مثل ذلك؟ قال: نعم يجري
في الرضاع مثل ذلك ".
ولقد عقد في الوسائل كتاب العتق منه بابا " خاصا " بانعتاق العمودين
من الرضاعة على ولديهما، يحتوي على زهاء عشرة أحاديث متقاربة المضامين.
199

ما دل على العدم من الأخبار المرجوحة بالنسبة إلى تلك المعتبرة، التي هي
أكثر منها عددا " وأوضح منها سندا وأرجح منها بالعمل وبمخالفة العامة (1)

(1) قال: السيد الداماد في (رسالته الرضاعية ص 87) طبع إيران
حجري: " مسألة: هل الرضاع شقيق النسب في كونه سببا " في العتق،
فينطبق على المالك منه ما ينعتق عليه من النسب؟ ذهب أكثر علمائنا
وكثير من فقهاء العامة إلى أنه كذلك إلى قوله: وخالف فيه الحسن
ابن أبي عقيل من قبل وقال: لا بأس بملك الأم والأخت من الرضاعة
وبيعهن، وإنما يحرم منهن ما يحرم من النسب في وجه النكاح فقط،
فوافقه الشيخ المفيد وتلميذه سلار بن عبد العزيز، وارتضاه وانتصره محمد
ابن إدريس وسبطه المدقق يحيى بن سعيد رحمهما الله وأما أبو علي بن
الجنيد فكلامه يعطي جواز الملك على كراهة وعدم تسويغ البيع إلا لضرورة
ويستمر في تأييده لكلام المشهور بالكتاب والسنة ثم يقول: احتج
النافون للانعتاق.. بموثقة الحسن بن محمد بن سماعة بعلو اسناده عن
عبد الله وجعفر ومحمد بن العباس عن أحدهما عليهما السلام قال: يملك
الرجل أخاه وغيره من ذوي قرابته من الرضاعة ". وموثقته أيضا "
" عن محمد بن زياد عن عبد الله بن سنان أبي عبد الله عليه السلام:
قال: إذا اشترى الرجل أباه أو أخاه فهو حر إلا ما كان من قبل الرضاع "
وموثقة ابن فضال عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في
بيع الأم من الرضاعة قال: لا بأس بذلك إذا احتاج ".
ثم يأخذ في قدح الروايات المعارضة من حيث السند بأن جميعها موثق
وتلك صحاح، والموثق لا يعارض الصحيح، ومن حيث الدلالة بأن عامتها
خارج عن حريم النزاع، إذ بعضها غير متعرض للعمودين، وبعضها مأول
بعضها يخص البيع بوقت الحاجة والضرورة لا مطلقا " إلى آخر كلامه
المفصل المفيد فراجعه.
200

ولولا تضمن بعضها للاستدلال بحديث (يحرم) لأمكن المناقشة في الاستدلال
به عليه، كما استدل لظهوره في حرمة النكاح دون غيره، فاللازم حينئذ
حرمة ترتيب آثار الملك بقرينة استدلال الإمام به في المقام، وكيف كان
فلتفصيل المسألة محل آخر.
الرابعة: اختلفوا في ثبوت الرضاع بشهادة النساء وعدمه على قولين:
فعن الشيخ في (الخلاف) وموضع من (المبسوط) والحلي في
(السرائر) والعلامة في (القواعد) وغيرهم عدم قبول شهادتين في
الرضاع، بل في الأول: دعوى الاجماع عليه (1) وفي الأخيرين: القول
بالقبول متروك، وهو الذي يقتضيه الأصل وعموم " فانكحوا ما طاب لكم

(1) قال: الشيخ في الخلاف ج 2 آخر كتاب الرضاع، مسألة 11
" لا تقبل شهادة النساء عندنا في الرضاع بحال إلى قوله: دليلنا:
اجماع الفرقة وأخبارهم ".
201

من النساء (1) وأحل لكم " (2) فتأمل، ولأن التحريم متوقف على وجود
سببه، ولا دليل على ثبوته بشهادتهن، إلا ما قد يقال: باندراجه في عموم
ما دل على قبول شهادتهن فيما يتعذر أو يتعسر الاطلاع عليه من أمورهن
للرجال، الممنوع كون الرضاع منه حتى تشمله كلية الكبرى.
وعن المفيد والمرتضى وسلار والحسن وأبي علي وابن حمزة والشيخ
في موضع آخر من (مبسوطه) قبول شهادتهن فيه، واستقر به العلامة
في (القواعد) (3) والمحقق في الشرايع (4) وإن تردد هو في النافع إلا أنه
جعله فيه الأشبه (5)، بل قيل: أنه الأشهر، ولا سيما بين المتأخرين،
لعموم ما دل على قبول شهادتهن فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه

(1) " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم
من النساء. " سورة النساء / 3.
(2) ففي سورة النساء آية 24 بعد عرض آية التحريم السابقة " حرمت
عليكم. ". " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين
غير مسافحين.. ".
(3) فقال في خاتمة باب الرضاع: " الأقرب قبول شهادة النساء
منفردات.. إلى قوله: ولو شهدت بأني أرضعته فالأقرب القبول ما لم
تدع أجرة ".
(4) قال: في أخريات الطرف الثالث في أقسام الحقوق: من كتاب
الشهادات: " وفي قبول شهادة النساء منفردات في الرضاع خلاف؟
أقربه الجواز ".
(5) قال في ملحقات كتاب الشهادات من المسائل " الثالثة:
لا تقبل شهادة النساء في الهلال والطلاق وفي قبولها في الرضاع تردد،
أشبهه القبول ".
202

ويطلعوا عليه (1) والرضاع منه، وخصوص مرسلة ابن بكير: " عن بعض
أصحابنا عن الصادق عليه السلام في امرأة أرضعت غلاما " وجارية قال:
يعلم ذلك غيرها؟ قلت: لا، قال: لا تصدق إن لم يكن غيرها " (2)
الظاهرة بعموم مفهوما على أنها تصدق مع وجود غيرها، الشامل باطلاقه
ما لو كان الغير من النساء ولو لم نقبل شهادتها لم يكن وجه للتعليق على
عدم وجود الغير معها مع كون الاجماع المتقدم موهونا " بفتوى حاكيه
في شهادة (مبسوطه) المتأخر عن (خلافه) على ما قيل بالخلاف
مؤيدا " باطلاق قبول قول المرأة والنسوة إذا كن مستورات في خبر ابن
أبي يعفور (3) وبما روي عن الفقيه من أن نقص عقول النساء هو الموجب

(1) مضامين روايات كثيرة ذكرها الوسائل في كتاب الشهادات
باب 24 ما تجوز شهادة النساء فيه. فمن ذلك: " عن محمد بن يحيى عن
أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن إبراهيم الحارثي قال: سمعت أبا عبد الله
عليه السلام، يقول: تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا
إليه ويشهدوا عليه.. " وغيرها مثلها كثير.
(2) في الوسائل: كتاب النكاح، باب 12 من أبواب ما يحرم
بالرضاع حديث 3، الرواية هكذا: " وباسناده أي محمد بن يعقوب
الكليني عن علي بن الحسن بن فضال عن محمد بن عبد الله بن زرارة
ومحمد وأحمد ابني الحسن بن علي عن الحسن بن علي عن عبد الله بن بكير
عن بعض أصحابنا.. ".
(3) في الوسائل، كتاب الشهادات باب 41 ما يعتبر في الشاهد من
العدالة، حديث رقم (20)؟: " محمد بن الحسن باسناده عن أبي القاسم
جعفر بن محمد قولويه عن أبيه عن علي بن عقبة وذبيان بن حكيم الأودي
عن موسى بن أكيل عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي جعفر (ع):
قال: تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كن مستورات من أهل البيوتات
معروفات بالستر والعفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء والتبرج إلى
الرجال في أنديتهم ".
203

لكون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل " وإن شهادة الثنتين منهن بمنزلة
شهادة رجل واحد (1) فتأمل.
ولعل هذا القول هو الأقوى، لأن الرضاع لا يمكن انكار كونه من
الأمور الخفية التي لا يمكن اطلاع الرجال عليها غالبا " حسبما هو معتبر في
التحريم، فلو لم تعتبر شهادتهن عليه لزم الوقوع كثيرا " في ورطة نكاح
المحرمات مع غلبة إرضاع غير الأمهات من المرضعات، فناسبت الحكمة
قبول شهادتهن، وشمول أخبار قبولها له أيضا "، وإن كان موردها ما لا يجوز
نظر الرجال إليه كالعذرة وعيوب الفرج والحيض والنفاس، وحيث قلنا
بقبول شهادتهن منفردات قلنا بقبول شهادتهن منضمات، فتقبل فيه شهادة
رجل وامرأتين بالأولوية.
ثم على تقدير قبول شهادتهن، فهل تقبل شهادتهن فرعا " على شهادتهن
على الرضاع أولا؟ وجهان: ينشئان من قبول شهادتهن أصلا "، فتقبل
شهادتهن فرعا " بالأولوية، ومن أن القبول في الأصل لتعسر اطلاع الرجال
عليه، ولا كذلك في الفرع. وبذلك تمنع الأولوية وعلى تقدير تسليمها
فهي ظنية لا تجدي.]

(1) الوسائل، باب 16 من أبواب الشهادات في تفسير الحسن
العسكري عن أمير المؤمنين (عليهما السلام) في تفسير قوله تعالى: " إن
تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ": " إذا ضلت إحداهما عن الشهادة
فنسيتها ذكرت إحداهما الأخرى بها فاستقامتا: في أداء الشهادة عند الله
شهادة امرأتين بشهادة رجل لنقصان عقولهن ودينهن ".
204

الخامسة: هل يقع الظهار بالرضاع كما يقع بالنسب بأن يقول لامرأته
أنت علي كظهر أمي من الرضاع، أم لا؟ فيه خلاف: قيل بالوقوع،
لعموم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " (1) وخصوص صحيحة
زرارة: " سألت أبا جعفر عليه السلام عن الظهار؟ فقال: هو من
كل ذي محرم أم أو أخت أو عمة أو خالة، ولا يكون الظهار في يمين،
قال قلت: كيف يكون؟ قال: يقول الرجل لامرأته وهي طاهرة في
غير جماع أنت علي حرام مثل ظهر أمي أو أختي، هو يريد بذلك
الظهار " (2)، واشتراكهما في قول الزور والمنكر.
وفي الكل نظر: أما الحديث، فلظهوره في اشتراك عناوين النسبية
والرضاعية في التحريم، لا في اشتراكهما في وقوع الظهار به في التشبيه.
وأما الصحيحة، فلأن غاية ظهور التنكير شموله لكل محرم بالنسب
أما كان أم غيرها، كما صرح بذكرهن بعده، لا كل ما كان محرما "، ولو
بالرضاع.
وأما اشتراكهما في قول الزور، فلكونه بمجرده لا يثبت به حكم
الظهار، ضرورة أن الظهار زور ومنكر، لا كل زور ومنكر ظهار.
فإذا " الأقوى هو القول بالعدم، لا للأصل مع عدم الدليل المخرج منه.
خاتمة: قد ظهر لك: إن بعض أحكام النسب ثابت في الرضاع،
وهو تحريم النكاح وثبوت المحرمية بالاتفاق، وبعضها مختلف فيه عندهم
وهو انعتاق أحد العمودين من الرضاع بالملك، وثبوت الظهار بالتشبيه

(1) نبوي مشهور مروي بطرق مختلفة. ذكرت في الوسائل في أوائل
أبواب ما يحرم بالرضاع من كتاب النكاح. ".
(2) راجع من الوسائل، كتاب الظهار، باب 2 حديث (2)
وباب 4 حديث (1) مثله.
205

بالمحرمات من الرضاع، كما عرفت الخلاف فيه، وأن الأقوى هو الثبوت
في الأول، والعدم في الثاني، ويفترقان في كثير من الأحكام، فإنها تثبت
في النسب ولا تثبت في الرضاع كالتوارث، واستحقاق المنفعة وعدم قبول
شهادة الولد على والده، وسقوط قود الوالد بالولد، وعدم استيفائه حد
القذف، وحد القطع بسرقة ماله، وحق الولاية للأب والحضانة للأم،
وتحمل العقل (1) في جناية الخطأ، وعدم نفوذ قضاء الولد على والده،
دون الافتاء، وانصراف إطلاق الوالد أو الولد في النذور والأيمان إلى من
كان من النسب دون الرضاع، فإن هذه الأحكام ثابتة في النسب دون الرضاع
فلا توارث بين الولد ووالده من الرضاع، ولا استحقاق للنفقة أيضا "،
وتقبل شهادة الولد على والده من الرضاع، ويقاد الوالد بولده من الرضاع
ويستوفى منه حد القذف والسرقة، إلى غير ذلك من الأحكام المتقدمة،
فإنها غير جارية في الرضاع.
فاتضح لك أن حكم الرضاع بحسب مشاركته للنسب ومباينته إياه،
ينقسم إلى أقسام ثلاثة: قسم يتحد حكمهما إجماعا "، وقسم يختلف حكمها
كذلك، وقسم اختلفت فيه كلمات الفقهاء، وقد عرفت التفصيل في كل
منها بما لا مزيد عليه.
تنبيه: اعلم أن للأم إطلاقات ثلاثة: أمهات النسب، وأمهات الرضاع
وأمهات التبجيل والعظمة، وهن زوجات النبي صلى الله عليه وآله

(1) بالفتح والسكون الاسم من عقل يعقل، وهي دية القتيل،
قال الطريحي في مجمع البحرين " وأصله أن القاتل كان إذا قتل قتيلا
جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول أي شدها في عقلها ليسلمها
إليهم، ويقبضونها منه، فسميت الدية عقلا، بالمصدر، يقال: عقل البعير
يعقله عقلا، والجمع عقول ".
206

فإنهن أمهات المؤمنين، لقوله تعالى: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
وأزواجه أمهاتهم " (1) ويشاركن أمهات النسب في حرمة نكاحهن بالنص
لا باطلاق الأمومة عليهن دون المحرمية، فلا يجوز عندنا النظر إليهن فيما
يجوز النظر إلى المحارم، خلافا " لبعض من خالفنا على ما قيل فجوزوا
النظر إليهن لاطلاق الأمومة عليهن، وهو مردود بالنهي عن التبرج،
مضافا " إلى ما روته أم سلمة: " قالت كنت أنا وميمونة عند النبي صلى الله
عليه وآله: فأقبل ابن أم مكتوم، فقال احتجبا عنه، فقلنا إنه أعمى،
فقال النبي صلى الله عليه وآله: فعميا وإن أنتما؟ " (2) الخبر.
وليس كل من حرم نكاحها جاز النظر إليها كأخت الزوجة. اللهم
إلا أن تدعى الملازمة بين تأبيد الحرمة والمحرمية، فلا ينقض بأخت الزوجة
المحرمة، جمعا " لا تأبيدا ".
وفيه: إن الملازمة، لو سلمت كليتها، فإنما هي بين التحريم بأحد
العناوين المتقدمة والمحرمية، لا مطلقا "، وقد عرفت أن حرمة نكاحهن
بالنص لا باطلاق الأمومة عليهن، فقد استبان أن المراد أمومة الاجلال
والكرامة، لا غير.
هذا ما وسعنا من تحرير مسائل هذا الباب على تشتت البال وتشويش
الخيال، والله الهادي إلى الحق والموفق للصواب.

(1) سورة الأحزاب / 6.
(2) في مقدمات كتاب النكاح من الوسائل باب 129 من أبواب مقدماته
وآدابه، الحديث رقم (4) هكذا: " عن أم سلمة، قالت: كنت عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن
أمر بالحجاب فقال: إحتجبا، فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا؟
قال: أفعميا وإن أنتما، ألستما تبصرانه؟.
207

رسالة
في الولايات
209

بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة في الولاية وأقسامها، وموارد ثبوتها، والقدر الثابت منها.
وتنقيح الكلام فيها يتم بذكر مقدمة ومباحث:
أما المقدمة، ففي بيان معناها، وانقسامها بنحو الاجمال، وما يقتضيه
الأصل فيها، فنقول وبالله التوفيق:
الولاية لغة كما عن القاموس والمجمع بالفتح: مصدر بمعنى
الربوبية والنصرة، ومنه قوله تعالى: " هنالك الولاية لله الحق " (1)
وبالكسر: اسم معنى الإمارة (2) واصطلاحا ": هي سلطنة على الغير عقلية
أو شرعية، نفسا " كان أو مالا أو كليهما بالأصل، أو بالعارض.

(1) سورة الكهف / 44. وتتمة الآية: " هو خير ثوابا "، وخير
عقبا " ".
(2) والسلطنة والإمارة نوعان: عامة، وخاصة.
فالعامة: هي المتعلقة بانحاء التصرفات المشروعة على جهة العموم،
كما لو جعل الشارع المقدس للفقيه مثلا الولاية على أموال القاصر
بجميع انحاء التصرفات الراجعة مصلحتها إليه بلا استثناء، وتسمى هذه
بالولاية العامة.
والخاصة: هي السلطنة الضيقة النطاق، كما لو فرض جعل الشارع للفقيه
إجازة خاصة بنحو معين من التصرفات كالايجار أو الاستيجار فقط. وتسمى
هذه بالولاية الخاصة.
210

والفرق بينها وبين الحق المفسر بذلك أيضا " كما تقدم في مسألة
الفرق بين الحق والحكم (1) هو أن تفسير الحق بذلك تفسير له باعتبار
أثره غالبا " فإن الحق حقيقة: هو الشئ الثابت الموجب لسلطنة
من هو له على من هو عليه. والولاية هي نفس السلطنة المنجعلة أو
المجعولة لصاحبها على الغير، فأثرها في الأول وهو التصرف من صاحبها
إنما هو غالبا " لاستيفاء ما هو له ولمصلحته، وفي الثاني إنما هو لنقص
في المولى عليه ورجوع مصلحته إليه اتقانا " للنظام.
ثم إنها تنقسم باعتبارات مختلفة إلى أقسام متعددة: فتنقسم باعتبار
إلى الولاية بالمعنى الأخص، وإليها بالمعنى الأعم، (فالأولى) هي المسببة
عن أحد الأسباب الخمسة: الأب، والجد له، والملك، والسلطنة،
والوصية كما عن (التذكرة) حيث حصرها في الأسباب المذكورة ثم
قال بعد عدها " ولا تثبت بغير ذلك عندنا " (2) (والثانية): هي
مطلق القدرة على انفاذ التصرف في الشئ، فتعم الوكيل والمأذون،
والمتصدق في مجهول المالك، ومالك الصدقة في الزكاة بالنسبة إلى العزل
والدفع إلى المستحق وتبديل العين بالقيمة، والأم بالنسبة إلى الحضانة،
ومتولي الوقف العام أو الخاص من الواقف، وفي القصاص والتقاص،
والمرتهن في بيع العين المرهونة في الجملة وغير ذلك من الموارد التي
وقع التعبير فيها كثيرا " بالولاية لمن له ذلك في كلمات الفقهاء. وهو

(1) وهي المسألة الأولى من الجزء الأول من كتاب (بلغة الفقيه)
(2) قال في أوائل كتاب النكاح من التذكرة، المبحث الثاني في
أسباب الولاية: " وهي عندنا خمسة: الأبوة والجدودة والملك والسلطنة
والوصاية، ولا تثبت بغير ذلك عندنا، خلافا " للعامة فإنهم يثبتون مع ذلك
شيئين آخرين: العصوبة والعتق ".
211

وإن كان بظاهره ينافي ما تقدم من (التذكرة): من اختصاصها بأحد
الأسباب المتقدمة، إلا أن الجمع بينهما يقتضي حمل ما تقدم من (التذكرة)
على الولاية بالمعنى الأخص التي هي من قبيل المنصب، وحمل غيره عليها
بالمعنى الأعم التي مرجعها في الحقيقة إلى التولية والتفويض، ويمكن الجمع
بحمل ما كان مسببا " عن أحد الأسباب الخمسة المتقدمة على الولاية بالكسر
التي قد عرفت معناها: الإمارة المناسبة لكونها من المناصب، وغيره على
الولاية، بالفتح، لتضمنها النصرة والمساعدة، وإلا فكثير من ذلك يعد من
الحقوق التي تغاير الولاية بالمعنى الأخص.
وتنقسم أيضا " باعتبار إلى الاجبارية والاختيارية، وهما صفتان لمن له
الولاية، دون من عليه، فمناط الاختيارية كونها بالنظر والاختيار كالوكيل
ونحوه، والاجهارية كونها بالجعل والعنوانية، كما في الأب والجد، وإن
أمكنه الخروج بما يوجب سقوطها عنه بكفر ونحوه، فإن ذلك لا ينافي
صدق الاجبارية عليها، كالتزام الوكيل ونحوه بنذر وشبهه غير المنافي لصدق
الاختيارية عليها. وهذا التقسيم لها باعتبار معناها الأعم، وعلى الاحتمال الآخر
في الجمع: من اختصاص كل لفظ بمعناه، فالاجبارية صفة للولاية بالكسر
والاختيارية صفة لها بالفتح.
وباعتبار عموم المولى عليه وخصوصه، وبالنسبة إلى عموم جهات التولية
وخصوصها تنقسم أيضا ": إلى الولاية العامة والخاصة وعموم جهات الخاص
وخصوصها، فولاية الحاكم عامة لكونها تعم أفراد الناس في أنفسهم
وأموالهم بعد وجود سبب الولاية عليه، وولاية الأب خاصة على ولده
الصغير، وإن عمت من حيث تعلقها بنفسه وماله، ومثله وصي الأب على
صغار ولده، ولو اختصت الوصية بجهة خاصة من أمر الصغير، فهو ولي
عليه بخصوصه في خصوص تلك الجهة التي ولي عليه فيها.
212

وباعتبار الاستقلالية في التصرف أو اعتباره في تصرف الغير: تنقسم
إلى ما يكون الولي مستقلا بالتصرف، سواء كان تصرف الغير منوطا " بإذنه
أم لا، ومرجع ولايته حينئذ، إلى كون نظره سببا " في جواز تصرفه،
وإلى ما يكون تصرف الغير منوطا " بإذنه ومرجعه حينئذ إلى كون نظره شرطا "
في تصرف الغير، فهو بهذا الاعتبار يطلق عليه الولي أيضا ". لعدم استقلالية
تصرف الغير إلا بإذنه، وبين المعنيين عموم من وجه كما قيل.
ثم إن أكمل الولايات وأقواها: هو ولاية الله سبحانه وتعالى على
خلقه من الممكنات بعد أن كانت بأسرها في جميع شؤونها وكافة أطوارها
مفتقرة في وجودها إلى الواجب، مقهورة تحت سلطانه متقلبة بقدرته،
إذ لا استقلالية للمكن في الوجود لكونه ممكنا " بالذات موجودا " بالغير،
وعدم التعلق في الممتنع لنقص في المتعلق، لا لقصور في التعلق، وإلا
فهو على كل شئ قدير.
ومن رشحات هذه الولاية: ولاية النبي صلى الله عليه وآله وخلفائه
المعصومين عليهم السلام: بالولاية الباطنية، فإن لهم التصرف بها في
الممكنات بأسرها من الذرة إلى الذروة بإذنه تعالى، وهي بهذا المعنى خارجة
عن الولاية المبحوث عنها في المقام، ولهم كما ستعرف الولاية الظاهرية
أيضا " على كافة الرعية، بعد أن كانت الناس طرا " رعاياهم، بل
عبيدهم، لكن عبيد الطاعة، لا عبيد الملك، كما ورد عن الرضا (ع) (1).

(1) في الجزء الأول من أصول الكافي للكليني، كتاب الحجة
باب فرض طاعة الأئمة عليهم السلام حديث (10) هكذا: ". وبهذا
الاسناد عن مروك بن عبيد عن محمد بن زيد الطبري، قال: كنت
قائما " على رأس الرضا عليه السلام بخراسان، وعنده عدة من بني هاشم،
وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي، فقال: يا إسحاق، بلغني
أن الناس يقولون إنا نزعم أن الناس عبيد لنا، لا وقرابتي من
رسول الله صلى الله عليه وآله، ما قلته قط ولا سمعته من آبائي قاله، ولا
بلغني عن أحد من آبائي قاله، ولكني أقول: الناس عبيد لنا في الطاعة
موال لنا في الدين، فليبلغ الشاهد الغائب ".
213

هذا ولا ريب في أن مقتضى الأصل الأولى عدم الولاية بجميع معانيها
لأحد على أحد لأنها سلطنة حادثة، والأصل عدمها، ولأنها تقتضي أحكاما "
توقيفية والأصل عدمها، إلا أنه خرجنا عن هذا الأصل في خصوص
النبي صلى الله عليه وآله، والأئمة عليهم السلام بما دل: من العقل
والنقل على أن لهما أولوية التصرف مستقلا في نفوس الناس وأموالهم من
غير توقف على إذن أحد منهم، فضلا " عن ثبوتها لهما بمعنى توقف تصرف
الغير في شئ من إذنهما، ولو في الجملة.
أما العقل، فالمستقل منه حكمه بوجوب شكر المنعم بعد معرفة أنهم
أولياء النعم، والغير المستقل حكمه بأولوية وجوب إطاعة الرعية للإمام
بالنسبة إلى وجوب إطاعة الابن للأب، لأن الحق في الأول أعظم منه،
في الثاني بمراتب.
وأما النقل، فمن الكتاب منه قوله تعالى: " النبي أولى بالمؤمنين
من أنفسهم " (1) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا "
أن يكون لهم الخيرة.. " (2) " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن
تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " (3) " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول

(1) الأحزاب / 6، وتتمة الآية: وأزواجه أمهاتهم.
(2) الأحزاب / 36.
(3) سورة النور آخر آية / 63.
214

[وأولي الأمر منكم " (1) و " إنما وليكم الله ورسوله " (2) الآية.
ومن السنة منها مستفيضة بذلك، بل متواترة معنى، ويكفيك منها
الأخبار الدالة على وجوب إطاعتهم، وإن طاعتهم: طاعة الله ومعصيتهم
معصيته (3) مضافا " إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله في خبر أيوب بن
عطية: " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه " (4) وإلى ما ورد عنه صلى الله عليه وآله
متواترا " في حديث (غدير خم): " ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا:
بلى، قال: صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فهذا علي مولاه " (5)
وإلى مقبولة عمر بن حنظلة (6).

(1) سورة النساء، أوائل آية 59.
(2) سورة المائدة / 55، وتكملة الآية: والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، وقد نزلت في حق علي (ع).
(3) ذكر الكليني في كتاب الحجة من أصول الكافي روايات كثيرة
بهذا المضمون وعقد لها بابا " أسماه (باب فرض طاعة الأئمة).
(4) في أصول الكافي، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام
على الرعية، حديث رقم (6) وتتمة الحديث " وعلى أولى به من بعدي ".
(5) لسنا بحاجة إلى اثبات تواتر الحديث من طرق السنة والشيعة،
ولا إلى تخريجه وعرض قصته بعد أن أسهبت في ذلك الأجزاء الأوائل
من كتاب الغدير للمغفور له الحجة الأميني قدس سره.
(6) في أصول الكافي. كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث
حديث رقم (10): " باسناده عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد الله
عليه السلام: عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث،
فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة: أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم
في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا "
وإن كان حقا " ثابتا "، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن
يكفر به، قال الله تعالى: " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا
أن يكفروا به "، قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كان
منكم ممن روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا،
فليرضوا به حكما "، فإني قد جعلته عليكم حاكما ". فإذا حكم بحكمنا فلم
يقبله منا، فإنما استخف بحكم الله، وعلينا رد، والراد علينا الراد
على الله، وهو على حد الشرك بالله.. " الحديث.
215

ومشهورة أبي خديجة (1) وإلى ما ورد في التوقيع من الأمر بالرجوع في
الوقايع الحادثة إلى رواة الحديث معللا بأنهم حجتي عليكم وأنا حجة
الله " (2).

(1) في الوسائل، كتاب القضاء باب 11 من أبواب صفا ت القاضي
حديث رقم (6): " باسناده على أبي خديجة، قال: بعثني أبو عبد الله عليه السلام: إلى أصحابنا، فقال: قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم
خصومة أو تداري في شئ من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من
هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني
قد جعلته عليكم قاضيا "، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضا " إلى السلطان الجائر ".
(2) في المصدر الآنف الذكر، حديث رقم (9): " وفي كتاب
اكمال الدين واتمام النعمة، عن محمد بن محمد بن عصام عن محمد بن يعقوب
قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا " قد سألت فيه عن
مسائل أشكلت على، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (ع):
أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك إلى أن قال: وأما الحوادث
الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله "
الحديث. ورواه الشيخ في (الغنية) والطبرسي في (الإحتجاج) وغيرهم.
216

قلت: الكلام في ثبوت الولاية مستقلا لهما تارة بمعنى نفوذ
تصرفه ووجوب طاعته، لو تصرف في شئ أو أمر به، وأخرى بمعنى أن
له أنحاء التصرف في نفوس الرعية وأموالهم، حسبما تتعلق به إرادته،
كما ينفذ تصرف الانسان بحسب إرادته في نفسه وماله في غير معصية
موجبة لعدم نفوذه، فله أن يزوج البالغة الرشيدة بغير إذنها، أو يبيع مال
انسان بغير إذنه كما كان ذلك لكل منهما في نفسه أو ماله، فنفوذ التصرف
ووجوب الإطاعة مقام، وله أن يتصرف أو أن يأمر مقام آخر.
لا إشكال في ثبوتها لهما بالمعنى الأول، فإن الأدلة المتقدمة كل
منها واف في الدلالة عليه كاف في اثباتها له، بعد إن كانت إطاعتهم
إطاعة الله تعالى:
وأما الجزم بثبوتها بالمعنى الثاني، ففيه تأمل، لعدم نهوض تلك
الأدلة عليه، بعد إن كان غير آية " النبي أولى بالمؤمنين " وما بمعناها
من السنة كلها واردة في مقام وجوب الإطاعة وحرمة المخالفة الراجعين
إلى المعنى الأول، دون الثاني وأما هي، فلا دلالة فيها على المطلوب
أيضا "، بناء على تفسيرها بأنه: أولى بالمؤمنين من أنفسهم، بعضهم من
بعض. نعم بناء على تفسيرها كما هو الظاهر منها بإرادة أنه أولى
بكل مؤمن من نفسه على نفسه، ربما يكون وافيا في اثبات ذلك، إلا أنه
للتأمل فيه مجال، لقوة احتمال أن يكون المراد بيان الأولوية عند التزاحم
في التصرف، وتقدم إرادته عند التخالف في الإرادة بحيث لو أراد
الانسان شيئا وأراد الإمام غيره، قدمت إرادته على إرادته، لكونه إنما
يأمره بشئ أو ينهاه عنه ليس إلا لمصلحة ملزمة راجعة إليه، ضرورة أنه
في مرتبة المكمل لنقص المولى عليه الذي اقتضى اللطف وجود مكمل له
متبوع في أوامره ونواهيه، بل ولو كان لمصلحة نفسه، لرجوعها أيضا
217

إلى مصلحة النوع، المقدم على مصلحة الشخص، فيرجع حينئذ إلى معنى
الأول المدلول عليه بما سواه من الأدلة، فلا تكون ناهضة لإفادة المعنى
الثاني، إذ لا دليل على ثبوتها بهذا المعنى لهم كان مقتضى الأصل عدمه
مؤيدا بما هو المعهود من سيرتهم في الناس على حد سيرة بعضهم مع بعض
من الاستيذان من البالغة الرشيدة في تزويجها، وبيع المال عن المالك بإذنه،
وعدم التصرف في مال الصغير مع وجود وليه الاجباري، وعدم التصرف
في مال أحد إلا بإذنه إلى غير ذلك من الموارد التي يقطع الانسان بمساواة
معاملاتهم بين الناس مع معاملات بعضهم من بعض. وبالجملة، ليس
سلطنتهم على الرعية كسلطنة السيد على مملوكه الجائز له التصرف فيه لمحض
التشهي ما لم يكن من أحد الوجوه المحرمة.
هذا والبحث عن ذلك، وإن كان قليل الجدوى، بل معدوم الثمرة
لعدم ظهورها إلا فيما عسى أن يتوهم ظهورها في الفقيه زمن الغيبة، بناء
على عموم ولايته، وأن له ما للإمام حيث شك في تصرف أن له ذلك
للشك في كونه للإمام أم لا، فإن ولاية الفقيه فرع عن ولاية الإمام
والفرع يتبع أصله، فلا يزيد عليه بالضرورة. وهو فاسد، لعدم ثبوتها بهذا
المعنى للفقيه بالضرورة بحيث لو تصرف وجب تنفيذه مطلقا، كما هو للإمام
وإن قلنا بعموم ولايته، إذ الثابت له من الأدلة الولاية بالمعنى الثاني، وهو
كون نظره شرطا في التصرف: إما مطلقا أو في الجملة: وأما كون
النظر مسببا فيه، فهو مختص بالنبي وخلفائه المعصومين صلوات الله عليهم
أجمعين كما ستعرف.
وأما الولاية لهما بالمعنى الآخر الذي قد عرفت مرجعه إلى اعتبار
إذنه شرطا في تصرف الغير، فثبوتها لهما في الجملة مما لا شك فيه.
ويدل عليه مضافا إلى ما يدل عليه من الأدلة المتقدمة: ما عن
218

(العلل) بسنده عن أبي الفضل بن شاذان عن مولانا أبي الحسن الرضا
عليه السلام: في حديث قال فيه: " فإن قال قائل: فلم وجب عليهم
معرفة الرسل والاقرار بهم والاذعان لهم بالطاعة؟ قيل له: لأنه لما لم
يكن في خلقهم وقواهم ما يكملون به مصالحهم وكان الصانع متعاليا عن أن
يرى، وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهرا، لم يكن بدلهم من رسول
بينه وبينهم معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه، ويوقفهم على ما يكون به
احراز منافعهم ودفع مضارهم إذا لم يكن في خلقهم ما يعرفون به وما يحتاجون
إليه من منافعهم ومضارهم، فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن
في مجيئ الرسول منفعة ولا سد حاجة، ولكان اتيانه عبثا بغير منفعة ولا صلاح
وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شئ، فإن قال قائل: فلم
جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قبل: لعلل كثيرة.
منها أن الخلق لما وقفوا على حد محدود، وأمروا أن يتعدوا ذلك
الحد لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم
فيه أمينا يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم، لأنه إن لم يكن
ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم
قيما يمنعهم من الفساد ويقيم فيهم الحدود والأحكام.
ومنها أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل عاشوا وبقوا
إلا بقيم ورئيس لما لا بد لهم من أمر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم
أن يترك الخلق مما يعلم أنه لا بد لهم منه، ولا قوام إلا به فيقاتلون به
عدوهم ويقسمون به فيأهم، ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم
من مظلومهم.
ومنها أنه لو يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة
وذهب الدين وغيرت السنة والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه
219

الملحدون، وشبهوا ذلك على المسلمين، لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين
محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم،
فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو ما بينا،
وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والأيمان، وكان في ذلك فساد الخلق
أجمعين " (1) الحديث.
وإنما الكلام في ثبوتهما لهما بنحو الكلية التي معناه: توقف كل
تصرف على إذنهم، إلا ما علم عدمه بدليل يخصه أو يدل عليه بنحو
العموم أو الاطلاق. والظاهر عدمه، لعدم دليل ينهض باثبات الكلية
المزبورة، وحيث كان الحكم مخالفا للأصل وجب الاقتصار فيما خالفه
على ما قام عليه الدليل. وقصارى ما دلت عليه الأدلة لزوم الرجوع
إليهم في المصالح العامة التي لا يريد الشارع فعلها من مباشر معين كإقامة
الحدود والتعزيرات والقضاء في الناس دفعا للخصومة فيما بينهم،
والتصرف في مال القصر والمجانين مصلحة لهم، والالزام بأداء الحقوق
ونحو ذلك.
وبالجملة فما علم بوجوب الرجوع فيه إليهم وتوقف التصرف على إذنهم
أو علم عدمه بدليل، ولو بنحو العموم أو الاطلاق، فلا كلام فيه.
وحيثما شك في مورد، قيل: يرجع فيه إلى ما تقتضيه الأصول العملية.
وفيه: أن الأصل إنما يكون مرجعا في مورد الشك مع انسداد باب العلم
المفروض انفتاحه في المقام بالرجوع إلى الإمام أو نائبه الخاص، (ودعوى)
إن الأصل يقتضي توقف كل تصرف على إذنهم إلا ما خرج بالدليل بناء

(1) ذكر الحديث بكامله، الشيخ الصدوق قدس سره المتوفى
سنة 381 ه‍ في كتابه عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج‍ 2 ص 97 طبع
النجف الأشرف باب 34: العلل التي ذكرها الفضل بن شاذان.
220

على استفادته من الأدلة المتقدمة (فهي) على عهدة من استفاد منها قاعدة
كلية يرجع إليها عند الشك، ولم يتحقق عندنا من الأدلة ما يوجب ثبوتها
بنحو الكلية حتى يكون مرجعا عند الشك في مورد خاص. نعم، الظاهر
من تلك الأدلة حسبما ذكرنا وجوب الرجوع إليهم في كل ما يكون
من المصالح العامة الذي يرجع فيه كل قوم إلى رئيسهم ضبطا للسياسة،
واتقانا للنظام، كما صرح به خبر العلل وغيره.
هذا: وإذ قد عرفت ما ذكرناه مقدمة، وتبصرت فيما عرفناك في
ولاية النبي صلى الله عليه وآله، والإمام عليه السلام، فلنراجع إلى ما هو
المهم في المقام: من ولاية غير الإمام من أقسام الولايات، فنقول:
ها هنا مباحث:
(المبحث الأول)
في ولاية الحاكم، أعني (الفقيه) في زمن الغيبة. وهذا القسم هو
الأهم في التعرض من سائر أقسامها لما يبتني عليه كثير من الأحكام المتفرقة
في أبواب الفقه.
والكلام فيه: تارة في ثبوتها له، وأخرى في القدر الثابت
منها، وثالثة في المولى عليه وموارد الولاية.
أما ثبوتها للفقيه، ولو في الجملة، فمما لا كلام فيه بعد الاجماع
عليه بقسميه، وورود النصوص المعتبرة في القضاء وما يعمه، والحوادث
الواقعة وإنما الكلام في القدر الثابت منها له، فالذي يظهر من بعض
ثبوت الولاية للفقيه بمعنييها (1) على وجه له الاستقلالية في التصرف، فضلا

(1) أي الخاصة والعامة. ولعل المقصود بالبعض هو المحقق الكركي
صاحب (جامع المقاصد) ومن تبعه، فقد استدلوا على سعة أفق الولاية
للفقيه في زمن الغيبة بالأدلة الأربعة، فالعقل المستقل بضرورة نصب
الإمام الحق حفظا للنظام الديني والدنيوي هو نفسه يستقل بضرورة استمرارية
الرعاية والنظام في زمن الغيبة على أيدي وكلاء الإمام وفقهاء الشريعة
لاضطلاعهم بها أكثر من غيرهم، واستدلوا بالاجماع بقسميه على ذلك أيضا
فعن (جامع المقاصد) في هذا الباب: " اتفق أصحابنا على أن الفقيه
العادل الجامع لشرائط الفتوى، المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية،
نائب من قبل أئمة الهدى عليهم السلام: في حال الغيبة في جميع ما للنيابة
فيه مدخل. وربما استثنى بعض الأصحاب القتل والحدود "
وهكذا استدلوا على سعة أفق الولاية للفقيه بظاهر اطلاقات الآيات
الشاملة بمقتضى عموم الخطاب فيها لكل زمان للفقيه أيضا، مثل
قوله تعالى: " واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وقوله تعالى:
" أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ".
واستدلوا أخيرا على ذلك بطوائف كثيرة من النصوص الواردة
عن أهل البيت عليهم السلام: أشار إلى جملة منها سيدنا المصنف (قده)
221

عن توقف تصرف الغير على نظره، حسبما هي ثابتة للإمام عليه السلام
إلا ما خرج بالدليل، مستدلا على العموم بهذا المعنى بالنصوص الكثيرة
الواردة في مدح العلماء المتضمنة: جملة منها: على أنهم ورثة الأنبياء (1)
وجملة: على أنهم العلماء وأمناء الرسل (2).

(1) أصول الكافي، كتاب فضل العلم، وباب صفة العلم حديث (2)
وباب ثواب العالم والمتعلم حديث (1).
(2) المصدر نفسه باب صفة العلم، حديث رقم (5).
222

وعلى أنهم حصون الاسلام (1)، وعلى أنهم خلفاء النبي صلى الله عليه وآله (2)
وعلى تشبيههم بسائر الأنبياء في حديث افتخاره يوم القيامة في المروي
عن (جامع الأخبار) (3) وعلى تنزيلهم منزلة أنبياء بني إسرائيل

(1) أصول الكافي، كتاب فضل العلم، باب فقد العلماء حديث (3).
(2) الوسائل، كتاب القضاء باب 8 من أبواب صفات (القاضي)
حديث رقم (50) و (53).
(3) المطبوع عدة مرات بمجلد واحد منسوبا إلى الشيخ الصدوق
قدس سره والظاهر عدم صحة النسبة، كما حقق ذلك المحقق الثبت
الشيخ أغا بزرك الطهراني رحمه الله في (الذريعة ج‍ 5 ص 33) بحرف الجيم.
ومما قاله بعنوان (جامع الأخبار): " المطبوع مكررا من سنة 1287 ه‍
حتى اليوم، المتداول المرتب على (141 فصلا) المشهور انتسابه إلى الشيخ
الصدوق، لكنه مما لا أصل له أصلا، وقد اختلف أقوال الأصحاب في
تعيين مؤلفه، نعم هو غير الصدوق جزما، كما ذكره شيخنا في (نفس
الرحمان) ثم فصله في (خاتمة المستدرك ص 366) وأنهى أطراف الترديد
في المؤلف إلى سبعة كلها محتملات، إلى آخر العرض في التحقيق الذي يبعث
على عدم الثقة بالنسبة، والله العالم. وهذه الجملة ذكرت في الكتاب:
الفصل العشرون في العلم، ضمن حديث مفصل عن رسول الله صلى الله عليه وآله من
طريق أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أيها الناس إن
في القيامة أهوالا إلى قوله: اجثوا على ركبكم بين يدي العلماء تنجو
منها ومن أهوالها، فإني أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي كسائر الأنبياء قبلي "
والظاهر من هذه الجملة تشبيه نفسه صلى الله عليه وآله بسائر الأنبياء من حيث الافتخار
بعلمائهم، لا تشبيه علماء أمته بسائر الأنبياء، فكلمة (كسائر) متعلقة
بكلمة (أفتخر) لا أنها صفة للعلماء، والله العالم.
223

في المروي عن (الفقه الرضوي) (1)، وعلى فضلهم على الناس كفضل

(1) وهو كتاب فقه الرضا، المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السلام
وقد ظهر الكتاب على يد المجلسي صاحب البحار في أواخر القرن الحادي
عشر الهجري. وقد اختلف العلماء في صحة النسبة وحجية ما في الكتاب
من الروايات وعدم ذلك على أقوال شتى:
فمنهم من يرى صحة النسبة والحجية معا، وفي طليعتهم المجلسيان
الأول والثاني قدس سرهما ويميل إلى رأيهما بصحة النسبة والاعتماد
عليه سيدنا الحجة البالغة السيد بحر العلوم قدس سره فقد عقد
لذلك في آخر كتاب (فوائده الأصولية) فائدة خاصة، فصل فيها مختلف
الآراء حول صحة النسبة والاعتماد وبطلانهما، وأخيرا يظهر منه صحة
النسبة والاعتماد لما فصله من ذكر المؤيدات الناصعة في اثبات ذلك.
وهذا الرأي يعني: أن الكتاب للإمام (ع) تأليفا أو املاء.
وقول بانكار النسبة وعدم صحة الاعتماد على ما جاء فيه من أخبار
كما ذهب إلى ذلك صاحب الفصول والحر العاملي وبعض آخر غيرهما
وقول ثالث بالتوقف في ذلك، كما يظهر من الفاضل الهندي في (كشف
اللثام) وبعض آخر.
وقول رابع: اعتبار أخباره من الأخبار القوية المحتاجة إلى تعضيد
أو سلامة من المعارض مع انكار النسبة إلى الإمام (ع) كما هو رأي
الشيخ الأنصاري وبعض معاصريه.
والظاهر كما عليه المستدرك للنوري والسيد المحسن الكاظمي وبعض
المحققين من المتأخرين: أنه ليس من تأليف الإمام (ع) ولا من املائه
على أصحابه، ولكنه من املاء بعض أصحابه وجمعه لأقوال الإمام كأنه
الأصل من كلامه، فما جاء فيه من أخبار في معرض الحجية وعدمها.
224

النبي صلى الله عليه وآله: على أدتاهم في المروي عنهم في الاحتجاج (1)،
وعلى تفضيلهم على جميع خلق الله إلا النبيين والمرسلين وكفضل الشمس
على الكواكب، وفضل الآخرة على الدنيا، وكفضل الله على كل شئ،
في المروي عن (المنية) أنه: (قال الله تعالى لعيسى على السلام: عظم
العلماء وأعرف فضلهم وإني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين والمرسلين (2)
وعلى أنهم حكام على الملوك والملوك حكام على الناس، في المروي عن كنز
الكراجكي (3) عن الصادق عليه السلام، وعلى الرجوع إليهم في الحوادث
الواقعة، فيما صدر من التوقيع الرفيع المشهور، وأن مجاري الأمور
بيدهم، وعلى نصبه حاكما وقاضيا، في مقبولة ابن حنظلة، ومشهورة
أبي خديجة (4) إلى غير ذلك مما ورد في تعريفهم وتوصيفهم وأنهم كفلاء
لأيتام آل محمد، صلى الله عليه وآله، المعني بهم هنا الأئمة: من يتم العلم
لا يتم الأبوين.
وتقريب الاستدلال بهذه الأخبار هو أن يقال:
أما الجملة الأولى: فبتقريب أن الإرث هو انتقال مال المورث إلى

(1) في أوائل كتاب منية المريد في آداب المفيد والمستفيد للشهيد
الثاني قدس سره.
(2) أوائل كتاب: منية المريد في آداب المفيد والمستفيد للشهيد
الثاني قدس سره
(3) كنز الفوائد للقاضي أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي
من أعلام القرن الخامس الهجري ومن تلامذة الشيخ المفيد قده ذكره
وذكر كتابه باطراء سيدنا الحجة المهدي قدس سره في كتاب رجاله
المعروف بالفوائد الرجالية (ج‍ 3 ص 302 307).
(4) مر عليك آنفا: نص رواية التوقيع وحديثي المقبولة والمشهورة.
225

الوارث، والولاية من جملة ما هو للمورث، فتنتقل إلى الوارث (1).
وفيه مع قوة إرادة الأئمة عليهم السلام: من العلماء لوقوع التفسير
بهم كثيرا في اطلاق العلماء، وحملا للإرث حينئذ على معناه الحقيقي وهو
الوارث لا بواسطة، ولو أريد العموم من العلماء لزم التجوز في اطلاق
الورثة عليهم، لأن العلماء ورثة الأوصياء، والأوصياء، هم ورثة الأنبياء
واطلاق ورثة الأنبياء على من كان وارثهم بالواسطة مجاز. ولو قيل بلزوم
التجوز على كل تقدير: إما بتخصيص عموم العلماء أو بالتجوز في الورثة
بإرادة من يكون وارثا بالواسطة.
قلنا: التخصيص أولى من المجاز حيث يدور الأمر بينهما، ومع
فرض التساوي بين الاحتمالين يسقط الاستدلال به حينئذ أن ذلك أنما
يحمل الإرث على ما يشمل متعلقه الولاية حيث لا يكون من أفراده ما هو
المتبادر منه أو المنصرف إليه المفروض وجوده في المقام، لظهور المراد من
كونهم ورثة الأنبياء ورثتهم في تبليغ الأحكام وتمييز الحلال من الحرام
سيما مع وجود قرينة لذلك في بعضها المذيل بقوله: " إن الأنبياء لا يورثون
دينارا ولا درهما وإنما يورثون علما " (2) فالموروث حينئذ، هو خصوص

(1) إذ لا اشكال في عدم إرادة الإرث الحقيقي ههنا لعدم النسب
الموجب له، فلا بد من الأخذ بأقرب المجازات، وهو انتقال ما هو ثابت
لهم عليهم السلام: من المنزلة والمقام إلى العلماء، وهي الولاية والسلطة
على الرعية، إلا ما أخرجه الدليل.
(2) في أوائل كتاب (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد للشهيد
الثاني) الحديث عن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة
لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات
ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل
القمر على سائر الكواكب، لأن العلماء ورثة الأنبياء لأن الأنبياء لم يورثوا
دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر ".
226

العلم (ودعوى) ثبوت الولاية للأنبياء، إنما هو لعلمهم، لأنها من جملة
آثاره ويدور مداره في الوجود فتثبت للعلماء أيضا، لوجود ما هو مناط
وجودها فيهم أيضا (مدفوعة) بأن الملازمة على تقدير تحققها إنما تستلزم
وجودها لهم في الجملة، دون القدر الثابت منها للنبي صلى الله عليه وآله
لقوة احتمال تبعية الولاية للعلم في المقدار.
وأما الثانية، فبتقريب أن الأمين له الولاة فيما هو أمانة عنده
من مال المؤتمن بالكسر وبعمومه المستفاد من حذف المتعلق يشمل
الولاية التي هي من ماله أيضا، حسبما عرفت في الإرث، فأمناء الرسل
أمناء لمالهم الذي منه الولاية. وعليه فتكون الأمانة حينئذ: هي في صفات
الرسل من العلم بالأحكام والولاية ونحوهما. ويمكن أن يقرر وجه آخر
وهو أنهم أمناء على الرعية، فتكون هي المقصودة بأمانة، فكما أن الأمين له
ولاية حفظ الأمانة بجميع معاني حفظها على التلف والفساد بحيث يكون
حافظا لوجودها ولسلامتها، فكذلك في المقام، لتحقق هذا المعنى فيهم:
من وجوب حفظهم فيما يرجع إليهم من صلاح أمور معادهم ومعاشهم من
الفساد والافساد، وهو معنى الولاية التامة والرئاسة الكبرى الثابتة للنبي
صلى الله عليه وآله، والإمام عليه السلام.
وفيه: ما تقدم أيضا: من أن الحمل على العموم إنما هو حيث
لا يكون هناك ما يتبادر منه أو ينصرف إليه المطلق المفروض وجوده هنا،
وهو كونهم أمناء في تبليغ الأحكام وإرشادهم إلى معرفة الحلال والحرام
كما يعطي تصريح بعضها بالأمناء على الحلال والحرام، مضافا إلى كفاية
227

ثبوته في الجملة في مدحهم واطلاق الأمناء عليهم، وأما التعميم
إلى جهات الاتيان وقدر الأمانة، فالاطلاقات مهملة من هذه الحيثية،
غير مسوقة لبيانها.
ومثل ذلك تقريبا وردا: يجري في الثالثة المعبر فيها عنهم بحصون الاسلام
بناء على أن التشبيه بالحصن من حيث كونه حافظا لما فيه من عروض
الآفات عليه.
وأما الرابعة (1): فبتقريب أنه لو قيل: فلان خليفتي، من غير تقييد
فهم عرفا منه، بل كان معناه: أنه قائم مقامه في كل ما كان له أن
يفعل إلا ما خرج، تنزيلا للخلف منزلة السلف فيما تقتضيه الوظيفة التي
منها الولاية.
وفيه: ما تقدم من التبادر أو الانصراف إلى التنزيل في تبليغ الأحكام
الموجب للحمل عليه، لا على العموم.
ومثل ذلك يجري فيما ورد من التشبيه بالرسل (2) تعميما لوجوه
الشبه أو اختصاصا بما يتبادر منها أو ينصرف إليه.
وكذا فيما ورد من التنزيل منزلة الأنبياء في بني إسرائيل في
(الرضوي) (2).

(1) وهي قوله صلى الله عليه وآله اللهم ارحم خلفائي، قيل: ومن خلفاؤك
يا رسول الله؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي، كما في
مرسلة الفقيه.
(2) أمثال قوله صلى الله عليه وآله: " علماء أمتي كسائر أنبياء بني إسرائيل "
كما في كتب الأخبار.
(3) في قوله صلى الله عليه وآله: " منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء
في بني إسرائيل ".
228

وأما ما دل على الفضيلة والأفضلية (1) فالتقريب فيه بدعوى المناسبة
بين منصب الولاية والفضيلة في الشرف.
وفيه أنها ممنوعة عكسا، وإن سلمت طردا، إذ لا يلزم أن يكون
الفاضل وليا على المفضول. نعم يلزم أن يكون الولي فاضلا بالنسبة إلى المولى
عليه من حيث الجهة الموجبة للولاية عليه، لأنه بمنزلة المكمل لنقصانه،
وإلا لزم الترجيح بلا مرجح.
بقي الجواب عما قد يشكل على الخبر المروي عن قوله تعالى لعيسى:
عظم العلماء واعرف فضلهم فإني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين
والمرسلين (2) فإن العلماء إن أريد بهم خصوص الأئمة عليهم السلام:
لزم مفضوليتهم بالنسبة إلى سائر النبيين والمرسلين وهو غير معلوم، بل
معلوم العدم (3)، وإن أريد بها غيرهم لزم أفضلية العلماء من الأئمة
لدخولهم حينئذ في الجمع المضاف.
فنجيب عنه بإرادة أفضلية علماء كل عصر بالنسبة إلى أهل عصرهم
إلى نبي ذلك العصر، وأفضلية الأئمة على أنبياء السلف والمرسلين
مستفادة من دليل خارج، فلا تخصيص حينئذ، لا في الجمع المحلى باللام
ولا المعرف بالإضافة.

(1) أمثال قوله صلى الله عليه وآله: كما عن مفتاح الفلاح للبهائي:
" علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل " أو تفضيلهم على الناس كفضل
النبي على أدناهم كما عرفت كفضل الله على كل شئ. كما
عن المنية.
(2) كما عرفت ذلك عن منية المريد للشهيد الثاني.
(3) فإن الذي يظهر من الأخبار الواردة في مظانها: " إن الأئمة
عليهم السلام أفضل الخليقة بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله: آدم ومن دونه ".
229

وأما كونهم حكاما على الملوك الذين هم حكام على الناس (1) فغايته
ثبوت الحكم لهم ولو في نفوذ قضائهم عليهم، وأين ذلك من ثوبت الولاية
الكلية لهم؟
وأما التوقيع وما يليه من الأخبار (2) فلا ينهض لاثبات الولاية
الاستقلالية للفقيه على وجه يكون مستقلا بالتصرف كالإمام إلا فيما خرج
بالدليل.
وبالجملة: لا شك في قصور الأدلة على اثبات أولوية الفقيه بالناس
من أنفسهم، كما هي ثابتة لجميع الأئمة عليهم السلام بعدم القول بالفصل
بينهم وبين من ثبت له منهم عليهم السلام بنص غدير خم، بل الثابت للفقيه
إنما هو الولاية بالمعنى الثاني (3) لكن الكلام في ثبوتها له بنحو العموم
على وجه يرجع إليه حيث ما شك في مورد ثبوتها له فيه أولا، بل يقتصر
في الرجوع إليه على كل مورد قام الدليل عليه بخصوصه، ويبقى مورد الشك
تحت الأصل الذي قد عرفت مقتضاه العدم؟ وجهان بل قولان:

(1) كما عن كنز الكراجكي من قول الإمام الصادق (ع).
(2) من قوله (ع): في التوقيع المشهور: " فإنهم حجتي عليكم
وأنا حجة الله " وقول الإمام الحسين (ع) كما في تحف العقول: " إن
مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على الحلال والحرام "
وقول الإمام الصادق (ع) في مقبولة ابن حنظلة " فإني قد جعلته
عليكم حاكما " وقوله (ع) في مشهورة أبي خديجة: " فإني قد جعلته
عليكم قاضيا " كما مر آنفا، وكقولهم (عليهم السلام) كما في كتب
الأخبار " إن العلماء كافلون لأيتام آل محمد صلى الله عليه وآله ونحو ذلك كثير
في كتب الحديث.
(3) وهو دخل اعتباره في تصرفات الغير لا استقلاله في التصرف
230

وتنقيح هذه المسألة من أصلها بعد معلومية أن البحث في وجوب
الرجوع إلى الفقيه في زمن الغيبة إنما هو من حيث تبعيته للإمام فيما يجب
الرجوع فيه إليه ونيابته عنه، وإلا فهو كغيره من عدول المسلمين هو
أن يقال: إن كل معروف علم إرادة وجوده في الخارج. ولكن شك في
توقفه على إذن الفقيه في زمن الغيبة وعدمه، بل يجب ايجاده على كل من
يقدر عليه كفاية: فأما أن يكون الشك فيه مسببا عن الشك في كونه مشروطا
بإذن الإمام عليه السلام أولا، أو يكون مسببا عن الشك في حصول الإذن
منه للفقيه بخصوصه ولو بنحو العموم في المتعلق بعد فرض اعتبار إذنه فيه.
وبعبارة أخرى: الشك في وجوب الرجوع فيه إلى الفقيه: مرة للشك في
وجوب الرجوع فيه إلى الإمام عليه السلام، وأخرى في مأذونية الفقيه
منه بالخصوص، ولو بنحو العموم بعد احراز كونه مما يعتبر فيه إذن
الإمام عليه السلام.
أما إذا كان منشأ الشك في الأول، فلا مانع عن التمسك فيه بالأصل
الذي مقتضاه العدم، إذ المانع عنه كما تقدم ليس إلا انفتاح باب العلم
المفروض انسداده في زمان الغيبة. وعليه فيكون من الواجب كفاية على
كل من يقدر عليه فقيها كان أو غيره.
وإن كان هو الثاني، فلا كلام في كون الفقيه هو المتيقن ممن كان له
ولاية ذلك، إنما الكلام في اختصاصها به، إن ثبت عموم النيابة له،
وإلا فيتولاه كل من يقدر عليه كفاية، للعلم بإرادة وجوده شرعا وعدم
تعيين الموجد له، بناء على عدم استفادة العموم من أدلة النيابة، إلا أنه
حينئذ، يدور أمره بين احتمالات ثلاثة: سقوط اعتبار الإذن في زمن الغيبة
أو اختصاص الإذن للفقيه فيه، أو تعميمه لكل من يقدر عليه أما سقوط
الإذن من أصله، ففيه تقييد لما دل على اعتباره من غير دليل. وأما
231

اختصاصه به، فلا دليل عليه بالفرض، فلم يكن بد من القول بحصوله
لكل من يقدر عليه كفاية بعد إحراز التكليف به وفرض عدم تعيين
مكلف خاص.
وبالجملة: لا بد من حصول الإذن بعد فرض اعتباره: فأما أن
يكون خاصا أو عاما للمكلفين. لا يقال: الأصل عدم سقوطه عن الفقيه
بفعل غيره، والسقوط عن غيره بفعله مقطوع به (لأنا نقول): الشك
فيه مسبب عن الشك في اختصاص الإذن به، والأصل عدمه (ودعوى)
معارضة أصالة عدم قصد الاختصاص بأصالة عدم قصد التعميم، فيبقى
أصل عدم السقوط سليما (موهونة) بأن التعميم لا يحتاج إلى القصد،
بل يكفي فيه عدم قصد الاختصاص. ومع التنزل وفرض التساوي في
مخالفتهما للأصل لرجوعه إلى الشك في كيفية الإذن، فالمرجع حينئذ إلى
أدلة اشتراك التكليف، إذ الأصل البراءة عن التعيين لمزيد الكلفة فيه
حيث يدور الأمر بينه وبين التخيير الذي منه الوجوب الكفائي أيضا.
نعم لو شك في أصل وجوبه على غير الفقيه بحيث لا يكون ايجاده في الخارج
مطلوبا إلا منه، كان المرجع فيه لغير الفقيه هو البراءة لكون الشك فيه
حينئذ، راجعا إلى الشك في التكليف، كما لو شك في كون الوجوب مشروطا
بحضور الإمام (ع)، نظير شرطية الحضور لوجوب الجمعة عينا أو مطلقا
فالمرجع فيه أيضا، إلى البراءة مطلقا للفقيه وغيره. وهاتان الصورتان
خارجتان عن حريم البحث، لأن الشك فيهما شك في أصل إرادة ايجاده
في الخارج مطلقا، أو من غير الفقيه.
إذا عرفت ذلك، ظهر لك أن المهم في المقام هو النظر في أدلة
النيابة من حيث استفادة العموم منها وعدمه، فنقول: إن ما يتوقف على
إذن الإمام عليه السلام: إن لم يكن لصرف تعظيمه وجلالته ومحض المكرمة
232

له، بل كان من حيث رياسته الكبرى على كافة الأنام الموجب للرجوع
إليه في كل ما يرجع إلى مصالحهم المتعلقة بأمور معادهم أو معاشهم ودفع
المضار عنهم وتوجه الفساد إليهم مما يرجع فيه المرؤسون من كل ملة إلى
رؤسائهم إتقانا للنظام المعلوم كونه مطلوبا مدى الليالي والأيام، فلا بد من
استخلاف من يقوم مقامه في ذلك حفظا لما هو المقصود من النظام وحينئذ
فأما أن يكون المنصوب من قبله هو كل من يقدر عليه من غير اختصاص
ببعض دون بعض، أو يكون صنفا خاصا منه. وعلى الثاني: فأما أن
يكون هم الفقهاء، أو طائفة مخصوصة غيرهم، والأخير باطل قطعا،
لعدم الدليل عليه، بل ولا الإشارة منه إليه. والأول مستلزم لكفاية نظر
المريد لايجاده في الخارج والاستغناء عن نظر من يكون نظره مكملا ومعتبرا
في تصرف غيره، وهو مناف للفرض من أناطته بنظر الإمام من حيث
رياسته الذي مرجعه إلى التوقف على انضمام نظر الرئيس والاحتياج إليه.
فتعين كون المنصوب هو الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة مع ظهور
بعض الأدلة المتقدمة في ذلك، كقوله عليه السلام: " وأما الحوادث
الواقعة " وقوله: " مجاري الأمور بيد العلماء " وقوله: " هو حجتي
عليكم، وجعلته حاكما " فإن المتبادر منها عرفا استخلاف الفقيه على الرعية
وإعطاء قاعدة لهم كلية بالرجوع إليه في كل ما يحتاجون إليه في أمورهم
المتوقفة على نظر الإمام، وإن وقع السؤال في بعضها عن بعض الحوادث
إلا أن الألف واللام في الجواب ظاهرة في الجنس بقرينة المقام وسوقه مساق
ما هو كالصريح في العموم بإرادة كل أمر من الجميع المحلى في قوله:
" مجاري الأمور " مما يكون من شأنه الجريان على نظر الإمام عليه السلام.
نعم لو شك في جهة اعتبار نظره بين كونه شرطا تعبدا الموجب للاقتصار
فيه عليه، أو من حيث رياسته الموجب للاستخلاف فيه كان المرجع في وجوب
233

الرجوع إلى الفقيه هو البراءة هذا مضافا إلى غير ما يظهر لمن تتبع فتاوى
الفقهاء في موارد عديدة كما ستعرف في اتفاقهم على وجوب الرجوع
فيها إلى الفقيه مع أنه غير منصوص عليها بالخصوص، وليس إلا لاستفادتهم
عموم الولاية له بضرورة العقل (1) والنقل (2)، بل استدلوا به عليه،
بل حكاية الاجماع عليه فوق حد الاستفاضة، وهو واضح بحمد الله تعالى
لا شك فيه ولا شبهة تعتريه، والله أعلم.
وأما الكلام في موارد ثبوت الولاية له التي قد تقدمت الإشارة
إليها مجملا:
فمنها الصغير والمجنون، فإن الولاية عليهما ثابتة للحاكم ما لم يكن
لهما ولي مقدم عليه في المرتبة (3) بضرورة العقل (4) المؤكد بالنقل (5)

(1) فإن العقل كما يحكم بضرورة نصب الولاية للنبي والأئمة (ع)
لاستقامة النظام الديني والدنيوي، كذلك يحكم بضرورة نصب من يقوم
مقام الإمام (ع) عند غيبة لنفس العلة. وهذا المعنى من المستقلات العقلية
التي لا ريب فيها.
(2) كما عرفت آنفا من استعراض الروايات الكثيرة الظاهرة في هذا
المعنى من الولاية.
(3) وهم الأب والجد له، والوصي المنصوب من قبلهما.
(4) فإن العقل يستقل بالحكم بضرورة نصب من يرعى شؤونهما النفسية
والمالية بحكم قصورهما عن ذلك وحيث لا يوجد لهما ولي ذاتي أو
منصوب من قبله فلا مناص من إناطة الأمر إلى الحاكم الشرعي لأنه ولي
من لا ولي له كما اشتهر ففي الحديث النبوي.
(5) فمن الكتاب مفهوم قوله تعالى: كما في سورة النساء:
" وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا
إليهم أموالهم " والرشد على ما هو المشهور العقل والتدبير. فتكون
الآية شاهدا لضرورة الولاية عليهما: إما من قبل وليهما النسبي أو المنصوب
من قبلهما أو من قبل الشرع والضرورة القطعية وهو الحاكم. ومن السنة
عموم الحديث النبوي المشهور: " السلطان ولي من لا ولي له ". وهو شامل
لولاية الحاكم لكل من الصغير والمجنون مع فقد وليهما الأولي. والروايات
عن أهل البيت عليهم السلام في هذا المعنى كثيرة تذكر في كتاب الوصايا
والنكاح والحجر كما سيأتي ذكرها في المتن.
234

فله التصرف في نفوسهم مما يوجب حفظها وترتيبها، حسبما تقتضيه مصالحهم
التي منها الايجار والاستيجار، فضلا عن أموالهم ونحوها مما يرتبط بهم
من الحقوق وغيرها (1) فله أنحاء التصرف فيها مراعيا فيه المصلحة لهما
ولو بجلب المنفعة، فضلا عن دفع المضرة وفي تعيين الأصلح أو كفاية
الصلاح؟ وجهان: ولعل الأخير هو الأقوى (2).

(1) نحو حقوقهم الاعتبارية كحق الشفعة والخيار والفسخ بالخيار
ودعوى الغبن والاحلاف ورد الحلف وحق القصاص بالدم والجنايات
وإقامة البينات وجرح الشهود وغير ذلك مما يرتبط بشؤونهم الاعتبارية
فضلا عن نفوسهم وأموالهم.
(2) والمراد بالأخير: هو كفاية محض الصلاح، ولا ضرورة إلى
توخي الأصلح لهما كما عليه المشهور ولعله لاطلاقات أدلة الولاية وصدق
السلطنة والرعاية، ولكن القدر المتيقن من الاجماع ودليل العقل: توخي
الأصلح لهما في مورد التعارض بينه وبين محض الصلاح. وبذلك تقيد
إطلاقات الأدلة النقلية غير المثبتة لذلك، فرعاية الأصلح، إن لم تكن
أقوى، فلا أقل من الاحتياط.
235

ومنها الولاية على الغائب في أمواله في الجملة (1)، فإن القدر
الثابت أن له التصرف فيها ولاية ببيع ونحوه إذا تسارع إليه الفساد ونحوه
مما يوجب بقاؤه الضرر عليه، أو استيفاء حق للغير مستحق عليه، يتوقف
استيفاؤه منه ولو ببيع ونحوه، لما دل على ولايته على الممتنع عن أداء الحق
عليه (2) بعد اتحاد المناط بينهم من امتناع ايصال الحق إلى مستحقه، من
غير فرق في الامتناع بين كونه قهرا أو عن اختيار، إلا في الإثم وعدمه،
مضافا إلى ما دل عليه غيره من الأدلة (3) وتعطيل الاستيفاء إلى وقت
الحضور ضرر منفي لا يجب تحمله. وكذا الولاية على قبض ما يستحقه
الغائب على من عليه الحق منه إن أراد دفعه إليه للتخلص عنه ما لم يكن له
وكيل على قبضه ولو بنحو العموم وإنما يتعين كونه له بقبضه إياه منه
لا قبله إن كان دينا ونحوه من المثليات في بدل الغرامات.

(1) والغائب كما يظهر من تضاعيف ما ذكره الفقهاء في الباب
نوعان: أحدهما المفقود خبره مطلقا، ويشمل الضائع في البلدان أو في
بلاده الواسعة الأطراف، والضال الطريق، والمنقطع الذي تعطلت به
واسطة الايصال ولم بعلم خبره، والمفقود في المعركة والأسير، ومطلق
الغائب المجهول الجهة. والثاني الغائب المعلوم الخبر ولكن غيبته مجهولة
الأمد، مع طول المدة، والظاهر شمول الولاية في الجملة لكلا النوعين
كما يظهر من عموم مناطات الأدلة الواردة في بعض الفروع، بالإضافة إلى
الاطلاقات الشاملة.
(2) كما سيأتي بيان ذلك من قبل المصنف قريبا.
(3) كمرسلة جميل بن دراج عن أحدهما عليهما السلام: قالا:
" الغائب يقضي عليه إذا قامت عليه البينة ويباع ماله، ويقضي دينه، وهو
غائب.. " وغيرها من الروايات بهذا المضمون في باب القضاء.
236

وأما في غير ذلك فليس له ولاية التصرف، وإن كان له فيه المصلحة
وإلا لجاز التصرف للحاكم في أموال الغيب والتقلب فيها للاسترباح لهم
المقطوع بعدم جوازه، للأصل، وقاعدة المنع عن التصرف في مال الغير
إلا بإذنه. والتشبث للجواز بدليل الاحسان (1) من الوهن بمكان، وإلا
لجاز في الحاضر أيضا، لأنه إحسان عليه، بل ومع منعه عنه، لم يذهب
إليه وهم فضلا عن القول به.
نعم يجب عليه حفظه، لا من باب الحكومة والسياسة، بل للإذن
المستفاد بشاهد الحال، أو لقاعدة نفي الضرر الموجب لوجوبه كفاية على
كل من يقدر عليه وإن كان غير الحاكم، سواء تعلق الحفظ بالعين أم
بالمنفعة، ولعل جواز البيع فيما يتسارع إليه الفساد من ذلك أيضا، لرجوعه
إلى حفظه ولو بحفظ ماليته، فيجب عليه كفاية، لا ولاية فتأمل، من
غير فرق في المنع عن التصرف فيما ذكرنا بين أقسام الغيب حتى المجهول
ماله المفقود أثره، فلا ينصرف في أمواله، ولو بالقسمة بين ورثته حتى
بعد الفحص عنه واليأس منه، على الأقوى، وعليه العظم كما في
(المسالك) (2) للأصل ولزوم تعطيل حق الوارث فرع تحقق كونه مالكا
بالإرث وتنزيل الظن بالموت بعد الفحص منزلة اليقين بعد تسليمه كما
ستعرف مخصوص بما دل على اعتباره في خصوص بينونة الزوجة:

(1) انطلاقا من قوله تعالى: ".. وأحسنوا إن الله يحب المحسنين "
كما في سورة البقرة آية 195
(2) مسالك الأفهام في شرح شرائع الاسلام للشهيد الثاني قده
كتاب الفرائض، المسألة الثامنة من مسائل ثمانية: المفقود يتربص بماله.
تعليقا على قول المحقق (وقال في الخلاف: لا يقسم حتى تمضي مدة
لا يعيش مثله إليها) قال: " هذا هو الأقوى تمسكا بالأصل وعليه المعظم ".
237

أما بالطلاق أو أمرها بالاعتداد بعدة الوفاة من غير توقف على الطلاق،
فإن الولاية ثابتة له في ذلك باتفاق النص والفتوى إلا من الحلي رحمه الله
في زمن الغيبة.
وتفصيل القول فيه: هو أن للمرأة المفقود زوجها المقطوع أثره: إن
كان هناك من ينفق عليها، أو صبرت على ما هي عليه، فلا بحث، وإن
لم يكن من ينفق عليها ولم تصبر رفعت أمرها إلى الحاكم فأجلها أربع سنين
وفحص عن حاله في المدة المزبورة في الجهات المحتمل كونه فيها، فإن لم
يعلم حاله في مدة الأجل أمرها الحاكم بالاعتداد أربعة أشهر وعشرة أيام
ثم هي تحل للأزواج من غير توقف على الطلاق كما هو ظاهر المحقق في
الشرايع (1) وغيره تنزيلا للظن بالموت بعد الفحص منزلة اليقين به بالنص
أو أمر وليه بالطلاق، فإن لم يكن أو كان، ولم يطلق، طلقها الحاكم على
الأشهر الأظهر من اعتبار الطلاق في الفرقة، جمعا بين الأخبار بحمل مطلقها
على مقيدها. نعم عن (الحلي) سقوط هذا الفرع من أصله في زمن الغيبة
وأنها مبتلاة فيه وعليها الصبر إلى أن يعرف موته أو طلاقه (2).

(1) قال في كتاب الطلاق، المقصد الخامس في العدد، الفصل
الخامس في عدة الوفاة " والمفقود إن عرفت خبره إلى قوله: وإن
لم يعرف خبره أمرها (أي الحاكم) بالاعتداد عدة الوفاة ثم تحل للأزواج ".
(2) ففي السرائر كتاب الطلاق، باب العدد، بعد الكلام عن
عدة الوفاة يقول: " وأما ما يجري مجرى الموت فشيئان: أحدهما غيبة
الزوج التي لا تعرف الزوجة معها له خبرا ولا لها نفقة وبعد عرض المسألة
وحكمها كما في المتن يقول: " وهذا حكم باطل في حال غيبة الإمام (ع)
وقصور يده، فإنها مبتلاة، وعليها الصبر إلى أن تعرف موته أو طلاقه
على ما وردت به الأخبار عن الأئمة الأطهار ".
238

وهو على أصله حسن حيث لم يعمل بأخبار الآحاد ويؤيده
النبوي المروي: " تصبر امرأة المفقود حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه "
وخبر السكوني: " عن جعفر عن أبيه عليهما السلام: إن عليا (ع):
قال: في المفقود لا تتزوج امرأته حتى يبلغها موته أو طلاق أو لحوق
بأهل الشرك " (1).
وهما مع ضعف سندهما محمولان على غير مورد الأخبار الواردة في
هذا المضمار التي منها موثقة سماعة: " سألته عن المفقود، فقال: إن
علمت أنه في أرض فهي تنتظر له أبدا حتى يأتيها موته أو يأتيها طلاقه،
وإن لم تعلم أين هو من الأرض كلها ولم يأتها منه كتاب ولا خبر، فإنها
تأتي الإمام فيأمرها أن تنتظر أربع سنين، فيطلب في الأرض فإن لم يجد له
أثرا حتى تمضي أربع سنين أمرها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا، ثم تحل
للأزواج، فإن قدم زوجها بعدما تنقضي عدتها فليس له عليها رجعة. وإن
قدم وهي في عدتها أربعة أشهر وعشرا، فهو أملك برجعتها " (2) وظاهرها
الاكتفاء بالأمر بالاعتداد من غير توقف على الطلاق.
ومنها صحيحة الحلبي: " سئل أبو عبد الله عليه السلام: عن
المفقود؟ قال: المفقود إذا مضى له أربع سنين بعث الوالي أو يكتب إلى
الناحية التي هو غائب فيها، فإن لم يجد له أثرا أمر الوالي وليه أن ينفق
عليها، فما أنفق عليها فهي امرأته، قال قلت: فإنها تقول: إني أريد
ما تريد النساء: قال: ليس لها ذلك ولا كرامة، فإن لم ينفق عليها وليه

(1) الوسائل كتاب الطلاق باب 23 حكم طلاق زوجة المفقود
حديث (3).
(2) الكافي للكليني، كتاب الطلاق باب المفقود حديث (4).
239

أو وكيله أمر بأن يطلقها، وكان ذلك عليها طلاقا " (1).
ومنها صحيح بريد: " سألت أبا عبد الله عليه السلام: عن المفقود
كيف يصنع بامرأته؟ قال: ما سكتت وصبرت يخلى عنها، فإن هي رفعت
أمرها إلى الوالي أجلها أربع سنين، ثم يكتب إلى الصقع الذي فقد فيه
فليسأل عنه، فإن خبر عنه بحياة صبرت، وإن لم يخبر عنه بشئ حتى
تمضي الأربع سنين دعا ولي الزوج المفقود، فقيل له: هل للمفقود مال؟
قال: فإن كان له مال أنفق عليها، حتى يعلم حياته من موته، وإن لم يكن
له مال قيل للولي: انفق عليها، فإن فعل فلا سبيل لها أن تتزوج،
ما أنفق عليها، وإن أبى أن ينفق عليها أجبره الوالي على أن يطلق تطليقة
في استقبال العدة وهي طاهر، فيصير طلاق الولي طلاق الزوج، فإن جاء
زوجها من قبل أن تنقضي عدتها من يوم طلقها الولي فبدا له أن يراجعها
فهي امرأته، وهي عنده على تطليقتين، وإن انقضت العدة قبل أن يجيئ
أو يراجع فقد حلت للأزواج ولا سبيل للأول عليها " (2).
ومنها مرسلة الفقيه، وفيه: " وفي رواية أخرى: إن لم يك للزوج
ولي طلقها الوالي، ويشهد شاهدين عدلين، فيكون طلاق الولي طلاق
الزوج، وتعتد أربعة أشهر وعشرا، ثم تتزوج إن شاءت " (3).
ومنها خبر أبي الصباح: " عن أبي عبد الله عليه السلام: في امرأة
غاب عنها زوجها أربع سنين، ولم ينفق عليها ولم تدر حي هو أم ميت؟

(1) في الوسائل المصدر الآنف حديث (4). وفي آخره:
طلاقا واجبا.
(2) الوسائل، كتاب الطلاق باب 23 حكم طلاق زوجة المفقود
حديث (1).
(3) المصدر الآنف الذكر من الوسائل حديث (2).
240

أيجبر وليه على أن يطلقها؟ قال: نعم، وإن لم يكن ولي طلقها السلطان
قلت فإن قال الولي: أنا أنفق عليها؟ قال: فلا يجبر على طلاقها، قال
قلت: أرأيت إن قالت: أنا أريد ما تريد النساء ولا أصبر ولا أقعد كما أنا؟
قال: ليس لها ذلك، ولا كرامة إذا أنفق عليها " (1).
والجمع بينها موجب لاعتبار الطلاق إلا أن عدتها عدة الوفاة على
القولين تعبدا بالنص المقدر لها ذلك.
(واحتمال) كون وجه الجمع بين الطلاق وكون عدتها عدة الوفاة
هو احراز ما يوافق الواقع من كونه إما ميتا، فالعدة عدة الوفاة، وإما
حيا فالفرقة بالطلاق، وعدة الوفاة مشتملة على عدة الطلاق وتظهر الثمرة
فيما لو آب فيما بين العدتين لم يملك رجوعها لانكشاف الواقع بانقضاء عدتها
(حسن) لولا أنه اجتهاد في مقابل النص المصرح في مضمر سماعة بما لو
قدم وهي في عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام كان أملك برجعتها، الشامل
لما لو كان وقت قدومه بين زمن العدتين، فلا مندوحة عن الالتزام تعبدا
بكون عدة هذا الطلاق بخصوصه مساوية لعدة الوفاة.
هذا، ولعل المراد بالولي المأمور من الحاكم بالطلاق: هو من كان
متصرفا بالولاية الإذنية، لا خصوص الوكيل لمنافاته لعطفه عليه في الصحيحة
المتقدمة، فلا ينافي عطفه عليه لكونه أخص منه، أو الأولى بميراثه من
أولي الأرحام، أو الولي الاجباري باعتبار سبق ولايته في حال الصغر،
وإن زالت عنه في الكبر.
وكيف كان، فإن رجع بعد انقضاء العدة أربعة أشهر وعشرة أيام
كان أجنبيا لم يملك الرجوع بها، تزوجت بغير أم لا، وإن رجع في

(1) الوسائل، المصدر الآنف الذكر حديث (5) وفي الكافي: كتاب
الطلاق، باب المفقود حديث (3).
241

في أثنائها مطلقا، كان أملك برجعتها.
ومنها الولاية على المحجور عليه. وهو: لجنون أو لسفه أو
لصغر بالنسبة إلى نكاحهم.
أما المحجر عليه للجنون مع مسيس الحاجة الضرورية إليه، وكان له
صلاحا، فجملة صوره هي أنه: لا يخلو: إما أن لا يكون لهما (1) ولي
اجباري من الأب أو الجد له، أو كان. وعلى التقديرين: فأما أن لا يكون
جنونهما متصلا بالبلوغ، بل تجدد وطرء عليه بعده، أو كان متصلا به.
وعلى التقادير: فإما أن يكون جنونه إطباقيا أو أدواريا يجن في وقت
ويفيق في آخر.
أما إذا لم يكن لهما ولي ومسته الضرورة إليه وكان اطباقيا، فلا
اشكال في كون الولاية حينئذ للحاكم مطلقا، تجدد جنونه بعد بلوغه أو بلغ
مجنونا، بل لعل الاجماع بقسميه عليه.
وأما لو كان له ولي وكان الجنون طارئا عليه بعد البلوغ والرشد،
فالأقوى ولعله الأشهر كون الولاية فيه له أيضا، دون الولي الاجباري
لانقطاع ولايته بالبلوغ والرشد. (ودعوى) كون الولاية ذاتية لهما
باقتضاء الأبوة والجدودة ذلك، غير أن البلوغ مانع عنه فتعود بطروه عليه
(موقوفة) على استفادة ذلك من الأدلة، ودونها خرط القتاد، فالولاية
للحاكم، لأنه ولي من لا ولي له. نعم إذا اتصل جنونه ببلوغه أشكل
الحكم بانقطاع ولايته بمجرد البلوغ مع اقتضاء الأصل بقاءها، بناء على
جريان الاستصحاب، فيما لو كان الشك في المقتضي، مع ظهور آية
.

(1) الملاحظ أن الضمائر في التقسيم تثنى وتفرد بلحاظي الذكر
والأنثى، أو المحجر عليه، والمقصود واحد
242

(الايناس) (1) في ذلك وإن كان موردها المال، لتعليق الحكم بالدفع
على البلوغ وايناس الرشد القاضي بعدمه والحبس عنه بانتفاء أحدهما،
والمخاطب بالدفع بعد تحقق الشرطين بمقتضى السياق هو المخاطب بالحبس
قبله، وهو الولي الاجباري المقدم على غيره مع وجوده مراعاة الإذن
منهما في هذه الصورة، بل وفي ما قبلها أيضا هو الأحوط.
هذا إذا كان الجنون إطباقا، وأما إذا كان أدوارا، فقد صرحوا بعدم
الولاية لأحد عليه، بل ينتظر به إلى وقت الصحة ويوكل فيه إلى نفسه
وبالجملة: يظهر من اعتباراتهم اعتبار الأمرين: مسيس الحاجة إلى النكاح
وكون الجنون إطباقا، مع أن الأول يغني عن الثاني إن كانت الحاجة في
مجموع الوقتين، لعدم المسيس إليه في دور الجنون وإن كان جميعهما
فلا وجه للانتظار به إلى دور الإفاقة بعد تنزيل الولي منزلته، بل يزوجه
فيه دفعا للضرورة عنه وإن كان أدواريا.
وأما المحجور عليه للتبذير كالسفيه: فأما أن لا يستلزم نكاحه اتلافا
لما له، أو يستلزم وعلى التقديرين: فأما أن لا تكون له بالنكاح حاجة
ضرورية، أو تكون.
فإن لم يستلزم ذلك صح نكاحه بنفسه مطلقا، وإن لم تكن له به
حاجة، لأنه ليس محجورا إلا في ماله الذي ليس النكاح منه.
وإن استلزم ذلك غير أنه لا ضرورة تحوجه إليه لم يصح نكاحه،
وإن أذن له الولي، لعدم الضرورة المسوغة لاتلاف ماله بعد الحجر عليه
للحفظ له.

(1) وهي قوله تعالى: " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن
آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها اسرافا وبدارا أن يكبروا "
سورة النساء آية / 4.
243

وإن كان له به حاجة يتضرر بتركه كانت الولاية فيه للحاكم مع فقد
الأولى منه، كما صرح به غير واحد من الأصحاب، قال في (المبسوط)
" وإن كان محجورا عليه بسفه، نظرت: فإن لم يكن به حاجة إلى النكاح
لم يكن لوليه تزويجه إلى أن قال: وإن كانت به حاجة إليه بأن
يطالبه وعرف من حاله الحاجة فعلى وليه أن يزوجه، لأنه منصوب للنظر
إلى مصالحه " (1). وقال في (الشرايع): " والمحجور عليه للتبذير
لا يجوز له أن يتزوج غير مضطر، ولو أوقع كان العقد فاسدا، فإن اضطر
إلى النكاح جاز للحاكم أن يأذن له، سواء عين الزوجة أو أطلق، ولو
بادر قبل الإذن والحال هذه صح العقد، فإن زاد في المهر عن
المثل بطل في الزائد " (2). وإذا زوج الأجنبي وقف على إجازة من إليه
العقد وقيل: يبطل، والأول أظهر. وقال في (القواعد): " والمحجور
عليه للسفه لا يجوز له أن يتزوج إلا أن يكون مضطرا إليه، فإن تزوج من
غير حاجة كان العقد فاسدا، ومع الحاجة يأذن له الحاكم فيه " (3) انتهى
فلو استقل به والحال هذه بطل عقده لاستلزامه التصرف في ماله
الممنوع عنه بالحجر عليه من المهر والنفقات، مضافا إلى مفهوم صحيحة
الفضلاء: " عن أبي جعفر عليه السلام قال: المرأة التي قد ملكت نفسها
غير السفيهة ولا المولى عليها تزويجها بغير ولي جائز " (4) ويتم في السفيه

(1) راجع: كتاب النكاح من (مبسوط الشيخ) أوائل: فصل في
ذكر أولياء المرأة.
(2) أوائل الفصل الثالث في أولياء العقد. من كتاب النكاح.
(3) راجع: قواعد العلامة، كتاب النكاح، الفصل الثاني في
الأولياء.
(4) المراد بالفضلاء هم الأربعة الموثقون: الفضل بن يسار ومحمد
ابن مسلم وزرارة بن أعين وبريد بن معاوية. والصحيحة مذكورة بسندها
ونصها في الوسائل كتاب النكاح، باب 3 حديث (1).
244

بعدم القول بالفصل بينه وبين السفيهة، فتأمل. فلو استقل فيه بنفسه
والحال هذه بطل عقده على الأقوى، لكون الولاية فيه للحاكم لما
ذكرنا، لا لما توهم من التلازم بين ولاية النكاح وولاية المال، لانتقاضه
بالمفلس وطلاق زوجة المفقود.
ويحتمل كما قيل الصحة، لأنه بنفسه ليس تصرفا ماليا، والمهر
غير لازم في العقد بنفسه، والنفقة تابعة كتبعية الضمان للاتلاف.
وفيه: إن صحة العقد مع عدم المهر أو فساده لا ينفي لزوم الخسارة في
ماله، وقياس تبعية النفقة للنكاح بتبعية الزمان للاتلاف، قياس مع الفارق
لأن الضمان مرتب على تحقق الاتلاف في الخارج وإن كان محرما، والنفقة
مرتبة على العقد الصحيح وهو لاستلزامه التصرف في المال يقع فاسدا
لا تأثير له. وأما الكلام فيه بالنسبة إلى وليه الاجباري، فهو الكلام في
المجنون بالنسبة إليه حرفا بحرف.
وأما المحجور عليه للصغر فلم أعثر على من صرح بثبوت الولاية عليه
للحاكم في نكاحه، وإن نسب القول بالعدم في (الروضة) و (الرياض)
إلى المشهور في الأول، وإلى الأشهر في الثاني (1) إلا أن ظاهر الأصحاب

(1) قال: الشهيد الثاني في الروضة: كتاب النكاح، أوائل الفصل الثاني
في العقد في شرح قول الشهيد الأول في اللمعة: " والحاكم والوصي يزوجان
من بلغ فاسد العقل " قال: " ولا ولاية لهما على الصغير مطلقا في المشهور "
وقال: السيد الطباطبائي في الرياض، كتاب النكاح في فصل أولياء العقد
شارحا عبارة (المختصر النافع للمحقق): " ولا يزوج الوصي إلا من بلغ
فاسد العقل. وكذا الحاكم " معلقا على الفقرة الأولى هكذا: ولا يزوج
الوصي للأب والجد صغيري الموصي مطلقا على الأشهر كما في المسالك:
وهو الأظهر " وعلى الفقرة الثانية هكذا: وكذا الحاكم. فلا يزوج
الصغيرين مطلقا في المشهور " فالملاحظ إن كلمة الأشهر وردت في الوصي
لا في الحاكم كما يقول السيد المتن فلاحظ.
245

كما في (الحدائق) وغيره (1) اتفاقهم عليه، بل الذي يظهر منهم
كونه من المسلمات عندهم حتى أن من تنظر فيه إنما تنظر في الدليل
كما ستعرف.
قال: في (المبسوط) فيما حضرني من نسخته: " النساء على ضربين
عاقلة، ومجنونة، فإن كانت مجنونة، نظرت: فإن كان لها أب أو جد
كان لهما تزويجها صغيرة أو كبيرة بكرا كانت أو ثيبا فإن لم يكن
لها أب ولا جد ولها أخ أو ابن أخ أو عم أو ابن عم أو مولى نعمة فليس
له إجبارها بحال صغيرة أو كبيرة بكرا كانت أو ثيبا بلا خلاف،
ولا يجوز للحاكم تزويجها. وعند المخالف: للحاكم تزويجها، إن كانت كبيرة
بكرا كانت أو ثيبا إلى أن قال: وإن كانت عاقلة، نظرت: فإن
كان لها أب أوجد أجبرها، إن كانت بكرا صغيرة كانت أو كبيرة
وإن كانت ثيبا كبيرة لم يكن لهما ذلك وإن كانت ثيبا صغيرة كان لهما
ذلك. وفيهم من قال: ليس لهما ذلك على حال. وإن كان لها أخ أو
ابن أخ أو عم أو ابن عم أو مولى نعمة لم يكن له تزويجها صغيرة بحال
وإن كانت كبيرة كان له تزويجها بأمرها بكرا كانت أو ثيبا والحاكم

(1) قال: الشيخ البحراني قدس سره في الحدائق الناضرة
أوائل كتاب النكاح، في ولاية الحاكم: " وتثبت ولايته على من تجدد
جنونه أو سفهه بعد البلوغ من غير اشكال عندهم ولا خلاف وتنتفي عن
الصغير مطلقا عند الأصحاب ".
246

في هذا كالأخ والعم سواء في جميع ما قلناه، إلا في المجنونة الكبيرة فإن
له تزويجها وليس للأخ والعم ذلك. ثم قال: فهذا ترتيب النساء على
الأولياء: فإن أردت ترتيب الأولياء على النساء قلت: الأولياء على ثلاثة
أضرب: أب وجد، وأخ وابن أخ وعم وابن عم ومولى نعمة، والحاكم:
فإن كان أب أو جد وكانت مجنونة أجبرها، صغيرة كانت أو كبيرة
ثيبا كانت أو بكرا. وإن كانت عاقلة أجبرها إن كانت بكرا، صغيرة
كانت أو كبيرة، وإن كانت ثيبا لم يجبرها صغيرة عندهم، وعندنا: إن
لهما اجبارها إذا كانت صغيرة، وله تزويجها بإذنها إذا كانت كبيرة، فإن
كان لها أخ وابن أخ وعم وابن عم ومولى نعمة لم يجبرها أحد منهم،
صغيرة كانت أو كبيرة بكرا كانت أو ثيبا عاقلة كانت أو مجنونة، والحاكم
يجبرها إذا كانت مجنونة، صغيرة أو كبيرة، وإن كانت عاقلة فهو
كالعم " (1) انتهى.
ولعل كلامه هنا في الصغيرة المجنونة بالنسبة إلى ولاية الحاكم عليها
ينافي كلامه المتقدم فيها فلاحظ (2). وعنه في (التبيان): " لا ولاية لأحد
عندنا إلا للأب والجد على البكر غير البالغ فأما من عداهما فلا ولاية
له " (3) انتهى وهو بالنسبة إلى الصغيرة غير البكر مسكوت عنه،

(1) راجع ذلك من المبسوط: كتاب النكاح في أوائل: فصل في
ذكر أولياء المرأة..
(2) أي كلامه في العبارتين مختلف بالنسبة إلى الصغيرة المجنونة
ففي العبارة الأولى يقول: " ولا يجوز تزويجها.. " أي مطلقا، وأخيرا
يقول: " والحاكم يجبرها إذا كانت مجنونة صغيرة أو كبيرة ".
(3) بهذا المضمون ذكر في تبيان الشيخ في تفسير الآيات الأولى من
سورة النساء.
247

عاقلة كانت أو مجنونة. نعم بالنسبة إلى البكر الصغيرة، عاقلة كانت
أو مجنونة، ظاهرة الاجماع على عدم الولاية لغير الأب والجد له، وإن
كان الحاكم.
وقال في (السرائر) " عندنا: أنه لا ولاية على النساء الصغار
اللاتي لم يبلغن تسع سنين، إلا للأب والجد من قبله " (1) انتهى. وهو
ظاهر في الاجماع على اختصاص الولاية على الصغيرة بالأب والجد له.
وقال في (التذكرة) في ولاية السلطنة: " المراد بالسلطان هنا الإمام
العادل أو من يأذن له الإمام، ويدخل فيه الفقيه المأمون القائم بشرائط
الاقتداء والحكم، وليست ولايته عامة، وليس له ولاية على الصغيرين ولا
على من بلغ رشيدا، ذكرا كان أو أنثى إلى أن قال في المسألة الثالثة
قد بينا أنه ليس للسلطان ولاية في تزويج الصغائر وبه قال الشافعي، خلافا
لأبي حنيفة فإنه قال: له تزويجها إلا أنه لا يلزم، فإذا بلغت كان لها
الرد، بخلاف تزويج الأب والجد، وعلى هذا التفسير فهو موافق لمذهبنا لأنه
فضولي لا فرق بينه وبين الأجنبي " (2).
وقال في (الشرايع): " ولو زوج الصغيرة غير الأب والجد
توقف على رضاها عند البلوغ وكذا في الصغير " انتهى، وقال: مثله في
(النافع) (3).

(1) السرائر لابن إدريس الحلي، ذكر ذلك في أوائل كتاب النكاح
باب من يتولى العقد على النساء.
(2) راجع ذلك في تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي، أوائل كتاب
النكاح، البحث الثاني في أسباب الولاية الخمسة، السبب الرابع:
السلطنة:
(3) لم نجد في الشرائع هذه العبارة بنصها في الفصل الثالث في
أولياء العقد من كتاب النكاح، بل الموجود مضمونها، ولكنها بنصها
موجودة في نفس الباب من (المختصر النافع) للمحقق نفسه.
248

وقال في (القواعد): " وأما الحكم فإن ولاية الحاكم تختص في
النكاح على البالغ فاسد العقل أو من تجدد جنونه بعد بلوغه، ذكرا كان
أو أنثى، مع الغبطة، فلا ولاية له على الصغيرين، ولا على الرشيدين،
وتسقط ولايته مع وجود الأب أو الجد له " (1).
وقال الكركي في شرحه بعد ذكره المراد من الحاكم: " إذا تقرر
ذلك فولاية الحاكم في النكاح إنما تثبت على من بلغ فاسد العقل أو تجدد
فساد عقله بعد البلوغ، ذكرا كان أو أنثى، إذا كان النكاح صلاحا له " (2).
وقال في (الحدائق): " وتنتفي أي ولاية الحاكم عن الصغير
مطلقا عند الأصحاب " (3).
وقال في (المسالك): " وقد ذكر المصنف وغيره: أنه لا ولاية
للحاكم على الصغير مطلقا، وعللوه بأنه لا حاجة له إلى النكاح، والأصل
عدم ثبوت ولايته فيه ولا يخلو من نظر، إن لم يكن اجماعيا " (4).
وقال: سبطه السيد السند في (شرحه على النافع): " وهذا التفصيل
أعني اختصاص ولايته بمن بلغ فاسد العقل هو المعروف من مذهب الأصحاب

(1) يراجع من قواعد العلامة: الفصل الثاني في الأولياء من كتاب
النكاح.
(2) جامع المقاصد للمحقق الكركي، أوائل كتاب النكاح، في
أولياء العقد.
(3) نقلنا نفس العبارة عنه آنفا.
(4) راجع ذلك في خلال الفصل الثالث في أولياء العقد من كتاب
النكاح من مسالك الأفهام في شرح شرائع الاسلام للشهيد الثاني.
249

ولم نقف لهم في هذا التفصيل على مستند. والحق، أنه: إن اعتبرت
الاطلاقات والعمومات المتضمنة لثبوت ولاية الحاكم وجب القول بثبوت
ولايته في النكاح على الصغير والمجنون مطلقا كما في ولاية المال، وإلا
وجب نفيها كذلك. وأما التفصيل فلا وجه له، ولعلهم نظروا في ذلك
إلى أن الصغير لا حاجة له إلى النكاح، بخلاف من بلغ فاسد العقل،
وهو غير واضح، فإن الحاجة للكبير، وإن كانت أوضح، لكنها ليست
منتفية في حق الصغير، خصوصا الأنثى، والمسألة محل إشكال، وللنظر فيها
مجال " (1).
وقال في (الكشف): " ولا ولاية له على الصغيرين للأصل،
وعدم الحاجة فيهما، وفيه نظر ظاهر، فإن استند الفرق إلى الاجماع
صح، وإلا أشكل " (2) انتهى.

(1) يقصد بالسيد السند: السيد محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحسن
الموسوي الجبعي صاحب المدارك المتوفى سنة 1009 ه‍، العيلم المحقق،
تلمذ على أبيه تلميذ الشهيد الثاني وعلى المقدس الأردبيلي وغيرهما من
فحول الفقهاء. وكان الشهيد الثاني صاحب المسالك جده لأمه،
فلذلك غير عنه سيدنا في المتن بسبطه. من آثاره العلمية غير المدارك
شرح مفصل على المختصر النافع للمحقق الحلي، ولعله لم يزل من نفائس
المخطوطات. ولقد نقل نفس العبارة المشار إليها في المتن شيخنا المحقق
البحراني في حدائقه في باب (ولاية الحاكم).
(2) يقصد (كشف اللثام في شرح قواعد الأحكام) تأليف المحقق
محمد بن الحسن الأصبهاني الشهير بالفاضل الهندي المتوفى سنة 1137 ه‍ بأصبهان
والمدفون فيها. راجع هذه العبارة في كتاب النكاح منه، الفصل الثاني في
الأولياء، في قول العلامة: وأما الحكم فإن ولاية الحاكم تختص في النكاح.
250

قلت: والأقوى عندي: هو القول بالعدم. ويدل عليه بعد الأصل
مفهوم الأخبار المعتبرة التي: منها خبر محمد بن مسلم: " عن أبي جعفر
عليه السلام في الصبي يزوج الصبية: يتوارثان؟ قال: إذا كان أبواهما
اللذان زوجاهما فنعم " (1). ومنها خبر عبيد بن زرارة المروي في
(البحار: " عن أبي عبد الله عليه السلام في الصبي تزوج الصبية
هل يتوارثان؟ فقال: إن كان أبواهما اللذان زوجاهما حيين فنعم " (2)
ومنها صحيحة محمد بن مسلم: " قال سألت أبا جعفر عليه السلام
عن الصبي يتزوج الصبية؟ قال: إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم
جائز، ولكن لهما الخيار إذا أدركا، فإن رضيا بذلك فإن المهر على
الأب، قلت: فهل يجوز طلاق الأب على ابنه، في صغره؟ قال: لا " (3)
واشتمال ذيله على ما لا نقول به: من الخيار بعد الادراك لا يضر في الاستدلال
بصدره على المدعى ومنها ما رواه في (الكافي) في الصحيح (والتهذيب)
في الموثق: " عن أبي عبيدة الحذاء، قال: سألت أبا جعفر (ع):
عن غلام وجارية زوجهما وليان لهما، وهما غير مدركين فقال: النكاح
جائز، وأيهما أدرك كان له الخيار، وإن ماتا قبل أن يدركا، فلا ميراث

(1) تهذيب الشيخ الطوسي (قده)، كتاب النكاح باب 34 عقد
المرأة وأولياء الصبية حديث (32)، وتكملة الحديث، قلت: فهل يجوز
طلاق الأب؟ قال: لا ".
وفي الوسائل، كتاب الطلاق باب 33 من أبواب مقدمات يذكر
نص الحديث بسنده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (ع).
(2) ذكر ذلك في الوسائل، كتاب الفرائض باب 11 حديث (3)
بعدة أسانيد
(3) تهذيب الشيخ: كتاب النكاح باب 32 حديث (19).
251

بينهما، ولا مهر إلا أن يكونا قد أدركا ورضيا، قلت: فإن أدرك أحدهما
قبل الآخر؟ قال: يجوز ذلك عليه إن هو رضي، قلت: فإن كان
الرجل الذي أدرك قبل الجارية ورضي بالنكاح ثم مات قبل أن تدرك الجارية
أترثه؟ قال: نعم يعزل ميراثها منه حتى تدرك، فتحلف بالله ما دعاها
إلى أخذ الميراث إلا رضاها بالتزويج، ثم يدفع إليها المراث ونصف المهر
قلت: فإن ماتت الجارية ولم تكن أدركت: أيرثها الزوج المدرك؟ قال:
لا، لأن لها الخيار إذا أدركت، قلت: فإن كان أبوها هو الذي زوجها
قبل أن تدرك؟ قال: يجوز عليها تزويج الأب، ويجوز على الغلام،
والمهر على أب الجارية.. " (1) الخبر. واختصاص المورد بالأب،
وإن وقع في فرض السؤال، إلا أن مساقها مساق غيرها من الأخبار،
وذكر الأب قرينة إرادة غيره من الوليين المذكورين أولا، ولذا كان لهما
الخيار عند البلوغ لكونه حينئذ فضوليا موقوفا على الإجازة. ومنها رواية
داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام، فيها: " واليتيمة في
حجر الرجل لا يزوجها إلا برضاها " (2) بناء على إرادة البلوغ كناية
من المستثنى الشامل باطلاق المستثنى منه لما لو كانت في حجر الحاكم،
ويؤيد القول به كونه من المسلم عندهم، بل يمكن استفادة الاجماع عليه
من كلامهم، فإن الفاضل في (التذكرة) قال في البحث التاسع في
المولى عليه، في كتاب النكاح في المسألة الثانية: " المجنون الصغير
يجوز للأب والجد له أن يزوجاه مع المصلحة كالعاقل، وليس لغيرهما ذلك

(1) الكافي للكليني، كتاب المواريث باب ميراث الغلام والجارية
يزوجان: حديث (1). والتهذيب للطوسي كتاب النكاح، باب 32 عقد
المرأة وأولياء الصبية، حديث (31).
(2) التهذيب، كتاب النكاح باب 32 حديث (26).
252

من عصبة وسلطان اجماعا " (1) انتهى.
ونفي الولاية عن غيرهما في المجنونة الصغيرة بالاجماع يعطي نفيها
كذلك في الصغيرة الخالية عن الجنون بالأولوية التي كادت أن تكون قطعية
بل هي كذلك، لأن السبب الموجب للولاية في الصغيرة المجنونة أكثر منه
في الصغيرة المجردة عن الجنون. بل في (الرياض) صرح بالاجماع على
ما يشمله حيث، مزج قول مصنفه: ولو زوج الصغيرة غير الأب والجد
توقف على رضاها عند البلوغ، وكذا في الصغير، بقوله: اجماعا (2).
هذا مضافا إلى أن الولاية له، إن سلمت. فإنما هي فيما إذا اضطر
الصبي إلى النكاح بحيث يتضرر بتركه، والمفروض عدم الحاجة إلى الوطئ
لصغره حتى يتولاه الحاكم، دفعا للضرر عنه. وهذا بخلاف المجنون والسفيه
الممكن في حقهما الحاجة إليه والتضرر بتركه. (ودعوى) امكان فرض
الحاجة إليه لعدم انحصارها بالوطئ حتى يقال بانتفائها بالنسبة إليه كما في
(الجواهر) تبعا لغيره (واضحة) الضعف، إذ المصلحة الموجبة له:
أما أن تكون لجلب المنفعة له، أو لدفع المضرة عنه، فإن كان من القسم
الأول، فواضح، وإن كان من القسم الثاني فإنما يجب مقدمة، دفعا
للضرورة وجوب وجود ما يتوقف عليه ذو المقدمة من حيث الايجاد والعمل
لا من حيث السببية، ومقتضاه الاكتفاء فيه بالصورة الظاهرية التي لم يترتب
عليها أثر في الواقع.
وبالجملة: إذا توقف دفع الضرر عن الصغير في نفسه أو ماله على
انتسابه مثلا إلى ذي شوكة بالتزويج، ولم يكن التخلص بغيره،

(1) البحث التاسع من بحوث الركن الثاني في العاقد، وهي الزوجة
أو وليها، المسألة الثانية منه.
(2) راجع ذلك في أوائل الفصل الثاني في أولياء العقد.
253

وجب على الولي، وإن كان الحاكم، ايجاده بحسب الصورة، توصلا،
لعدم توقفه على النكاح الصحيح المؤثر لعلقة الزوجية في الواقع، إذ
ليس ذلك مشرعا له، كما لا يكون مشرعا ومسوغا في غيره كالمجبور على
البيع والطلاق ونحوهما، فإن بيع المجبور عليه والطلاق كذلك لا يؤثران
تمليكا ولا بينونة قطعا بالضرروة، بخلاف المجنون والسفيه، فإن
ضرورتهما غالبا تتعلق بالوطئ والمحرمية للخدمة ونحوها المتوقف دفعها على
صحيح النكاح لا صوريته، فالتعليل لعدم الولاية بما عللوه: من عدم
حاجة الصغير إلى النكاح متين جدا.
وأقصى ما يمكن أن يستدل به للقول بثبوتها له: عموم ما دل على ولاية
الحاكم المستفاد من نحو قوله صلى الله عليه وآله: " السلطان ولي من لا ولي له " وغيره
المراد به أنه قائم مقام الولي، حيث لا ولي غيره، مضافا إلى خبر أبي بصير
الوارد في تفسير: " من بيده عقدة النكاح " (1)، بل في صحيح ابن
سنان: " الذي بيده عقدة النكاح هو ولي أمرها " (2) وبذلك يقطع الأصل
المستدل به على النفي، ويخصص به، سيما بالنبوي منها عموم ما دل بالمفهوم
عليه، لأن النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص المطلق.
توضيح ذلك: إن ما دل بالمفهوم على نفي الولاية عن غير الأب والجد
له يعم الحاكم وغيره، وما دل على ولاية الحاكم أخص منه مطلقا من حيث
ذات الولي، وإن كان عاما في نفسه بالنسبة إلى متعلق الولاية، نكاحا

(1) الوسائل، كتاب النكاح، باب حديث (4) باسناده: " عن
أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن الذي بيده عقدة النكاح؟ قال:
هو الأب والأخ والرجل يوصي إليه، والذي يجوز أمره في مال المرأة
فيبتاع لها ويشتري ".
(2) المصدر نفسه حديث (2) بسنده عن عبد الله بن سنان.
254

كان أو غيره، بعموم حذف المتعلق، بناء على أن المنساق من النبوي
ونحوه: إن كل مورد يتعلق به ولاية الولي من الأب والجد والسلطان
قائم مقامه، ومنه النكاح بالنسبة إلى الصغير.
ولكن فيه ما لا يخفى: أولا إنه لا جابر نضيف سنده بعدما عرفت
من فتوى الكل أو الجل بالعدم وثانيا لا عموم له. من حيث المتعلق
بل هو من هذه الحيثية مهمل مسوق لاثبات الولاية في الجملة، ولأن
سلمنا عمومه من حيث المتعلق فالنسبة بينهما حينئذ نسبة العموم والخصوص
من وجه، لأن مفاد المفهوم: إن غير الأب لا ولاية له في نكاح الصغير
سلطانا كان أو غيره ومفاد الحديث، بناء على العموم: السلطان
له ولاية على المولى عليه في النكاح وغيره، واللازم حينئذ الرجوع إلى
المرجحات الخارجية الموجودة لعموم المفهوم، فيخصص بها عموم الحديث
المستفاد من حذف المتعلق، لو سلم (لا يقال) ولاية الفقيه فرع ولاية
الإمام (ع): وهي ثابتة له بالضرورة بالولاية العامة، فيثبت للفرع ما هو
ثابت للأصل بعموم النيابة (لأنا نقول): غير معلوم ثبوتها في الأصل
حتى يلتزم به في الفرع بعموم النيابة، ويكفي الشك فيه بعد أن كان
مقتضى الأصل عدمه، ولا ينافي ذلك ولايته العامة الموجبة لوجوب
التسليم له في امتثال أوامره وتنفيذ تصرفاته لو أمر أو تصرف من غير رد له
واعتراض عليه، لما مرت إليه الإشارة: من أن الكلام في الشئ بعد
فرض وقوعه منه غير الكلام فيه من حيث أن له ايقاعه أم لا، وإن ذلك
إلا كما لو قيل: لو جعل الله فرعون في الجنة وموسى في النار لا يعترض
عليه. وقد تقدم أن المشاهد من أحوالهم والمعروف من سيرتهم جريهم
على ما أسسوه من القواعد الشرعية والقوانين الإلهية من غير فرق بينهم
وبين غيرهم من الرعية في الفروج والأموال ونحوها. وتأخر ولايتهم
255

على الصغير عن وليه الاجباري أقوى دليل لما ذكرنا، مع أنه أولى بالولي
من نفسه، فضلا عن المولى عليه. وقد تقدم من (الفاضل) (1) نفي
الولاية عن السلطان، المراد منه الإمام (ع) فالفقيه منفية عنه بالأولوية
وأما تفسير (من بيده عقدة النكاح) بالولي في الرواية، فهي مجملة من حيث
الذات ومهملة من حيث المتعلق. والمتيقن هو الولي الاجباري، وإرادة
مطلق من يتولي أمرها مقطوع بعدمها، لشمول سعته حينئذ العصبة
المقطوع بعدمه.
ومنها ولايته على المفلس في التحجير عليه عن التصرف في ماله
دون غيره بعد اجتماع شرايطه: من ثبوت الدين عند الحاكم، وحلوله
ونقصان ماله عنه، والتماس الغرماء له في التحجير عليه، لأن الحق لهم
فيتوقف على مطالبتهم، فإن ولايته في التحجير عليه حينئذ ثابتة بالاجماع
بقسميه ومنقوله فوق حد الاستفاضة، المعتضد بدعوى غير واحد عدم
الخلاف فيه، وإن خلت النصوص كما في الحدائق عما يدل عليه صريحا
بل وظاهرا ولذا توقف في أصل الحجر بالفلس، محتجا عليه بذلك (2)
إلا أنه غير ملتفت إليه، بعدما عرفت من الاجماع عليه.
نعم ادعى شيخنا في (الجواهر) اشعار النصوص به، بل ظهورها

(1) وهو العلامة في (التذكرة) كما تقدمت عبارته آنفا.
(2) أي بخلو النصوص عن الدلالة على الولاية صراحة. وقوله:
(غير ملتفت إليه) أي إلى احتجاج الحدائق بذلك. قال في حدائقه:
كتاب الحجر، أوائل المطلب الثالث في المفلس: " بقي هنا شئ لم أقف
على من تنبه له وهو أن ما اشتهر في كلام الأصحاب، بل الظاهر أنه
لا خلاف فيه من كون المفلس يجب المحجر عليه كما يجب على الصبي
والسفيه والمجنون لم أقف فيه على نص واضح "
256

فيه حيث قال في الرد عليه بعد نقله عنه التوقف في أصل المسألة: " وفيه
مع عدم انحصار الحجة فيها، بل الاجماع بقسميه هنا كاف في ذلك على
أن الموجود منها غير خال من الاشعار، بل الظهور، سيما النبوي المتقدم
آنفا، كموثقة عمار عن الصادق عليه السلام: " كان أمير المؤمنين (ع)
يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمره فيقسم ماله بينهم بالحصص
فإن أبى باعه، فيقسمه بينهم، فإن الأمر بقسمة ماله ظاهر في رفع
اختياره في التخصيص لو أراده، بل هو ظاهر في رفع اختياره لو أراد
التصرف فيه على وجه يخرجه عن ملكه حتى لا يستحق الديانة منه، بل
لعل المراد من قوله: (يحبس) المنع من التصرف، كما يرشد إليه خبر
غياث: عن جعفر عن أبيه عليهما السلام: إن عليا عليه السلام كان يفلس
الرجل إذا التوى على غرمائه، ثم يأمر به، فيقسم ماله الحديث
ضرورة عدم معقولية إرادة غير ذلك من التفليس خصوصا بعد قوله (ع)
ثم الخ، ومنه حينئذ تظهر دلالة خبر الأصبغ بن نباتة: عن أمير المؤمنين
عليه السلام: أنه قضى إن الحجر على الغلام حتى يعقل، وقضى في الدين
أنه يحبس صاحبه، فإن تبين افلاسه والحاجة فيخلى سبيله حتى يستفيد
مالا، وقضى عليه السلام: في الرجل يلتوي من غرمائه أنه يحبس ثم يأمر به
فيقسم ماله بين غرمائه بالحصص فإن أبى باعه فيقسم بينهم، بل وخبر
السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام: إنه كان يحبس في
الدين ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء وإن لم يكن له مال، دفعه
إلى الغرماء وقال لهم: اصنعوا به ما شئتم " إن شئتم فأجروه، وإن شئتم
فاستعملوه " (1) انتهى.

(1) هذه العبارة بطولها ذكرها في (الجواهر): كتاب المفلس في
شرح قول المحقق: " وكذا لا يحجر عليه الحاكم لو سأل هو الحجر
على نفسه، ويستعرض الأدلة على ذلك من الأصل والروايات وتحققها
ويردها إلى قوله في رد الخبر مع كون المشهور على خلافه كما في
المسالك إلى قوله وما أبعد ما بينه وبين المحدث البحراني الذي توقف
في أصل الحجر بالفلس، ولو مع الشرائط، محتجا بأنه ليس في النصوص
ما يدل عليه، وفيه.. " الخ. والروايات المذكورة في عبارته ذكرت في
الوسائل كتاب الحجر (باب 6، 7).
257

وفيه: إن الانصاف عدم ظهور هذه النصوص في المدعى من الحجر
بالفلس، وإنما هي ناظرة إلى حكم الممتنع من حيث هو ممتنع المماطل عن
أداء ما عليه من الحق من أمره بالوفاء وحبسه على تقدير العدم، والتصدي
معه لبيع ماله للوفاء عنه، وهو حكم مرتب على تحقق عنوان الامتناع
المأخوذ في موضوعه بحيث لا يترتب الحكم المذكور مع عدم تحققه في الخارج
وإن كان كارها للوفاء في الباطن. وأين ذلك من التحجير عليه بالتماس الغرماء
الذي يكفي في تسويغه مجرد خوفهم على تلف أموالهم، امتنع المديون عن
الوفاء أو لم يمتنع، ومنعه عن التصرف في ماله وسلب اختياره عنه والتقسيم
بين غرمائه حكم مشترك بين المفلس والممتنع، وبينهما عموم من وجه
يجتمعان ويفترقان، فلا يستدل بنصوص الحكم في أحدهما على ثبوته في
الآخر. نعم ربما يشعر به خبر غياث المتقدم، بناء على إرادة تنزيل
الملتوي منزلة المفلس في تقسيم ماله بين غرمائه المشعر بمفروغية كون ذلك
حكم المفلس، مع أنه يحتمل قريبا إرادة صيرورته مفلسا بعد سلبه
خيار ماله وقسمته بين غرمائه. ولو سلم، فإن هو إلا إشعار لا ترفع به
اليد عن الأصول المعتبرة. وأما النبوي المروي عنه صلى الله عليه وآله
أنه حجر على معاذ بالتماسه، فهو مرمي بالضعف لكونه عاميا، وبعدم
العمل بمضمونه من الحجر عليه بالتماسه دون غرمائه، وإن استقر به في
258

(التذكرة) مستدلا به عليه (1) ومع طرح الحديث بتمام مضمونه كما
فعله في (الجواهر) كيف يستدل به على المدعى من ثبوت الحجر
بالفلس. وبالجملة: فالمسألة من حيث النصوص المذكورة كما ذكره صاحب
(الحدائق) إلا أنه من حيث الفتوى لا إشكال فيها، لعدم انحصار
الحجة بها، بعد ما عرفت من الاجماع بل الضرورة عليه.
ومنها ولايته على الممتنع عن أداء ما عليه من الحقوق المستحقة عليه
ونحوها، حتى على قبض الثمن المردود له في زمن الخيار لو امتنع عن
قبضه في بيع الخيار ونحوه، ولم يكن اجباره عليه، فيتولى قبضه الحاكم
ويفسخ بالخيار بعد قبضه، وكذا بيع ماله للوفاء عنه (2)، ويدل عليه
بعد الاجماع بقسميه النصوص المتقدمة وغيرها، بل هو المعني بقولهم:
" الحاكم ولي الممتنع ".
ومنها ولايته على الأوقاف العامة مع عدم تعيين الواقف وليا عليها
فإن الولاية ثابتة له عليها نصا وإجماعا بقسميه، ولأنه من المصالح العامة
التي يرجع بها إلى الإمام (ع) وإلى نائبه بعموم النيابة.
وجملة الكلام في الولاية الوقف بعد ثبوت إن للواقف جعل ولاية

(1) قال العلامة في (التذكرة): كتاب الحجر، أواخر الفصل
الثاني في شرائط الحجر: فروع ج -: " لو لم يلتمس أحد من الغرماء
الحجر، فالتمسه المفلس، فالأقرب عندي جواز الحجر عليه لأن في الحجر
مصلحة للمفلس، كما فيه مصلحة للغرماء إلى قوله: وقد روي أن
حجر النبي صلى الله عليه وآله على معاذ كان بالتماس من معاذ دون طلب الغرماء ".
(2) وذكر الفقهاء في هذا الباب مواضيع؟ كثيرة في متفرقات
أبواب الفقه تكون للحاكم الولاية فيها على مطلق الممتنعين عن الالتزام
بحقوقهم وواجباتهم من الماليات وغيرها، لا يسع المجال استعراضها.
259

الوقف لنفسه أو لغيره بالنص والاجماع (1) هو: أن الواقف: (مرة)
يوقف العين وقفا عاما على نوع أو جهة ويجعل وليا عليه من دون أن يعين
كيفية خاصة زائدة على عنوان الوقف على ذلك النوع أو تلك الجهة بل يجعل
كيفيات التصرف والصرف في مصرفه موكولا إلى نظر الولي، فله بحسب
الجعل من الواقف أنحاء التصرف فيه إلا ما ينافي عنوان الوقف إذا لم يعين
عليه كيفية خاصة، بل جعلها موكولة إليه ومنوطة بنظره، فليس لأحد
الرد عليه في تصرف من تصرفاته إلا ما كان منافيا للوقف وعنوانه.
(وأخرى) يعين كيفيات مخصوصة، ويقررها في جعل الوقف،
ويجعل وليا عليه بحسب ما قرره وعينه من الكيفية المخصوصة، إلا أن
غرضه من جعل النظارة على الواقف إعطاء منصب له عليه وعود منفعة
مالية كحق التولية أو اعتبارية أو هما معا إليه بحيث يكون جل مقصوده
مصلحة الولي مقدما على مصلحة الموقوف عليه، كما لعله يقصد ذلك كثيرا
في جعلهم النظارة لأولادهم للتوصل به إلى أغراضهم الدنيوية في حق أولادهم
وعليه فليس له أن يتصرف فيه لغير ما قرره في الكيفية المجعولة بأصل
الوقف، لأنها غير موكولة إلى نظره كالأول. (وثالثة) يجعل وليا وغرضه

(1) وخالف ابن إدريس في (السرائر) في جواز جعلها للنفس
مطلقا، ولكنه خلاف الاجماع. قال العلامة في (التذكرة): في مسألة أن
الواقف أحق بالتولية: " حق التولية للواقف في الأصل، لأن أصل قربة
الوقف منه، فهو أحق أن يقوم بايصائها وصرفها في مظانها ومواردها.
فإذا وقف، فلا يخلو: إما أن يشترط التولية لنفسه أو لغيره أو يطلق
ولا يذكر شيئا. فإن شرطها لنفسه صح ولزم لأنه أكد بشرطه بمقتضى
الأصل إلى قوله: ولا نعلم فيه خلافا. وإن شرطها لغيره لزم عندها
ولم يجز لأحد مخالفته عند علمائنا.. ".
260

ليس إلا مصلحة الموقوف عليهم ورعايتهم في ايصال حقوقهم إليهم من
دون غرض يتعلق بالولي، وإن جعل له حق التولية عوضا عن المباشرة.
والظاهر ثبوت جعلها للواقف لنفسه أو لغيره بجميع معانيها الثلاثة، لعموم
ما ورد: من أن الوقوف على حسب ما يقفها أهلها (1)، مضافا إلى أن
ذلك من شؤون تصرفات المالك في ملكه التي منها اخراجه عن ملكه مكيفا
بهذه الكيفية. (ودعوى) كونه تصرفا في غير ملكه أو في ملك غيره
بالوقف (مسلمة) لو كان جعل الولاية متأخرا عن تمليك الغير أو اخراجه
عن ملكه، ولو تأخرا بالطبع، وليس كذلك، بل هما أي الوقف
والولاية مجعولان بجعل واحد من المالك في ملكه، فالنظارة المجعولة
بأحد المعنيين الأولين هي ولاية، وبالمعنى الأخير الظاهر أنها تولية، لا
ولاية. والفرق بينهما: إن التولية محض تسليط على الشئ وصاحبه مسلط
ومفوض عليه، والولاية سلطنة وصاحبه سلطان وذو سلطنة، والفرق بين
التسليط والتسلطن واضح، فالتولية والتفويض معنى، والولاية التي حقيقتها
الإمارة معنى آخر. فالأولى تشبه الحكم، والثانية تشبه الحق وإن كثر
اطلاق الولاية على التولية في كثير من مواردها في لسان الفقهاء تسامحا
بإرادة الولاية بالمعنى الأعم.
هذا إذا عين الواقف وليا على الوقف. وإن لم يعين " (2) فإن كان

(1) في الوسائل: كتاب الوقوف والصدقات باب 2 حديث (1، 2):
نص الحديث جواب مكاتبة إلى الإمام الحسن العسكري سلام الله عليه.
(2) وإن لم يعين الواقف متوليا خاصا في ضمن العقد، فهل التولية
له، أو للموقوف عليهم، أو للحاكم الشرعي مطلقا، أو يفصل بين
الوقف الخاص والعام كما في المتن؟ أقوال في المسألة، ولكل منها
أدلة ومؤيدات استعرضتها كتب الفقه في مظانها من أبواب الوقف.
وربما بنيت المسألة على الخلاف في أن العين الموقوفة هل تبقى على ملك
الواقف، أو تنتقل إلى الموقوف عليهم أو إلى الله تعالى، أو بالتفصيل
بين الخاصة: فإلى الموقوف عليهم، والعامة فإلى الله تعالى.
261

الوقف خاصا كانت الولاية للموقوف عليهم من ولاية الملك. بناء على
كون العين الموقوفة ملكا لهم ملكية خاصة تباين الملكية المطلقة في كثير من
أحكامها: من ضيق دائرة السلطنة، وتقيدها بالحياة، واقتضائها الدوام
وإن انتقلت بالموت، فالموت في الوقف انتهاء لزمان الملكية. وفي الملك
قاطع للملكية وناقل لها إلى غيره.
وإن كان وقفا عاما فالولاية عليه للحاكم، لأنها من المصالح العامة
إلا أن الظاهر أنه من التولية دون الولاية بالمعنى الأخص، فليس له
إلا مباشرة إصلاح الوقف، وصرف نمائه في مصرفه بنفسه أو بنائبه،
بناء على أن النوع أو الجهة مصرف. ولو قلنا كما لعله الأظهر أنه
ملك للنوع ولو على جهة خاصة كالأراضي المفتوحة عنوة على الأقوى
من كونها ملكا للمسلمين يصرف نماؤها في مصالحهم العامة (1)، كان
الأظهر كونها من باب الولاية، دون التولية.
ومنها ولايته على المال المنتقل إليه بالإرث ممن لا وارث له سواه
فإنه على المشهور كما قيل يجب صرفه على مطلق الفقراء، وإن لم
يكن من أهل بلده. وقيل باختصاصه بفقراء بلده نظرا إلى أدلة لا تصلح
لاثبات الاختصاص بهم (2)، وقيل: بحفظه له بدفنه أو الوصية به

(1) راجع: الجزء الأول من (البلغة) أوائل الرسالة في الأراضي
الخراجية.
(2) كما هو رأى الشهيد الأول قدس سره قال: في أوائل
الفصل الثالث في الولاء من كتاب الميراث من (اللمعة) بعد الكلام
على ولاء المعتق وضامن الجريرة " ثم الإمام عليه السلام. ومع غيبته
يصرف في الفقراء والمساكين من بلد الميت " وقال الشهيد الثاني في
شرح هذه العبارة: " ولا شاهد لهذا التخصيص إلا ما روى من فعل
أمير المؤمنين عليه السلام. وهو مع ضعف سنده لا يدل ثبوته
في غيبته ".
262

كما عن الخلاف مدعيا فيه الاجماع عليه (1) الموهون بشذوذ القول به
وقيل: بتحليله للشيعة لكونه من الأنفال بناء على أنه حكمها (2).
ولعل سند المشهور مضافا إلى ظهور بعض النصوص (3) فيه اجراء

(1) قال الشيخ في (الخلاف) كتاب الفرائض مسألة 15:
" كل موضع وجب المال لبيت المال عند الفقهاء للمسلمين. وعندنا للإمام
إن وجد الإمام العادل سلم إليه بلا خلاف، وإن لم يوجد وجب حفظه
له عندنا كما تحفظ سائر أمواله التي يستحقها.. ".
(2) راجع: الجزء الأول من البلغة، ص 288 المقالة الرابعة في
أرض الأنفال.
(3) منها كما في الوسائل باب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة
والإمامة من كتاب الفرائض والمواريث صحيحة: محمد بن مسلم عن
أبي جعفر عليه السلام قال: " من مات وليس له وارث من قرابته ولا مولى
عتاقه قد ضمن جريرته فماله من الأنفال ". ومنها صحيحة الحلبي عن
أبي عبد الله (ع) ".. ومن مات وليس له موالي فماله من الأنفال "
وغيرهما بنفس الباب روايات أخر بمضمونها.
قال الشهيد الثاني في (المسالك) في كتاب الفرائض في شرح
قول المحقق أخر المقصد الثالث في الميراث بالولاء: فإذا عدم الضامن
كان الإمام وارث من لا وارث له الخ: ".. وذهب جماعة
منهم المصنف إلى قسمته في الفقراء والمساكين، سواء في ذلك أهل
بلده وغيرهم وهذا هو الأصح. وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر
عليه السلام، والحلبي عن أبي عبد الله (ع): أنه من الأنفال وهو دال
على جواز صرفه في الفقراء والمساكين، إن لم يدل على ما هو أعم من ذلك ".
263

حكم مجهول المالك عليه فيدفع إلى الفقراء صدقة عنه، لوجود مناطه الذي هو تعذر
وصول المال إلى صاحبه، وهو قوي في غير الأراضي منه. وأما هي فقد تقدم
الكلام فيها في بحث الأنفال من (رسالتنا الخراجية) (1). ثم إنه من المعلوم
أن مباشرة الحاكم له هنا من باب التولية دون الولاية التي غير معقول
جريانها على هذا الغائب (ع) الذي هو أكمل الأنام، وله الولاية عليهم
بالتمام، فكيف يكون مولى على مال لمن له الولاية عليه؟.
تنبيه: قد عرفت أن للحاكم ولاية على الأيتام ما لم يكن هناك ولي
مقدم عليه، فلو نصب قيما عليه كانت القيمومة بالنيابة عنه، ومقتضاها
انعزاله بموته أو بخروجه عن الأهلية. وهل له إعطاء ولاية الصغار إليه
بحيث تدور سلطنة ولايته عليهم مدار حياة نفسه دون حياة الحاكم؟ الظاهر
العدم، بل هو المتعين، للأصل، مع عدم دليل يصلح به الخروج عنه،
وذلك واضح لا شك فيه ولا شبهة تعتريه.
هذا ما وسعني من التعرض لموارد ولاية الحاكم والتعرض لغيرها
بالاستقصاء موقوف لكثرتها وتفرقها في أبواب الفقه على مزيد تتبع
لا يسعني الآن ذلك (2).

(1) وهي الرسالة الخامسة من محتويات الجزء الأول من كتاب:
(بلغة الفقيه).
(2) وقد ذكر الفقهاء رضوان الله عليهم لولاية الفقيه الجامع
للشرائط في زمان الغيبة موارد كثيرة أخرى متفرقة في مظانها من أبواب
الفقه كولايته على التصرف في سهم الإمام عليه السلام الذي هو
نصف الخمس حسب ما يراه من المصلحة، وكولايته على التصرف
بأموال الزكاة وأخذها من الممتنع ووضعها في شؤون المسلمين، وكولايته
على التصرف بمجهول المالك والمال الذي لا يمكن ايصاله إلى صاحبه لبعض
الموانع، فيتصدق به على الفقراء بثواب صاحبه الواقعي كما سيأتي من
الماتن. وكولايته على التصرف في الأراضي المفتوحة عنوة في زمان
الإمام (ع) كما هو الظاهر وكولايته على من لا ولي له في الدماء
والفروج والأموال المحترمة على ضوء الأصلح وغير ذلك كثير من
الموارد الخاصة والعامة وموارد الحسبة التي سيذكر بعضها سيدنا المصنف
قدس سره فراجع.
264

(المبحث الثاني)
في الولاية بالقرابة، وهي ثابتة للأب والجد له (1) من النسب شرعا
فلا ولاية للأب رضاعا، ولا لمن أولده سفاحا.
وثبوتها لهما بالاشتراك بينهما مورد اتفاق النص والفتوى. وإن اختص
الأول بالذكر في أكثر النصوص (2)، إلا أن المراد منه ما يشمل الجد

(1) وعليه عامة الفقهاء الإمامية، إلا ابن أبي عقيل من القدماء
فإنه لا يرى ولاية التزويج إلا إلى الأب دون غيره من الأولياء.
(2) في (التهذيب) كتاب النكاح باب 32 في أولياء العقد روايات
كثيرة بهذا المضمون، كقول الإمام الباقر عليه السلام كما في رواية زرارة
ورواية محمد بن مسلم: " لا ينقض النكاح إلا الأب ".
265

ولو بقرينة ما تضمن لفظه منها (1)، بل وتقدم عقده على عقد الأب
مع المعارضة (2)، بل واطلاقها يقتضي اشتراك الجد مطلقا وإن عد مع
الأب في الولاية. وأنه لا ترتيب في العوالي من الأجداد كما عن الأكثر
خلافا لما عن بعض كما في الحدائق والمفاتيح فذهبوا إلى الترتيب
بين الأجداد: يختص بها الأدنى منهم، فالأدنى (3). واختاره (المسالك

(1) ففي التهذيب بنفس الباب الآنف حديث (36) " باسناد عن
عبيد بن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الجارية يريد أبوها
أن يزوجها من رجل ويريد جدها أن يزوجها من رجل آخر؟ قال: الجد
أولى بذلك ما لم يكن مضارا، إن لم يكن الأب زوجها قبله. ويجوز عليها
تزويج الأب والجد ".
(2) كالرواية الآنفة عن المصدر الآنف وفيه أيضا: رواية محمد بن
مسلم عن أحدهما (ع) قال: إذا زوج الرجل بنت ابنه فهو جائز على
ابنه، ولابنه أيضا أن يزوجها، فقلت: فإن هوى أبوها رجلا وجدها
رجلا؟ فقال: الجد أولى بنكاحها ".
(3) في الحدائق الناضرة للشيخ يوسف البحراني، كتاب النكاح،
أخريات المسألة العاشرة قوله: " وهل يتعدى الحكم هنا إلى أب الجد
وجد الجد ولمن علا مع الأب أو مع من هو أدنى منه حتى يكون أبو الجد
أولى من الجد وجد الجد أولى من أب الجد إلى قوله: قد عرفت
مما قدمناه في غير مقام، قوة القول الثاني.. وحينئذ، فيقدم عقد
الأعلى في الصورة التي فرضتها ". أما المفاتيح فلعله يريد به مفاتيح الملا
محسن الفياض القاشاني المتوفى في قاشان والمدفون فيها سنة 1091 ه‍ طبع
القسم منه وبقي الآخر مخطوطا، رأينا نسخته الخطية الكاملة في مكتبة
الحجة للشيخ على آل كاشف الغطاء حفظه الله، ولم نجد هذا الموضوع
في مظانه من هذه النسخة المخطوطة. والله العالم.
266

في كتاب الوصية) (1).
ومن الغريب ما وقع من الفاضل (الجواد) في شرح اللمعتين (2)
حيث توهم منه القول بالتريب حتى بين الأب والجد له الأدنى حيث
قال بعد أن نسب إلى ظاهر الأكثر اشتراك الأب والجد فيه الولاية،
ونقل الخلاف في ترتيب الأجداد عن المفاتيح والحدائق ما لفظه: " بل عن
الفاضل الشارح في وصايا المسالك: أن الولاية للأب ثم لمن يليه من الأجداد
على ترتيب الولاية: الأقرب منهم إلى الميت فالأقرب، ومقتضاه الترتيب
بين الأب والجد الأدنى أيضا، وهو غريب لمنافاته ما فرضوه من الخلاف
في تقديم عقد الأب أو الجد مع التعارض، بل الرجحان في ذلك لعقد
الجد على الأظهر لفحوى ما دل عليه في عقد النكاح من الرواية والاجماع
ومنافاته لما اختلفوا فيه: من أن ولاية الجد مشروطة بحياة الأب أولا،
وفرعوا عليه تقديم وصي الأب على الجد، وإن كان الأظهر عموم ولاية

(1) راجع ذلك في (مسالك الأفهام) في شرح شرائع الاسلام،
للشهيد الثاني: كتاب الوصايا، آخر الفصل الخامس في الأوصياء قوله:
في شرح قول المحقق (وكذا لو مات إنسان ولا وصي له..): " إعلم
أن الأمور المفتقرة إلى الولاية: إما أن تكون أطفالا أو وصايا أو حقوقا
أو ديونا، فإن كان الأول، فالولاية فيهم لأبيه ثم لجده لأبيه ثم لمن يليه
من الأجداد على الترتيب الولاية للأقرب منهم إلى الميت فالأقرب ".
(2) أشرنا - غير مرة في هذا الكتاب إلى أن المراد من (شرح
اللمعتين): شرح الروضة للشيخ الجواد المعروف بملأ كتاب، والتثنية للتغليب
والكتاب لا يزال من نفائس المخطوطات.
267

الجد " انتهى.
وأنت خبير بأن مراده من الأب هو أب الميت، فيكون هو الجد
الأدنى لأطفاله. وقوله (ثم لمن يليه من الأجداد): جد الميت، فهو منه
قول بالترتيب بين الأجداد، لا بين أب الطفل وجده. ويدلك عليه صريح
قوله: (الأقرب منهم إلى الميت فالأقرب). ويشهد له ذكر الفرع في الوصية
التي موضوعها لو مات وله أطفال فالولاية لأبيه، أي لأب الميت الذي
هو الجد الأدنى لأطفال ابنه دون أبيه الذي هو الجد الأعلى، فهو منه
قول بالترتيب بين الأجداد. لا بين الأب والجد الأدنى كما توهمه الفاضل
المتقدم ذكره.
هذا: ومن اعتبر الترتيب في الأجداد: إن استند في ذلك إلى دعوى
انصراف الجد إلى الأدنى منه دون الأعلى فلا يشاركه في الولاية، وهو،
وإن كان يجري مثله في الأب، بل هو فيه أظهر منه في الجد لو سلم
شموله للجد حقيقة إلا أن الجد منصوص عليه مستفيضا في النكاح وغيره
حتى قيل بتقدم عقده على عقد الأب لو اتحد زمانهما، بل قيل كما تقدم
باشتراط ولايته بحياة الأب، ومقتضى ذلك كله المشاركة معه في الولاية
ولم تثبت مشاركة العوالي من الأجداد في الولاية مع الأدنى بعد اختصاصه
به بالانصراف، بل مقتضى الأصل هو العدم (ففيه): إن انصراف
الجد إلى الأدنى لو سلم كان مقتضاه عدم الولاية للأعلى أصلا، ولو
مع فقد الأدنى للأصل، دون الترتيب بينهما.
وإن استند في ذلك إلى آية: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض،
الدالة على كون القريب أول بقريبه من البعيد أولوية تعيين، لا أولوية
تفضيل مع الاشتراك في المبدء، ومقتضاه، وإن كان الترتيب بين الأب
والجد الأدنى أيضا، إلا أنه خرج عنه بالنص والاجماع على الاشتراك بينهما
268

فيبقى الباقي داخلا في العام، وعدم الأولوية في غيرهم من الأرحام من
السالبة بانتفاء الموضوع، لعدم الولاية لهم، لا لعدم الأولوية بينهم.
(ففيه): إن نصوص ولاية الجد الشاملة باطلاقها للقريب والبعيد أخص
مطلقا من عموم أولوية الأرحام بعضهم ببعض في الولاية وغيرها، المستفاد
من حذف المتعلق، فليكن مقدما عليه تقديما للخاص على العام أو المقيد
على المطلق، مضافا إلى وجود المناط اشتراك الجد القريب مع الأب في
البعيد أيضا معه من نحو: " الولد وما يملك لأبيه " (1) وغيره. فإذا
الأقوى ما عليه المشهور.
فظهر من ذلك كله حكم المسألة بجملة صورها الثلاثة.
الأولى: اشتراك الأجداد مطلقا مع الأب في الولاية على أطفاله،
وهو المنسوب إلى الأشهر، بل المشهور. ويقابله القول بالترتيب في الأجداد

(1) في الوسائل، كتاب النكاح باب 11 من أبواب عقد النكاح
وأولياء العقد حديث (5): " وعن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد
عن أحمد بن محمد أبي نصر عن أبي المغرا عن عبيد بن زرارة عن
أبي عبد الله عليه السلام قال: إني لذات يوم عند زياد بن عبد الله إذا
جاء رجل يستعدي على أبيه، فقال: أصلح الله الأمير، إن أبي زوج
ابنتي بغير إذني، فقال زياد لجلسائه الذين عنده: ما تقولون فيما يقول
هذا الرجل؟ فقالوا: نكاحه باطل. قال: ثم أقبل على، فقال
ما تقول يا أبا عبد الله؟ فلما سألني أقبلت على الذين أجابوه، فقلت لهم:
أليس فيما تروون أنتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله: إن رجلا جاء يستعديه على
أبيه في مثل هذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أنت ومالك لأبيك؟
قالوا: بلى، فقلت لهم: فكيف يكون هذا وهو ماله لأبيه ولا يجوز
نكاحه؟ قال: فأخذ بقولهم، وترك قولي ".
269

فلا يشترك مع الأب في الولاية إلا أبوه الذي هو الجد الأدنى للطفل.
الثانية: لو فقد الجد الأدنى قام الأعلى مقامه في الاشتراك مع الأب
في الولاية بناء على الترتيب. والظاهر أنه مما لا خلاف فيه، لثبوت
الولاية لهم في الجملة غير أن القريب منهم يمنع البعيد عندهم بما دل
على الترتيب.
الثالثة: لو فقد الأب، فهل تختص الولاية بأبيه الذي هو الجد
الأدنى، بناء على الترتيب، أو يشاركه أبوه حينئذ كما كان هو يشارك
ابنه؟ وجهان: من ثبوت اشتراك الولد مع والده في الولاية، وهو هنا
منه، ومن أن الثابت خروجه عن الترتيب أب الطفل وجده الأدنى،
وجريان الحكم في غيرهما قياسا بهما لا نقول به.
ولا ولاية لغير الأب وآبائه من قبل الأب من الأقارب مطلقا
بالنص والاجماع (1). والقول بثبوتها لبعض منهم كما عن بعض
شاذ لا يلتفت إليه (2).

(1) أما النص فقد ورد بمضامين كثيرة تخص الولاية بالآباء من
طرف الآباء، كمفهوم قوله (ع): " إن كان أبواهما اللذان زوجاهما
فنعم كما في الوسائل باب 6 من أبواب عقد النكاح وأما دعاوى الاجماع
في المسألة فقد تواردت على ألسنة عامة الفقهاء في كتبهم كما عن الشيخ في
(تبيانه) في تفسير قوله تعالى: " إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقد
النكاح ": " لا ولاية لأحد عندنا إلا للأب والجد على البكر غير البالغ
فأما من عداهما فلا ولاية له " ومثله غيره من عموم الفقهاء.
(2) كالقول من بعض أصحابنا بثبوتها للأم وآبائها وللأخ، لروايات
مع ضعف سندها محمولة على التقية، وكالقول من بعض العامة بثبوتها
للعصبة والمعتق والابن بالنسبة إلى أمه. كل ذلك شاذ، ولا دليل معتبر عليه.
270

ثم الظاهر نفوذ تصرفهما مطلقا، فيما يتعلق بالطفل وماله، نكاحا
كان أو غيره إلا الطلاق، فإنهما لا يملكانه بالنص. وفي إلحاق الفسخ
وهبة ما بقي من أجل المتعة به، وجهان: والأقوى: العدم، اقتصارا على
المنصوص في الخروج عما لهما الولاية عليه وهو الطلاق.
وهل يعتبر في تصرفهما رعاية المصلحة له، أو يكفي عدم المفسدة
أو لا يعتبر شئ منهما؟ وجوه بل أقوال: وسطها أوسطها، لما دل
على جواز الاقراض من مال الطفل، وتقويم الجارية على نفسه، وغير
ذلك المعلوم خلوه بمجرده عن مصلحة تعود إليه. وعود الأجر والثواب
الأخروي له لكونه مالكا للمال، ليس من المصلحة التي عليها المدار،
بناء على اعتبارها في تصرف الولي، مضافا إلى خلو أخبار تزويج الأب
والجد للطفل عن اعتبارها، مع أولوية الفروج بالاحتياط من غيرها ولولا
أدلة نفي الضرر فيما اشتمل على مفسدة، واشعار بعض النصوص بعدمها
لكان القول بعدم اعتبارها أيضا قويا، إلا أن الذي يظهر من عبارات
بعض، سيما القدماء، إن اشتراط التصرف بالمصلحة من المفروغ عنه
عندهم، وأنه المسلم فيما بينهم، فعن (المبسوط) قال: " ومن بلي أمر
الصغير والمجنون خمسة: الأب والجد للأب ووصي الأب والجد والحاكم
ومن يأمره ثم قال: وكل هؤلاء الخمسة لا يصح تصرفهم إلا على
وجه الاحتياط والحظ للصغير لأنهم إنما نصبوا لذلك، فإذا تصرف فيه
على وجه لاحظ فيه، كان باطلا، لأنه خلاف ما نصب له ". وعن
(السرائر): " لا يجوز للولي التصرف في مال الطفل إلا بما يكون فيه
صلاح المال، ويعود نفعه إلى الطفل دون المتصرف فيه، وهذا الذي تقتضيه
أصول المذهب " انتهى. وهو المحكى عن صريح المحقق، والعلامة،
271

والشهيدين، وثاني المحققين (1) وعن (شرح الروضة) للفاضل الهندي (2)
إن المتقدمين عمموا الحكم باعتبار المصلحة من غير استثناء: وعن (مفتاح
الكرامة): أنه استظهر من عبارة (التذكرة) في باب الحجر نفي الخلاف
في ذلك بين المسلمين.
وربما يستدل له في الجد مع فقد الأب بعموم قوله تعالى: " ولا
تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " (3) الشامل للجد، ويتم في
الأب بعدم القول بالفصل.
وفيه: بعد تسليم عمومها أنه مخصص بما دل على ولاية الجد
وسلطنة الظاهر في أن له أن يتصرف في مال طفل بما ليس فيه مفسدة له.
هذا: ويحتمل غير بعيد التفصيل بين ما لو كان تصرف الأب
لحاجة به وضرورة له أدت إليه فيكون له ذلك ما لم تستلزم المفسدة، وإن
كان لأمر يرجع إلى الطفل اعتبرت المصلحة فيه. فولاية الأب برزخ بين
ولاية السيد وبين ولاية الحاكم، فهي أقوى منها، ولذا كان مقدما عليه
في الولاية على ولده المنزل منزلة المملوك له في الأخبار.
ثم المدار في المصلحة حيث اعتبرناها في التصرف على وجودها
في الواقع، فلو تصرف بناء عليها فانكشف العدم لم ينفذ لانتفاء المشروط

(1) يريد به المحقق الثاني الكركي العاملي المتوفى سنة 940 ه‍ في
كتابه (جامع المقاصد في شرح القواعد للعلامة) راجع: هذا الموضوع
في باب شروط المتعاقدين من الكتب التي أشار إليها الماتن قده.
(2) واسمه (المناهج السرية في شرح الروضة البهية) يقع في
مجلدات أربعة، لا تزال مخطوطة، راجع: (الذريعة للمحقق الطهراني
باب الميم).
(3) وتكملة الآية: " حتى يبلغ أشده " سورة الأنعام / 152.
272

بانتفاء شرطه، ولا كذلك لو تصرف بما فيه الصلاح فبان وجود الأصلح
وقلنا بتقديم الأصلح على ما فيه الصلاح، لوضوح الفرق بين التقديم مع
المزاحمة الموقوف على الالتفات إلى وجود المزاحم، وبين مبغوضية التصرف
من أصله، وبذلك يظهر ضعف احتمال كون الحسن حينئذ داخلا في عموم
المستثنى منه المنهي عنه في آية: " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي
أحسن " والغفلة إنما تمانع تنجز النهي لا نفسه. ولو انعكس الأمر بأن
تصرف بانيا على عدم المصلحة، فظهر وجودها صح تصرفه، وإن توهم
النهي عنه لوجود ما هو شرط في الصحة نعم يجري عليه قبح التجري وهو
غير البطلان.
(المبحث الثالث)
في ولاية الوصي المنصوب من الموصى قيما على أطفاله، وهي
ثابتة له بالنص والاجماع، لكن بحسب ما هو مجعول له منه من حيث
الاطلاق والتقييد. فإن أطلق فلا اشكال في نفوذه ما يتولى من مصالحهم
في حفظ نفوسهم وأموالهم وأخذ الحقوق الراجحة إليهم من غيرهم وإلى
غيرهم، منهم وغير ذلك من بيع وإجارة ومزارعة ومساقاة ونحو ذلك
مما يتعلق باصلاح أموالهم، كما لا اشكال في المنع عن فعل بعض ما كان
للأب جوازه من حيث الأبوة القائمة بذلك الأب لعدم قابلة الانتقال
حينئذ منه إلى غيره. ومع الشك فيه يرجع إلى الشك في القابلية التي لا يمكن
إحرازها بالأصل وعمومات الوصية ولعل من ذلك جواز تزويج الصغير
والصغيرة لغير الأب والجد له، وإن كان قيما، فإن الأصحاب اختلفوا
في ثبوت ولاية التزويج للوصي مطلقا، أو مع نص الموصي له عليه أو
273

نفيها مطلقا على أقوال: أشهرها كما في (المسالك) (1)، بل المشهور
كما عن غيره: هو الأخير، للأصل مع الشك في قابليتها للانتقال عنه
بعد الموت، واستغناء الصغيرة عن الحاجة إلى النكاح وعموم مفهوم
الصحيحين في تزويج الصبي للصبية: " إن كان أبواهما اللذان زوجاهما
فنعم جائز " (2) وخصوص الصحيح المضمر: " سأله رجل عن رجل
مات وترك أخوين وبنتا والبنت صغيرة فعمد أحد الأخوين الوصي فزوج الابنة
من ابنه، ثم مات أب الابن المزوج، فلما أن مات قال الآخر: أخي
لم يزوج ابنه، فزوج الجارية من ابنه، فقيل للجارية: أي الزوجين أحب
إليك: الأول أو الأخير؟ قالت: الأخير، ثم إن الأخ الثاني مات وللأخ الأول
ابن أكبر من الابن المزوج، فقال للجارية: اختاري أيهما أحب إليك الزوج
الأول أو الزوج الأخير؟ فقال: الرواية فيها أنها للزوج الأخير.. " (3)
الخبر وهي وإن كانت مضمرة إلا أنها بالشهرة العظيمة منجبرة.

(1) قال: الشهيد الثاني في المسالك في باب أولياء العقد من كتاب
النكاح في شرح قول المحقق: ولا ولاية للوصي وإن نص له الموصي
على النكاح: " اختلف الأصحاب في ثبوت ولاية التزويج للوصي
مطلقا أو مع نص الموصي له عليه أو نفيها مطلقا على أقوال أشهرها الأخير ".
(2) إشارة إلى صحيحي محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السلام،
المتقدمين المذكورين في أبواب عقد النكاح وأولياء العقد من كتاب النكاح
من الوسائل وغيره من كتب الأخبار.
(3) نفس الخبر باختلاف بسيط في بعض كلماته في الوسائل، كتاب
النكاح باب 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد حديث (1) هكذا:
" محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن إسماعيل بن
بزيع قال: سأله رجل.. الخ.
274

واستدلوا على الأول بصحيحة ابن مسلم وأبي بصير: " عن أبي جعفر
عليه السلام، سألته عن الذي بيده عقدة النكاح؟ قال: هو الأب والأخ
والموصى إليه " (1). وخبر أبي بصير عن الصادق عليه السلام: " الذي
بيده عقدة النكاح هو الأب والأخ والموصى إليه " (2) وهما مع ندرة
القول بمضمونهما كما في الرياض وغيره وخلوهما عن ذكر الجد
وتضمنهما لولاية الأخ الذي لا يقول به أحد لا يكافئان ما تقدم،
فيحملان على استحباب الإطاعة له. وعليه يحمل ذكر الأخ أيضا.
ومنه يظهر ضعف القول بالتفصيل بين ما لو نص عليه وعدمه بالثبوت
في الأول وعدمه في الثاني، تنزيلا لاطلاق كل من الأخبار المتعارضة على
ذلك، جمعا بينها، هو حسن لو كان له شاهد عليه. وكذا القول
بثبوتها له فيما لو بلغ سفيها مع الحاجة إليه واستثناء هذه الصورة من
النفي مطلقا كما عن بعض منهم المحقق والعلامة ضعيف أيضا، لعدم
الدليل عليه.
(ودعوى): كون ذلك للأب فكما له أن يدفع الضرر بالتزويج عن
ولده لو بلغ سفيها لو اضطر إليه، كذلك الوصي القائم مقامه له ذلك أيضا
حيث يكون مضطرا إليه (فاسدة) لثبوت ولاية التزويج للأب على صغاره
المستصحبة إلى البلوغ وإيناس الرشد ولا كذلك الوصي حيث قلنا بعدم
ولايته على الصغير مطلقا، فلا متيقن حتى يستصحب. وحدوث الولاية له
عليه عند البلوغ سفيها مع كونه منفيا بالأصل لا دليل عليه، فالولاية
حينئذ للحاكم يتولاه إذا كان له به حاجة. وكذا للوصي الولاية على مال
الموصي فيما له الوصية به من الثلث، فله التصرف حسب الوصية له من

(1) و (2) الوسائل، كتاب النكاح، باب 8 من أبواب عقد النكاح
وأولياء العقد، إلا أن فيها (والرجل يوصى إليه) بدل (والموصى إليه).
275

باب الولاية، لا من باب التولية، لأنها في الحقيقة إعطاء سلطنة له من
المالك الموصي فيما كان له من السلطنة على ماله، غير أنها مقصورة على
الثلث، لأنه القدر الثابت من الأدلة في جواز انتقالها منه إليه بعد الموت.
* (المبحث الرابع) *
في ولاية المقاصة والأخذ بالتقاص. وهي في الجملة ثابتة
بالكتاب نحو قوله تعالى: " والحرمات قصاص " (1) " ولكم في
القصاص حياة " (2) " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم " (3) " فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " (4) " وجزاء سيئة سيئة؟
مثلها " (5) ونحو ذلك بالسنة عموما: " نحو لا ضرر ولا ضرار " (6)

(1) سورة البقرة / 194. وأول الآية: الشهر الحرام بالشهر الحرام.
(2) سورة البقرة 179. وأخر الآية: يا أولي الألباب لعلكم تتقون
(3) سورة البقرة 194. وأول الآية: (الشهر الحرام بالشهر الحرام).
(4) سورة النحل / 126. وأول الآية (وإن عوقبتم).
(5) سورة الشورى / 40، وتكملة الآية: فمن عفا وأصلح فأجره
على الله.
(6) الكلام حول هذه القاعدة المستقلة؟ من الحديث النبوي بإيجاز من
جهات: في مدرك حجيتها، وفي المعنى اللغوي للكلمتين، وفي المقصود
الشرعي من ذلك.
أما الجهة الأولى فإنها من الأحاديث النبوية المسلمة الورود من
العامة والخاصة، والمتواترة النقل اجمالا من الطرفين بأسانيد وصور
بعضها صحيح وبعضها موثق بحيث يقطع بصدور البعض منها على الأقل
ولقد طبقها النبي صلى الله عليه وآله ككبرى كلية على موارد عديدة جاءت
في بعضها خالية من الملحق، وفي بعضها بالحاق كلمة (في الاسلام) وفي
الآخر بالحاق كلمة (على مؤمن). والظاهر أن منطلق هذه القاعدة من
قصة سمرة بن جندب مع الأنصاري المتواترة النقل في كثير من المصادر
العامة والخاصة بلا زيادة، كما يرويها الكليني في الكافي في كتاب المعيشة
باب الضرار حديث (2) بطريق عبد الله بن بكير عن زرارة عن الإمام
الباقر (ع) حيث يقول النبي صلى الله عليه وآله للأنصاري بعد مساومته المتصاعدة
لسمرة في بيع نخلته الكائنة في بستان الأنصاري، وتضرر الأنصاري بكثرة
تردد سمرة إلى نخلته من طريق بيته وعدم استئذانه منه يقول له: اذهب
فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار ". وفي تاج العروس للزبيدي
في شرح القاموس بنفس المادة يشير إلى الحديث بلا زيادة أيضا.
حيث يقول في عرض تفسيره لفقرتيه: " وبه فسر الحديث: لا ضرر
ولا ضرار " ومثلها غيرهما من عامة كتب الأخبار واللغة والفقه.
وجاءت بزيادة كلمة (على مؤمن) في الرواية الثانية للكليني في نفس
الباب حديث (8) من طريق عبد الله بن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر
عليه السلام ففي آخر الحديث المذكور: " فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
لسمرة: إنك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن.. "
كما جاءت القاعدة بزيادة (في الاسلام) في نهاية ابن الأثير الجزري، وفي
(مجمع البحرين للطريحي) بنفس المادة أثناء تفسيرهما لفقرتي الحديث
ونحوهما في بعض كتب الحديث والفقه واللغة: وعلى كل فاختلاف الحديث
في وروده بإحدى الزيادتين أو بدونهما لا يوهن تحقق التواتر الاجمالي
أو المعنوي في نقله بعدما كان التسالم من الجميع على أصل بنته الأصيلة
المتكونة من فقرتي الضرر والضرار المنفيين وذلك كاف في مقام الوثوق
بمدرك القاعدة.
وأما الجهة الثانية فالضرر: اسم مصدر. والمصدر: الضر
بالضم وقد يفتح وهو ضد النفع: ومعناه: إحداث النقص بالنفس
أو المال أو العرض أو أي شأن من شؤون المتضرر نفسه، والضرار على
فعال: ايقاع الاضرار بالغير بذلك المعنى والذي يترائى من كلمات
اللغويين كابن الأثير في النهاية، والزبيدي في تاج العروس شرح القاموس
وغيرهما في تفسير الضرر بأنه: ضد النفع أو النقص الداخل على الشئ
أو فعل الواحد ونحو ذلك: إن المقابلة بين الضرر والنفع من باب التضاد
لا من باب العدم والملكة كما قيل بدليل انتفائهما معا في مثال البيع
برأس المال مثلا. ولو كان التقابل بينهما بنحو العدم والملكة لما خلا
الواقع من أحدهما، كما أن الذي يترائى من كلمات اللغويين أيضا في مقام
التفريق بين الضرر والضرار بأن الضرر فعل الواحد والضرار فعل الاثنين
على حد تعبير النهاية والتاج واللسان وغيرها: أن المقصود من فعل
الاثنين ليس معناه كأبواب المفاعلة قيام المعنى أو صدوره من اثنين
بل معناه صدور الفعل من واحد وقيامه بالآخر، فأحدهما يحدث الضرر
والآخر يتأثر به.
وأما الجهة الثالثة فقد قيل في تفسير هذه الجملة عدة معان، في
بعضها ابقاء الاستعمال على حقيقته من نفي الطبيعة، وفي بعضها يصرف
عن المعنى الحقيقي إلى التجوز المناسب.
فمن ذلك حمل النفي على النهي، فيكون المراد تحريم الاضرار
بالنفس أو الغير بعامة شؤونهما على غرار قوله تعالى: " ولا رفث
ولا فسوق ولا جدال في الحج " وقوله صلى الله عليه وآله: " لا سبق إلا في خف
أو حافر أو نصل " على بعض التفاسير وذلك لصحة قيام المصدر
مقام الفعل في الاستعمال، فيكون المراد: لا تضر نفسك ولا غيرك.
ومن ذلك أن يكون المراد نفي الحكم حقيقة بلسان نفي
الموضوع، بمعنى أن ليس في عالم التشريع حكم مجعول يستلزم ضررا على
النفس أو على الغير، فالسالبة بانتفاء الموضوع تكوينا، من قبيل قوله (ع):
" لا سهو في السهو ".
ومن ذلك أن يكون المنفي هو الضرر أو الاضرار غير المتداركين
شرعا، إذ المتدارك منهما ليس ضررا ولا ضرارا في نظر الشرع، كما هي
النظرة العرفية والعقلائية كذلك. فالذي تستلزم القاعدة بناء على هذا
المعنى، وجوب تدارك الضرر الحاصل إذا حدث، حيث أن ذلك المعنى
أقرب المجازات بعد رفع اليد عن نفي الحقيقة.
ولعل القول الثاني أقرب الثلاثة إلى مذاق الشريعة وابتنائها على المنة
والمصلحة واللطف، وأبقى للنفي والمنفي على حقيقتهما بلا تجوز
(هذا، وللتفصيل مراجعة مظان القاعدة من كتب الأخبار واللغة والفقه
الموسعة من الفريقين).
276

وخصوصا بالغا فوق حد الاستفاضة كما نشير إلى بعضها، وبالاجماع محصلا
ومنقولا كذلك،
277

وتفصيل المسألة: هو أن يقال: إن الحق الذي يراد أن يقتص عنه
ببدله: إما عقوبة كالقصاص، أو مال، وهو: إما عين، أو دين.
278

فإن كان الأول، ففي جواز استيفاء حقه بنفسه كما عن جماعة
بل في (الرياض) عليه أكثر المتأخرين بل عامتهم (1) أو وجوب رفعه
إلى الحاكم كما عن جماعة أيضا، بل عن (الخلاف): لا ينبغي أن

(1) راجع: أوائل كتاب كتاب القصاص منه، القسم الأول
في القود.
279

يقتص بنفسه لأن ذلك للإمام أو من يأمره بلا خلاف (1)، بل عن
(الغنية): دعوى الاجماع عليه. فإن تم كان هو الدليل، لا ما قيل:
من عظم خطره والاحتياط في اثباته، ولأن استيفائه وظيفة الحاكم على
ما تقتضيه السياسة وزجر الناس، لأن اطلاق السلطان للولي وتسلط الناس
على استيفاء حقوقها وغير ذلك يقتضي عدم اعتبار الرفع إلى الحاكم مع
فرض معلومية الحال وإقرار الخصم، كما أنه يقتضي مباشرته لا خصوص
الحاكم؟ قولان: وقد عرفت مستندهما (2). ولعل الأول هو الأقوى،
وإن كان الأحوط هو الثاني.
وإن كان الثاني، وكان موجودا جاز له استردادها بنفسه من غير
توقف على إذن الحاكم، وإن تمكن من اثبات حقه عنده، ما لم ينجر إلى
فتنة توجب الكف عنه، فيرفع أمره حينئذ إليه، حسما للفساد، وإن
لم يتمكن من الاسترداد أو كانت تالفة وهو مماطل أو جاحد وأمكنه
التقاص ببدله، اقتص به عنه مستقلا، وإن كان من غير جنسه، لاطلاق
ما دل عليه من الأخبار كصحيحتي داود بن رزين، وابن زربي قال في
أحديهما: " قلت لأبي الحسن موسى (ع): إني أخالط السلطان فتكون
عندي الجارية فيأخذونها والدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثم يقع لهم
عندي المال، فلي أن آخذه؟ فقال: خذ مثل ذلك ولا تزد عليه " (3)

(1) راجع هذه العبارة في كتاب الجنايات من الخلاف مسألة (8).
(2) أي من عرض القولين في صدر المسألة، وهو دعوى الاجماع من الطرفين
(3) في الوسائل، كتاب التجارة. باب 83 من أبواب ما يكتسب به
ذكر نص الحديث الأول، وأشار إلى الثاني بروايته عن الصدوق. وفي
(التهذيب للشيخ الطوسي) كتاب المكاسب، أحاديث النقاص حديث (99)
".. عن داود بن زربي قال قلت لأبي الحسن موسى.. " الخ.
280

وقال في الأخرى: " قلت لأبي الحسن عليه السلام: إني أعامل قوما،
فربما أرسلوا إلى فأخذوا مني الجارية والدابة فذهبوا بهما مني ثم يدور لهم
المال عندي، فآخذ بقدر ما أخذوا مني؟ فقال: خذ منهم بقدر ما أخذوا
منك ولا تزد عليه " (1) إن لم يكن ذلك إذنا منه.
نعم قد يقال: لو كان البدل من غير جنس الحق وكان مثاليا توصل
ببيع البدل إلى ما يكون من جنسه، فيقتص به عنه. وحينئذ فيجب الرفع
إلى الحاكم، لأن ولاية البيع غير ولاية التقاص.
إلا أنه يضعف: بأن دفع المثل إنما اعتبر الضمان لوجوب الرد
على الضامن في حالتي وجود العين وتلفها الصادق معه برد المثل عرفا.
والأخذ بالتقاص ليس فيه عنوان الرد والاسترداد حتى يعتبر فيه ذلك،
بل هو أخذ بالبدل عوضا عن ماله، سوغه الشارع تداركا للضرر المرتفع
بتدارك المالية.
وبالجملة، ليس في التقاص عنوان رد العين واستردادها حتى يعتبر فيه
المثل بخلاف الضمان المأخوذ فيه الخروج عن عهدة العين بردها الصادق
يرد مثلها بعد تلفها، فالرد والاسترداد عنوان، والأخذ بالبدل مقاصة
عنوان آخر، لا دليل على اعتبار المثل فيه أيضا، بل الأصل اقتضى عدمه.
وعليه فيتخير التقاص بين ما كان من جنسه وغيره لو اجتمعا عنده،
بل إطلاق الأخبار الآتية في التقاص عن الدين الذي لا ينفك غالبا
عن كونه عينا مخصوصة مع ترك الاستفصال عن جنس المال الذي

(1) في الوسائل، كتاب التجارة، باب 83 من أبواب ما يكتسب
به، ذكر نص الحديث الأول، وأشار إلى الثاني بروايته عن الصدوق
وفي (التهذيب للشيخ الطوسي) كتاب المكاسب، أحاديث التقاص حديث
(99) ". عن داود بن زربي قال قلت لأبي الحسن موسى.. " الخ.
281

يقتص به عنه يعطي جوازه مطلقا ولو من غير جنسه.
وإن كان الثالث أعني كون الحق دينا كان له التقاص بنفسه بما
يقع من ماله في يده إذا كان ممتنعا عن حقه أو جاحدا له من غير توقف
على إذن الحاكم مطلقا، تمكن منه ومن اثبات حقه عنده أولا، لاطلاق
بعض الأدلة المتقدمة، وخصوص ما ورد في الدين نحو: خبر جميل بن
دراج: سألت أبا عبد الله عليه السلام، عن رجل يكون له على الرجل
الدين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده: أيأخذه، وإن لم يعلم الجاحد
بذلك؟ قال: نعم " (1) وخبر علي بن مهزيار (2) وصحيح أبي بكير:
" قلت له رجل لي عليه دراهم فجحدني حلف عليها: أيجوز لي إن
وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي؟ قال فقال: نعم " (3)
والمروي عن النبي صلى الله عليه وآله لما قالت له هند: يا رسول الله
إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت

(1) الوسائل، كتاب التجارة، باب 83 من أبواب ما يتكسب به
حديث (10).
(2) في المصدر الآنف من الوسائل، حديث (8): " وبإسناده عن
محمد بن الحسن الصفار عن عبد الله بن محمد بن عيسى عن علي بن مهزيار عن
إسحاق بن إبراهيم: إن موسى بن عبد الملك كتب إلى أبي جعفر (ع)
يسأله عن رجل دفع إليه رجل مالا ليصرفه في بعض وجوه البر، فلم
يمكنه صرف المال في الوجه الذي أمره به، وقد كان له عليه مال بقدر
هذا المال، فسأل. هل يجوز لي أن أقبض مالي أو أراده عليه؟ فكتب:
" اقبض مالك مما في يدك ".
(3) المصدر الآنف من الوسائل حديث (4) والظاهر أن الراوي
أبو بكر الحضرمي عن الإمام الصادق عليه السلام.
282

منه سرا، وهو لا يعلم، فهل على ذلك شئ؟ فقال صلى الله عليه وآله: " خذي
ما يكفيك وولدك بالمعروف " (1).
(ودعوى): تخيير الغريم في تعيين الوفاء من ماله إذا كان الحق
كليا، فلا يتعين إلا بتعيينه أو تعيين وليه إن كان ممتنعا، وهو الحاكم
القائم مقامه في التعيين (ضعيفة) لعدم المنافاة بين كون الحاكم وليا على
الممتنع وثبوت الولاية للمقتص أيضا بالأدلة الخاصة، فالأظهر كما عليه
الأكثر جواز التقاص بنفسه مطلقا من غير توقف على إذن الحاكم، ممتنعا
كان الغريم أو جاحدا.
نعم قيل كما عن الشيخ في (النهاية وجماعة: المنع عن التقاص
من الوديعة، لعموم ما دل على وجوب رد الأمانات إلى أهلها " (2) حتى
ورد عن الصادق عليه السلام في خبر عبد الله بن إسماعيل: " أد الأمانة
لمن ائتمنك وأراد منك النصيحة ولو أنه قاتل الحسين عليه السلام " (3)
وقال أيضا في خبر عمار: " إعلم أن ضارب علي بالسيف وقاتله، لو ائتمنني

(1) ذكر هذا الحديث الشريف في كتاب (الأدب النبوي) تأليف
عبد العزيز الخولي: ص 298 حديث رقم (127) ونسب روايته إلى
البخاري ومسلم.
(2) في الكافي، كتاب المعيشة، باب أداء الأمانة: روايات كثيرة
بهذا المضمون منها: " عن ابن بكير عن الحسين الشيباني أو الشباني
عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له: رجل من مواليك يستحل مال
بني أمية ودماءهم، وأنه وقع لهم عنده وديعة؟ فقال: أدوا الأمانات
إلى أهلها وإن كانوا مجوسا ".
(3) في الوسائل، كتاب الوديعة: باب 2 وجوب رد الأمانة حديث (4)
هكذا: عن إسماعيل بن عبد الله القرشي في حديث: إن رجلا
قال لأبي عبد الله عليه السلام: الناصب يحل لي اغتياله؟ قال: أد
الأمانة.. الخ. وبمضمونه بنفس المصدر حديث (12).
283

على السيف واستشارني ثم قبلت ذلك منه لأديت إليه الأمانة " (1).
وخصوص خبر ابن أخ الفضيل بن يسار: " قال كنت عند أبي عبد الله
عليه السلام، ودخلت امرأة وكنت أقرب القوم إليها، فقالت لي: أسأله
فقلت: عماذا؟ فقالت: إن ابني مات وترك مالا كان في يد أخي،
فأتلفه، ثم أفاد مالا فأودعنيه، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شئ؟
فأخبرته بذلك، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله أد الأمانة
لمن ائتمنك، ولا تخن من خانك " (2).
والقول بالجواز للشيخ في (التهذيبين) والحلي في (السرائر)
والفاضل في (الإرشاد) و (المختلف) وظاهر (النافع) وصريح
(الشرايع) والصيمري في (شرحه) والمقداد في (التنقيح) والشهيدين
في (النكت) و (المسالك) على ما حكي عنهم، بل في الأخير، وعن
الكفاية: " إنه عليه أكثر المتأخرين " وفي (الرياض): " بل لعله
عليه عامتهم " لاطلاق الأدلة المتقدمة وعمومها، وخصوص صحيح البقباق:
". إن شهابا ماراه في رجل له ذهب بألف درهم، واستودعه بعد ذلك
ألف درهم، قال أبو العباس: فقلت له: خذها مكان الألف التي أخذ منك
فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب علي أبي عبد الله عليه السلام، فذكر

(1) في الكافي، كتاب المعيشة، باب أداء الأمانة، حديث (5):
" بسنده عن عمار بن مروان قال: قال أبو عبد الله: في وصية له: إعلم
أن ضارب علي. " الخ.
(2) الوسائل، كتاب التجارة باب 83 جواز استيفاء الدين،
حديث (3).
284

ذلك، فقال له: أما أنا فأحب أن أن تأخذ وتحلف " (1) ومكاتبة
علي بن سليمان: " قال كتب إليه رجل غصب رجلا مالا أو
جارية ثم وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه:
أيحل له حبسه عليه أم لا؟ فكتب عليه السلام: نعم يحل له ذلك أن
كان بقدر حقه، وإن كان أكثر فيأخذ أكثر فيأخذ منه ما كان عليه ويسلم الباقي له
إن شاء " (2). فلتحمل الأخبار المانعة على الكراهة، جمعا، بل
ظاهر الصحيحة عدمها، لكونه عليه السلام لا يحب المكروه، إلا أن
قاعدة التسامح تقتضي ثبوتها. ولو فرض التعارض بين الأخبار الخاصة
وتساويهما في الظهور وغيره الموجب لتساقطهما من البين وجب الرجوع
إلى عمومات الطرفين من وجوب رد الأمانات وجواز التقاص. والنسبة بينهما
وإن كان من العموم والخصوص من وجه، إلا أن المرجح لما عرفت مع
عمومات التقاص، مضافا إلى منع كون الأخذ بالتقاص خيانة، بل لعله
إحسان عليه بابراء ذمته، بل هو نوع إيصال له ورد إليه، فالأظهر
كما عليه الأكثر هو الجواز مطلقا، ولو كان من غير جنس حقه.
هذا وحيثما أراد التقاص ولم يمكن الأخذ بقدر حقه إلا ببيعه كما لو
كان له عليه مأة درهم وعنده سيف مثلا قيمته مأتان تولى بيعه ليقتص
بثمنه قدر حقه، ففي ضمانة لو تلف قبل بيعه بغير تعد وتفريط وعدمه
وجهان، بل قولان: اختار بعضهم العدم لأن القبض المتجدد بعد القصد
وإن لم يرض به المالك وخرج المقبوض عن كونه أمانة مالكية إلا أنه كان

(1) المصدر الآنف الذكر. حديث (2). وأبو العباس هو البقباق.
(2) تهذيب الشيخ الطوسي كتاب المكاسب أخر أحاديث التقاص
حديث (106): " عن محمد بن عيسى عن علي بن سليمان قال: كتب إليه.
والظاهر أن المقصود هو الباقر عليه السلام، بقرينة ما قبله من الحديث.
285

مأذونا من الشرع فيكون أمانة شرعية " والأمين مطلقا لا يضمن سواء كان
مالكيا أو شرعيا.
ويضعف بأن الإذن الشرعي أعم من المجاني والضمان بالعوض،
والعام لا يدل على خصوص الخاص، واليد من أسباب الضمان كالاتلاف
لعموم " على اليد " (1) ونحوه بعد فرض خروج ما تحتها عن كونه أمانة
مالكية، ولا ملازمة بين المأذونية والأمانة الشرعية التي معناها استنابة
المأذون في حفظ مال المالك بجعل الشرع، كالثوب الذي أطارته الريح
وأما التصرف المأذون في مال الغير باتلاف عين أو منفعة كالأكل في
المخمصة فقبضه مقدمة للاتلاف المأذون، وإن كان مأذونا فيه، لأن الإذن
في الشئ إذن في لوازمه، إلا أنه قبض ضمان لليد وعدم كون الإذن به
للحفظ لمالكه، بل لكونه مقدمة للاتلاف الذي رخص فيه شرعا، فلو
تلف قبل اتلافه كان عليه ضمانه، وليس إلا لليد الموجبة له بعد أن لم
يكن القبض قبض أمانة شرعية، وإن كان مأذونا به من الشارع، فإذا
الأظهر الضمان بمجرد القبض المراد به التقاص، ولو ببيعه والتقاص بثمنه
وإن جواز ذلك من باب التولية دون الولاية التي لا معنى لضمان الولي
كالحاكم ونحوه.
وفي ضمان الزائد على ما اقتص به من ثمنه، وعدمه وجهان. بل
قولان: والأقوى العدم وفاقا للقواعد وغيره، لكونه بالنسبة إليه أمينا
من الشارع استنابه على حفظه لمالكه إلى أن يوصله إليه فورا، فلو أخر
لا لعذر دخل في ضمانه، خلافا لشيخا في (الجواهر) تبعا لغيره.
ولعله نظرا إلى كونه سن ثمن مال مضمون عليه بجملته. وفيه: إن أحكام

(1) سيأتي الكلام من السيد الماتن ومنا حول هذه القاعدة
المستلة من الحديث النبوي الشريف في الرسالة الآتية (قاعدة اليد).
286

اليد تختلف باختلاف العناوين الطارئة عليها، فاليد على الزائد من الثمن
غيرها على العين المثمن باختلاف عنوانها، فافهم فإنه واضح.
(المبحث الخامس)
في ولاية المتصدق لمجهول المالك، لقطة كان أو غيرها، وهو:
عين أو دين.
فإن كان الأول تخير بين التصدق به أو بثمنه، أو كان الصلاح
في بيعه عن مالكه، لثبوت الولاية له في ذلك بالنصوص المستفيضة وبين
دفعه إلى الحاكم أو حفظه والايصاء به (1) ولا يضمنه على الأخيرين.

(1) وعلى كل من هذه الموارد الثلاثة شواهد من النصوص المذكورة
في كتاب اللقطة من كتب الأخبار، فشاهد التصدق من قبل الملتقط قول
أمير المؤمنين عليه السلام وقد سئل عن حكم اللقطة: " يعرفها فإن
جاء صاحبها دفعها إليه وإلا حبسها حولا، فإن لم يجئ صاحبها أو من
يطلبها تصدق بها " كما في الوسائل باب 2 من أبواب اللقطة. وشاهد
الدفع إلى الإمام عليه السلام وإلى الحاكم بحكم نيابته العامة عنه رواية
داود بن أبي يزيد عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رجل: إني قد أصبت مالا
وإني قد خفت فيه على نفسي، ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلصت منه
قال: فقال له أبو عبد الله (ع)، والله إن لو أصبته كنت تدفعه إليه؟
قال: إي والله، قال: فأما والله ماله صاحب غيري، قال: فاستحلفه
أن يدفعه إلى من يأمره، قال: فحلف، فقال: فاذهب فاقسمه في
إخوتك ولك الأمن مما خفت منه، قال: فقسمته بين إخواني "
الوسائل باب 7 من أبواب اللقطة وشاهد الحفظ والايصاء به
رواية علي بن جعفر عن أخيه الكاظم (ع): " قال: سألته عن الرجل
يصيب اللقطة دراهم أو ثوبا أو دابة: كيف يصنع؟ قال: يعرفها سنة
فإن لم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله حتى يجيء طالبها فيعطيها إياه
وإن مات أوصى بها، فإن أصابها شئ فهو ضامن " الوسائل باب 2
من أبواب اللقطة.
287

وفي ضمانه على الأول لو حضر المالك ولم يرض بالأجر؟ قولان: أشهرهما
ذلك، للنص (1) ولولاه لأمكن القول بعدمه، لأن ذلك نوع إيصال إلى
المالك بعد تعذر إيصال العين إليه. وهو الوجه للقول بالعدم، لا ما قيل
كما في (الروضة): من كونه أمانة قد دفعها بإذن الشارع فلا يتعقبه
الضمان (2) لأن الاتلاف من أسباب الضمان، والإذن به أعم من كونه
مجانا أو بالعوض.
وإن كان الثاني أمكن القول بتعيين الدفع إلى الحاكم، لأن المدفوع
لا يتعين كونه للمالك لكي يتصدق عنه إلا بقبضه أو قبض من يقوم مقامه
من الوكيل أو الحاكم، إلا أن إطلاق أدلة التصدق يعطي كون ولاية

(1) في الوسائل باب 2 من أبواب اللقطة حديث (14): " عن علي
ابن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: وسألته عن الرجل يصيب اللقطة
فيعرفها سنة، ثم يتصدق بها، فيأتي صاحبها: ما حال الذي تصدق بها؟
ولمن الأجر؟: هل عليه أن يرد على صاحبها أو قيمتها؟ قال: هو
ضامن لها، والأجر له، إلا أن يرضى صاحبها فيدعها والأجر له ".
(2) راجع: كتاب اللقطة، الفصل الثالث في لقطة المال. في شرح
قول الماتن (وفي الضمان خلاف) أي في الضمان وعدمه. فبعد أن ذكر
منشأ الضمان: من دلالة الأخبار، وقاعدة (على اليد)، وكونه إتلاف
مال الغير ذكر منشأ عدم الضمان، فقال: ومن كونه أمانة. الخ.
288

التعيين له أيضا كالمالك في الزكاة، الذي له ولاية التعيين والتبديل.
ولكن الاحتياط في الدين لا ينبغي تركه.
ولو كان لقطة التي معناها المال الضايع لا مطلق ما لا يد عليه من المال
تخير الملتقط بعد التعريف حيث يجب بين الوجوه الثلاثة المتقدمة وزيد
فيها مطلقا أو في غير الحرم منها جواز التملك بالنية مضمونا عليه لمالكه
لو ظهر وطلبه بالمثل أو بالقيمة بمعنى تملكه بنحو المجان غير مضمون عليه إلا
بعد الظهور والمطالبة لا بمعنى كونه مضمونا من حين التملك بنحو المعاوضة
أو بنحو الضمان الموجب لاشتغال الذمة بالمثل أو القيمة عند التلف قبل الظهور
فيكون دينا على التقديرين يخرج لو مات من أصل التركة، كما يظهر من عبارات
الأكثر إلا أنها منزلة على ما ذكرنا، كما هو مفاد الأخبار الواردة في المقام،
وصرح به الشيخ على ما حكى عنه في (التذكرة) حيث قال: " مسألة
قال الشيخ رحمه الله: اللقطة تضمن بمطالبة المالك لأبنية التملك " وإن أورد
عليه بقوله بعده: " وفيه نظر لأن المطالبة تترتب على الاستحقاق
فلو لم يثبت الاستحقاق أولا لم يكن لصاحبها المطالبة فلو ترتب
الاستحقاق على المطالبة لزم الدور " (1). إلا أنه فيه أن علقة المالك
حسبما دلت عليه الأدلة لم تذهب بالكلية وإن ضعفت حتى بلغت
أدنى مراتب الملك من مرتبة مالك أن يملك، وهذه المرتبة كافية في جواز
المطالبة والتغريم بعدها. وكيف كان فلو نوى الحفظ لمالكه بعد نية التملك
لم يخرج عن كونه مضمونا بالمعنى الذي ذكرنا من الضمان التقديري بحيث
لو ظهر وطلب كان عليه رد المثل أو القيمة مطلقا أو مع تلف العين،
ومع وجودها ردها، فيكون بحكم الفسخ الموجب لذلك لعدم الخروج

(1) راجع هذا الموضوع في آخر المبحث الأول الضمان وعدمه
من المطلب الثاني في الأحكام من كتاب اللقطة.
289

بمجرد ذلك عن ملكه وصيرورته أمانة بيده. ولو انعكس الأمر، بأن
نوى التملك بعد نيته الحفظ صح تملكه وضمن بالمعنى المذكور من حينه
وليس اختيار الحفظ مانعا عن جواز التملك لكونه مشمولا لاطلاق ما دل
على جوازه. وتفصيل الكلام في المقام موكول إلى محله. والمقصود هنا
بيان ثبوت الولاية في الجملة لمن بيده المال أو عليه قيمته.
(المبحث السادس)
في ولاية الحسبة التي هي بمعنى القربة، المقصود منها التقرب بها إلى
الله تعالى. وموردها كل معروف علم إرادة وجوده في الخارج شرعا من
غير موجد معين. فهو من قبيل ما كان فيه ولاية الفقيه، غير أنه متعذر
الوصول له حتى يرجع إليه. وثبوتها في مواردها مدلول عليه بالكتاب
عموما، نحو قوله تعالى: " وأحسنوا إن الله يحب المحسنين " (1) وقوله:
" وما على المحسنين من سبيل " (2) بعد معلومية كونه إحسانا، والسنة
المستفيضة عموما كقوله صلى الله عليه وآله: " عون الضعيف من أفضل الصدقة "
ونحوه، وخصوصا، كما ستعرف، والاجماع بقسميه محصلا ومنقولا
فوق حد الاستفاضة، بل وبضرورة العقل الحاكم بوجوب حفظ النظام.
فمن الموارد المنصوص عليه بخصوص: ولاية عدول المؤمنين فيما لم
يكن أب ولا جد ولا وصي ولا حاكم أن يأتوا بما للأب والجد فيه الولاية
أو الحاكم، مع عدم لزوم المباشرة. ضرورة تقدمهم عليهم إن وجدوا

(1) سورة البقرة / 195، ومبدء الآية: " وأنفقوا في سبيل الله
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأحسنوا.. ".
(2) سورة التوبة / 92. ومبدء الآية: " ليس على الضعفاء ولا على
المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله
ما على المحسنين. ".
290

نصا وفتوى، بل ضرورة، لما رواه في (الكافي) في الصحيح: عن
محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: مات رجل من أصحابنا ولم يوص، فرفع
أمره إلى قاضي الكوفة، فصير عبد الحميد القيم بماله وكان الرجل خلف
ورثة صغارا ومتاعا وجواري، فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع
الجواري ضعف قلبه في بيعهن، إذ لم يكن الميت صير إليه وصيته،
وكان قيامه بهذا بأمر القاضي، لأنهن فروج، فذكرت ذلك لأبي جعفر
عليه السلام، فقلت له: يموت الرجل من أصحابنا ولم يوص إلى أحد
ويخلف الجواري فيقيم القاضي رجلا منا ليبيعهن، أو قال: يقوم بذلك
رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج. فما ترى في ذلك القيم؟ قال
فقال: إذا كان القيم مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس " (1). ومثله
ما رواه في التهذيب في آخر الوصايا، لكن بزيادة تقييد عبد الحميد فيه
(بابن سالم العطار) وكذا حكاه عنه في (نقد الرجال) (2) بالزيادة
المذكورة.
والوجوه المحتملة في المماثلة بين أمور أربعة: المماثلة في الايمان بالمعنى
الأعم، أو في الوثاقة وبينهما عموم من وجه، أو في الفقاهة لكون محمد بن
إسماعيل بن بزيع من الفقهاء من مشايخ بن شاذان، و عبد الحميد إن أريد به
ابن سعد البجلي الكوفي بناء على ظهور لفظ (الكتاب) فيها لما عن

(1) في الوسائل باب 16 من أبواب عقد البيع وشروطه، حديث (2)
ينقله عن الكافي والتهذيب.
(2) فقال هكذا: عبد الحميد بن سالم العطار ثقة.. ونقد الرجال
تأليف المير مصطفى التفريشي المتوفى بعد سنة 1015 ه‍، وهو تاريخ فراغه
من تأليف كتابه، إذ لم يضبط لوفاته تأريخ معين.
291

(النجاشي) في حقه: " صفوان عنه بكتابه " (1) أو في العدالة.
لا سبيل إلى الثالث لمعلومية عدم اعتبارها مجردة عن غيرها من أحد
العناوين المتقدمة، مع منافاة اعتباره لاطلاق المفهوم الدال على ثبوت البأس
مع عدم الفقيه ولو مع تعذره المفروض إرادة ايجاده مع فقد الفقيه أيضا
ولو لتعذر الوصول إليه، وهذا بخلاف الاحتمالات الأخر، فإن البأس
ثابت للفاسق أو الخائن أو المخالف.
وأما الوثاقة، فيقرب اعتبارها موثقة سماعة: " في رجل مات
وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية وله خدم ومماليك كيف يصنع
الورثة بقسمة ذلك؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس " (2)
بناء على أن المراد من يوثق به في مراعاة المصلحة وملاحظة الغبطة، كما
ورد في صحيحة علي بن رثاب: " رجل مات وبيني وبينه قرابة وترك
أولادا صغارا ومماليك وجواري، ولم يوص، فما ترى فيمن يشتري منهم
الجارية ويتخذها أم ولد، وما ترى في بيعهم؟ قال: إن كان لهم ولي
يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم وكان مأجورا منهم، قلت: فما ترى
فيمن يشتري منهم الجارية ويتخذها أم ولد؟ فقال: لا بأس بذلك إذا باع
عليهم القيم بأمرهم الناظر فيما يصلحهم وليس لهم أن يرجعوا فيما فعله

(1) في رجال النجاشي حرف العين: " عبد الحميد بن سعد
بجلي كوفي، له كتا ب، أخبرنا ابن نوح قال: حدثنا الحسن بن حمزة
قال: حدثنا ابن بطة قال: حدثنا الصفار قال: حدثنا أحمد بن محمد بن
عيسى قال: حدثنا صفوان عن عبد الحميد بكتابه ".
(2) في تهذيب الشيخ الطوسي من زيادات كتاب الوصية، حديث
(22) هكذا: " أحمد بن محمد عن عثمان بن عيسى عن زرعة عن سماعة
قال: سألته عن رجل..
292

القيم بأمرهم الناظر فيما يصلحهم " (1) الخبر. وعليه فالظاهر كون
عبد الحميد هو ابن سالم العطار، الذي نص على وثاقته كثير من علماء
الرجال، وقيده به في (التهذيب) ولم نعثر على من نص على وثاقة عبد الحميد
ابن سعد البجلي، إلا أن الاغا في (التعليقة) (2) استقرب كونه هو،
واستبعد كونه ابن سالم، معللا مع سقوطه من نسخته في (التهذيب)
بأن المراد من أبي جعفر عليه السلام في الرواية: هو الجواد عليه السلام،
وابن سالم من أصحاب الصادق والكاظم عليهما السلام، لم يدرك الجواد
عليه السلام، فيعطي كونه ابن سعد البجلي الكوفي. وفيه مع أن ابن
سعد لم يثبت كونه أدرك الجواد عليه السلام أيضا، وإن قلنا باتحاده مع
ابن سالم حيث أنه من أصحاب الرضا (ع) فقط أو الكاظم والرضا
عليهما السلام أن عبد الحميد ليس راويا عن الجواد عليه السلام حتى
يلزم أن يكون حيا يومئذ، وإنما الراوي ابن بزيع. ولعل مراده: إنه
اتفق ذلك ولو قيل وقت السؤال بمدة، وحكاه للإمام حكاية، مع
امكان توثيقه أيضا بنفس هذه الرواية فتأمل، ورواية صفوان الذي هو
من أصحاب الاجماع عنه.
إلا أن الأقوى مع ذلك اعتبار العدالة، للنص عليها في خبر
إسماعيل بن سعد: " قال سألت الرضا عليه السلام عن رجل يموت بغير
وصية وله ولد صغار وكبار: أيحل شراء شئ من خدمه ومتاعه من غير

(1) المصدر نفسه، حديث (21) سهل بن زياد عن ابن محبوب
عن علي بن رثاب قال: سألت أبا الحسن (ع) عن رجل بيني وبينه
قرابة مات وترك..
(2) تعليقة الاغا الوحيد البهبهاني المتوفى سنة 1206 ه‍ كما هو الصحيح
على رجال الميرزا محمد الاسترآبادي المطبوع بإيران، طبعت معه في هامشه.
293

أن يتولى القاضي بيع ذلك، فإن تولاه قاض قد تراضوا به ولم يستعمله
الخليفة، أيطلب الشراء منه أم لا؟ قال عليه السلام: إذا كان الأكابر
من ولده معه في البيع، فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع وقام عدل في
ذلك " (1). مضافا إلى أن الحكم، أعني التصرف في مال الغير، حيث
كان مخالفا للأصل وجب الاقتصار فيه على الأخص منها، وهو العدالة
لأنها أخص من الايمان والوثاقة. مع كونها المنساق إليها في أمثال
ذلك عرفا.
هذا ومع تعذر العدول، فهل يثبت ذلك لغيرهم من الفساق، فيكون
واجبا كفائيا على كل من يقدر عليه وإن كان فاسقا؟ أو لا.
والكلام فيه (مرة) من حيث تكليفه نفسه في جواز تصديه وعدمه
(وأخرى) من حيث فعله المرتبط به فعل غيره كشراء مال الطفل منه
حيث تصدى لبيعه.
أما الأول، فالظاهر جواز توليته ذلك مع المصلحة ومراعاة الغبطة،
توصلا إلى ما يريد الشارع ايجاده للمصلحة المترتبة على وجوده، كتجهيز
الميت الواجب كفاية على كل من يتمكن منه مع عدم ولي له مطلقا حتى
الحاكم وعدول المؤمنين، وحينئذ فلو أحرز صدور الفعل المعروف منه
سقط عن الغير، وإن شك في صحته، حملا للفعل منه على الصحيح بحكم
أصالة الصحة في فعل المسلم. وفي قبول قوله لو أخبر بوقوعه منه صحيحا
تردد، ينشأ: من أنه يملك وقوعه كذلك فيملك الاقرار به كما يقبل قول
الوكيل فيما وكل فيه. ومن لزوم التبين في نبأ الفاسق بحكم آية

(1) تهذيب الشيخ الطوسي: آخر كتاب الوصية في الزيادات: آخر
حديث (20).
294

النبأ " (1).
وأما الثاني، ففي جواز الاقدام على ما يصدر منه من التصرف،
ولو مدعيا فيه المصلحة ومراعاة الغبطة، إشكال، ما لم يحرز ذلك فيه
بنفسه، فلا يجوز اشتراء مال الطفل من الفاسق المتصدي لبيعه، ما لم يحرز
المشتري الغبطة له في بيعه، إذ لم يقع منه فعل حتى يحمل على الصحيح
بل هو متصد لوقوعه، وغير مصدق في دعواه الغبطة، وإن كان الأخبار
بها مرجعه غالبا إلى علمه الذي لا يعلم إلا من قبله. وهذا بخلاف العادل
المصدق في خبره بالنسبة إلى المخبر به في الواقع، وإن كان من علمه الذي
هو طريق له إليه، وليست المصلحة مما لا طريق إلى ثبوتها إلا بعلم المخبر الذي
لا يعلم إلا من قبله حتى يجب تصديق الفاسق في خبره لترتب المخبر به عليه.
وبعبارة أخرى: تصديق خبر العادل بحكم مفهوم آية النبأ ولزوم
التبين في خبر الفاسق بحكم منطوقها إنما هو في كل منهما بالنسبة إلى
المخبر به، دون نفس الخبر وبالجملة، الحكم هنا وهو جواز التصرف
في مال الطفل محمول على تصرف فيه الغبطة له، فيجب أولا احراز
الموضوع في ترتب الحكم عليه، فلا بد في كل فعل يقع بين اثنين من
إحراز الموضوع لكل منهما في ترتب الحكم عليه، ولعله يعطي ذلك وقوع
السؤال عن حل الشراء وطيبه في خبر إسماعيل بن سعد، الدال بمفهوم
الجواب على ثبوت البأس إذا لم يقم عدل في ذلك.
وعليه فيجوز بل يجب أخذ المال من يدل الفاسق المتصدي لبيعه
ما لم تعلم الغبطة فيه، لأن عموم أدلة القيام بذلك المعروف لا ترفع اليد

(1) وهي قوله تعالى كما في سورة الحجرات / 6: " يا أيها
الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا
على ما فعلتم نادمين ".
295

عنها بمجرد تصرف الفاسق، فإن وجوب اصلاح مال اليتيم ومراعاة
غبطته لا ترتفع عن الغير بمجرد تصرف الفاسق.
نعم لو وجد في يد الفاسق ثمن من مال الصغير لم يلزم الفسخ مع
المشتري وأخذ الثمن من الفاسق، لأن مال اليتيم الذي يجب إصلاحه
وحفظه من التلف لا يعلم أنه الثمن أو المثمن، ولعل أصالة صحة المعاملة
من الطرفين تحكم بالأول، إن لم تكن مثبتة، لكن يجري المنع عن تناول
الثمن على كل من تقديري صحة المعاملة على المثمن وفسادها، لبقائه على
ملك مالكه على الثاني، وعدم إحراز المصلحة فيه على الأول.
هذا وليعلم إن تصرف العدول مع فقد من هو مقدم عليهم في
المرتبة ليس على وجه النيابة عن الحاكم، فضلا عن كونه على وجه النصب
من الإمام عليه السلام، بل هو محض امتثال للتكليف به وجوبا أو
استحبابا، فيجوز لغير المتصدي منهم مزاحمة المتصدي فيه، وإن دخل في
مقدمات العمل، وكان الأثر لمن سبق منهما في النتيجة دون المقدمات.
وأما الحكام ففي جواز مزاحمة بعضهم لمن سبقه منهم في مقدمات
العمل دون نفسه؟ وجهان: مبنيان كما قيل على مستند ولاية الحاكم
فإنه: إن استندنا في ولايته إلى أمره عليه السلام، بارجاع الحوادث إليه
في (التوقيع) المتقدم) جازت مزاحمته قبل وقوع التصرف منه وإن دخل في
مقدماته لأن المأمورين بالارجاع هم العوام دون الحكام، فإنهم أولياء
في مرتبة واحدة كالأب والجد له الموجب لنفوذ تصرف السابق منهما في
نفس الفعل دون مقدماته، وإن استندنا إلى عمومات النيابة كما يعطيه إضافة
(الحجة) إلى نفسه في تعليله " بأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله "
وغيره، فيمكن أن يقال بعدم جواز المزاحمة بعد سبق أحدهم، ولو في
مقدمات الفعل، لأنه بعد تنزيله منزلة الإمام بالنيابة التي مرجعها إلى تنزيل
296

النائب منزلة المنوب عنه، كان كمن زاحم الإمام عليه السلام، بعد دخوله
ولو في مقدمات الفعل، المعلوم عدم جواز ذلك.
لكن الأظهر جواز ذلك مطلقا، وإن استندنا في ذلك إلى عمومات
النيابة، لأن المنع حينئذ إنما يتم لو كانت النيابة متعلقة بمقدمات الفعل
أيضا، كنفسه، وهو ممنوع إذ المسلم كون الفعل بنفسه متعلق بالنيابة دون
مقدماته، فلا ينزل منزلة الإمام إلا حيث يدخل فيما كان نائبا عنه فيه
وهو نفس التصرف المعروف دون مقدماته، وإن هما إلا كالوكيلين النافذ
تصرف السابق منهما فيما وكل فيه، وإن سبقه الآخر في مقدماته.
هذا كله ما لم تستلزم المزاحمة والسبق إلى النتيجة توهينا لمن سبقه في
التصدي الداخل في مقدمات العمل قبله وإلا فهو ممنوع لذلك، وهو أمر
آخر لا دخل له بالجهة المبحوث عنها فافهم، والله العالم بحقائق أحكامه.
ثم ما سمح به الدهر من تحرير مسألة الولاية، لا ما أردناه، إذ كان
المرام هو التتبع التام والعموم في كلمات القوم، واستحصال نهاية ما أرادوا
واستنتاج غاية ما أفادوا، فحال دون المرام حائل الأيام، وتتابعت صروف
الزمان ومعوقات الحدثان، فمما أصبت به عند اشتغالي بالولاية: أن فجعت
بولد، وأي ولد، روح له اللطف جسد، علي الاسم والسمة،، لم أسمع
في حبه لا ولمه، نشأ أكرم منشأ، ويعرف حسن المنتهى بحسن المبدء
غاص في بحار الفقه على الخفايا وبجودة الفكر أبرزها، وجال في ميادين العلم
لاحراز الغاية فأحرزها. ورثاه بعض العلماء (1). بقصيدة، أولها:

(1) هو العلامة الأديب السيد رضا بن السيد محمد بن هاشم الموسوي
النجفي الشهير بالهندي المتولد سنة 1290 والمتوفى سنة 1363 ه‍ والقصيدة
تناهز الخمسين بيتا من روائع الأدب العربي، نوجد بكاملها في مجموعنا
المخطوط.
297

ألم يكف بالمهدي ما فعل الردى * فثنى وأشجى في علي محمدا
فأقام فقده وأقعد، وغار الحزن بقلبي وأنجد.
ما غاب عني إنما شوقه * يمثله عندي على شكله
فأطلق الدمع لفقدانه * وأحبس القلب على ثكله
ما كنت بالجازع لو لم أكن * فجعت بالمهدي من قبله
لا يبرء الآسون جرح الحشا * إن وقع الجرح على مثله (1)
أصبت به ولما يندمل جرح أخيه، وحصلت منها على ضد ما أرتجيه
كنت أرتجي أن يكونا أكرمي خلف عن أكر سلم، يستكملان تليد
الفضل والطريف، ويرفعان قواعد الدين الحنيف.
فكان غير الذي قدرت من أمل * (ما كل ما يتمنى المرء يدركه)
وطنت نفسي لما يجري القضاء به * رضا بما يفعل المولى ويتركه
قد يصعب المهر أحيانا وفارسه * يلوي الشكيم على شد قيد يعركه (2)
" وحسبي الله ونعم الوكيل وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد "

(1) الظاهر: أن هذه الأبيات الأربعة من إنشاء المصنف قده
في رثاء ولده وقرة عينه، وتطفح العاطفة الأبوية من خلالها.
(2) وهذه الأبيات الثلاثة أيضا من إنشاء قريحة السيد المصنف قده
في رثاء ولديه وفلذتي قلبه، فقد فقد بفقدهما عينيه الباصرتين. وعجز البيت
الأول تضمين لصدر بيت للمتنبي، عجزه (تجري الرياح بما لا تشتهي
السفن) من قصيدة له كما في ديوانه يستهلها بقوله:
بم التعلل لا أهل ولا وطن * ولا نديم ولا كأس ولا سكن
298

رسالة
في قاعدة اليد
299

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين:
محمد صلى الله عليه وآله وعترته الطيبين الطاهرين، ولعنه الله على
أعدائهم أجمعين، من الآن إلى يوم الدين. وبعد، فيقول الراجي عفو
ربه الغني محمد بن محمد تقي آل بحر العلوم الحسني الحسيني الطباطبائي (1).
(مسألة)
في قاعدة اليد، والكلام فيها (مرة) في موضوع اليد ومعناها
(وتارة) في اعتبارها بعد قيام الدليل عليه من حيث كونها أصلا أو
إمارة (وأخرى) في أحكامها وسعة عمومها (ورابعة) في معارضتها
مع غيرها وتقديمها عليه وتقديم الغير عليها، فهنا مقامات:

(1) هكذا كان سيدنا وجدنا (بحر العلوم) يكتب في توقيعاته الشريفة
ويوجد لدينا بعض صور خطه الشريف موقعا ب‍ (محمد المهدي الحسني الحسيني
الطباطبائي) وذلك بحكم انتسابه إلى إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن
إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن السبط (ع) وأم إبراهيم
الغمر المدفون في الكوفة فاطمة بنت الإمام الحسين (ع)، فهو من
طرف الأب حسني طباطبائي، ومن طرف الأم حسيني فاطمي.
300

(المقام الأول)
في معنى اليد. والمقصود منها في المقام: هو الاستيلاء والسلطنة على
الشئ بحيث تكون لصاحبها القدرة على أنحاء التصرف فيه. وهو أحد
معانيه الحقيقية عرفا، للتبادر، بل ولغة، كما يظهر من تعدادهم ذلك
في معانيها الظاهر في الحقيقة، فعن ابن الأعرابي في (لسان العرب):
" اليد: النعمة، واليد: القوة، واليد: القدرة، واليد: الملك: واليد:
السلطان، واليد: الطاعة، واليد: الجماعة، واليد: الأكل " وفيه أيضا:
" ويد الريح: سلطانها، قال لبيد: (نطاف أمرها بيد الشمال) لما ملكت
الريح تصريف السحاب جعل لها سلطان عليها، ويقال: هذه الضيعة في
يد فلان، أي في ملكه، ولا يقال: في يدي فلان " (1) وفي (الصحاح):
" واليد: القوة، وأيده أي قواه إلى أن قال: " وهذا الشئ في
يدي أي في ملكي " وفي (القاموس) في تعداد معانيها قال:
" والقوة والقدرة والسلطان والملك بكسر الميم.. (3) " انتهى. وهي
بهذا المعنى لا تستلزم وقوع التصرف فيه، بل يكفي في تحققها القدرة عليه
فمن حمى أرضا لنفسه استولى عليها، وإن لم يتصرف فيها بزرع أو رعي
ونحوهما، فإنه ذو يد عليها عرفا قبل وقوع التصرف فيها. نعم، لا يصدق
اليد على الشئ بمجرد القدرة على الاستيلاء عليه، بل لا بد من فعليته في

(1) راجع ذلك في مادة (يدي) منه
(2) راجع ذلك في مادة (يدي) منه (3) وتتمة العبارة: " والجماعة والأكل والندم والغياث والاستلام
والذل والنعمة والاحسان تصطنعه " راجع ذلك في مادة (يدي) منه.
301

صدقها عليه، فالقدرة على الاستيلاء غير فعليته الموجبة لتحققها به، فقد
تجتمع مع التصرف، وقد تنفك عنه، ولذا تنقسم اليد إلى المجردة عن
التصرف، والمنضمة معه. نعم بالاستيلاء تتحقق مرجعية المستولي للمال،
وإليه يرجع أمر المال في كل ما يتعلق به، فلا ينفك الاستيلاء عن المرجعية
بل هي أثره ومسببة عنه.
ثم اليد على الشئ التي قد عرفت أن معناها الاستيلاء عليه والإحاطة به:
(مرة) تكون سببا للملك (وأخرى) مسببة عنه.
فالأول، كالحيازة للمباح، فإنها تحدث ربطا بينه وبين الحائز ربط
إضافة واختصاص، يعبر عنه بالملك، له طرفان: طرف الإضافة إلى
المالك، وطرف التعليق بالمملوك، ولا ينتفي الربط الحادث به بكلا
طرفيه إلا بفك الملك كالتحرير والاعراض على القول بخروج المعرض
عنه عن الملك به.
والثاني، وهو ما كان مسببا عن أحد النواقل الشرعية، سواء كانت
اختيارية أو قهرية، كالإرث، فإن اليد والاستيلاء على المنتقل إليه إنما
هو بأحد أسبابه الموجبة للنقل إليه، والنقل حينئذ إنما هو تحويل لطرف
الإضافة من المنتقل إلى المنتقل إليه، فطرف التعلق والحالة هذه
لم ينفك عن كونه متعلقا به، وإن كان بالدقة الفلسفية يرجع إلى إعدام
ربط الأول بطرفيه وإحداث ربط جديد بين المال والمنتقل إليه، فالملك
حينئذ مسبب عن العقد دون الاستيلاء، بل الاستيلاء والسلطنة عليه مسبب
عن الملك الحاصل بأحد أسبابه، غير أن السلطنة المسببة عن أحد أسبابها
إنما هي السلطنة الاستحقاقية، وقد تجامع الاستيلاء الفعلي، فيتحدان في
الوجود، وقد تنفك الاقتضائية عن الفعلية كالعين المغصوبة تحت
يد الغاصب.
302

هذا وما ذكرنا من انفكاك اليد عن التصرف لا ينافي استكشاف
ثبوتها به حيث يقع الشك في تحققها بعد أن كانت فعلية التصرف مسببة
عنها غالبا.
وبالجملة: لا شك في صدق اليد لمن يشاهد منه بعض التصرفات
المترتبة على الملك كالبيع والإجارة في الأعيان، واستعمالها كذلك غالبا
كالحمل والركوب في الدابة والهدم والتعمير في الدار والزرع والغرس في
الأرض وغير ذلك من وجوه الاستعمالات الكاشفة عن اليد والاستيلاء بدلالة
الأثر على المؤثر. والمرجع فيما شك في صدق اليد به إنما هو العرف.
والظاهر صدق اليد على الدار لمن أغلق بابها ومفتاحها بيده، كما
تصدق اليد على الدابة إذا كان بيده زمامها. وفي صدق اليد على الدار
بمجرد كون مفتاحها بيده ما لم يعلم استناد الاغلاق إليه؟ اشكال. وأشكل
منه مع انفتاح الباب، فهو كمن بيده لجام الدابة غير الملتجمة به وإن
اختص بها.
وفي صدق اليد على المتاع بوجوده في داره. أو على الدار بوجود
متاعه فيها ما لم يعلم استناد الوضع إليه أيضا؟ إشكال. اللهم إلا أن يدعى
ظهور ذلك في كونه مستندا إليه، وهو على عهدة مدعيه أولا.
ولو سلم فممنوع بلوغ ظهوره حد الصدق به ثانيا.
وقد تتعارض وجوه التصرف والاستعمال. فإن تساويا في مرتبة
الاستكشاف في الشدة الضعف تساويا في صدق البدء أو عدمه. وإلا فالصدق
لما هو أشد في القوة كالدابة التي عليها حمل أحد وزمامها بيد الآخر.
فهي لآخذ الزمام دون صاحب الحمل، بل ولو ركبها رجل وقادها الآخر
فاليد للقائد. ولو كان لأحد الجارين استطراق في مسلك مخصوص في
دار جاره إلى بئر يستقى منها مثلا فهل المسلك مشترك في الملك بينهما
303

بناء على صدق اليد لهما عليه، أو يختص بصاحب الدار، وإنما لجاره
حق الاستطراق فقط لمنع اليد على أزيد مما يفيد ملك المنفعة أو
الانتفاع، أو يختص بالسالك بدعوى اختصاص اليد له المستكشف بمشاهدة
تصرفه فيه ومنع ثبوت يد لصاحب الدار عليه ما لم يكن مشاركا له في
استعماله والتصرف فيه؟ احتمالات: أضعفها الأخير، ولكل من الأولين
وجه. ولعل الأخير أوجه. وإن لم يكن للسلوك مسلك مخصوص لم يثبت
له أزيد من حق الاستطراق قطعا، لمنع صدق اليد له على شئ من عرصة
الدار، وإن تعين عليه ذلك في أقصر الخطوط من المبدء إلى المنتهى، لأنه
المتيقن من تعلق حق الانتفاع به وجواز مزاحمة المالك فيه. والتعيين في
جزء منها، إن قلنا به، فبحكم شرعي لا مدخلية له في صدق اليد
عليه عرفا.
ويد الودعي على الوديعة يد المودع بعد تنزيله منزلته في حفظها لأن
معناها الاستنابة في الحفظ ولذا لا يقع الضمان فيها لعدم تعقل ضمان الانسان
لنفسه في ماله، بل هو كذلك في مطلق الأمين كالوكيل والمستعير، فاليد
فيهما حقيقة للموكل والمعير، وإن كانت العارية بالضمان تخرج عن الايتمان
فيد التابع للمتبوع وإن ترتب عليها أثر في الجملة من حيث هي كذلك.
(المقام الثاني)
في الدليل على اعتبارها. ويدل عليه مضافا إلى محكى الاجماع
المستفيض المعتضد بدعوى الاتفاق عليه من بعض والضرورة من آخر
الروايات المستفيضة: منها رواية حفص بن غياث المروية في الكتب
الثلاثة، وفيها: " أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل، أيجوز لي أن
304

أشهد أنه له؟ قال: نعم، فقال الرجل: أشهد أنه في يده، ولا أشهد
أنه له فلعله لغيره؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: أفيحل الشراء منه؟
قال: نعم، فقال عليه السلام: فلعله لغيره، فمن أين جاز لك أن
تشتريه ويصير ملكا لك، ثم تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه
ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبلك إليك؟ ثم قال (ع): ولو
لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق " (1).
ومنها المروية في الوسائل صحيحا، وعن الاحتجاج مرسلا
كما قيل: عن مولانا الصادق عليه السلام في حديث فدك: " إن
مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: أتحكم فينا بخلاف حكم
الله تعالى في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شئ
يملكونه ادعيت أنا فيه: من تسأل البينة؟ قال: إياك كنت أسأل البينة
على ما تدعيه على المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شئ فادعي فيه
المسلمون: تسألني البينة على ما في يدي، وقد ملكته في حياة رسول الله
صلى الله عليه وآله وبعده ولم تسأل المؤمنين على ما ادعوا علي كما
سألتني البينة على ما ادعيت عليهم " (2).

(1) راجع: الوسائل كتاب القضاء، باب 25 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى، حديث (2) ولعل مقصوده من الكتب الثلاثة
باستثناء الاستبصار بقرينة نقل الوسائل نفس الحديث عن الصدوق والشيخ
والكليني، والرواية عن الصادق (ع).
(2) في الوسائل، بنفس الباب حديث (3) بسنده عن علي بن إبراهيم
في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعا عن
أبي عبد الله (ع).. وقال بعد نقل الحديث: ورواه الصدوق في (العلل)
عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن أبيه، ورواه الطبرسي في (الإحتجاج) مرسلا.
305

ومنها رواية مسعدة بن صدقة: " كل شئ هو لك حلال حتى
تعرف الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل ثوب يكون عليك
قد اشتريته وهو سرقة: أو المملوك عندك لعله حر قد باع نفسه أو خدع
فبيع قهرا أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على
هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة " (1).
ومنها رواية حمزة بن حمران: " أدخل السوق فأريد أن أشتري
جارية، تقول: إني حرة، فقال: اشترها، إلا أن يكون لها بينة " (2).
ومنها صحيحة العيص: " عن مملوك ادعى أنه حر ولم يأت ببينة
على ذلك: أشتريه؟ قال نعم " (3).
ومنها موثقة يونس بن يعقوب: " في المرأة تموت قبل الرجل أو
رجل قبل المرأة؟ قال (ع): ما كان من متاع النساء فهو للمرأة وما كان من
متاع الرجل والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شئ منه فهو له " (4).

(1) في الوسائل، كتاب التجارة باب 4 من أبواب ما يتكسب به
حديث (4): عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
سمعته يقول: كل شئ..
(2) الوسائل، كتاب التجارة باب 5 من أبواب بيع الحيوان حديث
(2) بسنده عن حمزة بن حمران قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
أدخل السوق..
(3) نفس المصدر والباب حديث (1) بسنده عن العيص بن القاسم
عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن مملوك..
(4) في الوسائل، كتاب الفرائض والمواريث، باب 8 من أبواب
ميراث الأزواج حديث (3)، عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (ع)
في امرأة تموت..
306

(والمناقشة) فيها بضعف السند في بعض، وعدم الدلالة أو اجمالها
في جملتها، لأن حديث (فدك) لا يدل على أزيد من كون المطالب بالبينة
إنما هو المدعى دون المدعى عليه، وهو غير المدعى: من إفادة اليد
الملكية، ومثل ذلك في عدم الدلالة له ما تضمن جواز الشراء ممن يكون
المال في يده الدال على صحة المعاملة معه بالغاء ما يوجب المنع عنه من
الاحتمالات المانعة عن الصحة من السرقة والحرية ونحوهما، وهو أعم من
إفادة الملك، فإن الولي والوكيل والمأذون مثلا يجوز الشراء منهم
مع عدم كونه ملكا لهم، فجواز الشراء وصحة المعاملة أعم من الملكية
والعام لا يدل على خصوص الخاص. وتضمن خبر حفص لجواز الشهادة
استنادا في تحملها إلى مؤدى الأصول والأمارات، وهو ممنوع جدا كما
ستعرف والاستدلال بخبر (مسعدة) مبني على كون جملة (هو لك)
صفة للشئ (وحلال) خبرا للمبتدأ، وهو أحد الاحتمالين فيه، مع أنه
يحتمل ولعله الظاهر كون لفظ (حلال) خبرا للضمير المنفصل،
وهو مع خبره خبر للمبتدأ الأول و (لك) متعلق (بحلال) والمعنى:
كل شئ هو حلال لك حتى تعرف.. الخ وحينئذ فيكون من أدلة
البراءة، دون اعتبار اليد، ولا أقل من إجمال الخبر بعد قيام الاحتمالين فيه.
(مدفوعة) أما: ضعف السند فمجبور بالعمل. وأما مطالبة البينة
من غير ذي اليد في خبر (فدك) فلكونه مدعيا يدعى خلاف الظاهر
على ذي اليد، وليس إلا لظهور كون ما في يده له، وإلا لكان مدعيا
أيضا وكان مورد التداعي دون المدعي والمدعى عليه. وأما ما تضمن جواز
التصرف من البيع والشراء فظاهر بمعونة السياق في أن المستند هو كونه له
وأما تضمن خبر حفص لما لعله لا نقول به، فلا يخرجه عن الحجية في غيره
وأما خبر مسعدة فالاحتمال الأول فيه هو الظاهر منه. ولو بمعونة الأمثلة فيه.
307

هذا مع أن من مجموع الأخبار بعد ضم بعضها إلى بعض ولو بمعونة
سياقها يشرف الفقيه على القطع باعتبار اليد وإفادتها الملك.
ثم الظاهر اعتبارها من باب الظن النوعي الحاصل من غلبة كون
الشئ في اليد ملكا لمن هو في يده اعتبرها الشارع إتقانا للنظام وقياما للسوق
كما صرح به في ذيل خبر حفص بن غياث، بل المستفاد منه اعتبار كل إمارة
يوجب عدم اعتبارها اختلال النظام، بل الأدلة دلت على امضاء الشارع
لما عليه بناء العقلاء من أهل الأديان في جميع الأزمان قبل الاسلام وشرع
الأحكام من الحلال والحرام: من اعتبار اليد وإفادتها الملك.
هذا وهل يعتبر في التملك باليد كالحيازة للمباح قصد الملك، أم يغني
قصدها عن قصده، فتكون الحيازة بنفسها سببا تاما للملك، وإن تجردت
عن قصده، بل ولو مع قصد العدم، لأن ترتب المسبب على السبب قهري
وإن كان السبب اختياريا، ومثله سببية الاحياء للملك في (الموات) في
اعتبار القصد معه، وعدمه، بل ومع قصد العدم؟ وجهان: بل قولان
ولعل الأقوى العدم، لما دل على سببية الاحياء والسبق للملك نحو " من
أحيى أرضا ميتة فهي له " وقوله في النبوي المنجبر: " من سبق إلى ما لم
يسبقه إليه مسلم فهو أحق به " (1) الشامل باطلاقه ما لو تجرد عن قصد
الملك بل ولو مع قصد عدمه، مع احتمال ورود المطلقات مورد الغالب:
من وقوع ذلك بقصد التملك، فيبقى غيره على مقتضى الأصل: من عدم
الملك. ولتحقيقه محل آخر.
نعم يستثنى من تأثير اليد للملك في المباحات موات الأرضين منها،
فإنها إنما تملك بالاحياء، لما دل على سببيته للملك. وأما تحجيرها فلا يفيد

(1) مضى تحقيق وتخريج هذين الحديثين النبويين وغيرهما في آخر
الجزء الأول من (البلغة) ضمن البحث عن الأراضي الخراجية.
308

إلا الأولوية بالتصرف، وهذا مسلم عندهم، مع شمول حديث " من سبق "
لها الدال على الأحقية المطلقة التي هي مساوقة للملكية، ولذا يستدل به
على الملك في الاحتشاش والاحتطاب ونحوهما، وخروجها عنه بما دل على
حصر سبب الملك فيها بالاحياء ينافي الاستدلال به كما عن بعض على
الأولوية بالتصرف بالتحجير المتوقف على إرادة مطلق الأحقية من لفظ
الأحق فيه، دون الأحقية المطلقة، ولعله لذا اعترف جدنا في (الرياض)
بعدم العثور على نص يدل على إفادة التحجير الأولوية بالتصرف، حتى
احتمل استناد الأصحاب في حكمهم بذلك إلى فحوى ما دل عليها في السبق
إلى مكان من المسجد أو السوق ونحوهما من النص. قال في باب
إحياء الموات: " واعلم أني لم أقف على ما يتضمن أصل التحجير فضلا
عما يدل على خصوص الأولوية به إلا اتفاقهم عليه ظاهرا ودعواه في كلام
جمع منهم صريحا ولعلهم أخذوه من فحوى ما دل عليها من السبق إلى مكان
من المسجد أو السوق من النص وغيره ولا بأس به " (1) انتهى.
وبالجملة، التمسك بالحديث على الملك في غير (الموات) من المباحات
الأصلية بالسبق إليها، وعلى الأولوية بالتصرف فيها بالسبق والتحجير دون
الملك ما لم يبلغ حد الاحياء، لا يخلو من إشكال ظاهرا.
وتوضيحه: هو أن مفاد الجملة الشرطية علية المقدم للتالي علية تامة
بحيث يترتب عليه التالي ترتبا فعليا، ومقتضاه كون السبق علة للأحقية،
وحينئذ: فإن أريد بها الأحقية المطلقة، أي الأحقية في جميع وجوه
التصرفات والانتفاعات حتى المتوقفة على الملك، كان ذلك مساوقا للملكية
ومقتضاه حصول الملك بالتحجير لتحقق السبق به الموجب له بمقتضى العلية

(1) ذكر ذلك في أوائل كتاب احياء الموات أثناء عرض المصنف
لشروط الاحياء، ومنها: أن لا يكون محجرا عليه من قبل..
309

المستفادة منه. وإن أريد بها مطلق الأحقية الصادقة على مجرد الأولوية
دون الملكية، لم يكن دالا على الملك بالسبق في المباحات الأصلية، لأنه
أعم والعام لا يدل على خصوص الخاص. وإن أريد المعنيان منهما معا
كان من استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى.
ولكنه مدفوع بأن خروج الانتفاعات المتوقفة على الملك في خصوص
الموات من المباحات، وإن سبق إليها بالتحجير، عن اطلاق الأحقية المستفاد
عمومها من حذف المتعلق بأدلة الاحياء الدالة على انحصار سبب الملك به
لا ينافي ثبوت الأحقية في باقي التصرفات غير المتوقف على الملك بالاطلاق
المقيد بغيره.
توضيح ذلك: أن الحكم المطلق إذا كان مترتبا على موضوع عام، ثم
ورد دليل مقيد له في خصوص جهة من جهات إطلاقه بالنسبة إلى فرد
مخصوص من أفراد موضوعه العام، كان ذلك الفرد من غير تلك الجهة
مشمولا لاطلاق الحكم باقيا على اندراجه في عموم الموضوع يستدل به عليه
مثلا لو قال: (اكرام العلماء واجب) الظاهر بمعونة حذف المتعلق
في كونه واجبا في الحضر والسفر مثلا، ثم ورد نهي عن إكرام زيد العالم
في السفر، فيبقى وجوب إكرام زيد في الحضر مدلولا عليه باطلاق نفس
الخبر، وغيره من أفراد العلماء يجب إكرامه في حالتي السفر والحضر،
لسلامة جهات الاطلاق في حقهم عن التقييد واختصاصه به في خصوص السفر
ففي ما نحن فيه نقول: إن لفظ ما في الحديث يعم جميع الأعيان
التي لم يسبق إليها مسلم، سواء كانت مواتا أم غيرها من المباحات الأصلية
مما ينقل ويتحول، والأحقية بالسبق إليها الشامل بعمومها المستفاد من حذف
المتعلق لجميع التصرفات ووجوه الانتفاعات حتى المتوقفة على الملك حكم
شرعي مرتب على ذلك الموضوع العام ثابت لمن سبق إليها بايجاد علته من السبق
310

غير أنه لما ورد دليل خاص في خصوص الموات قد دخل على حصر سبب
الملك بالاحياء، وجب خروج التصرفات المتوقفة على الملك عن إطلاق
الأحقية فيها، وبقي غيرها حتى ما يكون سببا للملك كنفس الاحياء،
لأنه غير متوقف على الملك، داخلا تحت إطلاق الأحقية فيها أيضا. وحينئذ
فالأحقية المطلقة الملازمة للملكية والأحقية في الجملة الملازمة لمجرد الأولوية
بالتصرف مقصودان من لفظ الأحق في الحديث المستعمل في مطلق الأحقية
أي الطبيعة المهملة، فيستفاد إطلاقه في غير الموات من الجهتين: من الاطلاق
والارسال، وفي الموات من الجهة الأولى فقط من حمل المطلق على المقيد.
ومن المحقق في محله: أن الطبيعة المهملة تتحد مع المراتب أعلاها وأسفلها
والمتوسطات بينهما فهي حقيقة في جميع مراتبها، كما عليه (سلطان
العلماء) (1) فالمراد من الأحق في المباحات الأصلية غير الموات: هو المرتبة
العالية بقرينة دليل الحكمة، فأصل الأحقية مستفاد من اللفظ، وخصوصية
المرتبة من دليل الحكمة، وفي الموات هو غير المرتبة العالية، فأصل الأحقية
مستفاد أيضا من اللفظ، وأما خصوصية المرتبة النازلة فهي مستفادة من دليل
المقيد، فلا يلزم هناك استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، بل لا يلزم
ذلك حتى على القول باستفادة الاطلاق من اللفظ وكون التقييد مجازا، فإن
اللفظ بعد التقييد مجاز في الباقي، لا أنه مستعمل في أكثر من معنى.

(1) وهو السيد الحسين بن الميرزا رفيع الدين محمد بن محمود الحسيني
الأصبهاني العالم المحقق الشهير ب‍ (سلطان العلماء) لتفويض الشاه عباس
الماضي الصفوي أمر الوزارة والصدارة إليه فكان خليفة السلطان وصهره
على ابنته، له تأليف وتعاليق قيمة على الروضة والمعالم والزبدة وغيرها
في منتهى التحقيق والتدقيق توفي في أيام الشاه عباس الثاني في مازندران
ونقل جثمانه الطاهر إلى النجف الأشرف سنة 1064 ه‍.
311

وأما السبق إلى الأوقات العامة، فهو موجب للأحقية في التصرفات
الموافقة لجعل الوقف أو الغير المنافية له. وأما المنافيات له فغير موجب
لها لعدم قابلية دخولها في الملك وعدم تسويغ ما ينافي الوقف من التصرف
فإن الوقوف على حسب ما يقفها أهلها، فهو أيضا خارج بالدليل الخاص
عن اقتضاء السبق للأحقية في جميع التصرفات المنافية للوقف.
فتلخص مما ذكرنا: أن السبق إلى ما لم يسبقه مسلم مما يكون هو وغيره
لولا السبق شرع سواء موجب للأحقية في جميع التصرفات ووجوه الانتفاعات
في غير الموات والأوقات العامة من المباحات الملازمة للملكية ولمجرد الأولوية
دون الملكية فيهما بمعونة دليل الحكمة في الأول، والمقيد في الثاني.
(المقام الثالث)
في مقدار عموم (قاعدة اليد) وبيان جملة من أحكامها. وتمام
الكلام فيه يتم في طي أمور.
(الأول)
هل تجري (قاعدة اليد) في غير الأموال من الأعراض والنسب،
بمعنى ثبوتهما باليد، أم هي مختصة بالأموال. وعليه، فهل هي تختص بالأعيان
منها أم تعم المنافع أيضا، فنقول: القدر المستفاد من أدلة اعتبارها من
الأخبار المتقدمة: هو اعتبارها في الأموال، لعدم عموم فيها يشمل غيرها
إلا إطلاق قوله (ع) في ذيل موثقة ابن يعقوب: " ومن استولى على شئ
منه فهو له " وهو حسن لولا تقييد شئ فيه بالضمير المجرور ب‍ (من)
312

العائد إلى المتاع. وحيث لا دليل على اعتبارها في غير مورد الأخبار،
فمقتضى الأصل عدمه.
ومنه يظهر الوجه في عدم ثبوت الاعراض باليد، وإن حكي الاجماع
عليه فيما لو تنازع رجلان في زوجية امرأة هي تحت أحدهما، كان القول
قول من هي تحته. فإن تم فللاجماع ولظهور حال المسلم، وحمل أفعاله
على الصحيح حتى يثبت من يدعى فسادها، لا لاعتبار اليد عليها.
اللهم إلا أن يستدل عليه: بمناط ما هو مذكور من الأمثلة في خبر
(مسعدة) المتقدم: " أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك " بناء
على عدم الفرق في إلغاء ما يخالف اليد بين مجرد احتماله أو وجود
مدع به، لكن على أحد الاحتمالين المتقدمين في تفسير الخبر: من جعل
جملة (هو لك) صفة لشئ و (حلال) خبرا ليكون حينئذ دليلا على
على اعتبار اليد. وبأن البضع يملك، واليد إمارة مفيدة للملك، ملك عين
كان أو ملك الانتفاع، فتأمل، فضلا عن ثبوت النسب بها، بل لعل
عدمه من المتفق عليه عندهم، كما يظهر من كلماتهم في مسألة: ما لو
تنازع اثنان على نبوة صبي في يد أحدهما، حيث حكموا بمساواتهما في
الدعوى وأنه من باب التداعي دون المدعي والمدعى عليه. ولولاه لكان
ذو اليد مدعى عليه ومنازعه مدعيا.
نعم في (القواعد) ما يعطى ذلك على إشكال حيث قال: " ولو
تداعيا صبيا. وهو في يد أحدهما لحق بصاحب اليد خاصة على إشكال " (1)
ويظهر من ولده (الفخر) في شرحه: إن من الأصحاب من يقول بذلك
حيث قال: " اليد: إما أن تكون عن التقاط، أولا، والأول لا تقدم

(1) راجع ذلك في كتاب القضاء من (قواعد العلامة) الفصل
الرابع في النسب.
313

والثاني: إما أن يتقدم استلحاق صاحب اليد فيقدم، أولا يتقدم، فهل يقدم؟
قيل: نعم، لأنها إمارة دالة عليه، لأنه مدعى عليه وغيره مدع،
وقيل: لا، لأن اليد لا تأثير لها في النسب ولا في ترجيحه، والأصح
الثاني " (1) انتهى.
قلت: ولعل التقديم لو قيل به فلترجيح أحد الاقرارين باليد
بعد تساويهما في الاقرار، لا لتقديم قول ذي اليد من حيث هو ذو اليد
على من يدعي عليه.
نعم يلحق الصغير بمن ادعى بنوته إذا كان أبا أو ولو كان أما حيث
يمكن اللحوق به ولا منازع له عليه، إلا أن ذلك من ثبوت النسب
بالاقرار المتضمن له دعواه بها مع ورود الأخبار المستفيضة به، مضافا
إلى إمكان كونه مندرجا تحت قاعدة المدعى بلا معارض، إن قلنا بها،
فلا دخل له بثبوت النسب باليد.
ثم على تقدير اختصاص (قاعدة اليد) بالأموال، فهل هي تختص
بالأعيان منها، أم تعم المنافع أيضا؟ صرح بالأول منهما النراقي في (مستنده)
حيث قال بعد أن ذكر اختصاص أخبار الباب بخصوص الأعيان ما نصه:
" يمكن دعوى اختصاص صدق اليد حقيقة بالأعيان، فإنها المتبادر عرفا
من لفظ ما في اليد، بل الاستيلاء، وصدقه على المنافع غير معلوم، بل
نقول: إن الكون في اليد والاستيلاء إنما هو في الأشياء الموجودة في الخارج
القارة، وأما الأمور التدريجية الوجود الغير القارة، كالمنافع، فلو سلم
صدق اليد والاستيلاء فيها، فإنما هو فيما تحقق ومضى، لا في المنافع

(1) راجع: (إيضاح الفوائد في شرح اشكالات القواعد) لفخر
المحققين في نفس الباب.
314

الآتية التي هي المراد هنا " (1) انتهى.
وأنت خبير بما فيه بعد صدق اليد عرفا على المنافع وإن قبضها
حاصل بقبض العين، ولذا جاز للمؤجر مطالبة الأجرة من المستأجر بمجرد
قبضه العين المستأجرة مع أن ما بإزاء الأجرة إنما هو المنفعة، وليس له
المطالبة إلا بعد قبضها الحاصل بقبض العين، لأن اليد على العين يد على
منافعها، وإلا لكان من المطالبة قبل القبض والتسليم، الذي قد عرفت
جواز الامتناع عنه قبله في (قاعدة تلف المبيع قبل قبضه) بما لا مزيد
عليه " (2).
ومن هذا الباب: عدم ضمان منفعة الحر، إذ لا يد على حتى تصدق
اليد على منافعه، ولا كذلك المملوك فإن منافعه مضمونة لصدق اليد عليها
باليد عليه، ولا دخل للاستيفاء في صدق اليد على المنفعة بقبض العين حتى
يفصل بين المستوفاة منها وغيرها، أو يفرق فيها بين ما مضي وما يأتي.
نعم، من استولى على عين يدعي استحقاق منفعتها بالخصوص، وأنكره
مالك العين، لم يقبل قول المدعي بملك المنفعة بمجرد اليد عليها باليد على
العين مع انكار المالك، لأن المنفعة تابعة في الملك للعين، فدعوى المدعي

(1) مستند الشيعة في أحكام الشريعة للمولى أحمد بن محمد مهدي
النراقي الكاشاني المتولد سنة 1185 والمتوفى سنة 1225 ه‍ طبع في إيران
بمجلدين ضخمين طبعة حجرية. راجع هذه العبارة في المجلد الثاني منه
كتاب القضاء والشهادات، السادس من مواضيع الكلام في اليد ضمن الفصل
الخامس في نبذ من أحكام الدعاوي في الأعيان. وأول العبارة هكذا:
" هل يختص اقتضاء اليد لأصالة الملكية أو الاختصاص بالأعيان، أم يجري
في المنافع أيضا إلى قوله إلا أنه يمكن. ".
(2) راجع الرسالة الثالثة من محتويات الجزء الأول من (البلغة).
315

استحقاقها خاصة متضمنة لدعوى نقلها منه إليه، فلا تقبل إلا بحجة شرعية
فلا تأثير لليد عليها، كما لا تأثير لليد اللاحقة بعد اعترافه باليد السابقة
حسبما ستعرف وإنما يقبل قوله بالاستحقاق حيث لا يعلم إنكار المالك
له، كما يقدم قول المستولي على غيره لو ادعى الاستحقاق أيضا لاتحاد جهة
الاختصاص بهما معا، مع كون أحدهما ذا اليد، فالقول قوله حتى تقوم
بينة على خلافه، فلو كانت العين بيد شخص يدعي استيجارها من المالك
ولم يعلم انكار المالك لدعواه وادعى غيره استحقاق المنفعة أيضا بإجارة أو
غيرها، كان القول في استحقاق المنفعة قول من هي في يده، ويطالب
المدعي بالبينة.
إلا أن ذلك يشكل على (النراقي) مع اعترافه به، بناء على مختاره:
من عدم صدق اليد على المنافع واختصاص اعتبارها بالأعيان، إذ لا يد
للمستولي بالفرض على المنفعة، وما هو ذو يد عليه معترف به لغيره،
فما يدعيه من المنفعة لا يد له عليه، وماله يد عليه من العين لا يدعيه.
وعليه فيكون من التداعي دون المدعي وللمدعي عليه قال في (المستند):
" فلو ادعى أحد استيجار شئ في يد غيره مدعيا بأنه استأجره، يطلب البينة
من المدعي لأصالة الاختصاص بالمستولي فإن جهة الاختصاص بينهما واحدة
بخلاف ما لو ادعى المالك عدم الإجارة لأن ملكيته مختصة به والمستأجر يدعي
الاختصاص الاستيجاري، ولا دليل عليه " (1).

(1) راجع ذلك في المصدر الآنف الذكر من المستند بعنوان:
(السابع) ما ذكر من أن الاستيلاء يدل على أصالة الاختصاص للمستولي
إنما هو إذا لم يكن هناك مدع ثبت له اختصاص آخر أيضا، فلو كان
كذلك لا يفيد الاستيلاء شيئا إلى قوله: فلو أن..
316

ومثله في (عوائده) فراجع (1).
(الثاني)
هل يختص اعتبار اليد وكونها إمارة بالنسبة إلى غير صاحبها
أو يعم حتى بالنسبة إليه أيضا لو شك في كون ما في يده له، قولان:
أقواهما الثاني لا لما قيل: من الاستدلال عليه أولا بخبر مسعدة
المتقدم، بناء على كونه دليلا على اعتبار اليد دون البراءة بجعل (هو لك)
فيه صفة (لشئ) ومورده بقرينة الأمثلة فيه: كون ذي اليد محتملا
لخلاف ما تقتضيه يده في الملكية أو الاختصاص وشاكا فيه: الأمر فيه
بالغاء ذلك الاحتمال وعدم ترتب الأثر على شكه وثانيا بعموم قوله
في ذيل موثقة يونس بن يعقوب (ومن استولى على شئ منه فهو له)
الشامل باطلاقه لما كان المستولي شاكا أيضا لأن الأول مع قوة احتمال
كونه دليلا على البراءة بجعل (حلال) خبرا للضمير المنفصل كما تقدم
فيكون دليلا للبراءة دون قاعدة اليد: أن الشك فيه لو سلم إنما
هو للشك في تملك من أنتقل منه إليه المعلوم اعتبار اليد فيه، مع أن بعض
أمثلته لا دخل لليد فيه، كالزوجة المحتمل كونها (رضيعتك) فإن الموجب
لالغاء احتمال ذلك فيه إنما هو مخالفته للأصل دون قاعدة اليد.
وأما الثاني، فلظهور اختصاص قوله في الموثقة (من استولى على
شئ) في أن كلا من الرجل والمرأة إذا مات وكان مستوليا على شئ
من متاع البيت حكم له به، ومع الاشتراك في الاستيلاء يحكم بالاشتراك

(1) عوائد الأيام في بيان قواعد الأحكام. نفس العبارة ذكرها في
أخريات القاعدة في بيان أن مقتضى اليد الملكية.
317

وأين ذلك من كون المستولي بنفسه شاكا في ملكه لما في يده.
بل لصحيحة جميل بن صالح عن الصادق عليه السلام: " رجل
وجد في بيته دينارا؟ قال: يدخل منزله غيره؟ قلت: نعم كثير، قال:
هذه لقطة، قلت: فرجل وجد في صندوقه دينارا؟ قال: فيدخل أحد
يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ قلت: لا، قال: فهو له " (1)
حيث حكم بأن ما في الصندوق له مع كونه شاكا فيه بالفرض، وليس إلا
لكون اليد معتبرة حتى بالنسبة إلى صاحبها، ولعموم التعليل في ذيل خبر
(حفص) المتقدم " ولو لم يجز ذلك ما قام للمسلمين سوق " بعد فرض
كون السوق مثالا، وإن المقصود لزوم اختلال النظام لولا اعتبار اليد،
والظن النوعي المستفاد من غلبة كون ما في اليد ملكا لصاحبها الشامل لذي
اليد أيضا، لوجود المناط فيه بعد أن كان الغالب عدم تذكره لسبب
ملكية ما هو تحت يده من متاع البيت وأثاثه وأمتعته الموضوعة للبيع في
دكانه من الأقمشة وغيرها.
وإن نوقش في الرواية بمنافاة ذيلها الحاكم بملكية ما في الصندوق
لصاحبه الدال على اعتبار اليد ولو كان شاكا صاحبها لصدرها الحاكم
بكون ما وجده في دار لقطة إذا دخلها غيره أيضا، الدال على عدم اعتبار
اليد مع كون صاحبها شاكا، إذ المفروض أن الدار وما فيها لم تخرج
بدخول الغير عن كونها تحت يد مالكها وكونه ذا يد عليها بما فيها،
إلا أن المناقشة ضعيفة، لمنع الغلبة المفيدة للظن ولو نوعا
بكون ما وجده في بيته مع دخوله الغير فيه كثيرا مالكا له إذا كان مما يمكن
سقوطه من الداخلين فيه كالدينار ونحوه، ضرورة أن ملك البيت من
حيث هو ليس سببا لتملك ما فيه، وهذا بخلاف ما يوجد فيه من الأمتعة

(1) الوسائل، كتاب اللقطة، باب 3 من أبوابها، حديث (1).
318

وغيرها مما يبعد وضعه فيه من الداخلين أو سقوطه منهم، فهو له وإن شك
فيه لغلبة عدم تذكر المالك مفصلا لما يملكه مما هو موجود في بيته أو
دكاته ونحوهما.
وإن أبيت عن ذلك، فنقول: إن مقتضى اليد اعتبارها مطلقا في
كل ما يوجد في ملكه من إفادتها الملكية له، خرج من ذلك مورد النص
فيبقى الباقي داخلا في العموم، وكونه من التخصص لا من التخصيص
قد عرفت ما فيه.
نعم قد يقال: إن الصحيحة تعارضها موثقة إسحاق بن عمار:
" عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيها نحوا من سبعين درهما
مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة: كيف يصنع؟ قال:
يسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها، قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال:
يتصدق بها " (1) حيث قيد الدفع إليهم بالمعرفة الموجب لعدمه مع عدمها
الشامل لصورة الشك أيضا أولا مع تصريحه ثانيا بالتصدق
مع عدم المعرفة الشامل الاطلاقة للشك أيضا كما عرفت مع أن الأمر
بالسؤال لا يكاد يتجه مع كون أهل المنزل ذوي أيد على المنزل وما فيه
ظاهرا أو باطنا: بل اللازم دفعه إليهم من دون سؤال منهم، فإن أنكروه
تصدق به.
إلا أنها منزلة لكون المال فيه مدفوعا بالفرض على الكنز الذي
لو وجده في الخربة كان لواجده، وفي العمار عرف به أهله أولا،
وليست للعمارة من حيث هي مدخلية إلا من حيث احتمال كونه لأهلها

(1) المصدر الآنف الذكر باب 5 من أبواب اللقطة، حديث (3)
بسنده هكذا: " عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا إبراهيم (ع)
عن رجل.. ".
319

المفقود في الخربة.
هذا وما أبعد ما بين القول بعدم اعتبار اليد في حق صاحبها لو كان
شاكا، وبين القول بكونه ملكه، وإن علم عدمه، وأنه مما أعطاه الله
ورزق ساقه إليه كما عليه جدنا في الرياض لاطلاق الصحيحة المتقدمة
في الصندوق، بناء على شموله لما لو كان بالعدم المعلوم انصرافه إلى
غيره " (1).
هذا، وهل يشترط في اعتبارها انضمام كونه مدعيا له، أم يكفي فيه
عدم نفيه عن نفسه فيحكم به له، وإن كان ساكتا عن دعواه ذلك؟ وجهان:
والأقوى هو الثاني، لعموم صدر خبر حفص المتقدم " أرأيت
إذا رأيت شيئا في يد رجل؟ أيجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال: نعم "
الناشئ من ترك الاستفصال عن دعواه الملكية وعدمها، وذيل موثقة
ابن يعقوب: " ومن استولى على شئ منه فهو له " والاجماع محكي عليه
أيضا، بل لعله من الضروريات المسلمة عندهم، ولذا لم يشك أحد في
ملكية ما في يد الغائب له، وما في يد الميت كذلك، فينتقل منه إلى وارثه
ما لم يعلم خلافه، وفي جواز الانتفاع بما في يد أحد مع إذنه من غير احراز
منه لدعواه ملكيته، وليس إلا لكفاية اليد للحكم بالملكية وإن لم ينضم
إليها دعواها.
(الثالث).
لا فرق في إفادة اليد الملك بين اليد العادية وغيرهما فيما لم تكن

(1) راجع ذلك منه في كتاب اللقطة، الثانية من المسائل الثلاث
ما وجده في داره أو في صندوقه المختصين بالتصرف فيهما فهو له..
320

عادية بالنسبة إليه، كسرج الفرس وثياب العبد المغصوبين إذا ادعاهما
الغاصب لعدم معلومية الغصب فيهما، فيقدم قوله، لأنه ذو يد
عليهما، وطولب المالك بالبينة إن ادعاه، ويحتمل قويا الفرق بين
العبد والدابة، ففي العبد ما لم يصدق مولاه، وإلا فيقدم قول المالك، لأن
العبد ذو يد على ثيابه، وهو وما في يده لمولاه، بخلاف الدابة بالنسبة إلى
ما عليها من السرج واللجام.
(الرابع)
لو اشترك اثنان أو أكثر فيما يصدق به اليد عرفا، فهل الثابت به يد
واحدة لهما فلا يد لكل واحد منهما أو يثبت به يدل كل واحد منهما فتعدد الأيدي
حينئذ وعليه فهل تختص اليد بالبعض نصفا أو ثلثا بحسب تعدد الشركاء
فيكون له اليد على النصف أو الثلث، أو لكل يد على كل العين وجميعها
وإن زوحم بمثلها عليه؟ فعلى الأول لا تعارض بين اليدين لاختلاف متعلقهما
وعلى الثاني كان من تعارض اليدين لاتحاد المتعلق فيهما. وتظهر الثمرة
بينهما فيما لو غصب العين اثنان دفعة، فتلفت عندهما رجع المالك عليهما
معا بالمناصفة أو بالمثالثة بحسب تعدد الشركاء، على الأول، وله الرجوع
على من شاء منهما أو عليهما بالتوزيع على التساوي أو على التفاضل، على
حد حكم تعاقب الأيدي، على الثاني أقوال:
أما الأول، فلا إشكال في بطلانه لتعدد اليد بعد فرض تحقق
ما يوجب صدقها بالنسبة إلى كل واحد منهما من الاستيلاء بحيث لو كان
منفردا لكان مستقلا به.
نعم لو كان تحققه موقوفا على الانضمام بحيث لولاه لم يحصل
321

استيلاء أصلا لم تتحقق إلا يد واحدة لهما، وإن كان الحكم فيها وفي
الصور الآتية التنصيف أو التثليث مثلا بحسب تعدد الشركاء.
وبالجملة: ليست اليد آبية عن صدق التعدد بعد فرض وجود ما به
يتحقق الصدق.
وعلى الثاني، فذهب إلى الأول منهما بعض، ولعله الأكثر، فاليد
إنما هي عندهم ثابتة على البعض المختلف قدره بحسب تعدد الشركاء،
فلا يد له على ما زاد عليه وكانت اليد لصاحبه فيه، فيكون كل منهما
أو منهم بالنسبة إلى ما في يد صاحبه مدعيا، وبالنسبة إلى ما في يده
مدعى عليه.
والأقوى عندي: هو الأخير، كما يظهر من شيخنا في (الجواهر)
فتكون لكل واحد منهما أو منهم يد على الكل، لعدم تعقل اليد على
البعض المشاع بعد امتناع فرض تعقله إلا بتعلق اليد بجميع العين ولذا لم
يتحقق قبض البعض المشاع إلا في ضمن قبض الجميع، وليس إلا لعدم
تعقل قبضه مشاعا بقبض البعض المعين، فاليد ثابتة على الكل، لكن
لا بنحو الاستقلال، فالمنفي في المقام إنما هو الاستقلالية دون أصل الاستيلاء
واليد فحينئذ يكون كل من ذوي الأيدي على العين مدعيا للجميع ومدعى
عليه بالنسبة إليها كذلك.
نعم ربما يرد في المقام إشكال على كل من القولين الأخيرين، وهو
أن اليد الثابتة لكل منهما: إن كانت على البعض أشكل تعقله مع تساوي
أجزاء العين بالنسبة إلى تعلق اليد بها كما عرفت وإن كان على الكل
أشكل الحكم بملكية البعض من النصف أو الثلث كما عليه الفتوى
بعد فرض ثبوت اليد على الجميع، وإن عورض بمثلها فيكون من تعارض
السببين الفعليين الممتنع تواردهما على مسبب واحد.
322

وبالجملة الحكم بالتنصيف مثلا بينهما حينئذ إنما يكون منشأ
النصف بالتحريك دون اقتضاء اليد، وهو خلاف ما يظهر من
فتواهم بذلك.
ودفع الاشكال بما تنكشف به حقيقة الحال: هو أن يقال: إن
الملكية تابعة لليد في الاستقلالية وعدمها، لأن الحكم بها إنما هو باقتضاء
اليد لها، ويتصف كل منهما بالاستقلالية واللا استقلالية، ومقتضى اليد على
الكل لا بنحو الاستقلال ملكية الكل كذلك، فكل منهما يملك الكل
لا بنحو الاستقلال بحيث لو تم نقصانها من حيث عدم الاستقلال تولد منه
كسر مثلا من الكسور التسع (1) فملكية البعض مستقلا هو عين
ملكية الكل لا بنحو الاستقلال، بل الملكية المنبسطة على الكل لا ضعف
فيها في مرتبة الملكية، وإنما النقصان فيها من جهة الاستقلالية على وجه
أو تمت هي من هذه الجهة وصارت ملكية مستقلة كانت مقتصرة على
كسر من الكسور أو جزء من الأجزاء بحسب تعدد الشركاء، فالمقتصرة
على البعض هي عين المنبسطة على الكل، لا فرق إلا في الاستقلالية وعدمها.
ولعله إلى ما ذكرنا يرجع كلامهم في إفادتها ملكية النصف، أي
الملكية الاستقلالية، وبذلك صح اتصاف كل منهما بأنه مدع ومدعى عليه
لأن كلا منهما يدعي الاستقلالية المستلزمة دعواه لعدم ملكية صاحبه أصلا
لا عدم استقلاليته، وصاحبه من حيث كونه ذا يد ولو بنحو الاستقلال
الظاهرة في الملكية كذلك منكر، فكل منهما مدع للاستقلالية ومنكر
لما يدعيه صاحبه عليه من نفي أصل الملكية، فما به يكون مدعيا غير ما به
يكون مدعى عليه، فلا وجه لالتزام لغوية حكم اليد بالنسبة إليهما، وإن

(1) ويقصد: الاعتيادية منها لا العشرية، وهي المنكسرة عن الواحد
كالنصف والثلث والربع والخمس والسدس والسبع والثمن والتسع والعشر.
323

القضاء به لهما بالمناصفة، لقاعدة المدعي لمال لا يد لأحد عليه. كيف
والمال تحت يديهما أولا واختصاص قاعدة قبول قول من يدعي
مالا لا يد لأحد عليه بما لا يكون له منازع كما ستعرف والمفروض
كون كل منهما منازعا للآخر ثانيا وإن اليدين بالنسبة إليهما من
توارد السببين على مسبب واحد المعلوم امتناعه، فيكون اليمين لترجيح
أحد السببين على الآخر لا للقضاء به. كيف وإنما الممتنع توارد السببين
التأمين على ملكية الكل بنحو الاستقلال لا بنحو الشركة.
وبما ذكرنا يتضح لك مواقع التأمل في كلام شيخنا في (الجواهر)
في اشتراط القضاء لهما باليمين وعدمه حيث قال: " وقد يناقش بعدم
اندراجهما في القاعدة المزبورة إذ الفرض أن يد كل منهما على العين لا نصفها
ضرورة عدم تعقل كونها على النصف المشاع إلا بكونها على العين أجمع
في كل منهما، وحينئذ فلا مدع ولا مدعى عليه منهما، ضرورة تساويهما
في ذلك، إلا أن الشارع قد جعل القضاء في ذلك بأن العين بينهما كما
سمعته من النبوي المرسل، فالنصف هو القضاء بينهما في الدعوى المزبورة
التي كان مقتضى يد كل منهما الكل.
ومنه يظهر لك عدم كون كل منهما مدعيا لنصف الآخر ومدعى
عليه في نصفه كي يتوجه التخالف، بل المتوجه إلغاء حكم يد كل منهما
بالنسبة إلى تحقق كونه مدعى عليه، ويكون كما لو تداعيا عينا لا يد لأحد
عليها ولا بينة لكل منهما، فإن القضاء حينئذ بالحكم بكونها بينهما لكون
الدعوى كاليد في السبب المزبور المحمول على التنصيف بعد تعذر إعماله
في الجميع للمعارض الذي هو استحالة اجتماع السببين على مسبب واحد
إذ لا وجه لاستحقاق كل منهما اليمين على الآخر ضرورة عدم كونه مدعى
عليه بعدم يد له على العين يراد رفعها عنه، فقول كل منهما: (هي لي)
324

دعوى بلا مدعى عليه، فلا يمين فيها فتأمل جيدا، فإنه دقيق نافع " انتهى.
قلت: إن ما ذكرنا أدق، وبالقبول أحق فظهر لك: أن توقف القضاء
على اليمين إنما هو للميزان، لا لترجيح أحد السببين بها على الآخر، ولا
ينافيه النبوي المرسل: " في رجلين تنازعا في دابة ليس لأحدهما بينة فجعلها
النبي صلى الله عليه وآله بينهما " حيث لم يذكر فيه القضاء باليمين
لعدم معلومية كون الدابة في يديهما، فلعله تنازعا فيها ولا يدلهما عليها
وهو واضح.
(الخامس)
كما أن اليد تفيد الملكية وتكون أمارة عليها، كذلك فيما يعتبر
في حلة التذكية، إن كانت اليد لمسلم تفيد كونه مذكى اجماعا
بقسميه وللمعتبرة المستفيضة فيها وفي سوق المسلمين وأرضهم وهل هي
إن كانت للكافر إمارة على الميتة أو لا تكون إمارة أصلا، وإنما الحكم
بكونه ميتة لأصالة عدم التذكية السالمة عما يحكم عليها من الأمارة الدالة
على التذكية؟ قولان: ذهب إلى الأول منهما شيخنا في (الجواهر) (1)
تبعا لأستاذه (كاشف الغطاء). والأقوى: الثاني، لعدم ما يدل على
كون يد الكافر إمارة على الميتة إلا ما عسى أن يتوهم استفادته - كما في
الجواهر من خبر إسحاق بن عمار " عن العبد الصالح عليه السلام:

(1) قال في كتاب الطهارة باب النجاسات، في أخريات شرح
قول المحقق " ولا يجوز استعمال شئ من الجلود إلا ما كان طاهرا.. ":
" أما ما كان مطروحا ولا أثر استعمال عليه أو كان في يد كافر لم يعلم سبق
يد مسلم عليه أو أرضهم وسوقهم وبلادهم فهو ميتة لا يجوز استعماله ".
325

لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الاسلام، قلت: فإن
كان فيها غير أهل الاسلام؟ قال: إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا
بأس " (1) الدال بمفهومه على ثبوت البأس مع عدم الغلبة في المجهول
فضلا عما علم كفره وخبر إسماعيل بن عيسى: " سألت أبا الحسن
عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل من سوق من أسواق
الجبل: أيسأل عن ذكاته إذا كان البايع مسلما غير عارف؟ قال: عليكم
أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك " (2) بناء على أن
الأمر بالسؤال من جهة الميتية ومن تقديمهم يد الكافر على أرض المسلمين
وسوقهم في الحكم بكون المأخوذ منه ميتة، إذ لو لم تكن يد الكافر
إمارة لم يكن مجرى للأصل المحكوم لإمارة السوق، وليس إلا لكون اليد
إمارة، فتكون من تعارض الأمارتين، وأقوائية إمارة اليد من السوق.
وفي الكل نظر: أما خبر إسحاق، فلكفاية الأصل الموجب للاجتناب
في ثبوت البأس. وأما خبر إسماعيل فلظهور الالزام بالسؤال في عدم إمارية
يد الكافر، وإلا لوجب الاجتناب عنه، دون الفحص (ودعوى)
استفادتها من المقابلة ليد المسلم المستفاد منها حكم الوضع من الإمارية دون
صرف التكليف، فليكن كذلك في يد الكافر بقرينة المقابلة ولو بمعونة
فهم العرف منها (فدفعها): أنه يكفي في التقابل عدم ما هو ثابت في
يد المسلم من الإمارية، سيما في المفهوم الذي ليس المستفاد منه إلا سلب
ما هو ثابت بالمنطوق.

(1) الوسائل، كتاب الطهارة، باب 50 من أبواب النجاسات
حديث (5).
(2) المصدر نفسه، حديث (7)، وتكملته: " وإذا رأيتم يصلون
فيه فلا تسألوا عنه ".
326

وأما تقديم يد الكافر على سوق المسلمين، فإنما هو لقصور السوق
عن كونه إمارة فيما كان في يد الكافر فعلا، المعلوم كفره، وإنما هو
إمارة بالنسبة إلى مجهول الحال، إلحاقا للمشكوك بالغالب، فالتقديم فيه
ليس إلا للأصل السالم عما يحكم عليه من أدلة السوق الدالة على حكم
مجهول الحال دون معلوم الكفر. وبما ذكرنا ظهر لك أن يد الكفار
ليست إمارة على الميتية حتى تعارض يد المسلم التي هي إمارة على التذكية
تعارض الإمارتين الموجب للترجيح بينهما، بل هو من باب تقابل الإمارة
وعدم الإمارة، لا إمارة العدم حتى يلتمس الترجيح.
وحيث اتضح لك ما ذكرنا، ظهر أنه لا شك على المختار في الحكم
بتذكية الذبيحة المشتركة بين المسلم والكافر الموجودة في يديهما، معا، لقيام
الإمارة عليها من يد المسلم، سيما على المختار: من كون اليد على الكل
وإن كان لا بنحو الاستقلال الحاكمة على أصالة عدم التذكية، وإن كانت
في يد الكافر أيضا، لما عرفت من عدم كون يده إمارة على العدم،
فهي بحكم العدم في قبال يد المسلم، فلم يبق إلا الأصل المحكوم لها.
ولعله كذلك أيضا، على القول الآخر، وإن كان حينئذ من تعارض الإمارتين
لأقوائية يد المسلم في الإمارة باعتضادها بأصالة صحة فعله، وليس الأصل
في فعل الكافر الفساد حتى يكون معاضدا ليده، وإصالة عدم التذكية
ليست في مرتبة الأمارة حتى تصلح للاعتضاد بها (1) وهذا هو الوجه

(1) ولا يخفى أن ذلك ينتقض بأصالة الصحة التي جعلها سيدنا المصنف
عاضدة لإمارية يد المسلم، فهي أيضا ليست في مرتبتها كي تعضدها.
وعليه فالمرجع بعد تساقط الإمارتين بالمعارضة أصالة عدم التذكية،
وذلك لحكومتها على أصالة الصحة، لأنها أصل موضوعي وتلك أصل
حكمي، فتأمل جيدا.
327

في ترجيح يد المسلم على يد الكافر، لو قلنا بكونها إمارة أيضا، لا ما ذكره
شيخنا في (الجواهر) زيادة عليه من أقوائية ما دل من الأخبار على
اعتبار يد المسلم بالتعدد، لأن أكثرية العدد لا تصلح للترجيح بعد حجية ما دل
على اعتبار يد الكافر، وأنها إمارة. وهو واضح بل وكذا على المختار
لو وجد في السوقين أو الأرضين للمسلمين والكفار مع علم التاريخ وجهله
لانقطاع الأصل بتحقق الأمارة القاطعة له.
نعم يشكل على القول الآخر لو كان السابق من اليدين أو السوقين
ما هو إمارة على الميتية (1) لعدم المانع عن الحكم بها بعد فرض انفرادها
عما يعارضها من الأمارة، فلا يجدي لحوق إمارة التذكية بعد عدم تعقل
لحوق التذكية فعلا بعد الموت، ضرورة كون الأمارة كاشفة عن تحقق
الموضوع الذي هو مؤداها في الواقع، وإن كان كشفا ظنيا، إلا أن الشارع
اعتبرها في مرحلة الكاشفية، وليست الأمارة كالأصل الذي لا يترتب
عليه إلا الأحكام المجعولة للشارع حتى يمكن التفكيك فيها بحسب اقتضاء
الأصول لها.
اللهم إلا أن يقال: إن الميتة حيث لا ينتفع بها المسلم بوجوه الانتفاعات
أصلا لحرمتها ونجاستها، لم يكن بد من كون ما في يده مذكى: ولا كذلك

(1) قد يقال بعدم ورود الاشكال ضرورة أنه بناء على كون الأمارة
كاشفة، فمعناه كشفها عن الواقع وترتيب الآثار من أول الأمر كما هو
مختار سيدنا المصنف قدس سره فيما يأتي فلا بد من المعارضة مطلقا حتى
في صورة سبق إحدى الأمارتين على الأخرى، إن مقتضى كل منهما
ترتيب آثار الواقع من ذي قبل، وذلك تناقض ظاهر. نعم يتم الاشكال
بناء على الوجه الآخر من وجهي الإمارة وهو ترتيب الآثار من حين
تحققها لا من ذي قبل فتأمل.
328

الكافر، فإن عدم تذكيته عنده لعدم حاجته إليها لا لحاجته إلى عدمها (1)
فغلبة عدم التذكية عند الكافر لعدم مسيس الحاجة إليها، وغلبة التذكية
في يد المسلمين وسوقهم لمسيس الحاجة إليها لتوقف وجوه الانتفاعات به
على التذكية، فحيث وجد في يد المسلم، فلا بد من وقوفه على تذكيته وإن
سبقتها يد الكافر. وإليه يرجع ما تقدم من أصالة الصحة في فعل المسلم.
وعدم أصالة الفساد في فعل غيره.
ومنه يعلم الوجه في تقديم اليد الحكمية للمسلم على اليد الفعلية للكافر
فضلا عن سوقهم وأراضيهم، وظهر لك أيضا حكم الذبيحة المشتركة بين
المسلم والكافر والموجودة في يديهما فعلا بعد الحكم بتذكيتها لو تقطعت
وانفرد بقطعة منها بعد العلم بكيفيتها، فإن القطعة المبانة منها مذكاة، وإن
كانت في يد الكافر.
هذا وحيث حكم على الجلد ونحوه بعدم التذكية الراجع إلى الميتية
للأصل واستعمل، ثم قامت إحدى إمارات التذكية من يد المسلم أو غيرها
فهل هو على نحو الكشف أو من حين قيام الأمارة، فيحكم بنجاسة ما لاقاه
قبل ذلك؟ وجهان: الأقوى: الأول، وإن اختار ثانيهما شيخنا في
(الجواهر) حيث قال: " وعلى كل حال فحيث حكم بالتذكية لحصول
أمارتها الشرعية بعد الحكم بالميتية للأصل أو لليد أو بالعكس، فهل هو
على الكشف بمعنى جريان حكم المذكى عليه مثلا فيما مضى من الأفعال
والمباشرة لو كانت، أولا، بل من حين تحقق الأمارة؟ وجهان: أوفقهما
بالأصل والاحتياط الثاني، ولا ينافيه عدم تصور التذكية له الآن، ضرورة

(1) قد يستلزم ذلك اخراج يد الكافر عن الإمارية وهو خلاف
الفرض ومع التسليم فذلك جار فيهما حتى لو كانتا في عرض واحد،
ولا خصوصية لحالة سبق إحديهما الأخرى كما لا يخفى.
329

كون المراد جريان الأحكام لا التذكية حقيقة، وربما يؤيده في الجملة
ما قيل من وجوب الوضوء للعصر مثلا على من شك فيه بعد الفراغ
من الظهر، وإن حكم بصحة الظهر بناء على أن الدليل فيها صحة فعل
المسلم، فهي حينئذ وإن ثبتت في الظهر، لكن لا يثبت بها كونه متوضأ
حقيقة، فتأمل جيدا " (1) انتهى.
وفيه: أن ما ذكره إنما يتم على تقدير أن يكون اعتبار اليد من باب
التعبد وكونه من الأصول التعبدية، لا من باب الأمارة التي معناها الكشف
عن الواقع. وثبوت مؤداها في الواقع وإن كان في مرحلة الظاهر، لكون
الكشف ظنيا لا علميا كما عرفت والتأييد بما ذكره من وجوب الوضوء
للعصر تأييد بما لا يكون مؤيدا، لأن صحة الظهر إنما هي لأصالة الصحة
أو لقاعدة الشك بعد الفراغ التي هي من الأصول التعبدية التي يمكن
التفكيك في أحكامها. وأين ذلك من اليد التي هي من الأمارة التي قد
عرفت معناها، وقد اعترف هو بها. وبالجملة حيث قامت أمارة على التذكية
كشفت عن تحققها من حين إزهاق الروح، فتترتب عليه أحكامها من
حينه، لا من حينها، والله العالم.
(السادس)
يشترط في إفادة اليد الملك عدم العلم بحدوثها بعنوان آخر، فلو علم
بكونها في يده بنحو العدوان أو الأمانة، ثم شك في ملكيتها وهي في
يده في الزمان اللاحق لم تكن اليد مفيدة للملك عند الشك، لاستصحاب

(1) ذكر ذلك في المسألة الأولى في البحث عن لباس المصلي من
كتاب الصلاة.
330

اليد السابقة، وأصالة عدم تبدل عنوانها بعنوان آخر، وهو مما لا شك
فيه ولا شبهة تعتريه.
(السابع)
يقبل قول ذي اليد مطلقا، وإن كانت عادية في جملة مما يتعلق بما
في يده كالطهارة والنجاسة، فلو أخبر بطهارة ما كان متنجسا أو بالعكس
قبل قوله، للاجماع المحكى فيه، وفي قبول تصديقه لأحد المتنازعين لو تنازعا
على عين في يده فصدق أحدهما فيكون المصدق بحكم ذي اليد في كونه
مدعى عليه وصاحبه مدع وعليه البينة، وهو من المسلم عندهم من حيث
الفتوى، إلا أن الكلام في دليله، مع قطع النظر عن الاجماع عليه إذ
غاية لزوم تصديقه بالاقرار نفوذه في نفيه عن نفسه، لا كونه للمصدق
فيكون حينئذ من المتنازع على شئ لا يد لأحد عليه بعد أن كان يده
بالاقرار كلا يد. ولعل المستند: هو قاعدة " من ملك شيئا ملك الاقرار
به " (1) وهي قاعدة مسلمة عندهم على ما يظهر من فتاواهم المتفرعة

(1) إنها قاعدة فقهية مسلمة لدى عامة الفقهاء، يطبقونها على
مواردها المتفرقة في أبواب الفقه. وللتعرف عليها بإيجاز يستدعي الكلام
عن جهات.
الأولى الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة (إقرار العقلاء على أنفسهم
جائز) هو عموم مفاد هذه وخصوص مفاد تلك، فتلك مقتصرة على صورة
ما إذا كان الاقرار على النفس لا لها، وهذه تعم الصورتين.
الثانية مدرك القاعدة: الملازمة العقلية بين السلطنة على ثبوت
الشئ واقعا وبين السلطنة على إثباته خارجا كما قيل (أولا) أو التسالم
المطبق والاجماع المستفيض (ثانيا) حتى أنها اعتبرت عند الفقهاء من
الضروريات الأولية واعتبروها في مقام الاستدلال كالأدلة اللفظية.
الثالثة مفاد القاعدة بجزئيها الشرطي والجزائي: أن المالك
للشئ عينا كان أم فعلا واقعا، مالك للاقرار به ظاهرا، بلا فرق
في السلطنة بين ما لو كانت أولا وبالذات كالمالك الأصلي أم حصلت ثانيا
وبالعرض، كالوكيل والولي ونحوهما،
الرابعة الظاهر شرطية كون المقر مالكا للشئ فعلا في زمان
الاقرار لتطبيق القاعدة، فلا تكفي مالكيته لذلك في زمان وقوع الفعل منه
سابقا، ويترتب على ذلك عدم نفوذ إقرار الوكيل أو الولي مثلا بعد
انتهاء دور الوكالة أو الولاية. والتفصيل لا يسعه المجال.
331

في أبواب الفقه المعللة بها في كلماتهم وإن ذكر بعض لها وجوها
ومؤيدات لعلها لا تخلو من مناقشة.
منها ما ذكره المدقق التستري الشيخ أسد الله قده في رسالته
المعمولة لهذه (القاعدة) ما لفظه: " ومما يؤيده مطلقا في التصرفات القولية
إن المقر حيث كان قادرا على انشاء المقر به عندما أقر به، فتكليفه مع
فقد البينة عليه بفعله لاثباته مع أن المرجع إليه في قصد مدلوله وكونه
لاغيا ظاهرا في نظره، بل ممتنعا لكونه تحصيلا للحاصل في الطلاق ونحوه
خال من حكمة يعتد بها، فينبغي عدم اعتبار الشارع لمثله، فإذا ثبت
ذلك بحسب الأصل اطرد فيها إذا عرض ما يمنع من الانشاء كموت الزوج
ونحوه، فليتأمل في ذلك " انتهى.
وفيه: إن خلو التكليف بفعله لاثباته للغويته عنده أو لامتناعه لكونه
من تحصيل الحاصل عن الحكمة، مبني على تصديقه فيما أقر به وتحققه
في الواقع، وهو أول الكلام، فتكون فائدة التكليف بفعله الحكم بنفوذه
332

على غيره في مرحلة الظاهر، فجهل الغير بالواقع في النفوذ عليه حكم جهل
نفسه به مع الشك فيه في الاحتياط بفعله ثانيا، وإن احتمل وقوعه منه
أولا فتكون فائدته قطع الشك باليقين في النفوذ على غيره، فالأحسن
أن يؤيد بخلو العدول عن الانشاء مع القدرة عليه إلى الاقرار به كاذبا
عن الفائدة الموجبة لذلك مع فرض تمكنه فعلا مما يحصل به الغرض من
الانشاء المفروض قدرته عليه حين الاقرار به، ضرورة أن الاقرار بخلاف
الواقع لا بد وأن يكون لداع قوي مفقود فيما يتمكن من إنشائه. ولا كذلك
فيما كان موافقا للواقع لكفاية موافقيته له في العدول عن الانشاء إلى الاقرار
به، فلذا اعتبر تصديق إقراره في ثبوت المقر به شرعا.
وقال أيضا بعد كلامه المتقدم: " وأما أدلة الاقرار فهي شاملة
للاقرار بالتصرفات العقدية والايقاعية وما أشبهها، قطعا من حيث أنها
تقتضي إلزامه بما لولاها لما ألزم به أو اسقاط ما لولاها لكان ثابتا له،
ولا ريب أنه ليس معنى (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) كونه نافذا بالنسبة
إليهم خاصة على أن يكون قوله " على أنفسهم " متعلقا بجائز، وقدم
عليه لإفادة الحصر بعد الاقرار، وذلك لما هو الظاهر من اللفظ والثابت في
الحكم، فإن من أقر بما في يده خاصة أنه غصبه من زيد يحكم عليه،
وعلى كل من صارت يده عليه من الودعي والوصي والوارث وغيرهم
بوجوب تسليمه إلى زيد، وضمانه بعد تلفه بمجرد ثبوت الاقرار المذكور
ويسقط به عن ذلك المال حق كل من له حق مالي على ذلك المقر كواجب
النفقة والغريم. وإذا أقر من عنده جارية بأنه غصبها من فلان نفذ ذلك
في حقه وحق الجارية، وبالولد له منها كما نص عليه في الأخبار. وإذا أقر
المولى بعتق عبده حكم بحريته ونفذ ذلك في حقهما وفي كل ما يترتب على
حريته من إرث ووصية وغيرهما. وإذا أقر الأب بنكاح الصغير نفذ ذلك
333

في حق الجد كعكسه. وإذا أقر الصبي بالوصية في المعروف نفذ في حق
وليه في حياته ووارثه بعد موته. وإذا أقر ذو الحق بوصول حقه إليه
نفذ في حقه، وفي حق من عليه الحق فيسقط عنه التكليف بالوفاء وإن
كان غير عالم به ما لم يكن عالما بعدمه، وربما لا يجوز له الوفاء حينئذ، كما
إذا كان مصادما لحق واجب عليه. وإذا أقر أحد بحق عليه لغيره نفذ
ذلك بالنسبة إليهما، وإن جهله ذلك الغير ما لم يعلم خلافه ووجب عليه
أخذه إذا توقف عليه حق لازم له عليه، وهكذا حكم سائر الأقارير،
فلا ينبغي أن يحمل الخبر على المعنى المزبور.
نعم يمكن أن يحمل على أن المراد إن اقرارهم على أنفسهم من حيث
أنه إقرار جائز على أنفسهم، من غير تعرض لما عداهم نفيا ولا إثباتا
فيثبت الحكم في غير المقر نفيا أو إثباتا بدليل آخر، فلا يدل حينئذ على
المدعى ولا ينفيه إلا أن فيه تقليل فائدة الخبر، وتقييد إطلاقه بلا ضرورة
إليه، فالأولى أن يحمل على أن اقرارهم على أنفسهم فيما يتعلق بهم نافذ
مطلقا، فبالنسبة إليهم أصالة وبالنسبة إلى غيرهم فيما يترتب عليه تبعا،
وعلى هذا بناء الأقارير، فالتصرف المقر به إن كان مما يشارك المقر فيه غيره
كعقد النكاح مثلا لم ينفذ إلا في حقه خاصة، وإن كان مما يختص به
نفذ بالنسبة إليه أولا وبالذات، وبالنسبة إلى غيره ثانيا وبالتبع. وعلى
هذا فحكم التصرف بقسميه حكم العين التي عليها يد المقر مع غيره،
وما عليها يده خاصة. ولما كان كل من إبقاء النكاح وإزالته مع توابعه
بالطلاق حقا مختصا بالزوج له الولاية عليه لا غير، فاقراره حينئذ بالطلاق
إقرار في حق نفسه، واخراج لأمره من يده، فإذا سمع كان ثابتا مطلقا
ولا معنى للتفرقة المذكورة أصلا وكذلك الكلام في نظائر الطلاق كاقرار
الأب بنكاح الصغير ونحوه، انتهى.
334

وهو كلام حسن جدير بأن يكتب النور على وجنات الحور، إلا
أنه مبني على كون الاقرار كالبينة في كونه إمارة ناظرة إلى الواقع، لا أنه
من قبيل الأصول التعبدية في وجوب الأخذ بمؤداه والالزام بما أقر به حتى
يمكن التفكيك في أحكامها، واستفادة أحد الأمرين، كونه أصلا أو
إمارة مبني على كون الجار متعلقا بالاقرار، أو بجائز، قدم عليه لإفادة
الحصر، فيكون الأول مفاد الثاني. والثاني مفاد الأول، إلا أن التعلق
بالاقرار يضعفه لزوم كون القيد حينئذ توضيحا، لأن مفهوم الاقرار
لا يتحقق إلا حيث يكون على النفس فتأمل.
(الثامن)
لو أقر بما في يده لزيد ثم أقر به لعمرو بالاضراب، كما لو قال:
هو لزيد بل لعمرو، قضى به للأول باقراره وغرم بدله للثاني بالحيلولة
فهو كالمتلف عليه، لأنه حال باقراره النافذ عليه للأول بين الثاني وحقه
باعترافه، بلا خلاف منه معتد به، بل عن (الإيضاح): إن ذلك من
قواعدهم الظاهر في الاجماع عليه.
وإن حكى عن ابن الجنيد: الرجوع إليه في مراده إن كان حيا وإلا فهو
مال متداعى بينهما فإن انتفت البينة حلفا واقتسماها ونفى عنه البعد في الدروس
قائلا بعد حكايته عنه: " وليس ذلك ببعيد لأنه نسب الاقرار إليهما في كلام
متصل، ورجوعه عن الأول إلى الثاني محتمل لكونه عن تحقق وتخمين
فالمعلوم انحصار الحق فيهما، أما تخصيص أحدهما فلا " انتهى.
إلا أنه من الضعف بمكان، لأن اتصال الكلام مع احتمال الخطأ
والتخمين لا ينافي التعبد باقراره في النفوذ عليه لاطلاق دليله، ولغوية
335

احتمال الخطأ والنسيان في مقابل الاقرار.
كضعف ما احتمله في (المسالك) ولعله في العامة كما في
الجواهر: من القضاء به للأول وعدم العزم للثاني، لأنه إقرار بما تعلق
به حق الغير قبله، مع أنه: إن تم كان مقتضاه عدم الدفع له لو فرض
انتقاله إليه من الأول، مع أن وجوب الدفع إليه حينئذ كاد أن يكون من
المتفق عليه.
ومثله ما لو أضرب عن الثاني إلى الثالث أيضا في دفع العين للأول
والغرامة لكل واحد من الأخيرين بتمام البدل.
نعم لو عطف الثالث على الثاني من دون اضراب عنه بأن قال:
هو لزيد بل لعمرو وبكر، غرم بدلا واحدا لهما بالتوزيع عليهما بالمناصفة
بينهما، ولو قال: هو لزيد وعمرو، بل لبكر دفع العين إلى الأولين وغرم
تمام البدل لبكر، ولو قال: بل ولبكر بالعطف، غرم الثلث، واحتمال
النصف عملا بالاضراب والعطف الموجب للتشريك مع أحدهما كما في
الجواهر ضعيف.
وكذا مثله في الحكم ما لو قال: غصبته من فلان، بل من فلان
في الدفع للأول والغرامة للثاني، لما تقدم من الاقرار والحيلولة، بعد أن
كان الاقرار بالغصب مستلزما للاقرار باليد للمغصوب منه الدال على الملك له،
لكن في (القواعد): الاشكال في ذلك (1). ولعله ينشأ مما ذكرنا
ومن أن الغصب يصدق من ذوي اليد، وإن لم يكن مالكا للعين، كما
لو كان بيده بنحو الإجارة أو الإعارة، فيدفع للأول لسبق الاقرار باليد
الظاهرة في الملك وعدم الصارف لها عن الظهور، بل يصلح أن يكون هو
صارفا عن ظهور الثاني فيه، فليحمل الغصب في الاقرار الثاني على

(1) راجع ذلك في المطلب الثاني فيما عدا الاستثناء من كتاب الاقرار
336

ما تنفك اليد فيه عن الملك وعليه فلا غرامة للثاني ببدل العين.
وضعف كما في الجواهر تبعا للمسالك بأن الاقرار بالغصب: إما
أن يقتضي الاقرار بالملك على وجه يقتضي الضمان أو لا. فإن اقتضاه فقد أقر
للاثنين بذلك فكانت كالسابقة فيضمن للثاني، وإن لم يقتض لم يجب الدفع
إلى الأول في هذه الصورة فضلا عن الغرم للثاني لعدم الاقرار له بما يقتضي
الملك لأن الفرض أعمية الغصب من الملك، (واحتمال) الفرق بعدم المعارض
للأول بخلاف الثاني الذي عارضه حق الأول بسبب الاقرار (يدفعه):
أنه مقتض لعدم الغرامة للثاني، وإن صرح بالملكية (1) انتهى.
وأنت خبير بوضوح الفرق بين الاقرار بالملك، والاقرار بالغصب
الذي قد عرفت كونه أعم منه، فيغرم في الأول بخلاف الثاني.
هذا
والمسألة وإن كانت من أحكام الاقرار إلا إنا تعرضنا لها استطرادا لكونها
متعلقا بما في اليد.

(1) راجع ذلك من الجواهر في كتاب الاقرار، النظر الرابع في
اللواحق في المقصد الأول منها، في شرح قول المحقق (وكذا لو قال:
غصبتها من فلان بل من فلان) وعلق عليه بقوله: لأن الاقرار بالغصب
من الشخص يستلزم الاقرار له باليد الدالة على الملكية. ثم ذكر اشكال
القواعد على ذلك إلى قوله: وفيه: إن الاقرار.. الخ.
وفي مسالك الشهيد الثاني في نفس الباب. علق على قول المحقق ذلك
بتوجيهه " بأن الاقرار بالغصب من الشخص يستلزم الاقرار له باليد إلى
قوله في رد ذلك: " ويضعف بأن الاقرار بالغصب.. " إلى آخر
ما ذكر في المتن من عبارة الجواهر.
337

(التاسع)
هل تجوز الشهادة بالملك المطلق بمشاهدة اليد الظاهرة فيه أولا؟
قولان: والأول مروي (1).
وتنقيح المسألة: هو أن اليد: إما أن يكون معها التصرف المكرر
بلا منازع كالهدم والبناء، والإجارة ونحو ذلك من التصرفات التي لا تنفك
غالبا عن الملك، أو لا يكون بل كانت مجردة عنه.
فإن كان الأول، فالجواز هو المشهور شهرة عظيمة حتى ادعى الاتفاق
عليه، بل عن (الخلاف): دعوى الاجماع عليه، فإن تم، وإلا، فلا
يخلو من إشكال ظاهرا، وإن استندوا فيه إلى قضاء العادة بأن ذلك لا يكون
إلا في الملك وجواز شرائه منه، ومتى حصل عند المشتري جاز له دعوى
الملكية. ولو ادعى عليه فأنكر جاز له الحلف، وإلى الأولوية من اليد
المجردة عنه، المصرح في خبر حفص بن غياث بجواز الشهادة فيها مع
تضمنه أيضا لما عدا الأول من الوجوه المذكورة، لعدم (2) خلو الوجوه
المذكورة عن المناقشة:
أما الأول: فإن أريد بقضاء العادة: الملازمة بينها وبين الملك، فممنوعة
لامكان وقوعه من غير المالك كالوكيل والولي ونحوهما. وإن أريد بهما
غلبته، فلا يفيد إلا الظن المعلوم عدم جواز الشهادة به.

(1) إشارة إلى رواية حفص بن غياث المتقدمة، وفيها: " إذا
رأيت شيئا في يد رجل، أيجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال: نعم ".
(2) تعليل للاشكال المذكور بقوله آنفا: وإلا فلا يخلو من اشكال.
338

وأما الثاني، فلعدم توقف جواز الشراء على كون البايع مالكا،
بل يكفي فيه صحة بيعه الموافقة للأصل، فيكون من الأسباب الشرعية
الموجبة للملك المسوغ للحلف عليه. ومنه يظهر الجواب عن الثالث.
وأما الأولوية، فممنوع جواز الشهادة في الأصل، وهو اليد
المجردة حتى يستدل بها هنا، كيف والمنع هنا يستلزم المنع في اليد
المجردة بالأولوية،
وإن كان الثاني، وهو اليد المجردة عن انضمام التصرف إليها،
فأكثر المتأخرين كما في المسالك والكفاية وغيرهما على الجواز أيضا،
ونظرهم فيه إلى خبر حفص المتقدم الصريح في جواز الشهادة على الملك
والظاهر في كون اليد مجرده عن التصرف. والجواز فيه مستلزم للجواز في
الأول بالأولوية. كما أن المنع في الأول مستلزم للمنع هنا كذلك، إلا أن
الخبر مع ضعف سنده مخالف لما دل على اعتبار العلم في الشهادة،
ضرورة أن مفاد اليد ليس إلا الظن وإن نصبها الشارع طريقا للحكم بالملكية
فلا يكفي فيما كان العلم بالواقع معتبر فيه، وبرده أيضا ما قاله في (الشرايع)
بعد أن نسب الجواز إلى القيل: " وفيه اشكال " علله بقوله: " من
حيث أن اليد لو أوجبت الملك له لم تسمع دعوى من يقول: الدار التي
في يد هذا لي، كما لا تسمع لو قال: ملك هذا لي " (1) انتهى.
مضافا إلى ما قيل على الجواز: من لزوم التعارض بين بينة المدعي

(1) قال في كتاب الشهادات، الطرف الثاني فيما به يصير شاهدا، مسائل
ثلاث: الأولى " لا ريب أن المتصرف بالبناء والهدم والإجارة بغير منازع
يشهد له بالملك المطلق، أما من في يده دار فلا شبهة في جواز الشهادة
له باليد، وهل يشهد له بالمطلق؟ قيل: نعم، وهو المروي، وفيه اشكال
من حيث.. ".
339

لو شهدت بالملك له وبينة ذي اليد، كذلك لو علم استنادها إلى اليد لتساويهما
في الشهادة على الملك والرجوع في الترجيح حينئذ إلى ترجيح البينة الخارجة
أو الداخلة، مع أن تقديم بينة المدعي في الفرض من المسلم ظاهرا عندهم
حتى على القول بتقديم البينة الداخلة للترجيح باليد، لأنه إنما هو حيث
لا يعلم الاستناد إليها لا مطلقا.
وبالجملة: ليس للشاهد أن يشهد إلا على اليد أو التصرف أو هما معا
ضرورة عدم جواز الشهادة على مؤدى الأصول والأمارات كالاستصحاب
والبينة، مع أنها أقوى من اليد، ولذا تقدم عليها.
وأجيب عن ذلك كله: أما عن ضعف الخبر فبانجباره بالشهرة المستفيضة
والاجماع المحكي، وبعد الجبر يخصص به عمومات ما دل على اعتبار العلم
في الشهادة، فيكون المورد مستثنى منها. وأما عن تعليل الشرايع للمنع،
فمع أن مثله جار في التصرف الذي نفي الريب عن الجواز فيه، فلا وجه
للفرق بينهما، لا يخفى وضوح الفرق بينهما إذ التصريح بالملك تكذيب
لدعواه وقوله: التي في يد هذا، إلى محقق لموضوعه، لأن المدعي من كان
قوله مخالفا للظاهر. وأما عن استلزام الجواز التعارض بين البينتين والرجوع
إلى ترجيح الداخلة أو الخارجة، فلعدم المنافاة بين الجواز وأقوائية بينة المدعي
من بينة ذي اليد إذا علم استنادها في الشهادة على الملك إليها، وتقديم
الترجيح بذلك على الترجيح بغيره من المرجحات.
هذا غاية ما ذكر دليلا للمنع والجواز من الطرفين والنقض والابرام
من الجانبين. ونحن ذكرناها جريا على طريقتهم. وإلا فالذي يقتضيه
التحقيق في وجه جواز الشهادة على مقتضى اليد من الملك كالشهادة على
نفسها: هو أن الملكية سواء أريد بها ما يوجب السلطنة الخاصة أو نفسها:
هي أمر إضافي واختصاص خاص منتزع من أسبابه، وتحقق المعنى المنتزع
340

يدور مدار تحقق منشأ انتزاعه، سواء كان المنشأ من الأسباب الواقعية
المستحيل التخلف أو الشرعية الممكن في حقه ذلك في الواقع.
وحيث تحققت الإحاطة بالشئ الحاصلة من الاستيلاء عليه كانت موجبة
لاختصاص المحاط بالمحيط وإضافته إليه ومقتضية له ما لم يمنع عنه مانع من
الاختصاص بالغير، ضرورة أن الإحاطة على ما لا اختصاص له بأحد
يوجب انتزاع الاختصاص الخاص إليه، وحيثما شك فيه كان مقتضى
الأصل عدمه (وسبق) الملكية للغير من حيث هو سبق، سيما لو كان
مجهولا مع الشك في بقائها كما هو الغالب في موارد اليد (لا) ينافي الملكية
للثاني، لعدم اتحادهما في الزمان، وإنما المنافي كونه حين ما هو في
اليد مستحقا للغير، وهو كما يحتمل، يحتمل العدم لامكان الانتقال إليه
ولو من المالك الأول، فيكون الثاني من شؤون سلطنة الأول وفي طوله
فمرجع الشك حينئذ إلى الشك في كون اليد الفعلية طولية أو عرضية،
ويكفي في ترتب الأثر على اليد الفعلية من انتزاع الإضافة الخاصة منها إلى
صاحبها عدم احراز كونها عرضية للأصل، وإن لم يثبت به كونها طولية
بعد ثبوت المقتضي وعدم المانع بالأصل، فلا تزاحم اليد الفعلية باليد
السابقة، سواء كان الشك في حدوثها للأصل أم في دوامها بعد العلم بحدوثها
لأن المنافاة في الثاني منفية بالأصل أيضا كما عرفت.
نعم هي مستصحبة، ومقتضاها، وإن كان ذلك، إلا أن التفكيك
بين الأحكام في مجاري الأصول التعبدية غير عزيز فتأمل (1)، مع كون
اليد كما ستعرف مقدمة على الاستصحاب، إذ لولاه لما قام للمسلمين سوق.

(1) وجه التأمل: هو أن الشك في المزاحمة وعدمها مسبب عن الشك
في دوام اليد وعدمه، والأصل في السبب حاكم على الأصل في المسبب
فبالاستصحاب يتعين كونها عرضية (منه رحمة الله).
341

وبالجملة، فمنشأ الانتزاع، وهو الاستيلاء ما دام موجودا كان مقتضيا
لانتزاع الإضافة الخاصة منه ما لم يمنع مانع عنه من كونها يدا عرضية،
وقد عرفت أن مقتضى الأصل عدمه، والاستصحاب غير مجد في المقام.
وإذ قد عرفت ذلك، ظهر لك جواز الشهادة على الأمر المنتزع،
وهو الملكية، بمشاهدة منشأ انتزاعه، فاليد ولو كانت مجرده عن التصرف
كما يجوز الشهادة عليها إذا كانت معلومة بالحس أو غيره، كذلك يجوز
الشهادة على ما ينتزع منها من الاختصاص الخاص، ضرورة معلومية المنتزع
بمعلومية منشأ انتزاعه، ولا ينافي كونها من هذه الحيثية سببا لانتزاع الملكية
كونها كاشفة عن سبق الاستحقاق بالغلبة. ولا كذلك مؤدى غيرها من
الأصول والأمارات الموجبة للحكم به تعبدا، ولذا لا تجوز الشهادة بمؤدى
الاستصحاب والبينة، مع أنها أقوى من اليد كما ستعرف فما دل
على اعتبار اليد في إفادتها الملك إنما هو في الحقيقة إمضاء من الشارع لما
عليه العرف والعقلاء من الانتزاع المذكور بمشاهدة منشأ انتزاعه.
ويشهد لما ذكرنا: ما هو المعلوم: من جواز الشهادة على الملك المطلق
بمشاهدة أسبابه الشرعية كالبيع ونحوه مع عدم العلم بملك البايع للمبيع
الموجب لسراية الشك إلى ملك المشتري لتوقفه عليه في الواقع، وليس إلا
لكون السبب الشرعي معلوما بالحس أو غيره، وترتب المسبب على السبب
علمي من غير حاجة إلى تقييد الملك فيه بالظاهر وكونه حكما ظاهريا،
فكذلك اليد والاستيلاء إذا كان مشاهدا جازت الشهادة بما ينتزع منه لكونه
معلوما بمعلومية منشأ الانتزاع، وإن كان اعتباره للحكم بسبق الاستحقاق
من باب الأمارة الكاشفة عنه بالغلبة.
ولذا حكي عن (كشف اللثام) تشبيه الشهادة بمقتضى بعض الطرق
الشرعية بالشهادة على أثر الأسباب الشرعية فإنها أيضا محتملة للفساد، كما
342

تحتمل الطرق التخلف.
وإن استغربه في (الجواهر) وأورد عليه بوجهين: لا يخلوان من
نظر حيث قال بعد حكايته عنه: " وفيه أولا إن من الواضح الفرق
بينهما ضرورة أن الشارع قد جعل السبب في الظاهر سببا للأثر فيه على
وجه لم يتخلف عن مقتضاه، بخلاف الطريق، فإنه قد جعله طريقا مع
تخلفه، إذ التصرف قد يجامع غير الملك بخلاف البيع الصحيح بحسب
الظاهر، فإنه لا يتخلف عن أثره فيه كالسبب في الواقع. وإن أبيت عن
ذلك وفرضت صورة تختلف فيها الشهادة بالسبب وبأثره لم تجوز الشهادة
بالأثر أيضا، بل لا بد فيها إذا كانت عند الحاكم من الشهادة بالسبب نفسه
وفعله. ولذا أوجب الأصحاب ذكر السبب في الشهادة بالجرح، ولم يجوزوا
الشهادة بالأثر، لاحتمال كونه غير مسبب عند الحاكم.. " (1) انتهى
موضع الحاجة من كلامه.
وأنت خبير بما فيه: أما الأول، فلما عرفت: من عدم الفرق بين
اليد من حيث كونها منشأ وسببا للأمر المنتزع منه المشهود به، وبين غيرها
من الأسباب الشرعية، وإن كان الفرق بينهما من حيث كونها كاشفة عن
سبق الملك بالغلبة واضحا.
ولعل (الجواهر) اقتصر نظره إليها من حيث الكاشفية دون حيث
السببية التي هي الوجه للتشبيه في كلام (الكشف) ولذا اختصت اليد

(1) راجع ذلك في نفس الباب الآنف الذكر من الشرائع في شرح
قول المحقق: أما من في يده دار.. وقيل هذه العبارة قوله: ومن
الغريب ما في (كشف اللثام) من تشبيه الشهادة بمقتضى الطرق الشرعية
بالشهادة على أثر الأسباب الشرعية فإنها أيضا محتملة للفساد كما تحتمل الطرق
التخلف. وفيه.. الخ.
343

بجواز الشهادة بمفادها دون غيرها من سائر الأمارات التي لا توجد فيها
الحيثية السببية. وأما الثاني، فلأن ذلك السبب في الجرح إنما هو لاحتمال
أن لا يكون سببا عند الحاكم وإن كان سببا عند غيره، وهذا غير الطريق المعلوم
كونه طريقا، وإن احتمل تخلفه عن الواقع، فتخلف الطريق بعد
معلومية كونه طريقا غير الشك في نفسه الطريقية، وكونه طريقا أولا،
والذي يشبه ذكر السبب في الجرح هو الثاني دون الأول، فالقياس بينهما
مع كونه قياسا قياس مع الفارق.
ولعل ما ذكرنا من سببية اليد للانتزاع منها وجواز الشهادة على الأثر
المنتزع من منشأه والتشبيه بالأسباب الشرعية في جواز الشهادة مع احتمال
التخلف في السبب مستفاد من نفس الخبر المتقدم من قوله: " أفيحل
الشراء منه؟ قال: نعم، فقال: لعله لغيره " الخ، فتكون الرواية على
ما ذكرنا، وفتاوى أكثر الأصحاب في جواز الشهادة على مفاد اليد من
الملك موافقة للقاعدة، ولذا أفتى بمضمونها من لا يعمل بخبر الواحد.
وإن كان صحيحا فضلا عن الضعيف منه ولو كان منجبرا. اللهم إلا أن
يفرق في جواز الشهادة على الأمر المنتزع بين ما كان منشأ انتزاعه سببا
كالحيازة أو كاشفا عن سبب متقدم، فتجوز الشهادة على المنتزع في الأول
ولا تجوز في الثاني، إلا على نفس المنشأ دون المنتزع منه، لكونه معلوما
على الأول، ومظنونا على الثاني ولو بالظن المعتبر شرعا. نعم تحقق المنشأ
وهو اليد سبب لتحقق الحكم بذلك شرعا لا واقعا، فتأمل.
(العاشر)
الأصل في اليد على مال الغير ايجابها الضمان ودخوله في عهدة ذي
اليد إلى حصول التأدية بنفسه مع وجوده، وببدله مع تلفه بالمثل إن كان
344

مثليا، وبالقيمة إن لم يكن، إلا ما استثني. ويدل على سببيتها للضمان
مضافا إلى الاجماع عليها بقسميه في الجملة، وقاعدة الاحترام الموجبة
لذلك حسبما مر تفصيلها في قاعدة " ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده " (1)
النبوي المنجبر ضعف سنده بتلقي الأصحاب له بالقبول، واستدلالهم به
عليه في كثير من الموارد، وهو: " على اليد ما أخذت حتى تؤدى " (2)

(1) مضى تحقيق ذلك ضمن الرسالة الثانية من الجزء الأول من هذا الكتاب
(2) في كشف الخفاء للعجلوني ج‍ 2 ص 69 يرويه عن أحمد والنسائي
وابن ماجة والحاكم من حديث الحسن عن سمرة بن جندب بلفظ (حتى تؤديه)
وكذلك في كنز العمال للمتقي ج‍ 5 ص 257، وسنن البيهقي ج‍ 6 ص 29
ومثله مستدرك وسائل الشيعة للنوري باب 1 من كتاب الغصب حديث (4)
ولكن في سنن أبي داود والترمذي ومثله: خلاف الشيخ الطوسي كتاب
الغصب مسألة (20) فيما إذا غصب شيئا ثم غير صفته.. وبعض كتب
الحديث ترويه بلفظ (حتى تؤدي) وعلى كلتا صورتي روايته، فالحديث
متواتر النقل اجمالا. وبلغ من الشهرة بحيث اعتبر قاعدة كلية يطبقها
الفقهاء على مختلف مواردها من الفقه.
والملاحظ أنه ليس المقصود من اليد في الحديث المذكور: اليد الجارحة
إذ ربما ليس للمتعدي يد أصلا أو أن المأخوذ غير قابل لوضعه في اليد الخاصة
كالدور ونحوها، بل المقصود ههنا المعنى الاستعاري لليد، وهو محض
المستولي على الشئ، ومعناه إقرار الضمان القهري على صاحب اليد الآخذة
من قبل الشرع أو العقل أو كليهما. فلا يرتفع هذا الضمان الاعتباري إلا
بالأداء إلى المالك الحقيقي أو التنزيلي بواحدة من مراتب الأداء المتدرجة،
برد العين مع وجودها، أو برد مثلها مع إمكان ذلك، أو برد قيمتها مع
تعسر الأولين كما ستعرف
345

الشامل باطلاق اليد فيه لأنواع اليد إلا ما خرج عنه بالدليل كيد الأمانة
بالمعنى الأعم، مالكية كانت أو شرعية. بناء على ما هو الظاهر منه ولو
بمعونة فهم العرف من سياقه: من أن المراد (ثابت على اليد ضمان ما أخذت
حتى تؤدي) فهو إنشاء لبيان حكم الشرع من الضمان، لا إخبار عن كون
المأخوذ كائنا في اليد إلى زمان التأدية، لأنه مع كونه حينئذ من بيان
الأمر البديهي الذي يجل عنه الحكيم لا يناسب التعدي بكلمة (على)
ولا التغيي بخصوص التأدية، للزوم الكذب مع التلف قبلها، ضرورة أن
غايته التلف حينئذ دون التأدية، فهو إنشاء لحكم شرعي تكليفي أو وضعي
لا سبيل إلى الأول منهما، فيتعين الثاني. وتقريبه: هو أن قوله صلى الله عليه وآله
(على اليد) متعلق بمحذوف هو خبر للموصول المتأخر بصلته، والمحذوف
المتعلق به إما من أفعال العموم كالثبوت والكون، أو من أفعال الخصوص
كواجب أو لازم ونحوهما.
ثم إنه لا بد أيضا من تقدير مضاف للموصول بدلالة الاقتضاء بعد
عدم صلاحيته بنفسه لأن يكون مبتدأ للخبر المتقدم حيث كان المراد منه
الأعيان الخارجية المتصفة بكونها مأخوذة، فهي بنفسها غير قابلة لتعلقها
باليد المراد منها صاحبها، وإنما القابل لذلك إنما هو باعتبار أمر آخر
فيها من العهدة والضمان أو الحفظ أو الرد ونحو ذلك، فهو نظير قوله
تعالى: " اسأل القرية " الدال على سؤال الأهل بدلالة الاقتضاء: فإن
كان المضاف المقدر هو الضمان كان المتعلق به المقدر من أفعال
العموم نحو (ثابت)، وإن كان غير ذلك كان المناسب تقدير المتعلق به
من أفعال الخصوص نحو (واجب ولازم) فيكون الحاصل على الأول
(ثابت على اليد ضمان ما أخذت وعهدته) وعلى الثاني (واجب على اليد
حفظ ما أخذت أورد ما أخذت أو أداء ما أخذت)، فلا كلام في أصل
346

التقدير والحذف في الجملة في المقامين، إنما الكلام في تعيين المقدر
والمحذوف فيهما. والأظهر بل الظاهر، بل المتعين من سياق أمثال المقام
بحسب المتفاهم عند العرف من نحو قولهم: على زيد مال عمرو، وعليه
دين، وعليه دم فلان، وعليك تفاوت قيمة ما بين الصحيح والمعيب في
قول الصادق عليه السلام في صحيحة أبي ولاد، إلى غير ذلك من الأمثلة
هو الأول، فإن الأنسب بجعل التأدية غاية لحمل المحمول المقدر على الموصول
هو ذلك، دون المعنى الثاني الذي حاصله: واجب أو لازم على اليد حفظ
المأخوذ أو رده أو تأديته إلى أن تؤديه، فإن ذلك بين ما هو اظهار لحكم
بديهي كتقدير الحفظ، وما يوجب النفرة كتقدير الرد أو التأدية، مع
استلزامه خلو الحديث عن ذكر ما هو حكمه بعد التلف، ويكون على الأول
أتم فائدة وأعم نفعا. وحيث تعين المعنى الأول، فالمستفاد منه هو حكم
الوضع، وإن استلزم التكليف بدليل خارج أو بإجماع مركب ونحوه،
فمن يدعي ظهوره في الحكم التكليفي، فلعل دعواه ناشئة من الغفلة عن
الفرق في مدخول كلمة (على) بين ما كان من الأفعال نحو (عليك
بالصدقة وعليك بصلاة الليل وأداء الفرائض) ونحو قوله تعالى: " ولله
على الناس حج البيت " وما كان من الأعيان كالأمثلة المتقدمة، فدعوى
الظهور في بيان الحكم التكليفي مسلمة في الأول، وممنوعة في الثاني، بل
الظاهر فيه كونه بيانا للحكم الوضعي، وإن لم ينفك عن التكليف.
هذا مع امكان أن يقال: بعدم الحاجة إلى الحذف والتقدير على
تقدير كونه بيانا للحكم الوضعي بدلالة كلمة (على) الموضوعة للضرر
على العهدة والضمان، كدلالة (كلمة اللام) على الملك المتعلقة بالأعيان
والأموال عند الاطلاق، فإنها منصرفة إلى الاختصاص المطلق المساوق
للملكية والملازم لها، وإن كانت في الأصل موضوعة لمطلق الاختصاص
347

فكذلك كلمة (على) فإنها عند الاطلاق منصرفة إلى التضرر المطلق
الذي هو ضد الملكية للضمان أو ملازم له، فقوله (على اليد ما أخذت
حتى تؤديه) ضد قوله (ع): " لليد ما أخذت والعين ما رأت " (1)
فكما أن الثاني دليل على الملكية، فالأول دليل على الضمان والعهدة، فلا
يحتاج في الاستدلال بالحديث على الضمان إلى تكلف الحذف والتقدير فإن
هذا المعنى إنما يستفاد منها باعتبار كونها ملاحظة لمعنى أسمى هو الضمان
والعهدة، كما في دلالة سائر الحروف على المعاني الحرفية المعبر عنها عند
إرادة تفصيل معانيها بمعان اسمية، مثل أنه يقال: (من) للابتداء (وإلى)
للانتهاء (واللام) للاختصاص (وهذا) للإشارة، ونحو ذلك، بل
لعل فهم الأصحاب ذلك منه حجة أخرى كاشفة عن قرينة كانت موجودة
فيه خفيت علينا.
وحيث قد عرفت معنى الحديث وما يراد منه، فاعلم أن الحديث
بالنسبة إلى أفراد اليد وأنواع الأخذ، وإن كان مطلقا، إلا أنه بالنسبة إلى
زمان الأخذ إلى حين الأداء عام، فلو ثبتت يد على مال لا بعنوان الضمان

(1) في الكافي للكليني، كتاب الصيد، باب صيد الطيور الأهلية
حديث (6) " باسناده: أن أمير المؤمنين (ع) قال في رجل أبصر طائرا
فتبعه حتى سقط على شجرة، فجاء رجل آخر فأخذه فقال (ع): للعين
ما رأت ولليد ما أخذت ". وفي (من لا يحضره الفقيه) للصدوق باب 47
نادر من أبواب القضاء والأحكام حديث (1): " روى السكوني عن
جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي (ع): أله سئل عن رجل أبصر
طيرا.. الحديث. وفي (التهذيب للشيخ الطوسي): كتاب الصيد والذبائح
باب الصيد والذكاة، حديث (57) عن أمير المؤمنين عليه السلام قال في
رجل.. الحديث.
348

في وقت كيد الأمانة مثلا ثم شك في ضمانها لعروض ما يوجب الشك به
في أصل معنى الأمانة، حكمنا على اليد فيه بالضمان، وإن اقتضى الاستصحاب
عدمه، لعموم (على اليد) القاضي بالضمان في جميع الأزمان. من أن
الأخذ إلى آن التأدية، والخروج عنه في زمان لا ينافي الدخول فيه في بقية
الأزمان، ولا يعارض استصحاب حكم المخصوص عموم العام، ولذا
استدلوا على الضمان في صورة التعدي أو التفريط بعموم (على اليد)
ولم يلتفتوا إلى استصحاب عدمه قبله. نعم لو ثبت بالاستصحاب نفس
العنوان الخاص المخرج به عن العموم دون حكمه، قدم عليه، لأنه من
الأصل الموضوعي المرتب عليه حكمه، وهذا في الحديث عكس قوله تعالى:
" أوفوا بالعقود " فإنه عام بالنسبة إلى الأفراد، مطلق بالنسبة إلى الزمان
فلو ثبت في وقت عدم وجوب الوفاء بعقد ثم شك فيه في وقت آخر
كان اللازم استصحاب حال المخصص، كما لو شك في لزوم البيع الغبني
للشك في كون الخيار على الفور أو باق بعد للعلم به، فاللازم هنا استصحاب
حكم المخصص الحاكم على العموم المستفاد من دليل الحكمة في " أوفوا
بالعقود " المطلق بالنسبة إلى الأزمان، ضرورة صلاحية الاستصحاب لأن
يكون بيانا في مورد كان العموم فيه من جهة عدم البيان، فلا إشكال،
كما توهم في تقديم استصحاب حال المخصص على حال العموم في " أوفوا
بالعقود " ولو شك في لزوم العقد في زمان لم يكن لازما قبله، وتقديم
حال العموم على حكم المخصص في حديث (على اليد) لو شك في ضمان
يد في زمان لم تكن على الضمان في زمان قبله، لوضوح الفرق بين
المقامين، فإن دلالة الحديث على الضمان في الأزمان من زمان الأخذ إلى
حين التأدية بالعموم المستفاد من التقييد بالغاية، وعلى أفراد اليد بالاطلاق
بدليل الحكمة، والاستصحاب لا يقام العام لحكومته عليه فيتعاكسان في
349

تقديم أحدهما على الآخر في حديث والآية، فيقدم حال العموم على
استصحاب حكم المخصص في الأول وبالعكس فيقدم حال المخصص على
العموم الناشئ من الحكمة في الآية، وهو واضح بأدنى تأمل، فافهم.
(المقام الرابع)
في حكم معارضتها مع غيرها من الاستصحاب أو البينة أو الاستفاضة
فهنا موارد ثلاثة:
(الأول)
في معارضتها مع الاستصحاب. واللاكم فيه مرة في غير
صورة التنازع وأخرى فيها. وعلى التقديرين فباعتبارهما: أما من
باب الكشف فيهما أو التعبد كذلك أو بالاختلاف بينهما من حيث جهة
اعتبارها فهنا صور:
والحق تقدم (اليد) على الاستصحاب مطلقا، سواء قلنا باعتبارها
من باب الأمارة كما يعطيه صدر خبر حفص من قوله " أرأيت إذا رأيت
شيئا في يد رجل " الخ الظاهر في كون النقص عليه بما هو عليه بناء
العقلاء فيكون امضاء منه عليه السلام لما هو عليه طريقتهم، أم من
باب التعبد كما لعله يعطيه ذيل الخبر الظاهر في كون منشأ الجعل والتعبد
هو قيام السوق، وأنه لولاه لاختل النظام، وسواء قلنا باعتبار الاستصحاب
من باب الكشف أم التعبد.
أما على المختار: من كونها إمارة كاشفة عن الواقع، والاستصحاب
اعتباره من باب التعبد، فتقديمها عليه واضح، ضرورة حكومة الأمارة
التي هي في الموضوعات بمنزلة الدليل الاجتهادي في الأحكام على الأصل.
350

وأما تقدمها عليه على بقية الأقوال في كيفية اعتبارهما، فلأنه لما لم
ينفك مورد (اليد) غالبا من استصحاب مخالف لها في الاقتضاء، كان
اعتبارها لولا التقدم لغوا وحمل الأخبار الكثيرة على فرض مورد نادر
يمكن فيه التفكيك بينهما كما لو علم دخول المباح أما في ملك زيد أو عمرو
دون غيرهما وشاهدناه في يد أحدهما، فاستصحاب عدم الملك بالنسبة إلى
من هو في يده معارض بمثله في الآخر، وبعد التساقط يحكم به باليد
لصاحبها، بعيد عن الصواب.
هذا ويظهر من بعض إلغاء اليد في صورة التداعي بتقديم الاستصحاب
عليها، وهو ليس يجيد إلا في صورة ما لو اعترف ذو اليد بسبق يد المدعي
أو ملكه، فيطالب هو بالبينة، لأن اعترافه بذلك متضمن لدعوى انتقاله
منه إليه، فيكون، مدعيا يطالب بالبينة. وبالجملة: ذو اليد إن لم يعترف
بسبق الملك لأحد أو اعترف، ولكن لغير من يدعى عليه من غيبته، بل
وحضوره مع سكوته، قدم قول ذي اليد. ولا كذلك لو اعترف به له
لما عرفت من تضمن اعترافه له دعوى الانتقال منه إليه فتلغو يده وبطالب
بالبينة. بل ويحتمل أن يكون مثله في لغوية اليد ومطالبته البينة ما لو اعترف
لغيره ممن لو تم له لكان للمدعي، لأنه يمت به، كما لو اعترف به لمورثه
مثلا فإن الاعتراف بسبق الملك له كالاعتراف بسبق الملك لنفس المدعي
وبعبارة أخرى: فرق في الاعتراف لغير المدعي بين من كان ملك المدعي
في طول ملك المعترف له أو في عرضه في لغوية اليد في الأول، وعدمها
في الثاني.
ولعله بذلك يتشبث الخصم لتصحيح مطالبة (الأول) للبينة من
ذي اليد في (حديث فدك) (1) بعد اعترافه بالنحلة من رسول الله صلى الله عليه وآله

(1) المقصود ب‍ (الأول): هو أبو بكر بن أبي قحافة التيمي
(رضي الله عنه). والمقصود بذي اليد هي فاطمة الزهراء بنت
محمد صلى الله عليه وآله حيث كانت صاحبة اليد في فدك تصرف فيها بعد أن
نحلها إياها أبوها النبي صلى الله عليه وآله أيام حياته وكانت (خالصة له) لأنها مما
لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب وفدك كما عن ياقوت الحموي في
معجم البلدان قرية بينها وبين المدينة ثلاثة أيام " وبها عين فوارة
ونخل كثير ".
قال البلاذري في (فتوح البلدان): ومثله غيره من المؤرخين:
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله خبير، ولم يبق غير ثلاثة حصون خاف اليهود
خوفا شديدا، فصالحوا النبي صلى الله عليه وآله على الجلاء وحقن الدماء، فقبل
النبي منهم، ولما بلغ أهل فدك ذلك أرسل رئيسهم (يوشع بن نون)
اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالصلح على أن يعطيه فدك، ويؤمنه وقومه
وعلى أن يعمل بها في نخيلها بأن يكون لهم نصف التمر، ثم إن شاء
رسول الله أبقاهم وإن شاء أجلاهم، فرضى صلى الله عليه وآله. وكانت فدك خالصة
لرسول الله صلى الله عليه وآله لأنها مما أفاء الله بها على رسوله حيث لم يوجف عليها
بخيل ولا ركاب: ومثل ذلك في شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي
بعنوان: ما ورد من السير والأخبار في أمر فدك. وفي نفس المصدر وغيره
من مصادر التأريخ: إن فاطمة (ع) قالت لأبي بكر أن فدك وهبها لي
رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: فمن يشهد بذلك؟ فجاء علي بن أبي طالب
فشهد، وجاءت أم أيمن فشهدت أيضا، فجاء عمر بن الخطاب و عبد الرحمن
ابن عوف فشهدا أن رسول الله كان يقسمها. قال أبو بكر: صدقت
يابنة رسول الله وصدق على وصدقت أم أيمن وصدق عمر وصدق عبد الرحمان
ابن عوف.. قال ابن أبي الحديد ومثله غيره: طالبته أولا
بالنحلة، ولما منعت منها طالبت ضرورة بالميراث لأن للمدفوع عن حقه
أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه وسبب، فقال أبو بكر بعد أن احتجت
عليه الزهراء بتلك الخطبة البليغة: يا خير النساء وابنة خير الأنبياء، والله
ما عدوت رأي رسول الله صلى الله عليه وآله ولا عملت إلا بإذنه، وإن الرائد لا يكذب
أهله وإني أشهد الله وكفى بالله شهيدا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا وإنما نورث
الكتاب والحكمة والعلم والنبوة. هذا بإيجاز وللتفصيل عن موضوع فدك
يراجع ما كتبناه في تعليقنا على الجزء الثالث من (تلخيص الشافي).
351

الذي لو لم يتم الانتقال منه إليه لكان فيئا للمسلمين: بحيث مجعول عليه صلى الله عليه وآله
352

" نحن معاشر الأنبياء لا نورث " الخ، مع اعترافه في احتجاج علي (ع)
معه بعدم سؤال البينة من ذي اليد، بل تسئل ممن يدعى عليه (1) وليس
إلا لبطلان اليد بدعوى الانتقال بالنحلة التي لو لم تتم لكان فيئا لا ميراثا،
إلا (أن المبنى): من احتمال المساواة بين الاعتراف بسبق اليد لنفس

(1) في الوسائل، كتاب القضاء، باب 25 من أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى، حديث (3): " علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه
عن ابن أبي عمير عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعا عن أبي عبد الله (ع)
في حديث فدك: أن أمير المؤمنين (ع) قال لأبي بكر: أتحكم
فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين
شئ يملكونه، ادعيت أنا فيه: من تسأل البينة؟ قال: إياك كنت
اسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين. قال: فإذا كان في يدي شئ
فادعى فيه المسلمون، تسألني البينة على ما في يدي، وقد ملكته في حياة
رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده، ولم تسأل المؤمنين البينة على ما ادعوا علي
كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم إلى أن قال: وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر ".
353

المدعي أو لمن يمت به من مورثه في لغوية اليد فيهما مع امكان تضعيفه
بوضوح الفرق بينهما بتقريب: أن الاعتراف للمدعي اعتراف له باليد وإن
كانت سابقة، والاعتراف لمورثه لا يكون اعترافا باليد والملكية السابقة
لا بضميمة مقدمة هي بقاء يد المورث إلى حين موته، بل ومعها أيضا
لعدم ثبوت اليد به للوارث (فاسد) لا ينفع في تشبث الخصم لتصحيح فعل
(الأول): من انتزاع (فدك) من يد فاطمة عليها السلام ومطالبتها
بالبينة لسبق الانتزاع منها على دعواها النحلة، حيث كان فيما جاء به من
(حديث فدك): إن الأول لما بويع واستقام له الأمر على جميع المهاجرين
والأنصار بعث إلى (فدك) من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله
منها، ثم جاءت فاطمة عليها السلام، فوقع بينها وبينه من الاحتجاجات
ما وقع، وكذا بين علي (ع) وبينه بما ظهر منه وبان، من المخالفة
للكتاب والسنة. ولو سلم المبنى لم يجز انتزاع العين من ذي اليد إلا بعد
الاعتراف لمن لو تم له لكان للمدعي، وقد انتزعها منها قبل الاعتراف
والمخاصمة. وبالجملة: في لغوية اليد بالاعتراف لمورث المدعي وعدمها
لنا تأمل، والله العالم.
الثاني: في معارضتها مع البينة التي هي من الأمارات الكاشفة عن
الواقع. وتقديمها على اليد مما لا كلام فيه: سواء قلنا بكونها أصلا أو
إمارة. أما على الأول فواضح، لحكومة الأمارة على الأصل وأما على
الثاني، فهو وإن كان من تعارض الأمارتين، إلا أن الواجب فيه
تقديم أقواهما، وهو البينة، لأن اعتبارهما في مورد اليد دليل على تقدمها
عليها، كما أن اعتبار اليد في مورد الاستصحاب دليل على تقدمها عليه،
ولأنه يلزم من عدم تقدمها على اليد عدم سماع دعوى المدعى على ذي اليد
إذ التكليف بالبينة ومطالبتها منه لغو مع فرض عدم تقدمها على اليد ولا
354

شئ أقوى من البينة، حتى يكلف المدعي بإقامته مع حصر ميزان القضاء
بالبينات والأيمان كون الأولى على المدعي والثانية على المنكر. هذا مضافا
إل أن اعتبار إمارة اليد من باب الغلبة المنكشف بها حال المشكوك من حيث
كونه مشكوكا إلحاق له بالغالب، فالحيثية المزبورة مأخوذة في موضوعها
والبينة، وإن كانت أمارة كاشفة عن الواقع عند الجهل به، إلا أن الجهل
لم يؤخذ موضوعا في اعتبارها، فالجهل مورد للحاجة إليها غالبا لا أنه
مأخوذ في موضوع اعتبارها. وبعبارة أخرى: البينة معتبرة في مورد الجهل
بالواقع لكن لا من حيثية الجهل به كالدليل الاجتهادي المعتبر طريقا في معرفة
الأحكام المفيد للظن لا من حيث الجهل بحكم مورده، بخلاف الغيبة،
فإنها معتبرة في الحاق المشكوك من حيث كونه مشكوكا بالغالب للظن الحاصل
من الغلبة، فحصول الظن بها إنما هو بعد ملاحظة الغلبة في أكثر الأفراد
والشك في فرد خاص، فيحصل الظن باللحوق كالاستصحاب المأخوذ
فيه الشك بناء على اعتباره من باب الظن النوعي، وبناء العقلاء المستفاد
امضاؤه من الأخبار ولا كذلك البينة، إذ لا يتوقف حصول الظن بها
على ملاحظة الجهل في موردها، فالأمارات كما تحكم على الأصول كذلك
يحكم بعضها على بعض، فما كان ملاحظة الشك مأخوذة في موضوعه
كان محكوما لما لم تكن مأخوذة فيه لكونه رافعا لموضوعه، غير أنه لما كان
ظنيا كان حاكما. ولو كان علميا لكان واردا عليه.
ثم البينة: إن شهدت بالملك المطلق أو بالفعل، قدمت على اليد،
وإن شهدت به في الوقت السابق لم تقدح في اعتبار اليد، لعدم المنافاة
بينهما، لاختلاف زمانهما، إلا بالاستصحاب الذي قد عرفت حكومة
اليد عليه ومنه يظهر الوجه بالأولوية في تقديم اليد اللاحقة على اليد السابقة.
(لا يقال): إن حكومة اليد على الاستصحاب تنافي تقدم البينة
355

عليها مع العلم غالبا باستناد الشاهد في شهادته إلى الاستصحاب، وإن هو
إلا تقديم للمحكوم على الحاكم.
(لأن) ذلك أولا: هو اجتهاد في مقابل النص لورود المعتبرة
التي هي ما بين صريحة وظاهرة في جواز تعويل الشاهد على الاستصحاب
حتى عقد لذلك بابا في (الوسائل) حيث قال: باب جواز البناء في الشهادة
على استصحاب بقاء الملك وعدم المشاك في الإرث إلى أن قال: " محمد بن
يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن وهب
قال: قلت: إن ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار، مات
فلان وتركها ميراثا، وإنه ليس له وارث غير الذي شهدنا له؟ فقال:
اشهد بما هو علمك، قلت: إن ابن أبي ليلى يحلفنا الغموس، فقال:
احلف إنما هو على علمك " (1) " وعنه عن أبيه عن إسماعيل بن مرار
عن يونس عن معاوية بن وهب، قال قلت لأبي عبد الله (ع): الرجل
يكون في داره، ثم يغيب عنها ثلاثين سنة، ويدع فيها عياله، ثم يأتينا
هلاكه ونحن لا ندري ما أحدث داره ولا ندري ما أحدث له من الولد
إلا أنا لا نعلم أنه أحدث في داره شيئا ولا حدث له ولد، ولا تقسم
هذه الدار على ورثته الذين تركت في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أن
هذه الدار دار فلان بن فلان مات وتركها ميراثا بين فلان وفلان أو نشهد
على هذا؟ قال: نعم، قلت: الرجل يكون له العبد والأمة، فيقول
أبق غلامي أو أبقت أمتي، فيؤخذ بالبلد، فيكلفه القاضي البينة أن هذا
غلام فلان لم يبعه ولم يهبه: أفنشهد على هذا إذا كلفناه ونحن لم نعلم أنه
أحدث شيئا؟ فقال: كلما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو
غاب عنك لم نشهد به. محمد بن الحسن باسناده عن علي بن إبراهيم نحوه

(1) راجع من كتاب الشهادات منه باب 17، حديث (1).
356

وكذا الذي قبله (1) " وبإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أحمد بن
الحسن وغيره عن معاوية بن وهب، ولا أعلم ابن أبي حمزة إلا رواه عن
معاوية بن وهب، قال قلت لأبي عبد الله (ع): الرجل يكون له العبد
والأمة قد عرفت ذلك فيقول أبق غلامي أو أمتي، فيكلفونه القضاة شاهدين
بأن هذا غلامه أو أمته لم يبع ولم يهب، الشهد على هذا إذا كلفناه؟ قال
نعم " (2) انتهى.
وثانيا: إن البينة التي تنفك غالبا عن الاستصحاب لما اعتبرها
الشارع في موارد اليد التي يخالف مفادها مقتضى البينة، دل على تقدم
استصحابها بالخصوص على اليد بالنصوص، وإن كانت اليد مقدمة على غيره
من سائر الاستصحابات. وبالجملة كما أن اعتبار اليد في مورد الاستصحاب
دل على تقديمها عليه، وإلا لكان اعتبارها لغوا كذلك اعتبار البينة التي
لم تنفك غالبا عن الاستصحاب في موارد اليد دل على تقديمه بالخصوص عليها
وإلا لكان اعتبار البينة لغوا في أغلب مواردها (ودعوى) اختصاص اجراء
الاستصحاب بالحاكم دون الشاهد (مدفوعة) بلزوم تركب ميزان القضاء حينئذ
من البينة وفعل الحاكم، مع أن الحكم منه إنما يكون بعد إقامة الميزان عنده.
وكيف كان، فالمستفاد من الأخبار المتقدمة بضميمة ما ورد فيما
يعتبر في الشهادة من العلم الحاصل من طريق الحس كما عن بعض جمودا
على التمثيل بالمحسوس من الشمس والكف في النصوص، أو الأعم منه ومن
غيره تنزيلا للمنصوص على المثال بإرادة حصول تلك المرتبة من العلم
القطعي إن ما هو معتبر حين التحمل غير ما هو معتبر حين الأداء، لأن
العلم الحاصل بالحسن أو ما هو مثله لا بد من ضعفه، بل وزواله غالبا

(1) المصدر الآنف الذكر حديث (2) مع تبعه الأخير.
(2) المصدر الآنف الذكر حديث (3).
357

بمرور الليالي والأيام، سيما نحو العام، فضلا عن الأعوام، لطرو الاحتمالات
المنبعثة عن عروض العوارض وتطرق الحوادث فلا مندوحة إلا الاستناد إلى
الاستصحاب عند أداء ما تحمله من الشهادة. وبالجملة: فالروايات كما تراها
صريحة في جواز الشهادة مستندا في بقاء المعلوم عند التحمل إلى الاستصحاب
وحملها على صورة بقاء العلم القطعي إلى حين الأداء كما في الجواهر
(مع) كونه حملا على الفرض النادر، بل الاندر تأباه صراحة منطوقها.
وبما ذكرنا يظهر لك: أنه لو كان الحاكم شاهدا جاز له الشهادة
بالملك، ولم يجز له الحكم به، ولو قلنا بجواز القضاء بعلمه، لأن تنزيل
الظن الاستصحابي منزلة العلم بالبقاء في الشهادة لدليل دل عليه بالخصوص
لا يوجب تنزيله منزلة العلم في القضاء به، بل ولو ضم إليه شاهد واحد
أيضا، للزوم تركيب ميزان القضاء حينئذ. نعم لو علم به من دون استناد
إلى الاستصحاب، ومنعنا عن القضاء بعلمه واستثنى منه ما لو ضم إليه
شاهد واحد بلا خلاف كما في (وسائل البغدادي) لأن علمه لا يقصر
عن شهادة الشاهد، فيكون من القضاء بالعلم على القول بالمنع عنه، لا من
القضاء بالبينة فافهم.
هذا، ولكن يجوز له الحكم بالدين على من هو عليه لو علم به في
السابق، كما يجوز الحكم به لو شهدت البينة كذلك لثبوت الاشتغال المستصحب
إلى أن يتحقق الوفاء، لعدم وجود ما يعارضه مما يكون مفاده الوفاء، فاتضح
الفرق بين ما لو ادعى دينا على أحد ومالا في يد أحد، فيكتفي في الأول
بالبينة وإن شهدت به في السابق، ولا يكتفي بها في الثاني، لوجود ما يكون
مفاده الملك الفعلي المقدم على الاستصحاب، بخلاف الأول، والله العالم
بحقائق أحكامه.
الثالث: معارضتها مع الاستفاضة التي تثبت بها أمور خاصة، منها:
358

الملك المطلق من دون تقييد بذكر السبب. وتقديمها على اليد أو تقديم
اليد عليها مبني على الأقوال في اعتبار خصوص ما أفاد العلم منها أو الأعم
منه ومن الظن المتاخم، أو مطلق الظن.
فعلى الأول: تقديمها على اليد مما لا كلام فيه، إذ ما وراء العلم من
شئ، إلا أنه لا معنى حينئذ لاختصاص ثبوت الأمور المخصوصة بها، من
الولاية والملك المطلق والنسب والوقف والموت والعتق. وعلى الأخيرين
ولا سيما الأخير منهما فالعمدة في دليل اعتبارها كما قيل هو:
الاجماع، وهو غير معلوم تحققه فيما كان اليد على خلافها، فالأقوى
تقدمها على الاستفاضة كما لعله المشهور بينهم خلافا لوالد الشيخ
البهائي في (رسالته التي كتبها في هذه المسألة) فاختار فيها تقديم الاستفاضة
على اليد. واستدل عليه بأمور لا تتم إلا على مبناه: من أنه لا دليل
على اعتبار اليد بعد تضعيفه لسند خبر حفص المتقدم إلا أصالة الصحة
وحمل أفعال المسلمين عليها وانكار كونها بنفسها من الأمارات أو الأصول
التعبدية. وهو على مبناه حسن لكن دون صحته خرط القتاد، بعد
ما عرفت من دليل اعتبارها وإفادته الملك حتى بالنسبة إلى ما لا يجري فيه
أصل الصحة في فعله كالصغير والكافر.
هذا والظاهر أنه لا يجوز الشهادة بمفادها في الأمور المذكورة مستندا
إليها إلا فيما يحصل بها العلم، بناء على كفايته وفي الشهادة، وإن حصل
من غير طريق الحسن كما هو الأقوى ضرورة أن جوازها في صورتي
حصول مطلق الظن أو الظن المتاخم بناء على كفاية ذلك في اعتبارها ينافي
اعتبار العلم في الشهادة.
اللهم إلا أن يكتفي به سيما المتاخم منه في خصوص الشهادة المستندة
إليها وإن لم يكتف به في الشهادة بمؤدى البينة التي هي أقوى من الاستفاضة
359

في كونها طريقا إلى ترتب الأحكام عليها، إلا أنه لم يقم عليه دليل
واضح، وإن كان ظاهر عباراتهم يعطي جواز ذلك، إلا أنها لا تخلو
من تشويش واضطراب.
نعم يشهد الشاهد بنفس الاستفاضة دون مفادها، فيحكم الحاكم بمفادها
لثبوت ما يوجبه بالبينة لعدم الفرق بين قيام الاستفاضة عند الحاكم وبين
قيام البينة عليها عنده، إن قلنا بجواز القضاء بالاستفاضة منه، كما لعله
يظهر أيضا، من عبارات أكثرهم في الحكم بمفادها من الأمور التي ثبتت بها
وبالجملة: فهناك مقامات ثلاثة.
الأول: اعتبار الاستفاضة وحجيتها في ثبوت أمور مخصوصة بها
بحيث يترتب على الثابت منها أحكام تحققه في الخارج كاليد بالنسبة إلى مفادها.
الثاني: في الحكم والقضاء بها على الخصم بحيث يكون ميزانا له
عليه كالبينة.
الثالث: في جواز الشهادة بمفادها مستندا إليها عند الحاكم.
أما الأول، فهو من المتفق عندهم، وإن وقع الخلاف في مقدار
ما يثبت بها من الأمور.
وأما الأخيران، فيظهر من كلام بعض وقوع الخلاف فيه. والذي
يظهر من جدنا في (الرياض) دعوى الاتفاق عليه في الأخير منهما (1)
قلت: إن تم اجماع فيهما أو في أحدهما، فهو، وإلا ففي غير صورة
حصول العلم بها إشكال، لعدم دليل واضح يدل على كونها ميزانا للقضاء

(1) راجع ذلك في أخريات كتاب القضاء منه، الفصل الثالث
في أحكام تعارض البينات. وفي أخريات كتاب الشهادات. المسألة الأولى
من مسائل أربع في شرح قول المصنف: يكفي في جواز الشهادة بالملك
مشاهدته يتصرف فيه الخ.
360

فضلا عن الشهادة بمفادها لو سلم كونها ميزانا، كما لا يصير شاهدا بمفاد
البينة، مع أنها ميزان القضاء. وتفصيل الكلام في اعتبارها، ومقدار
ما يثبت بها، وما هو شرط فيها موكول إلى محله. وإنما الكلام هنا في
تقدمها على اليد، أو تقدم اليد عليها. وقد عرفت ما هو الأقوى منهما
والله العالم.
(تذييل)
اشتهر بين الفقهاء: إن من ادعى ما لا يد لأحد عليه قضي له به
وذكروها بنحو القاعدة الكلية، وأرسلوها إرسال المسلمات، والمعروف
عندهم أيضا قاعدة أخرى، وهي إن من ادعى أمرا ولا معارض له قيل
قوله. وهي أعم من الأولى، لاشتمالها على ما لا يدخل من الأمور تحت
اليد، واختصاص الأولى بما لا يد عليه مع كونه قابلا للدخول تحت اليد
مع اختصاصها أيضا فيما لا يكون له منازع فيما يدعيه، وإلا لكان من
التداعي. فلا يقبل قول كل منهما إلا بالحجة، ولذا قيده به توضيحا
(في القواعد) حيث قال: " وكل من ادعى ما لا يد لأحد عليه ولا
منازع له فيه قضي له به " انتهى.
هذا وليعلم أولا أن اليد المنفية في القاعدة الأولى تعم يد
المدعي وغيره. وإن نفى ملكية العين عن نفسه وأثبتها لمالك مجهول فإنه
لا يسلمه إلى مدعيه بمجرد دعواه إلا بإقامة الحجة وإن احتمل كونه مالكا له
ولذا صرحوا في اللقطة بعدم تسليم الملتقط إباها لمن يدعيها بمجرد دعواه
إلا أن تكون مقرونة بحجة أو محفوظة بقرائن تفيد العلم العادي بصدقه
لأنه المكلف بايصالها إلى مالكها، فهو معارض لمن يدعيها بحسب الوظيفة
ولذا يكون خارجا عن القاعدتين. كما يخرج عنهما لو كان المدعى به تحت
361

يد المدعي لكونه حينئذ يقضي به له لليد، دون غيرها من القاعدتين. كما
يحكم به له أيضا لو كانت دعواه موافقة للأصل فإن الحكم بذلك أنما هو
للأصل دون القاعدة، إلا أن يستدل بها حينئذ تكثيرا للأدلة. فهذه الصور
الثلاث من الدعاوي خارجة عن القاعدتين.
ثم المراد من قولهم في القاعدة الأولى: (لا يد لأحد عليه) دائر
بين محتملات ثلاثة:
الأول: أنه لا يد لأحد عليه مطلقا في حالتي الدعوى وما قبلها أصلا
لا لمعلوم صاحبها ولا لمجهول.
الثاني: لا يد لأحد عليه في حال الدعوى وقبله لمعلوم مع العلم
بسبق يد عليه قبله، لكن مجهول صاحبها.
الثالث: اختصاص نفي اليد بحال الدعوى دون ما قبله، بل ولو
علم سبق يد عليه قبله لمعلوم فضلا عن المجهول.
لا اشكال في عدم إرادة المعنى الأول، وإلا لاختصت القاعدة بقبول
قوله في المباحات الأصلية، وما كان بحكمها وكادت تنعدم فائدتها.
وإرادة المعنى الثاني غير بعيدة، وإن كان الثالث أعم نفعا، بل لعله الظاهر
من كلماتهم.
هذا والمراد من قولهم (قضى له به) ليس المراد منه ما هو ظاهره
من قضاء الحكم، بل قبول قوله في ترتيب آثار الملك له وجواز المعاملة
معه عليه. وما ذكرنا من الاحتمالات في نفي اليد في القاعدة الأولى يجري
مثله في نفي المعارض والمنازع في القاعدة الثانية، وستعرف الحال بالنسبة
إلى محتملاته في آخر المسألة.
إذا عرفت ذلك فنقول: يدل على الأولى من القاعدتين مضافا إلى
الاجماع المحكى مستفيضا المعتضد بالشهرة المحققة فضلا عن المنقولة صحيحة
362

منصور بن حازم: " قلت للصادق (ع): عشرة كانوا جلوسا ووسطهم
كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضا: ألكم هذا الكيس؟ فقالوا
كلهم: لا، فقال واحد منهم: هو لي، فلمن هو؟ قال (ع): هو
للذي ادعاه " (1) الخبر. فإنه حكم عليه السلام بأنه لمن ادعاه، وليس إلا
لكونه مدعيا له بلا معارض لما لا بد لأحد منهم عليه، بعد أن نفاه كل
منهم عن نفسه وإن نوقش فيه بأنه من الحكم له باليد لأن توسط الكيس
بينهم أوجب صدق اليد لهم عليه، فإذا نفى من نفى منهم عن نفسه ثبتت
اليد لمن لم ينف فضلا عن دعواه بكونه لم. وأشار إليها في محكي
(السرائر) حيث قال بعد ذكر الصحيحة: " إن هذا الحديث صحيح
وليس هذا مما أخذه بمجرد دعواه وإنما هو لما لم يثبت له صاحب سواه
واليد على ضربين. يد مشاهدة ويد حكمية، فهذا يده عليه يد حكمية لأن كل
واحد منهم نفى يده عنه وبقي يد من ادعاه عليه حكمية. ولو قال كل
واحد من الجماعة وما في دفعة واحدة أو متفرقا: هو لي، لكان الحكم فيه
غير ذلك. وكذلك لو قبضه واحد من الجماعة ثم ادعاه غيره، لم تقبل
دعواه بغير بينة، لأن اليد المشاهدة عليه لغير من ادعاه، والخبر الوارد في
الجماعة: أنهم نفوه عن أنفسهم ولم يثبتوا لهم عليه بدا لا من طريق الحكم ولا من
طريق المشاهدة، ومن ادعاه له عليه يد من طريق الحكم، فقبل فيه دعواه من
غير بينة، فافقه ما حررناه. وأيضا إنما قال: ادعاه من حيث اللغة لأن
الدعوى الشرعية من ادعى في يد غيره عينا أو دينا " (2) انتهى.
قلت: قوله: إنما قال ادعاه من حيث اللغة الخ دفعا لما يتوهم من أن
قوله عليه السلام في الجواب هو للذي ادعاه، كونه له من جهة دعواه لا

(1) الوسائل، كتاب القضاء باب 17 حديث (1). (2) كتاب القضاء من السرائر، أخريات باب النوادر في القضاء.
363

من جهة اليد بإرادة المعنى اللغوي من الدعوى دون المعنى الشرعي، ويؤكد
ما ذكر من كون المحدقين بالكيس ذوي أيد عليه: ما ذهب إليه غير
واحد في باب اللقطة في الحكم بأن ما يقرب من اللقيط أو غيره بكونه له
لليد عليه وإن كان صغيرا، فكيف بمن كان الكيس في وسطهم؟ ولو ادعاه
غيرهم وأنكروه كان هو المدعي وعليه البينة دونهم، وليس إلا لكونهم
ذوي أيد عليه.
إلا أن المناقشة ضعيفة لا لما قيل: من عدم اليد حتى لمن ادعاه
لنفيه عن نفسه أولا، لاندراجه في قوله: (فقالوا كلهم لا) الظاهر
في معناه الحقيقي الشامل له أيضا، فقبول دعواه بعد نفيه عن نفسه ليس
إلا لكونه مدعيا بلا معارض لظهور الجملة بخروجه من العموم وأنه بحكم
الاستثناء الصارف لظهور الأداة في العموم الشامل له عن ظهوره مع كونه
من دعوى الحق بعد إقراره بعدمه المعلوم بطلانها. والحمل على الصحة
في قوليه لامكان نسيانه أولا ثم التذكرة بعده كما في الجواهر غير
موافق للقواعد الشرعية بل لمنع كونهم ذوي أيد على الكيس المطروح
بينهم، فإن مجرد قرب الشئ من شخص لا يوجب صدق اليد له عليه
إلا إذا كان القرب منه محفوفا بقرائن توجب صدق ذلك، وإلا فمجرد
القرب من حيث هو ممنوع ايجابه لصدق اليد عليه أشد المنع. ولذا ذهب
الأكثر إلى المنع عنه في باب اللقطة.
قال في (مفتاح الكرامة): " ولا يحكم له بما يوجد قريبا منه،
كما في التذكرة والدروس ومجمع البرهان. وكذا الإرشاد والروضة،
وقيده في الدروس بما لا يدله عليه ولا هو بحكم يده إلى أن قال وفي:
(الشرايع): فيما يوجد بين يديه أو إلى جانبيه تردد: أشبهه أنه
لا يقضى له، وفي التحرير في القريب مثل ما يوجب بين يديه أو إلى جانبيه
364

نظر، ونحوه ما في الكفاية " انتهى،
وفيه عن (المبسوط): " وأما ما كان قريبا منه مثل أن يكون بين
يديه صرة أو رزمة، فهل يحكم بأن يده عليه أم لا؟ قيل فيه: وجهان:
(أحدهما) لا تكون يده عليه، لأن اليد يدان: يد مشاهدة ويد حكمية
وهي ما يكون في بيته ويتصرف فيه، وهذا ليس بأحدهما (والوجه الثاني)
أن تكون يده عليه، لأن العادة جرت بأن ما بين يديه يكون له مثل الإناء
بين يدي الصراف، والميزان وغيرهما وهذا أقوى " (1) انتهى.
والتعليل بجريان العادة والتمثيل بالميزان ونحوه مما يعطي فيه لزوم
الاقتران بما يفيد ذلك لا مطلقا مع كون الصحيحة المزبورة بمرئى منهم
ومنظر، ولم يستدل أحدهم بها على سببية القرب لصدق اليد، نعم اللقيط
وإن كان صغيرا، ذو يد على ثيابه وما هو ملفوف به والمشدود على ثوبه
والموجود في جيبه والموضوع تحته والخيمة والفسطاط الموجود فيهما والدار
التي لا مالك لها، وفي هذه الثلاثة من الأقمشة، كل ذلك محكي في مفتاح الكرامة
عن المبسوط والشرائع والتحرير والمسالك والدروس والارشاد واللمعة والروضة
ومجمع البرهان والكفاية، بل فيه عن (المبسوط): ذلك كله مما لا خلاف
فيه " (2) انتهى.
قلت: وهو كذلك لصدق اليد والاستيلاء في جميع ذلك وإن كان
صغيرا، لأن الاستيلاء ممكن في حقه وإن كان حصوله له بفعل الغير،
ولا يعتبر في صدق اليد وحصول الاستيلاء له أن يكون حدوثه بفعل نفسه

(1) راجع ذلك في كتاب اللقطة، المطلب الأول في الملقوط في شرح
قول العلامة في القواعد (ولا يحكم له بما يوجد قريبا منه).
(2) راجع نفس المصدر في شرح كلام القواعد (أو ما في يده عند
الالتقاط) الخ.
365

حتى يتوهم عدم صدقه في الصغير لعدم تمكنه من الاستيلاء الذي هو مسبب
عن الأفعال الاختيارية. فظهر أن توسط الكيس من حيث هو لا يوجب
صدق يد المحدقين به عليه، ولو سلم، فالتوسط إن أوجب صدق اليد،
فالثابت به إنما هو يد واحدة لمجموع من لا يتحقق عنوانه إلا بهم دون
كل واحد منهم، ضرورة عدم صدق التوسط والبينة لواحد من العدد،
فلا يد لمن ادعاه أيضا بعد نفي الغير له عن أنفسهم.
اللهم إلا أن يجاب عنه بأن السبب في المقام إنما هو قرب الكيس
من كل واحد منهم لا توسطه بينهم. هذا ومع التنزل والتسليم، فتوسط
الكيس بين جماعة محدقين به يمكن تحققه في الخارج على كيفيات مختلفة
يوجب صدق اليد في بعضها دون جميعها، فلعله كان مطروحا قبل
أن يحدقوا، وإن كان دفعة، فلا يد لهم عليه، أو اجتمعوا عليه متفرقين
لا دفعة، فلا يد لغير الأول منهم أو كان المدعي لاحقا في الدخول معهم
في الاجتماع عليه وإن كان السؤال، فلا يد للمدعى عليه، والحكم
في الجواب بكونه له من دون استفصال عن الكيفية لا بد وأن يكون منطبقا
على جميع محتملاتها التي لا يتم الحكم في بعضها لو كان سببه اليد، فلا بد
من سبب موجود في جميع صورها، وليس إلا كونه مدعيا بلا معارض
فيما لا يد لأحد عليه، وليس اللفظ ظاهرا في كيفية حتى يؤخذ بظاهره
في الدلالة عليها، بل الكيفيات خارجة عن مداليل الألفاظ فلا ظهور
للسؤال في كيفية مخصوصة. وحينئذ فالصحيحة وافية في الدلالة على
المقصود من اثبات القاعدة الأولى.
واستدل عليها أيضا في (الجواهر) تبعا للمحكي عن أستاذه في
(مفتاح الكرامة) بصحيحته الأخرى المروية في (الكافي في باب الحجة)
وفيه: " محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن صفوان بن يحيى عن
366

منصور بن حازم قال قلت: لأبي عبد الله (ع): إن الله أجل وأكرم
من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون بالله، قال: صدقت: قلت:
إن من عرف أن له ربا فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضى
أو سخطا وأنه لا يعرف رضاه أو سخطه إلا بوحي أو رسول، فمن لم يأته
الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل، فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة،
وأن لهم الطاعة المفترضة، وقلت للناس: تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله:
كان هو الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى قلت: فحين مضى رسول الله
صلى الله عليه وآله من كان الحجة على خلقه؟ فقالوا: القرآن،
فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم المرجئ والقدري والزنديق الذي لا يؤمن
به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا
بقيم، فما قال فيه من شئ كان حقا، فقلت لهم: من قيم القرآن؟
فقالوا: أين مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت:
كله؟ قالوا: لا، فلم أجد أحدا يقال: أنه يعرف ذلك كله إلا عليا (ع)
وإذا كان الشئ بين القوم، فقال: هذا لا أدري وقال هذا لا أدري وقال
هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري فأشهد أن عليا عليه السلام كان قيم
القرآن، وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
وأن ما قال في القرآن فهو حق، فقال: رحمك الله " (1) الخبر.
وتقريب الاستدلال بها على المدعى بتوضيح منا: هو عموم

(1) راجع ذلك من الجواهر: في كتاب القضاء، النظر الرابع في
أحكام الدعوى، الفصل الثاني من فصلى المقدمة في التوصل إلى الحق في
شرح المسألة الأولى من مسألتي المحقق (من ادعى ما لا يد لأحد عليه قضي
له به..) والحديث ذكره الكليني في أصول الكافي كتاب الحجة،
باب الاضطرار إلى الحجة، حديث (2).
367

قول الراوي (وإذا كان الشئ بين القوم) الخ. الظاهر في أن لقديم
قول من يدعي الدراية على من لا يدعيها وأنه مقبول متبع من المفروغ
عنه عند العقلاء على نحو القاعدة الكلية ليتم الاستدلال بها على ثبوته في
المورد الخاص من ثبوت الإمامة لعلي (ع)، وقد أقره الإمام على ذلك
بقوله: في الجواب: رحمك الله.
وفيه: إن ذلك إن تم، فهو بمعونة صدرها والفقرات المشتملة عليها
مخصوص بما يتعلق بالأحكام من المسائل العلمية الراجع محصله إلى وجوب
اتباع الأعلم وتقديم الفاضل على المفضول، وأين ذلك من قبول قول
المدعي في الأمور الخارجية نحو الملكية وغيرها، وعموم الشئ إنما هو
بحسب متعلقه دون غيره.
وأما الدليل على القاعدة الثانية، فلم أجد ما ينهض لاثباتها بنحو
الكلية، وإن استدل عليها جدنا في (الرياض) برواية الكيس (1).
إلا أن مفادها كما عرفت مخصوص بما يمكن دخوله تحت اليد، لا كل
أمر تعلق به دعوى من يدعيه بلا معارض لتكون دليلا على القاعدة الثانية
التي قد عرفت أنها أعم من الأولى.
نعم قد ثبت من الشرع في جملة من الموارد قبول قول المدعي بمجرد
دعواه، التي منها: من يدعي عينا لا يد لأحد عليها، ومنها: دعوى
الوكالة في بيع ما في يده كالدلال ونحوه مما قامت السيرة القطعية على جواز
المعاملة معه عليه، وإن لم تنفذ على الموكل لو أنكر وكالته، ومنها:
دعوى: المرأة عدم اليأس وعدم الزوج أصلا، ودعوى الاعسار مع عدم

(1) ذكر ذلك في كتاب القضاء، ضمن النظر الرابع في بيان
الدعوى، الفصل الأول في بيان المدعى، الأولى من مسائل خمس: من
انفرد بالدعوى لما لا يد لأحد عليه.
368

سبق اليسار، ودعوى الصبي عدم البلوغ، ودعوى الحرية حيث لا يعلم
سبق الملك، ومنها: دعوى المرأة اليأس والحيض والطهر والحمل، والصبي
دعوى البلوغ باحتلام، ودعوى المطلقة ثلاثا أنها تزوجت بالمحل مع
الوطئ والطلاق بعده، وهذه الموارد، وإن قبل قول المدعي فيها، إلا أنه
لا لأمر جامع بينها: من كونه مدعيا بلا معارض حتى يتسرى إلى غيرها
فيحكم به عند وجوده، بل لأن سبب القول فيها مختلف، فإن الأول
منها مندرج كما عرفت في القاعدة الأولى، والثاني إنما يقبل قوله
لقبول قول ذي اليد فيما يتعلق بما هو في يده مطلقا، وإن لم تكن يدا
مالكية، بل ولو كانت يد عدوان كالغاصب فإنه يقبل تصديقه لأحد
المتنازعين على العين المغصوبة في يده كما ستعرف. وأما دعوى المرأة
عدم اليأس وعدم الزوج أصلا، ودعوى الاعسار مع عدم سبق اليسار
وعدم البلوغ والحرية حيث لا يعلم سبق الملك، فإنما يقبل قول المدعي في
أمثال ذلك لكونه موافقا للأصل، لا لعدم المعارض. وقد عرفت خروج
ما كان موافقا له عن موضوع القاعدة، فإنه من قبول قوله بالدليل المعتبر
وإن كان هو الأصل. وأما بقية الموارد المتقدمة فلكونها مما لا يعلم
إلا من قبله، وكل ما كان كذلك قبل قوله، وهي قاعدة أخرى معتبرة
بالنص والاجماع.
وبالجملة: فإن تم اجماع على تأسيس هذه القاعدة، وإلا فلا دليل
عليها بنحو الكلية.
والله العالم بحقائق أحكامه
369

رسالة
في أحكام الدعاوى
370

بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة: في معنى المدعي والمدعى عليه عرفا، ووظيفة كل واحد
منهما، وذكر أحكام التداعي وبيان نبذة مهمة من مسائل القضاء،
فهنا مقامات:
(المقام الأول)
في معنى المدعي عرفا، حيث لم تثبت له حقيقة شرعية حتى يحمل
عليها ما عبر به في الأخبار الكثيرة، مع معلومية عدم إرادة معناه اللغوي
وهو الطلب، لصدقه على المنكر أيضا. وما كان كذلك، فالمرجع فيه
هو العرف.
وقد اختلفوا في تعريفه على أقوال: فبين من عرفه ب‍ (من لو ترك
الخصومة لترك) (1) وهو المقصود ممن عبر عنه بأنه (لو ترك يخلى
وسكوته) (2) أو وسبيله (3) وبين من عرفه بأنه: الذي يدعي خلاف

(1) بهذا عبر المحقق الحلي في الشرايع آخر كتاب القضاء. النظر الرابع
في أحكام الدعوى وبهذا أيضا عبر الشهيد الأول في متن اللمعة في كتاب
القضاء، القول في كيفية الحكم. وغيرهما كالعلامة في قواعده في كتاب
القضاء أيضا.
(2) وهو تعبير الشهيد الثاني في الروضة في شرح كلام الشهيد الأول
في المصدر الآنف. قال: وهو المعبر عنه بأنه الذي يخلى وسكوته ".
(3) في الرياض: كتاب القضاء، أحكام الدعوى في تعريف
المدعي: " هو الذي يترك ويخلى سبيله لو ترك الخصومة ولم يطالب
بشئ " وفي المسالك للشهيد الثاني بنفس الباب: الذي إذا
سكت خلى ولم يطالب بشئ ".
371

الأصل، أو خلاف الظاهر (1) وبين مقتصر فيه على المعطوف عليه أو على
المعطوف (2) فتكون المسألة ثلاثية الأقوال أو رباعيتها، ويحتمل في كلام
بعض (3) كونها ثنائية.
والمشهور كما قيل: هو الأول. وعليه، فمعنى تركه المعلق:
هو تركه كما كان قبل الدعوى، ومن حيث ما كان يدعي به وإن لم يترك
بالكلية ومن حيثية أخرى، فلا ينتقض بمدعي الوفاء، فإنه يطالب بالدين
وإن ترك دعوى الوفاء، فالحيثية مأخذوة في التعريف.

(1) الملاحظ: أن هذين التعبيرين والتعبير الأول عن المدعي ذكره
عامة فقهائنا الأعلام من القدماء والمتأخرين كالعلامة في قواعده، وتبعه
جميع شراح القواعد كولده فخر المحققين في الإيضاح، والمحقق الكركي
في جامع المقاصد، والفاضل الهندي في كشف اللثام، وهكذا في كفاية
السبزواري والمسالك للشهيد الثاني، وغيرهم في غير ذلك من عامة الكتب
الفقهية، في باب الدعوى من كتاب القضاء، فإنهم ذكروا تعاريف ثلاثة
أو أربعة للمدعي: إنه الذي يترك لو ترك، وإنه الذي يدعي خلاف
الأصل، وإنه الذي يدعي خلاف الظاهر، ونحو ذلك. والمنكر بعكسه
بحكم المضايفة بينهما.
(2) يلاحظ (الجواهر) في هذا الباب فإنه يستعرض عامة
تعارف المدعي والمنكر.
(3) كالمحقق في (شرائعه) بنفس الباب، فإنه لم يذكر تعريفه
بخلاف الظاهر. ولعله لما ذكره في (الجواهر): " مما لا ينبغي صدوره
ضرورة عدم منافاة أكثر الدعاوي للظاهر الذي هو مقتضى العادة ونحوها ".
372

والمراد بالأصل: هو القاعدة الشرعية المعمول بها في الواقعة المخصوصة
سواء كان من الأصول الأولية العملية كأصالة البراءة وأصالة العدم
واستصحابه، أم الثانية كأصالة الصحة ونحوها، أو الظواهر المعتبرة كقاعدة
اليد ونحوها، فالمدار في كل خصومة على ما هو مقتضى الأصل المعمول
به فيها، فمن يكون قوله مخالفا كان مدعيا.
وبعد تبين معنى الأصل الموجب لصدق المدعي على من كان قوله
مخالفا له، ظهر لك عدم ورود ما قيل عليه كما في الجواهر من
إجمال التعريف به: " لأنه إن كان المراد مخالفة مقتضى كل أصل
بالنسبة إلى تلك الدعوى، فلا ريب في بطلانه ضرورة أعمية المدعى من
المخالفة للأصل، فإن كثيرا من أفراده موافقة لأصل العدم وغيره، ولكنها
مخالفة لأصل الصحة ونحوه، وإن أريد مخالفة أصل في الجملة، فلا تمييز
فيه عن المنكر الذي قد يخالف أصلا من الأصول " (1) انتهى.
ضرورة أنه لا مسرح ولا مجرى للأصل الأولى بعد حكومة الأصل
الثانوي عليه حتى تكون مخالفته مناطا في الصدق، فلو تنازعا في صحة
المعاملة وفسادها كان من يدعي الفساد مدعيا لمخالفة قوله الأصل المعمول به
في الخصومة وهو أصالة الصحة، ومن يزعم الصحة منكرا لموافقة قوله له
وإن كان مخالفا للأصل الأولى وهو عدم الانتقال والتملك لعدم العبرة به

(1) قال في ضمن النظر الرابع في أحكام الدعاوي، في شرح
قول المحقق: وكيف عرفناه فالمنكر في مقابله: " وعلى كل حال، لا يخفى
عليك أيضا أنه ليس شئ منها منطبقا على معنى المدعي الذي قد عرفت
وإنما المراد بتعريفه بذلك التمييز بذكر شئ من خواصه اللازمة أو الغالبة
وإن خرجت عن مفهومه، مع أنه قد يناقش أيضا بأن فيه إجمالا لأنه
إن كان. " الخ.
373

بعد محكوميته وهذا بخلاف ما لو تنازعا في وقوع أصل المعاملة وعدمه
فإن المدعى منهما من يزعم وقوعها، لأنه يدعي خلاف الأصل، وهو
أصل العدم وهو المعمول به حيث لا أصل يحكم عليه هنا. ولعل التعريف به
حينئذ يرجع في المعنى إلى التعريف الأول لعدم الانفكاك بينهما.
ثم الظاهر من (الظاهر) الذي أنيط بمخالفته صدق المدعي في
التعريف: هو الظهور النوعي الناشئ من الغلبة، دون ظاهر حال الشخص
فإنه لاختلافه بحسب الأشخاص والأحوال غير صالح لجعله ميزانا في الصدق
وعليه فيكون التعريف به أعم مطلقا من التعريف بمخالفة الأصل، بناء
على اعتبار الأصول من باب الظن النوعي، وإرادة ما يعم الظهور العرفي من
التعريف بمخالفة الظاهر. وإن اعتبرناها من باب التعبد خرجت الأصول
عن التعريف، وكانت النسبة حينئذ بينه وبين التعريف بمخالفة الأصل عموما
من وجه: يجتمعان في مورد، ويفترقان في آخر، كما لو ادعت الزوجة
بعد الطلاق الدخول بها مع الخلوة قبله مع ادعاء الزوج عدمها، فإنها
مدعية على التعريف بمخالفة الأصل والزوج منكر، وبالعكس على التعريف
بمخالفة الظاهر لغلبة وقوع الوطئ ممن هو حديث عهد بالعرس مع الخلوة
بها باسدال الستر وإغلاق الباب الكاشفة عنه كشفا ظنيا، وكانت أمارة
عليه معتبرة شرعا بما دل عليها من الأخبار المستفيضة. وحيث أردنا بالأصل
القاعدة الشرعية المعمولة في تلك الخصومة اندرج فيه التعريف بمخالفة
الظاهر، إن خصصناه بما كان ظهوره معتبرا شرعا، وإن عممناه لما يشمل
الظهور العرفي كان أعم من وجه، كما يظهر من بعض في مسألة: ما لو
اتفق الزوجان على إسلامهما قبل المسيس، واختلفا في التقارن وعدمه،
فادعت الزوجة سبق اسلامها على الزوج فيبطل به النكاح، وادعى الزوج
عدمه والتقارن فيه فالنكاح باق، فالزوجة مدعية على التعريف بمخالفة
374

الأصل لمخالفة قولها له وهو أصالة عدم التقدم لا استصحاب النكاح، لأن
الأصل المعمول به في المقام إنما هو الأصل الموضوعي دون الحكمي، والزوج
منكر، وعليه فيحلف الزوج ويكون النكاح بينهما على حاله، وينعكس
الأمر على التعريف بمخالفة الظاهر لبعد التقارن وندرته فتحلف الزوجة
ويبطل النكاح. (والمناقشة) بأن قول مدعي التقارن مخالف للأصل
أيضا، بعد أن كان معنى التقارن بين الشيئين هو كون حدوث أحدهما
عند حدوث الآخر المعلوم كون مقتضى الأصل عدمه، بل كل من
التقارن والتقدم عنوان منتزع مما يكون منشأ انتزاعه مخالفا للأصل،
بل التأخر أيضا كذلك بناء على أن منشأ انتزاعه هو حدوث كونه مسبوقا
بالآخر وحادثا بعده، لا عدم حدوثه عنده وقبله حتى يكون موافقا للأصل
وهو أصل العدم، وحينئذ فيكون الزوج مدعيا أيضا (فاسدة) لأن الأصل
المعمول به في هذه الخصومة المنوط بمخالفته صدق المدعي كما عرفت
هو أصالة عدم التقدم دون أصالة عدم التقارن، لعدم ترتب الأثر عليه
وإنما الأثر مرتب على الأصل الأول، ضرورة أن بطلان النكاح إنما يترتب
على تقدم إسلام الزوجة، وعدم التقارن لا يثبت تقدم اسلامها، بل هو أعم
منه ومن التأخر المتحد مع التقارن في الحكم من بقاء النكاح وهو واضح.
وكيف كان فالمنكر في كل تعريف: ما يقابل المدعي فيه، وحيث
ما فرض الشك في الصدق من حيث الشك في انطباق التعاريف عليه وعدمه
إلزام أحدهما بالبينة من دون تعيين، بناء على أن الاكتفاء من المنكر بيمينه
إنما هو للتسهيل عليه في حجته وكونها رخصة في حقه. وأما على القول
بالعزيمة واختصاص الوظيفة بها، فيشكل الحكم في حق كل منهما بإقامة
البينة أو اليمين كما ستعرف. والأحسن في الإحالة في ذلك على
العرف. بل الظاهر: إن من عرفه بأحد التعاريف المذكورة إنما رام
375

التعريف له بلازمه وخاصته لا التعريف له بالكنه والحقيقة حتى ينطبق عليه
طردا وعكسا، فالكل يحومون حول معنى واحد مما هو عند العرف من
معناه. ولعله عندهم هو الاخبار الجازم بما يقتضي ترتب الحق له أو سقوطه
عنه، فإن الاخبار بذلك يسمى عندهم دعوى، والمخبر مدع، كما أن
الاخبار بما يعود ضررا عليه عندهم إقرار، وبما لا يكون لا له ولا عليه
بل هو مجرد نسبة المحمول إلى الموضوع خبر. والاخبار بما يكون دعوى
منه لا ينفك عن الطلب الذي هو معناه اللغوي، غير أنه عرفا طلب خاص
لا مطلق الطلب الذي قد ينطبق على المنكر أيضا.
(المقام الثاني)
في حكم المدعي والمدعى عليه المعبر عنه بالمنكر أيضا، وبيان وظيفة
كل واحد منهما، فنقول:
إنه قد استفاض النص والاجماع على أن: " البينة على المدعي،
واليمين على المدعى عليه " (1) وقيل في وجه اختصاص كل منهما بما عليه
من الوظيفتين هو ضعف الدعوى لمخالفتها الأصل أو الظاهر، وقوة الانكار
لموافقته له أو لهما فلم يقنع في الدعوى إلا بالحجة القوية، أعني البينة
لبعدها عن التهمة جبرا لخبره، وأجتزأ في الانكار بما لا يكون في القوة
كالبينة وهو اليمين دفعا للتهمة المحتملة فيه، وإن لم تبلغ قوة التهمة في
المدعى، فاقتضت المناسبة ذلك تعديلا للميزان وعلى كل حال، فمن
المعلوم أن النصوص المفصلة واردة في مقام البيان بنحو التفصيل لما بين

(1) ومنطلق النصوص والاجماعات هو النبوي المشهور المذكور في عامة
كتب الحديث من الفريقين في باب القضاء: " البينة على المدعي واليمين
على المدعى عليه ".
376

بنحو الاجماع: من الميزان للحكم وحصر القضاء به في قوله صلى الله عليه وآله:
" إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان " (1) فتكون مبنية لوظيفة كل منهما
بنحو القاعدة الكلية، فالقضاء بغيرهما أو بغير التفصيل فيهما خروج
عن موازينه.
نعم قد تخصصت القاعدة كما قيل بجملتيها: الأولى والثانية
في موارد: بعضها متعلق بالأولى، وهي (البينة على المدعي) فيقبل قوله
بلا بينة: إما مطلقا، أو مع اليمين، وبعضها متعلق بالثانية بمعنى أنه
منكر لا يمين عليه أو يمين لا عن المنكر، بل على المدعي.
أما الأول ففي موارد: (منها): دعوى الأمين تلف العين المقبوضة
له بنحو الأمانة الشرعية أو المالكية، فإنه يقبل قوله في التلف، ولو مع
يمينه، ولا يطالب بإقامة البينة عليه. ويدل عليه مضافا إلى الاجماع
المستفيض المرسل عن الصادق (ع) وفيه: " عن المودع إذا كان
غير ثقة: هل يقبل قوله؟ قال: نعم ولا يمين عليه " (2) وخبر مسعدة
عنه (ع): " ليس لك أن تأتمن من خانك، ولا تتهم من ائتمنت " (3)
وخبر ابن زياد عنه عن أبيه: " أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ليس لك
أن تتهم من ائتمنته ولا تأتمن الخائن " (4) وضعف السند منجبر بما عرفت

(1) راجع: الوسائل، كتاب القضاء باب 2 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى حديث (1). وتتمة الحديث: " وبعضكم ألحن
بحجيته من بعض فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له
به قطعة من النار ".
(2) الوسائل: كتاب الوديعة باب 4 في أحكامها حديث (7).
(3) نفس المصدر الآنف حديث (9).
(4) المصدر الآنف حديث (10) بتكملة جملة: وقد جربته.
377

وإن اشتمل الأول على عدم اليمين كما عن بعض، إلا أن الأقوى قبول
قوله معها، لعموم ما دل على حصر القضاء بميزانه من البينة أو اليمين
مع عدم معلومية الجابر له من هذا الخصوص حتى يخصص به ما دل
بعمومه على الحصر.
هذا مع امكان أن يقال إن انكار المالك للتلف مرجعه في الحقيقة
إلى دعوى خيانة الأمين واتهامه، كما لعله تشعر به الأخبار المتقدمة مع انطباق
التعاريف عليه أيضا، لأنه لو ترك ترك، وكان قوله مخالفا للأصل
والظاهر من عدم الخيانة، الحاكم على أصالة عدم التلف، والأمين منكر
وليس هو إلا مخبرا بما يتحقق به انتهاء حق المطالبة والاسترداد للعين
من المالك.
ضرورة أن العين غير مضمونة على الأمين، بل يجب ردها ما دامت
موجودة لا مطلقا، حتى يجب رد بدلها مع التلف، فلم تتحقق الخصومة
من المالك معه إلا بدعوى أحد أمرين: إما التعدي مع تصديقه التلف
أو اتهامه بالخيانة مع تكذيبه، وعلى التقديرين فهو مدع والأمين منكر.
وعليه فلم يكن المورد مما خرج عن القاعدة كما قيل واتضح به وجه
توجه اليمين عليه أيضا، لأنه من يمين المنكر في قبول قوله مع الخصومة
وليس الوجه فيه هو تعسر إقامة البينة عليه حتى يتجه القول بالتفصيل
كما عن الشيخ بين ما لو استند إلى مسبب ظاهر كالحرق والغرق ونحوهما
وعدمه، سواء استند إلى سبب خفي كالسرقة ونحوها أو لم يذكر السبب
أصلا، مع أن ترك الاستفصال في الأخبار يقتضي القبول مطلقا.
ومنها: دعوى الودعي رد الوديعة إلى المالك مع انكاره، فإنه يقبل
قوله على المشهور شهرة عظيمة، بل الاجماع محكي عليه مستفيضا،
والنصوص المستفيضة شاملة له أيضا، ولا كذلك في دعوى الوكيل الرد
378

على الموكل، والمستعير الرد على المعير على الأقوى، وإن كانت العين بيدهما
أمانة بالمعنى الأعم. وقيل كما في (الجواهر) وغيره في الفارق بين الوديعة
وغيرها في ذلك أنما هو النص والاجماع المفقودان في غير الودعي من الأمناء،
قلت: وهو وإن كان كذلك إلا أنه يمكن تطبيق كل من القبول
في الوديعة وعدمه في عيرها على القاعدة، بتقريب: أن انكار الرد في الوديعة
مرجعه في الحقيقة إلى انكار أصل الحفظ الذي ائتمنه المالك عليه واستنابه
فيه. وليس الحفظ في غيرها إلا مستتبعة للأغراض المقصودة بالذات من
عناوينها والعلة الغائية لايجادها، فإن عقد الوكالة مفاده الاستنابة على التصرف
دون الحفظ وإن استتبعه، ومفاد العارية هو التبرع بالمنفعة أو الانتفاع.
وأما الوديعة فالعلة الغائية لها والمقصود الأصلي فيها ليس إلا نفس الحفظ
الذي ائتمنه عليه، ولذا عرفوها بأنها الاستنابة على الحفظ، والوكالة
استنابة على التصرف، فالحفظ في الوديعة كالتصرف في الوكالة في أن
المالك ائتمنه عليه وإن اطمأن بحفظ الوكيل لما له المسبب عن اطمئنانه
بأمانته، فهو أمين عنده في حفظه لا أمين له فيه بحيث ائتمنه عليه،
وانكار الرد خارج عما ائتمنه عليه في غير الوديعة وإن كان مرجعه إلى
انكار الحفظ، فيبقى تحت قاعدة البينة على المدعي، لأن الرد فعل خارجي
يدعيه الوكيل أو المستعير مثلا على المالك فيطالب بالبينة.
ومنها: دعوى المالك إبدال النصاب في أثناء الحول لئلا تتعلق به للزكاة أو
يكلف بأدائها فإنه يصدق قوله فيه بلا يمين، وكذا لو ادعى الدفع إلى المستحق
إجماعا فيهما كما في (وسائل البغدادي) وغيره، وهو كذلك لذلك ولأن التصرف
وهو الابدال في الأول من شؤون المالكية، وفي الثاني مما يملكه بالولاية
التي هي ثابتة للمالك كولاية التبديل والعزل بالقسمة، فيندرج تحت قاعدة
(من ملك شيئا ملك الاقرار به) بل المالك فيهما منكر لما يدعى عليه
379

الحاكم من اشتغال الذمة بالدفع، سيما في الأول الذي يوافق قوله الأصل
وهو عدم تعلق الزكاة بماله أو عدم التكليف بأدائه، مع أنه ولا سيما
في الثاني مما يتعسر أو يتعذر إقامة البينة عليه لامكان احتسابه من الدين
الذي له على المستحق، وسقوط اليمين فيهما لكون الدعوى عليه من الحاكم
غير جازمة لاحتمال الفراغ أو عدم التعلق، سيما مع كونه مصدقا فيهما
واستصحاب بقاء العين وعدم الابدال في الأول لا يثبت إدارة الحول على
الموجود أو كونه فيه.
ومنها: دعوى المالك نقصان ما خرص عليه المصدق لينقص بحسب
ذلك ما قرر عليه من الزكاة، بل هو منكر لما يدعى عليه المصدق من
بلوغ القدر المخروص المنبعث عن الحدس والتخمين، لموافقته للأصل
ومخالفة قول المصدق له.
ومنها: دعوى الذمي الاسلام قبل الحول ليتخلص من الجزية، فإنه
يقبل قول كل منهما، ويصدق بلا يمين. للاجماع المحكي فيهما أيضا في
(الوسائل) وغيره، وسقوط اليمين فيهما، لما عرفت من كون الدعوى
غير جازمة، والأصل يقتضي البراءة، مع أن الدعوى في الثاني أيضا
مما لا تعلم إلا من قبله، مضافا إلى أنه لو أسلم بعد الحول سقطت عنه
الجزية عندنا، كما في (المبسوط) للجب (1).

(1) قال الشيخ في المبسوط: كتاب الجزايا ضمن كتاب الجهاد،
فصل في كيفية عقد الجزية، آخر الفصل: " وإذا أسلم الذمي بعد الحول
سقطت عنه الجزية " ويشير السيد الماتن قده بتعليل (الجب) إلى
الحديث النبوي المشهور: " الاسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها "
قال الجزري في النهاية بعد ذكر الحديث: " أي يقطان ويمحوان
ما قبلها من الكفر والمعاصي ".
380

ومنها: دعوى الصبي الحربي الذي ظاهره البلوغ بالنبات: الاستنبات
بالعلاج، ولم يكن عن بلوغ ليلحق بالذراري في عدم القتل. وعن بعض
عدم قبول قوله إلا بالبينة، لأن النبات ظاهر في البلوغ اعتبره الشارع
إمارة عليه، فهو مقدم على الأصل فيه، فهو مدع لمخالفة قوله له،
فيطالب بالبينة عليه، والأقرب فيه القبول احتياطا في الدماء لأنه لو لم
يسلم فليس إلا القتل، ولا أقل من كونه موجبا للشبهة التي تدرء بها الحدود
بعد أن كان المجعول أمارة على البلوغ إنما هو النبات بنفسه لا مطلقا،
وحيث احتمل كونه غيره أوجب دعواه الشبهة الدارئة للقتل.
نعم لو ادعى الاستنبات لابطال ما أوقع من عقد أو ايقاع، فإنه
لا يقبل قوله حينئذ إلا بالبينة، لسلامة الأمارة فيه عما يوجب عدم العمل بها
من الشبهة الدارئة للحد.
ومنها: دعوى البلوغ، والأقوى تقييدها بدعوى الاحتلام دون السن
لعدم تعذر إقامة البينة عليه بخلاف الاحتلام الذي لا يعلم إلا من قبله فإنه
يقبل فيه لأنه لا يمكن إقامة البينة عليه، فلو توقف عليها لزم الحرج والضرر
المنفيان: آية ورواية (1).
وبالجملة: سماع الدعوى في مثل ذلك أنما هو للضرورة التي تتقدر
بقدرها، وهي متحققة في دعوى الاحتلام دون السن.
اللهم إلا أن يقال بتعسر البينة غالبا عليه أيضا، فيلحق المتعسر غالبا
بالمتعذر في القبول. ولعله لذا عن بعض قبول قوله فيه مطلقا من غير
تقييد باختصاصه بدعوى الاحتلام، فتأمل. وكيف كان، فلا يمين عليه

(1) إشارة إلى قوله تعالى في نفي الحرج كما في سورة المائدة:
" ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " وقوله صلى الله عليه وآله في نفي الضرر:
" لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ".
381

لأنها ضربت على المنكر دون المدعي، وللزوم الدور، لتوقف اعتبارها
على البلوغ فلو توقف البلوغ عليها دار: (لا يقال) سماع الدعوى
مشروط ببلوغ المدعي والشأن فيه، فيدور أيضا (لأنا نقول): ما دل على القبول
في المقام من الضرورة يدل على القبول فيه من دون شرط، فيكون مخصصا
لما دل على شرطية البلوغ لسماع الدعوى وبما ذكرنا يظهر لك الوجه في قبول
قول المدعي لكل ما لا يعلم إلا من قبله كدعوى البراءة مما يتعلق بالحيض
والطهر كالعدة وغير ذلك مما يتعذر الاطلاع عليه، ولكل ما يوجب الشبهة
الدارئة للحد احتياطا في الدماء.
ومنها: دعوى من عليه الحق الاعسار حيث لا تكون الدعوى مالية
ولا مسبوقة باليسار، فإن المشهور كما قيل على قبول قوله بيمينه
بلا بينة، مع أنه مدع لما يوجب سقوط المطالبة من العسر المفسر بالضيق
والشدة في مقابل اليسر المفسر بالسعة، وهما ضدان وجوديان لا ينتقضان
فلا يثبت بالأصل حتى يكون مدعيه منكرا في الحقيقة لموافقة قوله له،
بل هو مدع لمخالفة قوله إياه، وحيث علق الانظار عليه في الآية الشريفة (1)
كان شرطا في وجوبه. فلا بد من إحرازه لتوقف الحكم به على تحققه
لكونه شرطا لما علق عليه من الانظار، مضافا إلى ما ورد في الأخبار:
" من أن عليا (ع) كان يحبس على الدين ثم يفتش عن ماله فإن وجد
وإلا أطلقه وأنظره إلى الميسرة " (2) ولولا جواز المطالبة بالحق عند الشك
في الاعسار لم يكن للحبس وجه قبل التبين (لا يقال): مقتضى المفهوم

(1) إشارة إلى آية (280) من سورة البقرة: " وإن كان ذو عسرة
فنظرة إلى ميسرة ".
(2) راجع بهذا المضمون في الوسائل آخر: كتاب الحجر
باب 7 حديث (1).
382

من جعل الميسرة غاية هو كون اليسار شرطا لجواز المطالبة فيتوقف ثبوته
على تحققه والأصل عدمه (لأنا نقول): جعل اليسر غاية إنما هو لبيان
انتهاء زمان الانظار بانتفاء شرطه، وهو الاعسار، لا لكونه شرطا في
تركه المرادف للمطالبة، فهو كدخول الليل المجعول: غاية للصوم الواجب
في النهار المنتفي هو بانتفاء زمانه المنكشف بدخول الليل. وكذا الحكم
المعلق على السكون مثلا المنتفي بالحركة، فإنه لانتفاء شرطه وهو
السكون لا لخصوصية في الحركة من حيث هي حركة أوجبت انتفاء
الحكم أو ثبوت ضده. فاتضح الجواب عما توهم من دوران الأمر، بين كون
الاعسار، شرطا للأنظار كما يستفاد من منطوق الآية أو كون اليسار
شرطا للمطالبة كما يستفاد من مفهومها الثابتة حجيته.
وهذا أقصى ما يمكن أن يستدل به على عدم قبول قوله إلا بالبينة
كما عن بعض إلا أن الأقوى ما عليه المشهور من قبول قوله بيمينه
لكونه منكرا لوجود ما يتمكن منه من الوفاء، وإن كان الاعسار المفسر
بالضيق والشدة أمرا وجوديا بعد أن كان مناط صدقه إنما هو بفصله العدمي.
توضيح ذلك: إن العسر واليسر المفسرين بالضيق والسعة، وإن كانا
أمرين وجوديين، إلا أنهما يدوران مدار فقد المال ووجوده، وامتياز العسر
عن ضده إنما هو بفصله العدمي من فقد المال أصلا أو فقد مقدار ما به
يتحقق اليسر، ضرورة أن من عنده مال لا يزيد على مؤنته الشرعية وضرورة
معيشته هو معسر شرعا، ومناط صدقه عليه إنما هو فقدان ما زاد عليه
لا وجدان ما نقص عنه، لاشتراكهما في وجدان ذلك القدر، وإنما الامتياز
بفقد ما زاد عليه ووجدانه، فالاعسار، وإن كان وجوديا، إلا أن امتيازه
عن ضده بفصله العدمي المأخوذ في صدقه، ولم يكن ملحوظا في صدق
الميسرة إلا كونه واجدا للقدر الموجب لصدقه من غير ملاحظة أمر عدمي
383

في صدقه وحقيقته، فيكون الاعسار حينئذ هو الموافق للأصل الموجب
لصدق المنكر على من يكون قوله موافقا له، فيتوجه عليه اليمين، وأما
الأخبار فمع معارضتها بغيرها وكونها حكاية فعل لا عموم فيه محمولة
على كون الدعوى مالية وكانت مسبوقة باليسار.
وأما الثانية أي تخصيص الجملة الثانية المتكفلة لبيان وظيفة المنكر:
من كونه منكرا لا يمين عليه أو يمين لا على المنكر، بل على المدعي.
فالأول منها: هو كل منكر لا غرامة عليه لو أقر بما أنكره فإنه
لا يمين عليه لأن المنكر إنما كان عليه اليمين ليدفع بها غرامة المدعي عن
نفسه فحيث لا غرامة فلا يمين. وهو واضح، مثاله: ما إذا كان عبد في
يد انسان فادعى على مولاه أنه أعتقه. وادعى آخر على مولاه أنه باعه
منه: فإن كذبهما المولى ولم تكن لهما بينة حلف لهما لأنه منكر لدعواهما
وإن صدق أحدهما ثم كذب الآخر لم يحلف لمن كذبه لأنه لا غرامة مع
إقراره فلا يمين مع انكاره، ضرورة أنه لو صدق المشتري أولا
ثم أقر للعبد لم ينفذ إقراره لكونه إقرارا في ملك الغير ولا غرامة على تفويت
الحرية لأنها غير مضمونة، فحيث لا غرامة باقراره لا يمين مع انكاره.
وهذه قاعدة مسلمة نبه عليها الشيخ في (المبسوط)، وكذا لو صدق
العبد أولا لم يحلف للمشتري لانفساخ العقد بحرية العبد المسببة على
إقراره له أولا، فيكون من تلف المبيع قبل قبضه الموجب للانفساخ قهرا
وإتلاف البايع كالتلف السماوي في سببيته للانفساخ كما أسلفناه في محله،
فتكون هذه القاعدة في مجاريها مخصصة لعموم اليمين على من أنكر.
والثاني: يمين الاستظهار التي هي على المدعي إذا كانت الدعوى على
الميت، فإنها لا تثبت له إلا بالبينة واليمين معها، كما دلت عليه النصوص
المستفيضة، والحق أن يمينه يمين المنكر، إذ لو كان حيا يدعى الوفاء
384

لكان المدعي حينئذ منكرا عليه اليمين، وحيث كان محتملا في حقه نزل
الشارع الميت الصامت منزلة الحي المدعي للوفاء مراعيا فيه الاحتياط،
كما هو صريح التعليل في الخبر المروي عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله،
وفيه: " وإن كان المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي
اليمين بالله الذي لا إله إلا هو: لقد مات فلان وإن حقي عليه، فإن
حلف وإلا فلا حق له لأنا لا ندري لعله قد وفاء ببينة لا نعلم موضعها؟
أو بغير بينة قبل الموت، فمن ثم صار اليمين مع البينة " (1) وعليه فلم
يكن المورد خارجا عن قاعدة الوظيفة.
(تكملة): هل اليمين اعتبرت في حق المنكر إرفاقا به عن كلفة إقامة
البينة أو هي معينة عليه مختصة حجته بها كما يقتضيه ظاهر النبوي
المتقدم (2) ولو بمعونة التفصيل القاطع للشركة، وصريح خبر منصور
ابن حازم عن الصادق عليه السلام: " قلت له رجل في يده شاة فجاء
رجل وادعاها وأقام البينة العدول أنها ولدت عنده لم يبع ولم يهب؟ وجاء
الذي في يده البينة مثلهم عدول أنها ولدت عنده لم يبع ولم يهب؟ قال
أبو عبد الله عليه السلام: حقها للمدعي ولا أقبل من الذي هي في يده
بينة لأن الله عز وجل أمر أن تطلب البينة من المدعي، فإن كانت له
بينة وإلا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر الله عز وجل " (3).

(1) الوسائل: كتاب القضاء، باب 4 من أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى. والرواية عن الشيخ أي الإمام موسى بن جعفر (ع) وهي طويلة
حذف في المتن من أولها ومن آخرها.
(2) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وآله: البينة على من ادعى، واليمين على
من ادعى عليه، أو من أنكر.
(3) الوسائل، كتاب القضاء، باب 12 من أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى، حديث (14).
385

الأقوى هو الأول، لعموم ما دل على حجية البينة، وخصوص.
ما ورد مستفيضا في ترجيح إحدى البينتين المتعارضتين بأحد وجوه المرجحات
الآتية في صورة ما لو كانت العين في يد أحدهما، ضرورة أن الترجيح
فرع حجية كل واحدة منهما، إذ لا تعارض بين الحجة وغير الحجة،
مضافا إلى ما ورد في (حديث فدك): من انكار علي أمير المؤمنين (ع)
على الأول، حيث ابتدأ بطلب البينة من ذي اليد، وكان حق الطلب
أن يبتدئ بسؤالها من المدعي وهو المسلمون (1) ولو كانت البينة من ذي
اليد غير مقبولة ولا مسموعة، لكان الانكار عليه بعدم القبول وعدم
الحجية أولى من الانكار بابتداء الطلب منه، وهو واضح، بل الظاهر
كون ذلك من المسلمات عندهم، حيث اختلفوا في تقديم بينة الخارج على
على بينة الداخل أو بالعكس مطلقا، أو على التفاصيل الآتية: من الاطلاق
والتقييد، وذكر السبب وعدمه، وما يمكن فيه التكرر وما لا يمكن،
المعلوم ابتناء ذلك كله على حجية بينة المنكر من دون نكير عليهم، وليس
ذلك إلا لكون بينة المنكر معتبرة أيضا، فيكون مخيرا بين اليمين وإقامة
البينة إن أراد دفع كلفة اليمين عن نفسه، بل عن بعض: جواز إقامة
البينة عند الحاكم تسجيلا لثبوت حقه خوفا من تعذر إقامتها لو ظهر مدع عليه.
(لا يقال): إن مرتبة المنكر لإقامة حجته متأخرة عن مرتبة المدعي لإقامة
حجته، بل مشروطة بعدم الحجة للمدعي، ولذا لا يمين على المنكر بعد
إقامة المدعي بينته، فكيف يكون المنكر مخيرا في حجته بين البينة واليمين؟
(لأنا نقول) مع أنه اجتهاد في مقابل النص الوارد في تعارض البينتين
مع كون العين في يد أحدهما، يدفعه أن المنكر حيث لا بينة للمدعي مخير

(1) تقدمت الإشارة إلى هذه المحاججة في رسالة: (قاعدة اليد).
386

بين إقامة البينة أو اليمين. ومعها وإن كان لا يطالب باليمين لأن الاحلاف
حق المدعي يضطر إليه عند الحاجة ومع البينة لا حاجة له إليه، لا أنه
يطالب بدفع حجة المدعي أما بابطالها كالجرح أو بالمعارضة بمثلها كالبينة،
فالمنكر مع عدم البينة للمدعي مخير بين اليمين وإقامة البينة، ومع بينة
المدعي مخير بين إبطالها أو المعارضة بمثلها، غير أنه على الثاني يمكن أن
تكون فائدة بينته دفع بينة المدعي، فيكون المورد بعد الاسقاط كما لو لم
تكن بينة للمدعي، ويمكن ترجيحها باليد على بينة المدعي بناء على تقديم
بينة الداخل على الخارج.
فاتضح بما ذكرنا أن اليمين حيث تتوجه على المنكر إنما هي من
باب الارفاق لا حصر الحجة بها، والله العالم.
وأما النبوي، فمع كونه محمولا على الغالب، يحتمل أن يكون
ناظرا إلى ما هو للمدعي وعليه من الميزان لقطع الخصومة التي هي من حقوقه
ولذا لو تركها لترك من البينة عليه واليمين له على المدعى عليه. ولذا كان
الاحلاف متوقفا على طلبه لأنه من حقوقه وإن توقف استيفاؤه على الحاكم
وكان له الاكتفاء باليمين مع تمكنه من البينة فمساق الحديث: البينة
على المدعي وله اليمين على من أنكر، وليس ناظرا إلى حصر إثبات حق
المنكر باليمين.
وأما خبر منصور بن حازم، فمع كونه مرميا بالضعف، غير مكافئ
لما دل على الترجيح في صورة التعارض بالمرجحات الآتية المستلزم لقبول
بينة المنكر لو انفردت بنفسها، فيختص لو بني على العمل به بمورده
من إلغاء بينة المنكر مع قيام بينة المدعي لا مطلقا، وإن كان التعليل فيه
يقتضي العموم.
387

(المقام الثالث)
في التداعي وبيان جملة من أحكامه، فنقول: لو تداعيا في ملكية
عين: فلا يخلو: إما أن تكون العين بيديهما أو بيد أحدهما أو بيد ثالث
غيرهما أو لا يد لأحد عليها. وعلى التقادير: فإما أن لا تكون لهما
بينة أو كانت ولكن لأحدهما دون صاحبه أو لهما معا، فهنا صور، أصولها
أربعة، وأقسام كل أصل منها ثلاثة:
الصورة الأولى ما لو كانت العين بيدهما، وهي على أقسام:
(القسم الأول): إذا لم تكن لهما بينة فالحكم فيه بعد التحالف التنصيف
لكون كل منهما مدعيا من جهة ومدعى عليه من جهة أخرى لأنه منكر
لما يدعي عليه صاحبه من اختصاص الملكية بنفسه، فعليه اليمين من غير
فرق بين القول بأن يد كل منهما على النصف فلا يد له على النصف الآخر
أو القول بأن يد كل منهما على الكل لا بنحو الاستقلال وأنه من تزاحم
البدين في توجه اليمين على كل منهما والقضاء بالنصف عليهما. وهو على
الأول واضح لتغاير موضوع ما به يكون مدعيا لموضوع. ما به يكون منكرا
فإنه في الأول هو النصف الذي في يد صاحبه، وفي الثاني هو النصف
الآخر الذي في يده، وتغاير الموضوع شرط في صدق العنوانين على واحد
وعلى الثاني: فقد يتوهم الاشكال في صدقهما على كل منهما مع كون العين
في يدهما، فإن موضوع ما يدعى ملكية جميعه وهو العين عين ما يدعيه
الآخر، فكيف يكون مدعى عليه فيما يكون فيه مدعيا، إذ ليس هو إلا
ملكية الجميع يدعيها كل منهما. إلا أنه مدفوع بكفاية التغاير بالاعتبار
في صدق العنوانين عليه، إذ العين التي في يديهما مربوطة بهما بمقتضى
اليد عليها، فكل منهما بدعواه الاختصاص به يدعى على صاحبه خلاف
388

ما تقتضيه يده من الربط به، فكل من حيث الربط الحاصل له به باليد
مدعى عليه، وبالنسبة إلى الربط الحاصل للآخر بها مدع، ضرورة أن
مقصود كل منهما في دعواه انتزاع العين من يد الآخر ليستقل بها.
وبعبارة أخرى: اليد يدان: يد مستقلة، ويد مزاحمة بمثلها، ومفاد
كل منهما غير مفاد الأخرى، لأن مفاد الأولى هو الملكية المستقلة بمعنى
استقلال مالكها بها، ومفاد الثانية هو الملكية غير المستقلة، فمفاد كل
من اليدين هو الملكية في الجملة الثابتة لكل منهما باليد، فدعوى
الاختصاص من كل منهما من حيث تعلقها بما يرجع إلى مالك الآخر،
ولو في الجملة سبب لكونه كان مدعيا على الآخر، والآخر مدعى عليه
وهذا القدر من التغاير كاف في صدق العنوانين على كل منهما.
وإن أبيت عن ذلك، فلنقرر المطلب بتقرير آخر، وهو أن اليد
وغيرها من الأمارات المعتبرة شرعا في الأحكام كخبر الواحد والاجماع
المنقول مثلا، أو في الموضوعات كالبينة واليد ونحوهما هي أمارات على
مؤدياتها مفيدة لها دالة عليها عرفا، غير أنها لما كانت ظنية غير علمية
احتيج إلى امضاء الشارع للعمل بدلالتها، فالمجعول منه هو اعتبار الدلالة
لا كونها دالة، وحينئذ فاليد إن كانت مستقلة كانت دالة على الملكية المستقلة
وإن كانت مزاحمة بمثلها كانت دالة على النصف كذلك عرفا، والشارع
جعل كلا من اليدين معتبرة في مدلولهما العرفي من الكل مستقلا في الأول
وبالنصف في الثاني. وإن قلنا فيه بكون اليد على الكل أيضا بعد أن كان
مفادها النصف عرفا، فكل منهما مدعى عليه لمفاد يده. هذا ومرجعه في
الحقيقة إلى ما ذكرناه أولا، ضرورة أن النصف المشاع مستقلا عين الكل
لا بنحو الاستقلال، فالملكية المتعلقة بالكل لا بنحو الاستقلال: إن تم
نقصانها في الفرض من حيثية الاستقلالية تولد منه كسر من الكسور التسعة
389

وهو النصف مثلا، فلا نقض في الفرض بالنسبة إلى الملكية وإنما النقض
بالنسبة إلى الاستقلال وعدمه.
وبما ذكرنا يظهر لك مواقع التأمل في كلام شيخنا في (الجواهر)
حيث قال: " وقد يناقش بعدم اندراجهما في القاعدة المزبورة إذ الفرض
أن يد كل منهما على العين لا نصفها، ضرورة عدم تعقل كونها على
النصف المشاع إلا بكونها على العين أجمع في كل منهما وحينئذ فلا مدع
ولا مدعى عليه منهما، ضرورة تساويهما في ذلك، إلا أن الشارع قد
جعل القضاء في ذلك بأن العين بينهما، كما سمعته من النبوي المرسل
فالنصف هو القضاء بينهما في الدعوى المزبورة التي كان مقتضى يد كل
منهما الكل، ومنه يظهر لك عدم كون كل منهما مدعيا لنصف الآخر
ومدعى عليه في نصفه كي يتوجه التحالف، بل المتوجه إلغاء حكم يد كل
منهما بالنسبة إلى تحقق كونه مدعى عليه، ويكون كما لو تداعيا عينا
لا يد لأحد عليها ولا بينة لكل منهما، فإن القضاء حينئذ بالحكم بكونها
بينهما لكون الدعوى كاليد في السبب المزبور المحمول على التنصيف بعد
تعذر إعماله في الجميع للمعارض الذي هو استحالة اجتماع السببين على
مسبب واحد، إذ لا وجه لاستحقاق كل منهما اليمين على الآخر، ضرورة
عدم كونه مدعى عليه بعدم يد له على العين يراد رفعهما عنه، فقول كل
منهما: هي (لي) دعوى بلا مدعى عليه فلا يمين فيها فتأمل جيدا،
فإنه دقيق نافع. أو يقال في الفرض باعتبار ثبوت اليد لكل منهما على العين
مدعى عليه، لو كان مدع خارج عنهما، وإلا فلا يتصور كونه منهما
بعد أن كان مع كل منهما عنوان المدعى عليه لمعلومية التباين بين المدعي
والمدعى عليه، ومن هنا كان التحالف إذا كان كل منهما مدعيا منكرا بمعنى
أنه مدع لشئ ومنكر لآخر كما هو ظاهر في النظر إلى أفراد ذلك. لا في
390

مثل المقام الذي دعوى كل منهما الكل، والفرض إن اليد لكل منهما
فلا يكون مدع فيما هو مدعى عليه فيه.
اللهم إلا أن يقال: إن اليمين هنا لترجيح أحد السببين كالترجيح
بها لإحدى البينتين وإن ترتب عليه كون العين للحالف منهما " (1) انتهى
وإنما ذكرنا كلامه بطوله لتقف على مواقع التأمل فيه وبذلك يظهر
الوجه في إحلاف كل منهما للآخر إن أريد القضاء بالنصف عليهما قطعا
للخصومة الواقعة بينهما، لأن كلا منهما مدعى عليه ويمينه يمين المنكر،
خلافا للمحكي عن (الخلاف) والغنية والكافي والاصباح وظاهر الشرائع
في الحكم بالتنصيف من دون يمين، بل عن الأولين: دعوى الاجماع عليه
مؤيدا بظاهر النبوي المرسل: " إن رجلين تنازعا في دابة ليس لأحدهما
بينة فجعلها النبي صلى الله عليه وآله بينهما " إلا أنهما (2) موهونان بالارسال، ومصير
المعظم إلى الخلاف من لزوم التحالف، مع كون المرسل، واجماع الغنية
ليس فيهما إلا عدم التعرض لليمين، وهو أعم من عدمها فلا موجب
لتخصيص ما دل على حصر القضاء بالميزان من البينة أو اليمين، ثم إن
حلفا أو نكلا مع الرد أو بدونه قضي بينهما وإلا فهو للحالف منهما.
هذا وقد يتوهم النقض بعدم اليمين في نظير المقام من التداعي في
مسائل تعرضوا لها في الصلح:
منها: مسألة ما لو أودعه انسان درهمين وآخر درهما وامتزج الجميع

(1) راجع ذلك في: كتاب القضاء النظر الرابع في أحكام الدعاوي
المقصد الأول في دعوى الاملاك، في شرح قول المحقق (مسائل: الأولى
لو تنازعا عينا في يدهما ولا بينة).
(2) أي النبوي ودعوى الاجماع: فالأول موهون بالارسال، والثاني
بعدم تحققه.
391

ثم تلف درهم كان لصاحب الدرهمين درهم ونصف، وللآخر نصف درهم
لخبر السكوني عن الصادق (ع)، المنجبر بالعمل، وفيه: " عن رجل
استودعه رجل دينارين واستودعه آخر، دينارا فضاع دينار منهما؟ فقال:
يعطى صاحب الدينارين دينارا ويقتسمان الدينار الباقي بينهما نصفين " (1).
ومنها: ما لو كان لواحد ثوب بعشرين درهما وللآخر ثوب بثلاثين
درهما، ثم اشتبها، فإن خير أحدها صاحبه فقد أنصفه، وإن تعاسرا بيعا
وقسم ثمنهما بينهما أخماسا: أعطي خمسان لصاحب العشرين وثلاثة أخماس
لصاحب الثلاثين، لخبر إسحاق بن عمار عن الصادق (ع): " في الرجل
يبضعه الرجل ثلاثين درهما في ثوب، وآخر عشرين درهما في ثوب فبعث
الثوبين فلم يعرف هذا ثوبه ولا هذا ثوبه؟ قال: يباع الثوبان، فيعطى
صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن والآخر خمسا الثمن. قلت: فإن
صاحب العشرين قال لصاحب الثلاثين: إختر أيهما شئت؟ قال: قد
أنصفه " (2).
ومنها: ما لو كان معهما درهمان فادعاهما أحدهما، وقال الآخر: هما
بيني وبينك، كان لمدعيهما درهم ونصف، وللآخر نصف درهم، لمصححة
عبد الله بن المغيرة: " عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله (ع)
في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر:
هما بيني وبينك؟ قال فقال أبو عبد الله (ع). أما الذي قال هما بيني
وبينك، فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له فيه شئ وأنه لصاحبه،
ويقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين " (3).

(1) الوسائل، كتاب الصلح، باب 12 حديث (1).
(2) المصدر الآنف الذكر، باب 11 حديث (1).
(3) المصدر الآنف الذكر باب 9، حديث (1).
392

ومثله مرسل محمد بن أبي حمزة (1) ولا يمين في هذه النصوص المنجبرة
بالعمل الحاكمة بالقسمة المتقدمة. وإن استقرب التحالف في الأخير في محكي
(التذكرة) حيث قال: " الأقرب أنه لا بد من اليمين فيحلف كل
واحد منهما على استحقاق نصف الآخر الذي تصادمت دعواهما فيه فمن
نكل منهما قضى به للآخر ولو نكلا معا أو حلفا معا قسم بينهما نصفين " (2)
واستحسنه في محكي (المسالك).
إلا أنه مدفوع: (أولا) بوضوح الفرق بين تلك الفروع ولا سيما
الأولين منها، وبين محل البحث المأخوذ فيه كون الدعوى من كل منهما
بنحو البت ودوران الاحتمال في المدعى به بين كونه لهما بالإشاعة أو لكل
منهما بالاستقلال المنتفيين في المسألة الأول والثانية قطعا، لعدم الجزم بما
يدعيه كل منهما بسبب الاشتباه وعدم احتمال الإشاعة في المشتبه منها
لمعلومية كونه: إما له أو لصاحبه (وثانيا) بامكان دعوى خروجهما
عن عنوان التداعي بحصول الشركة الحكمية بالاشتباه الملحق بالمزج الحقيقي
والعرفي في سببيته لها بناء على القول به، لوجود المناط الموجب لها من
عدم التمييز فأدت الضرورة إلى الحكم فيه أيضا بالشركة الحكمية دون
الحقيقية التي هي بمعنى الإشاعة في الكل لبقاء كل من المالين على ملك
مالكه على الأقوى، وكانت الشركة بينهما على نسبة المال، ولذا لو ابتاع
بمجموع الدراهم الثلاثة سلعة كانت الشركة فيها أثلاثا، لكن بالإشاعة
لكونه معوضا عن مجموع الثمن الذي له فيه الثلث، بخلاف ما لو اشتراها
بواحدة منهما فإن الشركة فيها على حد الشركة في ثمنها من الحكمية لقيام

(1) في المصدر الآنف، آخر الحديث إشارة إلى المرسلة المذكورة.
(2) آخر كتاب الصلح بعنوان: مسألة: لو كان في يد شخصين
درهمان، فادعاهما أحدهما وادعى الآخر واحدا منهما..
393

المثمن مقام الثمن في دوران الاشتباه بين كونه: إما له أو لصاحبه.
(لا يقال) إن مقتضى الشركة في مسألة الوديعة هو الحكم بالتثليث في
القسمة بينهما دون التنصيف الذي حكم به الخبر لوارد فيها بتنصيف الدرهم
بينهما فيعطى لصاحب الدرهمين درهم ونصف وللآخر نصف درهم فيرجع
إلى التربيع في الانصاف الأربعة من الدرهمين الموجودين دون التثليث فيهما
الموجب لتخريج الخبر مخرج الصلح القهري تعبدا (لأنا نقول) مقتضى
الشركة الحكمية التي هي لا بنحو الإشاعة في قسمتها بعد تلف البعض: هو
ما حكم به الخبر من تنصيف المردد المشتبه بينهما لو كانت الشركة بين اثنين
فتكون الرواية جارية على القاعدة في قسمة أمثالها، لا على خلافها تعبدا.
ضرورة أن القسمة إنما ترد على المشتبه المردد بينهما، دون ما هو
معلوم لواحد منهما بعد أن كان معنى التقسيم هو إعطاء كل ذي حق
حقه من المال فيعطى لصاحب الأكثر ما هو له على التقديرين، سواء كان
التالف منه أو من الآخر كصاحب الدرهمين المعلوم كون الواحد منهما له
على كل حال. فلا قسمة فيه، وإنما القسمة في الواحد المردد بينهما،
ومقتضى الشركة فيه بين الاثنين تنصيفه بينهما ويكون التلف منهما بقدر
ما لو ضم إلى ماله من الموجود كان طبقا لما كان له قبل التلف فيكون
حكم التالف في التوزيع حكم الموجود في القسمة من التعلق بالقدر المردد
بينهما بحيث لو كان التالف مضمونا، كما لو كان المزج بتعد منه. كانت
القسمة في بدله على نسبة القسمة في الموجود المردد.
توضيح ذلك: إن خلط المالين المتماثلين بحيث يرتفع التمييز بالاشتباه
لا يخلو: أما أن يختلفا في القدر أو يتساويا فيه. وعلى التقديرين: فإما أن
تكون الشركة الحكمية بين اثنين أو أكثر. والحكم في جميع صورها:
هو ما ذكرنا: من قضاء الضرورة إعطاء حكم الشركة في الجميع قبل
394

التلف على نسبة السهام فيه، للاشتباه الدائر في الكل الموجب لتعذر
التعيين ووقوع قسمة الموجود منه بعد التلف على المردد المشتبه بين الشركاء
على نسبة عددهم: من التنصيف بين الاثنين والتثليث بين الثلث وهكذا
دون القدر المعلوم لأحدهم، وتوزيع التالف منه عليهم كذلك بالنسبة
بحيث لو ضم إلى ما أعطى له كان طبقا لما كان له قبل التلف.
ولنزد توضيح ذلك بالمثال: كما لو كان لواحد درهم ولآخر تسعة
دراهم، فاختلطا وتلف واحد منها أعطي ثمانية منها لصاحب التسعة باليقين
ونصف من الواحد الموجود المردد بالشركة، والنصف الآخر لصاحب الدرهم
والتالف بالتوزيع بينهما كذلك، فلو كان التالف في المثال درهمين كان
لصاحب التسعة سبعة دراهم باليقين، وعليه من التالف واحد كذلك وله نصف
من الواحد المردد بالشركة، فلو ضم إلى ماله من الموجود ما تلف منه باليقين
وبالتوزيع كان طبقا لما كان له قبل التلف، وكذا بالنسبة إلى صاحب الدرهم
لو ضم ما تلف منه من النصف بالترديد إلى ما أعطى له من الموجود كذلك كان
طبقا لما كان له من الدرهم قبل التلف وكذا لو كان لأحدهما ثمانية دراهم
وللآخر درهمان وتلف منها أربعة دراهم، كان لصاحب الثمانية أربعة
من الموجود باليقين وواحد منه بالقسمة للترديد ومن التالف اثنان باليقين
وواحد بالتوزيع للترديد، وكان لصاحب الدرهمين درهم من الموجود بالقسمة
للترديد، ومن التالف واحد كذلك، فلو ضم التالف من كل منهما إلى
ماله من الموجود كان طبقا لما كان له قبل التلف. ولو تساويا في قدر المال
فيقسم الموجود بينهما بالسوية، ويوزع التالف عليهما كذلك. ولو كان
الشركاء أكثر من اثنين فبالنسبة إلى عددهم في قسمة الموجود بينهم وتوزيع
التالف عليهم بالتثليث أو التربيع أو التخميس، وهكذا. والقسمة في
الثوبين المشتبهين تقع في ماليتهما على نسبة ملك الثمنين فتحصص أخماسا
395

ويعطي لصاحب العشرين خمسان، ولصاحب الثلاثين ثلاثة أخماس بموجب
الشركة الحكمية في نفس الثوبين، غير أن القسمة لما كانت متعذرة في
عينيهما كانت في ثمنيهما. وبما ذكرنا اتضح لك عدم منافاة القسمة في
فرض الدرهم المردد بينهما للعلم الاجمالي في كونه لأحدهما حتى يقال
بكونه من الصلح القهري تعبدا.
وأما النقض بالمسألة الثالثة، فقد يدفع بأن النص، وإن كان السؤال
فيه ظاهرا في كون نسبتهما إليه بنحو الإشاعة. إلا أنه يجب صرفه عن
ظاهره بإرادة اختصاص التداعي في واحد منهما بقرينة جواب الإمام،
الظاهر في إرادة الواحد بالعدد الموجب لكون الواحد المتنازع فيه مرددا بين
كونه: إما له أو لصاحبه، وحينئذ فيخرج عن محل البحث المفروض
فيه قيام احتمال كون ما في يديهما لهما بنحو الإشاعة أيضا، فلا يصلح
النقض به. مع أن العلم الاجمالي حينئذ باختصاص ما اختص للتداعي به
بأحدهما يوجب سقوط اليد من الجانبين لسقوط إحداهما بالعلم الاجمالي بأنها
ليست مالكية، والأخرى بسقوط ظهورها في تعيين صاحبها بالنسبة إلى الآخر
فيكون حكمها حكم ما لو تداعيا عينا لا يد لأحد عليها: من القضاء فيه
بالحلف بعد القرعة كما ستعرف فالحكم فيه بالتنصيف من دون يمين
مع أنه لم يصلح نقضا مخالفا للقاعدة أيضا.
اللهم إلا أن يمنع وجوب صرف السؤال عن ظاهره بتقريب أن
يقال: إن قوله في السؤال: (هما بيني وبينك) إما مجمل من حيث
إرادة كون النسبة إليهما بنحو الإشاعة فيهما أو إرادة الواحد منهما، وأما
الأعم منهما الشامل لهما، وقوله في الجواب (فقد أقر بأن أحد الدرهمين
ليس له فيه شئ) وإن كان ظاهرا في إرادة الواحد بالعدد دون الملفق
من النصفين المساوي للواحد المعبر عنه به أيضا، إلا أن ذلك لم يمكن مما
396

أقر به بقوله (هما بيني وبينك) لظهوره في الوحدة التلفيقية أو اجماله
بينها وبين الوحدة العددية، فلا تكون خصوص العددية مقرا بها، فيصرف
ظهور الجواب إلى ما يرجع إلى ظاهر السؤال: من كونه بينهما بالإشاعة
وحينئذ فيكون داخلا في محل البحث من احتمال كون العين لهما بنحو الإشاعة
فيصلح النقض به للحكم في محل البحث لعدم ذكر اليمين فيه.
توضيح ذلك: أن الواحد إذا لوحظ بلحاظ الكسور كان مرادفا لما
يساويه منها، ضرورة أن الواحد ينطبق على النصفين وثلاثة أثلاث وأربعة
أرباع، وهكذا إلى عشرة أعشار، كما أن عشرين عشرا ينطبق على الاثنين
وكذا عشرة أخماس وثمانية أرباع وستة أثلاث وأربعة أنصاف ينطبق عليه
أيضا، فيقوم كل من اللفظين مقام الآخر في التعبير، فيقال: واحد
ونصفان وثلاثة أثلاث وأربعة أرباع، وإنما التغاير بالاعتبار.
إذا عرفت ذلك، فنقول: قوله في السؤال (هما بيني وبينك)
من غير تقييد بالتفاضل الظاهر في التساوي ينحل بعبارة أخرى إلى قوله
(نصفهما لي ونصفهما لك) وله مصداقان: أحدهما الواحد بالعدد، والآخر
بالتلفيق من نصفين، وهو: إما مجمل بينهما أو ظاهر في الوحدة التلفيقية
فكيف يكن ما أقر به هو الوحدة العددية فيصرف بقرينة الاقرار إلى إرادة
الوحدة من حيث النتيجة المنطبقة على كل منهما. مضافا إلى لزوم مخالفة
الرواية للقاعدة إن اختص التداعي فيها بالواحد بالعدد، لما عرفت من
سقوط اليدين وارجاع حكمه إلى ما لو لم تكن يد عليها من القرعة والحلف
بعدها كما ستعرف فلا مناص عن الحمل على اختصاص التداعي بواحد
منهما، الصادق معه أيضا باعتبار المجموع قوله: هما بيني وبينك، مع
احتمال الإشاعة أيضا بتثليث الاحتمالات فيه بكونه: إما له أو لصاحبه أو
لهما معا مع كونه في يديهما، فيكون من محل البحث.
397

إلا أن النقض به ليس إلا من جهة عدم ذكر اليمين فيه مع الحكم
بالتنصيف، وهو لا ظهور له في العدم بحيث يخصص ما دل على القضاء
باليمين، ولعل الترك للايكال إلى ما يقتضيه القضاء من حصره
بالبينة واليمين.
(القسم الثاني): لو كانت لأحدهما بينة دون الآخر، قضي بها
لصاحب البينة، لعموم ما دل على حجيتها، ولا يمين عليه بناء على أن
يمين المنكر للارفاق لا للوظيفة. ولو قلنا بالثاني وأنه يختص حجته بها
لزم ضم اليمين إليها بناء على ما عليه المشهور: من أن اليد المشتركة إنما
هي على النصف، فالقضاء بالجميع له يتوقف على أعمال الوظيفتين.
اللهم إلا أن يدعى كون الترجيح بالداخل أو الخارج إنما هو لضرورة
التعارض المفقود من وحدة البينة الموجبة للعمل بمؤداها. ولعله الوجه
في اطلاق من أطلق القضاء بجميعها لذي البينة من دون تقييد باليمين معها
مع تصريح أكثرهم في صورة التعارض بترجيح بينة الخارج.
(القسم الثالث): لو كانت لكل واحد منهما بينة على ما يدعيه
قضي بها لهما بالسوية مطلقا أو بعد التحالف من دون ملاحظة الترجيح هنا
كما عن المشهور، ولعله عندهم لاختلاف محلهما وموضع اعتبارهما فلا ينفك
عن الترجيح: إما بتقديم بينة الخارج أو الداخل، فبينة كل منهما إنما
تثبت ما تحت يد الآخر على الأول أو ما تحت يده على الثاني، فالمثبت
بإحداهما غير المثبت بالأخرى، ومعه لا يرجع إلى المرجحات الخارجية من
الأعدلية والأكثرية. وهو حسن بناء على أن يد كل منهما على النصف
ويشكل بناء على ما هو الأقوى: من كون يد كل منهما على الكل لتساويهما
في الدخول، فلا ترجيح من حيث الداخلية أو الخارجية.
وبالجملة: لا كلام في الحكم بالتنصيف، وإنما الكلام في وجه
398

ذلك مع اقتضاء بينة كل واحد منهما اختصاص العين به، فبين قائل
بتساقط البينتين ورجوع الفرض بعده إلى الصورة الأولى، إلا أنه لا ينبغي
حينئذ اختصاص ذلك بصورة التساوي، ومع الترجيح بإحدى المرجحات
الآتية في الصور الباقية ينبغي العمل بالراجح، لأن التساقط فرع التكافؤ
والتساوي بينهما، وبين قائل بترجيح بينة الخارج بالوظيفة لأن يد كل منهما
على النصف فيقضى لكل منهما بما في يد غريمه، وقائل بترجيح بينة
الداخل باليد فيقضى له بما في يده الموجب للتنصيف على التقديرين وإن
اختلفا في الاعتبار.
وتظهر الثمرة بينهما وبين الوجه الأول في كون التنصيف إنما هو
بعد التحالف على الأول، وبدونه على الأخيرين، لأن المأخوذ فيهما إنما
هو مأخوذ بالبينة التي لا معنى لليمين معها.
فمن الغريب ما ذهب إليه في (التحرير): من لزوم التحالف مع
بنائه على ترجيح بينة الخارج حيث قال هنا بعد الحكم بالتنصيف والقضاء
لكل منهما بما في يد غريمه تقديما لبينة الخارج ما لفظه: " وهل يحلف
كل واحد على النصف المحكوم به أو يكون له من غير يمين؟ الأقوى
عندي الأول مع احتمال الثاني " وكذا في (التنقيح) حيث فرع على الحكم
بالتنصيف: أما لتقديم بينة الخارج أو الداخل بقوله: " فيكون بينهما
نصفين على التقديرين سواء أقاما بينة أو لم يقيما بينة ويكون لكل منهما
اليمين على صاحبه فإن حلفا أو نكلا فالحكم كما تقدم، وإن حلف أحدهما
ونكل الآخر قضى بها للحالف " انتهى.
ولم أر وجها لذلك إلا التشبث بخبر إسحاق بن عمار: " عن أبي عبد الله
عليه السلام، أن رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (ع) في دابة في أيديهما
وأقام كل واحد منهما البينة: أنها نتجت عنده، فأحلفهما علي (ع) فحلف
399

أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له، فلو لم
تكن في يد واحد منهما وأقاما به البينة؟ فقال: أحلفهما فأيهما حلف ونكل
الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين " (1) الخبر
وهو كما يحتمل ذلك تعبدا كذلك يحتمل ابتناءه على التساقط الموجب للتحالف
كما عرفت.
(الصورة الثانية): ما إذا كانت العين بيد أحدهما وادعاها كل
منهما، وهي بهذا القيد تندرج في عنوان التداعي، وإلا فمجرد انكار
ذي اليد لما يدعى عليه وتكذيبه فيما يدعيه قائلا في جواب قوله (هو لي)
أنه (ليس لك) لا يكون إلا مدعى عليه خارجا عن عنوان التداعي،
بل هو من قسم المدعي والمدعى عليه فقط ولعل من لم يعتبر بينة
المنكر يريد من كان منكرا بهذا المعنى لأنها إن شهدت بما يوافق جواب المنكر
كانت غير مسموعة، لأنها نافية، وإن شهدت بأنها له كانت غير مطابقة
لجوابه، وهو إن تم خلاف ظاهر ما عليه الأصحاب في معنى المنكر المنطبق
عليه تعاريفهم: من موافقة قوله الأصل أو الظاهر، ومن لو ترك لم يترك
الصادق على ذي اليد مطلقا، وإن قال في جواب مدعيه: هو لي، كما
يظهر من كلامهم في ترجيح بينة الداخل أو الخارج وغيره.
وكيف كان: فهذه الصورة أيضا تنقسم إلى أقسام ثلاثة، لأنها:
إما أن لا تكون لهما بينة أصلا، أو كانت لأحدهما، أو لهما معا.
أما الأول: فيقضى بها لذي اليد بعد يمينه.

(1) الوسائل: كتاب القضاء، باب 12 من أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى، حديث (2). وتكملة الحديث هكذا: " قيل: فإن
كانت في يد أحدهما وأقاما جميعا البينة قال: أقضى بها للحالف الذي هي
في يده ".
400

وأما الثاني: فيقضى بها لصاحب البينة مطلقا، وإن كان ذا اليد
بلا يمين عليه على الأقوى ومعها إن لم يعتبر بينة المنكر.
وأما الثالث: فيبنى على تقديم بينة الخارج أو الداخل. والأظهر
عندي تقديم بينة الداخل لترجيحها باليد. ويحتمل قويا تقديم بينة
الخارج لو كانت مطلقتين لمرجوحية بينة الداخل باحتمال استنادها إلى اليد
لو قلنا بجواز الشهادة بمفادها، لما تقدم في (قاعدة اليد): من أن مرجع
تحقق الأمر المنتزع بعد مشاهدة منشأ انتزاعه إلى وجود المقتضى وعدم
المانع المحرز بالأصل، ولا يجري الأصل مع بينة الخارج المثبتة لوجود المانع
وكون اليد عرضية، فراجع هناك.
(الصورة الثالثة): ما لو كانت العين بيد ثالث، وادعاها كل منهما
فإن صدقهما أو صدق أحدهما بعينه، كان المصدق بحكم ذي اليد، لقاعدة
(من ملك شيئا ملك الاقرار به) فيجري عليه في الأول حكم الأولى
بأقسامها الثلاثة، وفي الثاني حكم الثانية كذلك. نعم لكل منهما أو لغير
المصدق منهما إحلافه على نفي العلم بما يدعيه. فيحلف لهما في الأول،
ولغير المصدق منهما في الثاني، لكونه مدعى عليه على التقديرين. فيتوجه عليه
اليمين لذلك، وحيثما توجه اليمين على المصدق بالكسر: فإن حلف
وإلا غرم بالنكول أو الحلف بعد الرد، للحيلولة بينه وبين ما يدعيه
بتصديقه، فيغرم لكل واحد منهما بدل النصف لو صدقهما وبدل الكل
لغير المصدق بالفتح إن صدق أحدهما. ولو أقر لواحد منهما لا بعينه
أقرع بينهما، فمن خرج اسمه بالقرعة قضى بها له بيمينه لانكشاف كونه
ذا اليد بها، وليست القرعة للكشف عن المالك حتى يقضى له بمجردها
بعد الكشف بها عنه، كيف ولا يزيد الاقرار على الوجدان لو كان في
يد أحدهما، فإنه كما عرفت يقضى له بيمينه، وغاية الاقرار أن
401

المقر له بحكم ذي اليد. ولو قال في الجواب: ليست لي ولا أعرف لمن
هي، كان كما لو لم تكن في يد أحد لسقوط يده باعترافه وعدم نسبته إلى
يد أصلا، ولو بنحو الاجمال وحكمه حينئذ حكم الصورة الآتية. ولو
كذبهما وإن ادعاها لنفسه توجه اليمين لكل منهما عليه لكونه منكرا بالنسبة
إلى كل منهما إن لم تكن لهما بينة: فإن حلف لهما قضى بها له، وإن
نكلهما أو نكل أحدهما بنى على القضاء بالنكول أو بعد الرد. وإن كانت
بينة وكانت لأحدهما قضي بها لصاحب البينة. وإن كانت لهما وأقاماها
سقطت اليد، وكانت العين كما لا يد عليها لتوافق البينتين في مدلولهما
الالتزامي، وإن تعارضتا في مدلولهما المطابقي، بناء على طريقية البينة. ولو
قلنا بسببيتها للحكم بمؤداها، كان من تعارض السببين الموجب لتساقطهما
من البين، كما لو وقع البيع من كل من الوكيلين في زمان واحد لبطلان
كل منهما بالآخر لاستحالة الترجيح بلا مرجح، فتبقى اليد سليمة عما
يوجب سقوطها. وحيث قلنا بها من باب الأمارة كما هو الأقوى
تعين العمل بالراجح منهما بما هو المنصوص به من المرجحات كالأعدلية
والأكثرية لأن كون الشئ ء مرجحا ككونه حجة يتوقف على الدليل، ومع
فقد المرجح أقرع بينهما، فمن خرج اسمه بالقرة أحلف وقضي بها له
بعد يمينه.
هذا وما ذكرناه: هو مقتضى الجمع بين الأخبار وترجيح طائفة منها
على الأخرى، لأنها بين مصرحة بالتنصيف من غير تقييد بالتحالف،
وبين مصرحة به بعده، وبين ما دل على الترجيح بالأكثرية أو استشعر منه
الترجيح بالأعدلية، وبين ما نص مع التساوي والاعتدال على القرعة
والقضاء لمن خرج اسمه بها من غير تقييد بالحلف، وبين مقيد لها به بعدها.
ولنورد الروايات لتقف على اختلاف مفادها:
402

فمنها: رواية تميم بن طرفة: " إن رجلين ادعيا بعيرا فأقام كل
واحد منهما بينة فجعله أمير المؤمنين عليه السلام بينهما " (1).
ومنها رواية غياث: " عن أبي عبد الله (ع) إن أمير المؤمنين
عليه السلام، اختصم إليه رجلان في دابة كلاهما أقاما البينة أنه أنتجها
فقضى بها للذي هي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما
نصفين " (2).
ومنها رواية إسحاق عن أبي عبد الله عليه السلام ": أن رجلين
اختصما إلى أمير المؤمنين (ع) في دابة في أيديهما وأقام كل منهما البينة
أنها نتجت عنده فأحلفهما علي (ع)، فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف
فقضى بها للحالف، فقيل: فلو لم يكن في يد واحد منهما وأقاما البينة؟
قال: أحلفهما فأيهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف فإن حلفا جميعا
جعلتها بينهما نصفين " (3).
ومنها صحيح داود عن أبي عبد الله (ع): " في شاهدين شهدا
على أمر واحد، وجاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا، واختلفوا؟
قال: يقرع بينهم فأيهم قرع فعليه اليمين، وهو أولى بالقضاء " (4).
ومنها موثقة سماعة عن أبي عبد الله (ع): " إن رجلين اختصما
إلي علي عليه السلام في دابة فزعم كل واحد منهما أنها نتجت على مذوده

(1) الوسائل: كتاب القضاء، باب 12 من أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى، حديث (4).
(2) المصدر الآنف الذكر، حديث (3).
(3) مر آنفا من المصنف ذكره، ومنا تخريجه.
(4) المصدر الآنف الذكر، حديث (6)، والمقصود من داود:
ابن سرحان.
403

وأقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين،
فعلم السهمين كل واحد منهما بعلامة، ثم قال: اللهم رب السماوات السبع
ورب العرش العظيم، عالم الغيب والشهادة الرحمان الرحيم: أيهما كان
صاحب الدابة، وهو أولى بها، فأسألك أن يقرع ويخرج سهمه، فخرج
سهم أحدهما فقضى له بها " (1).
ومنها رواية البصري المصححة في (الفقيه) المضعفة في (الكافي)
عنه أيضا: " قال: كان علي (ع) إذا أتاه رجلان يختصمان، شهود
عدلهم سواء وعددهم سواء، أقرع بينهم على أيهما يصير اليمين؟ قال:
وكأن يقول: اللهم رب السماوات السبع أيهم كان له فأده إليه، ثم
يجعل الحق للذي يصير عليه اليمين إذا حلف " (2).
ومنها صحيح أبي بصير: " سئل الصادق (ع) عن رجل يأتي
القوم، فيدعى دارا في أيديهم ويقيم البينة، ويقيم الذي في يده الدار
البينة أنه ورثها عن أبيه ولا يدري كيف كان أمرها؟ فقال: أكثرهم بينة
يستحلف وتدفع إليه. وذكر إن عليا أتاه قوم يختصمون في بغلة فقامت
البينة لهؤلاء أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا، وأقام هؤلاء
البينة أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا، فقضى بها لأكثرهم
بينة واستحلفهم " (3).
ومنها ما أرسله في (كشف اللثام) عن علي عليه السلام: في

(1) المصدر الآنف الذكر، حديث (12).
(2) المصدر الآنف، حديث (5) والمقصود من البصري:
عبد الرحمان بن عبد الله.
(3) المصدر الآنف الذكر، حديث (1): أنه سأل الصادق (ع)
عن الرجل..
404

البينتين تختلفان في الشئ الواحد يدعيه الرجلان: أنه يقرع بينهما فيه إذا
اعتدلت بينة كل واحد منهما وليس في أيديهما " (1).
وأنت خبير بما تقتضيه الصناعة في الجمع والتنافي بين هذه الأخبار
المختلفة في المفاد، فإنها قاضية بتقديم ما دل على الترجيح بالعدد على ما دل
باطلاقه على التنصيف أو القرعة لأنه أخص منهما فليقيد به، مضافا إلى
الاجماع المحكي على اعتبار التساوي عددا وعدالة في الحكم بالتنصيف. وإلى
النص باشتراط التساوي فيهما في اعمال القرعة. وبتقييد إطلاق كل مما دل على
التنصيف أو القرعة بما دل على التحالف في الأول واحلاف من خرج اسمه
بالقرعة في الثاني جمعا بين ما دل عليهما بالاطلاق وما دل عليه بعد الحلف أو التحالف
(لا يقال): أن الترجيح بالأعدلية غير منصوص عليه في النصوص وإنما
المنصوص اشتراط القرعة بالتساوي في العدالة، وهو غير الترجيح بالأعدلية
مع ذهاب الأكثر إليه، بل المحكي عن بعضهم تقديمها على الترجيح بالأكثرية
(لأنا نقول): ما دل على اعتبار التساوي من جهتها في القرعة دل
بمفهومه على عدمها عند عدمه، وحينئذ فأما: أن يحكم فيه بالتنصيف
والمفروض اشتراطه بالتساوي اجماعا، أو تقديم المرجوح وهو باطل. فتعين
العمل بالراجح. وقد تبين ولو بمعونة النصوص أنها من المرجحات
نعم النسبة بين أخبار التنصيف بعد تقييدها بالتساوي والتحالف، وبين
أخبار القرعة بعد تقييدها به وبالحلف: هو التباين اللازم فيه التماس المرجح
وهو لاخبار القرعة من وجوه.
بقي الكلام في وجه الاحلاف بعد القرعة، فإنها: إن كانت لتعيين
المالك كما هو ظاهر بعض النصوص وجب الدفع إليه بعد تعينه بها من

(1) راجع ذلك في كتاب القضاء، المقصد الرابع في متعلق الدعاوي
المتعارضة، الفصل الأول في دعوى الاملاك.
405

دون حلف، لأنه من دفع المال إلى مالكه، وإن كانت لتعيين البينة الصادقة
منهما المشتبهة بغيرها فلا يمين أيضا، لأن المأخوذ بها مأخوذ بالبينة التي
لا يمين معها، وإن كانت لتعيين من عليه اليمين كما نص عليه في خبر
البصري، فأي وجه لوجوب إحلاف أحدهما حتى يلزم تعيينه بالقرعة.
اللهم إلا أن تكون القرعة لتقديم أحدهما على الآخر بعد الحصر فيهما
تقديما لا ينافي توجه الدعوى عليه من الآخر، فيكون منكرا أو بحكم
المنكر في خصوص توجه اليمين عليه فأشبه ذا اليد في تقديم قوله في الجملة
مع سماع الدعوى عليه والزامه باليمين، وحينئذ فيصرف ظاهر قوله في
بعض النصوص: صاحب الدابة وأولى بها وكونه له، بإرادة ذلك في
مرحلة الظاهر دون الواقع بقرينة النص في قوله عليه السلام في خبر البصري
" على أيهم يصير اليمين " تقديما للنص على الظاهر. وبمثل ذلك يمكن
أن يجاب عن وجه احلاف من قدمت بينته، بأحد المرجحين كما في خبر
أبي بصير المتقدم، بكون الترجيح موجبا لتقديم قوله، تقديما لا ينافي
توجه اليمين عليه كالمنكر، لا موجبا لسقوط بينة الآخر عن الحجية بحيث
يكون وجودها كالعدم.
توضيح ذلك: أن تزاحم البينتين موجب لتساقطهما بحسب القاعدة
الأولية بمعنى كون المزاحمة تمنع الأخرى عن كونها ميزانا للفصل والقضاء
فيجب الفصل حينئذ بميزان اليمين بعد حصر القضاء بها وبالبينة، وحينئذ
إن اشتملت إحدى البينتين على المزية من الأعدلية أو الأكثرية فيحتمل أن
تكون المزية موجبة لتقديم ما اشتمل عليها في كونه ميزانا للفصل أو تكون
موجبة لتقديم قول صاحبها في توجه ميزان اليمين عليه، والقدر المتيقن
منه هو الثاني، إذ ليس هنا ما بدل باطلاقه على الأخذ بذي المزية حتى
يكون ظاهرا في جعله ميزانا، بل المستفاد تقديمه المجمل الدائر بين الاحتمالين
406

اللازم حينئذ العمل فيه بالقدر المتيقن، فتكون المزية فيما اشتمل عليها
كالقرعة عند التساوي في تقديم قوله من حيث توجه اليمين عليه كالمنكر
كما عليه غير واحد من الأصحاب، فيكون الفصل في جميع شقوق المسألة
سواء اشتملت إحداهما على مزية أولا وسواء قلنا بالقرعة بالتساوي
أو التنصيف إنما هو بميزان اليمين لا بالبينة، غير أن القضاء في غير
الأخير بالحلف، وفيه بالتحالف.
(الصورة الرابعة): ما لو تداعيا مع التقارن عرفا عينا لا يد عليها
ففي سقوط الدعوى منهما، أو القضاء بالنصف بينهما من غير يمين، أو
معها، أو القرعة لأنها لكل أمر مشكل وجوه:
للأول: استحالة اجتماع السببين على مسبب واحد (وفيه): مع
استلزامه بقاء الخصومة المنجرة غالبا إلى الفساد أو قطعها بلا ميزان لحصره
في البينة واليمين، مع كون دعوى كل منهما سببا لقبول قوله، لأن السبب
هو دعوى من لم يكن له معارض، وأما المزاحمة بمثلها فهي ساقطة عن
السببية لا عن تأثير السبب كما تقدم في محله في قاعدة اليد.
وللثاني: اعمال كل من السببين في الجملة ولو في بعض مؤداه
كاليدين ونحوها بعد أن كان سقوطهما مخالفا لما دل على سببية كل منهما
ولا يمين لأنها ميزان في حق المنكر الذي لا يصدق على كل من المدعيين
وإن صدق عليه كونه مدعيا لعدم الملازمة بين العنوانين في الوجود، وإن
لم ينفك دعوى المدعي عن انكار كونه لغيره مع عدم صدق المنكر عليه
عرفا، لأنه لازم دعواه الذي لا عبرة به في صدق المنكر عليه (وفيه):
ما عرفت من عدم سببية كل من الدعويين بعد اختصاص السبب بالدعوى
التي لا معارض له فيها، وقياسها باليد قياس مع الفارق، لأن اليد وإن
كانت مزاحمة تفيد الملكية إلا أنها في الجملة لا مطلقا، ضرورة أن
407

اليد: إن كانت مستقلة تفيد الملكية المستقلة، وإن كانت مزاحمة تفيد
الملكية في الجملة، بخلاف الدعوى على ما لا يد لأحد عليه، فإنها
لا تفيد الاختصاص والملكية أصلا إلا حيث لا تكون مزاحمة بمثلها.
وللثالث: سقوط الدعويين بالتعارض والرجوع إلى التحالف في قطع
الخصومة عند عدم البينة، لحصر ميزان القضاء بالبينة واليمين، وله وجه
وإن كان الأوجه في المقام هو القرعة، لأنها لكل أمر مشكل، الصادق
في المقام بعد أن كانت اليمين وظيفة المنكر المنتفي صدقه على كل منهما.
وفي توجه اليمين على من خرج اسمه بالقرعة كالبينتين المتعارضتين
وعدمه؟ وجهان، وجه الثاني: عدم قابلية الدعوى المعارضة لقبول قوله
حتى يستكشف بالقرعة، لما عرفت من اختصاص سببيتها له فيما لم تكن
معارضة بمثلها، بخلاف البينة المزاحمة بمثلها فإنها لا تسقط عن الحجية أصلا
غير أن القرعة لتعيين إحداهما في تقديم قول صاحبها حتى يكون بحكم
المدعى عليه في توجه اليمين عليه ووجه الأول: انحصار الفصل وقطع
الخصومة في البينة واليمين، وحيث لا بينة فيتعين اليمين إذ القرعة
ليست بنفسها ميزانا للفصل، بل لتعيين تقديم من يقدم قوله منهما كما
عرفت فتأمل.
هذا إن لم تكن لهما بينة. وإلا: فإن كانت لأحدهما قضى بها لصاحب
البينة، وإن كانت لهما وأقاماها فالحكم في هذا القسم هو الحكم في
تعارض البينتين في الصورة الثالثة بعد إلغاء اليد بالبينة من الترجيح بالمنصوص
ومع التساوي فالقرعة والقضاء لمن خرج اسمه بها بعد يمينه وفي صحيحتي
داود البصري المتقدمتين دلالة على ذلك. هذا كله حيث تكون الدعويان
متقاربتين عرفا ليتحقق عنوان التداعي، وإلا فلو ترتبا قدم قول الأول منهما
وكان مدعى عليه ليس إلا، لأن الثاني ادعى حينئذ على من كانت العين له
408

ظاهرا، وإن لم تكن في يده بمقتضى دعواه التي كانت سليمة عن العارض
فإنه كمن ادعى على من كانت العين في يده.
والمدار في الترتيب والتقارن على ما يصدق عليه أحدهما في العرف
فلا تقدير له بحسب الزمان حتى يكون هو المرجع، بل المرجع فيه هو
الصدق العرف.
والله العالم
409

رسالة
في القرض
410

بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة في القرض. وفيه أجر عظيم وثواب جسيم، حتى أن في
بعض الأخبار كما ستعرف: الدرهم منه بضعف درهم الصدقة،
وفي بعضها بأكثر.
ويدل عليه بخصوصه: من الكتاب قوله تعالى: " من ذا الذي
يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " (1) وقوله تعالى:
" إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا " (2) بناء على إرادة
إقراض بعضهم بعضا كما عن بعض التفاسير. وأما على إرادة إقراض الله
سبحانه وتعالى تنزيلا له تعالى منزلة المقترض كما يقال: المعاملة مع الله
للاسترباح منه بما أعد من الثواب عليه، فيكون دالا عليه بالعموم نحو:
" وتعاونوا على البر والتقوى " (3) وقوله تعالى: " لا خير في كثير من
نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس " (4) بناء
على تفسير المعروف بالقرض في المروي عن الصادق عليه السلام كما عن
بعض المفسرين.
ومن السنة أخبار كثيرة، نحو المروي عن الشيخ مرسلا: " إن

(1) سورة آل عمران، آية / 245.
(2) سورة الحديد، آية / 18.
(3) سورة المائدة، آية / 2.
(4) سورة النساء، آية / 144.
411

القرض أفضل من الصدقة بمثله في الثواب " (1) وقوله (بمثله) يحتمل
أن يكون متعلقا بأفضل، فيكون دالا على مساواته للصدقة. ويحتمل
كما لعله الظاهر تعلقه بالصدقة، فيكون ساكتا عن مقدار الأفضلية
غير معارض لما دل على أكثرية ثوابه من الصدقة. ومثله فيما ذكرنا ما روي
عن أبي عبد الله عليه السلام في (ثواب الأعمال): " لأن أقرض قرضا
أحب إلي من أن أتصدق بمثله " (2) وما روي عنه عليه السلام: " أنه
كأن يقول من أقرض قرضا وضرب له أجلا فلم يؤت به عند ذلك الأجل
كان له من الثواب في كل يوم يتأخر من ذلك الأجل بمثل صدقة دينار
واحد في كل يوم " (3) وما روي عن أبي عبد الله (ع): " ما من مسلم
أقرض مسلما قرضا حسنا يريد به وجه الله إلا حسب له أجرها كحساب
الصدقة حتى يرجع إليه " (4) وظاهره أنه كحساب الصدقة في كل آن
من آنات تأخيره، فيكون ثوابه أضعاف ثوابها، وإن كان بالنظر إلى ثواب
ذاته ضعف ثواب الصدقة، كما في المروي عنه أيضا: " القرض الواحد
بثمانية عشر وإن مات حسبتها من الزكاة " (5) لأن درهم الصدقة بعشرة
تزيد على أصلها بتسعة، والقرض بثمانية عشر، فكان ربحه في الثواب ضعف
ربح الصدقة، وإن تأخر زاد عنها بحسب التأخير أضعافا مضاعفة، وما روي
عنه: " أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أقرض مؤمنا قرضا

(1) في الوسائل، باب 6 من أبواب الدين والقرض، وفي باب 49
من أبواب المستحقين للزكاة بهذا المضمون روايات كثيرة.
(2) الوسائل: كتاب التجارة باب 6 من أبواب الدين والقرض حديث (1).
(3) الوسائل: كتاب التجارة باب 6 من أبواب الدين والقرض حديث (1).
(4) المصدر المذكور حديث (2).
(5) المصدر المذكور حديث (4).
412

ينظر به ميسوره كان ماله في زكاة وكان هو في صلاة من الملائكة حتى
يؤديه " (1) وما روي عنه صلى الله عليه وآله في حديث قال فيه: " ومن أقرض
أخاه المسلم كان له بكل درهم أقرضه وزن جبل أحد من جبال رضوي
وطور (سينا) حسنات، وإن رفق به في طلبه تعدى به على الصراط كالبرق
الخاطف اللامع بغير حساب ولا عذاب. ومن شكى إليه أخوه المسلم فلم
يقرضه حرم الله تعالى عليه الجنة يوم يجزي المحسنين " (2) إلى غير ذلك
من الأخبار الواردة في هذا المضمار. وقد عرفت وجه الجمع فيما اختلف
منها في كمية الثواب، بل الاجماع بقسميه عليه، والعقل مستقل
بحسنه، لما فيه من سد الخلة وإغاثة الملهوف، ومعونة المحتاج فهو من
المستقلات العقلية: من قبح الظلم وحسن الاحسان.
هذا وتنقيح مهمات مسألة القرض يتم في ذكر مسائل:
(المسألة الأولى): في حقيقة القرض. وهو عقد يفيد التمليك
بالضمان. أي مضمون على المقترض بغرامة بدله فبالتمليك تخرج الضمانات
التي لا تمليك فيها كالأعيان المضمونة على من هي في يده مع بقائها على
ملك مالكها. ومعنى ضمانها حينئذ كونها في عهدته بحيث يجب ردها
لكونها ملكه، ورد بدلها بعد تلفها. وبالضمان تخرج التمليكات المجانية
والمعاوضات أيضا، إذ المقصود منها التبديل لتعلق غرض كل منهما بما
في يد الآخر. وليس الغرض من القرض إلا محض الاحسان وعدم الخسران
بحيث يكون بحكم عود ماله إليه مع الاحسان بقضاء الحاجة، ولذا ورد:
" أن درهم القرض يعود، ودرهم الصدقة لا يعود، فهو من التمليك
بالتعويض لا بالمعاوضة، فيكون معنى كونها مضمونة حينئذ: أي لا مجانا، وإلا

(1) المصدر المذكور، حديث (3).
(2) المصدر المذكور، حديث (5).
413

فلا معنى لكون العين المملوكة ولو بالقرض في عهدة مالكها.
هذا وحيث كان التضمين من كيفيات التمليك توقف التملك على
القبض، إذ لا ضمان إلا بعد الاستيلاء بعدية بالطبع والمعلومية لا بالزمان
فلا يملك بمجرد العقد لعدم انفكاك ملكيته عن الكيفية الخاصة التي لا تحصل
إلا بالقبض، فإذا الملكية الخاصة التي هي مفاد القرض معلولة للعلة المركبة
من العقد والقبض معا، وفي قرض المقبوض يتحقق الملك بالعقد لتقديم
ما به يتحقق الضمان، فلا يحتاج إلى مضي زمان بعده يمكن فيه القبض لو
لم يكن مقبوضا، وفي معاطاته قام القبض مقام العلة المركبة في إفادتها
الملكية المتزلزلة. وقيل بتوقف الملك على التصرف، وهو متجه، إن قلنا
بأن مفاد القرض هو الإباحة بالعوض كالمعاطاة بناء على إفادتها الإباحة،
إلا أنك قد عرفت أن مفاده التمليك بالضمان لا الإباحة بالعوض حتى يملك
بالتصرف ولو بدخوله في الملك آنا ما قبله.
(المسألة الثانية): اختلفوا في كون القرض من العقود الجائزة،
أو اللازمة على قولين: المشهور: هو الأول، بل الاجماع محكي عليه،
وهو الحجة لهم، سيما بعد اعتضاده بالشهرة العظيمة. وذهب بعض
المتأخرين إلى الثاني، وهو الأقوى، لعموم الأمر بالوفاء، خرج منه
ما لو علم جوازه، وبقي غيره داخلا في العموم.
نعم ربما يقال: إن جواز الرجوع في العقد الجائز إنما هو لبقاء علقة الملكية
السابقة للأول، وإن انتقل إلى الثاني. فهو من آثار السلطنة السابقة ومن شؤنها
لأن العقود الناقلة للملك: (منها) ما يوجب قطع علقة الملكية بالكلية و (منها)
ما يوجب نقل الملك مع بقاء العلقة للمالك ولو في الجملة بحيث يكون زمام الملك
بعد بيده على وجه لو شاء الرجوع إليه لرجع، ولا سبيل إلى تعيين أحدهما
بالأصل لو شك في كون العقد من أيهما، والشبهة مصداقية ولا يجوز
414

التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية، فاللازم حينئذ الرجوع إلى استصحاب
الكلي الثابت ولو في ضمن المرتبة الضعيفة، ولو أضعف مراتب علقة الملكية
وهذا القسم هو المتيقن من جريان استصحاب الكلي.
توضيح ذلك: إن لاستصحاب الكلي أقساما:
منها: ما لو تيقن وجود شئ كالحيوان مثله في ضمن فرد متيقن الزوال
مع الشك في قيام غيره من أفراده مقامه.
ومنها: ما لو علم وجود حيوان في ضمن فرد مردد بين ما يعيش
مدة وما لا يعيش في تلك المدة.
ومنها: ما لو علم وجود شئ في مرتبة شديدة وشك في زوالها بالكلية
أو بقاء شئ منها، كالسواد الشديد إذا شك في زواله أو زوال شدته مع
بقاء مرتبة الضعيف منه.
لا اشكال في عدم جريان الاستصحاب في القسم الأول، للقطع بزوال
المتيقن والشك في حدوث غيره، فالمتيقن معلوم الزوال، والمشكوك غير
متيقن الحدوث. والأقوى جريان استصحاب الكلي في الثاني بالنسبة إلى
الآثار المترتبة على الكلي دون الآثار المتربة على خصوص أحد الفردين
بخصوصه، لعدم تعيين أحدهما بخصوصه بثبوت الكلي. وأقوى منه جريانه
في القسم الأخير، لعدم كونه من تبديل فرد بفرد، ولا من الترديد بين
أحد الفردين، بل المشكوك بقاؤه كان متيقنا حدوثه ولو في ضمن الأشد.
وما نحن فيه هو من القسم الأخير الذي لا شك في جريان الاستصحاب
فيه، ولا يعارض استصحابه باستصحاب بقاء الملك للثاني بعد رجوع الأول
عليه، لأنه من الاستصحاب في السبب المقدم على الاستصحاب في المسبب.
هذا ولكن فيه: إن ذلك لا يتم إلا بدعوى تنويع العام في الأمر
بالوفاء بالعقود، وهي ممنوعة، فلا بأس بالتمسك بالعام فيما شك في
415

خروجه عنه، كما في المقام، والاجماع على الجواز لم نتحققه إن أريد به
الجواز بالمعنى المصطلح، كيف وثمرة الجواز جواز الزام المقترض برد
العين ما دامت باقية، والمشهور يمنعونه، مع أنه هو الثمرة بين القولين،
نعم للمقترض رد العين لكونها أحد مصاديق ما عليه من الحق،
وليس للمقترض الامتناع عن قبولها. وإن أريد به كما هو الظاهر
جواز المطالبة بحقه متى شاء ولو في مجلس القرض خلافا لبعض العامة حيث
منعوا عن ذلك قبل قضاء وطره منها، بل لعله الظاهر من دعوى الاجماع
على جوازه، فمسلم ولكن لا دخل له بحل العقد واسترداد العين بابطال
ملكية المقترض الذي هو محل الكلام.
(المسألة الثالثة) المعروف عند الأصحاب: عدم لزوم شرط الأجل
في عقد القرض، بل قيل بعدم وجدان الخلاف فيه قبل الكاشاني. نعم احتمله
في (المسالك) بناء على ما ذكره سابقا من لزوم عقده، ولعله لبنائهم على
جواز هذا العقد، فلا يجب الوفاء به حتى يجب الوفاء بالشرط في ضمنه
وإلا فليس الشرط مخالفا بناء على اللزوم المقتضى العقد وحقيقته حتى
يبطل، بل هو مخالف لاطلاقه الذي له المطالبة بحقه متى شاء، وكل
شرط كان كذلك فهو صحيح، وحيث قوينا لزوم العقد فلا جرم نقول
بلزوم الشرط فيه، مؤيدا بما أشعرت به مضمرة الحسين بن سعيد: " سألته
عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمى ثم مات المستقرض: أيحل مال
القارض بعد موت المستقرض منه أم لورثته من الأجل ما للمستقرض في
حياته؟ فقال: إذا مات فقد حل مال القارض " (1) بعد تنزيلها على
اشتراط الأجل دون مجرد الوعد به المعلوم عدم وجوب الوفاء بالوعد المشعر

(1) الوسائل، كتاب التجارة باب 12 من أبواب الدين والقرض
حديث (2) والرواية عن الإمام الصادق (ع).
416

بأنه كالدين في الحلول بعد الموت.
وتحقيق المسألة: هو أن الشرط: إما أن يكون في عقد القرض
أو في غيره من العقود اللازمة، وعلى التقديرين: فأما أن نقول بجواز
العقد أو بلزومه.
أما الأول: فإن قلنا بجوازه كان الشرط تابعا له، لما عرفت من عدم
وجوب الوفاء بعقده حتى يجب الوفاء بشرطه، وإن قلنا بلزومه استتبع
لزومه لزوم الشرط لأنه من تمام مقتضاه الذي يجب الوفاء به.
وأما على الثاني، فيلزم الشرط مطلقا على الأقوى. كما عليه المشهور
سواء قلنا بلزوم عقد القرض أو جوازه. أما على الأول فواضح.
وأما على الثاني فيلزم الشرط فيه أيضا لعموم الأمر بالوفاء بتمام مقتضى
العقد الذي منه الشرط مطلقا، سواء أريد بالشرط مجرد أن لا يرجع بالمال
إلى الأجل، أو أريد به أن لا يتمكن من الرجوع لسقوط السلطنة عليه
بالشرط، بناء على الفرق بينهما برد العين لو استردها، وإن أثم بالاسترداد
على الأول، وعدم الرد لو استرد على الثاني. ولا يتوهم منافاة الشرط
سيما على الثاني وإن كان في العقد اللازم لحقيقة القرض، بناء على جوازه
لعدم منافاة سلب السلطنة بسبب من الأسباب في وقت خاص لصدق الجواز
على العقد، وإن هو إلا كشرط تأجيل الثمن في البيع، بل المنافي له
لو سلم هو سلب مطلق السلطنة لا السلطنة الخاصة.
وكيف كان، فظهر أن الأقوى لزوم الشرط مطلقا ولو كان في
عقد الفرض قلنا بلزومه، وإلا فلا يلزم في عقد القرض، ويلزم فيما
لو كان في غيره من العقود اللازمة، والله العالم.
(تنبيه) لو رهن عينا في عقد قرض إلى أجل، فالأجل للرهن دون
القرض، فله المطالبة بالدين قبله وإن اختص الاستيفاء من الرهن بحلول الأجل
ما لم يصرح بكونه له، فإن صرح به بنى على لزوم القرض وجوازه.
417

هذا وربما استدل على بطلان الأجل في القرض بما دل على استحبابه
الظاهر في كونه مستحبا ابتداء واستدامة إلى حصول الوفاء، وهو ينافي
وجوب الانظار إلى الأجل.
وفيه: إن استحباب القرض من حيث هو قرض لا ينافي عروض
الوجوب عليه بسبب الشرط لعموم " المؤمنين عند شروطهم " (ودعوى)
أن عموم (المؤمنون عند شروطهم) الشامل لما لو كان الشرط في عقد القرض
وغيره معارض لعموم ما دل على استحباب القرض الشامل لصورتي وقوع
الشرط فيه وعدمه معارضة العامين من وجه، فيرجع في القرض المشروط
بالأجل وهو مورد التعارض عموم أدلة القرض باعتضاده بالشهرة
المستفيضة (يدفعها) أن اطلاقات القرض مسوقة لاستحبابه من حيث هو
قرض غير ناظرة إلى كيفيته من حيث اشتراط الأجل فيه وعدمه، فهي من
هذه الحيثية مهملة لا عموم فيها حتى يعارض عموم ما دل على الوفاء بالشرط
فيبقى عموم (المؤمنون) سليما عن المعارض. وبذلك ظهر ضعف ما عليه
شيخنا في (الجواهر) من بطلان شرط الأجل في القرض مع اختياره
لكون عقده من العقود اللازمة مستدلا عليه بذلك.
هذا ولا يخفى عليك أن النزاع في جواز عقد القرض ولزومه غير
النزاع في لزوم شرط الأجل فيه وعدمه. فإن النزاع في الأول يرجع إلى
جواز فسخ الملك والرجوع بالعين وعدمه، وفي الثاني إلى جواز مطالبة
البدل قبل الأجل وعدمه، وأحدهما غير الآخر، وهو واضح.
(المسألة الرابعة): في متعلق القرض وما يصح اقتراضه. وقد
ذكروا له ضابطا، وهو أن كل ما يضبط وصفه وقدره يجوز اقتراضه.
ولا ريب بل لا خلاف كما قيل في طرده بمعنى صحة قرض مضبوط
الوصف والقدر، وإنما الكلام في عكسه، وهو أن كل ما لا يضبط وصفه
418

ولا قدره لا يجوز قرضه، لوقوع الخلاف فيه.
وتنقيح المسألة: هو أن ما يقترض: إما مثلي أو قيمي، والثاني:
إما أن يمكن ضبط أوصافه وقدره بحيث يصح بيعه سلما أو لا يمكن
كالجواهر ونحوها لفرط تفاوت أوصافها وقيمتها، فهنا أقسام ثلاثة:
لا اشكال، بل لا خلاف في جواز قرض الأول منها، وهو المثلي
بل الاجماع بقسميه عليه. وكذا يجوز بلا خلاف كما قيل في الثاني
وهو الأول من قسمي القيمي الذي يصح السلم فيه.
وأما الثالث، وهو كالجواهر والقسي ونحوهما مما لا يضبط وصفه
وتختلف قيمته، ففي جواز اقتراضه وعدمه قولان: المنع، وهو المحكي
عن الشيخ في (مبسوطه) والجواز وهو المحكي عن ابن إدريس في (سرائره)
ولعله الأشهر. بل المشهور، مستدلين عليه بالأصل، وعمومات القرض
مع إمكان المناقشة فيه بأن مقتضى الأصل فيه هو البقاء على ملك مالكه
وعدم الانتقال منه إلى المقترض، والعمومات لا تنهض لاثبات ما شك في
قابليته للقرض لأنها مهملة من هذه الحيثية، وإنما هي في مقام بيان رجحانه
وما يترتب عليه من الثواب والأحكام. وعليه فيقوى القول بالمنع عنه،
بل وعن مطلق القيمي، وإن أمكن ضبط وصفه وقدره وصح السلم فيه،
إن لم يقم إجماع عليه، وإلا فالأقرب في ضمانه كما عن التذكرة هو
المثل الصوري، لأنه أقرب إلى العين المقترضة وأوفق بما هو المقصود من
القرض من معونة المحتاج وعود المال إليه ولو بالتنزيل، ولذا كان درهم
القرض على الضعف من الصدقة لتناوب القرض إليه، بخلاف درهم
الصدقة فإنها لا تعود وإن كان ضمانه في غير القرض من الاتلاف وغيره
إنما هو بالقيمة، إلا أن الأقوى مع ذلك كله جواز القرض فيه أيضا،
وضبط الغرامة بالقيمة لما هو المعلوم من حكمة شرع القرض لقضاء الحاجة
419

ومعونة المحتاج التي مقتضاها التعميم فشرح عقدا لما يكون فيه قضاء الحاجة
ومعونة المحتاج المناسب لتعميم نفوذه في جميع موارده، نظير العموم المستفاد
من الحكم بشئ في موارد الامتنان الشامل لجميع موارده لقضية الامتنان به
نحو قوله صلى الله عليه وآله " خلق الله الماء طهورا " لعله لذلك صح استدلالهم
عليه بالأصل، وعمومات أدلة القرض، وإلا فقد عرفت ما فيهما.
ثم إن ضمان المثلي إنما هو بمثله لأنه أقرب إلى العين المقترضة من
غيره، فكان التدارك به أحرى. وأما القيمي فضمانه بقيمته لأنها أضبط
فكان أعدل، وحيثما تعذر المثل في المثلي انتقل ضمانه إلى القيمة إلا أن في انتقاله
إليها عند التعذر، أو المطالبة إن تأخرت عنه، أو التسليم إن تأخر عنهما
أوجها: أوجهها الأخير، لأنه إنما يخرج به عن عهدة المثل الثابت في ذمته إلى
حين الوفاء، وحينئذ فالعبرة بقيمته حين الدفع، لا حين التعذر أو المطالبة أو
أعلى القيمتين إن تفاوتت الأسعار، ما لم يكن التفاوت لزيادة متصلة كالسمن
ونحوه لو نقصت بتلف الزيادة عنده، وإلا فلا فيضمنها بقيمتها سمينة لا
مهزولة لأنها كالعين المضمونة التالفة في يده، بل هي منها. وأما القيمي
فالعبرة بقيمته مع الاختلاف من حين القرض المتحقق بالقبض لتعيين ما هو
مديون به من غرامة العوض القيمي بالاقتراض وقبول القرض إذ ليس في
الذمة إلا القيمة الثابتة بالضمان بنفس القرض المتحقق بالقبض حقيقة الذي
قد عرفت أن حقيقة التمليك بالضمان، وليست العين المفترضة في عهدة
المقترض إلى المطالبة أو التسليم حتى تعتبر القيمة عنده لأنها ملكه. ولا
يضمن المالك ملكه، ومعنى ضمانها حينئذ، كما عرفت، كونها مملوكة
بعوض لا مجانا.
ثم إن المضمون بالقيمة لو طالب المقرض بحقه فدفع إليه المقترض العين
المقترضة، ففي وجوب قبولها عليه، وعدمه، وجهان: مبنيان على جواز
420

عقد القرض، ولزومه، لأنه على الأول كان له فسخ العقد الموجب لرجوع
المال إلى مالكه فوجب حينئذ قبوله، ولا كذلك على الثاني، لأن الحق
الثابت في ذمته هو القيمة وإن كان بدلا عن العين، فردها بدلا عنه
موقوف على رضاه للزوم العقد بالفرض (ودعوى) أو نوليتها عن العين
ورد المبدل أولى من رد البدل مع صدق الوفاء به عرفا، ولذا قال به
بعض، كالشهيدين في محكي الدروس والمسالك (ممنوعة) جدا بعد تضمين
الملك بالقيمة عند تحققه بالقبض، ضرورة أن القبض برزخ بين المعاوضات
والغرامات لا غرامة محضة ولا معاوضة صرفة، وهو واضح.
وكيف كان فقد ظهر لك: أن الأقوى جواز قرض الجواري والعبيد
بلا خلاف فيه كما في (المسالك) وإن حكى عن الشيخ في (المبسوط
والخلاف): أنه لا نص لنا ولا فتيا في إقراض الجواري، وإن قال بعد
ذلك: " والأصل جوازه وعموم الأخبار في جواز القرض يقتضي جوازه "
فالمقصود من عدم الخلاف في جوازه في المسالك وغيره من الشيخ ومن
تأخر عنه. وأما جواز اقتراض الخبز فمنصوص عليه حتى مع التفاوت
في الوفاء بالعدد الصغير بدل الكبير وبالعكس المحمول على التفاوت اليسير
المعارف فيه للتسامح.
بقي في المقام بيان الضابط المائز بين المثلي والقيمي ليتميز به ما هو
الثابت في الذمة منهما فنقول:
المثلي: هو ما لا مدخلية لخصوصيات الأجزاء الشخصية والتشخصات
الفردية في مالية الشئ، بل المالية منوطة بالجامع منها، ولذا صح بدلية
البعض عن بعض في الغرامة مطلقا لأن مرتبة المالية محفوظة في جميعها.
ويقابله القيمي، وهو ما كان لخصوصية الفرد مدخل في المالية، ولذا كان
الضبط فيه إنما هو بالقيمة لحفظ مراتب المالية فيها، والعبرة في المناط
421

بمدخلية الخصوصيات في المالية وعدمها لا بوجود ماله دخل فيها وعدمه حتى
ينتقض بالفردين المتشابهين في جميع الخصوصيات، أو ينتقض بكل المثل
المنحصر في فرد لعدم المدخلية في الثاني وإن انحصر الكلي فيه ومدخليتها
في الأول وإن وجد ماله دخل فيها في شبهه، ومع الغض عن ذلك فالمفروض
فيما ذكر نادر والنادر بحكم المعدوم فلا يقدح في الميزان.
وإلى ما ذكرنا من الضابط يرجع تعريف الأكثر للمثلي بأنه ما تساوت
أجزاؤه من حيث القيمة بمعنى قيمة نصفه مثلا تساوي قيمة نصف الآخر
كالمنين من صبرة الحنطة فإن قيمة كل نصف منها تساوي قيمة النصف
الآخر، لا بمعنى أن قيمة النصف منه نصف قيمة الكل، إذ قد يكون للهيئة
الاتصالية أو الاجتماعية مدخلية في زيادة القيمة كالدرهم الواحد مثلا فالواحد
المنكسر نصفين ينقص عن قيمة كله، ولكن يساوي قيمة نصف الآخر.
وبالجملة: فما تساوت أجزاؤه في القيمة بالمعنى المذكور كان مثليا وإن اختلفت
أوصاف أنواعه، بل وأصنافه في الردائة والجودة الموجبة لاختلاف انطباق
التعريف على كل من الأصناف المختلفة بالنسبة إلى نفسه، فلا يخرج كل
منها في مرحلة نفسه عن كونه مثليا.
نعم يجب اعتبار الأوصاف زيادة على عنوان المثل في بدل الغرامات
مطلقا في القرض وغيره. وأنت إذا أحطت علما بما ذكرنا من الضابط
تجده سليما عما أورده على تعاريفهم من النقض طردا وعكسا، بل وإليه
ترجع تعاريفهم في المقام بعد أدنى التأمل.
هذا وحيثما شك في كون ما في الذمة مثلا أو قيمة للشك في كون
المبدل مثليا أو قيميا، فالقاعدة تقتضي فيه الاحتياط لدوران الثابت في
الذمة بين أحد الأمرين المتباينين مع عدم تعيين أحدهما بالأصل، دون
التخيير حتى يكون مرددا بين كونه للضامن أو للمالك، وليس طريق
422

الاحتياط فيه منحصرا في أحد أمرين: إما دفع الضامن لهما ليتيقن بالبراءة
أو رفع يد المالك عنهما لذلك حتى يحكم بعدمه بالاجماع فيقال بالتخيير،
بل الاحتياط فيه باعتبار القيمة لأنها أضبط في حفظ المالية التي هي العمدة في
ملاحظة الأموال بالنسبة إلى غراماتها حيث يدور الأمر بين رعايتها ورعاية
ذواتها ولو في الجملة من حيث الشبه في الصورة
وبالجملة: حيث يمكن الجمع بين التساوي في المالية والصورة، لزم
تقديمه ولذا يقدم المثل في المثلي على القيمة، وحيث لا يمكن الجمع ودار
الأمر بين اعتبار أحدهما كان اعتبار المالية أولى وأحوط، فالاحتياط في
الفرض منحصر في اعتبار القيمة وإن لم يثبت به كون المضمون قيميا.
نعم يظهر من بعض المحققين من المعاصرين كون الأصل في الفرض
هو التخيير غير أنه احتمل كون التخيير للضامن لأصالة البراءة عما زاد على
ما يختاره، وإن فرض اجماع على خلافه، فالأصل تخيير المالك لأصالة الاشتغال
وعدم البراءة بدفع ما لا يرضى به المالك، مضافا إلى عموم (على اليد)
خرج منها ما إذا رضى المالك بشئ آخر غير العين وبقي الباقي داخلا في
العموم، وظاهره المفروغية من كون مقتضى الأصل هو التخيير، وإن
تردد في كون الخيار للضامن أو للمالك.
ويضعفه مضافا إلى كونه مورد الاحتياط اللازم فيه: إما التعيين
بالقرعة أو الصلح القهري بناء على أنه لا طريق إلى الاحتياط فيه إلا بأحد
الأمرين المتقدمين: من بذلهما أو رفع اليد عنهما المعلوم انتفاؤهما بالاجماع
والضرورة، وقد عرفت تحقق الاحتياط فيه بالقيمة أنه لا مجرى للبراءة
في المقام الدائر أمره بين المتباينين لعدم الشك فيه بين الأقل والأكثر
الارتباطيين حتى يؤخذ بالأقل المتيقن وينفى الزائد المشكوك بالأصل كالشك
البدوي، ولا بين التعيين التخيير بناء على أن في التعيين كلفة والأصل
423

البراءة عنها لعدم الشك فيه في تعلق التكليف بالفرد المتعين أو بالطبيعة
السارية في الأفراد بحيث يكون التخيير أحد طرفي الاحتمالين لا نتيجتهما حتى
ينفى التعيين بالأصل، لما عرفت من دورانه بين المتباينين. نعم ربما يقال
بل قيل بالتخيير العقلي هنا، نظير تخيير المجتهد في الفتوى عند تعارض
الدليلين الدائر مفادهما بين المحذورين مع عدم المرجح بناء على رجوع الشبهة
فيه إلى الشبهة الحكمية ولو لاختلاف الأقوال في كونه مثليا أو قيميا.
ولا يخفى ضعفه مطلقا سواء أريد به تخيير الحاكم حيث يرجعان إليه
أو الضامن عند الوفاء أو المالك عند المطالبة بعد أن كانت الشبهة في الموضوع
اللازم فيه العمل بالاحتياط حيث يمكن وقد عرفت امكانه أو القرعة
أو الصلح القهري، وهو واضح. نعم قد يشكل الاحتياط بالقيمة فيما لو قرر الفرض
بوجه آخر يمكن فيه اجراء البراءة، وهو ما لو دار المبدل المضمون بين أحد المعلومين
المثلي والقيمي، لا بين كونه مثليا أو قيميا، كما لو كانا موجودين فتلفا وعلم
استناد أحدهما إليه دون الآخر، وشك في كون المستند إليه أيهما:
أهو المثلي أو القيمي، فإن في الفرض مع اختلافهما في المالية الدائرة بين
الأقل والأكثر يمكن الأخذ بالمتيقن ونفي الزائد عنه بالأصل، كما لو كانت
مالية أحدهما درهما والآخر درهمين، فالأصل البراءة عن الزائد وإن لم يثبت به
عنوان الأقل من المثلي أو القيمي، ومع التساوي في المالية وضبط مقدارها على
التقديرين يحتمل وجوب دفع المثل رعاية لذات المال مع ضبط المالية فيهما.
هذا تمام الكلام فيما أردنا بيانه من مهمات مسألة القرض، والحمد لله
أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
بهذا ينتهي الجزء الثالث، ويليه الجزء الرابع وهو يحتوي رسالتين:
(رسالة في الوصية ورسالة في المواريث)
424