الكتاب: كتاب المكاسب
المؤلف: الشيخ الأنصاري
الجزء: ١
الوفاة: ١٢٨١
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: تحقيق : لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: جمادي الأول ١٤١٥
المطبعة: باقري - قم
الناشر: المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري
ردمك:
ملاحظات:

كتاب المكاسب
تعريف الكتاب 1

كتاب المكاسب
للشيخ الأعظم أستاذ الفقهاء والمجتهدين
الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)
1214 - 1281 ه‍
الجزء الأول
اعداد
لجنة تحقيق تراثنا الشيخ الأعظم
تعريف الكتاب 3

أنصاري، مرتضى بن محمد أمين 1214 - 1281 ق.
المكاسب / المؤلف مرتضى الأنصاري: إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم. -
قم: مجمع الفكر الإسلامي 1420 ق = 1378.
فهرستنويسي بر أساس اطلاعات فيپا (فهرستنويسي پيش از انتشار).
عربي.
فهرست نويسي بر أساس جلد أول، 1420 ق = 1378.
أين كتاب به مناسبت دويستمين سالگر تولد شيخ أنصاري منتشر شده است.
كتابنامه:
1 - معاملات (فقه). الف: مجمع الفكر الاسلامي. لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
ب. مجمع الفكر الاسلامي. ج. كنگره جهاني بزرگداشت دويستمين سالگر تولد شيخ
أنصاري. د. عنوان.
7 م 8 الف / 1 / BP 1901 - 372 297
الف ى 1300
كتابخانه ملي إيران - 1937 - 78 م
قم - ص. ب 3654 - 37185 - ت: 744810
كتاب المكاسب / ج 1
المؤلف: الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره
تحقيق: لجنة التحقيق
الطبعة: الثالثة / ربيع الأول 1420 ه‍. ق
صف الحروف: مجمع الفكر الإسلامي
الليتوغراف: نگارش - قم
المطبعة: باقري - قم
الكمية المطبوعة: 2000 نسخة
جميع الحقوق محفوظة
للأمانة العامة لمؤتمر العالمي
بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري قدس سره.
تعريف الكتاب 4

بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة أمين المؤتمر 5

برعاية
قائد الثورة الاسلامية ولي أمر المسلمين
سماحة آية الله العظمى السيد الخامنئي دام ظله الوارف
تم طبع هذا الكتاب
كلمة أمين المؤتمر 6

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله
الطيبين الطاهرين.
لم تكن الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني رضوان الله عليه حدثا سياسيا
تتحدد آثاره التغييرية بحدود الأوضاع السياسية إقليمية أو عالمية، بل كانت
وبفعل التغييرات الجذرية التي أعقبتها في القيم والبني الحضارية التي شيد
عليها ضرح الحياة الإنسانية في عصرها الجديد حدثا حضاريا إنسانيا شاملا
حمل إلى الإنسان المعاصر رسالة الحياة الحرة الكريمة التي بشر بها الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام على مدى التأريخ وفتح أمام تطلعات الإنسان الحاضر أفقا باسما
بالنور والحياة، والخير والعطاء.
وكان من أولى نتائج هذا التحول الحضاري الثورة الثقافية الشاملة
التي شهدها مهد الثورة الإسلامية إيران والتي دفعت بالمسلم الإيراني إلى
اقتحام ميادين الثقافة والعلوم بشتى فروعها، وجعلت من إيران، ومن قم
المقدسة بوجه خاص عاصمة للفكر الإسلامي وقلبا نابضا بثقافة القرآن
وعلوم الإسلام.
كلمة أمين المؤتمر 7

ولقد كانت تعاليم الإمام الراحل رضوان تعالى عليه ووصاياه وكذا
توجيهات قائد الثورة الإسلامية وولي أمر المسلمين آية الله الخامنئي المصدر
الأول الذي تستلهم الثورة الثقافية منه دستورها ومنهجها، ولقد كانت الثقافة
الإسلامية بالذات على رأس اهتمامات الإمام الراحل رضوان الله عليه وقد أولاها
سماحة آية الله الخامنئي حفظه الله تعالى رعايته الخاصة، فكان من نتائج ذاك
التوجيه وهذه الرعاية ظهور آفاق جديدة من التطور في مناهج الدراسات
الإسلامية بل ومضامينها، وانبثاق مشاريع وطروح تغييرية تتجه إلى تنمية
وتطوير العلوم الإسلامية ومناهجها بما يناسب مرحلة الثورة الإسلامية
وحاجات الإنسان الحاضر وتطلعاته.
وبما أن العلوم الإسلامية حصيلة الجهود التي بذلها عباقرة الفكر
الإسلامي في مجال فهم القرآن الكريم والسنة الشريفة فقد كان من أهم
ما تتطلبه عملية التطوير العلمي في الدراسات الإسلامية تسليط الأضواء
على حصائل آراء العباقرة والنوابغ الأولين الذين تصدروا حركة البناء
العلمي لصرح الثقافة الإسلامية، والقيام بمحاولة جادة وجديدة لعرض
آرائهم وأفكارهم على طاولة البحث العلمي والنقد الموضوعي، ودعوة
أصحاب الرأي والفكر المعاصرين إلى دراسة جدية وشاملة لتراث السلف
الصالح من بناة الصرح الشامخ للعلوم والدراسات الإسلامية ورواد الفكر
الإسلامي وعباقرته.
وبما أن الإمام المجدد الشيخ الأعظم الأنصاري قدس الله نفسه يعتبر
الرائد الأول للتجديد العلمي في العصر الأخير في مجالي الفقه والأصول -
وهما من أهم فروع الدراسات الإسلامية - فقد اضطلعت الأمانة العامة
لمؤتمر الشيخ الأعظم الأنصاري - بتوجيه من سماحة قائد الثورة الإسلامية
كلمة أمين المؤتمر 8

آية الله الخامنئي ورعايته - بمشروع إحياء الذكرى المئوية الثانية لميلاد
الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره وليتم من خلال هذا المشروع عرض
مدرسة الشيخ الأنصاري الفكرية في شتى أبعادها وعلى الخصوص إبداعات
هذه المدرسة وإنتاجاتها المتميزة التي جعلت منها المدرسة الأم لمات تلتها من
مدارس فكرية كمدرسة الميرزا الشيرازي والآخوند الخراساني والمحقق
النائيني والمحقق العراقي والمحقق الإصفهاني وغيرهم من زعماء المدارس
الفكرية الحديثة على صعيد الفقه الإسلامية وأصوله.
وتمهيدا لهذا المشروع فقد ارتأت الأمانة العامة أن تقوم لجنة مختصة
من فضلاء الحوزة العلمية وإخراجها بالأسلوب العلمي اللائق وعرضها لرواد
الفكر الإسلامي والمكتبة الإسلامية بالطريقة التي تسهل للباحثين الاطلاع
على فكر الشيخ الأنصاري ونتاجه العلمي العظيم.
والأمانة العامة لمؤتمر الشيخ الأنصاري إذ تشكر الله سبحانه وتعالى على هذا
التوفيق تبتهل إليه في أن يديم ظل قائد الثورة الإسلامية ويحفظه للإسلام
ناصرا وللمسلمين رائدا وقائدا وأن يتقبل من العاملين في لجنة التحقيق
جهدهم العظيم في سبيل إحياء تراث الشيخ الأعظم الأنصاري وأن يمن
عليهم بأضعاف من الأجر والثواب. أمين عام مؤتمر الشيخ الأعظم الأنصاري
محسن العراقي
كلمة أمين المؤتمر 9

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة لجنة التحقيق 10

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه محمد
وآله الطاهرين.
وأما بعد:
فمنذ أن التحق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى بدأ الاختلاف
في وجهات النظر الفقهية، انطلاقا من الاختلاف في الإمامة الكبرى
وما استتبعه من الاختلاف في الأصول التي يبتني عليها الفقه، كالسنة
والإجماع والاجتهاد والقياس ونحو ذلك، فإن الاتجاه المخالف للاتجاه
الفقهي لأهل البيت عليهم السلام بدأ بطرح فكرة حجية الإجماع - بطريقته
الخاصة - والاجتهاد بالرأي والقياس وما شابهها، بينما كان أهل
البيت عليهم السلام يرفضون ذلك كله لأسباب يطول شرحها.
وأما السنة، فلما كانت السنة المنقولة عن الإمام عليه السلام - عندهم -
كالسنة المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي حجة لو ثبتت بطريق
موثوق به.
وعلى هذا الأساس صار لأهل البيت عليهم السلام فقه مستقل مستلهم
مقدمة لجنة التحقيق 11

من الكتاب الكريم والسنة النبوية المودعة عند أئمتهم عليهم السلام.
ولم تتسع هوة الخلاف بين الاتجاهين بصورة كاملة في الصدر
الأول لعاملين، وهما: قرب العهد بعصر النصوص، وعدم اعتماد الاتجاه
الآخر على الأصول المرفوضة لدى أئمة أهل البيت عليهم السلام كثيرا،
بل كانت فتاوى الإمام علي عليه السلام هي المرجع الوحيد في ما يستجد
من قضايا وأحداث كان يعجز الآخرون عن بيان حكمها الشرعي،
فهذا عبد الرزاق يحدثنا في مصنفه عن نافع مولى ابن عمر، عن أسلم
مولى عمر: أن رجلا سأل عمر عن بيض النعام يصيبه المحرم، فقال له
عمر: أرأيت عليا؟ فاسأله، فإنا قد أمرنا أن نشاوره (1).
ومع ذلك كله نرى - ومع الأسف - أن الفقه المنقول عن غيره في
كتب العامة أكثر مما هو منقول عنه، والأسباب غير خفية على المتأمل.
وعلى أي حال، فقد تجسد هذا الاستقلال بوضوح أيام الإمامين:
الباقر والصادق عليهما السلام حيث سمحت لهما الظروف بإظهار فقه أهل
البيت عليهم السلام، لأنهما عاشا الفترة الانتقالية للحكم من الأمويين إلى
العباسيين، فقد كثر تلامذتهما، واشتهر أن تلاميذ الإمام الصادق عليه السلام
كانوا أكثر من أربعة آلاف، انتشروا في البلاد الإسلامية، وكان أكثر
تمركزهم في مدرستي المدينة والكوفة، فقد روي عن الحسن بن علي
الوشاء قوله: " لو علمت أن هذا الحديث يكون له هذا الطلب
لاستكثرت منه، فإني أدركت في هذا المسجد - أي مسجد الكوفة -

(1) مصنف عبد الرزاق 4: 422.
مقدمة لجنة التحقيق 12

تسعمائة شيخ، كل يقول: حدثني جعفر بن محمد... " (1).
وقد تمكن هذان الإمامان من وضع الأسس العامة للاجتهاد
الصحيح، كالقواعد الأصولية، مثل: الاستصحاب، والبراءة، والاحتياط،
وأحكام التعارض بين الأخبار، والتسامح، ونفي الضرر ونحو ذلك،
وكالقواعد الفقهية، مثل: قاعدة اليد، وسوق المسلمين، والضمان،
والإتلاف، وأصالة الصحة (حمل فعل المسلم على الصحيح) وعشرات
بل مئات القواعد الأخرى.
ولم يكتف الأئمة بذلك، بل كانوا يدربون تلامذتهم على الاستنباط
والاجتهاد الصحيح، فقد روي عنهم عليهم السلام قولهم: " علينا إلقاء الأصول،
وعليكم التفريع " (2).
وهكذا أخذ الفقه الإمامي يتسع رغم تزايد الضغوط بعد الإمام
الصادق عليه السلام بحيث كان من الصعب التوصل إلى الأئمة لأخذ العلم
عنهم، ورغم ما كانت تبذله السلطات من جهود متواصلة لإبعاد الناس
عن أبواب الأئمة عليهم السلام، وكان من جملتها تأييد المتفقهة المخالفين لهم،
وإرجاع عامة الناس إليهم.
انتهى دور الحضور ولم يتجاوز التفكير الفقهي الإمامي حدود
تفسير النصوص التي جمعها أصحاب الأئمة في أصولهم الروائية، واستمر
الأمر كذلك حتى اتسعت دائرة التفكير الفقهي شيئا فشيئا، وأخذت
الكتب الفقهية تستقل عن كتب الحديث، فكتبت المجاميع الحديثية

(1) رجال النجاشي: 40، الترجمة رقم (80).
(2) الوسائل 18: 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث (52).
مقدمة لجنة التحقيق 13

المستقلة ك‍ " الكافي " و " من لا يحضره الفقيه " و " التهذيب "
و " الاستبصار "، ودونت مجاميع فقهية مستقلة أيضا، وقد دونت هذه
المجاميع على نحوين:
الأول - الكتب الفقهية التي اقتصرت على تلخيص الروايات
وحذف أسانيدها من دون تفريع فروع زائدة على ما ورد فيها
ك‍ " المقنع " و " الهداية " للشيخ الصدوق قدس سره و " المقنعة " للشيخ
المفيد قدس سره و " النهاية " للشيخ الطوسي قدس سره وغيرها.
الثاني - الكتب التي لم تقتصر على ذلك، بل أخذت تتوسع في
التفريع والاستنباط بالاستعانة بالطرق الاجتهادية الصحيحة.
وكان الرائد لهذه الطريقة القديمان: الحسن بن أبي عقيل العماني،
وابن الجنيد أبو علي الإسكافي (1)، وهما من أعلام القرن الرابع، فقد ألف
الأول كتابه " المتمسك بحبل آل الرسول "، والثاني " تهذيب الشيعة
لأحكام الشريعة " و " المختصر الأحمدي ".
فكان لهذين الفقيهين الدور الفعال والمؤثر في إشاعة الطريقة
الاجتهادية وإن كان المعروف عن ابن الجنيد أنه كان يعمل بالقياس،
إلا أن لأهل التحقيق بحثا حول النسبة ومفادها لا يسعنا التعرض له فعلا.
وقد حذا حذوهما الشيخ المفيد قدس سره فإنه وإن كان ينتقد ابن
الجنيد أخذه بالقياس حسبما نسب إليه إلا أن طريقة تفكيره تدل على
تبنيه للخط الاجتهادي وإن كان كتابه " المقنعة " على منهج الكتب المقتصرة

(1) انظر الفوائد المدنية للاسترآبادي: 30، والفوائد الرجالية للعلامة بحر العلوم
2: 211 - 220.
مقدمة لجنة التحقيق 14

على متون الروايات كما تقدم.
وتمخضت طريقة المفيد الاجتهادية عن شخصيات فقهية كان لها
دور كبير في تطوير الفقه الإمامي، كالسيد المرتضى والشيخ
الطوسي قدس سرهما، فقد ألف السيد المرتضى كتابه " الذريعة " في أصول
الفقه، و " الانتصار " و " الناصريات " وغيرهما في الفقه.
وأما شيخ الطائفة الطوسي قدس سره فقد كان دوره في ترسيخ قواعد
الفقه الاجتهادي من حيث النظرية والتطبيق أكثر من غيره، فقد ألف
كتابه " العدة " في أصول الفقه، و " المبسوط " في الفقه، وقد صرح بهذا
الانقلاب في مقدمة " المبسوط ".
واستقرت هذه الطريقة بين الفقهاء وأخذت تتكامل رغم العقبات
العديدة التي واجهتها.
وكان للفقهاء الكبار أمثال ابن إدريس والمحقق والعلامة والشهيدين
والمحقق الثاني ومن تأخر عنه الدور الكبير في ترسيخ الفقه الاجتهادي،
وخاصة الوحيد البهبهاني (م 1205) الذي كان له الدور المشرف
في القضية بعد أن حاولت الطريقة الأخبارية اكتساح الطريقة الاجتهادية
من جذورها، ثم تلاه تلامذته وتلامذة تلامذته إلى أن وصل الدور
إلى العلامة المؤسس الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره.
وليس من الجزاف إذا قلنا: إن ما قام به الشيخ الأنصاري قدس سره
يشابه (1) ما قام به الشيخ الطوسي قدس سره، فإن الشيخ الطوسي قام

(1) هناك أوجه شبه عديدة بين هاتين الشخصيتين العظيمتين تحتاج إلى دراسة
مستقلة، منها الدقة التامة في مراعاة المثل الأخلاقية في بحوثهما ومناقشاتهما.
مقدمة لجنة التحقيق 15

بانقلاب في الأصول والفقه بصورة عامة في أوائل تأريخ الفقه الاجتهادي،
والشيخ الأنصاري قام بانقلاب في الأصول والفقه، وخاصة الفقه المعاملي،
بعد حوالي ثمانية قرون.
إن الفقه وإن كان قد قطع شوطا كبيرا في القرن الثالث عشر بيد
شيخ الفقهاء صاحب الجواهر قدس سره حيث إن كتابه احتوى من
التحقيقات القيمة ما لا يستغني عنه فقيه حتى في اليوم الحاضر، إلا أن
ما أتى به الشيخ الأنصاري قدس سره في خصوص الفقه المعاملي لم يأت به
فقيه من قبله، ولسنا نريد أن نقول: إن كل ما أتى به جديد، فإن ذلك
غير صحيح، كيف؟ وقد استفاد ممن تقدمه من الفقهاء، وهذه سنة العلم
يأخذ المتأخر من المتقدم ويبني عليه، إلا أننا نقول: إن مجموع ما دونه
في خصوص الفقه المعاملي من حيث المجموع وبهذه الكيفية والسعة
والعمق، لم يأت به من سبقه، وهذا الأمر يحتاج إلى دراسة معمقة ليس
بإمكاننا الدخول فيها - فعلا - ولكن سنقوم فيما يلي بمقارنة سريعة
وخاطفة بين كتابي المكاسب والجواهر الذين لا يفصل بينهما فاصل
زمني يعتد به، ونشير إلى بعض الفوارق بينهما.
وهذه الفوارق وإن كانت فوارق كيفية إلا أنها ربما تحكي
عن فوارق جوهرية أيضا.
ومهما يكن فالفوارق التي يمكن ذكرها فعلا هي:
أولا - في كيفية الدخول في الموضوع:
إن الشيخ الأنصاري قدس سره حينما يريد الدخول في بحث ما، يقسم
- غالبا - الموضوع الذي يريد أن يبحث فيه إلى أقسامه، ثم يدخل
مقدمة لجنة التحقيق 16

في كل قسم بالترتيب، وقلما نجده يدخل في موضوع مهم من دون مقدمة.
نعم قد يدخل في موضوع ما بالمناسبة واستطرادا ومن دون ذكر عنوان
فيما إذا لم يكن من صميم الموضوع.
وأما صاحب الجواهر رغم أن كتابه شرح للشرائع، وهو من أحسن
الكتب الفقهية تنظيما وتبويبا، لكن لما كان الفاصل الزمني بين تأليف
الشرائع وتأليف الجواهر كبيرا، فإن ذلك يقتضي تضخم المطالب الفقهية
وتوسعها وتكاملها، فلذلك كان اللازم على صاحب الجواهر أن يتعرض
للموضوعات التي لم يتعرض لها في الشرائع، وقد فعل ذلك، لكنه ربما
دخل في البحث فيها من دون أن يلتفت إلى كيفية دخوله فيها إلا أهل
الدقة والنظر.
فمثلا: أن الشيخ الأنصاري قدس سره حينما ذكر النوع الرابع مما يحرم
الاكتساب به، قال:
" النوع الرابع: ما يحرم الاكتساب به لكونه عملا محرما في نفسه،
وهذا النوع وإن كان أفراده هي جميع الأعمال المحرمة القابلة لمقابلة
المال بها في الإجارة والجعالة وغيرهما إلا أنه جرت عادة الأصحاب
بذكر كثير مما من شأنه الاكتساب به من المحرمات، بل وغير ذلك مما
لم يتعارف الاكتساب به، كالغيبة والكذب ونحوهما، وكيف كان فنقتفي
آثارهم... " ثم ذكر الموارد واحدا واحدا إلى أن وصل إلى الغيبة
فقال:
" الرابعة عشر: الغيبة حرام بالأدلة الأربعة... " فيدخل في البحث
ابتداء من بيان الحكم، ثم الموضوع، ثم الشرائط، ثم المستثنيات.
مقدمة لجنة التحقيق 17

وأما صاحب الجواهر قدس سره فإنه لما لم يتعرض المحقق في الشرائع
لموضوع الغيبة، للسبب الذي ذكره الشيخ، وهو: أنه لم يتعارف أن
يقابل بالمال، فكر في منفذ يدخل منه في البحث عن الغيبة، فالتجأ إلى
بحث " الهجاء " الذي ذكره صاحب الشرائع لتعارف أخذ الجعل والأجر
عليه، فلما وصل - صاحب الجواهر - في بحثه إلى عدم حرمة هجاء
الكافر و... قال: " وأولى من ذلك غيبتهم... " فدخل في بحث الغيبة من
هذا المنفذ، فبحث في حكمها، ثم في موضوعها، ثم في مستثنيات
الغيبة.
فنرى أن صاحب الجواهر دخل في هذا الموضوع المهم من دون
أن يعنون له عنوانا مستقلا، ولذلك لا يلتفت إلى كيفية وروده ومحله
إلا من تتبع الموضوع بدقة.
وما أكثر الموارد من هذا النمط في الجواهر.
ثانيا - في تنظيم البحث واستيعاب جوانبه:
إن الشيخ الأنصاري قدس سره حينما يريد الدخول في البحث عن
موضوع ما يدخل فيه على أساس منهج معين قد يعلنه قبل الدخول
في البحث، وقد لا يعلنه ولكن يلتزم به في بحثه، وعلى أي حال
فهو يسير في البحث طبقا لمنهجية معينة، فلا يرجع إلى المرحلة
التي اجتازها، نعم قد يكر في بحثه مع مراعاة المرحلية - أي في المرحلة
الواحدة -.
وأما صاحب الجواهر فإنه لم يراع المرحلية في بحثه، فلذلك
مقدمة لجنة التحقيق 18

نراه يرجع إلى المرحلة التي اجتازها، ونرى في أبحاثه تموجا وظاهرة
الكر والفر العلمي الكثير، وهذا مما يؤدي إلى صعوبة فهم الجواهر
بخلاف المكاسب، فإنه مع غض النظر عن مستوى البحث العلمي الدقيق
واحتياجه إلى الدقة والفهم، لا يصعب التوصل إلى ما يرومه الشيخ
غالبا.
ولنذكر بيع الفضولي مثالا لهذه المقارنة (1):
عقد الفضولي في المكاسب:
إن الشيخ الأنصاري قدس سره حينما أراد الدخول في بيع الفضولي
دخل فيه على النحو التالي:
1 " - فإنه قال إن من شرائط المتعاقدين أن يكونا مالكين أو مأذونين
من المالك أو الشارع، ولذلك لا يترتب على عقد الفضولي ما يترتب
على عقد غيره من اللزوم. ومن هنا دخل في بحث " عقد الفضولي ".
2 " - ثم بين أن مورد البحث هو " العقد " لا " الإيقاع ".
3 " - ثم عرف الفضولي.
4 " - ثم قسم البحث وقال: إن الفضولي قد يبيع للمالك وقد يبيع
لنفسه، وعلى الأول قد لا يسبقه منع من المالك وقد يسبقه. فهنا مسائل
ثلاث:
الأولى: أن يبيع للمالك مع عدم سبق منع منه.
5 " - واستدل له بعدم اشتراط سبق الإذن في صحة العقد،

(1) كانت المقارنة أوسع مما هو مذكور إلا أننا اختزلناها مخافة التطويل.
مقدمة لجنة التحقيق 19

وأن مقتضى الإطلاقات عدم الاشتراط، بل تكفي الإجازة اللاحقة.
6 " - ثم ذكر الاستدلال برواية عروة البارقي وصحيحة محمد
ابن قيس وناقشهما.
7 " - ثم نقل الاستدلال على الصحة بفحوى صحة عقد النكاح
من الفضولي في الحر والعبد، واستشكل فيه بأن الأمر على عكس
ما استدل به، لأنه إذا صح في البيع فيصح في النكاح بطريق أولى،
لأنه أولى أن يحتاط فيه، ثم بين وجه اقتضاء الاحتياط صحة نكاح
الفضولي.
8 " - ثم ذكر عدة روايات مؤيدة لصحة الفضولي.
9 " - ثم استعرض استدلالات القائلين ببطلان الفضولي، وناقشها.
10 " - ثم دخل في المسألة الثانية وهي: أن يسبق العقد منع
المالك له.
11 " - ثم دخل في المسألة الثالثة، وهي: أن يبيع الفضولي لنفسه.
12 " - ثم ذكر أمرين:
الأول - أنه لا فرق على القول بصحة بيع الفضولي بين كون مال
الغير عينا أو دينا في ذمة الغير.
الثاني - أنه لا فرق فيما ذكر من أقسام بيع الفضولي بين البيع
العقدي والمعاطاتي بناء على إفادة المعاطاة الملك.
13 " - ثم دخل في البحث عن الإجازة والرد، وقسم البحث
إلى البحث في حكمها وشروطها، والبحث في المجيز، ثم البحث في المجاز.
14 " - أما بالنسبة إلى حكمها فذكر القولين المعروفين، وهما:
مقدمة لجنة التحقيق 20

الكشف والنقل، وقال: إن الأول هو المشهور، ثم ذكر استدلال جامع
المقاصد عليه، وأن العقد سبب تام وإنما يعلم تماميته في الفضولي بعد
العلم برضى المالك، فالإجازة تكون كاشفة عن تمامية سببية العقد.
ثم ناقشه: بأن لازم صحة عقد الفضولي قيام الإجازة مقام
الرضى المقارن، فيكون لها دخل في تمامية السبب.
15 " - ثم نقل كلام القائلين بأن الشرط هو لحوق الإجازة، وصفة
اللحوق مقارنة للعقد - وممن اختار هذا الرأي صاحب الجواهر قدس سره -
ثم ناقشه.
16 " - ثم ناقش استدلال فخر الدين - وهو أن الإجازة لو لم تكن
كاشفة لزم تأثير المعدوم في الموجود - بأنه كما أن الزمان يكون ظرفا
للعقد لا قيدا له فكذلك الإجازة، فكما إذا أمضى الشارع العقد حصل
النقل من زمانه، فكذا إذا أمضى الإجازة حصل النقل من زمانها.
17 " - ثم قال: إن كاشفية الإجازة تتصور على أنحاء ثلاثة:
أ - أن تكون كاشفة كشفا حقيقيا والتزام كون الإجازة فيها
شرطا متأخرا كما هو المشهور.
ب - أن تكون كاشفة كشفا حقيقيا مع كون الشرط تعقب العقد
بالإجازة، لا نفس الإجازة.
ج - أن تكون كاشفة كشفا حكميا، وهو إجراء أحكام الكشف
بقدر الإمكان مع عدم تحقق الملك واقعا إلا بعد الإجازة.
ثم قال: إن الأنسب بالقواعد والعمومات هو النقل، ثم الكشف
الحكمي.
مقدمة لجنة التحقيق 21

وأما الأخبار فيظهر منها الكشف، فلا بد من حملها على الكشف
الحكمي....
18 " - ثم ذكر الثمرات بين القول بالنقل والكشف.
19 " - ثم ذكر شرائط الإجازة ضمن التنبيه على أمور.
20 " - ثم بحث حول المجيز وشرائطه ضمن بيان أمور.
21 " - ثم دخل في البحث حول المجاز، ومنه دخل في موضوع
ترتب العقود.
22 " - وبعد ذلك دخل في موضوع أحكام الرد، ثم بحث في
بعض فروعات المسألة.
عقد الفضولي في الجواهر:
وأما صاحب الجواهر فقد دخل في البحث واستمر فيه على النحو
التالي:
1 " - فإنه بعدما نقل كلام المحقق قدس سره - بأن من شرائط المتعاقدين
أن يكون البائع مالكا أو ممن له أن يبيع عن المالك كالأب والجد للأب
والوكيل... فلو باع ملك غيره وقف على إجازة المالك أو وليه على
الأظهر... - قال صاحب الجواهر مكملا العبارة: "... الأشهر بل المشهور،
بل قيل: إنه كاد يكون إجماعا... " ثم ذكر الإجماعات المنقولة.
2 " - ثم استدل له: بأن عقد الفضولي - بعد رضى المالك -
مندرج في البيع والعقد والتجارة عن تراض، فيشمله ما دل على صحتها
ولزومها.
وعلى فرض الشك في اشتراط مباشرة المالك للعقد فيمكن التمسك
مقدمة لجنة التحقيق 22

في نفيه بإطلاق * (أوفوا...) * ونحوه.
3 " - ثم فرق بين عقد الفضولي وعقد المكره.
4 " - ثم استدل على لزوم مراعاة مباشرة المالك للعقد بلزوم كون
العقد بلفظ الإيجاب والقبول، حيث يكشف ذلك عن رضى المالك بنقل
المال عنه إلى المشتري، ثم ناقشه.
5 " - ثم نقل استدلالين على صحة الفضولي وناقشهما، وهما:
الف - إن عقد الفضولي كان متعارفا عند نزول الآية - " أوفوا... " -
فتشمله، ورده بمنع ذلك، وعلى فرض الشك تبقى أصالة عدم نقل المال
بحالها.
ب - إن السيرة المستمرة تدل على وقوع مثل هذا العقد في ذلك
الزمان فتشمله الآية.
ورد الاستدلال - أيضا - بأنه لو كانت السيرة ثابتة لما كانت
حاجة إلى اندراج مثل هذا العقد في الآية، لأنها تكون دليلا مستقلا،
وعلى فرض ثبوتها فإن منشأها هو التسامح.
6 " - ثم استدل على صحة عقد الفضولي في البيع بما دل على
صحة عقده في النكاح، لأن صحته في البيع أولى من صحته في النكاح،
لكونه في الفروج والأنساب، وهي تحتاج إلى الاحتياط.
(راجع في هذا الموضوع ما تقدم في كلام الشيخ قدس سره).
7 " - ثم استدل على صحة عقد الفضولي بقضية عروة البارقي،
وصحيحة محمد بن قيس ودفع عنهما الإشكالات التي أثيرت حولهما،
وذكر روايات عديدة من أبواب مختلفة دالة على المطلوب أو مؤيدة له.
مقدمة لجنة التحقيق 23

8 " - ثم نقل القول بالبطلان عن الشيخ وابني زهرة وإدريس،
وفخر المحققين والمحدث البحراني، وذكر استدلالاتهم ثم ناقشها.
9 " - ثم دخل في البحث في الإجازة وأنها هل هي ناقلة
أو كاشفة من دون ذكر مقدمة، فقال: ثم إن الأقوى كون الإجازة
المتعقبة للعقد وغيره مما يعتبر في الصحة كاشفة، وفاقا لصريح الشهيدين...
ثم استدل للقول بالكشف الذي اختاره، إلى أن قال:
وحاصل الكلام: أن الوجه في الكشف أحد أمور ثلاثة:
الأول - أنه من قبيل الأوضاع الشرعية على معنى أن الشارع قد
جعل نقل المال في الزمان السابق عند حصول الرضى في المستقبل.
الثاني - أن يكون الرضى المتأخر مؤثرا في نقل المال في السابق.
الثالث - وهو التحقيق أن يكون الشرط حصول الرضى ولو في
المستقبل، وهو حاصل عند العقد، ولا يكفي فيه الرضى التعليقي، بمعنى
أنه لو علم لرضى، بل لا بد من العلم بحصوله حين العقد.
10 " - ثم ذكر الثمرة بين القولين: الكشف والنقل، ودخل فيه من
دون تمهيد.
11 " - ثم دخل في البحث عن كيفية تحقق الإجازة، وأن السكوت
هل يدل عليه أو لا؟ فاختار عدمه وأنه لا بد من دال عليه من لفظ
أو قول، ثم دخل في بعض فروعات المسألة وعقد المكره لو تعقبه الرضى.
12 " - ثم دخل في البحث عن اشتراط أن يكون للعقد مجيز في
الحال، فإنه دخل فيه من دون تمهيد أيضا.
ثم ناقش ذلك واختار عدم الاشتراط.
مقدمة لجنة التحقيق 24

13 " - وكذا دخل في البحث عن عدم اعتبار قصد الفضولية في
صحة عقد الفضولي، ثم عن اعتبار قصد الصحة وعدمها.
14 " - ثم دخل في البحث عن رد المالك ورجوعه إلى الفضولي
لو دفع ماله إلى المشتري...
15 " - وبعد ذلك بحث عن بيع ما يملك وما لا يملك...
مقارنة بين الدراستين:
وبعد المقارنة بين ما تقدم من الكتابين نلاحظ:
1 " - أن الشيخ قدس سره بين في صدر المسألة أن مورد البحث هو
مطلق عقد الفضولي لا خصوص بيعه، كما أن البحث في عقده لا في
إيقاعه، للاتفاق على بطلانه.
أما صاحب الجواهر قدس سره فلم يتعرض لذلك في صدر المسألة،
وإنما تعرض له في خلال أبحاثه.
2 " - أن الشيخ قدس سره عرف الفضولي في أول بحثه، ولم يعرفه
صاحب الجواهر قدس سره.
3 " - أن الشيخ قدس سره قسم الفضولي إلى أقسام ثلاثة، فبحث في
كل قسم في مسألة مستقلة، لكن لم يفعل صاحب الجواهر قدس سره ذلك،
بل لم يذكر إلا المسألة الأولى مما ذكره الشيخ، وهي المسألة المتعارفة في
الفضولي.
4 " - أن الشيخ قدس سره راعى الترتيب في الاستدلال فبدأ بالعمومات
ثم بقضية عروة البارقي، ثم برواية محمد بن قيس، ثم بالأولوية
مقدمة لجنة التحقيق 25

(أي أولوية صحة البيع من النكاح الذي ثبت صحة الفضولية فيه)، ثم
ناقش غير العمومات، ثم ذكر استدلال القائلين بالبطلان ثم ناقشهم.
أما صاحب الجواهر فقد ذكر استدلاله على صحة الفضولي، ثم
ذكر استدلالا على البطلان وأجابه، ثم نقل استدلالين على الصحة
وناقشهما، ثم استدل بالأولوية (أولوية صحة البيع من النكاح في
الفضولي)، ثم بقضية عروة البارقي، ثم بصحيحة محمد بن قيس، ثم
بروايات أخرى، ثم أجاب عن المناقشات.
ثم نقل القول بالبطلان مع أدلته ثم ناقشها.
وهنا تبدو ظاهرة التموج في كلام صاحب الجواهر، فلاحظ وتأمل.
5 " - قسم الشيخ البحث في الإجازة إلى البحث في حكمها، ثم
في المجيز ثم في المجاز.
وأما صاحب الجواهر فقد دخل في الموضوع بصورة فجائية وقال:
" ثم إن الأقوى كون الإجازة المتعقبة للعقد وغيره مما يعتبر في
الصحة كاشفة... " من دون أن يقسم البحث إلى البحث في حكم
الإجازة والمجيز والمجاز...
6 " - أن الشيخ قدس سره دخل في البحث في الإجازة وشرائطها، ثم
في المجيز وشرائطه بصورة مستقلة وبترتيب.
أما صاحب الجواهر فلم يبحث إلا في بعض شروط الإجازة
والمجيز بصورة متفرقة.
وموارد كثيرة أخرى.
ويمكننا أن نقول باختصار: إنه لم يتوسع أحد ممن تقدم على
مقدمة لجنة التحقيق 26

الشيخ قدس سره من الفقهاء في الفقه المعاملي وخاصة في بيع الفضولي
كما توسع فيه الشيخ قدس سره، اللهم إلا المحققين: القمي - في الغنائم -
والكاظمي - في المقابس -، ومع ذلك فقد قدر لأن يكون كتاب
المكاسب هو الحائز لقصب السبق، ولذلك صار مطمح أنظار الفقهاء
والمحققين إلى يومنا هذا.
ثالثا - كيفية التعبير:
ومن الفوارق الموجودة بين كتابي الجواهر والمكاسب هو الفرق في
التعبير، فإن تعابير المكاسب خالية من التعقيد اللفظي والتعبيري - إلى
حد ما - فهي في حد ذاتها قابلة للفهم لمن كان على مستوى المكاسب
من الجانب العلمي، بخلاف الجواهر، فإن عباراته مغلقة في كثير من
الأحيان، ولذلك تحتاج إلى تأمل ودقة كثيرين لفهمها، ولسنا نزعم
براءة كتب الشيخ عن الإغلاق في التعبير تماما، وإنما المقصود بيانه
هو أن الصفة الغالبة في تعبير الشيخ هي السلاسة والوضوح بخلاف
عبارات الجواهر.
رابعا - الاقتباس من الآخرين:
قد جرت عادة بعض على الاقتباس من عبارات الآخرين وإشراب
مقصودهم فيها، ولكن برزت هذه الظاهرة في الجواهر بصورة واضحة،
فإننا نرى صاحب الجواهر قدس سره قد ذكر عدة أسطر أو صفحة أو أكثر
من كتب أخرى - كالمسالك وكشف اللثام والرياض وغيرها - من دون
مقدمة لجنة التحقيق 27

تصريح بذلك، بينما نرى أن الشيخ قدس سره لم يتخذ هذه الطريقة مطلقا،
بل اعتمد على عباراته في بيان مقصوده.
والطريقة التي سلكها صاحب الجواهر توقع - كثيرا ما - القارئ
في إبهامات وإشكالات عديدة.
كانت هذه أهم الفوارق الكيفية التي سمحت لنا الظروف بالتطرق
لها، وبقي الأهم منها، وهي الفوارق الجوهرية التي تجعل ميزة للمكاسب
على الكتب المتقدمة عليه، كالاعتماد على العرف والعرفيات في فهم كثير
من موضوعات الأحكام والنصوص، وكتبيين المفاهيم الحقوقية، مثل
الحكم والحق والمال والمالية ونحوها، وإعطاء صيغة عامة للبحث عن
العقد، بحيث يشمل غير البيع، وأمور أخرى نسأل الله تعالى أن يوفقنا
للبحث فيها في فرصة أخرى.
مقدمة لجنة التحقيق 28

تحقيق كتاب المكاسب
انطلاقا مما قدمناه في بيان أهمية كتاب المكاسب اهتمت لجنة
التحقيق - منذ بدء عملها - بتحقيق الكتاب وتقديمه للمراكز العلمية،
ولذلك قمنا بتحضير مقدمات العمل، وأول ما قمنا به هو تحضير النسخ
التي يمكن الاعتماد عليها في تحقيق الكتاب، فكانت كالآتي:
أولا - مصورة النسخة الأصلية:
إننا لم نعثر - مع الأسف - إلى الآن على مخطوطة المؤلف في
المكاسب إلا على قسم الخيارات منه، حيث توجد نسخته في مكتبة
الإمام الرضا عليه السلام في مشهد برقم (11129) وبمقياس (14 × 5 / 9)،
وقدمت لنا مصورتها إدارة المكتبة مشكورة.
والنسخة جيدة الخط، خالية من التشويش الموجود في بعض
ما كتبه قدس سره كالصلاة والوصايا والنكاح والقضاء ونحوها.
ورمزنا لهذه النسخة برمز " ق ".
مقدمة لجنة التحقيق 29

ثانيا - نسخة خطية:
وهي نسخة كاملة تحتوي على المكاسب المحرمة والبيع والخيارات،
تمتاز بالدقة ووضوح الخط، ويظهر منها أنها كتبت في حياة
المؤلف قدس سره، حيث دعى له كاتب النسخة بالبقاء في آخر قسم البيع
ضمن التعريف بالمؤلف والكتاب، فقال: " قد تم بفضله وعونه المجلد
الأول من هذه النسخة الشريفة ويتلوه إن شاء الله، الثاني في الخيارات،
وهو مع أنه قد جمع الأهم من القواعد وشمل الأنفع والأصح من المسائل
والأصول والشوارد، وأودع فيه من الثمرة كل لباب، ومن النكت
ما لا يوجد منتظما في كتاب، قد تضمن من التحقيق كل شارد، ومن
التدقيق كل وارد، واندرج فيه من النوادر ما حلى وضعها، وحسن
طرزها، يشهد به من مارس الصناعة، ويشاهده من تتبع أقاويل الجماعة
وكتب العلماء الأجلة، بل هو مع أنه كثيرا مقتصر على مخزون الخاطر
ومقترح القريحة، مشتمل على تفصيل مجمل، وبسط موجز، وتقرير
أسئلة، وتحرير أجوبة، ومنع اعتراضات، ودفع معارضات، وكشف
شبهات، وتحقيق حق، وإبطال باطل، ففيه فوائد باهرة وشواهد على
صدق المدعى ظاهرة، يكاد من قوة الحدس يستشفق الواقع من وراء
حجابه ويستشهد المستور من وراء ستره ونقابه، فهو حينئذ قد بلغ
الغاية القصوى والدرجة العليا، فلله دره دام ظله حيث أحسن وأجاد، نفعنا
الله بوجوده وإفادته، وسائر المحصلين، بمحمد وآله الأمجاد، والحمد لله
على فضل الإتمام، والصلاة والسلام على النبي وآله أئمة الأنام.... ".
مقدمة لجنة التحقيق 30

وأصل النسخة موجودة في مكتبة مدرسة الفيضية في قم المقدسة
برقم (986) وبمقياس (15 × 21 سم) في (773 صفحة، وفي كل
صفحة 25 سطرا)، تفضلت بمصورتها إدارة المكتبة مشكورة.
ورمزنا لهذه النسخة برمز " ف ".
ثالثا - نسخة حجرية:
والنسخة الثالثة التي اعتمدنا عليها هي نسخة حجرية مطبوعة
عام (1286) أي خمس سنوات بعد وفاة المؤلف قدس سره، والطبعة في حد
ذاتها جيدة، وتمتاز النسخة التي اعتمدنا عليها أنها كانت بيد آية الله
السيد علي النوري قدس سره (م؟؟؟؟) الذي كان من العلماء المختصين
بتدريس المكاسب والرسائل في النجف الأشرف، وله تصحيحات على
النسخة، وسمعت أحد العلماء المبرزين الذين درسوا عنده كتاب المكاسب
يقول: إنه كان يصحح كتابه المكاسب على نسخة مصححة من قبل
المؤلف إما مع الواسطة أو بدونها - والترديد من الناقل دام ظله -.
وقد قدم لنا مصورة هذه النسخة سماحة العلامة الأستاذ السيد
عزيز الطباطبائي دامت بركاته مشكورا.
ورمزنا لهذه النسخة برمز " ن ".
رابعا - نسخة حجرية ثانية:
وهي مطبوعة عام (1299) فيها تصحيحات ونسخ بدل مطبوعة،
قدمت لنا مصورتها مكتبة مدرسة ولي العصر عجل الله فرجه في خوانسار
مقدمة لجنة التحقيق 31

مشكورة.
ورمزنا لها برمز " خ ".
خامسا - نسخة حجرية ثالثة:
وهي مطبوعة عام (1300) فيها بعض التصحيحات ونسخ بدل،
لكنها بعد الطبع، والظاهر أنها مقابلة مع نسخة أو نسخ أخرى، قدمت
لنا مصورتها مكتبة ولي العصر عجل الله فرجه أيضا.
ورمزنا لها برمز " م ".
سادسا - نسخة حجرية رابعة:
وهي مطبوعة عام (1304) وهذه الطبعة تمتاز بقلة الأخطاء،
وعليها بعض التصحيحات ونسخ بدل.
ورمزنا لها برمز " ع ".
سابعا - نسخة حجرية خامسة:
وهي مطبوعة عام (1325) في إصفهان في مجلدين، تحت عنوان
المتاجر، وقد قام بعض الفضلاء بتصحيح هذه النسخة ومراجعة المصادر
كما جاء في نهاية المجلد الأول منه.
ورمزنا لهذه النسخة برمز " ص ".
مقدمة لجنة التحقيق 32

ثامنا - نسخة حجرية سادسة:
وهي النسخة المتداولة والمعروفة بطبعة الشهيدي، وإنما جعلناها
ضمن النسخ لكثرة تداولها، وليعرف مواقع الاختلاف بينها وبين سائر
النسخ.
ورمزنا لها برمز " ش ".
هذا وقد وصلتنا بعض التصحيحات المتفرقة من بعض العلماء والفضلاء،
ولكن كان المعول على النسخ وجعلنا هذه كمؤيدات وقرائن عليها.
ونحن بدورنا نشكر جميع من اهتم بهذا الأمر وشارك فيه بأي
نحو كان.
طريقتنا في التحقيق:
قبل التطرق لبيان كيفية تحقيق الكتاب نرى من الضروري أن
نشير إلى بعض النقاط تبصرة للقراء الكرام.
1 " - إننا اعتمدنا في تحقيق الكتاب على طريقة التلفيق بين
النسخ، لأننا لم نعثر على نسخة الأصل إلا في قسم الخيارات، ولذلك
كان أكثر سعينا هو أن نستخرج متنا صحيحا من بين النسخ، ونشير
إلى ما يخالفه في الهامش إلا إذا أحرزنا أن الكلمة أو العبارة مصححة
- في بعض النسخ - اجتهادا، ولم تؤيده سائر النسخ، فإننا اكتفينا
بالإشارة إليها في الهامش.
2 " - لما كانت أكثر منقولات الشيخ قدس سره - سواء كانت روايات
أو عبارات الفقهاء - لم تطابق مورد النص بالضبط فلذلك لم نعبأ
مقدمة لجنة التحقيق 33

بالخلاف الموجود بين ما نقله الشيخ وما هو موجود في المصدر المنقول
منه إلا إذا كان مهما أو اختلفت نسخ الكتاب فيه.
3 - إننا لم نضف عناوين إضافية في متن الكتاب، بل جعلنا له
عناوين جانبية تسهيلا للوصول إلى جزئيات الموضوع.
البدء بالعمل:
ولما تهيأت مقدمات العمل قمنا بتنظيم اللجان اللازمة لهذا الأمر،
فكانت كالآتي:
أولا - لجنة المقابلة:
تكفلت هذه اللجنة بمقابلة النسخ بعضها مع بعض وضبط موارد
الاختلاف بينها.
وقد تمت المقابلة مرات عديدة، قبل تقويم النص وحينه وبعد
صف الحروف عدة مرات.
ثانيا - لجنة الاستخراج:
كانت مهمتها استخراج الآيات والأحاديث والأقوال، وقد قامت
اللجنة باستخراج الأحاديث من الكتب الأربعة والوسائل، ولكننا قررنا
أخيرا - تجنبا من تكثيف الهوامش - الاكتفاء بالوسائل.
هذا وقد شارك في هذه اللجنة كل من:
1 - حجة الإسلام والمسلمين السيد يحيى الحسيني.
مقدمة لجنة التحقيق 34

2 - حجة الإسلام والمسلمين الشيخ مرتضى الواعظي.
3 - حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد مير مهدي.
ثالثا - لجنة المراجعة:
قامت هذه اللجنة بمراجعة الاستخراجات للتأكد من صحتها، وقد
ضمت هذه اللجنة كلا من:
1 - حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد باقر حسن پور.
2 - حجة الإسلام والمسلمين الشيخ رحمة الله الرحمتي.
3 - حجة الإسلام والمسلمين الشيخ مرتضى الواعظي.
رابعا - لجنة تقويم النص:
تكفلت هذه اللجنة بتقويم النص وضبطه، وتألفت هذه اللجنة من:
1 - حجة الإسلام والمسلمين الشيخ رحمة الله الرحمتي.
2 - حجة الإسلام والمسلمين الشيخ محمد باقر حسن پور.
3 - حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد جواد الجلالي.
4 - وكنت أحد أعضاء هذه اللجنة أيضا.
هذا وقد قام حجة الإسلام والمسلمين السيد منذر الحكيم بتقطيع
متن الكتاب وتجزئته.
ولا بد من الإشارة إلى أن اللجان المتقدمة إنما تشكلت بالنسبة
إلى المجلد الأول من المكاسب المحرمة، وسوف نعلن عن أي تغيير
يحصل في اللجان في المجلدات الآتية إن شاء الله تعالى.
مقدمة لجنة التحقيق 35

وختاما نقدم شكرنا وتقديرنا لكل من ساهم في إحياء هذا الأثر
القيم ممن ذكرناهم وغيرهم، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياهم لإحياء
فقه أهل البيت عليهم السلام، إنه سميع مجيب.
مسؤول لجنة التحقيق
محمد علي الأنصاري
مقدمة لجنة التحقيق 36

نماذج مصورة
من النسخ
المعتمد عليها في تحقيق الكتاب
صور النسخ المخطوطة 37

صورة الصفحة الأولى من مخطوطة المؤلف قدس سره في الخيارات
صور النسخ المخطوطة 39

نموذج آخر من مخطوطة المؤلف قدس سره
صور النسخ المخطوطة 40

صورة الصفحة الأخيرة من مخطوطة المؤلف قدس سره.
صور النسخ المخطوطة 41

صورة الصفحة الأولى من النسخة المخطوطة " ف ".
صور النسخ المخطوطة 42

صورة الصفحة الأخيرة من قسم البيع من نسخة " ف "
ويظهر في آخرها الدعاء للمؤلف قدس سره بالبقاء
صور النسخ المخطوطة 43

صورة الصفحة الأخيرة من نسخة " ف "
صور النسخ المخطوطة 44

صورة الصفحة الأولى من النسخة المطبوعة عام 1286
التي رمز لها ب‍ " ن ".
صور النسخ المخطوطة 45

صورة الصفحة الأولى من النسخة المطبوعة عام 1299
التي رمز لها ب‍ " خ "
صور النسخ المخطوطة 46

صورة الصفحة الأولى من النسخة المطبوعة عام 1300
التي رمز لها ب‍ " م "
صور النسخ المخطوطة 47

صورة الصفحة الأولى من النسخة المطبوعة عام 1304
التي رمز لها ب‍ " ع ".
صور النسخ المخطوطة 48

كتاب المكاسب
للشيخ الأعظم أستاذ الفقهاء والمجتهدين
الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره)
1214 - 1281 ه‍
الجزء الأول
اعداد
لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
1

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
3

في المكاسب
وينبغي - أولا - التيمن بذكر بعض الأخبار الواردة على سبيل
الضابطة للمكاسب، من حيث الحل والحرمة، فنقول - مستعينا بالله
تعالى -:
روي في الوسائل (1) والحدائق (2) عن الحسن بن علي بن شعبة - في
كتاب تحف العقول (3) - عن مولانا الصادق صلوات الله وسلامه عليه حيث سئل عن

(1) الوسائل 12: 54، الباب 2 من أبواب ما يكتسب به، وأورد قسما منه في
الحديث الأول من الباب الأول من أبواب الإجارة، وقسما آخر في الحديث
الأول من الباب 4 من أبواب النفقات، وقسما ثالثا في الحديث الأول من
الباب 66 من أبواب الأطعمة المحرمة.
(2) الحدائق 18: 67.
(3) تحف العقول: 331، ولما كان الاختلاف بين المصادر التي نقلت الرواية كثيرا،
فلذلك لم نتعرض له إلا إذا كان مهما، نعم سوف نذكر الاختلاف الموجود بين
نسخ الكتاب.
وسنتبع هذه الطريقة في سائر الروايات المنقولة في الكتاب إن شاء الله
تعالى.
5

معايش العباد، فقال: " جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات
فيما بينهم مما يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات، ويكون فيها حلال
من جهة وحرام من جهة:
فأول هذه الجهات الأربع (1) الولاية، ثم التجارة، ثم الصناعات،
ثم الإجارات.
والفرض من الله تعالى على العباد في هذه المعاملات الدخول
في جهات الحلال، والعمل بذلك، واجتناب جهات الحرام منها.
فإحدى الجهتين من الولاية: ولاية ولاة العدل الذين أمر الله
بولايتهم على الناس، والجهة الأخرى: ولاية ولاة الجور.
فوجه الحلال من الولاية، ولاية الوالي العادل، وولاية ولاته بجهة
ما أمر به الوالي العادل بلا زيادة ونقيصة، فالولاية له، والعمل معه،
ومعونته، وتقويته، حلال محلل.
وأما وجه الحرام من الولاية: فولاية الوالي الجائر، وولاية
ولاته، فالعمل (2) لهم، والكسب لهم بجهة الولاية معهم (3) حرام محرم
معذب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير، لأن كل شئ من جهة
المعونة له، معصية كبيرة من الكبائر.
وذلك أن في ولاية الوالي الجائر دروس الحق كله، وإحياء الباطل
كله، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب، وقتل الأنبياء،

(1) الأربع: لم ترد في " ف "، " ن "، " م ".
(2) في " ف "، " خ "، " ع "، " ص ": والعمل لهم.
(3) في " خ " والوسائل: والكسب معهم بجهة الولاية لهم.
6

وهدم المساجد، وتبديل سنة الله وشرائعه، فلذلك حرم العمل معهم
ومعونتهم، والكسب معهم إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم
والميتة.
وأما تفسير التجارات في جميع البيوع ووجوه الحلال من وجه
التجارات التي يجوز للبائع أن يبيع مما لا يجوز له، وكذلك المشتري
الذي يجوز له شراؤه مما لا يجوز:
فكل مأمور به مما هو غذاء للعباد وقوامهم به في أمورهم في
وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره مما يأكلون ويشربون ويلبسون
وينكحون ويملكون ويستعملون من جميع المنافع التي لا يقيمهم غيرها،
وكل شئ يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كله حلال
بيعه وشراؤه وإمساكه واستعماله وهبته وعاريته.
وأما وجوه الحرام من البيع والشراء: فكل أمر يكون فيه الفساد
مما هو منهي عنه من جهة أكله وشربه (1) أو كسبه (2) أو نكاحه أو ملكه
أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شئ يكون فيه وجه من وجوه
الفساد - نظير البيع بالربا أو بيع الميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم
السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير أو جلودها أو الخمر
أو شئ من وجوه النجس - فهذا كله حرام محرم، لأن ذلك كله منهي
عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه، فجميع تقلبه في

(1) في " ف ": أو شربه.
(2) كذا في النسخ والمصادر، ولعل في الأصل " لبسه " كما استظهره الشهيدي رحمه الله
أيضا.
7

ذلك حرام.
وكذلك كل مبيع ملهو به، وكل منهي عنه - مما يتقرب به
لغير الله عز وجل، أو يقوى به الكفر والشرك في جميع وجوه المعاصي،
أو باب يوهن به الحق - فهو حرام محرم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه
وهبته وعاريته وجميع التقلب فيه، إلا في حال تدعو الضرورة فيه إلى
ذلك.
وأما تفسير الإجارات:
فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره - من قرابته
أو دابته أو ثوبه - بوجه (1) الحلال من جهات الإجارات أو (2) يؤجر
نفسه أو داره أو أرضه أو شيئا يملكه فيما ينتفع به من وجوه المنافع
أو العمل بنفسه وولده ومملوكه وأجيره من غير أن يكون وكيلا للوالي
أو واليا للوالي، فلا بأس أن يكون أجيرا يؤجر نفسه أو ولده
أو قرابته أو ملكه أو وكيله في إجارته، لأنهم وكلاء الأجير من عنده،
ليس هم بولاة الوالي، نظير الحمال الذي يحمل شيئا معلوما بشئ
معلوم، فيحمل (3) ذلك الشئ الذي يجوز له حمله بنفسه أو بملكه
أو دابته، أو يؤجر نفسه في عمل، يعمل ذلك العمل [بنفسه أو بمملوكه
أو قرابته أو بأجير من قبله، فهذه وجوه من وجوه الإجارات] (4)

(1) في مصححة " م ": فوجه.
(2) في " م "، " ع "، " ص "، " ش " ونسخة بدل " خ ": أن.
(3) كذا في " خ " وتحف العقول، وفي سائر النسخ والحدائق والوسائل: فيجعل.
(4) أثبتناه من " ش " وهامش " خ " والمصدر.
8

حلال (1) لمن كان من الناس ملكا أو سوقة أو كافرا أو مؤمنا فحلال
إجارته، وحلال كسبه من هذه الوجوه.
فأما وجوه الحرام من وجوه الإجارة: نظير أن يؤاجر نفسه على
حمل ما يحرم أكله أو شربه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشئ
أو حفظه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضرارا، أو قتل النفس
بغير حق (2)، أو عمل (3) التصاوير والأصنام والمزامير والبرابط والخمر
والخنازير والميتة والدم، أو شئ من وجوه الفساد الذي كان محرما
عليه من غير جهة الإجارة فيه.
وكل أمر منهي عنه من جهة من الجهات، فمحرم على الإنسان
إجارة نفسه فيه أو له أو شئ منه أو له، إلا لمنفعة من استأجره (4)
كالذي يستأجر له الأجير ليحمل الميتة ينحيها (5) عن أذاه أو أذى غيره
وما أشبه ذلك - إلى أن قال -:
وكل من آجر نفسه أو ما يملك، أو يلي أمره من كافر أو مؤمن
أو ملك أو سوقة - على ما فسرنا مما تجوز الإجارة فيه - فحلال محلل
فعله وكسبه.

(1) في جميع النسخ الفاقدة للعبارة: " حلالا "، إلا في " ف ".
(2) في المصادر: بغير حل.
(3) في تحف العقول: أو حمل.
(4) كذا في " ن " والحدائق، وفي سائر النسخ والمصادر: استأجرته.
(5) في " خ " وتحف العقول: ينجيها.
9

وأما تفسير الصناعات:
فكل ما يتعلم العباد أو يعلمون غيرهم من أصناف الصناعات
- مثل الكتابة والحساب والنجارة (1) والصياغة والبناء والحياكة والسراجة
والقصارة والخياطة وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني،
وأنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها العباد، منها منافعهم، وبها
قوامهم، وفيها بلغة جميع (2) حوائجهم - فحلال فعله (3) وتعليمه والعمل به
وفيه (4) لنفسه أو لغيره.
وإن كانت تلك الصناعة وتلك الآلة قد يستعان بها على وجوه
الفساد ووجوه المعاصي، وتكون معونة على الحق والباطل، فلا بأس
بصناعته وتعليمه (5) نظير الكتابة التي هي (6) على وجه من وجوه الفساد
تقوية ومعونة لولاة الجور. وكذلك السكين والسيف والرمح والقوس
وغير ذلك من وجوه الآلات التي تصرف (7) إلى وجوه (8) الصلاح

(1) كذا في " ف " و " ش "، وفي سائر النسخ وتحف العقول والحدائق: التجارة.
(2) جميع: ساقطة من " ف "، " م "، " ع "، " ص ".
(3) في " ش ": تعلمه.
(4) وفيه: ساقطة من " ف ".
(5) كذا في " ن " ومصححة " خ " وتحف العقول والحدائق، وفي سائر النسخ: تقلبه.
(6) هي: ساقطة من " ف "، " م "، " ع ".
(7) كذا في " خ " و " ش " و " ف ": ينصرف، وفي " ن "، " ع "، " ص ": تتصرف،
وفي " م ": تنصرف.
(8) في مصححة " خ " وتحف العقول: جهات.
10

وجهات الفساد، وتكون آلة ومعونة عليهما (1) فلا بأس بتعليمه وتعلمه
وأخذ الأجر عليه والعمل به وفيه لمن كان له فيه جهات الصلاح من
جميع الخلائق، ومحرم عليهم تصريفه إلى جهات الفساد والمضار، فليس
على العالم ولا المتعلم إثم ولا وزر، لما فيه من الرجحان في منافع
جهات صلاحهم وقوامهم وبقائهم، وإنما الإثم والوزر على المتصرف فيه (2)
في جهات الفساد والحرام، وذلك إنما حرم الله الصناعة التي هي حرام
كلها التي يجئ منها الفساد محضا، نظير البرابط والمزامير والشطرنج
وكل ملهو به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك من صناعات الأشربة
الحرام (3).
وما يكون منه وفيه الفساد محضا ولا يكون منه ولا فيه شئ
من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه وتعلمه والعمل به وأخذ الأجرة عليه
وجميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات (4) إلا أن تكون صناعة
قد تصرف إلى جهة المنافع (5)، وإن كان قد يتصرف فيها ويتناول بها
وجه من وجوه المعاصي، فلعلة ما فيه (6) من الصلاح حل تعلمه وتعليمه
والعمل به، ويحرم على من صرفه إلى غير وجه الحق والصلاح.

(1) كذا في " ش " والمصادر، وفي سائر النسخ: عليها.
(2) في " ن " و " خ ": بها (خ ل).
(3) كذا في النسخ والمصادر، إلا أن في " ن "، " خ "، " م "، " ع " و " ش " زيادة:
المحرمة (ظ)، وفي " ص ": المحرمة (خ ل).
(4) كذا في مصححة " خ "، وفي " ش " والوسائل وتحف العقول: الحركات كلها.
(5) في مصححتي " خ " و " ف ": جهة المباح.
(6) في " ف "، " خ "، " م " و " ع " وتحف العقول: فلعله لما فيه.
11

فهذا تفسير بيان وجوه اكتساب معايش العباد، وتعليمهم (1) في
وجوه اكتسابهم... الحديث ".
وحكاه غير واحد (2) عن رسالة المحكم والمتشابه (3) للسيد قدس سره.
وفي الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا صلوات الله وسلامه عليه: " اعلم
- رحمك (4) الله - أن كل (5) مأمور به على العباد (6) وقوام لهم في أمورهم من
وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره - مما يأكلون ويشربون ويلبسون
وينكحون ويملكون ويستعملون - فهذا كله حلال بيعه وشراؤه وهبته
وعاريته.
وكل أمر يكون فيه الفساد - مما قد نهي عنه من جهة أكله
وشربه ولبسه ونكاحه وإمساكه بوجه الفساد، مثل الميتة والدم ولحم
الخنزير والربا وجميع الفواحش ولحوم السباع والخمر، وما أشبه ذلك -
فحرام ضار للجسم (7) " (8)، انتهى.
وعن دعائم الإسلام - للقاضي نعمان المصري - عن مولانا

(1) كذا في " ش " والمصادر، وفي سائر النسخ: تعلمهم.
(2) منهم صاحب الوسائل في الوسائل 12: 57، وصاحب الحدائق في الحدائق 18: 70.
(3) رسالة المحكم والمتشابه: 46.
(4) في " ف "، والمصدر: يرحمك.
(5) في " ش ": كل ما هو.
(6) كذا في النسخ، وفي المصدر: " أن كل مأمور به مما هو صلاح للعباد "، وفي
المستدرك (13: 65): " أن كل مأمور به مما هو من على العباد ".
(7) في " ش ": " للجسم، وفساد للنفس "، وفي المصدر: " للجسم، وفاسد للنفس ".
(8) الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السلام: 250.
12

الصادق عليه السلام: " إن الحلال من البيوع كل ما كان حلالا من المأكول
والمشروب وغير ذلك مما هو قوام للناس ويباح لهم الانتفاع، وما كان
محرما أصله منهيا عنه لم يجز بيعه ولا شراؤه " (1)، انتهى.
وفي النبوي المشهور: " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " (2).
إذا عرفت ما تلوناه وجعلته في بالك متدبرا لمدلولاته، فنقول:
قد جرت عادة غير واحد على تقسيم المكاسب إلى محرم ومكروه
ومباح، مهملين للمستحب والواجب، بناء على عدم وجودهما في
المكاسب، مع إمكان التمثيل للمستحب بمثل الزراعة والرعي مما ندب
إليه الشرع، وللواجب بالصناعة الواجبة كفاية، خصوصا إذا تعذر قيام
الغير به، فتأمل.
ومعنى حرمة الاكتساب حرمة النقل والانتقال بقصد ترتب
الأثر (3).
وأما حرمة أكل المال في مقابلها، فهو متفرع على فساد البيع،
لأنه مال الغير وقع في يده بلا سبب شرعي وإن قلنا بعدم التحريم،
لأن ظاهر أدلة تحريم بيع مثل الخمر منصرف إلى ما لو أراد ترتيب
الآثار المحرمة، أما لو قصد الأثر المحلل فلا دليل على تحريم المعاملة

(1) دعائم الإسلام 2: 18، الحديث 23، مع اختلاف يسير.
(2) عوالي اللآلي 2: 110، الحديث 301. سنن الدارقطني 3: 7، الحديث
20.
(3) في " ش ": الأثر المحرم.
13

إلا من حيث التشريع (1).
وكيف كان، فالاكتساب المحرم أنواع، نذكر كلا منها في طي
مسائل:

(1) في " ف ": إلا من حيث التشريع، فيتفرع على إرادة الشرعية.
14

النوع الأول
الاكتساب بالأعيان النجسة عدا ما استثني
وفيه مسائل ثمان:
15

المسألة الأولى
يحرم المعاوضة على بول غير مأكول اللحم (1) بلا خلاف ظاهر،
لحرمته، ونجاسته، وعدم الانتفاع به منفعة محللة مقصودة فيما عدا بعض
أفراده، ك‍ " بول الإبل الجلالة أو الموطوءة ".
" فرعان "
الأول:
ما عدا بول الإبل من أبوال ما يؤكل لحمه المحكوم بطهارتها عند
المشهور، إن قلنا بجواز شربها اختيارا - كما عليه جماعة من القدماء

(1) في " ف ": غير المأكول اللحم.
17

والمتأخرين (1)، بل عن المرتضى دعوى الإجماع عليه (2) - فالظاهر جواز
بيعها. وإن قلنا بحرمة شربها - كما هو مذهب جماعة أخرى (3) لاستخباثها -
ففي جواز بيعها قولان:
من عدم المنفعة المحللة المقصودة فيها، والمنفعة النادرة لو جوزت
المعاوضة لزم منه جواز معاوضة كل شئ، والتداوي بها لبعض الأوجاع
لا يوجب قياسها (4) على الأدوية والعقاقير، لأنه يوجب قياس كل شئ
عليها، للانتفاع به في بعض الأوقات.
ومن أن المنفعة الظاهرة - ولو عند الضرورة المسوغة للشرب -
كافية في جواز البيع.
والفرق بينها وبين ذي المنفعة الغير المقصودة حكم العرف بأنه
لا منفعة فيه.
وسيجئ الكلام في ضابطة المنفعة المسوغة للبيع.

(1) من القدماء: ابن الجنيد على ما في الدروس 3: 17، والسيد المرتضى في
الانتصار: 201،
ومن المتأخرين: ابن إدريس في السرائر 3: 125، والمحقق في النافع (254)،
حيث قال: والتحليل أشبه، والفاضل الآبي في كشف الرموز 1: 436، والمحقق
السبزواري في كفاية الأحكام: 252.
(2) الإنتصار: 201.
(3) كالمحقق في الشرائع 3: 227، والعلامة في المختلف: 686، والشهيد في
الدروس 3: 17.
(4) في أكثر النسخ: قياسه.
18

نعم، يمكن أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله إذا حرم
شيئا حرم ثمنه " (1) وكذلك الخبر المتقدم عن دعائم الإسلام يدل على أن
ضابطة المنع تحريم الشئ اختيارا، وإلا فلا حرام إلا وهو محلل عند
الضرورة، والمفروض حرمة شرب الأبوال اختيارا، والمنافع الأخر
غير الشرب لا يعبأ بها جدا، فلا ينتقض بالطين المحرم أكله، فإن المنافع
الأخر للطين أهم وأعم من منفعة الأكل المحرم، بل لا يعد الأكل
من منافع الطين.
فالنبوي دال على أنه إذا حرم الله شيئا بقول مطلق - بأن قال:
يحرم الشئ الفلاني - حرم بيعه، لأن تحريم عينه إما راجع إلى تحريم
جميع منافعه، أو إلى تحريم أهم منافعه الذي (2) يتبادر عند الإطلاق،
بحيث يكون غيره غير مقصود منه.
وعلى التقديرين، يدخل الشئ لأجل ذلك في ما لا ينتفع به
منفعة محللة مقصودة، والطين لم يحرم كذلك، بل لم يحرم إلا بعض منافعه
الغير المقصودة منه - وهو الأكل - بخلاف الأبوال فإنها حرمت كذلك،
فيكون التحريم راجعا إلى شربها، وغيره من المنافع في حكم العدم.
وبالجملة، فالانتفاع بالشئ حال الضرورة منفعة محرمة في حال
الاختيار لا يوجب جواز بيعه.
ولا ينتقض أيضا بالأدوية المحرمة في غير حال المرض لأجل
الإضرار، لأن حلية هذه في حال المرض ليست لأجل الضرورة،

(1) عوالي اللآلي 2: 110، الحديث 301.
(2) كذا في " ش " ومصححة " خ "، وفي غيرهما: التي.
19

بل لأجل تبدل عنوان الإضرار بعنوان النفع.
ومما ذكرنا يظهر أن قوله عليه السلام في رواية تحف العقول المتقدمة:
" وكل شئ يكون لهم (1) فيه الصلاح من جهة من الجهات " يراد به
جهة الصلاح الثابتة حال الاختيار دون الضرورة.
ومما ذكرنا يظهر حرمة بيع لحوم السباع دون شحومها، فإن
الأول من قبيل الأبوال، والثاني من قبيل الطين في عدم حرمة جميع
منافعها المقصودة منها.
ولا ينافيه النبوي: " لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم
فباعوها وأكلوا ثمنها " (2)، لأن الظاهر أن الشحوم كانت محرمة الانتفاع
على اليهود بجميع الانتفاعات، لا كتحريم شحوم غير مأكول اللحم
علينا.
هذا، ولكن الموجود من النبوي في باب الأطعمة من الخلاف (3):
" إن الله إذا حرم أكل شئ حرم ثمنه " (4).
والجواب عنه - مع (5) ضعفه، وعدم الجابر له سندا ودلالة،

(1) لهم: ساقطة من " ن "، " م "، " ع "، " ص ".
(2) عوالي اللآلي 1: 181، الحديث 240.
(3) كذا في " ف " و " خ "، وفي غيرهما: عن الخلاف.
(4) الخلاف: كتاب الأطعمة، المسألة 19.
(5) في " ف " ومصححة " خ ": " ح " [أي: حينئذ] وكلمة " مع " مشطوب عليها في
" ن ".
20

لقصورها -: بلزوم (1) تخصيص الأكثر (2).
الثاني:
بول الإبل يجوز بيعه إجماعا - على ما في جامع المقاصد (3) وعن
إيضاح النافع (4) - إما لجواز شربه اختيارا، كما يدل عليه قوله عليه السلام في
رواية الجعفري: " أبوال الإبل خير من ألبانها " (5) وإما لأجل الإجماع
المنقول، لو قلنا بعدم جواز شربها إلا لضرورة الاستشفاء، كما يدل
عليه رواية سماعة، قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن بول الإبل
والبقر والغنم ينتفع به من الوجع، هل يجوز أن يشرب؟ قال: نعم،

(1) في " ش ": لزوم.
(2) جاء في شرح الشهيدي (19) ما يلي: إن قوله: " بلزوم تخصيص الأكثر "
في محل الرفع على الخبرية ل‍ " الجواب "، يعني: والجواب عنه - مضافا إلى ما ذكر
من الضعف -: أن فيه لزوم تخصيص الأكثر، فلا بد من الطرح أو التأويل
بما ذكرنا.
هذا بناء على صحة وجود كلمة " مع " في قوله: " مع ضعفه "، وأما بناء على
ما في بعض النسخ المصححة من الضرب [أي: الشطب] عليها، وعلى ما في
الآخر من " ح " [أي: حينئذ] بدل " مع "، فالخبر له قوله: " ضعفه "، ويكون
" بلزوم " متعلقا للقصور، فتأمل، فإن في العبارة ما لا يخفى على التقديرين.
(3) جامع المقاصد 4: 14.
(4) نقله عنه في مفتاح الكرامة 4: 23.
(5) الوسائل 17: 87، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 3.
21

لا بأس " (1). وموثقة عمار، عن بول البقر يشربه الرجل، قال: " إن كان
محتاجا إليه يتداوى بشربه فلا بأس، وكذلك بول الإبل والغنم " (2).
لكن الإنصاف، أنه لو قلنا بحرمة شربه اختيارا أشكل الحكم
بالجواز إن لم يكن إجماعيا (3)، كما يظهر من مخالفة العلامة في النهاية
وابن سعيد في النزهة (4).
قال في النهاية: وكذلك البول - يعني يحرم بيعه - وإن كان طاهرا،
للاستخباث، كأبوال البقر والإبل وإن انتفع به في شربه للدواء، لأنه
منفعة جزئية نادرة فلا يعتد به (5)، انتهى.
أقول: بل لأن المنفعة المحللة للاضطرار - وإن كانت كلية - لا تسوغ
البيع، كما عرفت.

(1) الوسائل 17: 88، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث 7.
(2) الوسائل 17: 87، الباب 59 من أبواب الأطعمة المباحة، الحديث الأول.
(3) كذا في " ع " و " ش "، وفي غيرهما: إجماعا.
(4) نزهة الناظر: 78.
(5) نهاية الإحكام 2: 463.
22

[المسألة] الثانية
يحرم بيع العذرة النجسة (1) من كل حيوان على المشهور، بل في
التذكرة - كما عن الخلاف -: الإجماع على تحريم بيع السرجين النجس (2).
ويدل عليه - مضافا إلى ما تقدم من الأخبار - رواية يعقوب
ابن شعيب: " ثمن العذرة من السحت (3) " (4).
نعم، في رواية محمد بن المضارب (5): " لا بأس ببيع العذرة " (6).
وجمع الشيخ بينهما بحمل الأول على عذرة الإنسان، والثاني على
عذرة البهائم (7).

(1) النجسة: ساقطة من " ش ".
(2) التذكرة 1: 464، الخلاف 3: 185، كتاب البيوع، المسألة 310.
(3) كذا في " ش " والمصدر، وفي سائر النسخ: ثمن العذرة سحت.
(4) الوسائل 12: 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
(5) كذا في " ف "، " ش " والمصدر، وفي سائر النسخ: المصادف.
(6) الوسائل 12: 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.
(7) الإستبصار 3: 56، ذيل الحديث 182.
23

ولعله لأن الأول نص في عذرة الإنسان ظاهر في غيرها، بعكس
الخبر الثاني، فيطرح ظاهر كل منهما بنص الآخر.
ويقرب هذا الجمع رواية سماعة، قال: " سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام
- وأنا حاضر - عن بيع العذرة، فقال: إني رجل أبيع العذرة، فما تقول؟
قال: حرام بيعها وثمنها، وقال: لا بأس ببيع العذرة " (1).
فإن الجمع بين الحكمين في كلام واحد لمخاطب واحد يدل على
أن تعارض الأولين ليس إلا من حيث الدلالة، فلا يرجع فيه إلى
المرجحات السندية أو الخارجية.
وبه يدفع ما يقال: من أن العلاج في الخبرين المتنافيين على وجه
التباين الكلي هو الرجوع إلى المرجحات الخارجية، ثم التخيير أو التوقف،
لا إلغاء ظهور كل منهما، ولهذا طعن على من جمع بين الأمر والنهي
بحمل الأمر على الإباحة والنهي على الكراهة.
واحتمل السبزواري حمل خبر المنع على الكراهة (2). وفيه ما لا يخفى
من البعد.
وأبعد منه ما عن المجلسي من احتمال حمل خبر المنع على بلاد
لا ينتفع به، والجواز على غيرها (3).

(1) الوسائل 12: 126، الباب 40 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2. وفي
النسخ - عدا " ش " -: سئل أبو عبد الله.
(2) كفاية الأحكام: 84.
(3) حكاه العلامة المجلسي في ملاذ الأخيار 10: 379، ذيل الحديث 202، عن
والده العلامة المجلسي الأول قدس سرهما.
24

ونحوه حمل خبر المنع (1) على التقية، لكونه مذهب أكثر العامة (2).
والأظهر ما ذكره الشيخ رحمه الله (3) - لو أريد التبرع بالحمل - لكونه أولى
من الطرح، وإلا فرواية الجواز لا يجوز الأخذ بها من وجوه لا تخفى.
ثم إن لفظ " العذرة " في الروايات، إن قلنا: إنه ظاهر في " عذرة
الإنسان " - كما حكي التصريح به عن بعض أهل اللغة (4) - فثبوت الحكم
في غيرها بالأخبار العامة المتقدمة، وبالإجماع المتقدم (5) على السرجين
النجس.
واستشكل في الكفاية (6) في الحكم تبعا للمقدس الأردبيلي رحمه الله (7)
إن لم يثبت الإجماع، وهو حسن، إلا أن الإجماع المنقول هو الجابر
لضعف سند الأخبار العامة السابقة.
وربما يستظهر من عبارة الاستبصار القول بجواز بيع عذرة ما عدا
الإنسان، لحمله أخبار المنع على عذرة الإنسان (8). وفيه نظر.

(1) في بعض النسخ: النهي.
(2) هذا الحمل من المجلسي الأول أيضا، حسبما حكاه عنه في ملاذ الأخيار 10: 379.
(3) تقدم عنه آنفا.
(4) حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 21.
(5) تقدم عن التذكرة والخلاف في أول المسألة.
(6) لا يخفى أن المحقق السبزواري قدس سره استشكل في ثبوت الاتفاق واستوجه
الجواز فيما ينتفع به، (انظر كفاية الأحكام: 84).
(7) مجمع الفائدة 8: 40.
(8) الإستبصار 3: 56، ذيل الحديث 182.
25

" فرع "
الأقوى جواز بيع الأرواث الطاهرة التي ينتفع بها منفعة محللة
مقصودة، وعن الخلاف: نفي الخلاف فيه (1)، وحكي أيضا عن
المرتضى رحمه الله الإجماع عليه (2).
وعن المفيد: حرمة بيع العذرة والأبوال كلها إلا بول الإبل (3)،
وحكي عن سلار أيضا (4).
ولا أعرف مستندا لذلك إلا دعوى أن تحريم الخبائث في قوله تعالى:
* (ويحرم عليهم الخبائث) * (5) يشمل تحريم بيعها، وقوله عليه الصلاة والسلام:
" إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " (6)، وما تقدم من رواية دعائم
الإسلام (7)، وغيرها.
ويرد على الأول: أن المراد - بقرينة مقابلته لقوله تعالى:
* (يحل لهم الطيبات) * - الأكل، لا مطلق الانتفاع.
وفي النبوي وغيره ما عرفت من أن الموجب لحرمة الثمن حرمة
عين الشئ، بحيث يدل على تحريم جميع منافعه أو المنافع المقصودة
الغالبة، ومنفعة الروث ليست هي الأكل المحرم فهو كالطين المحرم،
كما عرفت سابقا.

(1) الخلاف 3: 185، كتاب البيوع، المسألة 310.
(2) لم نقف عليه في كتب السيد، لكن حكاه عنه العلامة في المنتهى 2: 1008.
(3) المقنعة: 587. (4) المراسم: 170.
(5) الأعراف: 157. (6) عوالي اللآلي 2: 110، الحديث 301.
(7) دعائم الإسلام 2: 18، الحديث 23.
26

[المسألة] الثالثة
يحرم المعاوضة على الدم بلا خلاف، بل عن النهاية وشرح
الإرشاد - لفخر الدين - والتنقيح: الإجماع عليه (1)، ويدل عليه الأخبار
السابقة (2).
" فرع "
وأما الدم الطاهر إذا فرضت له منفعة محللة كالصبغ - لو قلنا
بجوازه - ففي جواز بيعه وجهان، أقواهما الجواز، لأنها عين طاهرة
ينتفع بها منفعة محللة.
وأما مرفوعة الواسطي (3) المتضمنة لمرور أمير المؤمنين عليه السلام

(1) نهاية الإحكام 2: 463، التنقيح 2: 5، وأما شرح الإرشاد فلا يوجد لدينا.
(2) مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " المتقدم آنفا،
وما تقدم من رواية تحف العقول ودعائم الإسلام في أول الكتاب.
(3) الوسائل 16: 359، الباب 31 من أبواب ما يحرم من الذبيحة، الحديث 2.
27

بالقصابين ونهيهم عن بيع سبعة: بيع الدم، والغدد، وآذان الفؤاد،
والطحال... إلى آخرها، فالظاهر إرادة حرمة البيع للأكل، ولا شك في
تحريمه، لما سيجئ من أن قصد المنفعة المحرمة في المبيع موجب لحرمة
البيع، بل بطلانه.
وصرح في التذكرة بعدم جواز بيع الدم الطاهر، لاستخباثه (1)،
ولعله لعدم المنفعة الظاهرة فيه غير الأكل المحرم.

(1) التذكرة 1: 464.
28

[المسألة] الرابعة
لا إشكال في حرمة بيع المني، لنجاسته، وعدم الانتفاع به إذا وقع
في خارج الرحم، ولو وقع فيه فكذلك لا ينتفع به المشتري، لأن الولد
نماء الأم في الحيوانات عرفا، وللأب في الإنسان شرعا.
لكن الظاهر أن حكمهم بتبعية (1) الأم متفرع على عدم تملك المني،
وإلا لكان بمنزلة البذر المملوك يتبعه الزرع.
فالمتعين التعليل بالنجاسة، لكن قد منع بعض (2) من نجاسته إذا
دخل من (3) الباطن إلى الباطن.
وقد ذكر العلامة من المحرمات بيع " عسيب الفحل " (4)، وهو ماؤه
قبل الاستقرار في الرحم، كما أن الملاقيح هو ماؤه بعد الاستقرار،

(1) ظاهر " ف ": بتبعيته.
(2) لم نقف عليه.
(3) في " ع "، " ص ": عن.
(4) التحرير 1: 160.
29

كما في جامع المقاصد (1) وعن غيره (2).
وعلل في الغنية بطلان بيع ما في أصلاب الفحول بالجهالة وعدم
القدرة على التسليم (3).

(1) حكاه في جامع المقاصد 4: 53، عن الفائق.
(2) ونقله السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 144 عن جامع المقاصد وحواشي
الشهيد قدس سره.
(3) الغنية (الجوامع الفقهية): 524.
30

[المسألة] الخامسة
تحرم المعاوضة على الميتة وأجزائها التي تحلها الحياة من ذي
النفس السائلة - على المعروف من مذهب الأصحاب -.
وفي التذكرة - كما عن المنتهى والتنقيح -: الإجماع عليه (1)، وعن
رهن الخلاف: الإجماع على عدم ملكيتها (2).
ويدل عليه - مضافا إلى ما تقدم من الأخبار (3) - ما دل على أن
الميتة لا ينتفع بها (4) منضما إلى اشتراط وجود المنفعة المباحة في المبيع
لئلا يدخل في عموم النهي عن أكل المال بالباطل، وخصوص عد ثمن

(1) التذكرة 1: 464، المنتهى 2: 1009، التنقيح 2: 5.
(2) الخلاف 3: 240، كتاب الرهن، المسألة 34.
(3) مثل روايتي تحف العقول ودعائم الإسلام، المتقدمتين في أول
الكتاب، وقوله عليه السلام: " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " المتقدم عن عوالي
اللآلي آنفا.
(4) الوسائل 16: 368، الباب 34 من أبواب الأطعمة المحرمة.
31

الميتة من السحت في رواية السكوني (1).
نعم، قد ورد بعض ما يظهر منه الجواز، مثل رواية الصيقل،
قال: " كتبوا إلى الرجل: جعلنا الله فداك، إنا نعمل السيوف، وليست
لنا معيشة ولا تجارة غيرها، ونحن مضطرون إليها، وإنما غلافها (2)
من جلود الميتة من البغال والحمير الأهلية، لا يجوز في أعمالنا غيرها،
فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسها بأيدينا وثيابنا، ونحن نصلي
في ثيابنا؟ ونحن محتاجون إلى جوابك في المسألة يا سيدنا لضرورتنا إليها،
فكتب عليه السلام: اجعلوا ثوبا للصلاة... " (3).
ونحوها رواية أخرى بهذا المضمون (4).
ولذا قال في الكفاية والحدائق: إن الحكم لا يخلو عن إشكال (5).
ويمكن أن يقال: إن مورد السؤال عمل السيوف وبيعها وشراؤها،
لا خصوص الغلاف مستقلا، ولا في ضمن السيف على أن يكون جزء
من الثمن في مقابل عين الجلد، فغاية ما يدل عليه جواز الانتفاع بجلد
الميتة بجعله غمدا للسيف، وهو لا ينافي عدم جواز معاوضته بالمال،
ولذا جوز جماعة، منهم الفاضلان في النافع والإرشاد - على ما حكي

(1) الوسائل 12: 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
(2) في التهذيب والوسائل: علاجنا.
(3) الوسائل 12: 125، الباب 38 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4، مع
تفاوت يسير.
(4) نفس المصدر: الحديث 3.
(5) كفاية الأحكام: 84، الحدائق 18: 73.
32

عنهما - الاستقاء بجلد الميتة لغير الصلاة والشرب مع عدم قولهم بجواز
بيعه (1).
مع أن الجواب لا ظهور فيه في الجواز، إلا من حيث التقرير
الغير الظاهر في الرضى، خصوصا في المكاتبات المحتملة للتقية.
هذا، ولكن الإنصاف: أنه إذا قلنا بجواز الانتفاع بجلد الميتة منفعة
مقصودة - كالاستقاء بها للبساتين والزرع إذا فرض عده مالا عرفا -
فمجرد النجاسة لا يصلح (2) علة لمنع البيع، لولا الإجماع على حرمة بيع
الميتة بقول مطلق (3)، لأن المانع حرمة الانتفاع في المنافع المقصودة،
لا مجرد النجاسة.
وإن قلنا: إن مقتضى الأدلة حرمة الانتفاع بكل نجس، فإن هذا
كلام آخر سيجئ بما فيه (4) بعد ذكر حكم النجاسات.
لكنا نقول: إذا قام الدليل الخاص على جواز الانتفاع منفعة
مقصودة بشئ من النجاسات فلا مانع من صحة بيعه، لأن ما دل على
المنع عن بيع النجس من النص والإجماع ظاهر في كون المانع حرمة
الانتفاع، فإن رواية تحف العقول المتقدمة (5) قد علل فيها المنع عن بيع

(1) المختصر النافع: 254، الإرشاد 2: 113.
(2) كذا في " ص "، وفي غيره: لا تصلح.
(3) ادعاه العلامة في التذكرة 1: 464، والمنتهى 2: 1009، والفاضل المقداد في
التنقيح 2: 5.
(4) في " ع "، " ص "، " ش ": ما فيه.
(5) تقدمت في أول الكتاب.
33

شئ من وجوه النجس بكونه منهيا عن أكله وشربه... إلى آخر ما ذكر
فيها.
ومقتضى رواية دعائم الإسلام - المتقدمة أيضا (1) - إناطة جواز البيع
وعدمه بجواز الانتفاع وعدمه.
وأدخل ابن زهرة - في الغنية - النجاسات في ما لا يجوز بيعه
من جهة عدم حل الانتفاع بها، واستدل أيضا على جواز بيع الزيت
النجس: بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن في الاستصباح به تحت السماء (2)،
قال: وهذا يدل على جواز بيعه لذلك (3)، انتهى.
فقد ظهر من أول كلامه وآخره أن المانع من البيع منحصر
في حرمة الانتفاع، وأنه يجوز مع عدمها.
ومثل ما ذكرناه عن الغنية من الاستدلال، كلام الشيخ - في الخلاف
في باب البيع - حيث ذكر النبوي الدال على إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
في الاستصباح، ثم قال: وهذا يدل على جواز بيعه (4)، انتهى.
وعن فخر الدين - في شرح الإرشاد (5) -، والفاضل المقداد - في

(1) تقدمت في أول الكتاب.
(2) نقله عن كتاب " الأوضاح " لأبي علي بن أبي هريرة، وفي الخلاف
عن " الإفصاح "، والظاهر أن أحدهما محرف عن الآخر.
(3) الغنية (الجوامع الفقهية): 524.
(4) الخلاف 3: 187، كتاب البيوع، المسألة 312.
(5) لا يوجد لدينا، لكن حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 13.
34

التنقيح (1) - الاستدلال على المنع عن بيع النجس بأنه محرم الانتفاع،
وكل ما كان كذلك لا يجوز بيعه.
نعم، ذكر في التذكرة شرط الانتفاع وحليته (2) بعد اشتراط
الطهارة، واستدل للطهارة بما دل على وجوب الاجتناب عن النجاسات
وحرمة الميتة (3).
والإنصاف، إمكان إرجاعه إلى ما ذكرنا (4)، فتأمل.
ويؤيده (5) أنهم أطبقوا على بيع العبد الكافر وكلب الصيد، وعلله
في التذكرة بحل الانتفاع به، ورد من منع (6) عن بيعه لنجاسته بأن النجاسة
غير مانعة، وتعدى إلى كلب الحائط والماشية والزرع، لأن المقتضي
- وهو النفع - موجود فيها (7).
ومما ذكرنا من قوة جواز بيع جلد الميتة - لولا الإجماع - إذا
جوزنا الانتفاع به في الاستقاء، يظهر حكم جواز المعاوضة على لبن
اليهودية المرضعة، بأن يجعل تمام الأجرة أو بعضها في مقابل اللبن، فإن
نجاسته لا تمنع عن جواز المعاوضة عليه.

(1) التنقيح 2: 5.
(2) التذكرة 1: 465.
(3) التذكرة 1: 464.
(4) في " ف ": ما ذكره الجماعة.
(5) في " ف ": ويؤيد الإرجاع.
(6) وهم جماعة من العامة - كالشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم - وبعض منا،
على ما في التذكرة.
(7) التذكرة 1: 464.
35

" فرعان "
الأول:
أنه كما لا يجوز بيع الميتة منفردة، كذلك لا يجوز بيعها منضمة
إلى مذكى.
ولو باعهما (1)، فإن كان المذكى ممتازا صح البيع فيه وبطل في الميتة،
كما سيجئ في محله، وإن كان مشتبها بالميتة لم يجز بيعه أيضا،
لأنه لا ينتفع به منفعة محللة، بناء على وجوب الاجتناب عن
كلا المشتبهين، فهو في حكم الميتة من حيث الانتفاع، فأكل المال بإزائه
أكل للمال (2) بالباطل، كما أن أكل كل من المشتبهين في حكم أكل الميتة.
ومن هنا يعلم أنه لا فرق في المشتري بين الكافر المستحل للميتة
وغيره.
لكن في صحيحة الحلبي وحسنته: " إذا اختلط المذكى بالميتة بيع
ممن يستحل الميتة " (3)، وحكي نحوهما عن كتاب علي بن جعفر (4).

(1) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: باعها.
(2) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: أكل المال.
(3) الوسائل 12: 67، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2، مع
اختلاف في اللفظ.
(4) مسائل علي بن جعفر: 109، الحديث 20.
36

واستوجه العمل بهذه الأخبار في الكفاية (1)، وهو مشكل، مع أن
المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنه يرمى بها (2).
وجوز بعضهم البيع بقصد بيع المذكى (3).
وفيه: أن القصد لا ينفع بعد فرض عدم جواز الانتفاع بالمذكى
لأجل الاشتباه.
نعم، لو قلنا بعدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة وجواز
ارتكاب أحدهما، جاز البيع بالقصد المذكور.
لكن لا ينبغي القول به في المقام، لأن الأصل في كل واحد
من المشتبهين عدم التذكية، غاية الأمر العلم الاجمالي بتذكية أحدهما،
وهو غير قادح في العمل بالأصلين.
وإنما يصح القول بجواز ارتكاب أحدهما في المشتبهين إذا كان
الأصل في كل منهما الحل وعلم إجمالا بوجود الحرام، فقد يقال هنا
بجواز ارتكاب أحدهما اتكالا على أصالة الحل، وعدم جواز ارتكاب
الآخر بعد ذلك حذرا عن ارتكاب الحرام الواقعي، وإن كان هذا الكلام
مخدوشا في هذا المقام أيضا، لكن القول به ممكن هنا، بخلاف ما نحن
فيه، لما ذكرنا، فافهم.

(1) كفاية الأحكام: 85.
(2) في " ش ": بهما، وما أثبتناه مطابق لسائر النسخ، ولما ورد في
الحديث، راجع: مستدرك الوسائل 13: 73، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به،
الحديث الأول.
(3) المحقق في الشرائع 3: 223، والعلامة في الإرشاد 2: 113.
37

وعن العلامة حمل الخبرين على جواز استنقاذ مال المستحل للميتة
بذلك برضاه (1).
وفيه: أن المستحل قد يكون ممن لا يجوز الاستنقاذ منه إلا بالأسباب
الشرعية، كالذمي.
ويمكن حملهما على صورة قصد البائع المسلم أجزاءها التي لا تحلها
الحياة: من الصوف والشعر والعظم (2) ونحوها، وتخصيص المشتري
بالمستحل، لأن الداعي له على الاشتراء اللحم أيضا، ولا يوجب ذلك
فساد البيع ما لم يقع العقد عليه.
وفي مستطرفات السرائر، عن جامع البزنطي - صاحب الرضا عليه السلام -
قال: " سألته عن الرجل يكون له الغنم يقطع من ألياتها وهي أحياء،
أيصلح أن ينتفع بها (3)؟ قال: نعم، يذيبها ويسرج بها، ولا يأكلها
ولا يبيعها " (4).
واستوجه في الكفاية العمل بها (5) تبعا لما حكاه الشهيد عن العلامة

(1) المختلف: 683.
(2) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: من الصوف والعظم والشعر.
(3) في المصدر بدل " بها ": بما قطع.
(4) السرائر 3: 573.
(5) ظاهر العبارة: أن السبزواري استوجه العمل برواية البزنطي، لكن الموجود
في كفاية الأحكام - بعد الحكم باستثناء الأدهان، مستدلا بصحيحة الحلبي وصحيحة
زرارة وصحيحة سعيد الأعرج وغيرها، وأن ذكر الإسراج والاستصباح
في الروايات غير دال على الحصر - ما يلي: " والقول بالجواز مطلقا متجه "، انظر
كفاية الأحكام: 85.
38

في بعض أقواله (1).
والرواية شاذة، ذكر الحلي - بعد إيرادها - أنها من نوادر الأخبار،
والإجماع منعقد على تحريم الميتة والتصرف فيها على كل حال إلا أكلها
للمضطر (2).
أقول: مع أنها معارضة بما دل على المنع من موردها، معللا
بقوله عليه السلام: " أما علمت أنه يصيب الثوب واليد وهو حرام؟ " (3)
ومع الإغماض عن المرجحات، يرجع إلى عموم ما دل على المنع
عن الانتفاع بالميتة مطلقا، مع أن الصحيحة صريحة في المنع عن البيع،
إلا أن تحمل على إرادة البيع من غير الإعلام بالنجاسة.

(1) حكى السيد العاملي في مفتاح الكرامة (4: 19) عن حواشي الشهيد على
القواعد أنه نقل عن العلامة - في حلقة الدرس - أنه جوز الاستصباح بأليات
الغنم المقطوعة، تحت السماء.
(2) السرائر 3: 574.
(3) الوسائل 16: 364، الباب 32 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث الأول،
وفيه: أما تعلم.
39

الثاني:
أن الميتة من غير ذي النفس السائلة يجوز المعاوضة عليها إذا كانت
مما ينتفع بها أو ببعض أجزائها - كدهن السمك الميتة للإسراج والتدهين -
لوجود المقتضي وعدم المانع، لأن أدلة عدم الانتفاع بالميتة مختصة
بالنجسة، وصرح بما ذكرنا جماعة (1)، والظاهر أنه مما لا خلاف فيه.

(1) منهم: المحدث البحراني في الحدائق 18: 77، والسيد العاملي في
مفتاح الكرامة 4: 19، وصاحب الجواهر في الجواهر 22: 17.
40

[المسألة] السادسة
يحرم التكسب بالكلب الهراش والخنزير البريين إجماعا على الظاهر
- المصرح به في المحكي عن جماعة (1) - وكذلك أجزاؤهما.
نعم، لو قلنا بجواز استعمال شعر الخنزير وجلده جاء فيه ما تقدم
في جلد الميتة.

(1) منهم: الشيخ في المبسوط 2: 165 - 166. وابن زهرة في الغنية
(الجوامع الفقهية): 524. والعلامة في المنتهى 2: 1009 وغيره، والشهيدان في
الدروس: 3: 168، والمسالك 3: 135 في مورد الكلب خاصة.
41

[المسألة] السابعة
يحرم التكسب بالخمر وكل مسكر مائع والفقاع إجماعا، نصا وفتوى.
وفي بعض الأخبار: " يكون لي على الرجل دراهم فيعطيني خمرا؟
قال: خذها وأفسدها، قال ابن أبي عمير: يعني اجعلها خلا (1) " (2).
والمراد به إما أخذ الخمر مجانا ثم تخليلها، أو أخذها وتخليلها
لصاحبها، ثم أخذ الخل وفاء عن الدراهم.

(1) كذا في النسخ، وفي الوسائل: " قال علي: واجعلها خلا " والمراد به: علي
ابن حديد، الواقع في سند الرواية.
(2) الوسائل 17: 297، الباب 31 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 6.
42

[المسألة] الثامنة
يحرم المعاوضة على الأعيان المتنجسة الغير القابلة للطهارة إذا
توقف منافعها المحللة المعتد بها على الطهارة، لما تقدم من النبوي:
" إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " (1) ونحوه المتقدم عن دعائم الإسلام (2).
وأما التمسك بعموم قوله عليه السلام في رواية تحف العقول: " أو شئ
من وجوه النجس " ففيه نظر، لأن الظاهر من " وجوه النجس "
العنوانات النجسة، لأن ظاهر " الوجه " هو العنوان.
نعم، يمكن الاستدلال على ذلك بالتعليل المذكور بعد ذلك وهو
قوله عليه السلام: " لأن ذلك كله محرم أكله (3) وشربه ولبسه... إلى آخر ما ذكر ".
ثم اعلم أنه قيل بعدم جواز بيع المسوخ من أجل نجاستها (4)،

(1) عوالي اللآلي 2: 110، الحديث 301، سنن الدارقطني 3: 7، الحديث 20.
(2) دعائم الإسلام 2: 18، الحديث 23، وقد تقدم مع سابقه في الصفحة: 13.
(3) في المصدر: منهي عن أكله.
(4) راجع المبسوط 2: 165 - 166 حيث جعل المسوخ من الأعيان النجسة
وادعى الإجماع على عدم جواز بيعها.
43

ولما كان الأقوى طهارتها لم يحتج إلى التكلم في جواز بيعها هنا.
نعم، لو قيل بحرمة البيع لا من حيث النجاسة كان محل التعرض
له ما سيجئ من أن كل طاهر له منفعة محللة مقصودة يجوز بيعه.
وسيجئ ذلك في ذيل القسم الثاني (1) مما لا يجوز الاكتساب به
لأجل عدم المنفعة فيه.

(1) كذا في النسخ، والصحيح: القسم الثالث.
44

[المستثنيات من حرمة بيع الأعيان النجسة] (1)

(1) العنوان زيادة منا.
45

وأما المستثنى من الأعيان المتقدمة فهي أربعة تذكر في مسائل
أربع:
الأولى
يجوز بيع المملوك الكافر، أصليا كان أم مرتدا مليا، بلا خلاف
ظاهر، بل ادعي عليه الإجماع (1)، وليس ببعيد، كما يظهر للمتتبع في
المواضع المناسبة لهذه المسألة، كاسترقاق الكفار وشراء بعضهم من
بعض، وبيع العبد الكافر إذا أسلم على مولاه الكافر، وعتق الكافرة،
وبيع المرتد، وظهور كفر العبد المشترى على ظاهر الإسلام، وغير ذلك.
وكذا الفطري على الأقوى، بل الظاهر أنه لا خلاف فيه من هذه
الجهة، وإن كان فيه كلام من حيث كونه في معرض التلف، لوجوب قتله.

(1) الجواهر 22: 23.
47

ولم نجد من تأمل فيه من جهة نجاسته، عدا ما يظهر من بعض
الأساطين في شرحه على القواعد حيث احترز بقول العلامة:
" ما لا يقبل التطهير من النجاسات "، عما يقبله ولو بالإسلام، كالمرتد
ولو عن فطرة على أصح القولين (1)، فبنى جواز بيع المرتد على قبول
توبته، بل بنى جواز بيع مطلق الكافر على قبوله للطهر بالإسلام.
وأنت خبير بأن حكم الأصحاب بجواز بيع الكافر نظير حكمهم
بجواز بيع الكلب لا من حيث قابليته للتطهير - نظير الماء المتنجس -
وأن اشتراطهم قبول التطهير إنما هو فيما يتوقف الانتفاع به على طهارته
ليتصف بالملكية، لا مثل الكلب والكافر المملوكين مع النجاسة إجماعا.
وبالغ تلميذه في مفتاح الكرامة، فقال: أما المرتد عن فطرة
فالقول بجواز بيعه ضعيف جدا، لعدم قبول توبته فلا يقبل التطهير،
ثم ذكر جماعة ممن جوز بيعه - إلى أن قال -: ولعل من جوز بيعه بنى
على قبول توبته (2)، انتهى. وتبعه على ذلك شيخنا المعاصر (3).
أقول: لا إشكال ولا خلاف في كون المملوك المرتد عن فطرة
ملكا ومالا لمالكه، ويجوز له الانتفاع به بالاستخدام (4) ما لم يقتل،
وإنما استشكل من استشكل في جواز بيعه من حيث كونه في معرض

(1) شرح القواعد (مخطوط): الورقة 4.
(2) مفتاح الكرامة 4: 12.
(3) أي صاحب الجواهر قدس سره، انظر الجواهر 22: 8.
(4) كذا في " ش "، وفي " ف ": الانتفاع والاستخدام، وفي سائر النسخ: الانتفاع به
والاستخدام.
48

القتل، بل واجب الإتلاف شرعا، فكأن الإجماع منعقد على عدم المنع
من بيعه من جهة عدم قابلية طهارته بالتوبة.
قال في الشرائع: ويصح رهن المرتد وإن كان عن فطرة (1).
واستشكل في المسالك من جهة وجوب إتلافه وكونه في معرض
التلف، ثم اختار الجواز، لبقاء ماليته إلى زمان القتل (2).
وقال في القواعد: ويصح رهن المرتد وإن كان عن فطرة، على
إشكال (3).
وذكر في جامع المقاصد: أن منشأ الإشكال أنه يجوز بيعه فيجوز
رهنه بطريق أولى، ومن أن مقصود البيع حاصل، وأما مقصود الرهن
فقد لا يحصل، لقتل (4) الفطري حتما، والآخر قد لا يتوب (5)، ثم اختار
الجواز.
وقال في التذكرة: المرتد إن كان عن فطرة ففي جواز بيعه نظر،
ينشأ من تضاد الحكمين، ومن بقاء الملك، فإن كسبه لمولاه، أما عن غير
فطرة فالوجه صحة بيعه، لعدم تحتم قتله (6) ثم ذكر المحارب الذي
لا تقبل توبته، لوقوعها بعد القدرة عليه.

(1) الشرائع 2: 77.
(2) المسالك 4: 25.
(3) القواعد 1: 159.
(4) كذا في " ن " والمصدر، وفي سائر النسخ: بقتل.
(5) جامع المقاصد 5: 57.
(6) التذكرة 1: 466.
49

واستدل على جواز بيعه بما يظهر منه جواز بيع المرتد عن فطرة،
وجعله نظير المريض المأيوس عن برئه.
نعم، منع في التحرير والدروس عن بيع المرتد عن فطرة، والمحارب
إذا وجب قتله (1)، للوجه المتقدم عن (2) التذكرة، بل في الدروس: أن بيع
المرتد عن ملة أيضا مراعى بالتوبة (3).
وكيف كان، فالمتتبع يقطع بأن اشتراط قابلية الطهارة إنما هو
في ما يتوقف الانتفاع المعتد به على طهارته، ولذا قسم في المبسوط المبيع
إلى آدمي وغيره، ثم اشترط الطهارة في غير الآدمي، ثم استثنى الكلب
الصيود (4).

(1) التحرير 1: 165، الدروس 3: 200.
(2) كذا في " ف " و " ش "، وفي سائر النسخ: وعن.
(3) انظر التخريج السابق.
(4) المبسوط 2: 165 - 166.
50

[المسألة] الثانية
يجوز المعاوضة على غير كلب الهراش في الجملة بلا خلاف ظاهر،
إلا ما عن ظاهر إطلاق العماني (1)، ولعله كإطلاق كثير من الأخبار: بأن
" ثمن الكلب سحت " (2) محمول على الهراش، لتواتر الأخبار (3) واستفاضة
نقل الإجماع (4) على جواز بيع ما عدا كلب الهراش في الجملة.
ثم إن ما عدا كلب الهراش على أقسام:
أحدها - كلب الصيد السلوقي،
وهو المتيقن من (5) الأخبار (6) ومعاقد

(1) قال السيد العاملي في مفتاح الكرامة (4: 28): ولا مخالف سوى الحسن
العماني، على ما حكي.
(2) الوسائل 12: 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5 و 9،
والصفحة: 83، الباب 14 من نفس الأبواب، الحديث 2 و 8.
(3) الوسائل 12: 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7 و 8،
والصفحة: 83، الباب 14 من نفس الأبواب، الأحاديث 1 و 3 و 5 و 6 و 7.
(4) سيأتي نقله عن الخلاف والمنتهى وإيضاح الفوائد وغيرها.
(5) في " ن "، " م "، " ع "، " ص ": عن.
(6) المشار إليها في الهامش (3).
51

الإجماعات الدالة على الجواز.
الثاني - كلب الصيد غير السلوقي، وبيعه جائز على المعروف من
غير ظاهر إطلاق المقنعة والنهاية (1).
ويدل عليه - قبل الإجماع المحكي عن الخلاف والمنتهى والإيضاح (2)
وغيرها (3) - الأخبار المستفيضة:
منها: قوله عليه السلام في رواية القاسم بن الوليد، قال: " سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن ثمن الكلب الذي لا يصيد، قال: سحت،
وأما الصيود فلا بأس به " (4).
ومنها: الصحيح عن ابن فضال عن أبي جميلة، عن ليث، قال:
" سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الكلب الصيود يباع؟ قال عليه السلام: نعم،
ويؤكل ثمنه " (5).
ومنها: رواية أبي بصير، قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
ثمن كلب الصيد، قال: لا بأس به، وأما الآخر فلا يحل ثمنه " (6).

(1) المقنعة: 589، النهاية: 364.
(2) الخلاف 3: 182، كتاب البيوع، المسألة 302، المنتهى 2: 1009، إيضاح
الفوائد 1: 402.
(3) مثل الغنية (الجوامع الفقهية): 524، والدروس 3: 168.
(4) الوسائل 12: 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 7.
(5) التهذيب 9: 80، الحديث 343، ولم نقف عليه في الوسائل.
(6) الوسائل 12: 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5، مع
اختلاف يسير.
52

ومنها: ما (1) عن دعائم الإسلام - للقاضي نعمان المصري - عن
أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: " لا بأس بثمن كلب الصيد " (2).
ومنها: مفهوم رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثمن الخمر ومهر البغي وثمن الكلب الذي
لا يصطاد من السحت " (3).
ومنها: مفهوم رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي عبد
الله عليه السلام، قال: " ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت، ولا بأس بثمن
الهرة " (4).
ومرسلة الصدوق، وفيها: " ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد
سحت " (5).
ثم إن دعوى انصراف هذه الأخبار - كمعاقد الإجماعات
المتقدمة - إلى السلوقي ضعيفة بمنع (6) الانصراف، لعدم الغلبة المعتد بها
- على فرض تسليم كون مجرد غلبة الوجود من دون غلبة الاستعمال
منشأ للانصراف - مع أنه لا يصح في مثل قوله: " ثمن الكلب الذي
لا يصيد " أو " ليس بكلب الصيد "، لأن مرجع التقييد إلى إرادة ما يصح

(1) كلمة " ما " ساقطة من أكثر النسخ.
(2) دعائم الإسلام 2: 19، الحديث 28.
(3) الوسائل 12: 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
(4) نفس المصدر، الحديث 3، وفيه: ولا بأس بثمن الهر.
(5) الفقيه 3: 171، الحديث 3648.
(6) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: لمنع.
53

عنه سلب صفة الاصطياد.
وكيف كان، فلا مجال لدعوى الانصراف.
بل يمكن أن يكون مراد المقنعة والنهاية (1) من " السلوقي " مطلق
الصيود، على ما شهد به بعض الفحول من إطلاقه عليه أحيانا (2).
ويؤيد بما عن المنتهى، حيث إنه بعد ما حكى التخصيص بالسلوقي
عن الشيخين قال: " وعنى بالسلوقي كلب الصيد، لأن " سلوق " قرية
باليمن، أكثر كلابها معلمة فنسب الكلب إليها " (3) وإن كان هذا الكلام
من المنتهى يحتمل لأن يكون مسوقا لإخراج غير كلب الصيد من الكلاب
السلوقية، وأن المراد بالسلوقي خصوص الصيود، لا كل سلوقي، لكن
الوجه الأول أظهر، فتدبر.
الثالث: كلب الماشية والحائط - وهو البستان والزرع - والأشهر
بين القدماء - على ما قيل (4) -: المنع.
ولعله استظهر ذلك من الأخبار الحاصرة لما يجوز بيعه في الصيود
المشتهرة بين المحدثين - كالكليني والصدوقين ومن تقدمهم (5) - بل وأهل

(1) تقدم التخريج عنهما في الصفحة: 52، الهامش (1).
(2) لعله قدس سره أراد بذلك ما نقله السيد المجاهد عن أستاذه في مقام الجمع بين
الروايات، انظر المناهل: 276، ذيل قوله: وأما ثالثا....
(3) المنتهى 2: 1009.
(4) انظر المستند 2: 334، والمناهل: 276.
(5) حيث أوردوا الأخبار المذكورة في أصولهم ومصنفاتهم.
54

الفتوى - كالمفيد والقاضي وابن زهرة وابن سعيد والمحقق (1) - بل ظاهر
الخلاف والغنية الإجماع عليه (2).
نعم، المشهور بين الشيخ ومن تأخر عنه (3) الجواز، وفاقا للمحكي
عن ابن الجنيد قدس سره، حيث قال: " لا بأس بشراء الكلب الصائد
والحارس للماشية والزرع "، ثم قال: " لا خير في الكلب فيما عدا الصيود
والحارس " (4) وظاهر الفقرة الأخيرة - لو لم يحمل على الأولى -: جواز
بيع الكلاب الثلاثة وغيرها، كحارس الدور والخيام.
وحكي الجواز أيضا عن الشيخ والقاضي في كتاب الإجارة (5)
وعن سلار وأبي الصلاح وابن حمزة وابن إدريس (6) وأكثر المتأخرين
- كالعلامة وولده السعيد (7) والشهيدين (8) والمحقق الثاني (9) وابن القطان

(1) المقنعة: 589، الغنية (الجوامع الفقهية): 524، نزهة الناظر: 76، الشرائع
2: 11، وأما القاضي فلم نقف في كتابيه على ما يدل على المنع، وإن نسبه إليه
في المختلف: 341.
(2) الخلاف 3: 181، كتاب البيوع، المسألة 302، الغنية (الجوامع الفقهية): 524.
(3) ستأتي الإشارة إلى مواضع كلامهم.
(4) حكاه عنه في المختلف 340، 341.
(5) المبسوط 3: 250، المهذب 1: 502.
(6) المراسم: 170، الوسيلة: 248، السرائر 2: 220، وأما أبو الصلاح فلم نقف
على فتواه بالجواز في الكافي.
(7) القواعد 1: 120، إيضاح الفوائد 1: 402.
(8) الدروس 3: 168، الروضة البهية 3: 209.
(9) جامع المقاصد 4: 14.
55

في المعالم (1) والصيمري (2) وابن فهد (3) - وغيرهم من متأخري
المتأخرين (4)، عدا قليل وافق المحقق (5) كالسبزواري (6) والتقي المجلسي (7)
وصاحب الحدائق (8) والعلامة الطباطبائي في مصابيحه (9) وفقيه عصره
في شرح القواعد (10).
وهو الأوفق بالعمومات المتقدمة المانعة، إذ لم نجد مخصصا لها
سوى ما أرسله في المبسوط من أنه روي ذلك (11)، يعني جواز البيع
في كلب الماشية والحائط، المنجبر قصور سنده ودلالته - لكون المنقول
مضمون الرواية لا معناها ولا ترجمتها - باشتهاره بين المتأخرين،
بل ظهور الاتفاق المستفاد من قول الشيخ في كتاب الإجارة: إن أحدا

(1) معالم الدين في فقه آل يس (مخطوط): 126.
(2) تلخيص الخلاف 2: 79.
(3) المهذب البارع 2: 349.
(4) منهم الفاضل الآبي في كشف الرموز 1: 437، والفاضل المقداد في التنقيح
2: 7، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 8: 37.
(5) الشرائع 2: 12.
(6) كفاية الأحكام: 88.
(7) روضة المتقين 6: 470.
(8) الحدائق 18: 81.
(9) المصابيح: (مخطوط)، ولم نقف عليه.
(10) شرح القواعد (مخطوط): الورقة 6.
(11) المبسوط 2: 166.
56

لم يفرق بين بيع هذه الكلاب وإجارتها (1) بعد ملاحظة الاتفاق على صحة
إجارتها، ومن قوله في التذكرة: يجوز بيع هذه الكلاب عندنا (2)،
ومن المحكي عن الشهيد في الحواشي: أن أحدا لم يفرق بين الكلاب
الأربعة (3).
فتكون هذه الدعاوي قرينة على حمل كلام من اقتصر على كلب
الصيد على المثال لمطلق ما ينتفع به منفعة محللة مقصودة، كما يظهر ذلك
من عبارة ابن زهرة في الغنية، حيث اعتبر أولا في المبيع أن يكون
مما ينتفع به منفعة محللة مقصودة، ثم قال: واحترزنا بقولنا: " ينتفع به
منفعة محللة " عما يحرم الانتفاع به، ويدخل في ذلك: النجس (4)
إلا ما خرج بالدليل، من الكلب (5) المعلم للصيد، والزيت النجس لفائدة
الاستصباح (6) تحت السماء (7)، ومن المعلوم - بالإجماع والسيرة - جواز
الانتفاع بهذه الكلاب منفعة محللة مقصودة أهم من منفعة الصيد، فيجوز
بيعها لوجود القيد الذي اعتبره فيها، وأن المنع من بيع النجس منوط
بحرمة الانتفاع فينتفي بانتفائها.

(1) قاله في كتاب البيع، انظر المبسوط 2: 166.
(2) التذكرة 2: 295 (كتاب الإجارة).
(3) حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 29.
(4) في " ش " والمصدر: كل نجس،
(5) في " ش " والمصدر: من بيع الكلب.
(6) في " ش " والمصدر: والزيت النجس للاستصباح.
(7) الغنية (الجوامع الفقهية): 524، مع تفاوت في بعض الألفاظ.
57

ويؤيد ذلك كله ما في التذكرة من أن المقتضي لجواز بيع كلب
الصيد - أعني المنفعة - موجود في هذه الكلاب (1).
وعنه رحمه الله في مواضع أخر: أن تقدير الدية لها يدل على مقابلتها
بالمال (2). وإن ضعف الأول برجوعه إلى القياس، والثاني بأن الدية
لو لم تدل على عدم التملك - وإلا لكان الواجب القيمة كائنة ما كانت -
لم تدل على التملك، لاحتمال كون الدية من باب تعيين غرامة معينة
لتفويت شئ ينتفع به، لا لإتلاف مال، كما في إتلاف الحر.
ونحوهما في الضعف: دعوى انجبار المرسلة (3) بدعوى الاتفاق
المتقدم عن الشيخ والعلامة والشهيد قدس الله أسرارهم (4)، لوهنها - بعد الإغماض
عن معارضتها بظاهر عبارتي الخلاف والغنية: من الإجماع على عدم
جواز بيع (5) غير المعلم من الكلاب (6) - بوجدان الخلاف العظيم من أهل
الرواية والفتوى.
نعم، لو ادعي الإجماع أمكن منع وهنها بمجرد الخلاف ولو من
الكثير - بناء على ما سلكه بعض متأخري المتأخرين في الإجماع من
كونه منوطا بحصول الكشف من اتفاق جماعة ولو خالفهم أكثر منهم (7) -

(1) التذكرة 1: 464.
(2) راجع المنتهى 2: 1009.
(3) المتقدمة عن المبسوط في الصفحة: 56، الهامش (11).
(4) تقدم عنهم في الصفحة: 56 و 57.
(5) لم ترد " بيع " في " ش ".
(6) كما تقدم في الصفحة: 54 - 55.
(7) لم نقف على القائل.
58

مع أن دعوى الإجماع ممن لم يصطلح الإجماع على مثل هذا الاتفاق
لا يعبأ بها (1) عند وجدان الخلاف.
وأما شهرة الفتوى بين المتأخرين فلا تجبر الرواية، خصوصا مع
مخالفة كثير من القدماء (2)، ومع كثرة العمومات الواردة في مقام الحاجة،
وخلو كتب الرواية المشهورة عنها (3) حتى أن الشيخ لم يذكرها (4) في
جامعه (5).
وأما حمل كلمات القدماء على المثال، ففي غاية البعد.
وأما كلام ابن زهرة - المتقدم (6) - فهو مختل على كل حال، لأنه
استثنى الكلب المعلم عما يحرم الانتفاع به، مع أن الإجماع على جواز
الانتفاع بالكافر، فحمل " كلب الصيد " على المثال لا يصحح كلامه،
إلا أن يريد كونه مثالا ولو للكافر أيضا، كما أن استثناء الزيت من باب
المثال لسائر الأدهان المتنجسة.
هذا، ولكن الحاصل من شهرة الجواز بين المتأخرين - بضميمة
أمارات الملك في هذه الكلاب - يوجب الظن بالجواز حتى في غير هذه
الكلاب، مثل كلاب الدور والخيام.

(1) كذا في " ش " ومصححة " ن "، وفي سائر النسخ: به.
(2) راجع الصفحة: 54 - 55.
(3) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: عنه.
(4) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: لم يذكره.
(5) في " ش ": جامعيه.
(6) تقدم في الصفحة: 57.
59

فالمسألة لا تخلو عن إشكال، وإن كان الأقوى بحسب الأدلة
والأحوط في العمل هو المنع، فافهم.
60

[المسألة] الثالثة
الأقوى جواز المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب
ثلثاه وإن كان نجسا، لعمومات البيع والتجارة الصادقة عليها،
بناء على
أنه مال قابل للانتفاع به بعد طهارته بالنقص، لأصالة بقاء ماليته وعدم
خروجه عنها بالنجاسة، غاية الأمر أنه مال معيوب قابل لزوال عيبه.
ولذا لو غصب عصيرا فأغلاه حتى حرم ونجس لم يكن في حكم
التالف، بل وجب عليه رده، ووجب عليه غرامة الثلثين وأجرة العمل
فيه حتى يذهب الثلثان - كما صرح به في التذكرة (1) - معللا لغرامة
الأجرة بأنه رده معيبا ويحتاج زوال العيب إلى خسارة، والعيب من
فعله، فكانت الخسارة عليه.
نعم، ناقشه في جامع المقاصد (2) في الفرق بين هذا وبين
ما لو غصبه عصيرا فصار خمرا، حيث حكم فيه بوجوب غرامة مثل
العصير، لأن المالية قد فاتت تحت يده فكان عليه ضمانها كما لو تلفت.

(1) التذكرة 2: 387.
(2) جامع المقاصد 6: 292 - 293.
61

لكن لا يخفى الفرق الواضح بين العصير إذا غلى وبينه إذا صار
خمرا، فإن العصير بعد الغليان مال عرفا وشرعا، والنجاسة إنما تمنع من
المالية إذا لم يقبل التطهير، كالخمر فإنها لا يزول نجاستها (1) إلا بزوال
موضوعها، بخلاف العصير، فإنه يزول نجاسته بنقصه، نظير طهارة ماء
البئر بالنزح.
وبالجملة، فالنجاسة فيه وحرمة الشرب عرضية تعرضانه في حال
متوسط بين حالتي طهارته، فحكمه حكم النجس بالعرض القابل
للتطهير، فلا يشمله قوله عليه السلام في رواية تحف العقول: " أو شئ من
وجوه النجس " (2) ولا يدخل تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا حرم الله شيئا
حرم ثمنه " (3)، لأن الظاهر منهما (4) العنوانات النجسة والمحرمة بقول مطلق،
لا ما تعرضانه في حال دون حال، فيقال: يحرم في حال كذا،
أو ينجس (5) في حال كذا.
وبما ذكرنا يظهر عدم شمول معقد إجماع التذكرة (6) على فساد بيع
نجس العين للعصير، لأن المراد بالعين هي الحقيقة، والعصير ليس كذلك.
ويمكن أن ينسب جواز بيع العصير إلى كل من قيد الأعيان
النجسة المحرم بيعها بعدم قابليتها للتطهير، ولم أجد مصرحا بالخلاف،

(1) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: فإنه لا يزول نجاسته.
(2) تقدمت في أول الكتاب.
(3) المتقدم في الصفحة: 13 و 43 عن عوالي اللآلي وسنن الدارقطني.
(4) في أكثر النسخ: منها.
(5) في " ش ": وينجس.
(6) التذكرة 1: 464.
62

عدا ما في مفتاح الكرامة: من أن الظاهر المنع (1)، للعمومات المتقدمة
وخصوص بعض الأخبار، مثل قوله عليه السلام: " وإن غلى فلا يحل بيعه " (2)
ورواية أبي بصير (3): " إذا بعته قبل أن يكون خمرا وهو حلال فلا بأس " (4)
ومرسل ابن الهيثم: " إذا تغير عن حاله وغلى فلا خير فيه " (5)، بناء
على أن الخير المنفي يشمل البيع.
وفي الجميع نظر:
أما في العمومات، فلما تقدم.
وأما الأدلة الخاصة، فهي مسوقة للنهي عن بيعه بعد الغليان
- نظير بيع الدبس والخل من غير اعتبار إعلام المكلف -، وفي الحقيقة
هذا النهي كناية عن عدم جواز الانتفاع ما لم يذهب ثلثاه، فلا يشمل
بيعه بقصد التطهير مع إعلام المشتري، نظير بيع الماء النجس.
وبالجملة، فلو لم يكن إلا استصحاب ماليته وجواز بيعه كفى.
ولم أعثر على من تعرض للمسألة صريحا، عدا جماعة من
المعاصرين (6). نعم، قال المحقق الثاني في حاشية الإرشاد - في ذيل قول

(1) مفتاح الكرامة 4: 12.
(2) الوسائل 12: 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
(3) كذا في " ش "، وفي أكثر النسخ: أبي كهمس، نعم راوي الحديث السابق هو
أبو كهمس.
(4) الوسائل 12: 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
(5) الوسائل 17: 226، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 7.
(6) منهم السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 12، وصاحب الجواهر في الجواهر
22: 8، والمحقق النراقي في المستند 2: 332.
63

المصنف: " ولا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبوله (1) التطهير "،
بعد الاستشكال بلزوم عدم جواز بيع الأصباغ المتنجسة بعدم قبولها
التطهير، ودفع ذلك بقبولها له بعد الجفاف (2) -: ولو تنجس العصير
ونحوه فهل يجوز بيعه على من يستحله؟ فيه إشكال.. ثم ذكر أن
الأقوى العدم، لعموم * (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * (3)، انتهى (4).
والظاهر، أنه أراد بيع العصير للشرب من غير التثليث، كما يظهر
من ذكر المشتري والدليل، فلا يظهر منه حكم بيعه على من يطهره.

(1) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: قبولها، وفي الإرشاد: مع قبول الطهارة.
(2) في غير " ش " زيادة: قال.
(3) المائدة: 2.
(4) حاشية الإرشاد (مخطوط): 204.
64

[المسألة] الرابعة
يجوز المعاوضة على الدهن المتنجس على المعروف من مذهب
الأصحاب.
وجعل هذا من المستثنى عن بيع الأعيان النجسة مبني على المنع
من الانتفاع بالمتنجس إلا ما خرج بالدليل، أو على المنع من بيع
المتنجس وإن جاز الانتفاع به نفعا مقصودا محللا، وإلا كان الاستثناء
منقطعا من حيث إن المستثنى منه " ما ليس فيه منفعة محللة مقصودة من
النجاسات والمتنجسات "، وقد تقدم أن المنع عن بيع النجس - فضلا
عن المتنجس - ليس إلا من حيث حرمة المنفعة المقصودة (1)، فإذا فرض
حلها فلا مانع من البيع.
ويظهر من الشهيد الثاني - في المسالك - خلاف ذلك، وأن جواز
بيع الدهن للنص، لا لجواز الانتفاع به، وإلا لاطرد الجواز في غير
الدهن أيضا (2).

(1) في غير " ش ": المنفعة المحللة المقصودة.
(2) المسالك 3: 119.
65

وأما حرمة الانتفاع بالمتنجس إلا ما خرج بالدليل، فسيجئ
الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
وكيف كان، فلا إشكال في جواز بيع الدهن المذكور، وعن جماعة (1):
الإجماع عليه في الجملة، والأخبار به (2) مستفيضة:
منها: الصحيح، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله عليه السلام،
قال: " قلت له: جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل؟ قال عليه السلام:
أما السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله، والزيت يستصبح به " (3).
وزاد في المحكي عن التهذيب: " أنه يبيع ذلك الزيت، ويبينه (4)
لمن اشتراه ليستصبح به " (5).
ولعل الفرق بين الزيت وأخويه من جهة كونه مائعا غالبا، بخلاف
السمن والعسل، وفي رواية إسماعيل - الآتية - إشعار بذلك.
ومنها: الصحيح، عن سعيد الأعرج (6)، عن أبي عبد الله عليه السلام:
" في الفأرة والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه؟ قال: إن كان

(1) منهم: ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 524، والشيخ في الخلاف
3: 187، كتاب البيوع، المسألة 312، وابن إدريس في السرائر 2: 222.
(2) به: ساقطة من أكثر النسخ.
(3) الوسائل 12: 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
(4) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: وينبه.
(5) التهذيب 9: 85، الحديث 359، وفيه: تبيعه وتبينه.
(6) كذا في جميع النسخ، لكن الرواية عن الحلبي، نعم الرواية التي تليها في
الوسائل عن سعيد الأعرج.
66

سمنا أو عسلا أو زيتا، فإنه ربما يكون بعض هذا، فإن كان الشتاء
فانزع ما حوله وكله، وإن كان الصيف فادفعه حتى يسرج به " (1).
ومنها: ما عن أبي بصير - في الموثق - " عن الفأرة تقع في السمن
أو الزيت (2) فتموت فيه؟ قال: إن كان جامدا فاطرحها وما حولها
ويؤكل ما بقي، وإن كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم إذا بعته " (3).
ومنها: رواية إسماعيل بن عبد الخالق، قال: " سأله سعيد الأعرج
السمان - وأنا حاضر - عن السمن والزيت والعسل تقع فيه الفأرة
فتموت [كيف يصنع به؟] (4) قال: أما الزيت فلا تبعه إلا لمن تبين له
فيبتاع للسراج، وأما الأكل فلا، وأما السمن فإن كان ذائبا فكذلك،
وإن كان جامدا والفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها وما حولها، ثم لا بأس به،
والعسل كذلك إن كان جامدا " (5).
إذا عرفت هذا، فالإشكال يقع في مواضع:

(1) الوسائل 16: 375، الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 4.
(2) في " ص ": أو في الزيت.
(3) الوسائل 12: 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.
(4) العبارة ساقطة من " خ "، " م "، " ف "، " ن "، " ع ".
(5) الوسائل 12: 66، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
67

الأول:
أن صحة بيع هذا الدهن هل هي (1) مشروطة باشتراط الاستصباح
به صريحا، أو يكفي قصدهما لذلك، أو لا يشترط أحدهما؟
ظاهر الحلي في السرائر: الأول، فإنه بعد ذكر جواز الاستصباح
بالأدهان المتنجسة جمع (2) قال: ويجوز بيعه بهذا الشرط عندنا (3).
وظاهر المحكي عن الخلاف: الثاني، حيث قال: جاز بيعه لمن
يستصبح به تحت السماء، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وقال أبو حنيفة:
يجوز مطلقا (4)، انتهى.
ونحوه - مجردا عن دعوى الإجماع - عبارة المبسوط، وزاد: " أنه
لا يجوز بيعه إلا لذلك " (5) وظاهره كفاية القصد، وهو ظاهر غيره ممن
عبر بقوله: " جاز بيعه للاستصباح " كما في الشرائع والقواعد (6)
وغيرهما (7).

(1) وردت عبارة " هل هي " في " ش " فقط.
(2) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: أجمع.
(3) السرائر 2: 222 و 3: 122.
(4) الخلاف 3: 187، كتاب البيوع، المسألة 312.
(5) المبسوط 2: 167.
(6) الشرائع 2: 9، القواعد 1: 120.
(7) مثل عبارة التنقيح 2: 7، ومجمع الفائدة 8: 31، وبمعناهما عبارة الشهيد
في اللمعة: 108.
68

نعم، ذكر المحقق الثاني ما حاصله: أن التعليل راجع إلى الجواز،
يعني يجوز لأجل تحقق فائدة الاستصباح بيعه (1).
وكيف كان، فقد صرح جماعة بعدم اعتبار قصد الاستصباح (2).
ويمكن أن يقال باعتبار قصد الاستصباح إذا كانت المنفعة المحللة
منحصرة فيه، وكان من منافعه النادرة التي لا تلاحظ في ماليته،
كما في دهن اللوز والبنفسج وشبههما.
ووجهه: أن مالية الشئ إنما هي باعتبار منافعه المحللة المقصودة
منه، لا باعتبار مطلق الفوائد الغير الملحوظة في ماليته، ولا باعتبار
الفوائد الملحوظة المحرمة، فإذا فرض أن لا فائدة في الشئ محللة
ملحوظة في ماليته فلا يجوز بيعه، لا على الإطلاق - لأن الإطلاق
ينصرف إلى كون الثمن بإزاء المنافع المقصودة منه، والمفروض حرمتها،
فيكون أكلا للمال بالباطل - ولا على قصد الفائدة النادرة المحللة،
لأن قصد الفائدة النادرة لا يوجب كون الشئ مالا. ثم إذا فرض
ورود النص الخاص على جواز بيعه - كما فيما نحن فيه - فلا بد من
حمله على إرادة (3) صورة قصد الفائدة النادرة، لأن أكل المال حينئذ
ليس بالباطل بحكم الشارع، بخلاف صورة عدم القصد، لأن المال في
هذه الصورة مبذول في مقابل المطلق، المنصرف إلى الفوائد المحرمة، فافهم.

(1) جامع المقاصد 4: 13.
(2) حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 24 عن أستاذه العلامة السيد بحر
العلوم، وانظر كفاية الأحكام: 85، والحدائق 18: 90.
(3) كلمة " إرادة " مشطوب عليها في " ن "، ومحذوفة من " ش ".
69

وحينئذ فلو لم يعلم المتبائعان جواز الاستصباح بهذا الدهن وتعاملا
من غير قصد إلى هذه الفائدة كانت المعاملة باطلة، لأن المال مبذول
مع الإطلاق في مقابل الشئ باعتبار الفوائد المحرمة.
نعم (1)، لو علمنا عدم التفات المتعاملين إلى المنافع أصلا، أمكن
صحتها، لأنه مال واقعي شرعا قابل لبذل المال بإزائه، ولم يقصد به
ما لا يصح (2) بذل المال بإزائه من المنافع المحرمة، ومرجع هذا في الحقيقة
إلى أنه لا يشترط إلا عدم قصد المنافع المحرمة، فافهم.
وأما فيما كان الاستصباح منفعة غالبة بحيث كان مالية الدهن
باعتباره - كالأدهان المعدة للإسراج - فلا يعتبر في صحة بيعه قصده
أصلا، لأن الشارع قد قرر ماليته العرفية بتجويز الاستصباح به وإن
فرض حرمة سائر منافعه، بناء على أضعف الوجهين، من وجوب
الاقتصار في الانتفاع بالنجس على مورد النص.
وكذا إذا كان الاستصباح منفعة مقصودة (3) مساوية (4) لمنفعة الأكل
المحرم - كالألية والزيت وعصارة السمسم - فلا يعتبر قصد المنفعة المحللة
فضلا عن اشتراطه، إذ يكفي في ماليته وجود المنفعة المقصودة المحللة،
غاية الأمر كون حرمة منفعته الأخرى المقصودة نقصا فيه يوجب الخيار
للجاهل.

(1) في " ف "، " خ "، " م "، " ع ": ثم.
(2) في " ش ": ما لم يصح.
(3) في " ف ": موجودة.
(4) في أكثر النسخ: متساوية.
70

نعم، يشترط عدم اشتراط المنفعة المحرمة بأن يقول: بعتك بشرط
أن تأكله، وإلا فسد العقد بفساد الشرط.
بل يمكن الفساد وإن لم نقل بإفساد الشرط الفاسد، لأن مرجع
الاشتراط في هذا الفرض إلى تعيين المنفعة المحرمة عليه، فيكون أكل
الثمن أكلا بالباطل، لأن حقيقة النفع العائد إلى المشتري بإزاء ثمنه
هو النفع المحرم، فافهم.
بل يمكن القول بالبطلان بمجرد القصد وإن لم يشترط في متن العقد.
وبالجملة، فكل بيع قصد فيه منفعة محرمة - بحيث قصد أكل الثمن
أو بعضه بإزاء المنفعة المحرمة - كان باطلا، كما يومئ إلى ذلك ما ورد في
تحريم شراء الجارية المغنية وبيعها (1).
وصرح في التذكرة بأن الجارية المغنية إذا بيعت بأكثر مما يرغب
فيها لولا الغناء، فالوجه التحريم (2)، انتهى.
ثم إن الأخبار المتقدمة خالية عن اعتبار قصد الاستصباح،
لأن موردها مما يكون الاستصباح فيه منفعة مقصودة منها كافية في ماليتها
العرفية.
وربما يتوهم من قوله عليه السلام في رواية الأعرج المتقدمة: " فلا تبعه
إلا لمن تبين له (3) فيبتاع للسراج " (4) اعتبار القصد، ويدفعه: أن الابتياع

(1) الوسائل 12: 86، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به.
(2) التذكرة 1: 465.
(3) في أكثر النسخ: تبينه لمن يشتريه.
(4) تقدمت في الصفحة: 67 (رواية إسماعيل بن عبد الخالق).
71

للسراج إنما جعل غاية للإعلام، بمعنى أن المسلم إذا اطلع على نجاسته
فيشتريه للإسراج، نظير قوله عليه السلام في رواية معاوية بن وهب: " يبينه (1)
لمن اشتراه ليستصبح به " (2).

(1) في غير " ش ": ينبه.
(2) تقدمت في الصفحة: 66 (الزيادة المحكية عن التهذيب).
72

الثاني:
أن ظاهر بعض الأخبار (1) وجوب الإعلام، فهل يجب مطلقا أم لا؟
وهل وجوبه نفسي أو شرطي؟ بمعنى اعتبار اشتراطه في صحة البيع.
الذي ينبغي أن يقال: إنه لا إشكال في وجوب الإعلام إن قلنا
باعتبار اشتراط الاستصباح في العقد، أو تواطؤهما عليه من الخارج، لتوقف
القصد على العلم بالنجاسة.
وأما إذا لم نقل باعتبار اشتراط الاستصباح في العقد، فالظاهر وجوب
الإعلام وجوبا نفسيا قبل العقد أو بعده، لبعض الأخبار المتقدمة.
وفي قوله عليه السلام: " يبينه لمن اشتراه ليستصبح به " (2) إشارة إلى
وجوب الإعلام لئلا يأكله، فإن الغاية للإعلام ليس هو تحقق الاستصباح،
إذ لا ترتب بينهما شرعا ولا عقلا ولا عادة، بل الفائدة حصر الانتفاع
فيه، بمعنى عدم الانتفاع به في غيره، ففيه إشارة إلى وجوب إعلام
الجاهل بما يعطى إذا كان الانتفاع الغالب به محرما بحيث يعلم عادة
وقوعه في الحرام لولا الإعلام، فكأنه قال: أعلمه لئلا يقع في الحرام
الواقعي بتركك الإعلام.
ويشير إلى هذه القاعدة كثير من الأخبار المتفرقة الدالة على
حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع في المحرمات، مثل ما دل على

(1) مثل ما تقدم من ذيل صحيحة معاوية بن وهب المروية في التهذيب، وموثقة
أبي بصير، ورواية إسماعيل بن عبد الخالق، راجع الصفحة: 66 - 67.
(2) تقدم في الصفحة: 66.
73

أن من أفتى بغير علم لحقه وزر من عمل بفتياه (1) فإن إثبات الوزر
للمباشر من جهة فعل القبيح الواقعي، وحمله على المفتي من حيث
التسبيب والتغرير.
ومثل قوله عليه السلام: " ما من إمام صلى بقوم فيكون في صلاتهم
تقصير، إلا كان عليه أوزارهم " (2) وفي رواية أخرى: " فيكون في صلاته
وصلاتهم تقصير، إلا كان إثم ذلك عليه " (3) وفي رواية أخرى: " لا يضمن
الإمام صلاتهم إلا أن يصلي بهم جنبا " (4).
ومثل رواية أبي بصير المتضمنة لكراهة أن تسقى البهيمة أو تطعم
ما لا يحل للمسلم أكله أو شربه (5)، فإن في كراهة ذلك في البهائم إشعارا
بحرمته بالنسبة إلى المكلف.
ويؤيده: أن أكل الحرام وشربه من القبيح، ولو في حق الجاهل،
ولذا يكون الاحتياط فيه مطلوبا مع الشك، إذ لو كان للعلم دخل في
قبحه لم يحسن الاحتياط، وحينئذ فيكون إعطاء النجس للجاهل المذكور
إغراء بالقبيح، وهو قبيح عقلا.
بل قد يقال بوجوب الإعلام وإن لم يكن منه تسبيب - كما لو رأى
نجسا في يده يريد أكله - وهو الذي صرح به العلامة رحمه الله في أجوبة

(1) الوسائل 18: 9، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث الأول.
(2) تحف العقول: 179.
(3) بحار الأنوار 88: 92.
(4) الوسائل 5: 434، الباب 36 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.
(5) الوسائل 17: 246، الباب 10 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 5.
74

المسائل المهنائية، حيث سأله السيد المهنا عمن رأى في ثوب المصلي
نجاسة، فأجاب بأنه يجب الإعلام، لوجوب النهي عن المنكر (1)، لكن
إثبات هذا مشكل.
والحاصل، أن هنا أمورا أربعة:
أحدها - أن يكون فعل الشخص علة تامة لوقوع الحرام في الخارج
- كما إذا أكره غيره على المحرم - ولا إشكال في حرمته وكون وزر الحرام
عليه، بل أشد، لظلمه.
وثانيها - أن يكون فعله سببا للحرام، كمن قدم إلى غيره محرما،
ومثله ما نحن فيه، وقد ذكرنا أن الأقوى فيه التحريم، لأن استناد الفعل
إلى السبب أقوى، فنسبة فعل الحرام إليه أولى، ولذا يستقر الضمان على
السبب، دون المباشر الجاهل، بل قيل: إنه لا ضمان ابتداء إلا عليه (2).
الثالث - أن يكون شرطا لصدور الحرام، وهذا يكون على
وجهين:
أحدهما - أن يكون من قبيل إيجاد الداعي على المعصية،
إما لحصول الرغبة فيها كترغيب الشخص على المعصية، وإما لحصول
العناد من الشخص حتى يقع في المعصية، كسب آلهة الكفار الموجب
لإلقائهم في سب الحق عنادا، أو سب آباء الناس الموقع لهم في سب
أبيه، والظاهر حرمة القسمين، وقد ورد في ذلك عدة من الأخبار (3).

(1) أجوبة المسائل المهنائية: 48، المسألة 53.
(2) لم نقف عليه.
(3) لم نقف على خبر يدل على حرمة القسم الأول - أي ترغيب الشخص على
المعصية -، وأما ما يدل على حرمة سب آلهة الكفار فهناك عدة أخبار وردت
في تفسير قوله تعالى: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله
عدوا بغير علم) * (الأنعام: 108) انظر تفسير الصافي 2: 147، وبالنسبة إلى
النهي عن سب آباء الناس المنتهي إلى السب المتقابل، انظر تنبيه الخواطر: 119.
75

وثانيهما (1) - أن يكون بإيجاد شرط آخر غير الداعي، كبيع العنب
ممن يعلم أنه يجعله خمرا، وسيأتي الكلام فيه.
الرابع - أن يكون من قبيل عدم المانع، وهذا يكون تارة مع
الحرمة الفعلية في حق الفاعل - كسكوت الشخص عن المنع من المنكر -،
ولا إشكال في الحرمة بشرائط النهي عن المنكر، وأخرى مع عدم الحرمة
الفعلية بالنسبة إلى الفاعل، كسكوت العالم عن إعلام الجاهل - كما فيما نحن
فيه - فإن صدور الحرام منه مشروط بعدم إعلامه.
فهل يجب دفع (2) الحرام بترك السكوت أم لا؟ فيه (3) إشكال،
إلا إذا علمنا من الخارج وجوب دفع (4) ذلك، لكونه فسادا قد أمر
بدفعه كل من قدر عليه، كما لو اطلع على عدم إباحة دم من يريد
الجاهل قتله، أو عدم إباحة عرضه له، أو لزم من سكوته ضرر مالي
قد أمرنا بدفعه عن كل أحد، فإنه يجب الإعلام والردع لو لم يرتدع
بالإعلام، بل الواجب هو الردع ولو بدون الإعلام، ففي الحقيقة الإعلام
بنفسه غير واجب.

(1) في غير " ش ": الثاني.
(2) في النسخ: رفع.
(3) في غير " ف ": وفيه.
(4) في النسخ: رفع.
76

وأما فيما تعلق بغير الثلاثة - من حقوق الله - فوجوب دفع (1) مثل
هذا الحرام مشكل، لأن الظاهر من أدلة النهي عن المنكر وجوب الردع
عن المعصية، فلا يدل على وجوب إعلام الجاهل بكون فعله معصية.
نعم، وجب ذلك فيما إذا كان الجهل بالحكم، لكنه من حيث
وجوب تبليغ التكاليف ليستمر التكليف إلى آخر الأبد بتبليغ الشاهد
الغائب، فالعالم في الحقيقة مبلغ عن الله ليتم الحجة على الجاهل ويتحقق
فيه قابلية الإطاعة والمعصية.
ثم إن بعضهم (2) استدل على وجوب الإعلام بأن النجاسة عيب
خفي فيجب إظهارها.
وفيه - مع أن وجوب الإعلام على القول به ليس مختصا
بالمعاوضات، بل يشمل مثل الإباحة والهبة من المجانيات -: أن كون
النجاسة عيبا ليس إلا لكونه منكرا واقعيا وقبيحا، فإن ثبت ذلك حرم
الإلقاء فيه مع قطع النظر عن مسألة وجوب إظهار العيب، وإلا لم يكن
عيبا، فتأمل.

(1) في النسخ: رفع.
(2) هو المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 8: 36.
77

الثالث:
المشهور بين الأصحاب وجوب كون الاستصباح تحت السماء،
بل في السرائر: أن الاستصباح به تحت الظلال محظور بغير خلاف (1).
وفي المبسوط: أنه روى أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء
دون السقف (2).
لكن الأخبار المتقدمة (3) - على كثرتها وورودها في مقام البيان -
ساكتة عن هذا القيد، ولا مقيد لها من الخارج عدا ما يدعى من مرسلة
الشيخ المنجبرة بالشهرة المحققة والاتفاق المحكي (4).
لكن لو سلم الانجبار فغاية الأمر دورانه بين تقييد المطلقات
المتقدمة، أو حمل الجملة الخبرية على الاستحباب أو الإرشاد، لئلا يتأثر
السقف بدخان النجس الذي هو نجس - بناء على ما ذكره الشيخ من
دلالة المرسلة على نجاسة دخان النجس - إذ قد لا يخلو من أجزاء
لطيفة دهنية تتصاعد بواسطة الحرارة.
ولا ريب أن مخالفة الظاهر في المرسلة - خصوصا بالحمل على
الإرشاد - أولى، خصوصا مع ابتناء التقييد: إما على ما ذكره الشيخ من
دلالة الرواية على نجاسة الدخان - المخالفة للمشهور -، وإما على كون

(1) السرائر 3: 122.
(2) المبسوط 6: 283.
(3) تقدمت في الصفحة: 66 - 67.
(4) تقدم آنفا عن السرائر.
78

الحكم تعبدا محضا، وهو في غاية البعد.
ولعله لذلك أفتى في المبسوط بالكراهة (1) مع روايته للمرسلة (2).
والإنصاف، أن المسألة لا تخلو عن إشكال، من حيث ظاهر
الروايات، البعيدة عن التقييد - لإبائها في أنفسها عنه وإباء المقيد
عنه -، ومن حيث الشهرة المحققة والاتفاق المنقول.
ولو رجع إلى أصالة البراءة حينئذ لم يكن إلا بعيدا عن الاحتياط
وجرأة على مخالفة المشهور.
ثم إن العلامة - في المختلف - فصل بين ما إذا علم بتصاعد شئ
من أجزاء الدهن، وما إذا لم يعلم (3)، فوافق المشهور في الأول، وهو
مبني على ثبوت حرمة تنجيس السقف، ولم يدل عليه دليل، وإن كان
ظاهر كل من حكم بكون الاستصباح تحت السماء تعبدا، لا لنجاسة
الدخان - معللا بطهارة دخان النجس -: التسالم على حرمة التنجيس،
وإلا لكان الأولى تعليل التعبد به، لا بطهارة الدخان، كما لا يخفى.

(1) المبسوط 6: 283.
(2) في " ش ": المرسلة.
(3) المختلف: 686.
79

الرابع:
هل يجوز الانتفاع بهذا الدهن في غير الاستصباح، بأن يعمل
صابونا أو يطلى به الأجرب أو السفن؟ قولان مبنيان على أن الأصل
في المتنجس جواز الانتفاع إلا ما خرج بالدليل - كالأكل والشرب،
والاستصباح تحت الظل -، أو أن القاعدة فيه المنع عن التصرف
إلا ما خرج بالدليل كالاستصباح تحت السماء، وبيعه ليعمل صابونا
على رواية ضعيفة تأتي (1).
والذي صرح به في مفتاح الكرامة هو الثاني (2)، ووافقه بعض
مشايخنا المعاصرين (3)، وهو ظاهر جماعة من القدماء، كالشيخين والسيدين
والحلي (4) وغيرهم.
قال في الانتصار: ومما انفردت به الإمامية، أن كل طعام عالجه
أهل الكتاب ومن ثبت كفرهم بدليل قاطع لا يجوز أكله ولا الانتفاع به،
واختلف (5) باقي الفقهاء في ذلك، وقد دللنا على ذلك في كتاب الطهارة،
حيث دللنا على أن سؤر الكفار نجس (6).

(1) تأتي في الصفحة: 92.
(2) مفتاح الكرامة 4: 13 و 24.
(3) الجواهر 22: 15.
(4) ستأتي الإشارة إلى مواضع كلامهم.
(5) في المصدر: وقد خالف.
(6) الإنتصار: 193، وانظر - أيضا - الصفحة: 11 منه.
80

وقال في المبسوط - في الماء المضاف -: إنه مباح التصرف فيه
بأنواع التصرف ما لم تقع فيه نجاسة، فإن وقعت فيه نجاسة لم يجز استعماله
على حال، وقال في حكم الماء المتغير بالنجاسة: إنه لا يجوز استعماله
إلا عند الضرورة، للشرب لا غير (1).
وقال في النهاية: وإن كان ما حصل فيه الميتة مائعا لم يجز استعماله
ووجب إهراقه (2)، انتهى.
وقريب منه عبارة المقنعة (3).
وقال في الخلاف - في حكم السمن والبذر والشيرج والزيت
إذا وقعت فيه فأرة -: إنه جاز الاستصباح به، ولا يجوز أكله،
ولا الانتفاع به بغير الاستصباح، وبه قال الشافعي، وقال قوم من
أصحاب الحديث: لا ينتفع به بحال، لا باستصباح ولا بغيره، بل يراق
كالخمر، وقال أبو حنيفة: يستصبح به ويباع لذلك (4)، وقال داود (5):
إن كان المائع سمنا لم ينتفع به بحال (6) وإن كان غيره (7) من الأدهان
لم ينجس بموت الفأرة فيه ويحل أكله وشربه، [لأن الخبر ورد

(1) المبسوط 1: 5 و 6.
(2) النهاية: 588.
(3) المقنعة: 582.
(4) كذا في " ف " ونسخة بدل " م "، وفي " ع ": ويباع لذلك مطلقا، وفي " خ "
و " م " و " ص ": ويباع مطلقا، وفي " ن " و " ش ": ويباع أيضا.
(5) في جميع النسخ: ابن داود، والصواب ما أثبتناه من المصدر.
(6) كلمة " بحال " من " ش " ومصححة " ن "، ولم ترد في سائر النسخ.
(7) في " ش ": ما عداه.
81

في السمن فحسب] (1)، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وفي السرائر - في حكم الدهن المتنجس -: أنه لا يجوز الإدهان به
ولا استعماله في شئ من الأشياء، عدا الاستصباح تحت السماء.
وادعى في موضع آخر: أن الاستصباح به تحت الظلال محظور
بغير خلاف (3).
وقال ابن زهرة - بعد أن اشترط في المبيع أن يكون مما ينتفع به
منفعة محللة (4) -: وشرطنا في المنفعة أن تكون مباحة، تحفظا من المنافع
المحرمة، ويدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره، عدا ما استثني:
من بيع الكلب المعلم للصيد، والزيت النجس للاستصباح به تحت السماء،
وهو إجماع الطائفة، ثم استدل على جواز بيع الزيت - بعد الإجماع -
بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن في الاستصباح به تحت السماء، قال:
وهذا يدل على جواز بيعه لذلك (5)، انتهى.
هذا، ولكن الأقوى - وفاقا لأكثر المتأخرين (6) - جواز الانتفاع
إلا ما خرج بالدليل، ويدل عليه أصالة الجواز، وقاعدة حل الانتفاع

(1) من " ش " والمصدر.
(2) الخلاف: كتاب الأطعمة، المسألة 19.
(3) السرائر 3: 121 - 122.
(4) في أكثر النسخ زيادة: قال.
(5) الغنية (الجوامع الفقهية): 524.
(6) كما يأتي عن المحقق والعلامة والشهيدين والمحقق الكركي في
الصفحات: 87 - 88.
82

بما في الأرض (1). ولا حاكم عليهما (2) سوى ما يتخيل من بعض الآيات
والأخبار، ودعوى الجماعة المتقدمة (3) الإجماع على المنع.
والكل غير قابل لذلك.
أما الآيات:
فمنها: قوله تعالى: * (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس
من عمل الشيطان فاجتنبوه) * (4)، دل - بمقتضى التفريع - على وجوب
اجتناب كل رجس.
وفيه: أن الظاهر من " الرجس " ما كان كذلك في ذاته،
لا ما عرض له ذلك، فيختص بالعناوين النجسة، وهي النجاسات العشر،
مع أنه لو عم المتنجس لزم أن يخرج عنه أكثر الأفراد، فإن أكثر
المتنجسات لا يجب الاجتناب عنه (5).
مع أن وجوب الاجتناب ثابت فيما كان رجسا من عمل الشيطان،
يعني من مبتدعاته، فيختص وجوب الاجتناب المطلق بما كان من عمل
الشيطان، سواء كان نجسا - كالخمر - أو قذرا معنويا - مثل الميسر -،
ومن المعلوم: أن المائعات المتنجسة - كالدهن والطين والصبغ والدبس -

(1) المستفاد من قوله تعالى: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * البقرة: 29.
(2) كذا في " ف " ومصححة " ن "، وفي غيرهما: عليها.
(3) كذا في " ش " ومصححة " ن "، وفي سائر النسخ: المتقدم.
(4) المائدة: 90.
(5) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: منه.
83

إذا تنجست ليست من أعمال الشيطان.
وإن أريد من " عمل الشيطان " عمل المكلف المتحقق في الخارج
بإغوائه ليكون المراد بالمذكورات استعمالها على النحو الخاص، فالمعنى:
أن الانتفاع بهذه المذكورات رجس من عمل الشيطان، كما يقال في
سائر المعاصي: إنها من عمل الشيطان، فلا تدل أيضا على وجوب
الاجتناب عن استعمال المتنجس إلا إذا ثبت كون الاستعمال رجسا، وهو
أول الكلام.
وكيف كان، فالآية لا تدل على المطلوب.
ومن بعض ما ذكرنا يظهر ضعف الاستدلال على ذلك بقوله
تعالى: * (والرجز فاهجر) * (1)، بناء على أن " الرجز " هو الرجس.
وأضعف من الكل: الاستدلال بآية تحريم الخبائث (2)، بناء على أن
كل متنجس خبيث، والتحريم المطلق يفيد (3) عموم الانتفاع، إذ لا يخفى
أن المراد هنا حرمة الأكل، بقرينة مقابلته بحلية الطيبات.
وأما الأخبار:
فمنها: ما تقدم من رواية تحف العقول، حيث علل النهي عن بيع
وجوه النجس بأن " ذلك كله محرم أكله وشربه وإمساكه وجميع التقلب
فيه، فجميع التقلب في ذلك حرام " (4).

(1) المدثر: 5.
(2) وهي قوله تعالى: * (ويحرم عليهم الخبائث) * الأعراف: 157.
(3) في " ش ": يفيد تحريم.
(4) تحف العقول: 333، مع اختلاف.
84

وفيه: ما تقدم من أن المراد ب‍ " وجوه النجس " عنواناته المعهودة،
لأن الوجه هو العنوان، والدهن ليس عنوانا للنجاسة، والملاقي للنجس
وإن كان عنوانا للنجاسة، لكنه ليس وجها من وجوه النجاسة في
مقابلة غيره، ولذا لم يعدوه عنوانا في مقابل العناوين النجسة، مع
ما عرفت من لزوم تخصيص الأكثر، لو أريد به المنع عن استعمال كل
متنجس.
ومنها: ما دل على الأمر بإهراق المائعات الملاقية للنجاسة (1)
وإلقاء ما حول الجامد من الدهن وشبهه وطرحه (2). وقد تقدم بعضها
في مسألة الدهن، وبعضها الآخر متفرقة، مثل قوله: " يهريق المرق " (3)
ونحو ذلك.
وفيه: أن طرحها كناية عن عدم الانتفاع بها في الأكل، فإن
ما أمر بطرحه من جامد الدهن والزيت يجوز الاستصباح به إجماعا،
فالمراد: إطراحه من ظرف الدهن وترك الباقي للأكل.
وأما الإجماعات:
ففي دلالتها على المدعى نظر، يظهر من ملاحظتها، فإن الظاهر
من كلام السيد - المتقدم (4) -: أن مورد الإجماع هو نجاسة ما باشره
أهل الكتاب، وأما حرمة الأكل والانتفاع فهي من فروعها المتفرعة

(1) الوسائل 16: 376، الباب 44 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث الأول.
(2) الوسائل 16: 374، الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرمة.
(3) لفظ الحديث: يهراق مرقها.
(4) يعني كلام السيد المرتضى، المتقدم في الصفحة: 80.
85

على النجاسة، لا أن معقد الإجماع حرمة الانتفاع بالنجس، فإن خلاف
باقي الفقهاء في أصل النجاسة في أهل الكتاب، لا في أحكام النجس.
وأما إجماع الخلاف (1)، فالظاهر أن معقده ما وقع الخلاف فيه بينه
وبين من ذكر من المخالفين، إذ فرق بين دعوى الإجماع على محل
النزاع بعد تحريره، وبين دعواه ابتداء على الأحكام المذكورات (2) في
عنوان المسألة، فإن الثاني يشمل الأحكام كلها، والأول لا يشمل
إلا الحكم الواقع موردا للخلاف (3)، لأنه الظاهر من قوله: " دليلنا إجماع
الفرقة "، فافهم واغتنم.
وأما إجماع السيد في الغنية (4)، فهو في أصل مسألة تحريم بيع
النجاسات واستثناء الكلب المعلم والزيت المتنجس، لا في ما ذكره
من أن حرمة بيع المتنجس من حيث دخوله فيما يحرم الانتفاع،
نعم، هو قائل بذلك.
وبالجملة، فلا ينكر ظهور كلام السيد في حرمة الانتفاع بالنجس
الذاتي والعرضي، لكن دعواه الإجماع على ذلك بعيدة عن مدلول كلامه
جدا.
وكذلك لا ينكر كون السيد والشيخ قائلين بحرمة الانتفاع بالمتنجس

(1) المتقدم في الصفحة: 81 - 82.
(2) في " ش ": المذكورة.
(3) كذا في " ف " و " خ "، وفي سائر النسخ: مورد الخلاف.
(4) المتقدم في الصفحة: 82.
86

- كما هو ظاهر المفيد (1) وصريح الحلي (2) - لكن دعواهما الإجماع على
ذلك ممنوعة عند المتأمل المنصف.
ثم على تقدير تسليم دعواهم الإجماعات، فلا ريب في وهنها
بما يظهر من أكثر المتأخرين من قصر حرمة الانتفاع على أمور خاصة.
قال في المعتبر - في أحكام الماء (3) المتنجس -: وكل ماء (4) حكم

(1) المقنعة: 582.
(2) السرائر 2: 219، و 3: 121.
(3) في " ش " زيادة: القليل.
(4) جاءت العبارة في هامش " ف " كما يلي:
" قال في المعتبر - في أحكام الماء القليل المتنجس -: الماء النجس لا يجوز
استعماله في رفع حدث ولا إزالة خبث مطلقا ولا في أكل ولا في
شرب إلا عند الضرورة، وأطلق الشيخ المنع من استعماله إلا عند الضرورة 1.
لنا، إن مقتضى الدليل: جواز الاستعمال مطلقا، ترك العمل به في ما ذكرنا
بالاتفاق والنقل، فيكون الباقي على الأصل " 2، انتهى.
وقال في موضع آخر من أحكام الماء المشتبه - في رد من قال بوجوب
الإراقة -: " إنه قد يتعلق الغرض ببقائه لأجل الاستعمال في غير الطهارة والأكل
والشرب 3.
وقال بعد ذلك - أيضا -: إن كل ماء.. صح صح ".
-
1 - المبسوط 1: 7.
2 - المعتبر 1: 50 - 51.
3 - المعتبر 1: 104.
87

بنجاسته لم يجز استعماله - إلى أن قال -: ويريد (1) بالمنع عن استعماله:
الاستعمال في الطهارة وإزالة الخبث والأكل والشرب دون غيره،
مثل بل الطين وسقي الدابة (2)، انتهى.
أقول: إن بل الصبغ والحناء بذلك الماء داخل في الغير، فلا يحرم
الانتفاع بهما.
وأما العلامة، فقد قصر حرمة استعمال الماء المتنجس - في التحرير
والقواعد والإرشاد - على الطهارة والأكل والشرب (3) وجوز في المنتهى
الانتفاع بالعجين النجس في علف الدواب، محتجا بأن المحرم على المكلف
تناوله، وبأنه انتفاع فيكون سائغا، للأصل (4).
ولا يخفى أن كلا دليليه صريح في حصر التحريم في أكل العجين
المتنجس (5).
وقال الشهيد في قواعده: " النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة
والأغذية " (6) ثم ذكر ما يؤيد المطلوب.
وقال في الذكرى - في أحكام النجاسة -: تجب إزالة النجاسة

(1) في " ف "، و " ن "، و " ش ": نريد.
(2) المعتبر 1: 105.
(3) التحرير 1: 5، القواعد 1: 189، الإرشاد 1: 238.
(4) المنتهى 1: 180، ولم نجد في كلامه الاستدلال بالأصل صريحا.
(5) كذا في " ن " و " ش "، ولم يرد " العجين " في " ف "، كما لم يرد " المتنجس " في
سائر النسخ.
(6) القواعد والفوائد 2: 85، القاعدة: 175.
88

عن الثوب والبدن، ثم ذكر المساجد وغيرها، - إلى أن قال -: وعن
كل مستعمل في أكل أو شرب أو ضوء تحت ظل، للنهي عن النجس،
وللنص (1)، انتهى.
مراده (2) بالنهي عن النجس: النهي عن أكله، ومراده بالنص:
ما ورد من المنع عن الاستصباح بالدهن المتنجس تحت السقف (3)، فانظر
إلى صراحة كلامه في أن المحرم من الدهن المتنجس - بعد الأكل
والشرب - خصوص الاستضاءة تحت الظل، للنص.
وهو المطابق لما حكاه المحقق الثاني - في حاشية الإرشاد (4) -
عنه قدس سره في بعض فوائده: من جواز الانتفاع بالدهن المتنجس في
جميع ما يتصور من فوائده.
وقال المحقق والشهيد الثانيان في المسالك وحاشية الإرشاد، - عند
قول المحقق والعلامة قدس سرهما: " تجب إزالة النجاسة عن الأواني " (5) -:
إن هذا إذا استعملت في ما يتوقف استعماله على الطهارة، كالأكل والشرب (6).
وسيأتي (7) عن المحقق الثاني في حاشية الإرشاد - في مسألة

(1) ذكرى الشيعة: 14.
(2) في " ص " و " ش ": ومراده.
(3) وهي المرسلة المتقدمة عن المبسوط في الصفحة: 78.
(4) حاشية الإرشاد (مخطوط): 203 - 204.
(5) الشرائع 1: 53، الإرشاد 1: 239.
(6) حاشية الإرشاد (مخطوط): 28، المسالك 1: 124.
(7) في الصفحة: 94.
89

الانتفاع بالأصباغ المتنجسة - ما يدل على عدم توقف جواز الانتفاع بها
على الطهارة.
وفي المسالك - في ذيل قول المحقق قدس سره: " وكل مائع نجس
عدا الأدهان " - قال: لا فرق في عدم جواز بيعها - على القول بعدم
قبولها للطهارة - بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه وعدمه،
ولا بين الإعلام بحالها وعدمه، على ما نص عليه الأصحاب، وأما الأدهان
المتنجسة بنجاسة عارضية - كالزيت تقع فيه الفأرة - فيجوز بيعها لفائدة
الاستصباح بها (1) وإنما خرج هذا الفرد بالنص، وإلا فكان ينبغي مساواتها
لغيرها من المائعات المتنجسة التي يمكن الانتفاع بها في بعض الوجوه،
وقد ألحق بعض الأصحاب ببيعها للاستصباح بيعها لتعمل صابونا أو يطلى
به (2) الأجرب ونحو ذلك. ويشكل بأنه خروج عن مورد النص المخالف
للأصل، فإن جاز لتحقق المنفعة، فينبغي مثله في المائعات النجسة (3) التي
ينتفع بها، كالدبس يطعم النحل (4) وغيره (5)، انتهى.
ولا يخفى ظهوره في جواز الانتفاع بالمتنجس، وكون المنع من بيعه
لأجل النص، يقتصر على مورده.
وكيف كان، فالمتتبع في كلام المتأخرين يقطع بما استظهرناه

(1) كلمة " بها " من " ش " والمصدر فقط.
(2) كذا في النسخ، وفي المصدر: بها، وهو الأنسب.
(3) في " ف ": المتنجسة.
(4) في " ش " والمصدر: للنحل.
(5) المسالك 3: 119.
90

من كلماتهم.
والذي أظن - وإن كان الظن لا يغني لغيري شيئا - أن كلمات
القدماء ترجع إلى ما ذكره المتأخرون، وأن المراد بالانتفاع في كلمات
القدماء: الانتفاعات الراجعة إلى الأكل والشرب، وإطعام الغير، وبيعه
على نحو بيع ما يحل أكله (1).
ثم (2) لو فرضنا مخالفة القدماء كفى موافقة المتأخرين في دفع (3)
الوهن عن الأصل والقاعدة السالمين عما يرد عليهما.
ثم على تقدير جواز غير الاستصباح من الانتفاعات، فالظاهر
جواز بيعه لهذه الانتفاعات، وفاقا للشهيد والمحقق الثاني قدس سرهما.
قال الثاني في حاشية الإرشاد - في ذيل قول العلامة رحمه الله:
" إلا الدهن للاستصباح " -: إن في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا
الشهيد أن الفائدة لا تنحصر في ذلك، إذ مع فرض فائدة أخرى للدهن
لا تتوقف على طهارته يمكن بيعها لها، كاتخاذ الصابون منه، قال:
وهو مروي، ومثله طلي الدواب. أقول: لا بأس بالمصير إلى ما ذكره
شيخنا، وقد ذكر أن به رواية (4)، انتهى.

(1) في هامش " ف " - هنا - زيادة ما يلي: " كما يشهد لذلك أن المحقق قدس سره
في ما تقدم من كلامه الأول لم يسند عموم المنع إلا إلى إطلاق الشيخ قدس سره،
لا إلى مذهبه - هنا كلمتان غير مقروءتين.. صح صح ".
(2) شطب في " ف " على " ثم " وكتب بدلها: " و ".
(3) كذا في " ع " و " ص "، وفي سائر النسخ: رفع.
(4) حاشية الإرشاد (مخطوط): 204.
91

أقول: والرواية إشارة إلى ما عن الراوندي - في كتاب النوادر -
بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، وفيه: " سئل عليه السلام
عن الشحم يقع فيه شئ له دم فيموت؟ قال عليه السلام: تبيعه لمن يعمله
صابونا... الخبر " (1).
ثم لو قلنا بجواز البيع في الدهن لغير المنصوص من الانتفاعات
المباحة، فهل يجوز بيع غيره من المتنجسات المنتفع بها في المنافع
المقصودة المحللة - كالصبغ والطين ونحوهما -، أم يقتصر على المتنجس
المنصوص - وهو الدهن - غاية الأمر التعدي من حيث غاية البيع
إلى غير الاستصباح؟ إشكال:
من ظهور استثناء الدهن في كلام المشهور في عدم جواز بيع
ما عداه، بل عرفت من المسالك (2) نسبة عدم الفرق بين ما له منفعة
محللة وما ليست له إلى نص الأصحاب.
ومما تقدم في مسألة جلد الميتة: من أن الظاهر من كلمات جماعة
من القدماء والمتأخرين - كالشيخ في الخلاف وابن زهرة والعلامة وولده
والفاضل المقداد والمحقق الثاني (3) وغيرهم - دوران المنع عن بيع النجس

(1) مستدرك الوسائل 13: 73، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7،
ولفظ الحديث: " أن عليا عليه السلام سئل عن الزيت يقع فيه... ".
(2) تقدم في الصفحة: 90.
(3) الخلاف 3: 187، كتاب البيوع، المسألة 312، الغنية (الجوامع
الفقهية): 524، التذكرة 1: 465، إيضاح الفوائد 1: 401، التنقيح 2: 5، جامع
المقاصد 4: 12.
92

مدار جواز الانتفاع به وعدمه، إلا ما خرج بالنص - كأليات الميتة (1)
مثلا - أو مطلق نجس العين، على ما سيأتي من الكلام فيه، وهذا هو الذي
يقتضيه استصحاب الحكم قبل التنجس (2) وهي (3) القاعدة المستفادة من
قوله عليه السلام - في رواية تحف العقول -: " إن كل شئ يكون لهم فيه
الصلاح من جهة من الجهات، فذلك كله حلال " (4).
وما تقدم من رواية دعائم الإسلام من حل بيع كل ما يباح
الانتفاع به (5).
وأما قوله تعالى: * (فاجتنبوه) * (6) وقوله تعالى: * (والرجز فاهجر) * (7)
فقد عرفت أنهما لا يدلان (8) على حرمة الانتفاع بالمتنجس، فضلا عن حرمة
البيع على تقدير جواز الانتفاع.
ومن ذلك يظهر عدم صحة الاستدلال في ما نحن فيه بالنهي - في
رواية تحف العقول - عن بيع " شئ من وجوه النجس " بعد ملاحظة (9)

(1) الوسائل 16: 296، الباب 30 من أبواب الذبائح، الحديث 4.
(2) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: التنجيس.
(3) مشطوب عليها في " ن ".
(4) تحف العقول: 333.
(5) راجع الصفحة: 10.
(6) المائدة: 89.
(7) المدثر: 5.
(8) في أكثر النسخ: أنها لا تدل. وفي " ش ": أنهما لا تدلان، وما أثبتناه مطابق
لمصححة " ن ".
(9) وردت في " ش " فقط.
93

تعليل المنع فيها بحرمة الانتفاع.
ويمكن حمل كلام من أطلق المنع عن بيع النجس إلا الدهن لفائدة
الاستصباح على إرادة المائعات النجسة التي لا ينتفع بها في غير الأكل
والشرب منفعة محللة مقصودة من أمثالها.
ويؤيده: تعليل استثناء الدهن بفائدة (1) الاستصباح، نظير استثناء
بول الإبل للاستشفاء، وإن احتمل أن يكون ذكر الاستصباح لبيان
ما يشترط أن يكون غاية للبيع.
قال في جامع المقاصد - في شرح قول العلامة قدس سره: " إلا الدهن
المتنجس (2) لتحقق فائدة (3) الاستصباح به تحت السماء خاصة " - قال:
وليس المراد ب‍ " خاصة " بيان حصر الفائدة (4) - كما هو الظاهر -، وقد ذكر
شيخنا الشهيد في حواشيه: أن في رواية جواز اتخاذ الصابون من الدهن
المتنجس، وصرح مع ذلك بجواز الانتفاع به فيما يتصور من فوائده
كطلي الدواب.
إن قيل: إن العبارة تقتضي حصر الفائدة، لأن الاستثناء في سياق
النفي يفيد الحصر، فإن المعنى في العبارة: إلا الدهن المتنجس لهذه
الفائدة.
قلنا: ليس المراد ذلك، لأن الفائدة بيان لوجه الاستثناء، أي:

(1) كذا في " ن "، و " ش "، وفي غيرهما: لفائدة.
(2) لم ترد كلمة " المتنجس " في غير " ف ".
(3) في المصدر: إلا الدهن النجس لفائدة.
(4) في " ش " زيادة: في الاستصباح.
94

إلا الدهن لتحقق فائدة الاستصباح، وهذا لا يستلزم الحصر، ويكفي في
صحة ما قلنا تطرق الاحتمال في العبارة المقتضي لعدم الحصر (1)، انتهى.
وكيف كان، فالحكم بعموم كلمات هؤلاء لكل مائع متنجس - مثل
الطين والجص المائعين، والصبغ، وشبه ذلك - محل تأمل.
وما نسبه في المسالك من عدم فرقهم في المنع عن بيع المتنجس
بين ما يصلح للانتفاع به وما لا يصلح (2) فلم يثبت صحته، مع
ما عرفت من كثير من الأصحاب من إناطة الحكم في كلامهم مدار
الانتفاع (3).
ولأجل ذلك استشكل المحقق الثاني - في حاشية الإرشاد - في
ما (4) ذكره العلامة بقوله: " ولا بأس ببيع ما عرض له التنجيس مع قبول
الطهارة " (5) حيث قال: مقتضاه أنه لو لم يكن قابلا للطهارة لم يجز بيعه،
وهو مشكل، إذ الأصباغ المتنجسة لا تقبل التطهير عند الأكثر، والظاهر
جواز بيعها، لأن منافعها لا تتوقف على الطهارة، اللهم إلا أن يقال:
إنها تؤول إلى حالة يقبل معها التطهير، لكن بعد جفافها، بل ذلك هو

(1) جامع المقاصد 4: 13.
(2) تقدم في الصفحة: 90.
(3) راجع الصفحة: 92 - 93.
(4) كذا في " ش "، وفي " ف " ومصححة " ن ": ما ذكره، وفي سائر النسخ: وما
ذكره.
(5) الإرشاد 1: 357.
95

المقصود منها، فاندفع الإشكال (1).
أقول: لو لم يعلم من مذهب العلامة دوران المنع عن بيع المتنجس
مدار حرمة الانتفاع لم يرد على عبارته إشكال، لأن المفروض حينئذ
التزامه بجواز الانتفاع بالأصباغ مع عدم جواز بيعها، إلا أن يرجع
الإشكال إلى حكم العلامة وأنه مشكل على مختار المحقق الثاني،
لا إلى كلامه، وأن الحكم مشكل على مذهب المتكلم، فافهم.
ثم إن ما دفع به الإشكال - من جعل الأصباغ قابلة للطهارة -
إنما ينفع في خصوص الأصباغ، وأما مثل بيع الصابون المتنجس،
فلا يندفع الإشكال عنه بما ذكره، وقد تقدم منه (2) سابقا (3) جواز بيع
الدهن المتنجس ليعمل صابونا، بناء على أنه من فوائده المحللة.
مع أن ما ذكره من قبول الصبغ التطهير بعد الجفاف محل نظر،
لأن المقصود من قبوله الطهارة قبولها قبل الانتفاع، وهو مفقود في
الأصباغ، لأن الانتفاع بها - وهو الصبغ - قبل الطهارة، وأما ما يبقى
منها بعد الجفاف - وهو اللون - فهي نفس المنفعة، لا الانتفاع، مع أنه
لا يقبل التطهير، وإنما القابل هو الثوب.

(1) حاشية الإرشاد (مخطوط): 204، مع اختلاف.
(2) في " ف "، " خ ": عنه.
(3) تقدم في الصفحة: 91.
96

بقي الكلام في حكم نجس العين، من حيث أصالة حل الانتفاع به
في غير ما ثبتت حرمته، أو أصالة العكس.
فاعلم أن ظاهر الأكثر أصالة حرمة الانتفاع بنجس العين،
بل ظاهر فخر الدين - في شرح الإرشاد - والفاضل المقداد: الإجماع
على ذلك، حيث استدلا على عدم جواز بيع الأعيان النجسة بأنها
محرمة الانتفاع، وكل ما هو كذلك لا يجوز بيعه، قالا: أما الصغرى
فإجماعية (1).
ويظهر من الحدائق - في مسألة الانتفاع بالدهن المتنجس (2)
في غير الاستصباح - نسبة ذلك إلى الأصحاب (3).
ويدل عليه ظواهر الكتاب والسنة:
مثل قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة والدم) * (4)، بناء على
ما ذكره الشيخ والعلامة من إرادة جميع الانتفاعات (5).
وقوله تعالى: * (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل
الشيطان فاجتنبوه) * (6) الدال على وجوب اجتناب كل رجس، وهو

(1) التنقيح 2: 5، ولا يوجد لدينا شرح الإرشاد.
(2) في " ف ": النجس.
(3) الحدائق 18: 89.
(4) المائدة: 3.
(5) الخلاف 1: 62، كتاب الطهارة، المسألة 10، نهاية الإحكام 2: 462.
(6) المائدة: 90.
97

نجس العين.
وقوله تعالى: * (والرجز فاهجر) * (1)، بناء على أن هجره لا يحصل
إلا بالاجتناب عنه مطلقا.
وتعليله عليه السلام - في رواية تحف العقول - حرمة بيع وجوه النجس
بحرمة الأكل والشرب والإمساك وجميع التقلبات فيه.
ويدل عليه - أيضا - كل ما دل من الأخبار والإجماع على عدم
جواز بيع نجس العين (2)، بناء على أن المنع من بيعه لا يكون إلا مع
حرمة الانتفاع به.
هذا، ولكن التأمل يقضي بعدم جواز الاعتماد في مقابلة أصالة
الإباحة، على شئ مما ذكر.
أما آيات التحريم والاجتناب والهجر، فلظهورها في الانتفاعات
المقصودة في كل نجس بحسبه، وهي في مثل الميتة: الأكل، وفي الخمر:
الشرب، وفي الميسر: اللعب به، وفي الأنصاب والأزلام: ما يليق
بحالهما.
وأما رواية تحف العقول، فالمراد بالإمساك والتقلب فيه (3) ما يرجع
إلى الأكل والشرب، وإلا فسيجئ الاتفاق على جواز إمساك نجس العين
لبعض الفوائد.

(1) المدثر: 5.
(2) تقدم في مسائل الاكتساب بالأعيان النجسة، فراجع.
(3) في مصححة " ن ": فيها. وتذكير الضمير صحيح أيضا باعتبار رجوعه إلى
" النجس " في الرواية.
98

وما دل من الإجماع والأخبار على حرمة بيع نجس العين قد
يدعى اختصاصه بغير ما يحل الانتفاع (1) المعتد به، أو يمنع (2) استلزامه
لحرمة الانتفاع، بناء على أن نجاسة العين مانع مستقل عن جواز البيع
من غير حاجة إلى إرجاعها إلى عدم المنفعة المحللة.
وأما توهم الإجماع، فمدفوع بظهور كلمات كثير منهم في جواز
الانتفاع في الجملة.
قال في المبسوط: إن سرجين ما لا يؤكل لحمه وعذرة الإنسان
وخرؤ الكلاب لا يجوز بيعها، ويجوز الانتفاع بها في الزروع والكروم
وأصول الشجر بلا خلاف (3)، انتهى.
وقال العلامة في التذكرة: " يجوز اقتناء الأعيان النجسة لفائدة " (4)
ونحوها في القواعد (5).
وقرره على ذلك في جامع المقاصد، وزاد عليه قوله: لكن هذه
لا تصيرها مالا بحيث يقابل بالمال (6).
وقال في باب الأطعمة والأشربة من المختلف: إن شعر الخنزير
يجوز استعماله مطلقا، مستدلا بأن نجاسته لا تمنع الانتفاع به، لما فيه من

(1) في أكثر النسخ زيادة: المحلل.
(2) في " ف " و " خ " و " م " و " ص ": أو بمنع.
(3) المبسوط 2: 167.
(4) التذكرة 1: 582.
(5) القواعد 1: 120.
(6) جامع المقاصد 4: 15.
99

المنفعة الخالية عن ضرر عاجل وآجل (1).
وقال الشهيد في قواعده: " النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة
والأغذية، للاستقذار، أو للتوصل بها إلى الفرار " ثم ذكر أن قيد
" الأغذية " لبيان مورد الحكم، وفيه تنبيه على الأشربة، كما أن في الصلاة
تنبيها على الطواف (2)، انتهى.
وهو كالنص في جواز الانتفاع بالنجس في غير هذه الأمور.
وقال الشهيد الثاني في الروضة عند قول المصنف - في عداد
ما لا يجوز بيعه من النجاسات -: " والدم "، قال: " وإن فرض له نفع
حكمي كالصبغ، " وأبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه "، وإن فرض لهما
نفع " (3).
فإن الظاهر أن المراد بالنفع المفروض للدم والأبوال والأرواث
هو النفع المحلل، وإلا لم يحسن ذكر هذا القيد في خصوص هذه
الأشياء دون سائر النجاسات، ولا ذكر خصوص الصبغ للدم، مع أن
الأكل هي المنفعة المتعارفة المنصرف إليها الإطلاق في قوله تعالى:
* (حرمت عليكم الميتة والدم) * (4) والمسوق لها الكلام في قوله تعالى:
* (أو دما مسفوحا) * (5).

(1) المختلف 1: 684.
(2) القواعد والفوائد 2: 85.
(3) الروضة البهية 3: 209.
(4) المائدة: 3.
(5) الأنعام: 145.
100

وما ذكرنا هو ظاهر المحقق الثاني، حيث حكى عن الشهيد، أنه
حكى عن العلامة: جواز الاستصباح بدهن الميتة، ثم قال: " وهو بعيد،
لعموم النهي (1) عن الانتفاع بالميتة " (2)، فإن عدوله عن التعليل بعموم المنع
عن الانتفاع بالنجس إلى ذكر خصوص الميتة يدل على عدم العموم في
النجس.
وكيف كان، فلا يبقى بملاحظة ما ذكرنا وثوق بنقل الإجماع
- المتقدم عن شرح الإرشاد والتنقيح (3) - الجابر لرواية تحف العقول
الناهية عن جميع التقلب في النجس، مع احتمال أن يراد من " جميع
التقلب " جميع أنواع التعاطي، لا الاستعمالات، ويراد من " إمساكه ":
إمساكه للوجه المحرم.
ولعله للإحاطة بما ذكرنا اختار بعض الأساطين (4) - في شرحه على
القواعد - جواز الانتفاع بالنجس كالمتنجس، لكن مع تفصيل لا يرجع
إلى مخالفة في محل الكلام.
فقال: ويجوز الانتفاع بالأعيان النجسة والمتنجسة في غير ما ورد
النص بمنعه، كالميتة النجسة التي لا يجوز الانتفاع بها فيما يسمى استعمالا
عرفا، للأخبار والإجماع، وكذا الاستصباح بالدهن المتنجس تحت
الظلال، وما دل على المنع من الانتفاع بالنجس والمتنجس مخصوص

(1) في المصدر: لثبوت النهي.
(2) جامع المقاصد 4: 13.
(3) راجع الصفحة: 97.
(4) هو الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس سره.
101

أو منزل على الانتفاع الدال على عدم الإكتراث بالدين وعدم المبالاة،
وأما من استعمله ليغسله فغير مشمول للأدلة ويبقى على حكم
الأصل (1)، انتهى.
والتقييد ب‍ " ما يسمى استعمالا " في كلامه رحمه الله لعله لإخراج مثل
الإيقاد بالميتة، وسد ساقية الماء بها، وإطعامها لجوارح الطير، ومراده
سلب الاستعمال المضاف إلى الميتة عن هذه الأمور، لأن استعمال كل
شئ إعماله في العمل المقصود منه عرفا، فإن إيقاد الباب والسرير
لا يسمى استعمالا لهما.
لكن يشكل بأن المنهي عنه في النصوص " الانتفاع بالميتة " الشامل
لغير الاستعمال المعهود المتعارف في الشئ، ولذا قيد هو قدس سره " الانتفاع "
بما يسمى استعمالا (2).
نعم، يمكن أن يقال: إن مثل هذه الاستعمالات لا تعد انتفاعا،
تنزيلا لها منزلة المعدوم، ولذا يقال للشئ: إنه مما لا ينتفع به، مع
قابليته للأمور المذكورة.
فالمنهي عنه هو الانتفاع بالميتة بالمنافع المقصودة التي تعد (3) غرضا
من تملك الميتة لولا كونها ميتة، وإن كانت قد تملك لخصوص هذه

(1) شرح القواعد (مخطوط): الورقة 4.
(2) ما أثبتناه مطابق ل‍ " ش " وقد وردت العبارة في " ف " هكذا: ولذا
قيده هو قدس سره بقوله: الانتفاع بما يسمى استعمالا، وفي " ن " و " خ " و " م "
و " ص " و " ع " هكذا: ولذا قيده هو قدس سره الانتفاع بما يسمى استعمالا.
(3) في " ش " زيادة: عرفا.
102

الأمور، كما قد يشترى اللحم لإطعام الطيور والسباع، لكنها أغراض
شخصية، كما قد يشترى الجلاب لإطفاء النار، والباب للإيقاد والتسخين به.
قال العلامة في النهاية - في بيان أن الانتفاع ببول غير المأكول في
الشرب للدواء منفعة جزئية لا يعتد بها - قال: إذ كل شئ من
المحرمات لا يخلو عن منفعة - كالخمر للتخليل، والعذرة للتسميد، والميتة
لأكل جوارح الطير - ولم يعتبرها الشارع (1)، انتهى.
ثم إن الانتفاع المنفي في الميتة وإن كان مطلقا في حيز النفي،
إلا أن اختصاصه (2) بما ادعيناه من الأغراض المقصودة من الشئ - دون
الفوائد المترتبة عليه من دون أن تعد مقاصد - ليس من جهة
انصرافه (3) إلى المقاصد حتى يمنع انصراف المطلق في حيز النفي، بل من
جهة التسامح والادعاء العرفي - تنزيلا للموجود منزلة المعدوم - فإنه
يقال للميتة مع وجود تلك الفوائد فيها: إنها مما لا ينتفع به.
ومما ذكرنا ظهر الحال في البول والعذرة والمني، فإنها مما لا ينتفع
بها، وإن استفيد منها بعض الفوائد، كالتسميد والإحراق - كما هو سيرة
بعض الجصاصين من العرب - كما يدل عليه وقوع السؤال في بعض
الروايات عن الجص يوقد عليه العذرة وعظام الموتى ويجصص به
المسجد، فقال الإمام عليه السلام: " إن الماء والنار قد طهراه " (4)، بل في

(1) نهاية الإحكام 2: 463.
(2) كذا في " ش " ومصححة " ن "، وفي سائر النسخ: اختصاصها.
(3) كذا في " ش " ومصححة " ن "، وفي سائر النسخ: انصرافها.
(4) الوسائل 2: 1099، الباب 81 من أبواب النجاسات، الحديث الأول.
103

الرواية إشعار بالتقرير، فتفطن.
وأما ما ذكره من تنزيل ما دل على المنع عن الانتفاع بالنجس
على ما يؤذن بعدم الاكتراث بالدين وعدم المبالاة لا من استعمله
ليغسله، فهو تنزيل بعيد.
نعم، يمكن أن ينزل على الانتفاع به على وجه الانتفاع بالطاهر،
بأن يستعمله على وجه يوجب تلويث بدنه وثيابه وسائر آلات الانتفاع
- كالصبغ بالدم - وإن بنى على غسل الجميع عند الحاجة إلى ما يشترط
فيه الطهارة، وفي بعض الروايات إشارة إلى ذلك.
ففي الكافي بسنده عن الوشاء، قال: " قلت (1) لأبي الحسن عليه السلام:
- جعلت فداك - إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها،
فقال: حرام، هي ميتة، فقلت: جعلت فداك فيستصبح (2) بها؟ فقال:
أما علمت أنه يصيب اليد والثوب وهو حرام؟ " (3) بحملها على حرمة
الاستعمال على وجه يوجب تلويث البدن والثياب.
وأما حمل الحرام على النجس - كما في كلام بعض (4) - فلا شاهد
عليه.

(1) في " خ " و " م " و " ع ": قال: قال، وفي المصدر: قال: سألت أبا الحسن عليه السلام،
فقلت له.
(2) في المصدر: فنصطبح.
(3) الكافي 6: 255، الحديث 3، والوسائل 16: 364، الباب 32 من
أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث الأول.
(4) الجواهر 5: 315.
104

والرواية في نجس العين، فلا ينتقض بجواز الاستصباح بالدهن
المتنجس، لاحتمال كون مزاولة نجس العين مبغوضة (1) للشارع، كما يشير
إليه قوله تعالى: * (والرجز فاهجر) * (2).
ثم إن منفعة النجس المحللة - للأصل أو للنص - قد تجعله (3) مالا
عرفا، إلا أنه منع الشرع عن بيعه، كجلد الميتة إذا قلنا بجواز الاستقاء
به لغير الوضوء - كما هو مذهب جماعة (4) - مع القول بعدم جواز بيعه،
لظاهر الإجماعات المحكية (5)، وشعر الخنزير إذا جوزنا استعماله اختيارا،
والكلاب الثلاثة إذا منعنا عن بيعها، فمثل هذه أموال لا تجوز المعاوضة
عليها، ولا يبعد جواز هبتها، لعدم المانع مع وجود المقتضي، فتأمل.
وقد لا تجعله مالا عرفا، لعدم ثبوت المنفعة المقصودة منه له (6)
وإن ترتب عليه الفوائد، كالميتة التي يجوز إطعامها لجوارح الطير والإيقاد
بها، والعذرة للتسميد، فإن الظاهر أنها لا تعد أموالا عرفا، كما اعترف
به جامع المقاصد (7) في شرح قول العلامة: " ويجوز اقتناء الأعيان النجسة

(1) كذا في " ش " ومصححة " ن "، وفي سائر النسخ: مبغوضا.
(2) المدثر: 5.
(3) كذا في " ش " ومصححة " ن "، وفي سائر النسخ: يجعلها.
(4) كالشيخ في النهاية: 587، والمحقق في الشرائع 3: 227، والعلامة في الإرشاد
2: 113، والفاضل الآبي في كشف الرموز 2: 374.
(5) تقدمت عن التذكرة والمنتهى والتنقيح، في الصفحة: 31.
(6) كذا في " ش " ومصححة " ن "، وفي سائر النسخ: منها لها.
(7) جامع المقاصد 4: 15.
105

لفائدة ".
والظاهر ثبوت حق الاختصاص في هذه الأمور الناشئ إما عن
الحيازة، وإما عن كون أصلها مالا للمالك، كما لو مات حيوان له،
أو فسد لحم اشتراه للأكل على وجه خرج عن المالية.
والظاهر جواز المصالحة على هذا الحق بلا عوض، بناء على صحة
هذا الصلح، بل ومع (1) العوض، بناء على أنه لا يعد ثمنا لنفس العين
حتى يكون سحتا بمقتضى الأخبار (2).
قال في التذكرة: ويصح الوصية بما يحل الانتفاع به من
النجاسات، كالكلب المعلم، والزيت النجس لإشعاله تحت السماء، والزبل
للانتفاع بإشعاله والتسميد به، وجلد الميتة - إن سوغنا الانتفاع به -
والخمر المحترمة، لثبوت الاختصاص فيها، وانتقالها من يد إلى يد
بالإرث وغيره (3)، انتهى.
والظاهر أن مراده بغير الإرث: الصلح الناقل.
وأما اليد الحادثة بعد إعراض اليد الأولى فليس انتقالا.
لكن الانصاف: أن الحكم مشكل.
نعم، لو بذل مالا على أن يرفع يده عنها ليحوزها الباذل كان
حسنا، كما يبذل الرجل المال على أن يرفع اليد عما في تصرفه من

(1) كذا في " ن "، و " ش "، وفي غيرهما: بل دفع العوض.
(2) الوسائل 12: 61، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، والحديث الأول من
الباب 40 منها.
(3) التذكرة 2: 479.
106

الأمكنة المشتركة، كمكانه من المسجد والمدرسة والسوق.
وذكر بعض الأساطين - بعد إثبات حق الاختصاص -: أن دفع
شئ من المال لافتكاكه يشك في دخوله تحت الاكتساب المحظور، فيبقى
على أصالة الجواز (1).
ثم إنه يشترط في الاختصاص بالحيازة قصد الحائز للانتفاع،
ولذا ذكروا: أنه لو علم كون حيازة الشخص للماء والكلأ لمجرد
العبث، لم يحصل له حق، وحينئذ فيشكل الأمر في ما تعارف في بعض
البلاد من جمع العذرات، حتى إذا صارت من الكثرة بحيث ينتفع بها
في البساتين والزرع بذل له مال فأخذت منه، فإن الظاهر - بل المقطوع -
أنه لم يحزها للانتفاع بها، وإنما حازها لأخذ المال عليها، ومن المعلوم:
أن حل المال فرع ثبوت الاختصاص المتوقف على قصد الانتفاع المعلوم
انتفاؤه في المقام، وكذا لو سبق إلى مكان من الأمكنة المذكورة
من غير قصد الانتفاع منها بالسكنى.
نعم، لو جمعها في مكانه المملوك، فبذل له المال على أن يتصرف
في ذلك المكان بالدخول لأخذها، كان حسنا.
كما أنه لو قلنا بكفاية مجرد قصد الحيازة في الاختصاص
[وإن لم يقصد الانتفاع بعينه] (2) وقلنا (3) بجواز المعاوضة على حق
الاختصاص كان أسهل.

(1) شرح القواعد (مخطوط): الورقة 4.
(2) ما بين المعقوفتين ساقط من " ن " و " م ".
(3) في " ف "، " خ " " ع "، " ص ": أو قلنا.
107

النوع الثاني
مما يحرم التكسب به
ما يحرم لتحريم ما يقصد به
وهو على أقسام:
109

الأول
ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاص إلا الحرام
وهي أمور
منها:
هياكل العبادة المبتدعة
- كالصليب والصنم -
بلا خلاف ظاهر، بل الظاهر الإجماع عليه.
ويدل عليه مواضع من رواية تحف العقول - المتقدمة (1) -، مثل (2)
قوله عليه السلام: " وكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه "، وقوله عليه السلام:
" أو شئ يكون فيه وجه من وجوه الفساد "، وقوله عليه السلام: " وكل منهي

(1) تقدم في أول الكتاب.
(2) في " خ "، " م "، " ع "، " ص ": في مثل.
111

عنه مما يتقرب به لغير الله "، وقوله عليه السلام: " إنما حرم الله الصناعة التي
هي حرام كلها مما يجئ منها (1) الفساد محضا، نظير المزامير والبرابط،
وكل ملهو به، والصلبان والأصنام... إلى أن قال: فحرام تعليمه وتعلمه،
والعمل به، وأخذ الأجرة عليه، وجميع التقلب فيه من جميع وجوه
الحركات... الخ ".
هذا كله، مضافا إلى أن أكل المال في مقابل هذه الأشياء أكل له
بالباطل، وإلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه " (2)
بناء على أن تحريم هذه الأمور تحريم لمنافعها الغالبة، بل الدائمة، فإن
الصليب من حيث إنه خشب بهذه الهيئة لا ينتفع به إلا في الحرام،
وليس بهذه الهيئة مما ينتفع به في المحلل والمحرم، ولو فرض ذلك كان (3)
منفعة نادرة لا يقدح في تحريم العين بقول مطلق، الذي هو المناط في
تحريم الثمن.
نعم، لو فرض هيئة خاصة مشتركة بين هيكل العبادة وآلة أخرى
لعمل محلل - بحيث لا تعد (4) منفعة نادرة - فالأقوى جواز البيع بقصد
تلك المنفعة المحللة، كما اعترف به في المسالك (5).

(1) في " ش ": منه.
(2) عوالي اللآلي 2: 110، الحديث 301.
(3) في " ن "، " خ "، " م "، " ع "، " ص ": كان ذلك.
(4) في " ن ": لا يعد.
(5) المسالك 3: 122 (اعترف به في مسألة آلات اللهو).
112

فما ذكره بعض الأساطين (1) من أن ظاهر الإجماع والأخبار: أنه
لا فرق بين قصد الجهة المحللة وغيرها، فلعله محمول على الجهة المحللة
التي لا دخل للهيئة فيها، أو النادرة التي مما للهيئة دخل فيه.
نعم، ذكر أيضا - وفاقا لظاهر غيره، بل الأكثر - أنه لا فرق بين
قصد المادة والهيئة.
أقول: إن أراد ب‍ " قصد المادة " كونها هي الباعثة على بذل المال
بإزاء ذلك الشئ وإن كان عنوان المبيع المبذول بإزائه الثمن هو ذلك
الشئ، فما استظهره من الإجماع والأخبار حسن، لأن بذل المال بإزاء
هذا الجسم المتشكل بالشكل الخاص - من حيث كونه مالا عرفا - بذل
للمال على الباطل.
وإن أراد ب‍ " قصد المادة " كون المبيع هي المادة، سواء تعلق البيع
بها بالخصوص - كأن يقول: بعتك خشب هذا الصنم - أو في ضمن
مجموع مركب - كما لو وزن له وزنة حطب فقال: بعتك، فظهر فيه صنم
أو صليب - فالحكم ببطلان البيع في الأول وفي مقدار الصنم في الثاني
مشكل، لمنع شمول الأدلة لمثل هذا الفرد، لأن المتيقن من الأدلة المتقدمة
حرمة المعاوضة على هذه الأمور نظير المعاوضة على غيره (2) من الأموال
العرفية، وهو ملاحظة مطلق ما يتقوم به مالية الشئ من المادة والهيئة
والأوصاف.
والحاصل: أن الملحوظ في البيع قد يكون مادة الشئ من غير

(1) وهو الشيخ الكبير كاشف الغطاء في شرحه على القواعد (مخطوط): 7.
(2) كذا في النسخ، وفي مصححة " ن ": غيرها.
113

مدخلية الشكل، ألا ترى أنه لو باعه وزنة (1) نحاس فظهر فيها آنية
مكسورة، لم يكن له (2) خيار العيب، لأن المبيع هي المادة.
ودعوى أن المال هي المادة بشرط عدم الهيئة، مدفوعة بما صرح به
من أنه لو أتلف الغاصب لهذه (3) الأمور ضمن موادها (4).
وحمله على الإتلاف تدريجا تمحل (5).
وفي (6) محكي التذكرة أنه إذا كان لمكسورها قيمة وباعها
صحيحة لتكسر وكان المشتري ممن يوثق بديانته، فإنه يجوز بيعها على
الأقوى (7)، انتهى.
واختار ذلك صاحب الكفاية (8) وصاحب الحدائق (9) وصاحب

(1) الوزنة: مقدار لتحديد الوزن يختلف باختلاف البلدان، ففي بعضها يقدر بثلاثة
أرطال، وفي بعضها بخمسة أرطال. انظر محيط المحيط: 968، مادة " وزن ".
(2) في " خ "، " م "، " ع "، " ص " و " ش ": لها.
(3) اللام - في كلمة " لهذه " - مشطوب عليها في " ن ".
(4) مثل عبارة العلامة في القواعد: فإن أحرقت ضمن قيمة الرضاض، راجع
القواعد 1: 203.
(5) في " خ "، " م "، " ع "، " ص ": محتمل.
(6) في " ف "، " ن " و " خ ": " وقال في ".
(7) حكاه عنها السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 32، لكنا لم نقف في التذكرة
إلا على ما يلي: " وإن عد مالا فالأقوى عندي الجواز مع زوال الصفة
المحرمة "، انظر التذكرة 1: 465.
(8) كفاية الأحكام: 85.
(9) الحدائق 18: 201.
114

الرياض (1) نافيا عنه الريب (2).
ولعل التقييد في كلام العلامة ب‍ " كون المشتري ممن يوثق
بديانته " (3) لئلا يدخل في باب المساعدة على المحرم، فإن دفع ما يقصد
منه المعصية غالبا مع عدم وثوق بالمدفوع إليه تقوية لوجه من وجوه
المعاصي، فيكون باطلا، كما في رواية تحف العقول.
لكن فيه - مضافا إلى التأمل في بطلان البيع لمجرد الإعانة على
الإثم -: أنه يمكن الاستغناء عن هذا القيد (4) بكسره قبل أن يقبضه
إياه، فإن الهيئة غير محترمة في هذه الأمور، كما صرحوا به في باب
الغصب (5).
بل قد يقال بوجوب إتلافها فورا، ولا يبعد أن يثبت، لوجوب
حسم مادة الفساد.
وفي جامع المقاصد - بعد حكمه بالمنع عن بيع هذه الأشياء وإن

(1) الرياض 1: 499.
(2) النافي للريب هو صاحب الحدائق، لا صاحب الرياض كما هو ظاهر السياق.
(3) لم نقف عليه في كلام العلامة، كما أشرنا إليه آنفا.
(4) كذا في " ش "، وفي مصححة " ن ": هذا الوثوق، وفي سائر النسخ: هذا
الوجوب.
(5) صرح به العلامة في التذكرة 2: 379 وغيرها، والمحقق الثاني في جامع
المقاصد 6: 247، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 10: 529، كما أن مقتضى
كلام الشيخ - في مسألة غصب آنية الذهب والفضة - ذلك، انظر المبسوط
3: 61.
115

أمكن الانتفاع على حالها في غير محرم (1) منفعة لا تقصد منها - قال:
ولا أثر لكون رضاضها الباقي بعد كسرها مما ينتفع به في المحلل ويعد
مالا، لأن بذل المال في مقابلها وهي على هيئتها بذل له في المحرم،
الذي لا يعد مالا عند الشارع. نعم، لو باع رضاضها الباقي بعد كسرها
قبل أن يكسرها - وكان المشتري موثوقا به وأنه يكسرها - أمكن
القول بصحة البيع، ومثله باقي الأمور المحرمة كأواني النقدين والصنم (2)،
انتهى.
ومنها:
آلات القمار بأنواعه
بلا خلاف ظاهرا، ويدل عليه جميع ما تقدم في هياكل العبادة.
ويقوى هنا أيضا جواز بيع المادة قبل تغيير الهيئة.
وفي المسالك: أنه لو كان لمكسورها قيمة، وباعها صحيحة
لتكسر - وكان المشتري ممن يوثق بديانته - ففي جواز بيعها وجهان،
وقوى في التذكرة (3) الجواز مع زوال الصفة، وهو حسن، والأكثر أطلقوا

(1) في " ف "، " خ "، " ش ": غير المحرم.
(2) جامع المقاصد 4: 15.
(3) التذكرة 1: 465.
116

المنع (1)، انتهى.
أقول: إن أراد ب‍ " زوال الصفة ": زوال الهيئة، فلا ينبغي الإشكال
في الجواز، ولا ينبغي جعله محلا للخلاف بين العلامة والأكثر.
ثم إن المراد بالقمار مطلق المراهنة بعوض، فكل ما أعد لها
- بحيث لا يقصد منه على ما فيه من الخصوصيات غيرها - حرمت
المعاوضة عليه، وأما المراهنة بغير عوض فيجئ (2) أنه ليس بقمار على
الظاهر.
نعم، لو قلنا بحرمتها لحق الآلة المعدة لها حكم آلات القمار، مثل
ما يعملونه شبه الكرة، يسمى عندنا " توپة " (3) والصولجان.
ومنها:
آلات اللهو
على اختلاف أصنافها بلا خلاف، لجميع ما تقدم في المسألة
السابقة. والكلام في بيع المادة كما تقدم.
وحيث إن المراد بآلات اللهو ما أعد له، توقف على تعيين معنى

(1) المسالك 3: 122.
(2) ظاهر " ف ": فسيجئ.
(3) كذا في " ف " و " خ "، وفي " ن ": الترسة - التوبة (خ ل)، وفي " م " و " ص ":
الترسة، وفي " ش ": الترثة - التوبة (خ ل).
117

اللهو وحرمة مطلق اللهو.
إلا أن المتيقن (1) منه: ما كان من جنس المزامير وآلات الأغاني،
ومن جنس الطبول.
وسيأتي معنى اللهو وحكمه.
ومنها:
أواني الذهب والفضة
إذا قلنا بتحريم اقتنائها وقصد (2) المعاوضة على مجموع الهيئة
والمادة، لا المادة فقط.
ومنها:
الدراهم الخارجة المعمولة لأجل غش الناس
إذا لم يفرض على هيئتها الخاصة منفعة محللة معتد بها، مثل
التزين، أو الدفع إلى الظالم الذي يريد مقدارا من المال - كالعشار

(1) كذا في " ش " ومصححة " ف "، وفي " ن " و " م " و " ع ": المطلوب منه، وفي
" ص ": المطلوب منه، المتيقن (خ ل).
(2) في " خ "، " م "، " ع "، " ص ": أو قصد.
118

ونحوه - بناء على جواز ذلك وعدم وجوب إتلاف مثل هذه الدراهم
ولو بكسرها من باب دفع مادة الفساد، كما يدل عليه قوله عليه السلام في رواية
الجعفي - مشيرا إلى درهم -: " اكسر هذا، فإنه لا يحل بيعه ولا إنفاقه " (1).
وفي رواية موسى بن بكير (2): " قطعه نصفين (3) ثم قال: ألقه في
البالوعة حتى لا يباع شئ فيه (4) غش " (5).
وتمام الكلام فيه في باب الصرف إن شاء الله.
ولو وقعت المعاوضة عليها جهلا فتبين الحال لمن صار (6) إليه،
فإن وقع عنوان المعاوضة على الدرهم - المنصرف إطلاقه إلى المسكوك
بسكة (7) السلطان (8) - بطل البيع، وإن وقعت المعاوضة على شخصه

(1) الوسائل 12: 473، الباب 10 من أبواب الصرف، الحديث 5، مع اختلاف يسير.
(2) كذا في النسخ، لكن في المصادر الحديثية: موسى بن بكر.
(3) في مصححة " ص ": بنصفين.
(4) كذا في ظاهر " ف " ونسخة بدل " ص " والمصدر، وفي " ش ": لا يباع بشئ
فيه غش، وفي سائر النسخ: حتى لا يباع بما فيه غش.
(5) الوسائل 12: 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5، وإليك
نصه: " قال: كنا عند أبي الحسن عليه السلام وإذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر
إلى دينار فأخذه بيده ثم قطعه بنصفين، ثم قال لي: ألقه في البالوعة حتى
لا يباع شئ فيه غش ".
(6) كذا في النسخ، والمناسب: صارت.
(7) كذا في " ف " ومصححة " ن "، وفي سائر النسخ: سكة.
(8) وردت العبارة في " ف " هكذا: " فإن وقع عنوان المعاوضة على الدرهم
المشكوك بسكة السلطان "، وشطب على عبارة " المنصرف إطلاقه إلى ".
119

من دون عنوان، فالظاهر صحة البيع مع خيار العيب إن كانت المادة
مغشوشة، وإن كان مجرد تفاوت السكة، فهو خيار التدليس، فتأمل.
وهذا بخلاف ما تقدم من الآلات، فإن البيع الواقع عليها لا يمكن
تصحيحه بإمضائه من جهة المادة فقط واسترداد ما قابل الهيئة من الثمن
المدفوع، كما لو جمع بين الخل والخمر، لأن كل جزء من الخل أو الخمر (1)
مال لا بد أن يقابل في المعاوضة بجزء من المال، ففساد المعاملة باعتباره
يوجب فساد مقابله من المال لا غير، بخلاف المادة والهيئة، فإن الهيئة
من قبيل القيد للمادة جزء عقلي لا خارجي تقابل بمال على حدة،
ففساد المعاملة باعتباره فساد لمعاملة المادة حقيقة.
وهذا الكلام مطرد في كل قيد فاسد بذل الثمن الخاص لداعي
وجوده.

(1) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: والخمر.
120

القسم الثاني
ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة
وهو:
تارة على وجه يرجع إلى بذل المال في مقابل المنفعة
المحرمة، كالمعاوضة على العنب مع التزامهما أن لا يتصرف فيه
إلا بالتخمير.
وأخرى على وجه يكون الحرام هو الداعي إلى المعاوضة لا غير،
كالمعاوضة على العنب مع قصدهما تخميره.
والأول إما أن يكون الحرام مقصودا لا غير، كبيع العنب على أن
يعمله خمرا (1)، ونحو ذلك.
وإما أن يكون الحرام مقصودا مع الحلال، بحيث يكون بذل المال
بإزائهما (2)، كبيع الجارية المغنية بثمن لوحظ فيه وقوع بعضه بإزاء

(1) في " ف ": أن يعمل خمرا.
(2) في " ف ": بإزائها.
121

صفة التغني.
فهنا مسائل ثلاث:
122

الأولى
بيع العنب على أن يعمل خمرا، والخشب على أن يعمل صنما،
أو آلة لهو أو قمار، وإجارة (1) المساكن ليباع أو يحرز فيها الخمر،
وكذا إجارة السفن والحمولة لحملها. ولا إشكال في فساد المعاملة
- فضلا عن حرمته - ولا خلاف فيه.
ويدل عليه - مضافا إلى كونها إعانة على الإثم، وإلى أن الإلزام
والالتزام بصرف المبيع في المنفعة المحرمة الساقطة في نظر الشارع أكل
وإيكال للمال بالباطل - خبر جابر، قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر، قال: حرام أجرته " (2).
فإنه إما مقيد بما إذا استأجره لذلك، أو يدل عليه بالفحوى، بناء
على ما سيجئ من حرمة العقد مع من يعلم أنه يصرف المعقود عليه
في الحرام.

(1) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: أو إجارة.
(2) الوسائل 12: 125، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
123

نعم، في مصححة ابن أذينة، قال (1): " سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الرجل يؤاجر سفينته أو دابته لمن يحمل فيها أو عليها الخمر
والخنازير، قال: لا بأس " (2).
لكنها محمولة على ما إذا اتفق الحمل من دون أن يؤخذ ركنا
أو شرطا في العقد، بناء على أن خبر جابر نص في ما نحن فيه وظاهر
في هذا، عكس الصحيحة، فيطرح (3) ظاهر كل بنص الآخر، فتأمل،
مع أنه لو سلم التعارض كفى العمومات المتقدمة (4).
وقد يستدل أيضا - في ما نحن فيه - بالأخبار المسؤول فيها عن
جواز بيع الخشب ممن يتخذه صلبانا أو صنما، مثل مكاتبة ابن أذينة:
" عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلبانا؟ قال: لا " (5).
ورواية عمرو بن الحريث: " عن التوت أبيعه ممن يصنع الصليب
أو الصنم؟ قال: لا " (6).
وفيه: أن حمل تلك الأخبار على صورة اشتراط البائع المسلم

(1) في المصدر: " قال: كتبت إلى أبي عبد الله عليه السلام أسأله عن الرجل... ".
(2) الوسائل 12: 126، الباب 39 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
(3) كذا في " ف " ونسخة بدل " ش "، وفي سائر النسخ: يطرح.
(4) وهي رواية تحف العقول، ورواية الفقه الرضوي، ورواية دعائم الإسلام،
والنبوي المشهور، المتقدمة كلها في أول الكتاب.
(5) الوسائل 12: 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
(6) الوسائل 12: 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2، ولفظه
هكذا: " عن التوت أبيعه يصنع للصليب والصنم؟ قال: لا ".
124

على المشتري أو تواطئهما على التزام صرف المبيع في الصنم والصليب،
بعيد في الغاية.
والفرق بين مؤاجرة البيت لبيع الخمر فيه، وبيع الخشب على أن
يعمل صليبا أو صنما لا يكاد يخفى (1)، فإن بيع الخمر في مكان
وصيرورته دكانا لذلك منفعة عرفية يقع الإجارة عليها من المسلم كثيرا
- كما يؤجرون البيوت لسائر المحرمات - بخلاف جعل العنب خمرا
والخشب صليبا، فإنه لا غرض للمسلم في ذلك غالبا يقصده في بيع
عنبه أو خشبه، فلا يحمل عليه موارد السؤال.
نعم، لو قيل في المسألة الآتية بحرمة بيع الخشب ممن يعلم أنه
يعمله صنما - لظاهر هذه الأخبار - صح الاستدلال بفحواها على
ما نحن فيه، لكن ظاهر هذه الأخبار معارض بمثله أو بأصرح منه،
كما سيجئ.
ثم إنه يلحق بما ذكر - من بيع العنب والخشب على أن يعملا خمرا
وصليبا (2) - بيع كل ذي منفعة محللة على أن يصرف في الحرام، لأن
حصر الانتفاع بالمبيع (3) في الحرام يوجب كون أكل الثمن بإزائه أكلا
للمال بالباطل.
ثم إنه لا فرق بين ذكر (4) الشرط المذكور في متن العقد، وبين

(1) في أكثر النسخ: يختفي.
(2) في " ف "، " خ "، " ش ": أو صليبا.
(3) كذا في مصححة " ن " و " ص "، وفي سائر النسخ: بالبيع.
(4) ورد في " ش " فقط.
125

التواطؤ عليه خارج العقد ووقوع العقد عليه، ولو كان فرق فإنما هو في
لزوم الشرط وعدمه، لا فيما هو مناط الحكم هنا.
ومن ذلك يظهر أنه لا يبنى فساد هذا العقد على كون الشرط
الفاسد مفسدا، بل الأظهر فساده وإن لم نقل بإفساد الشرط الفاسد،
لما عرفت من رجوعه في الحقيقة إلى أكل المال في مقابل المنفعة المحرمة.
وقد تقدم الحكم بفساد المعاوضة على آلات المحرم مع كون
موادها أموالا مشتملة على منافع محللة، مع أن الجزء أقبل للتفكيك بينه
وبين الجزء الآخر من الشرط والمشروط، وسيجئ أيضا في المسألة
الآتية ما يؤيد هذا أيضا، إن شاء الله.
126

المسألة الثانية
يحرم المعاوضة على الجارية المغنية، وكل عين مشتملة على صفة
يقصد منها الحرام إذا قصد منها ذلك، وقصد اعتبارها في البيع على
وجه يكون دخيلا في زيادة الثمن - كالعبد الماهر في القمار أو اللهو
والسرقة (1)، إذا لوحظ فيه هذه الصفة وبذل بإزائها شئ من الثمن -
لا ما كان على وجه الداعي.
ويدل عليه أن بذل شئ (2) من الثمن بملاحظة الصفة المحرمة أكل
للمال بالباطل.
والتفكيك بين القيد والمقيد - بصحة العقد في المقيد وبطلانه في
القيد بما قابله من الثمن - غير معروف عرفا، لأن القيد أمر معنوي
لا يوزع عليه شئ من المال وإن كان يبذل المال بملاحظة وجوده.
وغير واقع شرعا، على ما اشتهر من أن الثمن لا يوزع على الشروط،
فتعين بطلان العقد رأسا.

(1) في مصححة " ن ": أو السرقة.
(2) في " ش ": الشئ.
127

وقد ورد النص بأن: " ثمن الجارية المغنية سحت " (1) وأنه: " قد
يكون للرجل الجارية تلهيه، وما ثمنها إلا كثمن الكلب " (2).
نعم، لو لم تلاحظ الصفة أصلا في كمية الثمن، فلا إشكال في
الصحة.
ولو لوحظت من حيث إنها صفة كمال قد تصرف إلى المحلل
فيزيد لأجلها الثمن، فإن كانت المنفعة المحللة لتلك الصفة مما يعتد بها،
فلا إشكال في الجواز.
وإن كانت نادرة بالنسبة إلى المنفعة المحرمة، ففي إلحاقها بالعين في
عدم جواز بذل المال إلا لما اشتمل على منفعة محللة غير نادرة بالنسبة
إلى المحرمة، وعدمه - لأن المقابل بالمبذول هو الموصوف، ولا ضير في
زيادة ثمنه بملاحظة منفعة نادرة - وجهان:
أقواهما: الثاني، إذ لا يعد أكلا للمال بالباطل، والنص بأن " ثمن
المغنية سحت " مبني على الغالب.

(1) الوسائل 12: 87، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4، ولفظه:
" إن ثمن الكلب والمغنية سحت ".
(2) الوسائل 12: 88، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6، باختلاف
يسير في اللفظ.
128

المسألة الثالثة
يحرم بيع العنب ممن يعمله خمرا بقصد أن يعمله، وكذا بيع الخشب
بقصد أن يعمله صنما أو صليبا، لأن فيه إعانة على الإثم والعدوان.
ولا إشكال ولا خلاف في ذلك.
أما لو لم يقصد ذلك، فالأكثر على عدم التحريم، للأخبار
المستفيضة:
منها: خبر ابن أذينة، قال: " كتبت إلى أبي عبد الله عليه السلام
أسأله عن رجل له كرم (1) يبيع العنب (2) ممن يعلم أنه يجعله خمرا
أو مسكرا؟ فقال عليه السلام: إنما باعه حلالا في الإبان الذي يحل شربه
أو أكله، فلا بأس ببيعه " (3).

(1) الكرم: العنب، وأرض يحوطها حائط فيه أشجار ملتفة لا يمكن زراعة
أرضها. انظر محيط المحيط: 777.
(2) في المصدر: أيبيع العنب والتمر ممن يعلم أنه يجعله خمرا أو سكرا.
(3) الوسائل 12: 169، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
129

ورواية أبي كهمس، قال (1): " سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام - إلى
أن قال -: هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمرا " (2).
إلى غير ذلك مما هو دونهما في الظهور.
وقد يعارض ذلك (3) بمكاتبة ابن أذينة: " عن رجل له خشب فباعه
ممن يتخذه صلبانا، قال: لا " (4).
ورواية عمرو بن حريث: " عن التوت (5) أبيعه ممن يصنع الصليب
أو الصنم؟ قال: لا " (6).
وقد يجمع بينهما وبين الأخبار المجوزة، بحمل المانعة على صورة
اشتراط جعل الخشب صليبا أو صنما، أو تواطؤهما عليه.

(1) من " ش " والمصدر.
(2) الوسائل 12: 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
(3) في " ش ": تلك.
(4) الوسائل 12: 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
(5) كذا في " ف " و " ع " ومصححة " خ " ونسخة بدل " م " و " ش "، وفي " ن "
و " ص ": التوز، وأما في المصادر الحديثية، ففي الكافي والتهذيب والوسائل:
التوت، وفي الوافي: التوز، وقال المحدث الكاشاني في بيانه: " التوز - بضم المثناة
الفوقانية والزاي -: شجر يصنع به القوس " انظر الوافي 17: 276. وأما التوت
فهو شجر يأكل ورقه دود القز، وله ثمر أبيض حلو، ومنه ما يثمر ثمرا حامضا
ثم يسود فيحلو، ويقال له: التوت الشامي، ويقال لثمره: الفرصاد. محيط المحيط:
75، مادة: " توت ".
(6) الوسائل 12: 127، الباب 41 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2، ولفظه
هكذا: " عن التوت أبيعه يصنع للصليب والصنم... ".
130

وفيه: أن هذا في غاية البعد، إذ لا داعي للمسلم على اشتراط
صناعة الخشب صنما في متن بيعه أو في خارجه، ثم يجئ ويسأل
الإمام عليه السلام عن جواز فعل هذا في المستقبل وحرمته! وهل يحتمل أن
يريد الراوي بقوله: " أبيع التوت (1) ممن يصنع الصنم والصليب " أبيعه
مشترطا عليه وملزما - في متن العقد أو قبله - أن لا يتصرف فيه
إلا بجعله صنما؟!
فالأولى: حمل الأخبار المانعة على الكراهة، لشهادة غير واحد
من الأخبار على الكراهة (2) - كما أفتى به (3) جماعة (4) - ويشهد له رواية
الحلبي (5): " عن بيع العصير ممن يصنعه خمرا، قال: بيعه (6) ممن يطبخه
أو يصنعه خلا أحب إلي، ولا أرى به بأسا " (7). وغيرها.
أو التزام الحرمة في بيع الخشب ممن يعمله صليبا أو صنما لظاهر
تلك الأخبار، والعمل في مسألة بيع العنب وشبهها على الأخبار المجوزة.

(1) أشرنا إلى اختلاف النسخ فيه، في الصفحة السابقة.
(2) وردت هذه الفقرة في " ف " هكذا: " بشهادة غير واحد من الأخبار " ثم
شطب عليها.
(3) كذا، والمناسب: بها.
(4) منهم المحقق في الشرائع 2: 10، والعلامة في الإرشاد 1: 357 وغيره،
والشهيد في اللمعة: 108، ونسبه في الجواهر 22: 31 إلى المشهور.
(5) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: رفاعة، والصواب ما أثبتناه.
(6) في " ف " والتهذيب والوسائل: بعه.
(7) الوسائل 12: 170، الباب 59 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9،
وفيه: ولا أرى بالأول بأسا.
131

وهذا الجمع قول فصل - لو لم يكن قولا بالفصل -.
وكيف كان، فقد يستدل على حرمة البيع ممن يعلم أنه يصرف
المبيع في الحرام بعموم النهي عن التعاون على الإثم والعدوان.
وقد يستشكل في صدق " الإعانة "، بل يمنع، حيث لم يقع القصد
إلى وقوع الفعل من المعان، بناء على أن الإعانة هي فعل بعض مقدمات
فعل الغير بقصد حصوله منه لا مطلقا.
وأول من أشار إلى هذا، المحقق الثاني في حاشية الإرشاد - في
هذه المسألة -، حيث إنه - بعد حكاية القول بالمنع مستندا إلى الأخبار
المانعة - قال: " ويؤيده قوله تعالى: * (ولا تعاونوا على الإثم) * (1)
ويشكل بلزوم عدم جواز بيع شئ مما يعلم عادة التوصل به إلى محرم،
لو تم هذا الاستدلال، فيمنع معاملة أكثر الناس. والجواب عن الآية:
المنع من كون محل النزاع معاونة، مع أن الأصل الإباحة، وإنما يظهر
المعاونة مع بيعه لذلك " (2)، انتهى.
ووافقه في اعتبار القصد في مفهوم الإعانة جماعة من متأخري
المتأخرين، كصاحب الكفاية (3) وغيره (4).

(1) المائدة: 2.
(2) حاشية الإرشاد (مخطوط): 205.
(3) كفاية الأحكام: 85.
(4) لم نقف عليه، وإن نسبه في المستند (2: 336) إلى صريح الفاضلين: الأردبيلي
والسبزواري، لكنا لم نجد التصريح بذلك في كلام الأردبيلي، وسيأتي من
المؤلف قدس سره - بعد نقل كلامه عن آيات أحكامه - التصريح بأنه لم يعلق
صدق الإعانة على القصد فقط، انظر الصفحة: 136 - 137.
132

هذا، وربما زاد بعض المعاصرين (1) على اعتبار القصد اعتبار
وقوع المعان عليه - في تحقق مفهوم الإعانة - في الخارج، وتخيل أنه
لو فعل فعلا بقصد تحقق الإثم الفلاني من الغير فلم يتحقق منه، لم يحرم
من جهة صدق الإعانة، بل من جهة قصدها، بناء على ما حرره
من حرمة الاشتغال بمقدمات الحرام بقصد تحققه، وأنه لو تحقق الفعل
كان حراما من جهة القصد إلى المحرم ومن جهة الإعانة.
وفيه تأمل، فإن حقيقة الإعانة على الشئ هو الفعل بقصد
حصول الشئ، سواء حصل أم لا، ومن اشتغل ببعض مقدمات الحرام
الصادر عن الغير بقصد التوصل إليه، فهو داخل في الإعانة على الإثم،
ولو تحقق الحرام لم يتعدد العقاب.
وما أبعد ما بين ما ذكره المعاصر وبين ما يظهر من الأكثر من عدم
اعتبار القصد!
فعن المبسوط: الاستدلال على وجوب بذل الطعام لمن يخاف تلفه
بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء
يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله " (2).

(1) هو المحقق النراقي، انظر عوائد الأيام: 26.
(2) المبسوط 6: 285، وفيه: " لقوله عليه السلام: من أعان... الخ " ولا ظهور
لكلامه في أن الحديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. نعم، رواه ابن ماجة في
سننه (2: 874، كتاب الديات، الحديث 2620) عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه
ابن أبي جمهور الإحسائي في عوالي اللآلي (2: 333) في سياق ما روي عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
133

وقد استدل في التذكرة على حرمة بيع السلاح من أعداء الدين
بأن فيه إعانة على الظلم (1).
واستدل المحقق الثاني على حرمة بيع العصير المتنجس ممن يستحله
بأن فيه إعانة على الإثم (2).
وقد استدل المحقق الأردبيلي - على ما حكي عنه من القول
بالحرمة في مسألتنا -: بأن فيه إعانة على الإثم (3).
وقد قرره على ذلك في الحدائق، فقال: إنه جيد في حد ذاته
لو سلم من المعارضة بأخبار الجواز (4).
وفي الرياض - بعد ذكر الأخبار السابقة الدالة على الجواز - قال:
وهذه النصوص وإن كثرت واشتهرت وظهرت دلالتها بل ربما كان
بعضها صريحا، لكن في مقابلتها للأصول والنصوص المعتضدة بالعقول
إشكال (5)، انتهى.
والظاهر، أن مراده ب‍ " الأصول ": قاعدة " حرمة الإعانة على
الإثم "، ومن " العقول ": حكم العقل بوجوب التوصل إلى دفع المنكر
مهما أمكن.
ويؤيد ما ذكروه - من صدق الإعانة بدون القصد - إطلاقها في غير واحد

(1) التذكرة 1: 582.
(2) حاشية الإرشاد (مخطوط): 204.
(3) مجمع الفائدة 8: 51.
(4) الحدائق 18: 205.
(5) الرياض 1: 500.
134

من الأخبار:
ففي النبوي المروي في الكافي، عن أبي عبد الله عليه السلام: " من أكل
الطين فمات فقد أعان على نفسه " (1).
وفي العلوي الوارد في الطين - المروي أيضا في الكافي -
عن أبي عبد الله عليه السلام: " فإن أكلته ومت فقد أعنت على نفسك " (2).
ويدل عليه غير واحد مما ورد في أعوان الظلمة، وسيأتي.
وحكي أنه سئل بعض الأكابر (3)، وقيل له: " إني رجل خياط
أخيط للسلطان ثيابه فهل تراني داخلا بذلك في أعوان الظلمة؟ فقال له:
المعين لهم من يبيعك الإبر والخيوط، وأما أنت فمن الظلمة أنفسهم ".
وقال المحقق الأردبيلي - في آيات أحكامه - في الكلام على الآية:
" الظاهر أن المراد الإعانة (4) على المعاصي مع القصد، أو على الوجه
الذي يصدق أنها إعانة - مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص
لضرب مظلوم فيعطيه إياها، أو يطلب القلم لكتابة ظلم فيعطيه إياه،

(1) الكافي 6: 266، الحديث 8، والوسائل 16: 393، الباب 58 من أبواب
الأطعمة والأشربة، الحديث 7.
(2) الكافي 6: 266، الحديث 5، والوسائل 16: 393، الباب 58 من أبواب
الأطعمة والأشربة، الحديث 6، وفيهما: كنت قد أعنت على نفسك.
(3) في شرح الشهيدي (33) ما يلي: " أقول: في شرح النخبة لسبط الجزائري قدس سره
عن البهائي قدس سره: أنه عبد الله بن المبارك، على ما نقله أبو حامد...، ثم
نقل عبارته كما في المتن ".
(4) كذا في " ش " والمصدر: وفي سائر النسخ: بالإعانة.
135

ونحو ذلك مما يعد معونة عرفا - فلا يصدق على التاجر الذي يتجر
لتحصيل غرضه أنه معاون للظالم العاشر في أخذ العشور، ولا على
الحاج الذي يؤخذ منه المال ظلما، وغير ذلك مما لا يحصى، فلا يعلم
صدقها على بيع العنب ممن يعمله خمرا، أو الخشب ممن يعمله صنما،
ولذا ورد في الروايات الصحيحة جوازه، وعليه الأكثر ونحو ذلك مما
لا يخفى (1) "، انتهى كلامه رفع مقامه.
ولقد دقق النظر حيث لم يعلق صدق الإعانة على القصد،
ولا أطلق القول بصدقه (2) بدونه، بل علقه بالقصد، أو (3) بالصدق العرفي
وإن لم يكن قصد.
لكن أقول: لا شك في أنه إذا لم يكن مقصود الفاعل من الفعل
وصول الغير إلى مقصده ولا إلى مقدمة من مقدماته - بل يترتب عليه
الوصول من دون قصد الفاعل - فلا يسمى إعانة، كما في تجارة التاجر
بالنسبة إلى أخذ العشور، ومسير الحاج بالنسبة إلى أخذ المال ظلما.
وكذلك لا إشكال فيما إذا قصد الفاعل بفعله ودعاه إليه وصول (4)
الغير إلى مطلبه الخاص، فإنه يقال: إنه أعانه على ذلك المطلب،
فإن كان عدوانا مع علم المعين به، صدق الإعانة على العدوان.
وإنما الإشكال فيما إذا قصد الفاعل بفعله وصول الغير إلى مقدمة

(1) زبدة البيان في أحكام القرآن: 297.
(2) كذا في " ن " و " ش "، وفي غيرهما: لصدقه.
(3) كذا في " ف " و " ش "، وفي سائر النسخ: وبالصدق.
(4) مفعول ل‍ " قصد " وفاعل ل‍ " دعا ".
136

مشتركة بين المعصية وغيرها مع العلم بصرف الغير إياها إلى المعصية،
كما إذا باعه العنب، فإن مقصود البائع تملك المشتري له وانتفاعه به،
فهي (1) إعانة له بالنسبة إلى أصل تملك العنب.
ولذا لو فرض ورود النهي عن معاونة هذا المشتري الخاص
- في جميع أموره، أو في خصوص تملك العنب - حرم بيع العنب عليه
مطلقا (2).
فمسألة بيع العنب ممن يعلم أنه يجعله خمرا نظير إعطاء السيف
أو العصا لمن يريد قتلا أو ضربا، حيث إن الغرض من الإعطاء هو ثبوته
بيده والتمكن منه، كما أن الغرض من بيع العنب تملكه له.
فكل من البيع والإعطاء بالنسبة إلى أصل تملك الشخص
واستقراره في يده إعانة.
إلا أن الإشكال في أن العلم بصرف ما حصل بإعانة البائع والمعطي
في الحرام هل يوجب صدق الإعانة على الحرام أم لا؟
فحاصل محل الكلام: هو أن الإعانة على شرط الحرام مع العلم
بصرفه في الحرام هل هي إعانة على الحرام أم لا؟
فظهر الفرق بين بيع العنب وبين تجارة التاجر ومسير الحاج، وأن
الفرق بين إعطاء السوط للظالم وبين بيع العنب لا وجه له، وأن إعطاء
السوط إذا كان إعانة - كما اعترف به فيما تقدم من آيات الأحكام -

(1) تأنيث الضمير باعتبار الخبر.
(2) في " ف " وهامش " خ " زيادة ما يلي: " لكن نعلم بصرف ما قصد بالبيع إلى
الحرام وتخصيصه به ".
137

كان بيع العنب كذلك، كما اعترف به (1) في شرح الإرشاد (2).
فإذا بنينا على أن شرط الحرام حرام مع فعله توصلا إلى الحرام
- كما جزم به بعض (3) - دخل ما نحن فيه في الإعانة على المحرم،
فيكون بيع العنب إعانة على تملك العنب المحرم مع قصد التوصل به
إلى التخمير، وإن لم يكن إعانة على نفس التخمير أو على شرب الخمر.
وإن شئت قلت: إن شراء العنب للتخمير حرام، كغرس العنب
لأجل ذلك، فالبائع إنما يعين على الشراء المحرم.
نعم، لو لم يعلم أن الشراء لأجل التخمير لم يحرم وإن علم أنه
سيخمر العنب بإرادة جديدة منه. وكذا الكلام في بائع الطعام على
من يرتكب المعاصي، فإنه لو علم إرادته من الطعام المبيع التقوي به
- عند التملك - على المعصية، حرم البيع منه. وأما العلم بأنه يحصل
من هذا الطعام قوة على المعصية يتوصل بها إليها فلا يوجب التحريم.
هذا، ولكن الحكم بحرمة الإتيان بشرط الحرام توصلا إليه قد يمنع،
إلا من حيث صدق التجري، والبيع ليس إعانة عليه، وإن كان إعانة
على الشراء، إلا أنه في نفسه ليس تجريا، فإن التجري يحصل بالفعل
المتلبس بالقصد.
وتوهم أن الفعل مقدمة له فيحرم الإعانة، مدفوع بأنه لم يوجد
قصد إلى التجري حتى يحرم وإلا لزم التسلسل، فافهم.

(1) شطب في " ف " على عبارة: " كما اعترف به "، وكتب بدله: " بعد اختياره ".
(2) مجمع الفائدة 8: 50.
(3) مثل المولى النراقي في عوائد الأيام: 25.
138

نعم، لو ورد النهي بالخصوص عن بعض شروط الحرام - كالغرس
للخمر - دخل الإعانة عليه في الإعانة على الإثم، كما أنه لو استدللنا
بفحوى ما دل على لعن الغارس (1) على حرمة التملك للتخمير، حرم الإعانة
عليه أيضا بالبيع.
فتحصل مما ذكرناه أن قصد الغير لفعل الحرام معتبر قطعا في حرمة
فعل المعين، وأن محل الكلام هي الإعانة على شرط الحرام بقصد تحقق
الشرط - دون المشروط -، وأنها هل تعد إعانة على المشروط، فتحرم،
أم لا؟ فلا تحرم ما لم تثبت حرمة الشرط من غير جهة التجري،
وأن مجرد بيع العنب ممن يعلم أنه سيجعله خمرا من دون العلم بقصده
ذلك من الشراء ليس محرما أصلا، لا من جهة الشرط ولا من جهة
المشروط.
ومن ذلك يعلم ما فيما تقدم عن حاشية الإرشاد من أنه لو كان
بيع العنب ممن يعمله خمرا إعانة، لزم المنع عن معاملة أكثر الناس (2).
ثم إن محل الكلام في ما يعد شرطا للمعصية الصادرة عن الغير،
فما تقدم من المبسوط: من حرمة ترك بذل الطعام لخائف التلف مستندا
إلى قوله عليه السلام: " من أعان على قتل مسلم... الخ " (3) محل تأمل، إلا أن
يريد الفحوى.
ولذا استدل في المختلف - بعد حكاية ذلك عن الشيخ - بوجوب

(1) الوسائل 12: 165، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4 و 5.
(2) تقدم في الصفحة: 132.
(3) تقدم في الصفحة: 133.
139

حفظ النفس مع القدرة وعدم الضرر (1).
ثم إنه يمكن التفصيل في شروط الحرام المعان عليها (2):
بين ما ينحصر فائدته ومنفعته عرفا في المشروط المحرم، كحصول
العصا في يد الظالم المستعير لها (3) من غيره لضرب أحد، فإن ملكه
للانتفاع بها (4) في هذا الزمان ينحصر فائدته عرفا في الضرب، وكذا من
استعار كأسا ليشرب الخمر فيه.
وبين ما لم يكن كذلك، كتمليك (5) الخمار للعنب، فإن منفعة التمليك (6)
وفائدته غير منحصرة عرفا في الخمر حتى عند الخمار.
فيعد الأول - عرفا - إعانة على المشروط المحرم، بخلاف الثاني.
ولعل من جعل بيع السلاح من أعداء الدين حال قيام الحرب
من المساعدة على المحرم، وجوز بيع العنب ممن يعمله خمرا
- كالفاضلين في الشرائع والتذكرة (7) وغيرهما (8) - نظر إلى ذلك.
وكذلك المحقق الثاني، حيث منع من بيع العصير المتنجس على

(1) المختلف: 686.
(2) في " ش ": عليه.
(3) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: له.
(4) في جميع النسخ: به، والصواب ما أثبتناه.
(5) في مصححة " ن ": كتملك.
(6) في مصححة " ن ": التملك.
(7) الشرائع 2: 9، 10، التذكرة 1: 582، لكنهما لم يقيدا بيع السلاح من أعداء
الدين بحال قيام الحرب.
(8) مثل السبزواري في كفاية الأحكام: 85.
140

مستحله، مستندا إلى كونه من الإعانة على الإثم، ومنع من كون بيع
العنب ممن يعلم أنه يجعله خمرا من الإعانة (1) فإن تملك المستحل
للعصير منحصر فائدته عرفا عنده في الانتفاع به حال النجاسة، بخلاف
تملك العنب.
وكيف كان، فلو ثبت تميز موارد الإعانة من العرف فهو، وإلا فالظاهر
مدخلية قصد المعين.
نعم، يمكن الاستدلال على حرمة بيع الشئ ممن يعلم أنه يصرف
المبيع في الحرام، بأن دفع المنكر كرفعه واجب، ولا يتم إلا بترك البيع،
فيجب. وإليه أشار المحقق الأردبيلي رحمه الله حيث استدل على حرمة بيع
العنب في المسألة - بعد عموم النهي عن الإعانة - بأدلة النهي
عن المنكر (2).
ويشهد لهذا (3) ما ورد من أنه " لولا أن بني أمية وجدوا من يجبي لهم
الصدقات ويشهد جماعتهم ما سلبونا (4) حقنا " (5).
دل على مذمة الناس في فعل ما لو تركوه، لم يتحقق المعصية من

(1) حاشية الإرشاد (مخطوط): 204.
(2) مجمع الفائدة 8: 49 - 51.
(3) كذا في " ف " ومصححة " م "، وفي غيرهما: بهذا.
(4) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: ما سلبوا.
(5) الوسائل 12: 144، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول،
وفيه: " لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفئ، ويقاتل عنهم،
ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقنا... الحديث ".
141

بني أمية، فدل على ثبوت الذم لكل ما لو ترك، لم يتحقق المعصية
من الغير.
وهذا وإن دل بظاهره على حرمة بيع العنب - ولو ممن يعلم
أنه سيجعله خمرا مع عدم قصد ذلك حين الشراء - إلا أنه لم يقم
دليل على وجوب تعجيز من يعلم أنه سيهم بالمعصية، وإنما الثابت
من النقل والعقل - القاضي بوجوب اللطف - وجوب ردع من هم بها
وأشرف عليها بحيث لولا الردع لفعلها أو استمر عليها.
ثم إن الاستدلال المذكور إنما يحسن مع علم البائع بأنه لو لم يبعه
لم يحصل المعصية، لأنه حينئذ قادر على الردع، أما لو لم يعلم ذلك،
أو علم بأنه يحصل منه المعصية بفعل الغير، فلا يتحقق الارتداع بترك
البيع، كمن يعلم عدم الانتهاء بنهيه عن المنكر.
وتوهم أن البيع حرام على كل أحد - فلا يسوغ لهذا الشخص
فعله معتذرا بأنه لو تركه لفعله غيره - مدفوع بأن ذلك في ما كان
محرما على كل واحد على سبيل الاستقلال، فلا يجوز لواحد منهم
الاعتذار بأن هذا الفعل واقع لا محالة ولو من غيري، فلا ينفع تركي له.
أما إذا وجب على جماعة شئ واحد - كحمل ثقيل مثلا - بحيث
يراد منهم الاجتماع عليه (1)، فإذا علم واحد من حال الباقي عدم القيام به
والاتفاق معه في إيجاد الفعل كان قيامه بنفسه بذلك الفعل لغوا،
فلا يجب، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن عدم تحقق المعصية من
مشتري العنب موقوف على تحقق ترك البيع من كل بائع، فترك

(1) في " ف " زيادة: لعدم حصوله إلا باجتماعهم.
142

المجموع للبيع سبب واحد لترك المعصية، كما أن بيع واحد منهم على
البدل شرط لتحققها، فإذا علم واحد منهم عدم اجتماع الباقي معه في
تحصيل السبب - والمفروض أن قيامه منفردا لغو - سقط وجوبه.
وأما ما تقدم من الخبر في أتباع بني أمية، فالذم فيه إنما هو على
إعانتهم بالأمور المذكورة في الرواية، وسيأتي تحريم كون الرجل من
أعوان الظلمة، حتى في المباحات التي لا دخل لها برئاستهم، فضلا عن
مثل جباية الصدقات وحضور الجماعات وشبههما مما هو من أعظم
المحرمات.
وقد تلخص مما ذكرنا أن فعل ما هو من قبيل الشرط لتحقق
المعصية من الغير - من دون قصد توصل الغير به إلى المعصية -
غير محرم، لعدم كونها (1) في العرف إعانة مطلقا، أو على التفصيل الذي
احتملناه أخيرا (2).
وأما ترك هذا الفعل، فإن كان سببا يعني علة تامة لعدم المعصية
من الغير - كما إذا انحصر العنب عنده - وجب، لوجوب الردع عن
المعصية عقلا ونقلا، وأما لو لم يكن سببا، بل كان السبب تركه منضما
إلى ترك غيره، فإن علم أو ظن أو احتمل قيام الغير بالترك وجب
قيامه به أيضا، وإن علم أو ظن عدم قيام الغير سقط عنه وجوب
الترك، لأن تركه بنفسه ليس برادع حتى يجب.

(1) كذا في جميع النسخ، ولعل تأنيث الضمير باعتبار الخبر.
(2) وهو الذي أفاده بقوله: ثم إنه يمكن التفصيل في شروط الحرام المعان عليها
بين ما ينحصر فائدته عرفا.... الخ.
143

نعم، هو جزء للرادع المركب من مجموع تروك أرباب العنب (1)،
لكن يسقط وجوب الجزء إذا علم بعدم تحقق الكل في الخارج.
فعلم مما ذكرناه في هذا المقام أن فعل ما هو شرط للحرام الصادر
من الغير يقع على وجوه:
أحدها - أن يقع من الفاعل قصدا منه لتوصل الغير به إلى الحرام،
وهذا لا إشكال في حرمته، لكونه إعانة.
الثاني - أن يقع منه من دون قصد لحصول الحرام، ولا لحصول
ما هو مقدمة له - مثل تجارة التاجر بالنسبة إلى معصية العاشر، فإنه
لم يقصد بها تسلط العاشر عليه الذي هو شرط لأخذ العشر -، وهذا
لا إشكال في عدم حرمته.
الثالث - أن يقع منه بقصد حصول ما هو من مقدمات حصول
الحرام من (2) الغير، لا لحصول نفس الحرام منه.
وهذا قد يكون من دون قصد الغير التوصل (3) بذلك الشرط إلى
الحرام، كبيع العنب من الخمار المقصود منه تملكه للعنب الذي هو شرط
لتخميره - لا نفس التخمير - مع عدم قصد الغير أيضا التخمير حال
الشراء، وهذا أيضا لا إشكال في عدم حرمته.
وقد يكون مع قصد الغير التوصل به إلى الحرام - أعني التخمير -
حال شراء العنب، وهذا أيضا على وجهين:

(1) في " ف " زيادة: نعم هو جزء للتسبيب.
(2) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: عن.
(3) في بعض النسخ: المتوصل.
144

أحدهما - أن يكون ترك هذا الفعل من الفاعل علة تامة لعدم
تحقق الحرام من الغير، والأقوى هنا وجوب الترك وحرمة الفعل.
والثاني - أن لا يكون كذلك، بل يعلم عادة أو يظن بحصول
الحرام من الغير من غير تأثير لترك ذلك الفعل، والظاهر عدم وجوب
الترك حينئذ، بناء على ما ذكرنا من اعتبار قصد الحرام في صدق
الإعانة عليه مطلقا، أو على ما احتملناه من التفصيل (1).
ثم كل مورد حكم فيه بحرمة البيع من هذه الموارد الخمسة،
فالظاهر عدم فساد البيع، لتعلق النهي بما هو خارج عن المعاملة، أعني
الإعانة على الإثم، أو المسامحة في الردع عنه.
ويحتمل الفساد، لإشعار قوله عليه السلام في رواية التحف المتقدمة
- بعد قوله: " وكل بيع (2) ملهو به، وكل منهي عنه مما يتقرب به
لغير الله أو يقوى به الكفر والشرك في جميع وجوه المعاصي، أو باب
يوهن به الحق " -: " فهو حرام محرم بيعه وشراؤه وإمساكه... الخ " بناء
على أن التحريم مسوق لبيان الفساد في تلك الرواية، كما لا يخفى.
لكن في الدلالة تأمل، ولو تمت لثبت الفساد مع قصد المشتري
خاصة للحرام، لأن الفساد لا يتبعض.

(1) تقدم في الصفحة: 140.
(2) كذا في النسخ والمصدر، إلا أنه صحح في " ن " و " ش " ب‍ " مبيع ".
145

القسم الثالث
ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأنا
بمعنى أن من شأنه أن يقصد منه الحرام
وتحريم هذا مقصور على النص، إذ لا يدخل ذلك تحت " الإعانة "،
خصوصا مع عدم العلم بصرف الغير له في الحرام، كبيع السلاح من
أعداء الدين مع عدم قصد تقويهم، بل وعدم العلم باستعمالهم لهذا
المبيع (1) الخاص في حرب المسلمين، إلا أن المعروف بين الأصحاب
حرمته، بل لا خلاف فيها (2) والأخبار بها مستفيضة:
منها: رواية الحضرمي، قال: " دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام
فقال له حكم السراج: ما ترى في من يحمل إلى الشام من السروج
وأداتها؟ قال: لا بأس، أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
أنتم في هدنة، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السلاح

(1) في " ف "، " م "، " ش ": البيع.
(2) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: فيه.
147

والسروج " (1).
ومنها: رواية هند السراج، قال: " قلت لأبي جعفر عليه السلام:
أصلحك الله! إني كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم،
فلما عرفني الله هذا الأمر ضقت بذلك وقلت: لا أحمل إلى أعداء الله،
فقال: احمل إليهم وبعهم، فإن الله يدفع بهم عدونا وعدوكم - يعني
الروم - فإذا كان الحرب بيننا (2) فمن حمل إلى عدونا سلاحا يستعينون به
علينا فهو مشرك " (3).
وصريح الروايتين اختصاص الحكم بصورة قيام الحرب بينهم وبين
المسلمين - بمعنى وجود المباينة في مقابل الهدنة، وبهما يقيد المطلقات
جوازا و (4) منعا، مع إمكان دعوى ظهور بعضها في ذلك، مثل مكاتبة
الصيقل (5): " أشتري السيوف وأبيعها من السلطان أجائز لي بيعها؟ فكتب:
لا بأس به " (6).
ورواية علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام قال: " سألته عن حمل

(1) الوسائل 12: 69، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول، مع
تفاوت يسير.
(2) في الكافي والوسائل زيادة: " فلا تحملوا "، لكنها لم ترد في التهذيب.
انظر الكافي 5: 112، الحديث 2، والتهذيب 6: 354، الحديث 1005.
(3) الوسائل 12: 69، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
(4) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: أو منعا.
(5) هذه الرواية مثال لإطلاق الجواز، ورواية علي بن جعفر ووصية
النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثالان لإطلاق المنع.
(6) الوسائل 12: 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
148

المسلمين إلى المشركين التجارة، قال: إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس " (1).
ومثله ما في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: " يا علي،
كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة (2) أصناف - وعد منها - بائع
السلاح من أهل الحرب " (3).
فما عن حواشي الشهيد من أن المنقول (4): " أن بيع السلاح حرام
مطلقا في حال الحرب والصلح والهدنة، لأن فيه تقوية الكافر على
المسلم، فلا يجوز على كل حال " (5) شبه الاجتهاد في مقابل النص، مع
ضعف دليله، كما لا يخفى.
ثم إن ظاهر الروايات شمول الحكم لما إذا لم يقصد البائع المعونة
والمساعدة أصلا، بل صريح مورد السؤال في روايتي الحكم وهند (6)
هو صورة عدم قصد ذلك، فالقول باختصاص حرمة البيع (7) بصورة
قصد المساعدة - كما يظهر من بعض العبائر (8) - ضعيف جدا.
وكذلك ظاهرها الشمول لما إذا لم يعلم باستعمال أهل الحرب

(1) الوسائل 12: 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
(2) كذا في " ص " والمصدر، وفي سائر النسخ: عشر.
(3) الوسائل 12: 71، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.
(4) عبارة " أن المنقول " لم ترد في " ش "، ومشطوب عليها في " ن ".
(5) حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 35 عن حواشي الشهيد
على القواعد.
(6) في النسخ: الهند. هذا وقد تقدمتا في أول المسألة.
(7) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: باختصاص البيع.
(8) مثل عبارة المحقق في المختصر النافع: 116، والشهيد في الدروس 3: 166.
149

للمبيع في الحرب، بل يكفي مظنة ذلك - بحسب غلبة ذلك - مع قيام
الحرب، بحيث يصدق حصول التقوي لهم بالبيع.
وحينئذ فالحكم مخالف للأصول، صير إليه للأخبار المذكورة،
وعموم رواية تحف العقول - المتقدمة - فيقتصر فيه على مورد الدليل،
وهو السلاح، دون ما لا يصدق عليه ذلك - كالمجن والدرع والمغفر
وسائر ما يكن - وفاقا للنهاية (1) وظاهر السرائر (2) وأكثر كتب العلامة (3)
والشهيدين (4) والمحقق الثاني (5)، للأصل، وما استدل به في التذكرة (6)
من رواية محمد بن قيس، قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الفئتين
من أهل الباطل تلتقيان، أبيعهما السلاح؟ قال: بعهما ما يكنهما: الدرع
والخفين ونحوهما " (7).
ولكن يمكن أن يقال: إن ظاهر رواية تحف العقول إناطة الحكم
على تقوي الكفر ووهن الحق، وظاهر قوله عليه السلام في رواية هند: " من

(1) النهاية: 366.
(2) السرائر 2: 216 - 217.
(3) التحرير 1: 160 والقواعد 1: 120 ونهاية الإحكام 2: 467 وظاهر المنتهى
2: 1011.
(4) الدروس 3: 166، المسالك 3: 123 والروضة البهية 3: 211.
(5) جامع المقاصد 4: 17.
(6) التذكرة 1: 587.
(7) الوسائل 12: 70، الباب 8 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3، وفيه:
الدرع والخفين ونحو هذا.
150

حمل إلى عدونا سلاحا يستعينون به علينا " (1) أن الحكم منوط
بالاستعانة، والكل موجود فيما يكن أيضا، كما لا يخفى.
مضافا إلى فحوى رواية الحكم المانعة عن بيع السروج (2)، وحملها
على السيوف السريجية لا يناسبه صدر الرواية، مع كون الراوي سراجا.
وأما رواية محمد بن قيس، فلا دلالة لها على المطلوب،
لأن مدلولها - بمقتضى أن التفصيل قاطع للشركة -: الجواز في ما يكن،
والتحريم في غيره، مع كون الفئتين من أهل الباطل، فلا بد من حملها
على فريقين محقوني الدماء، إذ لو كان كلاهما أو أحدهما مهدور الدم
لم يكن وجه للمنع من بيع السلاح على صاحبه.
فالمقصود من بيع " ما يكن " منهما: تحفظ كل منهما عن صاحبه
وتترسه بما يكن، وهذا غير مقصود في ما نحن فيه، بل تحفظ أعداء
الدين عن بأس المسلمين خلاف مقصود الشارع، فالتعدي عن مورد
الرواية إلى ما نحن فيه يشبه القياس مع الفارق.
ولعله لما ذكر قيد الشهيد - فيما حكي عن حواشيه على
القواعد (3) - إطلاق العلامة جواز بيع ما يكن (4) بصورة الهدنة وعدم قيام
الحرب.
ثم إن مقتضى الاقتصار على مورد النص: عدم التعدي إلى

(1) تقدم ذكرها في الصفحة: 148.
(2) تقدم ذكرها في الصفحة: 147.
(3) حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 36.
(4) القواعد 1: 120.
151

غير أعداء الدين كقطاع الطريق، إلا أن المستفاد من رواية تحف
العقول: إناطة الحكم بتقوي الباطل ووهن الحق، فلعله يشمل ذلك،
وفيه تأمل.
ثم إن النهي (1) في هذه الأخبار لا يدل على الفساد، فلا مستند له
سوى ظاهر خبر تحف العقول الوارد في بيان المكاسب الصحيحة
والفاسدة. والله العالم.

(1) من " ش ".
152

النوع الثالث
مما يحرم الاكتساب به
ما لا منفعة فيه محللة معتدا بها عند العقلاء
153

النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به
ما لا منفعة فيه محللة معتدا بها عند العقلاء
والتحريم في هذا القسم ليس إلا من حيث فساد المعاملة، وعدم
تملك الثمن، وليس كالاكتساب بالخمر والخنزير.
والدليل على الفساد في هذا القسم - على ما صرح به في
الإيضاح (1) - كون أكل المال بإزائه أكلا بالباطل.
وفيه تأمل، لأن منافع كثير من الأشياء التي ذكروها في المقام
تقابل عرفا بمال - ولو قليلا - بحيث لا يكون بذل مقدار قليل من المال
بإزائه (2) سفها.
فالعمدة ما يستفاد من الفتاوي والنصوص (3) من عدم اعتناء الشارع
بالمنافع النادرة وكونها في نظره كالمعدومة.
قال في المبسوط: إن الحيوان الطاهر على ضربين: ضرب ينتفع
به، والآخر لا ينتفع به - إلى أن قال -: وإن كان مما لا ينتفع به

(1) إيضاح الفوائد 1: 401.
(2) كذا في النسخ، والمناسب: بإزائها.
(3) في " ف ": ما يستفاد من الشرع - من الفتاوي والنصوص -: من عدم....
155

فلا يجوز بيعه بلا خلاف، مثل الأسد والذئب، وسائر الحشرات، مثل:
الحيات، والعقارب، والفأر، والخنافس، والجعلان، والحدأة، والرخمة،
والنسر، وبغاث الطير، وكذلك الغربان (1)، انتهى.
وظاهر الغنية الإجماع على ذلك أيضا (2).
ويشعر به عبارة التذكرة، حيث استدل على ذلك بخسة تلك الأشياء،
وعدم نظر الشارع إلى مثلها في التقويم، ولا يثبت يد لأحد عليها،
قال: ولا اعتبار بما ورد في الخواص من منافعها، لأنها لا تعد مع ذلك
مالا، وكذا عند الشافعي (3)، انتهى.
وظاهره اتفاقنا عليه.
وما ذكره من عدم جواز بيع ما لا يعد مالا مما لا إشكال فيه،
وإنما الكلام فيما عدوه من هذا.
قال في محكي إيضاح النافع - ونعم ما قال -: جرت عادة
الأصحاب بعنوان هذا الباب وذكر أشياء معينة على سبيل المثال، فإن
كان ذلك لأن عدم النفع مفروض فيها، فلا نزاع، وإن كان لأن ما مثل
به لا يصح بيعه لأنه محكوم بعدم الانتفاع فالمنع متوجه في أشياء
كثيرة (4)، انتهى.

(1) المبسوط 2: 166.
(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 524.
(3) التذكرة 1: 465.
(4) إيضاح النافع للفاضل القطيفي (لا يوجد لدينا)، لكن حكاه عنه السيد
العاملي في مفتاح الكرامة 4: 40.
156

وبالجملة، فكون الحيوان من المسوخ أو السباع أو الحشرات
لا دليل على كونه كالنجاسة مانعا.
فالمتعين فيما اشتمل منها على منفعة مقصودة للعقلاء جواز البيع.
فكل ما جاز الوصية به - لكونه مقصودا بالانتفاع للعقلاء - فينبغي
جواز بيعه إلا ما دل الدليل على المنع فيه تعبدا.
وقد صرح في التذكرة بجواز الوصية بمثل الفيل والأسد وغيرهما
من المسوخ والمؤذيات، وإن منعنا عن بيعها (1).
وظاهر هذا الكلام أن المنع من بيعها على القول به، للتعبد،
لا لعدم المالية.
ثم إن ما تقدم منه قدس سره: " من أنه لا اعتبار بما ورد في الخواص
من منافعها، لأنها لا تعد مالا مع ذلك " (2) يشكل بأنه إذا اطلع العرف
على خاصية في إحدى الحشرات - معلومة بالتجربة أو غيرها - فأي
فرق بينها (3) وبين نبات من الأدوية علم فيه تلك الخاصية؟ وحينئذ
فعدم جواز بيعه (4) وأخذ المال في مقابله (5) بملاحظة تلك الخاصية يحتاج
إلى دليل، لأنه حينئذ ليس أكلا للمال بالباطل.
ويؤيد ذلك ما تقدم في رواية التحف من أن " كل شئ يكون لهم

(1) التذكرة 2: 479.
(2) تقدم آنفا عن العلامة في التذكرة.
(3) كذا في " ش " ومصححة " م "، وفي سائر النسخ: بينه.
(4) كذا في النسخ، ولعل الصحيح: بيعها.
(5) كذا في النسخ، ولعل الصحيح: مقابلها.
157

فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك حلال بيعه... الخ ".
وقد أجاد في الدروس، حيث قال: ما لا نفع فيه مقصودا للعقلاء،
كالحشار وفضلات الانسان (1).
وعن التنقيح: ما لا نفع فيه بوجه من الوجوه، كالخنافس
والديدان (2).
ومما ذكرنا يظهر النظر في ما ذكره في التذكرة من الإشكال في جواز
بيع العلق الذي ينتفع به لامتصاص الدم، وديدان القز التي يصاد بها
السمك. ثم استقرب المنع، قال: لندور الانتفاع، فيشبه (3) ما لا منفعة فيه،
إذ كل شئ فله نفع ما (4)، انتهى.
أقول: ولا مانع من التزام جواز بيع كل ما له نفع ما، ولو فرض
الشك في صدق المال على مثل هذه الأشياء - المستلزم للشك في صدق
البيع - أمكن الحكم بصحة المعاوضة عليها، لعمومات التجارة والصلح
والعقود والهبة المعوضة وغيرها، وعدم المانع، لأنه ليس إلا " أكل المال
بالباطل " والمفروض عدم تحققه هنا.
فالعمدة في المسألة: الإجماع على عدم الاعتناء بالمنافع النادرة،
وهو الظاهر من التأمل في الأخبار أيضا، مثل ما دل على تحريم بيع

(1) الدروس 3: 167.
(2) التنقيح 2: 10.
(3) كذا في " ع " و " ص " و " ش " ومصححة " م "، وفي " ف "، " ن ": فيشمله، وفي
" خ " و " م ": فيشمل، وفي المصدر: فأشبه.
(4) التذكرة 1: 465.
158

ما يحرم منفعته الغالبة مع اشتماله على منفعة نادرة محللة مثل قوله عليه السلام:
" لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها " (1)، بناء
على أن للشحوم منفعة نادرة محللة على اليهود، لأن ظاهر تحريمها عليهم
تحريم أكلها، أو سائر منافعها المتعارفة.
فلولا أن النادر في نظر الشارع كالمعدوم لم يكن وجه للمنع عن
البيع، كما لم يمنع الشارع عن بيع ما له منفعة محللة مساوية للمحرمة في
التعارف والاعتداد [إلا أن يقال: المنع فيها تعبد، للنجاسة، لا من حيث
عدم المنفعة المتعارفة، فتأمل] (2).
وأوضح من ذلك قوله عليه السلام في رواية تحف العقول في ضابط
ما يكتسب به: " وكل شئ يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات
فذلك كله حلال بيعه وشراؤه... الخ " (3) إذ لا يراد منه مجرد المنفعة
وإلا لعم (4) الأشياء كلها، وقوله في آخره (5): " إنما حرم الله الصناعة التي
يجئ منها الفساد محضا " نظير كذا وكذا - إلى آخر ما ذكره - فإن كثيرا
من الأمثلة المذكورة هناك لها منافع محللة، فإن الأشربة المحرمة كثيرا
ما ينتفع بها في معالجة الدواب، بل المرضى، فجعلها مما يجئ منه الفساد

(1) مستدرك الوسائل 13: 73، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8،
عن عوالي اللآلي ودعائم الإسلام.
(2) ما بين المعقوفتين لم يرد في " ش ".
(3) تحف العقول: 333.
(4) كذا في " ف "، و " ش "، وفي سائر النسخ: يعم.
(5) في مصححة " ف ": آخرها.
159

محضا باعتبار عدم الاعتناء بهذه المصالح، لندرتها.
إلا أن الإشكال في تعيين المنفعة النادرة وتمييزها عن غيرها،
فالواجب الرجوع في مقام الشك إلى أدلة التجارة (1) ونحوها (2) مما ذكرنا.
ومنه يظهر أن الأقوى جواز بيع السباع - بناء على وقوع التذكية
عليها - للانتفاع البين بجلودها، وقد نص في الرواية على بعضها (3).
وكذا شحومها وعظامها.
وأما لحومها: فالمصرح به في التذكرة عدم الجواز معللا بندور
المنفعة المحللة المقصودة منه، كإطعام الكلاب المحترمة وجوارح الطير (4).
ويظهر أيضا جواز بيع الهرة، وهو المنصوص في غير واحد من
الروايات (5) ونسبه في موضع من التذكرة إلى علمائنا (6)، بخلاف القرد،
لأن المصلحة المقصودة منه - وهو حفظ المتاع - نادر.

(1) مثل قوله تعالى: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض) * النساء: 28.
(2) مثل عمومات الصلح والعقود والهبة المعوضة.
(3) أي على بعض هذه المنافع، راجع الوسائل 3: 256، الباب 5 من أبواب
لباس المصلي.
(4) لم نقف فيها إلا على العبارة التالية: " لحم المذكى مما لا يؤكل لحمه لا يصح
بيعه، لعدم الانتفاع به في غير الأكل المحرم، ولو فرض له نفع ما فكذلك،
لعدم اعتباره في نظر الشرع " انظر التذكرة 1: 464.
(5) الوسائل 12: 83، الباب 14 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3،
والمستدرك 13: 90، الباب 12 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3، عن
دعائم الإسلام.
(6) التذكرة 1: 464.
160

ثم اعلم أن عدم المنفعة المعتد بها يستند تارة إلى خسة الشئ
- كما ذكر من الأمثلة في عبارة المبسوط (1) - وأخرى إلى قلته، كجزء
يسير من المال لا يبذل في مقابله مال، كحبة حنطة.
والفرق: أن الأول لا يملك، ولا يدخل تحت اليد - كما عرفت من
التذكرة (2) - بخلاف الثاني فإنه يملك.
ولو غصبه غاصب كان عليه مثله إن كان مثليا، خلافا للتذكرة
فلم يوجب شيئا (3) كغير المثلي.
وضعفه بعض بأن اللازم حينئذ عدم الغرامة فيما لو غصب صبرة
تدريجا (4)، ويمكن أن يلتزم فيه بما يلتزم في غير المثلي، فافهم.
ثم إن منع حق الاختصاص في القسم الأول مشكل، مع عموم
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين
فهو أحق به " (5) مع عد أخذه قهرا ظلما عرفا.

(1) تقدمت في الصفحة: 155 - 156.
(2) في الصفحة: 156.
(3) التذكرة 1: 465.
(4) قاله المحقق الثاني في جامع المقاصد 4: 90.
(5) عوالي اللآلي 3: 481.
161

النوع الرابع
ما يحرم الاكتساب به لكونه عملا محرما في نفسه
وهذا النوع وإن كان أفراده هي جميع الأعمال المحرمة القابلة لمقابلة
المال بها في الإجارة والجعالة وغيرهما، إلا أنه جرت عادة الأصحاب
بذكر كثير مما من شأنه الاكتساب به من المحرمات، بل ولغير (1) ذلك
مما لم يتعارف الاكتساب به، كالغيبة والكذب ونحوهما.
وكيف كان، فنقتفي آثارهم بذكر أكثرها في مسائل مرتبة بترتيب
حروف أوائل عنواناتها، إن شاء الله تعالى، فنقول:

(1) في " ش ": وغير ذلك.
163

المسألة الأولى
تدليس الماشطة المرأة التي يراد تزويجها أو الأمة التي يراد بيعها
حرام بلا خلاف، كما عن الرياض (1)، وعن مجمع الفائدة: الإجماع عليه (2)،
وكذا (3) فعل المرأة ذلك بنفسها.
[ويحصل بوشم الخدود كما في المقنعة والسرائر والنهاية، وعن
جماعة] (4).
قال في المقنعة: وكسب المواشط حلال إذا لم يغششن ولم يدلسن
في عملهن، فيصلن شعور النساء بشعور غيرهن من الناس ويشمن
الخدود ويستعملن ما لا يجوز في شريعة الإسلام، فإن وصلن شعرهن
بشعر غير الناس لم يكن بذلك بأس، انتهى. ونحوه بعينه عبارة

(1) الرياض 1: 504.
(2) مجمع الفائدة 8: 84.
(3) كلمة " كذا " ساقطة من " ش ".
(4) ما بين المعقوفتين من " ش "، وفي " ف " هكذا: " كما في المقنعة والنهاية
والسرائر وجماعة "، ولم ترد العبارة في سائر النسخ.
165

النهاية (1).
وقال في السرائر - في عداد المحرمات -: وعمل المواشط (2)
بالتدليس، بأن يشمن الخدود ويحمرنها، وينقشن بالأيدي والأرجل،
ويصلن شعر النساء بشعر غيرهن، وما جرى مجرى ذلك (3)، انتهى.
وحكي نحوه عن الدروس (4) وحاشية الإرشاد (5).
وفي عد وشم الخدود من جملة التدليس تأمل، لأن الوشم في
نفسه زينة.
وكذا التأمل في التفصيل بين وصل الشعر بشعر الإنسان، ووصله
بشعر غيره، فإن ذلك لا مدخل له في التدليس وعدمه.
إلا أن يوجه الأول بأنه قد يكون الغرض من الوشم أن يحدث
في البدن نقطة خضراء حتى يتراءى بياض سائر البدن وصفاؤه أكثر
مما كان يرى لولا هذه النقطة.
ويوجه الثاني بأن شعر غير المرأة لا يلتبس على الشعر الأصلي
للمرأة، فلا يحصل التدليس به، بخلاف شعر المرأة.
وكيف كان، يظهر من بعض الأخبار المنع عن الوشم ووصل الشعر

(1) العبارة المنقولة موافقة لعبارة النهاية باختلاف يسير، وما في المقنعة أكثر
اختلافا، انظر النهاية: 366 والمقنعة: 588.
(2) في " ف "، " ن "، " ع " ومصححة " م ": المواشطة.
(3) السرائر 2: 216، وفيه: " وينقشن الأيدي "، وكذا صحح في " ف ".
(4) الدروس 3: 163.
(5) حاشية الإرشاد (مخطوط): 206.
166

بشعر الغير، وظاهرها المنع ولو في غير مقام التدليس.
ففي مرسلة ابن أبي عمير، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: " دخلت ماشطة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: هل تركت
عملك أو أقمت عليه؟ قالت: يا رسول الله أنا أعمله إلا أن تنهاني عنه
فأنتهي عنه، قال: افعلي، فإذا مشطت فلا تجلي الوجه بالخرقة، فإنها تذهب
بماء الوجه، ولا تصلي شعر (1) المرأة بشعر امرأة غيرها، وأما شعر المعز
فلا بأس بأن يوصل بشعر المرأة ".
وفي مرسلة الفقيه: " لا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط وقبلت
ما تعطى، ولا تصل شعر المرأة بشعر [امرأة] (2) غيرها. وأما شعر المعز
فلا بأس بأن يوصل (3) بشعر المرأة " (4).
وعن معاني الأخبار بسنده عن علي بن غراب، عن جعفر بن
محمد صلوات الله عليهما، قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النامصة والمنتمصة،
والواشرة والموتشرة، والواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة ".
قال الصدوق: " قال علي بن غراب: النامصة التي تنتف الشعر،

(1) في المصادر الحديثية: " ولا تصلي الشعر بالشعر " وبهذه الجملة تتم المرسلة،
انظر الوسائل 12: 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
والظاهر حصول الخلط بين ذيل هذه المرسلة وذيل المرسلة الآتية عن الفقيه.
(2) الزيادة من المصدر.
(3) في الوسائل: توصله.
(4) الفقيه 3: 162، الحديث 3591، والوسائل 12: 95، الباب 19 من أبواب
ما يكتسب به، الحديث 6.
167

والمنتمصة: التي يفعل ذلك بها، والواشرة: التي تشر أسنان المرأة،
والموتشرة: التي يفعل ذلك بها، والواصلة: التي تصل شعر المرأة بشعر
امرأة غيرها، والمستوصلة: التي يفعل ذلك بها، والواشمة: التي تشم في
يد المرأة أو في شئ من بدنها، وهو أن تغرز بدنها أو ظهر كفها بإبرة
حتى تؤثر فيه، ثم تحشوها بالكحل أو شئ من النورة فتخضر،
والمستوشمة: التي يفعل بها ذلك " (1).
وظاهر بعض الأخبار كراهة الوصل ولو بشعر غير المرأة، مثل ما عن
عبد الله بن الحسن، قال: " سألته عن القرامل، قال: وما القرامل؟
قلت: صوف تجعله النساء في رؤوسهن، قال: إن كان صوفا فلا بأس،
وإن كان شعرا فلا خير فيه - من الواصلة والمستوصلة - " (2).
وظاهر بعض الأخبار الجواز مطلقا، ففي رواية سعد الإسكاف،
قال: " سئل أبو جعفر عن القرامل التي تضعها النساء في رؤوسهن
يصلن شعورهن، قال: لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها. قلت
له: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن الواصلة والمستوصلة، فقال:
ليس هناك، إنما لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الواصلة التي تزني في شبابها
فإذا كبرت قادت النساء إلى الرجال، فتلك الواصلة " (3).

(1) معاني الأخبار: 250، مع اختلاف، الوسائل 12: 95، الباب 19 من أبواب
ما يكتسب به، الحديث 7.
(2) الوسائل 12: 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5، وفيه
بدل " المستوصلة " - في آخر الحديث -: " الموصولة ".
(3) الوسائل 12: 94، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3، وفيه
أيضا بدل " المستوصلة " - في أول الحديث -: " الموصولة ".
168

ويمكن الجمع بين الأخبار بالحكم بكراهة وصل مطلق الشعر
- كما في رواية عبد الله بن الحسن -، وشدة الكراهة في الوصل
بشعر المرأة.
وعن الخلاف والمنتهى: الإجماع على أنه يكره وصل شعرها بشعر
غيرها رجلا كان أو امرأة (1).
وأما ما عدا الوصل - مما ذكر في رواية معاني الأخبار - فيمكن
حملها (2) أيضا على الكراهة، لثبوت الرخصة من رواية سعد في مطلق
الزينة، خصوصا مع صرف الإمام للنبوي - الواردة في الواصلة - عن
ظاهره، المتحد سياقا مع سائر ما ذكر في النبوي.
ولعله أولى من تخصيص عموم الرخصة بهذه الأمور.
مع أنه لولا الصرف لكان الواجب إما تخصيص الشعر بشعر
المرأة، أو تقييده بما إذا كان هو أو أحد (3) أخواته في مقام التدليس،
فلا دليل على تحريمها في غير مقام التدليس - كفعل المرأة المزوجة ذلك
لزوجها - خصوصا بملاحظة ما في رواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام:
" عن المرأة تحف الشعر عن وجهها، قال: لا بأس " (4).

(1) الخلاف 1: 492، كتاب الصلاة، المسألة 234، المنتهى 1: 184.
(2) كذا في النسخ، والمناسب: حمله.
(3) كذا في النسخ، والمناسب: إحدى.
(4) الوسائل 12: 95، الباب 19 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8، وفيه:
من وجهها.
169

وهذه أيضا قرينة على صرف إطلاق لعن النامصة (1) في النبوي
عن ظاهره، بإرادة التدليس، أو الحمل على الكراهة.
نعم، قد يشكل الأمر في وشم الأطفال، من حيث إنه إيذاء لهم
بغير مصلحة، بناء على أن لا مصلحة فيه لغير المرأة المزوجة
إلا التدليس بإظهار شدة بياض البدن وصفائه، بملاحظة النقطة الخضراء
الكدرة في البدن.
لكن الإنصاف، أن كون ذلك تدليسا مشكل، بل ممنوع، بل هو تزيين
للمرأة من حيث خلط البياض بالخضرة، فهو تزيين، لا موهم لما ليس
في البدن واقعا من البياض والصفاء.
نعم، مثل نقش الأيدي والأرجل بالسواد يمكن أن يكون الغالب
فيه إرادة إيهام بياض البدن وصفائه.
ومثله الخط الأسود فوق الحاجبين، أو وصل الحاجبين بالسواد
لتوهم طولهما وتقوسهما.
ثم إن التدليس بما ذكرنا إنما يحصل بمجرد رغبة الخاطب
أو المشتري، وإن علما أن هذا البياض والصفاء ليس واقعيا، بل حدث
بواسطة هذه الأمور، فلا يقال: إنها ليست بتدليس، لعدم خفاء أثرها
على الناظر.
وحينئذ فينبغي أن يعد من التدليس لبس المرأة أو الأمة الثياب
الحمر أو الخضر الموجبة لظهور بياض البدن وصفائه، والله العالم.

(1) شطب في " ف " على عبارة " لعن النامصة " وكتب في هامشه: اللعن.
170

ثم إن المرسلة - المتقدمة عن الفقيه (1) - دلت على كراهة كسب
الماشطة مع شرط الأجرة المعينة، وحكي الفتوى به (2) عن المقنع
وغيره (3).
والمراد بقوله عليه السلام: " إذا قبلت ما تعطى " (4) البناء على ذلك حين
العمل، وإلا فلا يلحق العمل بعد وقوعه ما يوجب كراهته.
ثم إن أولوية قبول ما يعطى وعدم مطالبة الزائد:
إما لأن الغالب عدم نقص ما تعطى عن أجرة مثل العمل، إلا أن
مثل الماشطة والحجام والختان - ونحوهم - كثيرا ما يتوقعون أزيد
مما يستحقون - خصوصا من أولي المروءة والثروة - وربما يبادرون
إلى هتك العرض إذا منعوا، ولا يعطون ما يتوقعون من الزيادة - أو بعضه -
إلا استحياء وصيانة للعرض. وهذا لا يخلو عن شبهة، فأمروا في الشريعة
بالقناعة بما يعطون وترك مطالبة الزائد، فلا ينافي ذلك جواز مطالبة
الزائد والامتناع عن قبول ما يعطى إذا اتفق كونه دون أجرة المثل.
وإما لأن المشارطة في مثل هذه الأمور لا يليق بشأن كثير من

(1) تقدمت في الصفحة: 167.
(2) ظاهر العبارة: رجوع الضمير إلى " الكراهة " - بعد الإغماض عن الإشكال في
تذكير الضمير - لكن الذي وقفنا عليه في المقنع هو الفتوى بمضمون المرسلة،
من دون إشارة إلى الكراهة المستفادة من مفهومها، فيحتمل أن يكون الضمير
راجعا إلى " المرسلة " بتقدير المضاف، أي أفتي بمضمون المرسلة، فلاحظ.
(3) انظر المقنع (الجوامع الفقهية): 30، والهداية (الجوامع الفقهية): 62.
(4) لفظ الحديث: " إذا لم تشارط وقبلت ما تعطى ".
171

الأشخاص، لأن المماكسة فيها خلاف المروءة، والمسامحة فيها قد لا تكون
مصلحة، لكثرة طمع هذه الأصناف، فأمروا بترك المشارطة والإقدام
على العمل بأقل ما يعطى وقبوله.
وترك مطالبة الزائد مستحب للعامل، وإن وجب على من عمل له
إيفاء تمام ما يستحقه من أجرة المثل، فهو مكلف وجوبا بالإيفاء،
والعامل مكلف ندبا بالسكوت وترك المطالبة، خصوصا على ما يعتاده
هؤلاء من سوء الاقتضاء.
أو (1) لأن الأولى في حق العامل قصد التبرع بالعمل، وقبول ما يعطى
على وجه التبرع أيضا، فلا ينافي ذلك ما ورد من قوله عليه السلام:
" لا تستعملن أجيرا حتى تقاطعه " (2).

(1) عطف على قوله: " إما ".
(2) لم نعثر على خبر باللفظ المذكور، نعم، ورد مؤداه في الوسائل 13: 245،
الباب 3 من أحكام الإجارة.
172

المسألة الثانية
تزيين الرجل بما يحرم عليه من لبس الحرير والذهب، حرام،
لما ثبت في محله من حرمتهما على الرجال، وما يختص بالنساء من
اللباس - كالسوار والخلخال والثياب المختصة بهن في العادات - على
ما ذكره في المسالك (1).
وكذا العكس، أعني تزيين المرأة بما يختص بالرجال - كالمنطقة
والعمامة -، ويختلف باختلاف العادات.
واعترف غير واحد بعدم العثور على دليل لهذا الحكم (2) عدا
النبوي المشهور، المحكي عن الكافي والعلل: " لعن الله المتشبهين من

(1) المسالك 1: 130.
(2) منهم المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 8: 85، إلا أنه قال: " ولعل دليله
الإجماع وأنه نوع غش "، ثم قال: " والإجماع غير ظاهر - فيما قيل - وكذا كونه
غشا " ولم يتعرض للنبوي، ومنهم المحدث البحراني في الحدائق 18: 198،
وحكاه في مفتاح الكرامة (4: 60) عن الكفاية، لكن لم نعثر عليه في كفاية
الأحكام للسبزواري.
173

الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال " (1).
وفي دلالته قصور، لأن الظاهر من التشبه (2) تأنث الذكر وتذكر
الأنثى، لا مجرد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبه.
ويؤيده المحكي عن العلل: أن عليا عليه السلام رأى رجلا به تأنيث (3)
في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: " أخرج من مسجد رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لعن
الله... الخ " (4).
وفي رواية يعقوب بن جعفر - الواردة في المساحقة -: أن
" فيهن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعن الله المتشبهات بالرجال من
النساء... الخ " (5).
وفي رواية أبي خديجة، عن أبي عبد الله عليه السلام: " لعن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات
من النساء بالرجال، وهم: المخنثون، واللائي ينكحن بعضهن بعضا " (6).

(1) الكافي 8: 71، الحديث 27، علل الشرائع: 602، الحديث 63، الوسائل
12: 211، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.
(2) كذا في " ش " ومصححة " ن "، وفي سائر النسخ: التشبيه.
(3) كذا في " ف " والمصدر، وفي سائر النسخ: تأنث.
(4) ليس هذا حديثا آخر - كما يوهمه ظاهر العبارة - بل هو قسم آخر من
الحديث المحكي عن العلل آنفا.
(5) الوسائل 14: 262، الباب 24 من أبواب النكاح المحرم، الحديث 5.
(6) المصدر السابق: الحديث 6.
174

نعم في (1) رواية سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام: " عن الرجل
يجر ثيابه؟ قال: إني لأكره أن يتشبه بالنساء " (2).
وعنه عليه السلام عن آبائه عليهم السلام: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يزجر الرجل أن يتشبه بالنساء، وينهى المرأة أن تتشبه بالرجال في
لباسها " (3).
وفيهما (4) خصوصا الأولى - بقرينة المورد - ظهور في الكراهة،
فالحكم المذكور لا يخلو عن إشكال.
ثم الخنثى يجب عليها ترك الزينتين المختصتين بكل من الرجل
والمرأة - كما صرح به جماعة (5) - [لأنها يحرم عليها لباس مخالفها في
الذكورة والأنوثة، وهو مردد بين اللبسين، فتجتنب عنهما مقدمة] (6)
لأنهما له (7) من قبيل المشتبهين المعلوم حرمة أحدهما.
ويشكل - بناء على كون مدرك الحكم حرمة التشبه - بأن الظاهر

(1) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: " وفي " بدل " نعم في ".
(2) الوسائل 3: 354، الباب 13 من أبواب أحكام الملابس، الحديث الأول.
(3) المصدر السابق، الحديث 2.
(4) كذا في " ش " ومصححة " ن "، وفي سائر النسخ: فيها.
(5) منهم السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 60، وحكاه صاحب الجواهر عن
شرح أستاذه واستجوده، راجع الجواهر 22: 116.
(6) وردت العبارة في " ش " بعنوان نسخة بدل، ووردت في سائر النسخ مع
اختلاف في بعض الضمائر والأفعال من حيث التذكير والتأنيث، وفي بعضها عليها
علامة (خ ل)، وكلها لا تخلو عن مسامحة.
(7) لم ترد في " ش "، والمناسب: لها.
175

من (1) " التشبه " صورة علم المتشبه.

(1) في أكثر النسخ: عن.
176

المسألة الثالثة
التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة المحترمة -
وهو كما في جامع
المقاصد: ذكر محاسنها وإظهار شدة (1) حبها بالشعر (2) - حرام على
ما عن المبسوط (3) وجماعة، كالفاضلين (4) والشهيدين (5) والمحقق
الثاني (6).
واستدل عليه بلزوم تفضيحها، وهتك حرمتها، وإيذائها وإغراء
الفساق بها، وإدخال النقص عليها وعلى أهلها (7)، ولذا لا ترضى النفوس

(1) على كلمة " شدة " علامة نسخة بدل في بعض النسخ: لكنها موجودة في
المصدر.
(2) جامع المقاصد 4: 28.
(3) المبسوط 8: 228.
(4) المحقق في الشرائع 4: 128، العلامة في التذكرة 1: 582 والتحرير 1: 161
وغيرهما.
(5) الأول في الدروس 3: 163، والثاني في المسالك (الطبعة الحجرية) 2: 323.
(6) جامع المقاصد 4: 28.
(7) لم نقف على من استدل بجميع الفقرات المذكورة، نعم استدل الشهيد الثاني
بالإيذاء والاشتهار، والفاضل الهندي بالإيذاء وإغراء الفساق بها، انظر المسالك
2: 323، وكشف اللثام 2: 373.
177

الأبية ذوات الغيرة والحمية أن يذكر ذاكر عشق بعض بناتهم وأخواتهم،
بل البعيدات من قراباتهم.
والإنصاف، أن هذه الوجوه لا تنهض لإثبات التحريم، مع كونه (1)
أخص من المدعى، إذ قد لا يتحقق شئ من المذكورات في التشبيب،
بل وأعم منه من وجه، فإن التشبيب بالزوجة قد يوجب أكثر
المذكورات.
ويمكن أن يستدل عليه بما سيجئ من عمومات حرمة اللهو
والباطل (2)، وما دل على حرمة الفحشاء (3)، ومنافاته للعفاف المأخوذ في
العدالة (4).
وفحوى ما دل على حرمة ما يوجب - ولو بعيدا - تهييج القوة

(1) كذا في النسخ، والمناسب: كونها، كما في مصححة " ن ".
(2) تأتي في الصفحة: 288 - 290.
(3) مثل قوله تعالى: * (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم
تذكرون) * النحل: 90.
وقوله تعالى: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم
عذاب أليم في الدنيا والآخرة...) * النور: 19.
(4) كما هو مقتضى رواية ابن أبي يعفور: " قال: قلت لأبي عبد الله: بم تعرف
عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: أن تعرفوه
بالستر والعفاف... الخ " الوسائل 18: 288، الباب 41 من أبواب الشهادات،
الحديث الأول.
178

الشهوية بالنسبة إلى غير الحليلة، مثل:
ما دل على المنع عن النظر، لأنه سهم من سهام إبليس (1).
والمنع عن الخلوة بالأجنبية، لأن ثالثهما الشيطان (2).
وكراهة جلوس الرجل في مكان المرأة حتى يبرد المكان (3).
وبرجحان التستر عن نساء أهل الذمة، لأنهن يصفن
لأزواجهن (4).
والتستر عن الصبي المميز الذي يصف ما يرى (5).
والنهي في الكتاب العزيز عن أن يخضعن بالقول فيطمع الذي في
قلبه مرض (6)، وعن أن يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن (7).

(1) الوسائل 14: 138، الباب 104 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، الحديث
1 و 5.
(2) الوسائل 13: 281، الباب 31 من أبواب أحكام الإجارة.
(3) الوسائل 14: 185، الباب 145 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه.
(4) الوسائل 14: 133، الباب 98 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، الحديث
الأول.
(5) الوسائل 14: 172، الباب 130 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه، الحديث
2.
(6) في قوله تعالى: * (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن
بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا) * الأحزاب: 32.
(7) في قوله تعالى: * (... ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن...) *
النور: 31.
179

إلى غير ذلك من المحرمات والمكروهات التي يعلم منها حرمة
ذكر المرأة المعينة المحترمة (1) بما يهيج الشهوة عليها، خصوصا ذات البعل
التي لم يرض الشارع بتعريضها للنكاح بقول: " رب راغب فيك ".
نعم، لو قيل بعدم حرمة التشبيب بالمخطوبة قبل العقد - بل مطلق
من يراد تزويجها - لم يكن بعيدا، لعدم جريان أكثر ما ذكر فيها.
والمسألة غير صافية عن الاشتباه والإشكال.
ثم إن المحكي عن المبسوط وجماعة (2): جواز التشبيب بالحليلة،
بزيادة الكراهة عن المبسوط (3).
وظاهر الكل جواز التشبيب بالمرأة المبهمة، بأن يتخيل امرأة
ويتشبب بها،
وأما المعروفة عند القائل دون السامع - سواء علم السامع
إجمالا بقصد معينة أم لا - ففيه إشكال.
وفي جامع المقاصد - كما عن الحواشي (4) - الحرمة في الصورة
الأولى (5).
وفيه إشكال، من جهة اختلاف الوجوه المتقدمة للتحريم، وكذا إذا
لم يكن هنا سامع.

(1) كذا في " ش " وظاهر " خ "، وفي سائر النسخ: المحرمة.
(2) مثل المحقق في ظاهر الشرائع 4: 128، والشهيد في ظاهر الدروس
3: 163، والمحقق الثاني في جامع المقاصد 4: 28.
(3) المبسوط 8: 228.
(4) نقله السيد العاملي في مفتاح الكرامة (4: 69) عن حواشي الشهيد قدس سره.
(5) جامع المقاصد 4: 28.
180

وأما اعتبار الإيمان، فاختاره في القواعد والتذكرة (1)، وتبعه بعض
الأساطين (2) لعدم احترام غير المؤمنة.
وفي جامع المقاصد - كما عن غيره - حرمة التشبيب بنساء أهل
الخلاف وأهل الذمة، لفحوى حرمة النظر إليهن (3).
ونقض بحرمة النظر إلى نساء أهل الحرب، مع أنه صرح بجواز
التشبيب بهن.
والمسألة مشكلة، من جهة الاشتباه في مدرك أصل الحكم.
وكيف كان، فإذا شك المستمع في تحقق شروط الحرمة لم يحرم
عليه الاستماع، كما صرح به في جامع المقاصد (4).
وأما التشبيب بالغلام، فهو محرم على كل حال - كما عن الشهيدين (5)
والمحقق الثاني (6) وكاشف اللثام (7) -، لأنه فحش محض، فيشتمل
على الإغراء بالقبيح.

(1) القواعد 1: 121، التذكرة 1: 582.
(2) وهو كاشف الغطاء قدس سره في شرحه على القواعد (مخطوط): 21.
(3) جامع المقاصد 4: 28، وتستفاد من عبارة الشهيد في الدروس حيث استثنى
من حرمة التشبيب نساء أهل الحرب، انظر الدروس 3: 163، وأشار إلى ذلك
في مفتاح الكرامة 4: 68.
(4) المصدر المتقدم.
(5) الأول في الدروس 3: 163، والثاني في المسالك (الطبعة الحجرية) 2: 323.
(6) جامع المقاصد 4: 28.
(7) كشف اللثام 2: 373.
181

وعن المفاتيح: أن في إطلاق الحكم نظرا (1)، والله العالم.

(1) مفاتيح الشرائع 2: 20.
182

المسألة الرابعة
تصوير صور ذوات الأرواح حرام - إذا كانت الصورة مجسمة -
بلا خلاف فتوى ونصا.
وكذا مع عدم التجسم (1)، وفاقا لظاهر النهاية (2) وصريح السرائر (3)
والمحكي عن حواشي الشهيد (4) والميسية (5) والمسالك (6) وإيضاح النافع (7)
والكفاية (8) ومجمع البرهان (9) وغيرهم (10)، للروايات المستفيضة:

(1) ظاهر " ف ": التجسيم.
(2) النهاية: 363.
(3) السرائر 2: 215.
(4) لا يوجد لدينا، وحكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 48.
(5) لا يوجد لدينا، وحكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 48.
(6) المسالك 3: 126.
(7) لا يوجد لدينا، وحكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 48.
(8) كفاية الأحكام: 85.
(9) مجمع الفائدة 8: 55.
(10) مثل القاضي في المهذب 1: 344.
183

مثل قوله عليه السلام: " نهى أن ينقش شئ من الحيوان على
الخاتم " (1).
وقوله عليه السلام: " نهى عن تزويق البيوت، قلت: وما تزويق البيوت؟
قال: تصاوير التماثيل " (2).
والمتقدم عن تحف العقول: " وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن
مثال الروحاني " (3).
وقوله عليه السلام في عدة أخبار: " من صور صورة كلفه الله يوم
القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ " (4).
وقد يستظهر اختصاصها بالمجسمة، من حيث إن نفخ الروح
لا يكون إلا في الجسم، وإرادة تجسيم (5) النقش مقدمة للنفخ ثم النفخ فيه
خلاف الظاهر.
وفيه: أن النفخ يمكن تصوره في النقش بملاحظة محله، بل بدونها
- كما في أمر الإمام عليه السلام الأسد المنقوش على البساط بأخذ الساحر في
مجلس الخليفة (6) - أو بملاحظة لون النقش الذي هو في الحقيقة أجزاء

(1) الوسائل 12: 221، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
(2) الوسائل 3: 560، الباب 3 من أبواب المساكن، الحديث الأول.
(3) تقدم في أول الكتاب.
(4) الوسائل 12: 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الأحاديث 6 - 9.
(5) في بعض النسخ: تجسم.
(6) أمالي الصدوق 1: 127، المجلس 29، الحديث 19، وعيون أخبار الرضا عليه السلام
1: 96، الباب 8، الحديث الأول.
184

لطيفة من الصبغ.
والحاصل، أن مثل هذا لا يعد قرينة - عرفا - على تخصيص
الصورة (1) بالمجسم (2).
وأظهر من الكل، صحيحة ابن مسلم: " سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن تماثيل الشجر والشمس والقمر؟ قال: لا بأس ما لم يكن شيئا (3)
من الحيوان " (4)، فإن ذكر الشمس والقمر قرينة على إرادة مجرد النقش.
ومثل قوله عليه السلام: " من جدد قبرا أو مثل مثالا فقد خرج عن
الإسلام " (5). فإن " المثال " و " التصوير " مترادفان - على ما حكاه كاشف
اللثام عن أهل اللغة (6) -.
مع أن الشائع من التصوير والمطلوب منه، هي الصور المنقوشة
على أشكال الرجال والنساء والطيور والسباع، دون الأجسام المصنوعة
على تلك الأشكال.
ويؤيده أن الظاهر أن الحكمة في التحريم هي حرمة التشبه
بالخالق في إبداع الحيوانات وأعضائها على الأشكال المطبوعة، التي يعجز
البشر عن نقشها على ما هي عليه، فضلا عن اختراعها، ولذا منع

(1) في " ع "، " ص ": الصور.
(2) في " ف ": بالجسم.
(3) كذا في " ش " والمصدر، وفي سائر النسخ: شئ.
(4) الوسائل 12: 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.
(5) الوسائل 2: 868، الباب 43 من أبواب الدفن، الحديث الأول.
(6) كشف اللثام 1: 199.
185

بعض الأساطين عن تمكين غير المكلف من ذلك (1).
ومن المعلوم أن المادة لا دخل لها في هذه الاختراعات العجيبة،
فالتشبه إنما يحصل بالنقش والتشكيل، لا غير.
ومن هنا يمكن استظهار اختصاص الحكم بذوات الأرواح، فإن صور
غيرها كثيرا ما تحصل بفعل الإنسان للدواعي الأخر غير قصد التصوير،
ولا يحصل به تشبه بحضرة المبدع - تعالى عن التشبيه (2) - بل كل ما يصنعه
الإنسان من التصرف في الأجسام فيقع (3) على شكل واحد من مخلوقات
الله تعالى.
ولذا قال كاشف اللثام - على ما حكي عنه في مسألة كراهة
الصلاة في الثوب المشتمل على التماثيل -: إنه لو عمت الكراهة لتماثيل
ذي الروح وغيرها كرهت الثياب ذوات الأعلام، لشبه الأعلام
بالأخشاب والقصبات ونحوها، والثياب المحشوة، لشبه طرائقها المخيطة
بها، بل الثياب قاطبة، لشبه خيوطها بالأخشاب ونحوها (4)، انتهى.
وإن كان ما ذكره لا يخلو عن نظر كما سيجئ.
هذا، ولكن العمدة في اختصاص الحكم بذوات الأرواح أصالة
الإباحة، مضافا إلى ما دل على الرخصة، مثل صحيحة ابن مسلم

(1) وهو كاشف الغطاء في شرحه على القواعد: 12.
(2) كذا في النسخ، وفي مصححة " ن ": الشبيه.
(3) في مصححة " ن ": يقع.
(4) كشف اللثام 1: 194.
186

- السابقة (1) -، ورواية التحف - المتقدمة -، وما ورد في تفسير قوله
تعالى: * (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل) * (2) من قوله عليه السلام:
" والله ما هي تماثيل الرجال والنساء، ولكنها تماثيل (3) الشجر
وشبهه " (4).
والظاهر، شمولها للمجسم (5) وغيره، فبها يقيد بعض ما مر من
الإطلاق.
خلافا لظاهر جماعة، حيث إنهم بين من يحكى عنه تعميمه الحكم
لغير ذي الروح ولو لم يكن مجسما (6)، لبعض الإطلاقات - اللازم
تقييدها بما تقدم - مثل قوله عليه السلام: " نهى عن تزويق البيوت " (7)،
وقوله عليه السلام: " من مثل مثالا... الخ " (8).
وبين من عبر بالتماثيل المجسمة (9)، بناء على شمول " التمثال " لغير
الحيوان - كما هو كذلك - فخص الحكم بالمجسم، لأن المتيقن من المقيدات

(1) تقدمت في الصفحة 185.
(2) سبأ: 13.
(3) لم ترد " تماثيل " في المصادر الحديثية.
(4) الوسائل 12: 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
(5) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: للجسم.
(6) يستفاد التعميم من إطلاق كلام الحلبي في الكافي: 281، وابن البراج في
المهذب 1: 344.
(7) تقدم في الصفحة: 184.
(8) تقدم في الصفحة: 185.
(9) مثل المفيد في المقنعة: 587، والشيخ في النهاية: 363.
187

للإطلاقات والظاهر منها - بحكم غلبة الاستعمال والوجود -: النقوش لا غير.
وفيه: أن هذا الظهور لو اعتبر لسقط (1) الإطلاقات عن نهوضها
لإثبات حرمة المجسم، فتعين حملها (2) على الكراهة، دون التخصيص
بالمجسمة.
وبالجملة، " التمثال " في الإطلاقات المانعة - مثل قوله: " من مثل
مثالا " - إن كان ظاهرا في شمول الحكم للمجسم، كان كذلك في الأدلة
المرخصة لما عدا الحيوان، كرواية تحف العقول وصحيحة ابن مسلم (3)
وما في تفسير الآية (4).
فدعوى ظهور الإطلاقات المانعة في العموم واختصاص المقيدات
المجوزة بالنقوش تحكم.
ثم إنه لو عممنا الحكم لغير الحيوان مطلقا أو مع التجسم، فالظاهر
أن المراد به ما كان مخلوقا لله سبحانه على هيئة خاصة معجبة للناظر،
على وجه تميل النفس إلى مشاهدة صورتها المجردة عن المادة أو معها،
فمثل تمثال السيف والرمح والقصور والأبنية والسفن مما هو مصنوع للعباد
- وإن كانت في هيئة حسنة معجبة - خارج، وكذا مثل تمثال القصبات
والأخشاب والجبال والشطوط مما خلق (5) الله لا على هيئة معجبة للناظر

(1) في " ف ": سقط.
(2) في هامش " ف " زيادة: عند هذا القائل.
(3) راجع الصفحة: 185.
(4) تقدم في الصفحة السابقة.
(5) في " ش ": خلقه الله.
188

- بحيث تميل النفس إلى مشاهدتها، ولو بالصور الحاكية لها -، لعدم شمول
الأدلة لذلك كله.
هذا كله مع قصد الحكاية والتمثيل، فلو دعت الحاجة إلى عمل
شئ يكون شبيها بشئ من خلق الله - ولو كان حيوانا - من غير قصد
الحكاية، فلا بأس قطعا.
ومنه يظهر النظر في ما تقدم عن كاشف اللثام (1).
ثم إن المرجع في " الصورة " إلى العرف، فلا يقدح في الحرمة نقص
بعض الأعضاء. وليس في ما ورد من رجحان تغيير الصورة بقلع عينها
أو كسر رأسها (2) دلالة على جواز تصوير الناقص.
ولو صور بعض أجزاء الحيوان ففي حرمته نظر، بل منع،
وعليه، فلو صور نصف الحيوان من رأسه إلى وسطه، فإن قدر
الباقي موجودا - بأن فرضه إنسانا جالسا لا يتبين ما دون وسطه -
حرم، وإن قصد النصف لا غير لم يحرم إلا مع صدق الحيوان على
هذا النصف.
ولو بدا له في إتمامه حرم الإتمام، لصدق التصوير بإكمال الصورة،
لأنه إيجاد لها.
ولو اشتغل بتصوير حيوان فعل حراما، حتى لو بدا له في إتمامه.
وهل يكون ما فعل حراما من حيث التصوير، أو لا يحرم إلا من حيث
التجري؟ وجهان: من أنه لم يقع إلا بعض مقدمات الحرام بقصد تحققه،

(1) تقدم في الصفحة: 186.
(2) الوسائل 3: 462، الباب 32 من أبواب مكان المصلي.
189

ومن أن معنى حرمة الفعل عرفا ليس إلا حرمة الاشتغال به عمدا،
فلا تراعى الحرمة بإتمام العمل.
والفرق بين فعل الواجب - المتوقف استحقاق الثواب على إتمامه -
وبين الحرام، هو قضاء العرف، فتأمل.
بقي الكلام في جواز اقتناء ما حرم عمله من الصور وعدمه.
فالمحكي عن شرح الإرشاد - للمحقق الأردبيلي - أن المستفاد من
الأخبار الصحيحة وأقوال الأصحاب: عدم حرمة إبقاء الصور، انتهى.
وقرره الحاكي على هذه الاستفادة (1).
وممن اعترف بعدم الدليل على الحرمة، المحقق الثاني - في جامع
المقاصد - مفرعا على ذلك جواز بيع الصور المعمولة، وعدم لحوقها
بآلات اللهو والقمار وأواني النقدين (2)، وصرح في حاشية الإرشاد بجواز
النظر إليها (3).
لكن ظاهر كلام بعض القدماء حرمة بيع التماثيل وابتياعها.
ففي المقنعة - بعد أن ذكر في ما يحرم الاكتساب به الخمر
وصناعتها وبيعها - قال: وعمل الأصنام والصلبان والتماثيل المجسمة

(1) حكاه في مفتاح الكرامة (4: 49) عن مجمع الفائدة في باب لباس المصلي،
والموجود فيه قوله: " ويفهم من الأخبار الصحيحة عدم تحريم إبقاء الصورة " من
دون نسبة إلى الأصحاب، انظر مجمع الفائدة 2: 93.
(2) جامع المقاصد 4: 16.
(3) حاشية الإرشاد: 206.
190

والشطرنج والنرد وما أشبه ذلك - حرام، وبيعه وابتياعه حرام (1)،
انتهى.
وفي النهاية: وعمل الأصنام والصلبان والتماثيل المجسمة والصور
والشطرنج والنرد وسائر أنواع القمار - حتى لعب الصبيان بالجوز -
والتجارة فيها والتصرف فيها والتكسب بها محظور (2)، انتهى. ونحوها
ظاهر السرائر (3).
ويمكن أن يستدل للحرمة - مضافا إلى أن الظاهر من تحريم عمل
الشئ مبغوضية وجود المعمول ابتداء واستدامة - بما تقدم في صحيحة
ابن مسلم من قوله عليه السلام: " لا بأس ما لم يكن حيوانا " (4)، بناء على
أن الظاهر من سؤال الراوي عن التماثيل سؤاله عن حكم الفعل
المتعارف المتعلق بها العام البلوى، وهو " الاقتناء "، وأما نفس الإيجاد
فهو عمل مختص بالنقاش، ألا ترى أنه لو سئل عن الخمر فأجاب
بالحرمة، أو عن العصير فأجاب بالإباحة، انصرف الذهن إلى شربهما،
دون صنعتهما، بل ما نحن فيه أولى بالانصراف، لأن صنعة العصير
والخمر يقع من كل أحد، بخلاف صنعة التماثيل.
وبما (5) تقدم من الحصر في قوله عليه السلام - في رواية تحف العقول -:

(1) المقنعة: 587.
(2) النهاية: 363.
(3) السرائر 2: 215.
(4) تقدمت في الصفحة: 185، بلفظ " لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان ".
(5) عطف على قوله: ويمكن أن يستدل للحرمة.
191

" إنما حرم الله الصناعة التي يجئ منها الفساد محضا، ولا يكون منه
وفيه شئ من وجوه الصلاح [إلى قوله عليه السلام: يحرم جميع التقلب
فيه "] (1)، فإن ظاهره أن كل ما يحرم صنعته - ومنها (2) التصاوير - يجئ
منها (3) الفساد محضا، فيحرم جميع التقلب فيه بمقتضى ما ذكر في الرواية
بعد هذه الفقرة.
وبالنبوي: " لا تدع صورة إلا محوتها ولا كلبا إلا قتلته " (4)، بناء
على إرادة الكلب الهراش المؤذي، الذي يحرم اقتناؤه.
وما عن قرب الإسناد بسنده عن علي بن جعفر عليه السلام عن
أخيه عليه السلام قال: " سألته عن التماثيل هل يصلح أن يلعب بها؟
قال: لا " (5).
وبما ورد في إنكار أن المعمول لسليمان على نبينا وآله وعليه السلام هي تماثيل
الرجال والنساء (6)، فإن الإنكار إنما يرجع إلى مشيئة (7) سليمان للمعمول

(1) لم يرد ما بين المعقوفتين في " ش "، وفي " ن " عليه علامة (ز) أي زائد،
ووردت في نسخة " ف " في الهامش.
(2) كذا في النسخ - في الموضعين - والمناسب: منه.
(3) كذا في النسخ - في الموضعين - والمناسب: منه.
(4) الوسائل 3: 562، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 8، وفيه:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، فقال:
لا تدع صورة إلا محوتها ولا قبرا إلا سويته، ولا كلبا إلا قتلته.
(5) قرب الإسناد: 265، الحديث 1165، والوسائل 12: 221، الباب 94 من
أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.
(6) الوسائل 3: 561، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 4، 6.
(7) في " ف ": إلى أن مشية.
192

- كما هو ظاهر الآية (1) - دون أصل العمل، فدل على كون مشيئة وجود
التمثال من المنكرات التي لا تليق بمنصب النبوة.
وبمفهوم صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: " لا بأس بأن
يكون التماثيل في البيوت إذا غيرت رؤوسها وترك ما سوى ذلك " (2).
ورواية المثنى عن أبي عبد الله عليه السلام: " أن عليا عليه السلام يكره (3)
الصور في البيوت " (4) بضميمة ما ورد في رواية أخرى - مروية في باب
الربا -: " أن عليا عليه السلام لم يكن يكره الحلال " (5).
ورواية الحلبي - المحكية عن مكارم الأخلاق - عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: " أهديت إلي طنفسة من الشام فيها تماثيل طائر،
فأمرت به فغير رأسه فجعل كهيئة الشجر " (6).
هذا، وفي الجميع نظر:
أما الأول، فلأن الممنوع هو إيجاد الصورة، وليس وجودها مبغوضا
حتى يجب رفعه.

(1) سبأ: 13.
(2) الوسائل 3: 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 3.
(3) في المصدر: كره.
(4) الوسائل 3: 561، الباب 3 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 3.
(5) الوسائل 12: 447، الباب 15 من أبواب الربا، ذيل الحديث الأول، ولفظه
هكذا: " ولم يكن علي عليه السلام يكره الحلال ".
(6) مكارم الأخلاق: 132، والوسائل 3: 565، الباب 4 من أبواب أحكام
المساكن، الحديث 7.
193

نعم، قد يفهم الملازمة من سياق الدليل أو من خارج، كما أن
حرمة إيجاد النجاسة في المسجد يستلزم مبغوضية وجودها فيه، المستلزم
لوجوب رفعها.
وأما الروايات، فالصحيحة الأولى (1) غير ظاهرة في السؤال عن
الاقتناء، لأن عمل الصور مما هو مركوز في الأذهان، حتى أن السؤال
عن حكم اقتنائها بعد معرفة حرمة عملها، إذ لا يحتمل حرمة اقتناء
ما لا يحرم عمله.
وأما الحصر في رواية تحف العقول، فهو - بقرينة الفقرة السابقة
منها، الواردة في تقسيم الصناعات إلى ما يترتب عليه الحلال والحرام،
وما لا يترتب عليه إلا الحرام - إضافي بالنسبة إلى هذين القسمين، يعني
لم يحرم من القسمين إلا ما ينحصر فائدته في الحرام ولا يترتب عليه
إلا الفساد.
نعم، يمكن أن يقال: إن الحصر وارد في مساق التعليل وإعطاء
الضابطة للفرق بين الصنائع، لا لبيان حرمة خصوص القسم المذكور.
وأما النبوي، فسياقه ظاهر في الكراهة، كما يدل عليه عموم الأمر
بقتل الكلاب، وقوله عليه السلام في بعض هذه الروايات: " ولا قبرا
إلا سويته " (2).

(1) أي: صحيحة محمد بن مسلم، المتقدمة في الصفحة: 185.
(2) هذا شطر من الحديث النبوي المتقدم - كما في المصادر الحديثية - وقد أورده
المؤلف قدس سره سابقا بدون هذه الفقرة، وظاهر عبارته هنا أنه شطر من حديث
آخر، ويحتمل - بعيدا - وقوع التحريف في العبارة، بأن يكون الصحيح: " في
ذيل هذه الرواية " بدل قوله: " بعض هذه الروايات ".
194

وأما رواية علي بن جعفر، فلا تدل إلا على كراهة اللعب بالصورة،
ولا نمنعها، بل ولا الحرمة إذا كان اللعب على وجه اللهو.
وأما ما في تفسير الآية، فظاهره رجوع الإنكار إلى مشيئة
سليمان على نبينا وآله وعليه السلام لعملهم، بمعنى إذنه فيه، أو إلى تقريره لهم في
العمل.
وأما الصحيحة (1)، فالبأس فيها محمول على الكراهة لأجل الصلاة
أو مطلقا، مع دلالته على جواز الاقتناء، وعدم وجوب المحو.
وأما ما ورد من " أن عليا عليه السلام لم يكن يكره الحلال "، فمحمول
على المباح المتساوي طرفاه، لأنه صلوات الله عليه كان يكره المكروه قطعا.
وأما رواية الحلبي، فلا دلالة لها على الوجوب أصلا.
ولو سلم الظهور في الجميع، فهي معارضة بما هو أظهر وأكثر،
مثل: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: " ربما قمت أصلي وبين
يدي الوسادة فيها تماثيل طير فجعلت عليها ثوبا " (2).
ورواية علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام: " عن الخاتم يكون فيه
نقش تماثيل طير أو سبع، أيصلى فيه؟ قال: لا بأس " (3).
وعنه، عن أخيه عليه السلام: " عن البيت فيه صورة سمكة أو طير

(1) أي صحيحة زرارة المتقدمة في الصفحة: 193.
(2) الوسائل 3: 461، الباب 32 من أبواب مكان المصلي، الحديث 2.
(3) الوسائل 3: 463، الباب 32 من أبواب مكان المصلي، الحديث 10،
باختلاف يسير.
195

يعبث به أهل البيت، هل يصلى فيه؟ قال: لا، حتى يقطع رأسه
ويفسد " (1).
ورواية أبي بصير، قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الوسادة
والبساط يكون فيه التماثيل، قال: لا بأس به يكون في البيت.
قلت: التماثيل (2)؟ قال: كل شئ يوطأ فلا بأس به " (3). وسياق السؤال
مع عموم الجواب يأبى عن تقييد الحكم بما يجوز عمله، كما لا يخفى.
ورواية أخرى لأبي بصير، قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
إنا نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل ونفترشها (4)؟ قال: لا بأس منها
بما يبسط ويفترش ويوطأ، وإنما يكره منها ما نصب على الحائط وعلى
السرير " (5).
وعن قرب الإسناد، عن علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام، قال:
" سألته عن رجل كان في بيته تماثيل أو في ستر ولم يعلم بها وهو
يصلي في ذلك البيت، ثم علم، ما عليه؟ قال عليه السلام: ليس عليه

(1) الوسائل 3: 463، الباب 32 من أبواب مكان المصلي، الحديث 12، مع
اختلاف.
(2) كذا في " ف " والمصدر، وفي سائر النسخ: ما التماثيل.
(3) الوسائل 3: 564، الباب 4 من أبواب أحكام المساكن، الحديث 2.
(4) كذا في " ف " والمصدر، وفي " ن " و " خ " و " م " و " ع " و " ش ": نفرشها، وفي
" ص ": نفرشها، نفترشها (خ ل).
(5) الوسائل 12: 220، الباب 94 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4، مع
اختلاف.
196

فيما لم يعلم شئ، فإذا علم فلينزع الستر، وليكسر رؤوس التماثيل " (1).
فإن ظاهره: أن الأمر بالكسر، لأجل كون البيت مما يصلى فيه،
ولذلك لم يأمر عليه السلام بتغيير ما على الستر واكتفى بنزعه.
ومنه يظهر أن ثبوت البأس في صحيحة زرارة - السابقة (2) - مع
عدم تغيير الرؤوس إنما هو لأجل الصلاة.
وكيف كان، فالمستفاد من جميع ما ورد من الأخبار الكثيرة في
كراهة الصلاة في البيت الذي فيه التماثيل إلا (3) إذا غيرت، أو كانت
بعين واحدة، أو ألقي عليها ثوب (4) جواز اتخاذها. وعمومها يشمل
المجسمة وغيرها.
ويؤيد الكراهة: الجمع بين اقتناء الصور والتماثيل في البيت واقتناء
الكلب والإناء المجتمع فيه البول في الأخبار الكثيرة:
مثل ما روي عنهم عليهم السلام - مستفيضا - عن جبرئيل على نبينا وآله وعليه السلام:
" أنا لا ندخل بيتا فيه صورة إنسان، ولا بيتا يبال فيه، ولا بيتا فيه
كلب " (5).

(1) قرب الإسناد: 186، الحديث 692، والوسائل 3: 321، الباب 45 من
أبواب لباس المصلي، الحديث 20.
(2) تقدمت في الصفحة: 193.
(3) " إلا " من " ش " ومصححة " ن ".
(4) انظر الوسائل 3: 317، الباب 45 من أبواب لباس المصلي، و 461، الباب
32 من أبواب مكان المصلي.
(5) الوسائل 3: 465، الباب 33 من أبواب مكان المصلي، الحديث 3.
197

وفي بعض الأخبار إضافة الجنب إليها (1)، والله العالم بأحكامه.

(1) الوسائل 3: 465، الباب 33 من أبواب مكان المصلي، الحديث 6.
198

[المسألة] الخامسة
التطفيف حرام، ذكره في القواعد في المكاسب (1)، ولعله استطراد،
أو المراد اتخاذه كسبا، بأن ينصب نفسه كيالا أو وزانا، فيطفف
للبائع.
وكيف كان، فلا إشكال في حرمته، ويدل عليه (2) الأدلة الأربعة.
ثم إن البخس في العد والذرع يلحق به حكما، وإن خرج عن
موضوعه.
ولو وازن الربوي بجنسه فطفف في أحدهما:
فإن جرت المعاوضة على الوزن المعلوم الكلي، فيدفع الموزون
على أنه بذلك الوزن، اشتغلت ذمته بما نقص.
وإن جرت على الموزون المعين باعتقاد المشتري أنه بذلك الوزن،
فسدت المعاوضة في الجميع، للزوم الربا.
ولو جرت عليه على أنه بذلك الوزن، بجعل (3) ذلك عنوانا للعوض

(1) القواعد 1: 121.
(2) كذا، والمناسب: عليها.
(3) كذا في " ف " و " ش "، وفي غيرهما: يجعل.
199

فحصل الاختلاف بين العنوان والمشار إليه، لم يبعد الصحة.
ويمكن ابتناؤه على أن لاشتراط المقدار مع تخلفه قسطا من
العوض أم لا؟ فعلى الأول يصح، دون الثاني.
200

[المسألة] السادسة
التنجيم حرام، وهو - كما في جامع المقاصد (1) - الإخبار عن
أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية.
وتوضيح المطلب يتوقف على الكلام في مقامات:
الأول:
الظاهر أنه لا يحرم الإخبار عن الأوضاع الفلكية المبتنية على
سير الكواكب - كالخسوف الناشئ عن حيلولة الأرض بين النيرين،
والكسوف الناشئ عن حيلولة القمر أو غيره - بل يجوز الإخبار بذلك،
إما جزما إذا استند إلى ما يعتقده برهانا، أو ظنا إذا استند إلى
الأمارات.
وقد اعترف بذلك جملة ممن أنكر التنجيم، منهم السيد المرتضى
والشيخ أبو الفتح الكراجكي فيما حكي عنهما [حيث حكي عنهما] (2)

(1) جامع المقاصد 4: 31.
(2) لم يرد في " ش " و " م ".
201

- في رد الاستدلال على إصابتهم في الأحكام بإصابتهم في الأوضاع -
ما حاصله:
إن الكسوفات واقتران الكواكب وانفصالها من باب الحساب
وسير الكواكب، وله أصول صحيحة وقواعد سديدة، وليس كذلك
ما يدعونه من تأثير الكواكب في الخير والشر والنفع والضرر،
ولو لم يكن الفرق بين الأمرين (1) إلا الإصابة الدائمة المتصلة في
الكسوفات وما يجري مجراها، فلا يكاد يبين (2) فيها خطأ، وأن الخطأ
الدائم المعهود إنما هو في الأحكام (3) حتى أن الصواب فيها عزيز،
وما يتفق فيها من الإصابة قد يتفق من المخمن أكثر منه [فحمل (4) أحد
الأمرين على الآخر بهت وقلة دين] (5) انتهى المحكي (6) من كلام
السيد رحمه الله (7).
وقد أشار إلى جواز ذلك في جامع المقاصد (8) مؤيدا ذلك بما ورد

(1) عبارة " بين الأمرين " ساقطة من " ن "، " ف " و " م ".
(2) في النسخ: تبين، وفي " خ ": يتبين. والصواب ما أثبتناه من المصدر.
(3) في " خ " ومصححة " ع " والمصدر: الأحكام الباقية.
(4) هذا جواب " لو " في قوله: " ولو لم يكن... الخ " (شرح الشهيدي).
(5) لم يرد ما بين المعقوفتين في " ف "، " ن "، " م "، وفي " ع "، " خ "، " ص ":
"... قلة دين وحياء "، وما أثبتناه من " خ "، " ش " والمصدر.
(6) حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 80.
(7) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثانية): 311، وانظر كنز الفوائد 2: 235
(نصوص مفقودة من نسخة الكتاب).
(8) جامع المقاصد 4: 32.
202

من كراهة السفر والتزويج (1) في برج العقرب (2).
لكن ما ذكره السيد رحمه الله من الإصابة الدائمة في الإخبار عن الأوضاع
محل نظر، لأن خطأهم في الحساب في غاية الكثرة، ولذلك لا يجوز
الاعتماد في ذلك على عدولهم، فضلا عن فساقهم، لأن حسابهم مبتنية (3)
على أمور نظرية مبتنية على نظريات أخر، إلا فيما هو كالبديهي
- مثل إخبارهم بكون القمر في هذا اليوم في برج العقرب، وانتقال
الشمس من (4) برج إلى برج في هذا اليوم - وإن كان يقع الاختلاف
بينهم فيما يرجع إلى تفاوت يسير، ويمكن الاعتماد في مثل ذلك على
شهادة عدلين منهم، إذا احتاج الحاكم لتعيين أجل دين أو نحوه.
الثاني:
يجوز الإخبار بحدوث (5) الأحكام عند (6) الاتصالات والحركات
المذكورة - بأن يحكم بوجود كذا في المستقبل عند الوضع (7) المعين من

(1) كذا في النسخ، والصواب: والتزويج والقمر في العقرب، كما في جامع المقاصد
ولفظ الروايات.
(2) انظر الوسائل 14: 80، الباب 54 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه،
و 8: 266، الباب 11 من أبواب آداب السفر.
(3) كذا في النسخ، وفي مصححة " ن ": مبتن، ولعل الأصح: حساباتهم مبتنية.
(4) كذا في " ف " و " ش "، وفي غيرهما: عن.
(5) في نسخة بدل " ع "، " ف "، " ن ": بترتيب.
(6) في " م "، " ع "، " ص ": عن الاتصالات، وفي " خ ": من الاتصالات.
(7) في نسخة بدل " ش ": مستندا إلى الوضع.
203

القرب والبعد والمقابلة والاقتران بين الكوكبين - إذا كان على وجه الظن
المستند إلى تجربة محصلة أو منقولة في وقوع تلك الحاثة بإرادة الله عند
الوضع الخاص، من دون اعتقاد ربط بينهما أصلا.
بل الظاهر حينئذ جواز الإخبار على وجه القطع إذا استند إلى
تجربة قطعية، إذ لا حرج على من حكم قطعا بالمطر في هذه الليلة،
نظرا إلى ما جربه من نزول كلبه من (1) السطح إلى داخل البيت
- مثلا - كما حكي: أنه اتفق ذلك لمروج هذا العلم، بل محييه
" نصير الملة والدين " حيث نزل في بعض أسفاره على طحان، له طاحونة
خارج البلد، فلما دخل منزله صعد السطح لحرارة الهواء، فقال له
صاحب المنزل: انزل ونم في البيت تحفظا من المطر، فنظر المحقق
إلى الأوضاع الفلكية، فلم ير شيئا فيما هو مظنة للتأثير في المطر،
فقال صاحب المنزل: إن لي كلبا ينزل في كل ليلة يحس المطر فيها
إلى البيت، فلم يقبل منه المحقق ذلك، وبات فوق السطح، فجاءه المطر
في الليل، وتعجب المحقق (2).
ثم إن ما سيجئ في عدم جواز تصديق المنجم يراد به غير هذا،
أو ينصرف إلى غيره، لما عرفت من معنى التنجيم.
الثالث:
الإخبار عن الحادثات والحكم بها مستندا إلى تأثير الاتصالات

(1) كذا في " ف "، وفي غيره: عن.
(2) وردت القضية في قصص العلماء: 374 - 375، فراجع.
204

المذكورة فيها بالاستقلال أو بالمدخلية، وهو المصطلح عليه بالتنجيم.
فظاهر الفتاوى والنصوص حرمته مؤكدة، فقد أرسل المحقق
- في المعتبر - عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه " من صدق منجما أو كاهنا
فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم " (1). وهو يدل على حرمة
حكم المنجم بأبلغ وجه.
وفي رواية نصر بن قابوس، عن الصادق عليه السلام: " أن المنجم
ملعون، والكاهن ملعون، والساحر ملعون " (2).
وفي نهج البلاغة: أنه صلوات الله عليه لما أراد المسير إلى بعض أسفاره،
فقال له بعض أصحابه: إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر
بمرادك - من طريق علم النجوم -، فقال عليه السلام له: " أتزعم أنك تهدي
إلى الساعة التي من سار فيها انصرف عنه السوء؟ وتخوف الساعة التي
من سار فيها حاق به الضر، فمن صدقك بهذا (3)، فقد كذب القرآن،
واستغنى عن الاستعانة بالله تعالى في نيل المحبوب، ودفع المكروه (4)...
- إلى أن قال -: أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر
أو بحر، فإنها تدعو إلى الكهانة [والمنجم كالكاهن] (5) والكاهن (6)

(1) المعتبر 2: 688.
(2) الوسائل 12: 103، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.
(3) في غير " ف ": بهذا القول.
(4) كذا في " ص " والمصدر، وفي سائر النسخ: المكروب.
(5) أثبتناه من المصدر.
(6) في " ن "، " خ "، " م "، " ع "، " ش ": فالكاهن.
205

كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار... الخ " (1).
وقريب منه ما وقع (2) بينه وبين منجم آخر نهاه عن المسير أيضا،
فقال عليه السلام له: " أتدري ما في بطن هذه الدابة أذكر أم أنثى؟ قال:
إن حسبت علمت، قال عليه السلام: فمن صدقك بهذا القول فقد كذب بالقرآن (3)
* (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام...) * الآية،
ما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعي ما ادعيت، أتزعم أنك تهدي
إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء، والساعة التي
من سار فيها حاق به الضر، من صدقك [بهذا] (4) استغنى [بقولك] (5)
عن الاستعانة بالله في هذا الوجه، وأحوج إلى الرغبة إليك في دفع
المكروه عنه " (6).
وفي رواية عبد الملك بن أعين - المروية عن الفقيه -: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: إني قد ابتليت بهذا العلم (7) فأريد الحاجة، فإذا
نظرت إلى الطالع ورأيت الطالع الشر جلست ولم أذهب فيها، وإذا

(1) نهج البلاغة: 105، الخطبة 79.
(2) في " خ "، " م "، " ع "، " ص ": ما وقع بعينه، وشطب في " ن " على " بعينه ".
(3) في " ش " زيادة: قال الله.
(4) أثبتنا " بهذا " من " ع " وهامش " ن "، " ص ".
(5) أثبتنا " بقولك " من هامش " ن ".
(6) الوسائل 8: 269، الباب 14 من أبواب آداب السفر إلى الحج وغيره،
الحديث 4، مع اختلاف.
(7) في " ش " والمصدر: " بالنظر في النجوم " بدل " بهذا العلم ".
206

رأيت الطالع الخير ذهبت في الحاجة. فقال لي: تقضي؟ قلت: نعم،
قال: أحرق كتبك " (1).
وفي رواية مفضل بن عمر (2) - المروية عن معاني الأخبار - في
قوله تعالى: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) * قال: " وأما الكلمات، فمنها
ما ذكرناه، ومنها المعرفة بقدم بارئه وتوحيده وتنزيهه عن الشبيه حتى
نظر إلى الكواكب والقمر والشمس واستدل بأفول كل منها على حدوثه
وبحدوثه على محدثه، ثم أعلمه (3) أن الحكم بالنجوم خطأ " (4).
ثم إن مقتضى الاستفصال في رواية عبد الملك - المتقدمة - بين
القضاء بالنجوم بعد النظر وعدمه: أنه لا بأس بالنظر إذا لم يقض به
بل أريد به مجرد التفؤل إن فهم الخير، والتحذر بالصدقة إن فهم الشر،
كما يدل عليه ما عن المحاسن، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن عمر
بن أذينة (5) عن سفيان بن عمر، قال: " كنت أنظر في النجوم
وأعرفها وأعرف الطالع فيدخلني من ذلك شئ، فشكوت ذلك إلى

(1) الفقيه 2: 267، الحديث 2402، ورواه في الوسائل 8: 268، الباب 14 من
أبواب آداب السفر إلى الحج، الحديث الأول.
(2) في النسخ: " فضيل بن عمرو "، والصحيح ما أثبتناه، طبقا للمصدر.
(3) كذا في " ف "، وفي مصححة " ن ": " علم " وفي سائر النسخ: " أعلم "، وفي
المصدر: " علمه ".
(4) معاني الأخبار: 127، باختلاف يسير.
(5) في النسخ: " عمرو بن أذينة "، والصواب ما أثبتناه، كما في كتب الأخبار
والتراجم.
207

أبي الحسن (1) عليه السلام فقال: إذا وقع في نفسك من ذلك (2) شئ فتصدق
على أول مسكين، ثم امض، فإن الله تعالى يدفع عنك " (3).
ولو حكم بالنجوم على جهة أن مقتضى الاتصال الفلاني والحركة
الفلانية الحادثة الواقعية، وإن كان الله يمحو ما يشاء ويثبت، لم يدخل
أيضا في الأخبار الناهية، لأنها ظاهرة في الحكم على سبيل البت،
كما يظهر من قوله عليه السلام: " فمن صدقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة
بالله في دفع المكروه " (4) بالصدقة والدعاء وغيرهما من الأسباب، نظير
تأثير نحوسة الأيام الواردة في الروايات، ورد نحوستها بالصدقة (5).
إلا أن جوازه مبني على جواز اعتقاد الاقتضاء في العلويات
للحوادث السفلية، وسيجئ إنكار المشهور لذلك، وإن كان يظهر ذلك
من المحدث الكاشاني (6).
ولو أخبر بالحوادث بطريق جريان العادة على وقوع الحادثة عند
الحركة الفلانية من دون اقتضاء لها أصلا، فهو أسلم.

(1) في المحاسن: أبي عبد الله عليه السلام.
(2) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: عن ذلك، ولم يرد في المصدر.
(3) المحاسن: 349، الحديث 26، والوسائل 8: 273، الباب 15 من أبواب
آداب السفر، الحديث 3.
(4) تقدم في الصفحة: 205.
(5) الوسائل 8: 272، الباب 15 من أبواب آداب السفر.
(6) يظهر ذلك مما أفاده في بيان قول الصادق عليه السلام: " ما عظم الله بمثل
البداء "، انظر الوافي، 1: 507 - 508، الباب 50 أبواب معرفة مخلوقاته وأفعاله
سبحانه.
208

قال في الدروس: ولو أخبر بأن الله تعالى يفعل كذا عند كذا
لم يحرم، وإن كره (1)، انتهى.
الرابع:
اعتقاد ربط الحركات الفلكية بالكائنات، والربط يتصور على
وجوه:
الأول:
الاستقلال في التأثير بحيث يمتنع التخلف عنها، امتناع تخلف
المعلول عن العلة العقلية.
وظاهر كثير من العبارات كون هذا كفرا.
قال السيد المرتضى رحمه الله - فيما حكي عنه -: وكيف يشتبه على
مسلم بطلان أحكام النجوم (2)؟ وقد أجمع المسلمون قديما وحديثا على
تكذيب المنجمين والشهادة بفساد مذهبهم وبطلان أحكامهم، ومعلوم من
دين الرسول ضرورة تكذيب ما يدعيه المنجمون والإزراء عليهم
والتعجيز لهم، وفي الروايات عنه صلى الله عليه وآله وسلم [من ذلك] (3)
ما لا يحصى كثرة، وكذا عن علماء أهل بيته وخيار أصحابه، وما اشتهر
بهذه الشهرة في دين الإسلام، كيف يفتي بخلافه منتسب إلى الملة ومصل

(1) الدروس 3: 165.
(2) كذا في " ش " والمصدر، وفي سائر النسخ: التنجيم.
(3) أثبتناه من المصدر.
209

إلى القبلة؟ (1)، انتهى.
وقال العلامة في المنتهى - بعد ما أفتى بتحريم التنجيم وتعلم
النجوم مع اعتقاد أنها مؤثرة، أو أن لها مدخلا في التأثير والنفع (2) -
قال: وبالجملة، كل من اعتقد ربط الحركات النفسانية والطبيعية بالحركات
الفلكية والاتصالات الكوكبية كافر (3)، انتهى.
وقال الشهيد رحمه الله في قواعده: كل من اعتقد في الكواكب أنها
مدبرة لهذا العالم وموجدة له، فلا ريب أنه كافر (4).
وقال في جامع المقاصد: واعلم أن التنجيم مع اعتقاد أن للنجوم
تأثيرا في الموجودات السفلية - ولو على جهة المدخلية - حرام، وكذا
تعلم النجوم على هذا النحو، بل هذا الاعتقاد في نفسه كفر، نعوذ بالله
منه (5)، انتهى.
وقال شيخنا البهائي: ما زعمه المنجمون من ارتباط بعض الحوادث
السفلية بالأجرام العلوية، إن زعموا أنها هي العلة المؤثرة في تلك الحوادث
بالاستقلال، أو أنها شريكة في التأثير (6)، فهذا لا يحل للمسلم اعتقاده،

(1) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثانية): 310.
(2) في المصدر: أو أن لها مدخلا في التأثر بالنفع والضرر.
(3) المنتهى 2: 1014.
(4) القواعد والفوائد 2: 35.
(5) جامع المقاصد 4: 32.
(6) لم يرد " التأثير " في أصل النسخ، لكنه استدرك في هامش بعضها.
210

وعلم النجوم المبتني (1) على هذا كفر، وعلى هذا حمل ما ورد من التحذير
عن علم النجوم والنهي عن اعتقاد صحته (2)، انتهى.
وقال في البحار: لا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب
هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات
والشرور، فإنه يكون كافرا على الإطلاق (3)، انتهى.
وعنه في موضع آخر: أن القول بأنها علة فاعلية بالإرادة
والاختيار - وإن توقف تأثيرها على شرائط أخر - كفر (4)، انتهى.
بل ظاهر الوسائل نسبة دعوى ضرورة الدين على بطلان التنجيم
والقول بكفر معتقده إلى جميع علمائنا، حيث قال: قد صرح علماؤنا
بتحريم علم النجوم والعمل بها وبكفر من اعتقد تأثيرها أو مدخليتها
في التأثير، وذكروا أن بطلان ذلك من ضروريات الدين (5)، انتهى.
بل يظهر من المحكي عن ابن أبي الحديد أن الحكم كذلك عند
علماء العامة أيضا، حيث قال في شرح نهج البلاغة: إن المعلوم ضرورة
من الدين إبطال حكم النجوم، وتحريم الاعتقاد بها، والنهي والزجر عن
تصديق المنجمين، وهذا معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام: " فمن صدقك

(1) في " ف "، " ن "، " خ "، " م "، " ع ": المبني.
(2) الحديقة الهلالية: 139.
(3) البحار 59: 299 - 300.
(4) البحار 58: 308.
(5) الوسائل 12: 101، في هامش عنوان الباب 24 من أبواب ما يكتسب به.
211

بهذا فقد كذب القرآن، واستغنى عن الاستعانة بالله " (1)، انتهى.
ثم لا فرق في أكثر العبارات المذكورة بين رجوع الاعتقاد المذكور
إلى إنكار الصانع جل ذكره - كما هو مذهب بعض المنجمين - وبين تعطيله
تعالى عن التصرف في الحوادث السفلية بعد خلق الأجرام العلوية
على وجه تتحرك على النحو المخصوص، سواء قيل بقدمها - كما هو
مذهب بعض آخر - أم قيل بحدوثها وتفويض التدبير إليها - كما هو
المحكي عن ثالث منهم - وبين أن لا يرجع إلى شئ من ذلك،
بأن يعتقد أن حركة الأفلاك تابعة لإرادة الله، فهي مظاهر لإرادة
الخالق تعالى، ومجبولة على الحركة على طبق اختيار الصانع جل ذكره
- كالآلة - أو بزيادة أنها مختارة باختيار هو عين اختياره، تعالى
عما يقول الظالمون!
لكن ظاهر ما تقدم في بعض الأخبار - من أن المنجم بمنزلة
الكاهن الذي هو بمنزلة الساحر الذي هو بمنزلة الكافر (2) - من عدا
الفرق الثلاث الأول، إذ الظاهر عدم الإشكال في كون الفرق الثلاث من
أكفر الكفار، لا بمنزلتهم.
ومنه يظهر: أن ما رتبه عليه السلام على تصديق المنجم: من كونه
تكذيبا للقرآن وكونه موجبا للاستغناء عن الاستعانة بالله في جلب
الخير ودفع الشر، يراد منه إبطال قوله، بكونه مستلزما لما هو في الواقع
مخالف للضرورة من كذب القرآن والاستغناء عن الله - كما هو طريقة

(1) شرح نهج البلاغة 6: 212.
(2) تقدم نصه عن نهج البلاغة في الصفحة: 205.
212

كل مستدل: من إنهاء بطلان التالي إلى ما هو بديهي البطلان عقلا
أو شرعا أو حسا أو عادة - ولا يلزم من مجرد ذلك الكفر، وإنما يلزم
ممن التفت إلى الملازمة واعترف باللازم، وإلا فكل من أفتى بما هو
مخالف لقول الله واقعا - إما لعدم تفطنه لقول الله، أو لدلالته - يكون
مكذبا للقرآن.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من صدق منجما أو كاهنا فقد كفر
بما أنزل على محمد " (1)، فلا يدل أيضا على كفر المنجم، وإنما يدل
على كذبه، فيكون تصديقه تكذيبا للشارع المكذب له، ويدل عليه
عطف " الكاهن " عليه.
وبالجملة، فلم يظهر من الروايات تكفير المنجم بالمعنى الذي تقدم
للتنجيم - في صدر عنوان المسألة - كفرا حقيقيا، فالواجب الرجوع
فيما يعتقده المنجم إلى ملاحظة مطابقته لأحد (2) موجبات الكفر من إنكار
الصانع، أو غيره مما علم من الدين بديهة.
ولعله لذا اقتصر الشهيد - فيما تقدم من القواعد (3) - في تكفير المنجم
على من يعتقد في الكواكب أنها مدبرة لهذا العالم وموجدة له، ولم يكفر
غير هذا الصنف - كما سيجئ تتمة كلامه السابق - ولا شك أن هذا
الاعتقاد إنكار، إما للصانع، وإما لما هو ضروري الدين من فعله تعالى،
وهو إيجاد العالم وتدبيره.

(1) تقدم عن المعتبر في الصفحة: 201.
(2) كذا في النسخ، والمناسب: لإحدى.
(3) تقدم في الصفحة: 210.
213

بل الظاهر من كلام بعض (1) اصطلاح لفظ " التنجيم " في الأول،
قال السيد شارح النخبة: إن المنجم من يقول بقدم الأفلاك والنجوم،
ولا يقولون بمفلك ولا خالق، وهم فرقة من الطبيعيين يستمطرون
بالأنواء (2) معدودون من فرق الكفر في مسفورات الخاصة والعامة،
يعتقدون في الإنسان أنه كسائر الحيوانات يأكل ويشرب وينكح ما دام
حيا، فإذا مات بطل واضمحل، وينكرون جميع الأصول الخمسة، انتهى.
ثم قال رحمه الله: وأما هؤلاء الذين يستخرجون بعض أوضاع السيارات
وربما يتخرصون عليها بأحكام مبهمة متشابهة ينقلونها تقليدا لبعض
ما وصل إليهم من كلمات الحكماء الأقدمين - مع صحة عقائدهم
الإسلامية - فغير معلوم دخولهم في المنجمين الذين ورد فيهم من المطاعن
ما ورد (3)، انتهى.
أقول: فيه (4) مضافا إلى عدم انحصار الكفار من المنجمين في

(1) الظاهر أن المراد به السيد شارح النخبة في ظاهر كلامه الآتي.
(2) في مجمع البحرين (1: 422 - نوأ): الأنواء، وهي جمع " نوء " بفتح نون
وسكون واو فهمزة، وهو النجم. قال أبو عبيدة - نقلا عنه -: هي ثمانية
وعشرون نجما، معروفة المطالع في أزمنة السنة - إلى أن قال -: وكانت العرب
في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع الآخر، قالوا: لا بد أن يكون عند ذلك
رياح ومطر، فينسبون كل غيث يكون عند ذلك إلى النجم الذي يسقط حينئذ،
فيقولون: " مطرنا بنوء كذا "، وانظر لسان العرب 14: 316 - نوأ.
(3) شرح النخبة للسيد عبد الله، حفيد السيد نعمة الله الجزائري (لا يوجد
لدينا).
(4) في " ف ": أقول لكن فيه.
214

من ذكر، بل هم على فرق ثلاث - كما أشرنا إليه، وسيجئ التصريح به
من البحار في مسألة السحر -: أن النزاع المشهور بين المسلمين في صحة
التنجيم وبطلانه هو المعنى الذي ذكره أخيرا - كما عرفت من جامع
المقاصد (1) -، والمطاعن الواردة في الأخبار المتقدمة وغيرها - كلها
أو جلها - على هؤلاء، دون المنجم بالمعنى الذي ذكره أولا.
وملخص الكلام: أن ما ورد فيهم من المطاعن لا صراحة فيها
بكفرهم، بل ظاهر ما عرفت خلافه.
ويؤيده ما رواه في البحار عن محمد وهارون - ابني سهل النوبختي -
أنهما كتبا إلى أبي عبد الله عليه السلام: " نحن ولد نوبخت المنجم، وقد كنا
كتبنا إليك هل يحل النظر فيها؟ فكتبت: نعم، والمنجمون يختلفون في
صفة الفلك، فبعضهم يقولون: إن الفلك فيه النجوم والشمس والقمر
- إلى أن قال -: فكتب عليه السلام: نعم ما لم يخرج من التوحيد " (2).
الثاني (3):
أنها (4) تفعل الآثار المنسوبة إليها والله سبحانه هو المؤثر الأعظم،

(1) تقدم كلامه في الصفحة: 206.
(2) البحار 58: 250، الحديث 36.
(3) أي الوجه الثاني من الوجوه المتصورة في اعتقاد ربط الحركات الفلكية
بالكائنات.
(4) مرجع الضمير إما " النجوم " المعلوم من المقام، وإما " الحركات الفلكية "
المذكورة بعد قوله: الرابع.
215

كما يقوله بعضهم، على ما ذكره العلامة وغيره.
قال العلامة في محكي شرح فص الياقوت (1):
اختلف قول المنجمين على قولين، أحدهما: قول من يقول إنها
حية مختارة، الثاني: قول من يقول إنها موجبة. والقولان باطلان (2).
وقد تقدم عن المجلسي رحمه الله: أن القول بكونها فاعلة بالإرادة
والاختيار - وإن توقف تأثيرها على شرائط أخر - كفر (3) وهو ظاهر
أكثر العبارات المتقدمة.
ولعل وجهه أن نسبة الأفعال التي دلت ضرورة الدين على
استنادها إلى الله تعالى - كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وغيرها -
إلى غيره تعالى مخالف لضرورة الدين.
لكن ظاهر شيخنا الشهيد - في القواعد - العدم، فإنه بعد ما ذكر
الكلام الذي نقلناه منه سابقا، قال: وإن اعتقد أنها تفعل الآثار
المنسوبة إليها والله سبحانه هو المؤثر الأعظم فهو مخطئ، إذ لا حياة

(1) قال العلامة قدس سره في مقدمة الشرح ما لفظه: " وقد صنف شيخنا الأقدم
وإمامنا الأعظم، أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت - قدس روحه الزكية ونفسه
العلية - مختصرا سماه: الياقوت ". وأورده في الذريعة (25: 271) بعنوان:
الياقوت، وذكر اختلاف الأقوال في اسم مؤلفه، - إلى أن قال -: " وعلى
الياقوت شروح منها للعلامة اسمه: أنوار الملكوت... ومنها شرح عبد الحميد
المعتزلي ابن أبي الحديد، قال في الرياض: في البال أنها تسمى: فص الياقوت ".
(2) أنوار الملكوت: 199.
(3) تقدم في الصفحة: 211.
216

لهذه الكواكب ثابتة بدليل عقلي ولا نقلي (1)، انتهى.
وظاهره أن عدم القول بذلك لعدم المقتضي له، وهو الدليل،
لا لوجود المانع منه، وهو انعقاد الضرورة على خلافه، فهو ممكن غير
معلوم الوقوع.
ولعل وجهه: أن الضروري عدم نسبة تلك الأفعال إلى فاعل
مختار باختيار مستقل مغاير لاختيار الله - كما هو ظاهر قول المفوضة -
أما استنادها إلى الفاعل بإرادة الله المختار بعين مشيته واختياره حتى
يكون كالآلة بزيادة الشعور وقيام الاختيار به - بحيث يصدق: أنه فعله
وفعل الله - فلا، إذ المخالف للضرورة إنكار نسبة الفعل إلى الله تعالى
على وجه الحقيقة، لا إثباته لغيره أيضا بحيث يصدق: أنه فعله.
نعم، ما ذكره الشهيد رحمه الله من عدم الدليل عليه حق، فالقول به
تخرص، ونسبة فعل الله إلى غيره بلا دليل، وهو قبيح.
وما ذكره قدس سره كأن مأخذه ما في الاحتجاج عن هشام بن الحكم،
قال: " سأل الزنديق أبا عبد الله عليه السلام فقال: ما تقول في من يزعم
أن هذا التدبير الذي يظهر في هذا العالم تدبير النجوم السبعة؟
قال عليه السلام: يحتاجون إلى دليل أن هذا العالم الأكبر والعالم الأصغر من
تدبير النجوم التي تسبح في الفلك وتدور حيث دارت متعبة (2) لا تفتر
وسائرة لا تقف ثم قال: وإن لكل (3) نجم منها موكل مدبر، فهي

(1) القواعد والفوائد 2: 35.
(2) كذا في المصدر ومصححة " ف "، وفي " ش ": منقبة، وفي سائر النسخ: سبعة.
(3) كذا في " ش " والمصدر، وفي سائر النسخ: وإن كل نجم منها موكل مدبر.
217

بمنزلة العبيد المأمورين المنهيين، فلو كانت قديمة أزلية لم تتغير من
حال إلى حال... الخبر " (1).
والظاهر، أن قوله: " بمنزلة العبيد المأمورين المنهيين " يعني في
حركاتهم، لا أنهم مأمورون بتدبير العالم بحركاتهم، فهي مدبرة باختياره
المنبعث عن أمر الله تعالى.
نعم، ذكر المحدث الكاشاني - في الوافي - في توجيه البداء كلاما،
ربما يظهر منه مخالفة المشهور، حيث قال:
فاعلم أن القوى المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من
الأمور دفعة واحدة، لعدم تناهي تلك الأمور، بل إنما تنقش فيها
الحوادث شيئا فشيئا، فإن ما يحدث في عالم الكون والفساد إنما هو من
لوازم حركات الأفلاك ونتائج بركاتها، فهي تعلم أنه كلما كان كذا كان
كذا (2) انتهى موضع الحاجة.
وظاهره أنها فاعلة بالاختيار لملزومات الحوادث.
وبالجملة، فكفر المعتقد بالربط على هذا الوجه الثاني لم يظهر من
الأخبار ومخالفته (3) لضرورة الدين لم يثبت أيضا، إذ ليس المراد العلية
التامة، كيف! وقد حاول المحدث الكاشاني بهذه المقدمات إثبات البداء.
الثالث:
استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النار.

(1) الإحتجاج 2: 93 - 94.
(2) الوافي 1: 507 - 508، الباب 50 من أبواب معرفة مخلوقاته وأفعاله سبحانه.
(3) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: مخالفتها.
218

وظاهر كلمات كثير - ممن تقدم - كون هذا الاعتقاد كفرا، إلا أنه
قال شيخنا المتقدم - في القواعد - بعد الوجهين الأولين: وأما ما يقال
من استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النار وغيرها من العاديات
- بمعنى أن الله تعالى أجرى عادته أنها إذا كانت على شكل مخصوص
أو وضع مخصوص يفعل (1) ما ينسب إليها، ويكون ربط المسببات بها
كربط مسببات الأدوية والأغذية بها مجازا باعتبار الربط العادي،
لا الربط العقلي الحقيقي - فهذا لا يكفر معتقده (2) لكنه مخطئ، وإن كان
أقل خطأ من الأول، لأن وقوع هذه الآثار عندها ليس بدائم
ولا أكثري (3)، انتهى (4).
وغرضه من التعليل المذكور: الإشارة إلى عدم ثبوت الربط
العادي، لعدم ثبوته بالحس - كالحرارة الحاصلة بسبب النار والشمس،
وبرودة القمر - ولا بالعادة الدائمة ولا الغالبة، لعدم العلم بتكرر الدفعات
كثيرا حتى يحصل العلم أو الظن.
ثم على تقديره، فليس فيه دلالة على تأثير تلك الحركات
في الحوادث، فلعل الأمر بالعكس، أو كلتاهما مستندتان إلى مؤثر
ثالث، فتكونان من المتلازمين في الوجود.

(1) كذا في النسخ، وفي المصدر: تفعل.
(2) كذا في " ف " و " ش "، وفي سائر النسخ: بمعتقده.
(3) كذا في المصدر و " خ " و " ش "، إلا أن فيه بدل " أكثري ": " أكثر "، وفي
سائر النسخ كما يلي: لأن وقوع هذه الأشياء ليس بلازم ولا أكثري.
(4) القواعد والفوائد 2: 35.
219

وبالجملة، فمقتضى ما ورد من أنه " أبى الله أن يجري الأشياء
إلا بأسبابها " (1) كون كل حادث مسببا. وأما أن السبب هي الحركة
الفلكية أو غيرها، فلم يثبت، ولم يثبت أيضا كونه مخالفا لضرورة
الدين.
بل في بعض الأخبار ما يدل بظاهره على ثبوت التأثير للكواكب،
مثل ما في الاحتجاج، عن أبان بن تغلب - في حديث اليماني الذي دخل
على أبي عبد الله عليه السلام وسماه باسمه الذي لم يعلمه أحد، وهو سعد
- فقال له: " يا سعد وما صناعتك؟ قال: إنا أهل بيت ننظر في النجوم
- إلى أن قال عليه السلام -: ما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الإبل؟
قال: ما أدري (2) قال: صدقت. قال: ما اسم النجم الذي إذا طلع
هاجت البقر؟ قال: ما أدري، قال: صدقت. فقال: ما اسم النجم
الذي إذا طلع هاجت الكلاب؟ قال: ما أدري، قال: صدقت (3). فقال:
ما زحل عندكم؟ فقال سعد: نجم نحس! فقال أبو عبد الله عليه السلام:
لا تقل هذا، هو نجم أمير المؤمنين عليه السلام، وهو نجم الأوصياء،

(1) الكافي 1: 183، الحديث 7، وفيه: إلا بأسباب.
(2) في المصدر: " فقال اليماني لا أدري " وكذا ما بعده.
(3) وردت العبارة في " ش " والمصدر - من هنا إلى آخر هذه الفقرة - كما يلي:
" صدقت في قولك: لا أدري، فما زحل عندكم في النجوم؟ فقال سعد (اليماني):
نجم نحس، فقال أبو عبد الله عليه السلام: لا تقل هذا، فإنه نجم أمير المؤمنين،
وهو نجم الأوصياء، وهو النجم الثاقب الذي قال الله تعالى في كتابه ".
220

وهو النجم الذي قال الله تعالى: * (النجم الثاقب) * " (1).
وفي رواية المدائني - المروية عن الكافي - عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: " إن الله خلق نجما في الفلك السابع، فخلقه من ماء بارد، وخلق
سائر النجوم الجاريات من ماء حار، وهو نجم الأوصياء والأنبياء،
وهو نجم أمير المؤمنين عليه السلام يأمر بالخروج من الدنيا والزهد فيها،
ويأمر بافتراش التراب وتوسد اللبن ولباس الخشن وأكل الجشب،
وما خلق الله نجما أقرب إلى الله تعالى منه... الخبر " (2).
والظاهر، أن أمر النجم بما ذكر من المحاسن كناية عن اقتضائه لها.
الرابع:
أن يكون ربط الحركات بالحوادث من قبيل ربط الكاشف
بالمكشوف (3)،
والظاهر أن هذا الاعتقاد لم يقل أحد بكونه كفرا.
قال شيخنا البهائي رحمه الله - بعد كلامه المتقدم (4) الظاهر في تكفير
من قال بتأثير الكواكب أو مدخليتها - ما هذا لفظه:
وإن قالوا: إن اتصالات تلك الأجرام وما يعرض لها من
الأوضاع علامات على بعض حوادث هذا العالم، مما يوجده الله سبحانه
بقدرته وإرادته، كما أن حركات النبض واختلافات أوضاعه علامات
يستدل بها الطبيب على ما يعرض للبدن: من قرب الصحة، واشتداد

(1) الإحتجاج 2: 100، والآية من سورة الطارق: 3.
(2) روضة الكافي: 257، الحديث 369.
(3) كذا في " ف " وفي غيره: والمكشوف.
(4) تقدم في الصفحة: 210.
221

المرض، ونحوه، وكما يستدل باختلاج بعض الأعضاء على بعض الأحوال
المستقبلة، فهذا لا مانع منه ولا حرج في اعتقاده، وما روي في صحة
علم النجوم وجواز تعلمه محمول على هذا المعنى (1)، انتهى.
ومما (2) يظهر منه خروج هذا عن مورد طعن العلماء على المنجمين
ما تقدم من قول العلامة رحمه الله إن المنجمين بين قائل بحياة الكواكب
وكونها فاعلة مختارة، وبين من قال إنها موجبة (3).
ويظهر ذلك من السيد رحمه الله حيث قال - بعد إطالة الكلام في
التشنيع عليهم - ما هذا لفظه المحكي: وما فيهم أحد يذهب إلى أن الله
تعالى أجرى العادة بأن يفعل عند قرب بعضها من بعض، أو بعده
أفعالا من غير أن يكون للكواكب أنفسها تأثير في ذلك. قال: ومن
ادعى منهم هذا المذهب الآن، فهو قائل بخلاف ما ذهب إليه القدماء
ومتجمل (4) بهذا المذهب عند أهل الإسلام (5)، انتهى.
لكن ظاهر المحكي عن ابن طاووس: إنكار السيد رحمه الله لذلك،
حيث إنه بعدما (6) ذكر أن للنجوم (7) علامات ودلالات على الحادثات،

(1) الحديقة الهلالية: 139.
(2) كذا في " خ " و " ش "، وفي سائر النسخ: ممن.
(3) تقدم في الصفحة: 216.
(4) في " خ " و " م ": متحمل، وفي مصححة " ص ": منتحل.
(5) رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثانية): 302، وحكاه في مفتاح الكرامة
4: 76.
(6) عبارة " إنه بعدما " من " ف " و " ش " فقط.
(7) في " ن " و " خ ": النجوم.
222

لكن يجوز للقادر الحكيم تعالى أن يغيرها بالبر والصدقة والدعاء وغير
ذلك من الأسباب، وجوز تعلم علم النجوم والنظر فيه والعمل به إذا
لم يعتقد أنها مؤثرة، وحمل أخبار النهي على ما إذا اعتقد أنها كذلك
ثم (1) أنكر على علم الهدى تحريم ذلك، ثم ذكر لتأييد ذلك أسماء جماعة
من الشيعة كانوا عارفين به، انتهى (2).
وما ذكره رحمه الله حق إلا أن مجرد كون النجوم دلالات وعلامات
لا يجدي مع عدم الإحاطة بتلك العلامات ومعارضاتها، والحكم
مع عدم الإحاطة لا يكون قطعيا، بل ولا ظنيا.
والسيد علم الهدى إنما أنكر من المنجم أمرين:
أحدهما - اعتقاد التأثير وقد اعترف به ابن طاووس.
والثاني - غلبة الإصابة في أحكامهم - كما تقدم منه ذلك في صدر
المسألة (3) - وهذا أمر معلوم بعد فرض عدم الإحاطة بالعلامات
ومعارضاتها.
ولقد أجاد شيخنا البهائي أيضا، حيث أنكر الأمرين، وقال - بعد
كلامه المتقدم في إنكار التأثير والاعتراف بالأمارة والعلامة -: إعلم أن
الأمور التي يحكم بها المنجمون من الحوادث الاستقبالية أصول، بعضها
مأخوذة من أصحاب الوحي سلام الله عليهم، وبعضها يدعون لها التجربة،

(1) لم ترد " ثم " في " ش ".
(2) انتهى ما حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة (4: 74) ملخصا عن السيد
ابن طاووس في كتاب فرج المهموم، وانظر الباب الأول منه إلى الباب الخامس.
(3) في الصفحة: 202.
223

وبعضها مبتن على أمور متشعبة (1) لا تفي القوة البشرية بضبطها
والإحاطة بها، كما يومئ إليه قول الصادق عليه السلام: " كثيره لا يدرك
وقليله لا ينتج " (2)، ولذلك وجد الاختلاف في كلامهم وتطرق الخطأ
إلى بعض أحكامهم، ومن اتفق له الجري على الأصول الصحيحة صح
كلامه وصدقت أحكامه لا محالة، كما نطق به الصادق عليه السلام، ولكن
هذا أمر عزيز المنال لا يظفر به إلا القليل، والله الهادي إلى سواء
السبيل (3)، انتهى.
وما أفاده رحمه الله أولا من الاعتراف بعدم بطلان كون الحركات
الفلكية أمارات وعلامات، وآخرا من عدم النفع في علم النجوم إلا مع
الإحاطة التامة، هو الذي صرح به الصادق عليه السلام في رواية هشام
الآتية (4) بقوله: " إن أصل الحساب حق، ولكن لا يعلم ذلك إلا من علم
مواليد الخلق ".
ويدل أيضا على كل من الأمرين، الأخبار المتكثرة.
فما يدل على الأول، وهو ثبوت الدلالة والعلامة (5) في الجملة (6)

(1) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: منشعبة.
(2) الوسائل 12: 101، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول،
وفيه: وقليله لا ينتفع به.
(3) الحديقة الهلالية: 141.
(4) تأتي في الصفحة: 231.
(5) في " ف ": والعلامية.
(6) عبارة " في الجملة " من " ش " فقط.
224

- مضافا إلى ما تقدم من رواية سعد المنجم (1) المحمولة بعد الصرف عن
ظاهرها الدال على سببية طلوع الكواكب لهيجان الإبل والبقر والكلاب
على كونه أمارة وعلامة عليه - المروي في الاحتجاج عن (2) رواية
الدهقان المنجم الذي استقبل أمير المؤمنين حين خروجه إلى نهروان،
فقال له عليه السلام: " يومك هذا يوم صعب، قد انقلب منه كوكب، وانقدح
من برجك النيران، وليس لك الحرب بمكان " فقال عليه السلام له: " أيها
الدهقان المنبئ عن الآثار، المحذر عن الأقدار ".
ثم سأله عن مسائل كثيرة من النجوم، فاعترف الدهقان بجهلها
- إلى أن قال عليه السلام - له: أما قولك: " انقدح من برجك النيران، فكان
الواجب أن تحكم به لي، لا علي، أما نوره وضياؤه فعندي،
وأما حريقه ولهبه فذهب عني، فهذه مسألة عميقة، فأحسبها إن كنت
حاسبا " (3).
وفي رواية أخرى: أنه عليه السلام قال له: " احسبها إن كنت عالما
بالأكوار والأدوار، قال: لو علمت هذا لعلمت أنك تحصي عقود القصب
في هذه الأجمة " (4).
وفي الرواية الآتية (5) لعبد الرحمن بن سيابة: " هذا حساب إذا

(1) تقدمت في الصفحة: 220.
(2) كذا في النسخ، والمناسب: من.
(3) الإحتجاج 1: 356 - 357.
(4) فرج المهموم: 104، وعنه البحار 58: 231، ذيل الحديث 13.
(5) يأتي صدرها في الصفحة: 226.
225

حسبه الرجل ووقف عليه عرف القصبة التي في وسط الأجمة وعدد
ما عن يمينها وعدد ما عن يسارها وعدد ما خلفها وعدد ما أمامها،
حتى لا يخفى عليه شئ من قصب الأجمة " (1).
وفي البحار: وجد في كتاب عتيق، عن عطاء، قال: " قيل لعلي
ابن أبي طالب عليه السلام: هل كان للنجوم أصل؟ قال: نعم، نبي من
الأنبياء قال له قومه: إنا لا نؤمن بك حتى تعلمنا بدء الخلق
وآجالهم (2). فأوحى الله عز وجل إلى غمامة، فأمطرتهم [واستنقع حول
الجبل] (3) ماء صاف (4)، ثم أوحى الله عز وجل إلى الشمس والقمر والنجوم
أن تجري في [ذلك] (5) الماء. ثم أوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي أن يرتقي
هو وقومه على الجبل فقاموا على الماء، حتى عرفوا بدء الخلق وآجالهم
بمجاري (6) الشمس والقمر والنجوم وساعات الليل والنهار، وكان أحدهم
يعرف متى يموت، ومتى يمرض، ومن ذا الذي يولد له، ومن ذا الذي
لا يولد له، فبقوا كذلك برهة من دهرهم.
ثم إن داود على نبينا وآله وعليه السلام قاتلهم على الكفر، فأخرجوا إلى

(1) الكافي 8: 195، الحديث 233، وفيه: " حتى لا يخفى عليه من قصب
الأجمة واحدة ".
(2) في البحار: آجاله، وكذا في ما يأتي.
(3) ما بين المعقوفتين من " ش " والمصدر.
(4) كذا في المصدر، وفي النسخ: ماء صافيا.
(5) أثبتناه من المصدر.
(6) في أكثر النسخ: ومجاري.
226

داود عليه السلام في القتال من لم يحضر أجله، ومن حضر أجله خلفوه في
بيوتهم، فكان يقتل من أصحاب داود ولا يقتل من هؤلاء أحد، فقال
داود: رب أقاتل على طاعتك ويقاتل هؤلاء على معصيتك، يقتل
أصحابي ولا يقتل من هؤلاء أحد! فأوحى الله عز وجل إليه: أني علمتهم
بدء الخلق وآجالهم، وإنما أخرجوا إليك من لم يحضره (1) أجله، ومن
حضر أجله خلفوه في بيوتهم، فمن ثم يقتل من أصحابك ولا يقتل
منهم أحد، قال داود عليه السلام: رب على ماذا علمتهم؟ قال: على مجاري
الشمس والقمر والنجوم وساعات الليل والنهار، قال: فدعا الله عز وجل
فحبس الشمس عليهم فزاد النهار واختلطت الزيادة بالليل والنهار (2)
فلم يعرفوا قدر الزيادة فاختلط حسابهم. قال علي عليه السلام: فمن ثم كره
النظر في علم النجوم " (3).
وفي البحار أيضا عن الكافي بالإسناد عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: " سئل عن النجوم، فقال: لا يعلمها إلا أهل بيت من العرب

(1) في " ف "، " خ " و " م ": لم يحضر.
(2) في " ش ": " فزاد في النهار، واختلطت الزيادة في الليل والنهار ولم يعرفوا... "
ومثله في مصححة " ص "، وفي سائر النسخ: " فزاد في الليل والنهار، ولم
يعرفوا... " وما أثبتناه مطابق لما أورده في البحار، وأما عبارة فرج المهموم
فهكذا: " فزاد الوقت واختلط الليل بالنهار، فاختلط حسابهم... ".
(3) البحار 58: 236، الحديث 17، نقلا عن فرج المهموم: 23، مع اختلافات
أخرى غير ما أشرنا إليها.
227

وأهل بيت من الهند " (1).
وبالإسناد (2) عن محمد بن سالم (3) قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام (4):
قوم يقولون النجوم أصح من الرؤيا وكان ذلك صحيحا (5) حين لم يرد
الشمس على يوشع بن نون وأمير المؤمنين عليه السلام، فلما رد الله الشمس
عليهما ضل فيها (6) علماء (7) النجوم " (8).
وخبر يونس، قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك!
أخبرني عن علم النجوم ما هو؟ قال (9): علم من علوم الأنبياء، قال:

(1) البحار 58: 243، الحديث 23 عن الكافي 8: 330، الحديث 508، ورواه
في الوسائل 12: 103، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(2) ظاهر العبارة: أن هذا الحديث أيضا مثل سابقه نقله في البحار عن الكافي،
وليس كذلك، بل نقله في البحار عن فرج المهموم بإسناده عن الكليني في كتاب
تعبير الرؤيا.
(3) كذا في النسخ، وفي البحار: " محمد بن سام " وفي فرج المهموم: " محمد بن
غانم ".
(4) كذا في البحار أيضا، لكن في فرج المهموم هكذا: " قال: قلت لأبي عبد
الله عليه السلام: عندنا قوم يقولون: النجوم أصح من الرؤيا؟ فقال عليه السلام: كان
ذلك صحيحا قبل أن ترد الشمس... الخ ".
(5) في البحار: وذلك كانت صحيحة.
(6) لم ترد " فيها " في " فرج المهموم "، والظاهر أنها زائدة.
(7) في البحار: علوم علماء النجوم.
(8) البحار 58: 242، الحديث 22، نقلا عن فرج المهموم: 87.
(9) في البحار: فقال: هو علم من علم الأنبياء، وفي فرج المهموم: فقال: هو علم
الأنبياء.
228

فقلت: كان علي بن أبي طالب عليه السلام يعلمه؟ قال: كان أعلم الناس
به... الخبر " (1).
وخبر الريان (2) بن الصلت، قال: " حضر عند أبي الحسن
الرضا عليه السلام الصباح بن نصر الهندي، وسأله عن النجوم، فقال: هو
علم في أصله حق (3) وذكروا أن أول من تكلم به (4) إدريس على نبينا وآله وعليه السلام
وكان ذو القرنين به (5) ماهرا، وأصل هذا العلم من الله (6) عز وجل " (7).
وعن معلى بن خنيس، قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
النجوم أحق هي؟ فقال: نعم، إن الله عز وجل بعث المشتري إلى الأرض
في صورة رجل، فأتى (8) رجلا من العجم فعلمه (9) فلم يستكملوا ذلك،

(1) كذا في النسخ، والظاهر زيادة: " الخبر "، إذ الحديث مذكور بتمامه، انظر
البحار 58: 235، الحديث 15، وفرج المهموم: 23 - 24.
(2) كذا في " ف "، وفي غيره: ريان.
(3) في البحار ومصدره: هو علم في أصل صحيح.
(4) في البحار ومصدره: تكلم في النجوم.
(5) كذا في " ش " وفرج المهموم، وفي سائر النسخ: بها.
(6) في البحار: من عند الله.
(7) البحار 58: 245، الحديث 26، نقلا عن فرج المهموم: 94.
(8) كذا في النسخ، وفي المصدر: فأخذ.
(9) إلى هنا من رواية " المعلى " وما بعده من رواية " الريان بن الصلت " السابقة،
وقد حصل الخلط بينهما، راجع المصدر السابق، والكافي 8: 330، الحديث 507،
والوسائل 12: 102، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.
229

فأتى بلد الهند فعلم رجلا منهم، فمن هناك صار علم النجوم [بها] (1)،
وقد قال قوم: هو علم من علوم الأنبياء، خصوا به لأسباب شتى،
فلم يستدرك المنجمون الدقيق منها، فشاب الحق بالكذب " (2).
إلى غير ذلك مما يدل على صحة علم النجوم في نفسه.
وأما ما دل على كثرة الخطأ والغلط في حساب المنجمين، فهي
كثيرة:
منها: ما تقدم في الروايات السابقة، مثل قوله عليه السلام في الرواية
الأخيرة: " فشاب الحق بالكذب "، وقوله عليه السلام: " ضل فيها علماء
النجوم " (3)، وقوله عليه السلام - في تخطئة ما ادعاه المنجم من أن زحل عندنا
كوكب نحس -: " إنه كوكب أمير المؤمنين والأوصياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم " (4).
وتخطئة أمير المؤمنين عليه السلام للدهقان الذي حكم بالنجوم بنحوسة اليوم
الذي خرج فيه أمير المؤمنين عليه السلام (5).
ومنها: خبر عبد الرحمن بن سيابة، قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
جعلت فداك! إن الناس يقولون: إن النجوم لا يحل النظر فيها، وهي
تعجبني، فإن كانت تضر بديني، فلا حاجة لي في شئ يضر بديني،

(1) الزيادة من البحار.
(2) انظر الهامش رقم (9) في الصفحة السابقة.
(3) ذيل رواية محمد بن سالم، المتقدمة آنفا.
(4) ذيل حديث اليماني، المتقدم في الصفحة: 222.
(5) تقدمت في الصفحة: 225.
230

وإن كانت لا تضر بديني فوالله إني لأشتهيها وأشتهي النظر فيها (1)؟
فقال: ليس كما يقولون، لا تضر بدينك، ثم قال: إنكم تنظرون في
شئ كثيره لا يدرك وقليله لا ينفع... الخبر " (2).
ومنها: خبر هشام، قال: " قال لي أبو عبد الله عليه السلام: كيف
بصرك بالنجوم؟ قلت: ما خلفت بالعراق أبصر بالنجوم مني "، ثم سأله
عن أشياء لم يعرفها، ثم قال: " فما بال العسكرين يلتقيان في هذا
حاسب وفي ذاك حاسب، فيحسب هذا لصاحبه بالظفر، ويحسب هذا
لصاحبه بالظفر، فيلتقيان فيهزم أحدهما الآخر، فأين كانت النجوم؟
قال: فقلت: [لا] (3) والله ما أعلم ذلك. قال: فقال عليه السلام: صدقت،
إن أصل الحساب حق، ولكن لا يعلم ذلك إلا من علم مواليد الخلق
كلهم " (4).
ومنها: المروي في الاحتجاج، عن أبي عبد الله عليه السلام - في حديث -
أن زنديقا قال له: ما تقول في علم النجوم؟ قال عليه السلام: " هو علم
قلت منافعه وكثرت مضاره [لأنه] (5) لا يدفع به المقدور ولا يتقى به
المحذور، إن خبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز عن (6) القضاء، وإن خبر

(1) كذا في " ص " والمصدر، وفي سائر النسخ: النظر إليها.
(2) الوسائل 12: 101، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
(3) من المصدر.
(4) الوسائل 12: 102، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
(5) من المصدر.
(6) في المصدر: من.
231

هو بخير لم يستطع تعجيله، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه، والمنجم
يضاد الله في علمه بزعمه أنه يرد قضاء الله عن خلقه... الخبر " (1).
إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن ما وصل إليه المنجمون
أقل قليل من أمارات الحوادث من دون وصول إلى معارضاتها.
ومن تتبع هذه الأخبار لم يحصل له ظن بالأحكام المستخرجة
عنها، فضلا عن القطع.
نعم، قد يحصل من التجربة المنقولة خلفا عن سلف الظن
- بل العلم - بمقارنة حادث من الحوادث لبعض الأوضاع الفلكية.
فالأولى، التجنب عن الحكم بها، ومع الارتكاب فالأولى الحكم
على سبيل التقريب، وأنه لا يبعد أن يقع كذا عند كذا.
والله المسدد.

(1) الإحتجاج 2: 95، ورواه في الوسائل 12: 104، الباب 24 من أبواب
ما يكتسب به، الحديث 10.
232

[المسألة] السابعة
حفظ كتب الضلال حرام في الجملة بلا خلاف، كما في التذكرة
وعن المنتهى (1).
ويدل عليه - مضافا إلى حكم العقل بوجوب قطع مادة الفساد،
والذم المستفاد من قوله تعالى: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث
ليضل عن سبيل الله) * (2) والأمر بالاجتناب عن قول الزور (3) -:
قوله عليه السلام في ما تقدم من رواية تحف العقول: " إنما حرم الله تعالى
الصناعة التي يجئ منها الفساد محضا... الخ "، بل قوله عليه السلام قبل ذلك:
" أو ما يقوى به الكفر في جميع وجوه المعاصي، أو باب يوهن به
الحق... إلخ " (4).

(1) التذكرة 1: 582، المنتهى 2: 1013.
(2) لقمان: 6.
(3) في قوله تعالى: * (واجتنبوا قول الزور) * الحج: 30.
(4) تقدمت في أول الكتاب.
233

وقوله عليه السلام في رواية عبد الملك - المتقدمة - حيث شكا
إلى الصادق عليه السلام: " أني ابتليت بالنظر في النجوم، فقال عليه السلام:
أتقضي؟ قلت: نعم، قال: أحرق كتبك " (1) بناء على أن الأمر للوجوب
دون الإرشاد للخلاص من الابتلاء بالحكم بالنجوم.
ومقتضى الاستفصال في هذه الرواية: أنه إذا لم يترتب على إبقاء
كتب الضلال مفسدة لم يحرم.
وهذا أيضا مقتضى ما تقدم من إناطة التحريم بما يجئ منه
الفساد محضا.
نعم، المصلحة الموهومة أو المحققة النادرة لا اعتبار بها، فلا يجوز
الإبقاء بمجرد احتمال ترتب مصلحة على ذلك مع كون الغالب ترتب
المفسدة، وكذلك المصلحة النادرة الغير المعتد بها.
وقد تحصل من ذلك: أن حفظ كتب الضلال لا يحرم إلا من حيث
ترتب مفسدة الضلالة قطعا أو احتمالا قريبا، فإن لم يكن كذلك
أو كانت المفسدة المحققة معارضة بمصلحة أقوى، أو عارضت المفسدة
المتوقعة مصلحة أقوى، أو أقرب وقوعا منها، فلا دليل على الحرمة،
إلا أن يثبت إجماع، أو يلتزم بإطلاق عنوان معقد نفي الخلاف الذي
لا يقصر عن نقل الإجماع.

(1) الوسائل 8: 268، الباب 14 من أبواب آداب السفر إلى الحج، الحديث
الأول، وتقدمت في الصفحة: 206 - 207.
234

وحينئذ فلا بد من تنقيح هذا العنوان وأن المراد بالضلال
ما يكون باطلا في نفسه؟ فالمراد الكتب المشتملة على المطالب
الباطلة، أو أن المراد به مقابل الهداية؟ فيحتمل أن يراد بكتبه
ما وضع لحصول الضلال،
وأن يراد ما أوجب الضلال وإن كان
مطالبها حقة، كبعض كتب العرفاء والحكماء المشتملة على ظواهر
منكرة يدعون أن المراد غير ظاهرها، فهذه أيضا كتب ضلال على
تقدير حقيتها.
ثم (1) الكتب السماوية المنسوخة غير المحرفة لا تدخل في كتب الضلال.
وأما المحرفة كالتوراة والإنجيل - على ما صرح به جماعة (2) -
فهي داخلة في كتب الضلال بالمعنى الأول بالنسبة إلينا، حيث إنها
لا توجب للمسلمين بعد بداهة نسخها ضلالة، نعم، توجب الضلالة
لليهود والنصارى قبل نسخ دينهما (3)، فالأدلة المتقدمة لا تدل على حرمة
حفظها (4).
قال رحمه الله في المبسوط - في باب الغنيمة من الجهاد -: فإن
كان في المغنم كتب، نظر، فإن كانت مباحة يجوز إقرار اليد عليها

(1) في " ص ": نعم.
(2) منهم العلامة في التذكرة 1: 582، والفاضل المقداد في التنقيح 2: 12،
والمحقق الثاني في جامع المقاصد 4: 26.
(3) في " ف "، " خ "، " م "، و " ن ": دينها.
(4) في " ف ": حفظهما.
235

- مثل كتب الطب والشعر واللغة والمكاتبات - فجميع ذلك غنيمة،
وكذلك المصاحف وعلوم الشريعة، الفقه والحديث، لأن هذا مال يباع
ويشترى، وإن كانت كتبا لا يحل إمساكها - كالكفر والزندقة
وما أشبه ذلك - فكل ذلك لا يجوز بيعه، فإن كان ينتفع بأوعيته
- كالجلود ونحوها - فإنها غنيمة، وإن كان مما لا ينتفع بأوعيته
- كالكاغذ - فإنه يمزق ولا يحرق (1) إذ ما من كاغذ إلا وله قيمة،
وحكم التوراة والإنجيل هكذا كالكاغذ، فإنه (2) يمزق، لأنه كتاب مغير
مبدل (3)، انتهى.
وكيف كان، فلم يظهر من معقد نفي الخلاف إلا حرمة ما كان
موجبا للضلال، وهو الذي دل عليه الأدلة المتقدمة.
نعم، ما كان من الكتب جامعا للباطل في نفسه من دون أن
يترتب عليه ضلالة لا يدخل تحت الأموال، فلا يقابل بالمال، لعدم
المنفعة المحللة المقصودة فيه، مضافا إلى آيتي " لهو الحديث " (4) و " قول

(1) في " ش " وهامش " ن ": " فإنها تمزق ولا تحرق "، وفي " ف "، " م " و " ع ":
" فإنها تمزق وتحرق "، وفي " ن " و " خ ": " فإنها تمزق وتخرق "، والصواب
ما أثبتناه من مصححة " ن " والمصدر.
(2) كذا في المبسوط أيضا، والمناسب تثنية الضمائر، كما لا يخفى.
(3) المبسوط 2: 30، مع حذف بعض الكلمات.
(4) لقمان: 6.
236

الزور " (1)، أما وجوب (2) إتلافها فلا دليل عليه.
ومما ذكرنا ظهر حكم تصانيف المخالفين في الأصول والفروع
والحديث والتفسير وأصول الفقه، وما دونها من العلوم، فإن المناط
في وجوب الإتلاف جريان الأدلة المتقدمة، فإن الظاهر عدم
جريانها في حفظ شئ من تلك الكتب إلا القليل مما ا لف في
خصوص إثبات الجبر ونحوه، وإثبات تفضيل الخلفاء أو فضائلهم،
وشبه ذلك.
ومما ذكرنا أيضا يعرف وجه ما استثنوه في المسألة من الحفظ
للنقض والاحتجاج على أهلها، أو الاطلاع على مطالبهم ليحصل به التقية
أو غير ذلك.
ولقد أحسن جامع المقاصد، حيث قال: إن فوائد الحفظ
كثيرة (3).
ومما ذكرنا أيضا يعرف حكم ما لو كان بعض الكتاب موجبا
للضلال، فإن الواجب رفعه ولو بمحو جميع الكتاب، إلا أن يزاحم
مصلحة وجوده لمفسدة وجود الضلال.
ولو كان باطلا في نفسه كان خارجا عن المالية، فلو قوبل بجزء

(1) الحج: 30.
(2) كذا في " ش " ومصححة " ن "، وفي أصل النسخ: " حرمة إتلافها "، والظاهر
أنها من غلط النساخ أو من سهو القلم.
(3) جامع المقاصد 4: 26.
237

من العوض المبذول، يبطل المعاوضة بالنسبة إليه.
ثم الحفظ المحرم يراد به الأعم من الحفظ بظهر القلب، والنسخ،
والمذاكرة، وجميع ما له دخل في بقاء المطالب المضلة.
238

[المسألة] الثامنة
الرشوة حرام، وفي جامع المقاصد والمسالك: أن على تحريمها
إجماع المسلمين (1).
ويدل عليه: الكتاب (2)، والسنة.
وفي المستفيضة: " أنه كفر بالله العظيم، أو شرك ".
ففي رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: " أيما وال
احتجب عن حوائج الناس، احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه،
وإن أخذ هدية كان غلولا، وإن أخذ رشوة فهو مشرك (3) " (4).

(1) جامع المقاصد 4: 35، المسالك 3: 136.
(2) قوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا
فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) * البقرة: 188، قال الجوهري:
قوله تعالى: * (وتدلوا بها إلى الحكام) * يعني الرشوة، انظر الصحاح 6: 2340
" دلو ".
(3) كذا في " ف " والمصدر، وفي النسخ: فهو شرك.
(4) الوسائل 12: 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.
239

وعن الخصال - في الصحيح - عن عمار بن مروان، قال: " كل
شئ غل من الإمام فهو سحت، والسحت أنواع كثيرة، منها: ما أصيب
من أعمال الولاة الظلمة، ومنها: أجور القضاة، وأجور الفواجر، وثمن
الخمر، والنبيذ المسكر، والربا بعد البينة، وأما الرشا في الأحكام
- يا عمار - فهو الكفر بالله العظيم " (1). ومثلها رواية سماعة عن
أبي عبد الله عليه السلام (2).
وفي رواية يوسف بن جابر: " لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
من نظر إلى فرج امرأة لا تحل له، ورجلا خان أخاه في امرأته،
ورجلا احتاج الناس إليه لفقهه فسألهم الرشوة " (3).
وظاهر هذه الرواية سؤال الرشوة لبذل فقهه، فتكون ظاهرة (4)
في حرمة أخذ الرشوة للحكم بالحق أو للنظر في أمر المترافعين، ليحكم
بعد ذلك بينهما بالحق من غير أجرة.
وهذا المعنى هو ظاهر تفسير الرشوة في القاموس بالجعل (5)، وإليه

(1) الخصال 1: 329، باب الستة...، الحديث 26، وفيه: " فأما الرشا - يا عمار -
في الأحكام، فإن ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله "، ورواه في الوسائل 12: 64،
الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.
(2) الوسائل 18: 162، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 3.
(3) الوسائل 18: 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 5.
(4) في النسخ: فيكون ظاهرا.
(5) القاموس المحيط 4: 334.
240

نظر المحقق الثاني، حيث فسر في حاشية الإرشاد (1) الرشوة بما يبذله
المتحاكمان (2).
وذكر في جامع المقاصد: أن الجعل من المتحاكمين للحاكم
رشوة (3)، [وهو صريح الحلي أيضا في مسألة تحريم أخذ الرشوة مطلقا
وإعطائها، إلا إذا كان على إجراء حكم صحيح، فلا يحرم على
المعطي (4).
هذا،] (5) ولكن عن مجمع البحرين: قلما تستعمل الرشوة إلا فيما
يتوصل به إلى إبطال حق أو تمشية باطل (6).
وعن المصباح: هي ما يعطيه الشخص للحاكم أو غيره ليحكم له
أو يحمله على ما يريد (7).
وعن النهاية: أنها الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، والراشي: الذي
يعطي ما يعينه على الباطل، والمرتشي: الآخذ، والرائش: هو الذي
يسعى بينهما، يستزيد لهذا و [يستنقص] (8) لهذا (9).

(1) حاشية الإرشاد (مخطوط): 206، وفيه: ما يبذله أحد المتخاصمين.
(2) في " ش ": أحد المتحاكمين.
(3) جامع المقاصد 4: 37.
(4) السرائر 2: 166.
(5) ما بين المعقوفتين لم يرد في " ف ".
(6) مجمع البحرين 1: 184.
(7) المصباح المنير 1: 228.
(8) كذا في المصدر، وفي النسخ: ينقص.
(9) النهاية لابن الأثير 2: 226.
241

ومما يدل على عدم عموم الرشا لمطلق الجعل على الحكم ما تقدم
في رواية عمار بن مروان (1) من جعل الرشاء في الحكم مقابلا لأجور
القضاة، خصوصا بكلمة " أما ".
نعم، لا يختص بما يبذل على خصوص الباطل، بل يعم ما يبذل
لحصول غرضه، وهو الحكم له حقا كان أو باطلا، وهو ظاهر ما تقدم
عن المصباح والنهاية.
ويمكن حمل رواية يوسف بن جابر (2) على سؤال الرشوة للحكم
للراشي حقا أو باطلا. أو يقال: إن المراد الجعل، فأطلق عليه الرشوة
تأكيدا للحرمة.
ومنه يظهر حرمة أخذ الحاكم للجعل من المتحاكمين مع تعين
الحكومة عليه، كما يدل عليه قوله عليه السلام: " احتاج الناس إليه لفقهه " (3).
والمشهور المنع مطلقا، بل في جامع المقاصد: دعوى النص
والإجماع (4)، ولعله لحمل الاحتياج في الرواية على الاحتياج إلى نوعه،
ولإطلاق ما تقدم (5) في رواية عمار بن مروان: من جعل أجور القضاة

(1) تقدمت في الصفحة: 240.
(2) تقدمت في الصفحة: 240.
(3) ذيل رواية يوسف بن جابر المتقدمة في الصفحة: 240.
(4) ظاهر العبارة يفيد: أن في جامع المقاصد دعوى النص والإجماع على الحرمة
مطلقا، سواء تعين عليه الحكم أو لا، لكن الموجود فيه ادعاء النص والإجماع
على مطلق الحرمة، انظر جامع المقاصد 4: 36.
(5) في " ف " ما يلي: "... ولإطلاق ما تقدم، ويدل أيضا على حرمة الجعل
ما تقدم في رواية عمار بن مروان... الخ ".
242

من السحت (1) بناء على أن الأجر في العرف يشمل الجعل وإن كان بينهما
فرق عند المتشرعة.
وربما يستدل على المنع بصحيحة ابن سنان، قال: " سئل
أبو عبد الله عليه السلام عن قاض بين قريتين (2) يأخذ على القضاء الرزق
من السلطان، قال عليه السلام: ذلك السحت " (3).
وفيه: أن ظاهر الرواية كون القاضي منصوبا من قبل السلطان،
الظاهر - بل الصريح - في سلطان الجور، إذ ما يؤخذ من العادل
لا يكون سحتا قطعا، ولا شك أن هذا المنصوب غير قابل للقضاء،
فما يأخذه سحت من هذا الوجه. ولو فرض كونه قابلا للقضاء لم يكن
رزقه من بيت المال أو من جائزة السلطان محرما قطعا، فيجب إخراجه
عن العموم.
إلا أن يقال: إن المراد الرزق من غير بيت المال، وجعله على
القضاء بمعنى المقابلة قرينة على إرادة العوض.
وكيف كان، فالأولى في الاستدلال على المنع ما ذكرناه.
خلافا لظاهر المقنعة (4) والمحكي عن القاضي (5) من (6) الجواز.

(1) تقدمت في الصفحة: 240.
(2) في " ن " و " ش ": فريقين.
(3) الوسائل 18: 161، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث الأول.
(4) المقنعة: 588، وكلامه صريح في جواز أخذ الأجر، فراجع.
(5) المهذب 1: 346.
(6) كذا في " ف "، ولم ترد " من " في سائر النسخ.
243

ولعله (1) للأصل، وظاهر رواية حمزة بن حمران، قال: " سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: من استأكل بعلمه افتقر، قلت: إن في شيعتك
قوما يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم فلا يعدمون منهم البر
والصلة والإكرام؟ فقال عليه السلام: ليس أولئك بمستأكلين، إنما ذاك الذي
يفتي بغير علم ولا هدى من الله، ليبطل به الحقوق، طمعا في حطام
الدنيا... الخبر " (2).
واللام في قوله: " ليبطل به الحقوق " إما للغاية أو للعاقبة، وعلى
الأول: فيدل على حرمة أخذ المال في مقابل الحكم بالباطل، وعلى
الثاني: فيدل على حرمة الانتصاب للفتوى من غير علم طمعا في
الدنيا.
وعلى كل تقدير، فظاهرها حصر الاستيكال المذموم في ما كان
لأجل الحكم بالباطل، أو مع عدم معرفة الحق، فيجوز الاستيكال
مع الحكم بالحق.
ودعوى كون الحصر إضافيا بالنسبة إلى الفرد الذي ذكره السائل
- فلا يدل إلا على عدم الذم على هذا الفرد، دون كل من كان
غير المحصور فيه - خلاف الظاهر.
وفصل في المختلف، فجوز أخذ الجعل والأجرة مع حاجة القاضي

(1) لم يرد في " ف ".
(2) كذا في النسخ والظاهر زيادة: " الخبر "، إذ الحديث مذكور بتمامه، انظر
الوسائل 18: 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12، ومعاني
الأخبار: 181.
244

وعدم تعين القضاء عليه، ومنعه مع غناه أو عدم الغنى عنه (1).
ولعل اعتبار عدم تعين القضاء لما تقرر عندهم من حرمة الأجرة
على الواجبات العينية، وحاجته لا تسوغ أخذ الأجرة عليها، وإنما يجب
على القاضي وغيره رفع حاجته من وجوه أخر.
وأما اعتبار الحاجة، فلظهور اختصاص أدلة المنع بصورة الاستغناء،
كما يظهر بالتأمل في روايتي يوسف وعمار المتقدمتين (2).
ولا مانع من التكسب بالقضاء من جهة وجوبه الكفائي، كما هو
أحد الأقوال في المسألة الآتية في محلها - إن شاء الله -.
وأما الارتزاق من بيت المال، فلا إشكال في جوازه للقاضي
مع حاجته، بل مطلقا إذا رأى الإمام المصلحة فيه، لما سيجئ من الأخبار
الواردة في مصارف الأراضي الخراجية.
ويدل عليه ما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام إلى مالك الأشتر من
قوله عليه السلام: " وافسح له - أي للقاضي - في البذل (3) ما يزيح علته وتقل
معه حاجته إلى الناس " (4).
ولا فرق بين أن يأخذ الرزق من السلطان العادل، أو من الجائر،
لما سيجئ من حلية بيت المال لأهله ولو خرج من يد الجائر.

(1) المختلف: 342.
(2) تقدمتا في الصفحة: 240.
(3) كذا في " ف " والمصدر، وفي سائر النسخ: بالبذل.
(4) نهج البلاغة: 435، الكتاب 53.
245

وأما ما تقدم في صحيحة ابن سنان (1)، من المنع من أخذ الرزق
من السلطان، فقد عرفت الحال فيه.
وأما الهدية، وهي ما يبذله على وجه الهبة ليورث المودة الموجبة
للحكم له حقا كان أو باطلا وإن لم يقصد المبذول له الحكم إلا بالحق
إذا عرف - ولو من القرائن - أن الأول (2) قصد الحكم له على كل تقدير،
فيكون الفرق بينها وبين الرشوة: أن الرشوة تبذل لأجل الحكم، والهدية
تبذل لإيراث الحب المحرك له على الحكم على وفق مطلبه فالظاهر
حرمتها، لأنها رشوة أو بحكمها بتنقيح المناط.
وعليه يحمل ما تقدم من قول أمير المؤمنين عليه السلام: " وإن أخذ
- يعني الوالي - هدية كان غلولا " (3) وما ورد من " أن هدايا العمال
غلول " (4)، وفي آخر: " سحت " (5).
وعن عيون الأخبار، عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام، عن
أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير قوله تعالى: * (أكالون للسحت) * (6) قال:

(1) في الصفحة: 243.
(2) في هامش " ن "، " خ "، " م "، " ع "، " ص " و " ش ": الباذل (خ ل).
(3) راجع الصفحة: 239.
(4) أوردهما في المبسوط (8: 151) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ:
" هدية العمال... ". وفي الوسائل عن أمالي الطوسي مسندا، عن جابر، عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " هدية الأمراء غلول "، انظر الوسائل 18: 163،
الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 6.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 4.
(6) المائدة: 42.
246

" هو الرجل يقضي لأخيه حاجته، ثم يقبل هديته " (1).
وللرواية توجيهات تكون الرواية على بعضها محمولة على ظاهرها
من التحريم، وعلى بعضها محمولة على المبالغة في رجحان التجنب
عن قبول الهدايا من أهل الحاجة إليه، لئلا يقع في الرشوة يوما.
وهل تحرم الرشوة في غير الحكم؟ بناء على صدقها - كما يظهر
مما تقدم عن المصباح والنهاية (2) - كأن يبذل له مالا على أن يصلح
أمره عند الأمير.
فإن كان أمره منحصرا في المحرم أو مشتركا بينه وبين المحلل
لكن بذل على إصلاحه حراما أو حلالا، فالظاهر حرمته لا لأجل
الرشوة - لعدم الدليل عليه عدا بعض الإطلاقات المنصرف إلى الرشا في
الحكم - بل لأنه أكل للمال بالباطل، فتكون الحرمة هنا لأجل الفساد،
فلا يحرم القبض في نفسه، وإنما يحرم التصرف لأنه باق على ملك
الغير.
نعم، يمكن أن يستدل على حرمته بفحوى إطلاق ما تقدم في هدية
الولاة والعمال (3).

(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 28، الباب 31، الحديث 16، ورواه عنه في
الوسائل 12: 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11، وفيهما:
يقضي لأخيه الحاجة.
(2) تقدم في الصفحة: 241.
(3) يعني به روايتي أصبغ وعمار المتقدمتين في أول العنوان، وما تقدم آنفا من
أن: " هدايا العمال غلول ".
247

وأما بذل المال على وجه الهدية الموجبة لقضاء الحاجة المباحة
فلا حظر فيه، كما يدل عليه ما ورد في أن الرجل يبذل الرشوة ليتحرك
من منزله ليسكنه؟ قال: " لا بأس " (1).
والمراد المنزل المشترك، كالمدرسة والمسجد والسوق ونحوها.
ومما يدل على التفصيل في الرشوة بين الحاجة المحرمة وغيرها،
رواية الصيرفي، قال: " سمعت أبا الحسن عليه السلام وسأله حفص الأعور،
فقال: " إن عمال (2) السلطان يشترون منا القرب والإداوة (3) فيوكلون
الوكيل حتى يستوفيه منا، فنرشوه حتى لا يظلمنا؟ فقال: لا بأس
بما تصلح به مالك. ثم سكت ساعة، ثم قال: إذا أنت رشوته يأخذ منك
أقل من الشرط؟ قلت: نعم، قال: فسدت رشوتك " (4).
ومما يعد من الرشوة - أو يلحق بها - المعاملة المشتملة على المحاباة
كبيعه من القاضي ما يساوي عشرة دراهم بدرهم.
فإن لم يقصد من المعاملة إلا المحاباة التي في ضمنها، أو قصد
المعاملة لكن جعل المحاباة لأجل الحكم له - بأن كان الحكم له
من قبيل ما تواطئا عليه من الشروط غير المصرح بها في العقد -

(1) الوسائل 12: 207، الباب 85 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2، ونص
الحديث كما يلي: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يرشو الرجل الرشوة
على أن يتحول من منزله فيسكنه؟ قال: لا بأس به ".
(2) لم يرد في المصدر.
(3) كذا، وفي الوسائل: الأداوى، وهو جمع إداوة: إناء صغير من جلد.
(4) الوسائل 12: 409، الباب 37 من أبواب أحكام العقود، الحديث الأول.
248

فهي الرشوة.
وإن قصد أصل المعاملة وحابى فيها لجلب قلب القاضي، فهو كالهدية
ملحقة بالرشوة.
وفي فساد المعاملة المحابي فيها وجه قوي.
ثم إن كل ما حكم بحرمة أخذه وجب على الآخذ رده ورد بدله
مع التلف إذا قصد مقابلته بالحكم، كالجعل والأجرة حيث حكم
بتحريمهما.
وكذا الرشوة، لأنها حقيقة جعل على الباطل، ولذا فسره (1)
في القاموس بالجعل (2).
ولو لم يقصد بها المقابلة، بل أعطى مجانا ليكون داعيا على الحكم
- وهو المسمى بالهدية - فالظاهر عدم ضمانه، لأن مرجعه إلى هبة مجانية
فاسدة، إذ الداعي لا يعد عوضا، و " ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن
بفاسده ".
وكونها من " السحت " إنما يدل على حرمة الأخذ، لا على الضمان.
وعموم " على اليد " مختص بغير اليد المتفرعة على التسليط المجاني،
ولذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير هذا المقام.
وفي كلام بعض المعاصرين (3): أن احتمال عدم الضمان في الرشوة

(1) كذا في النسخ، والمناسب: فسرها.
(2) القاموس المحيط 4: 334، مادة " الرشوة ".
(3) لم نقف عليه، نعم استشكل صاحب الجواهر في الرجوع بها مع تلفها وعلم
الدافع بالحرمة، باعتبار تسليطه، انظر الجواهر 22: 149.
249

مطلقا غير بعيد معللا بتسليط المالك عليها مجانا، قال: ولأنها تشبه
المعاوضة، و " ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده ".
ولا يخفى ما بين تعليلية من التنافي، لأن شبهها بالمعاوضة يستلزم
الضمان، لأن المعاوضة الصحيحة توجب ضمان كل منهما ما وصل إليه
بعوضه الذي دفعه، فيكون مع الفساد مضمونا بعوضه الواقعي، وهو
المثل أو القيمة. وليس في المعاوضات ما لا يضمن بالعوض بصحيحه
حتى لا يضمن بفاسده.
نعم، قد يتحقق عدم الضمان في بعض المعاوضات بالنسبة إلى
غير العوض، كما أن العين المستأجرة غير مضمونة في يد المستأجر
بالإجارة، فربما يدعى: أنها غير مضمونة إذا قبض بالإجارة الفاسدة.
لكن هذا كلام آخر (1) والكلام في ضمان العوض بالمعاوضة
الفاسدة.
والتحقيق: أن كونها معاوضة أو شبيهة بها وجه لضمان العوض
فيها، لا لعدم الضمان.

(1) في هامش " ش " - هنا - ما يلي: قد ثبت فساده بما ذكرناه في باب الغصب
من أن المراد من " ما لا يضمن بصحيحه " أن يكون عدم الضمان مستندا إلى نفس
العقد الصحيح، لمكان " الباء ". وعدم ضمان العين المستأجرة ليس مستندا
إلى الإجارة الصحيحة، بل إلى قاعدة الأمانة المالكية والشرعية، لكون التصرف
في العين مقدمة لاستيفاء المنفعة مأذونا فيه شرعا، فلا يترتب عليه الضمان،
بخلاف الإجارة الفاسدة، فإن الإذن الشرعي فيها مفقود، والإذن المالكي غير مثمر،
لكونه تبعيا، ولكونه لمصلحة القابض، فتأمل، كذا في بعض النسخ، (انتهى).
250

" فروع "
في اختلاف الدافع والقابض
لو ادعى الدافع أنها هدية ملحقة بالرشوة في الفساد والحرمة،
وادعى القابض أنها هبة صحيحة لداعي القربة أو غيرها، احتمل تقديم
الأول، لأن الدافع أعرف بنيته، ولأصالة الضمان في اليد إذا كانت
الدعوى بعد التلف. والأقوى تقديم الثاني، لأنه يدعي الصحة.
ولو ادعى الدافع أنها رشوة أو أجرة على المحرم، وادعى
القابض كونها هبة صحيحة، احتمل أنه كذلك، لأن الأمر يدور بين
الهبة الصحيحة والإجارة الفاسدة.
ويحتمل العدم، إذ لا عقد مشترك هنا اختلفا في صحته وفساده،
فالدافع منكر لأصل العقد الذي يدعيه القابض، لا لصحته، فيحلف على
عدم وقوعه، وليس هذا من مورد التداعي، كما لا يخفى (1).
ولو ادعى الدافع أنها رشوة، والقابض أنها هدية فاسدة لدفع
الغرم عن نفسه - بناء على ما سبق من أن الهدية المحرمة لا توجب
الضمان - ففي تقديم الأول لأصالة الضمان في اليد، أو الآخر لأصالة عدم
سبب الضمان ومنع أصالة الضمان، وجهان:

(1) عبارة: " وليس هذا من مورد التداعي كما لا يخفى " مشطوب عليها في
" ف ".
251

أقواهما الأول، لأن عموم خبر " على اليد " (1) يقضي بالضمان،
إلا مع تسليط المالك مجانا، والأصل عدم تحققه، وهذا حاكم على أصالة
عدم سبب الضمان، فافهم.

(1) عوالي اللآلي 2: 345، الحديث 10. ورواه عنه وعن تفسير أبي الفتوح،
العلامة النوري في مستدرك الوسائل 14: 7، الباب الأول من أبواب كتاب
الوديعة، الحديث 12.
252

[المسألة] التاسعة
سب المؤمنين حرام في الجملة بالأدلة الأربعة، لأنه ظلم وإيذاء
وإذلال.
ففي رواية أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه معصية
وحرمة ماله كحرمة دمه " (1).
وفي رواية السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة " (2).
وفي رواية أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: " جاء رجل
من تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: أوصني، فكان
فيما أوصاه: لا تسبوا فتكتسبوا العداوة " (3).

(1) الوسائل 8: 609، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.
(2) الوسائل 8: 611، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4.
(3) الوسائل 8: 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2، وفيه:
" فتكسبوا العداوة لهم "، وفي الكافي (2: 360): " فتكتسبوا العداوة بينهم ".
253

وفي رواية ابن الحجاج، عن أبي الحسن عليه السلام في رجلين يتسابان،
قال: " البادي منهما أظلم، ووزره على صاحبه ما لم يعتذر إلى المظلوم " (1).
وفي مرجع الضمائر اغتشاش، ويمكن الخطأ من الراوي.
والمراد - والله أعلم - أن مثل وزر صاحبه عليه لإيقاعه إياه
في السب، من غير أن يخفف عن صاحبه شئ، فإذا اعتذر إلى المظلوم
عن سبه وإيقاعه إياه في السب برأ من الوزرين.
ثم إن المرجع في السب إلى العرف.
وفسره في جامع المقاصد بإسناد ما يقتضي نقصه إليه، مثل الوضيع
والناقص (2).
وفي كلام بعض آخر: أن السب والشتم بمعنى واحد (3).
وفي كلام ثالث: أن السب أن تصف الشخص بما هو إزراء
ونقص، فيدخل في النقص كل ما يوجب الأذى، كالقذف والحقير
والوضيع والكلب والكافر والمرتد، والتعبير بشئ من بلاء الله تعالى

(1) الوسائل 8: 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث الأول، وفيه:
" ووزره ووزر صاحبه عليه " وعلى هذا فلا اغتشاش في الضمائر، كما لا يخفى.
وعلى فرض صحة ما نقله قدس سره يمكن التخلص عما قاله من الاغتشاش
بإرجاع ضمير " ووزره " على " السب " المستفاد من المقام، نظير قوله تعالى:
* (اعدلوا هو أقرب للتقوى) *.
(2) جامع المقاصد 4: 27.
(3) صرح به كاشف الغطاء في شرح القواعد (مخطوط): 20.
254

كالأجذم والأبرص (1).
ثم الظاهر أنه لا يعتبر في صدق السب مواجهة المسبوب. نعم،
يعتبر فيه قصد الإهانة والنقص، فالنسبة بينه وبين الغيبة عموم من وجه.
والظاهر تعدد العقاب في مادة الاجتماع، لأن مجرد ذكر الشخص
بما يكرهه لو سمعه ولولا لقصد الإهانة غيبة محرمة، والإهانة محرم آخر.
ثم إنه يستثنى من " المؤمن " المظاهر بالفسق، لما سيجئ في
الغيبة (2): من أنه لا حرمة له.
وهل يعتبر في جواز سبه كونه من باب النهي عن المنكر
فيشترط بشروطه، أم لا؟ ظاهر النصوص والفتاوى - كما في الروضة (3) -
الثاني، والأحوط الأول.
ويستثنى منه المبتدع أيضا، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا رأيتم أهل (4)
البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم والوقيعة فيهم " (5).
ويمكن أن يستثنى من ذلك ما إذا لم يتأثر المسبوب عرفا، بأن
لا يوجب قول هذا القائل في حقه مذلة ولا نقصا، كقول الوالد لولده

(1) قد وردت العبارة باختلاف يسير في مفتاح الكرامة 4: 68 في تفسير السب
من غير أن يسنده إلى أحد، فراجع.
(2) يجئ في الصفحة: 343.
(3) الروضة البهية 9: 175.
(4) في المصدر: أهل الريب والبدع.
(5) الوسائل 11: 508، الباب 39 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما،
الحديث الأول، وفيه: " وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم
كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام... الخ ".
255

أو السيد لعبده عند مشاهدة ما يكرهه: " يا حمار "، وعند غيظه:
" يا خبيث "، ونحو ذلك، سواء لم يتأثر المقول فيه (1) بذلك - بأن
لم يكرهه أصلا - أم تأثر به، بناء على أن العبرة بحصول الذل والنقص
فيه عرفا.
ويشكل الثاني بعموم أدلة حرمة الإيذاء (2).
نعم، لو قال السيد ذلك في مقام التأديب جاز، لفحوى جواز الضرب.
وأما الوالد: فيمكن استفادة الجواز في حقه مما ورد من مثل
قولهم عليهم السلام: " أنت ومالك لأبيك " (3)، فتأمل.
مضافا إلى استمرار السيرة بذلك، إلا أن يقال: إن استمرار السيرة
إنما هو مع عدم تأثر السامع وتأذيه بذلك.
ومن هنا يوهن التمسك بالسيرة في جواز سب المعلم للمتعلم، فإن
السيرة إنما نشأت في الأزمنة السابقة من عدم تألم المتعلم بشتم المعلم
لعد نفسه أدون من عبده، بل ربما كان يفتخر بالسب، لدلالته على كمال
لطفه. وأما زماننا هذا الذي يتألم المتعلم فيه من المعلم مما لم يتألم به
من شركائه في البحث من القول والفعل، فحل إيذائه يحتاج إلى الدليل،
والله الهادي إلى سواء السبيل.

(1) كذا في ظاهر " ف " ومصححة " ن "، وفي " م "، " ع " و " ص ": القول فيه،
وشطب عليه في " خ "، وموضعه بياض في " ش ".
(2) مثل قوله تعالى: * (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا...) *
الأحزاب: 57، وراجع الوسائل 8: 587، الباب 145 من أبواب أحكام العشرة.
(3) الوسائل 12: 197، الباب 78 من أبواب ما يكتسب به، ضمن الحديث 8.
256

[المسألة] العاشرة
السحر حرام في الجملة بلا خلاف، بل هو ضروري - كما سيجئ -
والأخبار به مستفيضة:
منها - ما تقدم من أن الساحر كالكافر (1).
ومنها - قوله عليه السلام: " من تعلم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا
فقد كفر، وكان آخر عهده بربه [وحده أن يقتل] (2) إلا أن يتوب " (3).
وفي رواية السكوني، عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ساحر المسلمين يقتل، وساحر الكفار لا يقتل.
قيل: يا رسول الله لم لا يقتل ساحر الكفار؟ قال: لأن الشرك أعظم
من السحر، ولأن السحر والشرك مقرونان " (4).
وفي نبوي آخر: " ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، ومدمن سحر،

(1) تقدم في الصفحة: 205، في مسألة التنجيم.
(2) من " ش " و " ص " والمصدر.
(3) الوسائل 12: 107، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.
(4) الوسائل 12: 106، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
257

وقاطع رحم " (1).
إلى غير ذلك من الأخبار (2).
ثم إن الكلام هنا يقع في مقامين:
الأول: في المراد بالسحر.
وهو لغة - على ما عن بعض أهل اللغة هو (3) -: ما لطف مأخذه
ودق (4).
وعن بعضهم: أنه صرف الشئ عن وجهه (5).
وعن ثالث: أنه الخدع (6).
وعن رابع: " أنه إخراج الباطل في صورة الحق " (7).
وقد اختلفت عبارات الأصحاب في بيانه:
فقال العلامة رحمه الله - في القواعد والتحرير -: إنه كلام يتكلم به
أو يكتبه، أو رقية، أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه

(1) الوسائل 12: 107، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
(2) راجع الوسائل 12: 103، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7،
وأحاديث أخر غير النبويين المذكورين من الباب 25.
(3) كذا في النسخ، والظاهر زيادة " هو ".
(4) الصحاح 2: 679، مادة " سحر ".
(5) النهاية لابن الأثير 2: 346، مادة " سحر ".
(6) الصحاح 2: 679.
(7) نقله السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 69 عن ابن فارس في مجمله.
258

أو عقله من غير مباشرة (1).
وزاد في المنتهى: أو عقد (2).
وزاد في المسالك: أو أقسام أو عزائم يحدث بسببها ضرر
على الغير (3).
وزاد في الدروس: الدخنة والتصوير والنفث وتصفية النفس (4).
ويمكن أن يدخل جميع ذلك في قوله في القواعد: " أو يعمل
شيئا ".
نعم ظاهر المسالك ومحكي (5) الدروس: أن المعتبر في السحر
الإضرار.
فإن أريد من " التأثير " - في عبارة القواعد وغيرها - خصوص
الإضرار بالمسحور فهو، وإلا كان أعم.
ثم إن الشهيدين رحمهما الله عدا من السحر: استخدام الملائكة،
واستنزال الشياطين في كشف الغائبات وعلاج المصاب، واستحضارهم

(1) القواعد 1: 121، التحرير 1: 161.
(2) المنتهى 2: 1014.
(3) المسالك 3: 128.
(4) الدروس 3: 163.
(5) كذا في النسخ، ولعل الأصح: " وصريح الدروس "، حيث إنه قدس سره نقل آنفا
عن الدروس بلا واسطة، فلا وجه لإسناده هنا إلى الحكاية، مع أن عبارة
الدروس صريحة في اعتبار الإضرار. إلا أن عبارة المسالك أيضا صريحة في
ذلك، فراجع.
259

وتلبيسهم (1) ببدن صبي أو امرأة، وكشف الغائبات على (2) لسانه (3).
والظاهر أن المسحور في ما ذكراه هي الملائكة والجن والشياطين،
والإضرار بهم يحصل بتسخيرهم وتعجيزهم من المخالفة له (4) وإلجائهم
إلى الخدمة.
وقال في الإيضاح: إنه استحداث الخوارق، إما بمجرد التأثيرات
النفسانية، وهو السحر، أو بالاستعانة بالفلكيات فقط، وهو دعوة
الكواكب، أو بتمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية، وهي الطلسمات،
أو على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة، وهي العزائم، ويدخل فيه
النيرنجات، والكل حرام في شريعة الإسلام، ومستحله كافر (5)، انتهى.
وتبعه على هذا التفسير في محكي التنقيح (6) وفسر " النيرنجات " في
الدروس بإظهار غرائب خواص الامتزاجات وأسرار النيرين (7).
وفي الإيضاح: أما ما كان على سبيل الاستعانة بخواص الأجسام
السفلية فهو علم الخواص، أو الاستعانة بالنسب الرياضية فهو علم

(1) في " ص ": تلبسهم، تلبيسهم (خ ل)، وفي " م ": تلبيهم.
(2) في " ش " والدروس: عن لسانه.
(3) انظر المصدرين المتقدمين.
(4) لم ترد " له " في " ف "، وفي " م "، " خ "، " ع " و " ص ": به.
(5) انظر إيضاح الفوائد 1: 405، والعبارة المنقولة هنا هي عبارة التنقيح
باختلاف يسير، وتغيير بعض الضمائر.
(6) التنقيح 2: 12.
(7) الدروس 3: 164.
260

الحيل وجر الأثقال، وهذان ليسا من السحر (1)، انتهى.
وما جعله خارجا قد أدخله غيره، وفي بعض الروايات دلالة
عليه، وسيجئ المحكي (2) والمروي (3).
ولا يخفى أن هذا التعريف أعم من الأول (4)، لعدم اعتبار مسحور
فيه فضلا عن الإضرار ببدنه أو عقله.
وعن الفاضل المقداد في التنقيح: أنه عمل (5) يستفاد منه ملكة
نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية (6).
وهذا يشمل علمي الخواص والحيل.
وقال في البحار - بعد ما نقل عن أهل اللغة " أنه ما لطف وخفي
سببه " -: إنه في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه (7) ويتخيل
على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع (8)، انتهى.
وهذا أعم من الكل، لأنه ذكر بعد ذلك ما حاصله: أن السحر
على أقسام:

(1) إيضاح الفوائد 1: 405.
(2) المراد ما يحكيه بعد أسطر عن الفاضل المقداد في " التنقيح ".
(3) المراد ما يرويه عن الاحتجاج من حديث الزنديق الذي سأل
أبا عبد الله عليه السلام عن مسائل كثيرة، وسيأتي في الصفحة: 263.
(4) أي التعريف الذي تقدم عن العلامة والشهيدين قدس سرهم.
(5) في المصدر: علم يستفاد منه حصول ملكة....
(6) التنقيح 2: 12، ونقله عن بعض.
(7) في أكثر النسخ: سببها.
(8) البحار 59: 277.
261

الأول - سحر الكلدانيين (1) الذين كانوا في قديم الدهر، وهم قوم
كانوا يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها المدبرة لهذا العالم، ومنها تصدر (2)
الخيرات والشرور والسعادات والنحوسات.
ثم ذكر أنهم على ثلاثة مذاهب:
فمنهم: من يزعم أنها الواجبة لذاتها الخالقة للعالم.
ومنهم: من يزعم أنها قديمة، لقدم العلة المؤثرة فيها.
ومنهم: من يزعم أنها حادثة مخلوقة فعالة مختارة فوض خالقها
أمر العالم إليها.
والساحر عند هذه الفرق من يعرف القوى العالية الفعالة بسائطها
ومركباتها، ويعرف ما يليق بالعالم السفلي ويعرف معداتها ليعدها وعوائقها
ليرفعها بحسب الطاقة البشرية، فيكون متمكنا من استجذاب (3) ما يخرق
العادة.
الثاني (4) - سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية.
الثالث - الاستعانة بالأرواح الأرضية، وقد أنكرها بعض الفلاسفة،
وقال بها الأكابر منهم. وهي في أنفسها مختلفة، فمنهم خيرة، وهم
مؤمنو الجن، وشريرة، وهم كفار الجن وشياطينهم.
الرابع - التخيلات والأخذ بالعيون، مثل راكب السفينة يتخيل
نفسه ساكنا والشط متحركا.

(1) في " ف "، " ن "، " خ "، " م " و " ع ": الكذابين، وفي المصدر: الكلدانيين والكذابين.
(2) كذا في المصدر، وفي " ش ": " تصدير "، وفي سائر النسخ: تقدير.
(3) كذا في " ف " والمصدر، وفي سائر النسخ: استحداث.
(4) في " ف " زيادة: ثم قال: الثاني....
262

الخامس - الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة
على نسب الهندسة، كرقاص يرقص، وفارسان يقتتلان.
السادس - الاستعانة بخواص الأدوية، مثل أن يجعل في الطعام
بعض الأدوية المبلدة أو المزيلة للعقل، أو الدخن المسكر، أو عصارة
البنج المجعول في الملبس (1). وهذا مما لا سبيل إلى إنكاره، وأثر
المغناطيس شاهد (2).
السابع - تعليق القلب، وهو أن يدعي الساحر أنه يعرف علم الكيميا (3)
وعلم السيميا (4) والاسم الأعظم حتى يميل إليه العوام، وليس له أصل.
الثامن - النميمة (5)، انتهى الملخص منه.
وما ذكره من وجوه السحر بعضها قد تقدم عن الإيضاح (6)
وبعضها قد ذكر في ما ذكره في الاحتجاج من حديث الزنديق الذي

(1) بصيغة المفعول من باب التفعيل، يراد منه - هنا - ما يقال [له]: " نقل " في
لغة الفرس والترك، وهو قسم من أقسام الحلويات (شرح الشهيدي: 59).
(2) كذا في النسخ، وفي المصدر: مشاهد.
(3) الكيمياء علم يراد به تحويل بعض المعادن إلى بعض، وعلى الخصوص تحويلها
إلى الذهب. (محيط المحيط: 801، مادة " كمي ").
(4) في " ش ": اللميا، وعلم السيمياء: علم يطلق على غير الحقيقي من السحر،
وحاصله إحداث مثالات خيالية لا وجود لها في الحس، وقد يطلق على إيجاد
تلك المثالات بصورها في الحس، وتكون صورا في جوهر الهواء. (محيط المحيط:
443، مادة " سوم ".
(5) البحار 59: 278 - 297.
(6) تقدم في الصفحة: 260.
263

سأل أبا عبد الله عليه السلام عن مسائل كثيرة:
منها: ما ذكره بقوله: أخبرني عن السحر ما أصله؟ وكيف يقدر
الساحر على ما يوصف من عجائبه وما يفعل؟
قال أبو عبد الله عليه السلام: " إن السحر على وجوه شتى، منها:
بمنزلة الطب، كما أن الأطباء وضعوا لكل داء دواء، فكذلك علم (1)
السحر، احتالوا لكل صحة آفة، ولكل عافية عاهة، ولكل معنى حيلة.
ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفة. ونوع منه ما يأخذه
أولياء الشياطين منهم.
قال: فمن أين علم الشياطين السحر؟
قال: من حيث علم الأطباء الطب، بعضه بتجربة وبعضه بعلاج.
قال: فما تقول في الملكين هاروت وماروت، وما يقول الناس:
إنهما يعلمان الناس السحر؟
قال: إنما هما موضع ابتلاء وموقف فتنة، تسبيحهما: اليوم لو فعل
الإنسان كذا وكذا لكان كذا، ولو تعالج بكذا وكذا لصار كذا، فيتعلمون
منهما ما يخرج عنهما، فيقولان لهم: إنما نحن فتنة، فلا تأخذوا عنا
ما يضركم ولا ينفعكم.
قال: أفيقدر الساحر على أن يجعل الإنسان بسحره في صورة كلب
أو حمار أو غير ذلك؟
قال: هو أعجز من ذلك، وأضعف من أن يغير خلق الله! إن
من أبطل ما ركبه الله تعالى وصور غيره (2) فهو شريك الله في خلقه،

(1) كذا في أكثر النسخ والمصدر، وفي " ص " و " ش ": علماء.
(2) في المصدر: وصوره، وغيره.
264

تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لو قدر الساحر على ما وصفت لدفع
عن نفسه الهرم والآفة والأمراض، ولنفى البياض عن رأسه والفقر
عن ساحته. وإن من أكبر السحر النميمة، يفرق بها بين المتحابين، ويجلب
العداوة على المتصافين، ويسفك بها الدماء، ويهدم بها الدور، ويكشف
بها الستور، والنمام شر من وطأ الأرض بقدمه، فأقرب أقاويل السحر
من الصواب أنه بمنزلة الطب، إن الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة
النساء فجاءه الطبيب فعالجه بغير ذلك فأبرأه... الحديث " (1).
ثم لا يخفى أن الجمع بين ما ذكر في معنى السحر في غاية
الإشكال، لكن المهم بيان حكمه، لا موضوعه.
المقام الثاني - في حكم الأقسام المذكورة.
فنقول: أما الأقسام الأربعة المتقدمة من الإيضاح، فيكفي في
حرمتها - مضافا إلى شهادة المحدث المجلسي رحمه الله في البحار بدخولها
في المعنى المعروف للسحر عند أهل الشرع، فيشملها الإطلاقات - دعوى
فخر المحققين في الإيضاح (2) كون حرمتها من ضروريات الدين، وأن
مستحلها كافر (3) [وهو ظاهر الدروس أيضا فحكم بقتل مستحلها (4)] (5)،

(1) الإحتجاج 2: 81، مع اختلاف.
(2) إيضاح الفوائد 1: 405، وعبارته خالية من دعوى الضرورة.
(3) في " ن "، " خ "، " م "، " ع " و " ص " زيادة: ودعوى الشهيدين في الدروس
والمسالك أن مستحله يقتل.
(4) الدروس 3: 164.
(5) ما بين المعقوفتين ساقط من " ف ".
265

فإنا وإن لم نطمئن بدعوى الإجماعات المنقولة، إلا أن دعوى ضرورة
الدين مما يوجب الاطمئنان بالحكم، واتفاق العلماء عليه في جميع
الأعصار.
نعم، ذكر شارح النخبة أن ما كان من الطلسمات مشتملا على إضرار
أو تمويه على المسلمين، أو استهانة بشئ من حرمات الله - كالقرآن
وأبعاضه وأسماء الله الحسنى، ونحو ذلك - فهو حرام بلا ريب، سواء
عد من السحر أم لا، وما كان للأغراض - كحضور الغائب، وبقاء العمارة،
وفتح الحصون للمسلمين، ونحوه - فمقتضى الأصل جوازه، ويحكى عن
بعض الأصحاب (1)، وربما يستندون في بعضها (2) إلى أمير المؤمنين عليه السلام،
والسند غير واضح. وألحق في الدروس تحريم عمل الطلسمات بالسحر،
ووجهه غير واضح، انتهى (3).
ولا وجه أوضح من دعوى الضرورة (4) من فخر الدين،
والشهيد قدس سرهما.

(1) مثل الشهيدين والفاضل الميسي والمحقق الأردبيلي، كما يأتي في
الصفحة: 272.
(2) أي في بعض الطلسمات، ولعل مراده بما يسند إليه عليه السلام طلسم " جنة الأسماء "
على ما في بعض الشروح.
(3) شرح النخبة للسيد عبد الله حفيد المحدث الجزائري (لا يوجد لدينا).
(4) نسبة دعوى الضرورة إليهم مع خلو كلامهم عنها إنما هي بلحاظ حكمهم
بقتل مستحله، حيث إنه لا يكون إلا إذا كانت حرمته من المسلمات
والضروريات (شرح الشهيدي: 59).
266

وأما غير تلك الأربعة، فإن كان مما يضر بالنفس المحترمة،
فلا إشكال أيضا في حرمته، ويكفي في الضرر صرف نفس المسحور
عن الجريان على مقتضى إرادته، فمثل إحداث حب مفرط في الشخص
يعد سحرا.
روى الصدوق في الفقيه - في باب عقاب المرأة على أن تسحر
زوجها - بسنده عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه صلوات الله عليهم
قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لامرأة سألته: أن لي زوجا وبه غلظة
علي وأني صنعت شيئا لأعطفه علي؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أف لك! كدرت البحار وكدرت الطين، ولعنتك الملائكة الأخيار،
وملائكة السماوات والأرض. قال: فصامت المرأة نهارها وقامت ليلها
وحلقت رأسها ولبست المسوح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن
ذلك لا يقبل منها " (1).
بناء على أن الظاهر من قولها: " صنعت شيئا " المعالجة بشئ
غير الأدعية والصلوات ونحوها، ولذا فهم الصدوق منها السحر، ولم يذكر
في عنوان سحر المرأة غير هذه الرواية.
وأما ما لا يضر، فإن قصد به دفع (2) ضرر السحر أو غيره
من المضار الدنيوية أو الأخروية، فالظاهر جوازه مع الشك في صدق
اسم السحر عليه، للأصل، بل فحوى ما سيجئ من جواز دفع الضرر
بما علم كونه سحرا، وإلا فلا دليل على تحريمه، إلا أن يدخل في " اللهو "

(1) الفقيه 3: 445، الحديث 4544.
(2) في " ن "، " خ "، " م "، " ص " و " ش ": رفع.
267

أو " الشعبذة ".
نعم، لو صح سند رواية الاحتجاج (1) صح الحكم بحرمة جميع
ما تضمنته، وكذا لو عمل بشهادة من تقدم - كالفاضل المقداد والمحدث
المجلسي رحمهما الله بكون جميع ما تقدم من الأقسام داخلا في السحر (2) -
اتجه الحكم بدخولها تحت إطلاقات المنع عن السحر.
لكن الظاهر استناد شهادتهم إلى الاجتهاد، مع معارضته بما تقدم
من الفخر من إخراج علمي الخواص والحيل من السحر (3) وما تقدم
من تخصيص صاحب المسالك وغيره السحر بما يحدث ضررا (4)،
بل عرفت تخصيص العلامة له بما يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله.
فهذه شهادة من هؤلاء على عدم عموم لفظ " السحر " لجميع
ما تقدم من الأقسام.
وتقديم شهادة الإثبات لا يجري في هذا الموضع، لأن الظاهر
استناد المثبتين إلى الاستعمال، والنافين إلى الاطلاع على كون الاستعمال
مجازا للمناسبة.
والأحوط الاجتناب عن جميع ما تقدم من الأقسام في البحار (5)،
بل لعله لا يخلو عن قوة، لقوة الظن من خبر الاحتجاج وغيره.

(1) تقدمت في الصفحة: 263.
(2) تقدم كلامهما في الصفحة: 261.
(3) تقدم في الصفحة: 260 - 261.
(4) تقدم عنه وعن الشهيد الأول في الصفحة: 259.
(5) تقدم عنه في الصفحات: 261 - 263.
268

بقي الكلام في جواز دفع ضرر السحر بالسحر.
ويمكن أن يستدل له مضافا إلى الأصل - بعد دعوى انصراف
الأدلة إلى غير ما قصد به غرض راجح شرعا - بالأخبار:
منها: ما تقدم في خبر الاحتجاج.
ومنها: ما في الكافي عن القمي، عن أبيه، عن شيخ من أصحابنا
الكوفيين، " قال: دخل عيسى بن شفقي (1) على أبي عبد الله عليه السلام،
قال: جعلت فداك! أنا رجل كانت صناعتي السحر، وكنت آخذ عليه
الأجر وكان معاشي، وقد حججت منه، وقد من الله علي بلقائك، وقد
تبت إلى الله عز وجل من ذلك، فهل لي في شئ من ذلك مخرج؟ فقال له
أبو عبد الله عليه السلام: حل ولا تعقد " (2).
وكأن الصدوق رحمه الله في العلل أشار إلى هذه الرواية، حيث قال:
" روي أن توبة الساحر أن يحل ولا يعقد " (3).
وظاهر المقابلة بين الحل والعقد في الجواز والعدم كون كل منهما

(1) في أكثر نسخ الكتاب: " شفيق " وفي " ش ": " السقفي "، وفي " ف ": " شفق "
ويحتمل " مشفق " وقد اختلفت المصادر أيضا في ضبط هذه الكلمة، ففي الكافي
مثل ما أثبتناه، وفي الفقيه 3: 180، الحديث 3677، والتهذيب 6: 364،
الحديث 1043، - الطبعة الحديثة -، والوسائل: " شقفي "، وفي الطبعة القديمة
للتهذيب: " سيفي ".
(2) الكافي 5: 115، باب الصناعات، الحديث 7، وروى عنه في الوسائل
12: 105، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
(3) علل الشرائع 2: 546، الباب 338، ذيل الحديث الأول.
269

بالسحر، فحمل " الحل " على ما كان بغير السحر من الدعاء والآيات
ونحوهما - كما عن بعض (1) - لا يخلو عن بعد.
ومنها: ما عن العسكري، عن آبائه عليهم السلام - في قوله تعالى:
* (وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) * قال: " كان بعد نوح
قد كثرت السحرة والمموهون، فبعث الله ملكين إلى نبي ذلك الزمان
بذكر (2) ما يسحر به السحرة، وذكر ما يبطل به سحرهم ويرد به كيدهم،
فتلقاه النبي عن الملكين وأداه إلى عباد الله بأمر الله، وأمرهم
أن يقضوا (3) به على السحر، وأن يبطلوه، ونهاهم عن (4) أن يسحروا
به الناس. وهذا كما يقال: إن السم ما هو؟ وإن ما يدفع به غائلة
السم ما هو (5) [ثم يقال للمتعلم: هذا السم فمن رأيته سم فادفع غائلته
بهذا، ولا تقتل بالسم] (6) - إلى أن قال -: * (وما يعلمان من أحد) *
ذلك السحر وإبطاله * (حتى يقولا) * للمتعلم: * (إنما نحن فتنة) * وامتحان
للعباد، ليطيعوا الله في ما يتعلمون من هذا ويبطلوا به كيد السحرة

(1) وهو العلامة قدس سره في المنتهى 2: 1014.
(2) في بعض النسخ: يذكر.
(3) في المصدر: أن يقفوا.
(4) لم ترد " عن " في غير " ش ".
(5) هذه الفقرة في المصدر كما يلي: وهذا كما يدل على السم ما هو وعلى
ما يدفع به غائلة السم.
(6) ما بين المعقوفتين: ليس في المصدر، وعبارة: " ثم يقال للمتعلم " ليس في " ف ".
270

ولا يسحروهم، * (فلا تكفر) * (1) باستعمال هذا السحر وطلب الإضرار
ودعاء الناس إلى أن يعتقدوا أنك تحيي وتميت وتفعل ما لا يقدر عليه
إلا الله عز وجل، فإن ذلك كفر - إلى أن قال -: * (ويتعلمون ما يضرهم
ولا ينفعهم) *، لأنهم إذا تعلموا ذلك السحر ليسحروا به ويضروا به،
فقد تعلموا ما يضر بدينهم ولا ينفعهم (2)... الحديث " (3).
وفي رواية [علي بن] (4) محمد بن الجهم، عن مولانا الرضا عليه السلام
- في حديث - قال: " وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس
السحر ليحترزوا به عن سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم، وما علما أحدا
من ذلك شيئا حتى (5) قالا: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فكفر قوم باستعمالهم
لما أمروا [بالاحتراز منه] (6) وجعلوا يفرقون بما تعلموه بين المرء وزوجه،
قال الله تعالى: * (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) * يعني بعلمه " (7).

(1) في " ش ": " ولا تسحروهم فلا تكفر "، وفي " خ "، " م " و " ع ":
" ولا تسحروهم فلا تكفروا "، وفي " ف ": " ولا يسحروهم فلا يكفروا "، وفي
" ن ": " ولا تسحروهم فتكفروا "، وما أثبتناه من المصدر ومصححة " ص ".
(2) في " ش " زيادة: فيه.
(3) الوسائل 12: 106، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4، مع
اختلافات أخرى غير ما أشرنا إليها.
(4) ساقط من جميع النسخ، أثبتناه من المصدر والكتب الرجالية.
(5) في بعض النسخ: إلا (خ ل).
(6) ساقط من أكثر النسخ، إلا أنه استدرك في بعضها.
(7) الوسائل 12: 107، الباب 25 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5، والآية
من سورة البقرة: 102.
271

هذا كله، مضافا إلى أن ظاهر أخبار " الساحر " إرادة من (1) يخشى
ضرره، كما اعترف به بعض الأساطين (2) واستقرب لذلك جواز الحل به
بعد أن نسبه إلى كثير من أصحابنا.
لكنه مع ذلك كله، فقد منع العلامة في غير واحد من كتبه (3)
والشهيد رحمه الله في الدروس (4) والفاضل الميسي (5) والشهيد الثاني رحمه الله (6)
من حل السحر به، ولعلهم حملوا ما دل على الجواز - مع اعتبار سنده -
على حالة الضرورة وانحصار سبب الحل فيه، لا مجرد دفع الضرر
مع إمكانه بغيره من الأدعية والتعويذات (7)، ولذا ذهب جماعة
- منهم الشهيدان والميسي (8) وغيرهم (9) - إلى جواز تعلمه ليتوقى به
من السحر ويدفع به دعوى المتنبي.
وربما حمل أخبار الجواز - الحاكية لقصة هاروت وماروت - على

(1) في " ف ": إرادة أن.
(2) هو كاشف الغطاء في شرحه على القواعد (مخطوط): 23.
(3) كالمنتهى 2: 1014، والقواعد 1: 121، والتذكرة 1: 582.
(4) الدروس 3: 164.
(5) لا يوجد لدينا كتابه: " الميسية ".
(6) لم يصرح بالمنع، ولعله يستفاد من مفهوم كلامه، انظر المسالك 3: 128.
(7) في هامش " ن " ما يلي: " إذ إبطال السحر رفع مسببه، كما يشهد به التعبير
بالحل، مثلا إطفاء النار التي سحر الساحر بدخنتها، أو حل الخيط المعقود
سحرا، أو محو المكتوب، أو إظهار المدفون كذلك ليس إبطالا للسحر، صح ".
(8) تقدمت الإشارة إلى موارد كلامهم آنفا.
(9) مثل المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 8: 79، والمحدث الكاشاني في المفاتيح 2: 24.
272

جواز ذلك في الشريعة السابقة (1)، وفيه نظر.
ثم الظاهر أن التسخيرات بأقسامها داخلة في السحر على جميع
تعاريفه، وقد عرفت أن الشهيدين مع أخذ الإضرار في تعريف السحر
ذكرا أن استخدام الملائكة والجن من السحر (2)، ولعل وجه دخوله
تضرر المسخر بتسخيره.
وأما سائر التعاريف، فالظاهر شمولها لها، وظاهر عبارة الإيضاح (3)
أيضا دخول هذه في معقد دعواه الضرورة على التحريم، لأن الظاهر
دخولها في الأقسام والعزائم والنفث. ويدخل في ذلك تسخير الحيوانات
- من الهوام والسباع والوحوش وغير ذلك - خصوصا الإنسان.
وعمل السيميا ملحق بالسحر اسما أو حكما، وقد صرح بحرمته
الشهيد في الدروس (4). والمراد به - على ما قيل (5) -: إحداث خيالات
لا وجود لها في الحس يوجب تأثيرا في شئ آخر.

(1) قاله السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 73.
(2) راجع الصفحة: 259.
(3) تقدمت في الصفحة: 260.
(4) الدروس 3: 164.
(5) لم نقف على القائل، راجع الصفحة 263، الهامش 4.
273

[المسألة] الحادية عشرة
الشعبذة حرام بلا خلاف.
وهي الحركة السريعة بحيث يوجب على الحس الانتقال من الشئ
إلى شبهه، كما ترى النار المتحركة على الاستدارة دائرة متصلة، لعدم
إدراك السكونات المتخللة بين الحركات.
ويدل على الحرمة - بعد الإجماع، مضافا إلى أنه من الباطل
واللهو -: دخوله في السحر في الرواية المتقدمة عن الاحتجاج (1)، المنجبر
وهنها بالإجماع المحكي (2).
وفي بعض التعاريف المتقدمة (3) للسحر ما يشملها.

(1) تقدمت في الصفحة: 263 - 264.
(2) صرح العلامة في المنتهى (2: 1014) بعدم الخلاف، وهكذا المحقق الأردبيلي
في مجمع الفائدة (8: 81)، وفي الجواهر (22: 94) دعوى الإجماع المحكي
والمحصل.
(3) مثل ما تقدم عن البحار في تعريف ما جعله قسما رابعا لأقسام السحر،
راجع الصفحة: 262.
274

[المسألة] الثانية عشرة
الغش حرام بلا خلاف، والأخبار به متواترة، نذكر بعضها
تيمنا:
فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسانيد متعددة: " ليس من المسلمين من
غشهم " (1).
وفي رواية العيون [بأسانيد] (2) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" ليس منا من غش مسلما، أو ضره، أو ماكره " (3).
وفي عقاب الأعمال، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من غش مسلما
في بيع أو شراء فليس منا، ويحشر مع اليهود يوم القيامة، لأنه من
غش الناس فليس بمسلم - إلى أن قال -: ومن غشنا فليس منا - قالها

(1) الوسائل 12: 208، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
(2) من " ش "، ولم ترد في " ف "، ووردت في أكثر النسخ بعد قوله: " قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ".
(3) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 29، الحديث 26، ورواه عنه في الوسائل
12: 211، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.
275

ثلاثا -، ومن غش أخاه المسلم نزع الله بركة رزقه، وأفسد (1) عليه
معيشته، ووكله إلى نفسه " (2).
وفي مرسلة هشام (3) عن أبي عبد الله عليه السلام: " أنه قال لرجل يبيع
الدقيق: إياك والغش! فإنه (4) من غش غش في ماله، فإن لم يكن له مال
غش في أهله " (5).
وفي رواية سعد الإسكاف، عن أبي جعفر عليه السلام، " قال: مر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: ما أرى
طعامك إلا طيبا (6) فأوحى الله عز وجل إليه: أن يدس يده في الطعام ففعل،
فأخرج طعاما رديا، فقال لصاحبه: ما أراك إلا وقد جمعت خيانة وغشا
للمسلمين " (7).

(1) كذا في " ش " والمصدر، وفي سائر النسخ: وسد.
(2) عقاب الأعمال: 334 - 337، باب يجمع عقوبات الأعمال، الحديث الأول،
ورواه عنه في الوسائل 12: 210، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به،
الحديث 11.
(3) كذا في النسخ، والصواب: " عبيس بن هشام " كما في الوسائل، والتهذيب
(7: 12، الحديث 51)، هذا وقال المحدث العاملي في ذيل هذا الحديث: ورواه
الشيخ بإسناده عن عبيس " عيسى (خ ل) " بن هشام عن أبي عبد الله عليه السلام.
(4) كذا في " ف " والمصدر، وفي سائر النسخ: فإن.
(5) الوسائل 12: 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.
(6) في المصدر زيادة: وسأله عن سعره.
(7) الوسائل 12: 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.
276

ورواية موسى بن بكر (1) عن أبي الحسن عليه السلام: " أنه أخذ
دينارا من الدنانير المصبوبة بين يديه ثم قطعه بنصفين (2) ثم قال لي (3):
ألقه في البالوعة حتى لا يباع بشئ (4) فيه غش... الخبر (5) " (6).
وقوله: " فيه غش " جملة ابتدائية، والضمير في " لا يباع " راجع
إلى الدينار.
وفي رواية هشام بن الحكم، قال: " كنت أبيع السابري في الظلال،
فمر بي أبو الحسن عليه السلام فقال: يا هشام إن البيع في الظلال غش،
والغش لا يحل " (7).
وفي رواية الحلبي قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يشتري طعاما فيكون أحسن له وأنفق له أن يبله من غير أن يلتمس
زيادته (8). فقال: إن كان بيعا لا يصلحه إلا ذلك ولا ينفقه غيره من غير
أن يلتمس فيه زيادة، فلا بأس، وإن كان إنما يغش به المسلمين
فلا يصلح " (9).

(1) في النسخ: موسى بن بكير، والصواب ما أثبتناه من المصدر وكتب الرجال.
(2) كذا في المصدر، وفي النسخ: فقطعها نصفين.
(3) ليس في " ف "، " ن "، " خ "، " م " و " ع ": لي.
(4) في الوسائل: شئ.
(5) كذا في أكثر النسخ والظاهر زيادة: " الخبر "، إذ الحديث مذكور بتمامه.
(6) الوسائل 12: 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
(7) الوسائل 12: 208، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.
(8) في أكثر النسخ: زيادة.
(9) الوسائل 12: 421، الباب 9 من أبواب أحكام العيوب، الحديث 3.
277

وروايته الأخرى، قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يكون عنده لونان من الطعام (1) سعرهما بشئ (2)، وأحدهما أجود من
الآخر، فيخلطهما جميعا ثم يبيعهما بسعر واحد؟ فقال: لا يصلح له أن
يغش المسلمين حتى يبينه " (3).
ورواية داود بن سرحان، قال: " كان معي جرابان من مسك،
أحدهما رطب والآخر يابس، فبدأت بالرطب فبعته، ثم أخذت اليابس
أبيعه، فإذا أنا لا أعطى باليابس الثمن الذي يسوى، ولا يزيدوني
على ثمن الرطب، فسألت أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك: أيصلح لي
أن أنديه؟ قال: لا، إلا أن تعلمهم، قال: فنديته ثم أعلمتهم، قال:
لا بأس " (4).
ثم إن ظاهر الأخبار هو كون الغش بما يخفى، كمزج اللبن بالماء،
وخلط الجيد بالردئ في مثل الدهن، ومنه وضع الحرير في مكان بارد
ليكتسب ثقلا، ونحو ذلك.

(1) في المصدر: من طعام واحد.
(2) كذا في " ن "، وفي " ش ": سعرهما شتى، وفي " ف "، " خ "، " م " و " ع ":
سعرهما شئ، فالأول مطابق للفقيه والوسائل، والثاني للتهذيب، والثالث للكافي.
انظر الفقيه 3: 207، الحديث 3774، والتهذيب 7: 34، الحديث 140،
والكافي 5: 183، الحديث 2.
(3) الوسائل 12: 420، الباب 9 من أبواب أحكام العيوب، الحديث 2.
(4) الوسائل 12: 421، الباب 9 من أبواب أحكام العيوب، الحديث 4، وفي
آخره: فقال: لا بأس به إذا أعلمتهم.
278

وأما المزج والخلط بما لا يخفى فلا يحرم، لعدم انصراف " الغش " إليه،
ويدل عليه - مضافا إلى بعض الأخبار المتقدمة -: صحيحة ابن مسلم،
عن أحدهما عليهما السلام: " أنه سئل عن الطعام يخلط بعضه ببعض، وبعضه
أجود من بعض، قال: إذا رؤيا جميعا فلا بأس ما لم يغط الجيد
الردئ " (1).
ومقتضى هذه الرواية - بل رواية الحلبي الثانية (2)، ورواية سعد
الإسكاف (3) - أنه لا يشترط في حرمة الغش كونه مما لا يعرف إلا من
قبل البائع، فيجب الإعلام بالعيب غير الخفي، إلا أن تنزل الحرمة
- في موارد الروايات الثلاث - على ما إذا تعمد الغش برجاء التلبس (4)
على المشتري وعدم التفطن له وإن كان من شأن ذلك العيب أن يتفطن
له، فلا تدل الروايات على وجوب الإعلام إذا كان العيب من شأنه
التفطن له، فقصر المشتري وسامح في الملاحظة.
ثم إن غش المسلم إنما هو ببيع المغشوش عليه مع جهله،
فلا فرق بين كون الاغتشاش بفعله أو بغيره، فلو حصل اتفاقا أو لغرض
فيجب الإعلام بالعيب الخفي.
ويمكن أن يمنع صدق الأخبار المذكورة إلا على ما إذا قصد
التلبيس، وأما ما هو ملتبس في نفسه فلا يجب عليه الإعلام.

(1) الوسائل 12: 420، الباب 9 من أبواب أحكام العيوب، الحديث الأول.
(2) المتقدمة في الصفحة السابقة.
(3) المتقدمة في الصفحة: 276.
(4) في " ش ": التلبيس.
279

نعم، يحرم عليه إظهار ما يدل على سلامته من ذلك، فالعبرة
في الحرمة بقصد تلبيس الأمر على المشتري، سواء كان العيب خفيا
أم جليا - كما تقدم - لا بكتمان العيب مطلقا، أو خصوص الخفي
وإن لم يقصد التلبيس. ومن هنا منع في التذكرة من كون بيع المعيب مطلقا
مع عدم الإعلام بالعيب غشا (1).
وفي التفصيل المذكور في رواية الحلبي (2) إشارة إلى هذا المعنى،
حيث إنه عليه السلام جوز بل الطعام بدون قيد الإعلام إذا لم يقصد به
الزيادة وإن حصلت به، وحرمه مع قصد الغش.
نعم، يمكن أن يقال في صورة تعيب المبيع بخروجه عن مقتضى
خلقته الأصلية بعيب خفي أو جلي: إن التزام البائع بسلامته عن العيب
مع علمه به غش للمشتري، كما لو صرح باشتراط السلامة،
فإن العرف يحكمون على البائع بهذا الشرط - مع علمه بالعيب -
أنه غاش.
ثم إن الغش يكون بإخفاء الأدنى في الأعلى كمزج الجيد
بالردئ، أو غير المراد في المراد كإدخال الماء في اللبن، وبإظهار الصفة
الجيدة المفقودة واقعا، وهو التدليس، أو بإظهار الشئ على خلاف
جنسه كبيع المموه على أنه ذهب أو فضة.
ثم إن في جامع المقاصد ذكر في الغش بما يخفى - بعد تمثيله له
بمزج اللبن بالماء - وجهين في صحة المعاملة وفسادها، من حيث

(1) التذكرة 1: 538.
(2) المتقدمة في الصفحة: 277.
280

إن المحرم هو الغش والمبيع عين مملوكة ينتفع بها، ومن أن المقصود
بالبيع هو اللبن، والجاري عليه العقد هو المشوب.
ثم قال: وفي الذكرى - في باب الجماعة - ما حاصله، أنه لو نوى
الاقتداء بإمام معين على أنه زيد فبان عمروا، أن في الحكم نظرا،
ومثله ما لو قال: بعتك هذا الفرس، فإذا هو حمار (1) وجعل منشأ التردد
تغليب الإشارة أو الوصف (2)، انتهى.
وما ذكره من وجهي الصحة والفساد جار في مطلق العيب، لأن
المقصود هو الصحيح، والجاري عليه العقد هو المعيب، وجعله من باب
تعارض الإشارة والوصف مبني على إرادة الصحيح من عنوان المبيع،
فيكون قوله: " بعتك هذا العبد " بعد تبين كونه أعمى بمنزلة قوله: " بعتك
هذا البصير ".
وأنت خبير بأنه ليس الأمر كذلك - كما سيجئ في باب العيب -،
بل وصف الصحة ملحوظ على وجه الشرطية وعدم كونه مقوما للمبيع،
كما يشهد به العرف والشرع.
ثم لو فرض كون المراد من عنوان المشار إليه هو الصحيح،
لم يكن إشكال في تقديم العنوان على الإشارة بعد ما فرض رحمه الله أن
المقصود بالبيع هو اللبن والجاري عليه العقد هو المشوب، لأن ما قصد
لم يقع وما وقع لم يقصد، ولذا اتفقوا على بطلان الصرف فيما إذا تبين
أحد العوضين معيبا من غير الجنس.

(1) الذكرى: 271.
(2) جامع المقاصد 4: 25.
281

وأما التردد في مسألة تعارض الإشارة والعنوان، فهو من جهة
اشتباه ما هو المقصود بالذات بحسب الدلالة اللفظية، فإنها مرددة بين
كون متعلق القصد (1) أولا وبالذات هو العين الحاضرة ويكون اتصافه
بالعنوان مبنيا على الاعتقاد، وكون متعلقه هو العنوان والإشارة إليه
باعتبار حضوره.
أما على تقدير العلم بما هو المقصود بالذات ومغايرته للموجود
الخارجي - كما فيما نحن فيه - فلا يتردد أحد في البطلان.
وأما وجه تشبيه مسألة الاقتداء في الذكرى بتعارض الإشارة
والوصف في الكلام مع عدم الإجمال في النية، فباعتبار عروض الاشتباه
للناوي بعد ذلك في ما نواه، إذ كثيرا ما يشتبه على الناوي أنه حضر
في ذهنه العنوان ونوى الاقتداء به معتقدا لحضوره المعتبر في إمام
الجماعة، فيكون الإمام هو المعنون بذلك العنوان وإنما أشار إليه معتقدا
لحضوره، أو (2) أنه نوى الاقتداء بالحاضر وعنونه بذلك العنوان لإحراز
معرفته بالعدالة، أو تعنون به بمقتضى الاعتقاد من دون اختيار.
هذا، ثم إنه قد يستدل على الفساد - كما نسب إلى المحقق
الأردبيلي رحمه الله (3) - بورود النهي عن هذا البيع، فيكون المغشوش
منهيا عن بيعه، كما أشير إليه في رواية قطع الدينار والأمر بإلقائه

(1) في " ف " و " خ " ونسخة بدل سائر النسخ: العقد.
(2) في " ص "، " ن "، " خ " و " م ": وأنه.
(3) مجمع الفائدة 8: 83.
282

في البالوعة، معللا بقوله: " حتى لا يباع بشئ " (1) ولأن نفس البيع
غش منهي عنه.
وفيه نظر، فإن النهي عن البيع - لكونه مصداقا لمحرم هو
الغش - لا يوجب فساده، كما تقدم في بيع العنب على من (2) يعمله
خمرا (3).
وأما النهي عن بيع المغشوش لنفسه فلم يوجد في خبر.
وأما خبر الدينار، فلو عمل به خرجت (4) المسألة عن مسألة الغش،
لأنه إذا وجب إتلاف الدينار وإلقاؤه في البالوعة كان داخلا في
ما يكون المقصود منه حراما، نظير آلات اللهو والقمار، وقد ذكرنا ذلك
في ما يحرم الاكتساب به لكون المقصود منه محرما (5)، فيحمل " الدينار "
على المضروب من غير جنس النقدين أو من غير الخالص منهما لأجل
التلبيس على الناس، ومعلوم أن مثله بهيئته لا يقصد منه إلا التلبيس،
فهو آلة الفساد لكل من دفع إليه، وأين هو من اللبن الممزوج بالماء
وشبهه؟

(1) تقدمت الرواية في الصفحة: 277.
(2) في " ش ": ممن، (خ ل).
(3) راجع المسألة الثالثة، في حرمة بيع العنب ممن يعمله خمرا بقصد أن يعمله،
في الصفحة: 129 وما بعدها.
(4) في النسخ: خرج.
(5) راجع البحث حول ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة، في الصفحة: 121
وما بعدها.
283

فالأقوى حينئذ في المسألة: صحة البيع في غير القسم
الرابع، ثم العمل على ما تقتضيه القاعدة عند تبين الغش. فإن
كان قد غش في إظهار وصف مفقود كان فيه خيار التدليس،
وإن كان من قبيل شوب اللبن بالماء، فالظاهر هنا خيار العيب، لعدم
خروجه بالمزج عن مسمى اللبن، فهو لبن معيوب. وإن كان من
قبيل التراب الكثير في الحنطة، كان له حكم تبعض الصفقة، ونقص
الثمن بمقدار التراب الزائد، لأنه غير متمول، ولو كان شيئا متمولا
بطل البيع في مقابله.
284

[المسألة] الثالثة عشر
الغناء، لا خلاف في حرمته في الجملة، والأخبار بها مستفيضة،
وادعى في الإيضاح تواترها (1).
منها: ما ورد مستفيضا في تفسير " قول الزور " في قوله تعالى:
* (واجتنبوا قول الزور) * (2) ففي صحيحة الشحام (3) ومرسلة ابن أبي عمير (4)
وموثقة أبي بصير (5) المرويات عن الكافي، ورواية عبد الأعلى المحكية

(1) إيضاح الفوائد 1: 405.
(2) الحج: 30.
(3) الكافي 6: 435، باب النرد والشطرنج، الحديث 2، وعنه في الوسائل 12: 225،
الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
(4) الكافي 6: 436، باب النرد والشطرنج، الحديث 7، وعنه في الوسائل 12: 227،
الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.
(5) الكافي 6: 431، باب الغناء، الحديث الأول، وعنه في الوسائل 12: 227،
الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.
285

عن معاني الأخبار (1) وحسنة هشام المحكية عن تفسير القمي رحمه الله (2):
تفسير " قول الزور " بالغناء.
ومنها: ما ورد مستفيضا في تفسير " لهو الحديث " (3)، كما في صحيحة
ابن مسلم (4) ورواية مهران بن محمد (5) ورواية الوشاء (6) ورواية الحسن
ابن هارون (7) ورواية عبد الأعلى السابقة (8).
ومنها: ما ورد في تفسير " الزور " في قوله تعالى: * (والذين
لا يشهدون الزور) * (9) كما في صحيحة ابن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام
تارة بلا واسطة وأخرى بواسطة أبي الصباح الكناني (10).
وقد يخدش في الاستدلال بهذه الروايات بظهور الطائفة الأولى

(1) معاني الأخبار: 349، وعنه في الوسائل 12: 229، الباب 99 من أبواب
ما يكتسب به، الحديث 20.
(2) راجع تفسير القمي 2: 84، والوسائل 12: 230، الباب 99 من أبواب
ما يكتسب به، الحديث 26.
(3) في قوله تعالى: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل
الله) * لقمان: 6.
(4) الوسائل 12: 226، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
(5) نفس المصدر، الحديث 7.
(6) الوسائل 12: 227، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11.
(7) الوسائل 12: 228، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 16.
(8) المتقدمة آنفا.
(9) الفرقان: 72.
(10) الوسائل 12: 226، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5 و 3.
286

بل الثانية في أن الغناء من مقولة الكلام، لتفسير قول الزور به.
ويؤيده ما في بعض الأخبار، من أن من قول الزور أن تقول
للذي يغني: أحسنت (1). ويشهد له قول علي بن الحسين عليهما السلام
في مرسلة الفقيه الآتية في الجارية التي لها صوت: " لا بأس (2)
لو اشتريتها فذكرتك الجنة، يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل
التي ليست بغناء " (3)، ولو جعل التفسير من الصدوق دل على الاستعمال
أيضا.
وكذا " لهو الحديث " بناء على أنه من إضافة الصفة إلى الموصوف،
فيختص الغناء المحرم بما كان مشتملا على الكلام الباطل، فلا تدل
على حرمة نفس الكيفية ولو لم يكن في كلام باطل.
ومنه تظهر الخدشة في الطائفة الثالثة، حيث إن مشاهد الزور
التي مدح الله تعالى من لا يشهدها، هي مجالس التغني بالأباطيل
من الكلام.
فالإنصاف، أنها لا تدل على حرمة نفس الكيفية إلا من حيث
إشعار " لهو الحديث " بكون اللهو على إطلاقه مبغوضا لله تعالى.

(1) الوسائل 12، 229، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 21،
وإليك نصه: " قال: سألته عن قول الزور، قال: منه قول الرجل للذي يغني:
أحسنت ".
(2) في المصدر: ما عليك.
(3) الفقيه 4: 60، الحديث 5097، وعنه في الوسائل 12: 86، الباب 16 من
أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
287

وكذا الزور بمعنى الباطل، وإن تحققا (1) في كيفية الكلام، لا في نفسه،
كما إذا تغني في كلام حق، من قرآن أو دعاء أو مرثية.
وبالجملة، فكل صوت يعد في نفسه - مع (2) قطع النظر عن الكلام
المتصوت به - لهوا وباطلا فهو حرام.
ومما يدل على حرمة الغناء من حيث كونه لهوا وباطلا ولغوا:
رواية عبد الأعلى - وفيها ابن فضال - قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن الغناء، وقلت: إنهم يزعمون: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص
في أن يقال: جئناكم جئناكم، حيونا حيونا نحيكم، فقال: كذبوا، إن
الله تعالى يقول: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا
أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين * بل نقذف بالحق على الباطل
فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) * (3)، ثم قال: ويل لفلان
مما يصف! - رجل لم يحضر المجلس -... الخبر (4) " (5).
فإن الكلام المذكور - المرخص فيه بزعمهم - ليس بالباطل واللهو
اللذين يكذب الإمام عليه السلام رخصة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه، فليس
الإنكار الشديد المذكور وجعل ما زعموا الرخصة فيه من اللهو والباطل

(1) كذا في النسخ، وعلى فرض مطابقتها لما صدر من قلم المؤلف قدس سره، فمرجع
ضمير التثنية هو " اللهو " و " الزور ".
(2) في " ف "، " ن " و " خ ": ومع.
(3) الأنبياء: 16 - 17 - 18.
(4) كذا في النسخ والظاهر زيادة: " الخبر "، لأن الخبر مذكور بتمامه.
(5) الوسائل 12: 228، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 15.
288

إلا من جهة التغني به.
ورواية يونس، قال: " سألت الخراساني عليه السلام عن الغناء، وقلت:
إن العباسي زعم أنك (1) ترخص في الغناء، فقال: كذب الزنديق!
ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء، فقلت له: إن رجلا أتى
أبا جعفر عليه السلام فسأله عن الغناء فقال له: إذا (2) ميز الله بين الحق
والباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل، فقال: قد حكمت " (3).
ورواية محمد بن أبي عباد - وكان مستهترا (4) بالسماع، ويشرب (5)
النبيذ - قال: " سألت الرضا عليه السلام عن السماع، قال: لأهل الحجاز (6)
فيه رأي، وهو في حيز الباطل واللهو، أما سمعت الله عز وجل يقول:
* (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * " (7).
والغناء من السماع، كما نص عليه في الصحاح (8)، وقال أيضا:

(1) في المصدر: إن العباسي ذكر عنك أنك.
(2) في المصدر: يا فلان إذا....
(3) الوسائل 12: 227، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 13.
(4) في العيون: مشتهرا.
(5) في " ش "، " ف "، " ن " والعيون: بشرب.
(6) في الوسائل زيادة: العراق (خ ل).
(7) الوسائل 12: 229، الباب 99 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 19،
والآية من سورة الفرقان: 72. وانظر عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 128،
الحديث 5.
(8) الصحاح 6: 2449، مادة " غنى ".
289

جارية مسمعة، أي مغنية (1).
وفي رواية الأعمش - الواردة في تعداد الكبائر - قوله: " والملاهي
التي تصد عن ذكر الله (2) كالغناء وضرب الأوتار " (3).
وقوله عليه السلام - وقد سئل عن الجارية المغنية -: " قد يكون للرجل
جارية تلهيه، وما ثمنها إلا كثمن الكلب " (4).
وظاهر هذه الأخبار بأسرها حرمة الغناء من حيث اللهو والباطل،
فالغناء - وهي من مقولة الكيفية للأصوات، كما سيجئ -، إن كان مساويا
للصوت اللهوي والباطل - كما هو الأقوى، وسيجئ - فهو، وإن كان أعم
وجب تقييده بما كان من هذا العنوان، كما أنه لو كان أخص وجب
التعدي عنه إلى مطلق الصوت الخارج على وجه اللهو.
وبالجملة، فالمحرم هو ما كان من لحون أهل الفسوق والمعاصي
التي (5) ورد النهي عن قراءة القرآن بها (6) سواء كان مساويا للغناء

(1) الصحاح 3: 1232، مادة " سمع ".
(2) في المصدر زيادة: مكروهة.
(3) الخصال: 610، أبواب المائة فما فوقه، ذيل الحديث 9، وعنه الوسائل
11: 262، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 36.
(4) الوسائل 12: 88، الباب 16 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6، وإليك
نصه: " سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام عن شراء المغنية، قال: قد تكون للرجل
الجارية تلهيه، وما ثمنها إلا ثمن كلب... الحديث ".
(5) كذا في " ش " ومصححة " ن "، وفي سائر النسخ: الذي.
(6) الوسائل 4: 858، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، الحديث الأول.
290

أو أعم أو أخص، مع أن الظاهر أن ليس الغناء إلا هو وإن اختلفت
فيه عبارات الفقهاء واللغويين:
فعن المصباح: أن الغناء الصوت (1). وعن آخر: أنه مد الصوت (2)،
وعن النهاية عن الشافعي: أنه تحسين الصوت (3) وترقيقه. وعنها أيضا:
أن كل من رفع صوتا ووالاه فصوته عند العرب غناء (4).
وكل هذه المفاهيم مما يعلم عدم حرمتها وعدم صدق الغناء
عليها، فكلها إشارة إلى المفهوم المعين عرفا.
والأحسن من الكل ما تقدم من الصحاح (5)، ويقرب منه المحكي
عن المشهور بين الفقهاء (6) من أنه مد الصوت المشتمل على الترجيع
المطرب.
والطرب - على ما في الصحاح -: خفة تعتري الإنسان لشدة
حزن أو سرور (7) وعن الأساس للزمخشري: خفة لسرور أو هم (8).

(1) المصباح المنير: 455، مادة " غنن ".
(2) لم نظفر على قائله، وجعله المحقق النراقي ثامن الأقوال من دون إسناد إلى
قائل معين، انظر المستند 2: 340.
(3) في المصدر: تحسين القراءة.
(4) النهاية، لابن الأثير 3: 391.
(5) في الصفحة: 289.
(6) انظر مفاتيح الشرائع 2: 20.
(7) الصحاح 1: 171، مادة " طرب ".
(8) أساس البلاغة: 277، مادة " طرب ".
291

وهذا القيد (1) هو المدخل للصوت في أفراد اللهو، وهو الذي أراده
الشاعر بقوله: " أطربا وأنت قنسري " (2) أي شيخ كبير، وإلا فمجرد
السرور أو الحزن لا يبعد عن الشيخ الكبير.
وبالجملة، فمجرد مد الصوت لا مع الترجيع [المطرب، أو ولو مع
الترجيع] (3) لا يوجب كونه لهوا.
ومن اكتفى (4) بذكر الترجيع - كالقواعد (5) - أراد به المقتضي للإطراب.
قال في (6) جامع المقاصد - في الشرح -: ليس مجرد مد الصوت
محرما - وإن مالت إليه النفوس - ما لم ينته إلى حد يكون مطربا بالترجيع
المقتضي للإطراب (7)، انتهى.

(1) في شرح الشهيدي (68) ما يلي: في التعبير مسامحة، والمراد من القيد الخفة
الناشئة من السرور أو الحزن.
(2) وتمام البيت:
والدهر بالإنسان دواري أفنى القرون، وهو قعسري
قاله العجاج كما في ديوانه: 314، وفي لسان العرب: الطرب خفة تلحق
الإنسان عند السرور وعند الحزن، والمراد به في هذا البيت السرور، يخاطب
نفسه فيقول: أتطرب إلى اللهو طرب الشبان وأنت شيخ مسن؟ انظر لسان
العرب 5: 117، مادة " قنسر ".
(3) الزيادة من " ش ".
(4) في " ف ": اكتفى في التعريف.
(5) القواعد 2: 236، باب الشهادات.
(6) وردت " في " في " ص " و " ع " فقط.
(7) جامع المقاصد 4: 23.
292

ثم إن المراد بالمطرب ما كان مطربا في الجملة بالنسبة إلى المغني
أو المستمع، أو ما كان من شأنه الإطراب ومقتضيا له لو لم يمنع عنه مانع
من جهة قبح الصوت أو غيره.
وأما لو اعتبر الإطراب فعلا - خصوصا بالنسبة إلى كل أحد،
وخصوصا بمعنى الخفة لشدة السرور أو الحزن - فيشكل بخلو أكثر
ما هو غناء عرفا عنه.
وكأن هذا هو الذي دعا الشهيد الثاني إلى أن زاد في الروضة
والمسالك - بعد تعريف المشهور - قوله: " أو ما يسمى في العرف غناء " (1)
وتبعه في مجمع الفائدة (2) وغيره (3).
ولعل هذا أيضا دعا صاحب مفتاح الكرامة إلى زعم أن
" الإطراب " في تعريف الغناء غير " الطرب " - المفسر في الصحاح بخفة
لشدة سرور أو حزن (4) - وإن توهمه (5) صاحب مجمع البحرين وغيره
من أصحابنا.

(1) الروضة البهية 3: 212، المسالك 3: 126.
(2) مجمع الفائدة 8: 57، نقله عن بعض الأصحاب، وظاهره تلقيه بالقبول.
(3) الحدائق 18: 101.
(4) تقدم في الصفحة: 291.
(5) في شرح الشهيدي (68): قضية الإتيان ب‍ " إن " الوصلية والتعبير بالتوهم مخالفة
الطريحي في ما ذكره من المغايرة - حيث إن هذا التعبير لا يكون إلا في
مقام ذكر المخالف - وعليه يكون مرجع ضمير المفعول في " توهمه ": الاتحاد
المدلول عليه بالكلام السابق، ولكن لا يخفى عليك أنه ليس في المجمع ما يدل
على الاتحاد وعدم المغايرة، انتهى، وانظر مجمع البحرين 2: 109.
293

واستشهد (1) على ذلك بما في الصحاح من أن التطريب في الصوت:
مده وتحسينه (2).
وما عن المصباح من أن طرب في صوته: مده ورجعه (3).
وفي القاموس: الغناء - ككساء - من الصوت ما طرب به،
وأن التطريب: الإطراب، كالتطرب والتغني (4).
قال رحمه الله: فتحصل من ذلك أن المراد بالتطريب والإطراب
غير الطرب بمعنى الخفة لشدة حزن أو سرور - كما توهمه صاحب
مجمع البحرين وغيره من أصحابنا (5) - فكأنه قال في القاموس: الغناء
من الصوت ما مد وحسن ورجع، فانطبق على المشهور، إذ الترجيع
تقارب ضروب حركات الصوت والنفس، فكان لازما للإطراب
والتطريب (6)، انتهى كلامه رحمه الله (7).
وفيه: أن الطرب إذا كان معناه - على ما تقدم من الجوهري
والزمخشري (8) - هو ما يحصل للإنسان من الخفة، لا جرم يكون المراد

(1) أي صاحب مفتاح الكرامة.
(2) الصحاح 1: 172، مادة " طرب ".
(3) المصباح المنير: 370.
(4) القاموس المحيط 4: 372، و 1: 97.
(5) انظر الهامش 5 في الصفحة السابقة.
(6) كذا في " ش " والمصدر، وفي سائر النسخ: التطرب.
(7) مفتاح الكرامة 4: 50.
(8) تقدم عنهما في الصفحة: 291.
294

بالإطراب والتطريب إيجاد هذه الحالة، وإلا لزم الاشتراك اللفظي،
مع أنهم لم يذكروا للطرب معنى آخر ليشتق منه لفظ " التطريب "
و " الإطراب ".
مضافا إلى أن ما ذكر في معنى التطريب من الصحاح والمصباح
إنما هو للفعل القائم بذي الصوت، لا الإطراب القائم بالصوت،
وهو المأخوذ في تعريف الغناء عند المشهور، دون فعل الشخص، فيمكن
أن يكون معنى " تطريب الشخص في صوته ": إيجاد سبب الطرب
- بمعنى الخفة - بمد الصوت وتحسينه وترجيعه، كما أن تفريح الشخص:
إيجاد سبب الفرح بفعل ما يوجبه، فلا ينافي ذلك ما ذكر في معنى الطرب.
وكذا ما في القاموس من قوله: " ما طرب به " يعني ما أوجد به
الطرب.
مع أنه لا مجال لتوهم كون التطريب - بمادته - بمعنى التحسين
والترجيع، إذ لم يتوهم أحد كون الطرب بمعنى الحسن والرجوع،
أو كون التطريب هو نفس المد، فليست هذه الأمور إلا أسبابا للطرب
يراد إيجاده من فعل (1) هذه الأسباب.
هذا كله، مضافا إلى عدم إمكان إرادة [ما ذكر من] (2) المد
والتحسين والترجيع من " المطرب (3) " في قول الأكثر: " إن الغناء مد
الصوت المشتمل على الترجيع المطرب " كما لا يخفى. مع أن مجرد المد

(1) في النسخ: يراد من إيجاده فعل.
(2) مشطوب عليه في " ف ".
(3) كذا في " ف "، " ن "، وفي سائر النسخ: الطرب.
295

والترجيع والتحسين لا يوجب الحرمة قطعا، لما مر وسيجئ.
فتبين من جميع ما ذكرنا أن المتعين حمل " المطرب " في تعريف
الأكثر للغناء على الطرب بمعنى الخفة، وتوجيه كلامهم: بإرادة ما يقتضي
الطرب ويعرض له بحسب وضع نوع ذلك الترجيع، وإن لم يطرب
شخصه لمانع، من غلظة الصوت ومج (1) الأسماع له.
ولقد أجاد في الصحاح حيث فسر الغناء بالسماع، وهو المعروف
عند أهل العرف، وقد تقدم في رواية محمد بن أبي عباد - المستهتر
بالسماع - (2).
وكيف كان، فالمحصل من الأدلة المتقدمة حرمة الصوت المرجع فيه
على سبيل اللهو، فإن اللهو كما يكون بآلة من غير صوت - كضرب
الأوتار ونحوه - وبالصوت في الآلة - كالمزمار والقصب ونحوهما - فقد
يكون بالصوت المجرد.
فكل صوت يكون لهوا بكيفيته ومعدودا من ألحان أهل الفسوق
والمعاصي فهو حرام، وإن فرض أنه ليس بغناء. وكل ما لا يعد لهوا
فليس بحرام، وإن فرض صدق الغناء عليه، فرضا غير محقق، لعدم
الدليل على حرمة الغناء إلا من حيث كونه باطلا ولهوا ولغوا وزورا.
ثم إن " اللهو " يتحقق بأمرين:
أحدهما - قصد التلهي وإن لم يكن لهوا.
والثاني - كونه لهوا في نفسه عند المستمعين وإن لم يقصد به

(1) في " ن "، " خ "، " م "، " ع " و " ص ": مجة.
(2) تقدمت في الصفحة: 289.
296

التلهي.
ثم إن المرجع في " اللهو " إلى العرف، والحاكم بتحققه هو
الوجدان، حيث يجد الصوت المذكور مناسبا لبعض آلات اللهو
وللرقص (1) ولحضور ما تستلذه القوى الشهوية، من كون المغني جارية
أو أمردا ونحو ذلك، ومراتب الوجدان المذكور مختلفة في الوضوح
والخفاء، فقد يحس (2) بعض الترجيع من مبادئ الغناء ولم يبلغه.
وظهر مما ذكرنا أنه لا فرق بين استعمال هذه الكيفية في كلام
حق أو باطل، فقراءة القرآن والدعاء والمراثي بصوت يرجع فيه على
سبيل اللهو لا إشكال في حرمتها ولا في تضاعف عقابها، لكونها معصية
في مقام الطاعة، واستخفافا بالمقرو والمدعو والمرثي.
ومن أوضح تسويلات الشيطان: أن الرجل المتستر (3) قد تدعوه
نفسه - لأجل التفرج والتنزه والتلذذ - إلى ما يوجب نشاطه ورفع
الكسالة عنه من الزمزمة الملهية، فيجعل ذلك في بيت من الشعر المنظوم
في الحكم والمراثي ونحوها، فيتغني به، أو يحضر عند من يفعل ذلك.
وربما يعد مجلسا لأجل إحضار أصحاب الألحان، ويسميه
" مجلس المرثية " فيحصل له بذلك ما لا يحصل له من ضرب الأوتار
من النشاط والانبساط، وربما يبكي في خلال ذلك لأجل الهموم المركوزة

(1) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: والرقص.
(2) كذا في النسخ، والظاهر: يحسب.
(3) المتستر: وهو مقابل المستهتر.
297

في قلبه، الغائبة (1) عن خاطره، من فقد (2) ما تستحضره القوى الشهوية،
ويتخيل أنه بكى في المرثية وفاز بالمرتبة العالية، وقد أشرف على
النزول إلى دركات الهاوية، فلا ملجأ إلا إلى الله من شر الشيطان
والنفس الغاوية.
وربما يجرئ (3) على هذا عروض الشبهة في الأزمنة المتأخرة في
هذه المسألة، تارة من حيث أصل الحكم، وأخرى من حيث الموضوع،
وثالثة من اختصاص الحكم ببعض الموضوع.
أما الأول: فلأنه حكي عن المحدث الكاشاني أنه خص الحرام
منه بما اشتمل على محرم من خارج - مثل اللعب بآلات اللهو، ودخول
الرجال، والكلام بالباطل - وإلا فهو في نفسه غير محرم.
والمحكي من كلامه في الوافي أنه - بعد حكاية الأخبار التي يأتي
بعضها - قال: الذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة اختصاص حرمة
الغناء وما يتعلق به - من الأجر والتعليم والاستماع والبيع والشراء، كلها
بما (4) كان على النحو المتعارف (5) في زمن الخلفاء (6)، من دخول الرجال

(1) في " ف ": الفائتة.
(2) في شرح الشهيدي (71): الظاهر أنه من متعلقات الهموم، يعني الهموم الناشئة
من فقد... إلخ.
(3) كذا في " ف "، " ن " و " ش "، وفي " خ "، " م "، " ع " و " ص ": يجري، وفي
هامش " ن "، " خ "، " م "، " ع " و " ش ": يجتري (خ ل).
(4) في " ف "، " خ "، " ع " و " ص ": مما.
(5) " ص " و " ش ": المعهود المتعارف.
(6) في هامش " ص " وفي المصدر: في زمن بني أمية وبني العباس.
298

عليهن وتكلمهن بالباطل ولعبهن بالملاهي من العيدان والقصب
وغيرهما، دون ما سوى ذلك من أنواعه، كما يشعر به قوله عليه السلام:
" ليست بالتي يدخل عليها الرجال " (1) - إلى أن قال -: وعلى هذا
فلا بأس بالتغني (2) بالأشعار المتضمنة لذكر الجنة والنار والتشويق
إلى دار القرار، ووصف نعم الله الملك الجبار، وذكر العبادات، والترغيب (3)
في الخيرات، والزهد في الفانيات، ونحو ذلك، كما أشير إليه في حديث
الفقيه بقوله: " فذكرتك (4) الجنة " (5) وذلك لأن هذا كله ذكر الله، وربما تقشعر
منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر
الله (6).
وبالجملة، فلا يخفى على أهل الحجى بعد سماع هذه الأخبار تمييز
حق الغناء عن باطله، وأن أكثر ما يتغنى به الصوفية (7) في محافلهم من
قبيل الباطل (8)، انتهى.
أقول: لولا استشهاده بقوله: " ليست بالتي يدخل عليها الرجال "

(1) هذا قسم من رواية أبي بصير، الآتية في الصفحة: 305.
(2) في " ص " والمصدر: بسماع التغني.
(3) كذا في " ص " والمصدر، وفي سائر النسخ: والرغبات.
(4) كذا في " ص "، وفي النسخ: ذكرتك.
(5) راجع الصفحة: 287.
(6) اقتباس من سورة الزمر، الآية 23.
(7) في " ص " والمصدر: المتصوفة.
(8) الوافي 17: 218 - 223.
299

أمكن - بلا تكلف - تطبيق كلامه على ما ذكرناه من أن المحرم هو
الصوت اللهوي الذي يناسبه اللعب بالملاهي والتكلم بالأباطيل ودخول
الرجال على النساء، لحظ (1) السمع والبصر من شهوة الزنا، دون مجرد
الصوت الحسن الذي يذكر أمور الآخرة وينسي شهوات الدنيا.
إلا أن استشهاده بالرواية: " ليست بالتي يدخل عليها الرجال "
ظاهر في التفصيل بين أفراد الغناء لا من حيث نفسه، فإن صوت المغنية
التي تزف العرائس على سبيل اللهو لا محالة، ولذا لو قلنا بإباحته
فيما يأتي كنا قد خصصناه بالدليل.
ونسب القول المذكور إلى صاحب الكفاية - أيضا -، والموجود
فيها - بعد ذكر الأخبار المتخالفة جوازا ومنعا في القرآن وغيره -:
أن الجمع بين هذه الأخبار يمكن بوجهين:
أحدهما - تخصيص تلك الأخبار الواردة المانعة بما عدا القرآن،
وحمل ما يدل على ذم التغني بالقرآن على قراءة تكون على سبيل
اللهو، كما يصنعه الفساق في غنائهم. ويؤيده رواية عبد الله بن سنان
المذكورة: " اقرأوا القرآن بألحان العرب، وإياكم ولحون أهل الفسق
والكبائر [وسيجئ من بعدي أقوام] (2) يرجعون القرآن ترجيع
الغناء " (3).

(1) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: لحق.
(2) في ما عدا " ش " بدل ما بين المعقوفتين: وقوله.
(3) الوسائل 4: 858، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، الحديث الأول، مع
تفاوت يسير.
300

وثانيهما - أن يقال - وحاصل ما قال -: حمل الأخبار المانعة على
الفرد الشائع في ذلك الزمان، قال: والشائع في ذلك الزمان الغناء على
سبيل اللهو من الجواري وغيرهن في مجالس الفجور والخمور والعمل
بالملاهي والتكلم بالباطل وإسماعهن الرجال، فحمل المفرد المعرف - يعني
لفظ " الغناء " - على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيد.
ثم ذكر رواية علي بن جعفر الآتية (1) ورواية " اقرأوا القرآن " المتقدمة،
وقوله: " ليست بالتي يدخل عليها الرجال " (2) مؤيدا لهذا الحمل.
قال: إن فيه إشعارا بأن منشأ المنع في الغناء هو بعض الأمور المحرمة
المقترنة به كالإلتهاء وغيره - إلى أن قال -: إن في عدة من أخبار المنع
عن الغناء إشعارا بكونه لهوا باطلا، وصدق ذلك في القرآن والدعوات
والأذكار - المقروة بالأصوات الطيبة المذكرة المهيجة للأشواق إلى العالم
الأعلى - محل تأمل.
على أن التعارض واقع بين أخبار الغناء والأخبار الكثيرة المتواترة
الدالة على فضل قراءة القرآن والأدعية والأذكار (3) مع عمومها لغة،
وكثرتها، وموافقتها للأصل، والنسبة بين الموضوعين عموم من وجه،
فإذا لا ريب في تحريم الغناء على سبيل اللهو والاقتران (4) بالملاهي
ونحوهما.

(1) تأتي في الصفحة: 304.
(2) الآتية في الصفحة: 305.
(3) في " ص " زيادة: " بالصوت الحسن " والظاهر أنها زيدت لاقتضاء السياق.
(4) في " ن "، " خ "، " م " و " ع ": الإقران.
301

ثم إن ثبت إجماع في غيره، وإلا بقي حكمه على الإباحة، وطريق
الاحتياط واضح (1)، انتهى.
أقول: لا يخفى أن الغناء - على ما استفدنا من الأخبار، بل فتاوى
الأصحاب وقول أهل اللغة - هو من الملاهي، نظير ضرب الأوتار
والنفخ في القصب والمزمار، وقد تقدم التصريح بذلك في رواية الأعمش
- الواردة في الكبائر - فلا يحتاج في حرمته إلى أن يقترن بالمحرمات
الأخر، كما هو ظاهر بعض ما تقدم من المحدثين المذكورين (2).
نعم، لو فرض كون الغناء موضوعا لمطلق الصوت الحسن
- كما يظهر من بعض ما تقدم في تفسير معنى التطريب (3) - توجه ما ذكراه،
بل (4) لا أظن أحدا يفتي بإطلاق حرمة الصوت الحسن.
والأخبار بمدح الصوت الحسن وأنه من أجمل الجمال، واستحباب
القراءة والدعاء به، وأنه حلية القرآن، واتصاف الأنبياء

(1) كفاية الأحكام: 86، مع اختلاف كثير. قال الشهيدي في الشرح (71): ينبغي
نقل عبارة كفاية الأحكام بعين ألفاظها كي ترى أن المصنف كيف غير في النقل
فحصل من جهته ما تراه من الإغلاق والاضطراب، حتى لا تغتر في المنقول
بعظم شأن الناقل، بل تراجع إلى الكتاب المنقول منه، كما أوصى بذلك كاشف
اللثام في وصاياه، ولعمري أنه أجاد فيما أوصاه.
(2) الكاشاني والسبزواري.
(3) مثل ما تقدم عن الصحاح في الصفحة: 294.
(4) كذا في النسخ، والمناسب: لكن لا أظن.
302

والأئمة صلوات الله عليهم [به] (1) في غاية الكثرة (2) وقد جمعها في الكفاية بعد
ما ذكر: أن غير واحد من الأخبار يدل على جواز الغناء في القرآن،
بل استحبابه، بناء على دلالة الروايات على استحباب حسن الصوت
والتحزين والترجيع به، والظاهر أن شيئا منها لا يوجد بدون الغناء على
ما استفيد من كلام أهل اللغة وغيرهم على ما فصلناه في بعض
رسائلنا (3)، انتهى.
وقد صرح في شرح قوله عليه السلام: " اقرأوا القرآن بألحان العرب "
أن اللحن هو الغناء (4).
وبالجملة، فنسبة الخلاف إليه في معنى الغناء أولى من نسبة
التفصيل إليه، بل ظاهر أكثر كلمات المحدث الكاشاني أيضا ذلك، لأنه
في مقام نفي التحريم عن الصوت الحسن المذكر لأمور الآخرة المنسي
لشهوات الدنيا.
نعم، بعض كلماتهما ظاهرة في ما نسب إليهما من التفصيل في
الصوت اللهوي الذي ليس هو عند التأمل تفصيلا، بل قولا بإطلاق

(1) " به " من مصححة " ش " فقط.
(2) قد أورد هذه الروايات الكليني قدس سره في الكافي 2: 614 - 616 في باب
ترتيل القرآن بالصوت الحسن، وأورد بعضها في الوسائل 4: 859، الباب 24
من أبواب قراءة القرآن، لكن لم نقف على خبر يدل على استحباب الدعاء
بالصوت الحسن، فراجع.
(3) كفاية الأحكام: 85.
(4) لم نجد التصريح بذلك في كفاية الأحكام، فراجع، ويحتمل بعيدا قراءة " صرح "
بصيغة المجهول.
303

جواز الغناء وأنه لا حرمة فيه أصلا، وإنما الحرام ما يقترن به من
المحرمات، فهو - على تقدير صدق نسبته إليهما - في غاية الضعف
لا شاهد له يقيد الإطلاقات الكثيرة المدعى تواترها، إلا بعض
الروايات التي ذكراها (1):
منها: ما عن الحميري - بسند لم يبعد في الكفاية إلحاقه
بالصحاح (2) - عن علي بن جعفر عن أخيه عليهما السلام قال: " سألته عن
الغناء في الفطر والأضحى والفرح، قال: لا بأس ما لم يعص به " (3).
والمراد به - ظاهرا - ما لم يصر الغناء سببا للمعصية ولا مقدمة
للمعاصي المقارنة له.
وفي كتاب علي بن جعفر، عن أخيه، قال: " سألته عن الغناء هل
يصلح في الفطر والأضحى والفرح؟ قال: لا بأس ما لم يزمر به " (4).
والظاهر أن المراد بقوله: " لم يزمر به " (5) أي لم يلعب (6) معه
بالمزمار، أو ما لم يكن الغناء بالمزمار ونحوه من آلات الأغاني.

(1) ليس في النسخة التي بأيدينا من كفاية الأحكام أثر من الروايات التالية،
ولم نقف عليها في الوافي أيضا في أبواب وجوه المكاسب.
(2) لم تذكر هذه الرواية في كفاية الأحكام، فضلا عن الكلام في سندها.
(3) قرب الإسناد: 294، الحديث 1158، وعنه في الوسائل 12: 85، الباب 15
من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
(4) مسائل علي بن جعفر: 156، الحديث 219.
(5) كذا في " ف "، وفي سائر النسخ: ما لم يزمر.
(6) في " ش ": أي ما لم يزمر.
304

ورواية أبي بصير، قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام (1) عن كسب
المغنيات، فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس
لا بأس به، وهو قول الله عز وجل: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث
ليضل عن سبيل الله) * " (2).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " قال عليه السلام:
أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، ليست بالتي يدخل عليها
الرجال " (3).
فإن ظاهر الثانية وصريح الأولى: أن حرمة الغناء منوط بما يقصد منه،
فإن كان المقصود إقامة مجلس اللهو حرم، وإلا فلا.
وقوله عليه السلام في الرواية: " وهو قول الله " إشارة إلى ما ذكره
من التفصيل، ويظهر منه (4) أن كلا الغنائين من لهو الحديث، لكن يقصد
بأحدهما إدخال الناس في المعاصي والإخراج عن سبيل الحق وطريق
الطاعة، دون الآخر.
وأنت خبير بعدم مقاومة هذه الأخبار للإطلاقات، لعدم ظهور
يعتد به في دلالتها، فإن الرواية الأولى لعلي بن جعفر ظاهرة في تحقق
المعصية بنفس الغناء، فيكون المراد بالغناء مطلق الصوت المشتمل على

(1) كذا في الوسائل أيضا، وفي " ص " والكافي (5: 119، الحديث الأول)،
والتهذيب (6: 358، الحديث 1024)، والاستبصار (3: 62، الحديث 207):
سألت أبا جعفر عليه السلام.
(2) الوسائل 12: 84، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
(3) الوسائل 12: 85، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.
(4) في شرح الشهيدي (76): يعني من قوله عليه السلام: " وهو قول الله ".
305

الترجيع، وهو قد يكون مطربا ملهيا فيحرم، وقد لا ينتهي إلى ذلك
الحد فلا يعصى به.
ومنه يظهر توجيه الرواية الثانية لعلي بن جعفر، فإن معنى قوله:
" لم يزمر به " لم يرجع فيه ترجيع المزمار، أو لم يقصد منه قصد المزمار،
أو أن المراد من " الزمر " التغني على سبيل اللهو.
وأما رواية أبي بصير - مع ضعفها سندا بعلي بن أبي حمزة البطائني -
فلا تدل إلا على كون غناء المغنية التي يدخل (1) عليها الرجال داخلا
في لهو الحديث في الآية، وعدم دخول غناء التي تدعى إلى الأعراس
فيه (2)، وهذا لا يدل على دخول ما لم يكن منهما (3) في القسم المباح،
مع كونه من لهو الحديث قطعا. فإذا فرضنا أن المغني يغني بأشعار باطلة،
فدخول هذا في الآية أقرب من خروجه.
وبالجملة، فالمذكور في الرواية (4) تقسيم غناء المغنية باعتبار
ما هو الغالب من أنها تطلب (5) للتغني، إما في المجالس المختصة بالنساء
- كما في الأعراس -، وإما للتغني في مجالس الرجال.
نعم، الإنصاف أنه لا يخلو (6) من إشعار بكون المحرم هو الذي
يدخل فيه الرجال على المغنيات، لكن المنصف لا يرفع اليد عن

(1) في " ف "، " خ "، " م "، و " ع " وظاهر " ن ": لم يدخل.
(2) كذا في مصححة " ص " و " ن "، وفي سائر النسخ: فيها.
(3) في " خ "، " م "، " ع "، " ص " و " ش " وظاهر " ن ": منها.
(4) كذا في " ش " ومصححة " ص "، وفي " ف "، " ن "، " خ "، " م " و " ع ": الآية.
(5) كذا في " ص " و " ش "، وفي غيرهما: من أنه يطلب.
(6) كذا في النسخ، والمناسب: أنها لا تخلو، كما في مصححة " ص ".
306

الإطلاقات لأجل هذا الإشعار، خصوصا مع معارضته بما هو كالصريح
في حرمة غناء المغنية ولو لخصوص مولاها، كما تقدم من قوله عليه السلام:
" قد يكون للرجل الجارية تلهيه، وما ثمنها إلا ثمن الكلب " (1)، فتأمل.
وبالجملة، فضعف هذا القول - بعد ملاحظة النصوص - أظهر من
أن يحتاج إلى الإظهار. وما أبعد بين هذا وبين ما سيجئ من فخر الدين (2)
من عدم تجويز الغناء بالأعراس (3)، لأن الروايتين وإن كانتا نصين
في الجواز، إلا أ نهما لا تقاومان الأخبار المانعة، لتواترها (4).
وأما ما ذكره في الكفاية من تعارض أخبار المنع للأخبار الواردة
في فضل قراءة القرآن (5) فيظهر فساده عند التكلم في التفصيل.
وأما الثاني - وهو الاشتباه في الموضوع -: فهو ما ظهر من بعض
من لا خبرة له من طلبة زماننا - تقليدا لمن سبقه من أعياننا - من منع
صدق الغناء في المراثي، وهو عجيب! فإنه إن أراد أن الغناء مما يكون
لمواد الألفاظ دخل فيه، فهو تكذيب للعرف واللغة.
أما اللغة فقد عرفت، وأما العرف فلأنه لا ريب أن من سمع
من بعيد صوتا مشتملا على الإطراب المقتضي للرقص أو ضرب آلات

(1) تقدم في الصفحة: 290.
(2) يجئ في الصفحة: 314 عنه وعن جماعة من الأعلام، فلا وجه لتخصيصه
بالذكر، اللهم إلا بملاحظة التعليل المذكور.
(3) في مصححة " ص ": في الأعراس. وهو الأنسب.
(4) التعليل من فخر الدين بتفاوت في العبارة، انظر إيضاح الفوائد 1: 405.
(5) لم نجد التصريح بالتعارض، لكن يستفاد من مضمون كلامه، انظر كفاية الأحكام:
85 - 86.
307

اللهو لا يتأمل في إطلاق الغناء عليه إلى أن يعلم مواد الألفاظ.
وإن أراد أن الكيفية التي يقرأ بها للمرثية لا يصدق عليها تعريف
الغناء، فهو تكذيب للحس.
وأما الثالث - وهو اختصاص الحرمة ببعض أفراد الموضوع -: فقد
حكى في جامع المقاصد قولا - لم يسم قائله - باستثناء الغناء في المراثي
نظير استثنائه في الأعراس ولم يذكر وجهه (1)، وربما وجهه بعض من
متأخري المتأخرين (2) بعمومات (3) أدلة الإبكاء والرثاء، وقد أخذ ذلك
مما تقدم من صاحب الكفاية من الاستدلال بإطلاق أدلة قراءة القرآن (4).
وفيه: أن أدلة المستحبات لا تقاوم أدلة المحرمات، خصوصا التي
تكون من مقدماتها، فإن مرجع أدلة الاستحباب إلى استحباب إيجاد الشئ
بسببه المباح، لا بسببه المحرم، ألا ترى أنه لا يجوز إدخال السرور
في قلب المؤمن وإجابته بالمحرمات، كالزنا واللواط والغناء؟
والسر في ذلك أن دليل الاستحباب إنما يدل على كون الفعل
لو خلي وطبعه خاليا عما يوجب لزوم أحد طرفيه، فلا ينافي ذلك طرو
عنوان من الخارج يوجب لزوم فعله أو تركه - كما إذا صار مقدمة
لواجب، أو صادفه عنوان محرم - فإجابة المؤمن وإدخال السرور في

(1) جامع المقاصد 4: 23.
(2) مثل المحقق النراقي في المستند 2: 644.
(3) في " ف "، " خ "، " م "، " ع " و " ص ": لعمومات.
(4) في شرح الشهيدي (77): ليس في كفاية الأحكام من الاستدلال به أثر في
كتابي التجارة والشهادة.
308

قلبه ليس في نفسه شئ ملزم لفعله أو تركه، فإذا تحقق في ضمن الزنا
فقد طرأ عليه عنوان ملزم لتركه، كما أنه إذا أمر به الوالد أو السيد
طرأ عليه عنوان ملزم لفعله.
والحاصل: أن جهات الأحكام الثلاثة - أعني الإباحة والاستحباب
والكراهة - لا تزاحم جهة الوجوب أو الحرمة، فالحكم لهما مع اجتماع
جهتيهما مع إحدى الجهات الثلاث.
ويشهد بما ذكرنا - من عدم تأدي المستحبات في ضمن المحرمات -
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " اقرأوا القرآن بألحان العرب، وإياكم ولحون أهل
الفسق (1) والكبائر، وسيجئ بعدي أقوام يرجعون ترجيع الغناء والنوح
والرهبانية، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، وقلوب من يعجبه شأنهم " (2).
قال في الصحاح: اللحن واحد الألحان واللحون، ومنه الحديث:
" اقرأوا القرآن بلحون العرب "، وقد لحن في قراءته: إذا طرب بها
وغرد، وهو ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءة أو غناء، انتهى (3).
وصاحب الحدائق جعل اللحن في هذا الخبر بمعنى اللغة، أي بلغة
العرب (4) وكأنه أراد باللغة " اللهجة "، وتخيل أن إبقاءه على معناه يوجب
ظهور الخبر في جواز الغناء في القرآن.

(1) في النسخ: الفسوق، وصححناه على ما ورد في الصفحة: 296 و 305.
(2) الوسائل 4: 858، الباب 24 من أبواب قراءة القرآن، الحديث الأول، مع
تفاوت يسير.
(3) الصحاح 6: 2193، مادة " لحن ".
(4) الحدائق 18: 114.
309

وفيه: ما تقدم من أن مطلق اللحن إذا لم يكن على سبيل اللهو
ليس غناء، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وإياكم ولحون أهل الفسق " نهي عن
الغناء في القرآن.
ثم إن في قوله: " لا يجوز تراقيهم " إشارة إلى أن مقصودهم ليس
تدبر معاني القرآن، بل هو مجرد الصوت المطرب.
وظهر مما ذكرنا أنه لا تنافي بين حرمة الغناء في القرآن وما ورد
من قوله صلوات الله عليه: " ورجع بالقرآن صوتك، فإن الله يحب الصوت
الحسن " (1) فإن المراد بالترجيع ترديد الصوت في الحلق، ومن المعلوم أن
مجرد ذلك لا يكون غناء إذا لم يكن على سبيل اللهو، فالمقصود من
الأمر بالترجيع أن لا يقرأ كقراءة عبائر الكتب عند المقابلة، لكن مجرد
الترجيع لا يكون غناء، ولذا جعله نوعا منه في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
" يرجعون القرآن ترجيع الغناء ".
وفي محكي شمس العلوم: أن الترجيع ترديد الصوت مثل ترجيع
أهل الألحان والقراءة والغناء (2)، انتهى.
وبالجملة، فلا تنافي بين الخبرين، ولا بينهما وبين ما دل على
حرمة الغناء حتى في القرآن، كما تقدم زعمه من صاحب الكفاية تبعا
- في بعض ما ذكره من عدم اللهو في قراءة القرآن وغيره - لما ذكره

(1) الوسائل 4: 859، الباب 24 أبواب قراءة القرآن، الحديث 5.
(2) شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم - في اللغة - ثمانية عشر جزءا،
كما في كشف الظنون، وفي بغية الوعاة: في ثمانية أجزاء، وهو لنشوان بن سعيد
ابن نشوان اليمني الحميري، المتوفى سنة 573، انظر الذريعة 14: 224.
310

المحقق الأردبيلي رحمه الله، حيث إنه - بعدما وجه استثناء المراثي وغيرها
من الغناء، بأنه ما ثبت الإجماع إلا في غيرها، والأخبار ليست
بصحيحة صريحة في التحريم مطلقا - أيد استثناء المراثي بأن البكاء
والتفجع مطلوب مرغوب، وفيه ثواب عظيم، والغناء معين على ذلك،
وأنه متعارف دائما في بلاد المسلمين من زمن المشايخ إلى زماننا هذا من
غير نكير. ثم أيده بجواز النياحة وجواز أخذ الأجر عليها،
والظاهر أنها لا تكون إلا معه، وبأن تحريم الغناء للطرب على الظاهر،
وليس في المراثي طرب، بل ليس إلا الحزن (1)، انتهى.
وأنت خبير بأن شيئا مما ذكره لا ينفع في جواز الغناء على الوجه
الذي ذكرناه.
أما كون الغناء معينا على البكاء والتفجع، فهو ممنوع، بناء على
ما عرفت من كون الغناء هو " الصوت اللهوي "، بل وعلى ظاهر تعريف
المشهور من " الترجيع المطرب "، لأن الطرب الحاصل منه إن كان
سرورا فهو مناف للتفجع، لا معين، وإن كان حزنا فهو على ما هو
المركوز في النفس الحيوانية من فقد المشتهيات النفسانية، لا على
ما أصاب سادات الزمان، مع أنه على تقدير الإعانة لا ينفع في جواز
الشئ كونه مقدمة لمستحب أو مباح، بل لا بد من ملاحظة عموم (2)
دليل الحرمة له، فإن كان فهو، وإلا فيحكم بإباحته، للأصل.
وعلى أي حال، فلا يجوز التمسك في الإباحة بكونه مقدمة لغير حرام،

(1) مجمع الفائدة 8: 61 - 63.
(2) كلمة " عموم " من " ش ".
311

لما عرفت.
ثم إنه يظهر من هذا ومما (1) ذكر أخيرا - من أن المراثي ليس فيها
طرب - أن نظره إلى المراثي المتعارفة لأهل الديانة التي لا يقصدونها
إلا للتفجع، وكأنه لم يحدث في عصره المراثي التي يكتفي بها أهل اللهو
والمترفون من الرجال والنساء (2) عن حضور مجالس اللهو وضرب العود
والأوتار والتغني بالقصب والمزمار، كما هو الشائع في زماننا الذي
قد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنظيره في قوله: " يتخذون القرآن مزامير " (3)،
كما أن زيارة سيدنا ومولانا أبي عبد الله عليه السلام صار سفرها من أسفار
اللهو والنزهة لكثير من المترفين، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنظيره
في سفر الحج، وأنه " يحج أغنياء أمتي للنزهة، والأوساط للتجارة،
والفقراء للسمعة " (4) وكأن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم - كالكتاب العزيز - وارد
في مورد وجار في نظيره.
والذي أظن أن ما ذكرنا في معنى الغناء المحرم من أنه " الصوت
اللهوي " أن (5) هؤلاء (6) وغيرهم غير مخالفين فيه، وأما ما لم يكن

(1) كذا في " ف "، وفي غيره: وما.
(2) في أكثر النسخ زيادة: بها.
(3) الوسائل 11: 278، الباب 49 من أبواب جهاد النفس، الحديث 22، ولفظه:
" يتعلمون القرآن لغير الله فيتخذونه مزامير ".
(4) نفس المصدر.
(5) لا يخفى أن العبارة لا تخلو من إغلاق.
(6) الكاشاني والسبزواري والأردبيلي.
312

على جهة (1) اللهو المناسب لسائر آلاته، فلا دليل على تحريمه لو فرض
شمول " الغناء " له، لأن مطلقات الغناء منزلة على ما دل على إناطة الحكم
فيه باللهو والباطل من الأخبار المتقدمة، خصوصا مع انصرافها في أنفسها
- كأخبار المغنية - إلى هذا الفرد.
بقي الكلام فيما استثناه المشهور من الغناء، وهو أمران:
أحدهما - الحداء - بالضم - كدعاء: صوت يرجع فيه للسير بالإبل.
وفي الكفاية: أن المشهور استثناؤه (2) وقد صرح بذلك في شهادات
الشرائع والقواعد، وفي الدروس (3).
وعلى تقدير كونه من الأصوات اللهوية - كما يشهد به استثناؤهم
إياه عن الغناء بعد أخذهم الإطراب في تعريفه - فلم أجد ما يصلح
لاستثنائه مع تواتر الأخبار بالتحريم، عدا رواية نبوية - ذكرها
في المسالك (4) - من تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن رواحة
حيث حدا للإبل، وكان حسن الصوت (5). وفي دلالته وسنده ما لا يخفى.
الثاني - غناء المغنية في الأعراس إذا لم يكتنف بها (6) محرم آخر
- من التكلم بالأباطيل، واللعب بآلات الملاهي المحرمة، ودخول

(1) في " ف ": " وجه ".
(2) كفاية الأحكام: 86.
(3) الشرائع 4: 128، القواعد 2: 236، الدروس 2: 126.
(4) المسالك (الطبعة الحجرية) 2: 323.
(5) رواها البيهقي في سننه 10: 227، وفيه: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعبد الله
ابن رواحة: " حرك بالنوق " فاندفع يرتجز، وكان عبد الله جيد الحداء.
(6) كذا في النسخ، وفي مصححة " ص ": به. وهو المناسب.
313

الرجال على النساء - والمشهور استثناؤه، للخبرين المتقدمين عن
أبي بصير في أجر المغنية التي تزف العرائس (1)، ونحوهما ثالث عنه
أيضا (2)، وإباحة الأجر لازمة لإباحة الفعل.
ودعوى: أن الأجر لمجرد الزف لا للغناء عنده، مخالفة للظاهر.
لكن في سند الروايات " أبو بصير " وهو غير صحيح (3)، والشهرة
على وجه توجب الانجبار غير ثابتة، لأن المحكي عن المفيد رحمه الله (4)
والقاضي (5) وظاهر الحلبي (6) وصريح الحلي والتذكرة والإيضاح (7)، بل كل
من لم يذكر الاستثناء بعد التعميم: المنع.
لكن الإنصاف، أن سند الروايات وإن انتهت إلى " أبي بصير "
إلا أنه لا يخلو من وثوق، فالعمل بها - تبعا للأكثر - غير بعيد،
وإن كان الأحوط - كما في الدروس (8) - الترك. والله العالم.

(1) تقدما في الصفحة: 305.
(2) الوسائل 12: 84، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
(3) حكمه قدس سره بعدم صحة الروايات معللا بأن في سندها " أبا بصير " فيه
ما لا يخفى.
(4) لم يصرح المفيد قدس سره بذلك، بل هو ممن لم يذكر الاستثناء بعد التعميم،
انظر المقنعة: 588.
(5) عده في المكروهات، انظر المهذب 1: 346.
(6) الكافي في الفقه: 281.
(7) السرائر 2: 224، التذكرة 2: 581، إيضاح الفوائد 1: 405.
(8) لم نقف عليه في الدروس، ونسبه إليه السيد العاملي في مفتاح الكرامة
4: 53، انظر الدروس 3: 162.
314

المسألة الرابعة عشر
الغيبة حرام بالأدلة الأربعة،
ويدل عليه من الكتاب قوله تعالى:
* (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) * (1) فجعل
المؤمن أخا، وعرضه كلحمه، والتفكه به أكلا، وعدم شعوره بذلك بمنزلة
حالة موته.
وقوله تعالى: * (ويل لكل همزة لمزة) * (2) وقوله تعالى: * (لا يحب الله
الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * (3) وقوله تعالى: * (إن الذين يحبون
أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم) * (4).
ويدل عليه من الأخبار ما لا يحصى:
فمنها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدة طرق: " أن الغيبة
أشد من الزنا، وأن الرجل يزني فيتوب ويتوب الله عليه، وأن صاحب

(1) الحجرات: 12.
(2) الهمزة: 1.
(3) النساء: 148.
(4) النور: 19.
315

الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه " (1).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: أنه خطب يوما فذكر الربا وعظم شأنه، فقال:
" إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم (2) من ستة وثلاثين زنية،
وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " (3).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: " من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل الله
صلاته ولا صيامه أربعين صباحا، إلا أن يغفر له صاحبه " (4).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: " من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع الله بينهما
في الجنة، ومن اغتاب مؤمنا بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما، وكان
المغتاب خالدا في النار وبئس المصير " (5).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: " كذب من زعم أنه ولد من حلال وهو يأكل
لحوم الناس بالغيبة، فاجتنب (6) الغيبة فإنها إدام كلاب النار " (7).

(1) الوسائل 8: 598، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 9، مع
اختلاف في العبارة، ولعله قدس سره أراد النقل بالمعنى.
(2) في تنبيه الخواطر: أعظم عند الله في الخطيئة.
(3) تنبيه الخواطر: 124، ونقل ذيله المحدث النوري في مستدرك الوسائل
9: 119، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 25.
(4) مستدرك الوسائل 9: 122، الباب 132، الحديث 34، وفيه بدل " أربعين
صباحا ": " أربعين يوما وليلة ".
(5) الوسائل 8: 602، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 20.
(6) في المصدر: اجتنبوا.
(7) مستدرك الوسائل 9: 121، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 31.
316

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: " من مشى في غيبة أخيه (1) وكشف عورته
كانت أول خطوة خطاها وضعها في جهنم " (2).
وروي: " أن المغتاب إذا تاب فهو آخر من يدخل الجنة،
وإن لم يتب فهو أول من يدخل النار " (3).
وعنه عليه السلام: " أن الغيبة حرام على كل مسلم... وأن الغيبة لتأكل
الحسنات كما تأكل النار الحطب " (4).
وأكل الحسنات إما أن يكون على وجه الإحباط، أو لاضمحلال
ثوابها في جنب عقابه، أو لأنها تنقل الحسنات إلى المغتاب، كما في
غير واحد من الأخبار.
ومنها النبوي: " يؤتى بأحد يوم القيامة فيوقف بين يدي الرب عز وجل،
ويدفع إليه كتابه، فلا يرى حسناته فيه، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي
لا أرى فيه حسناتي! فيقال له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك
باغتياب الناس، ثم يؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه فيرى فيه طاعات
كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي فإني ما عملت هذه الطاعات!

(1) في المصدر: في عيب أخيه.
(2) الوسائل 8: 602، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 21.
(3) البحار 75: 257، ضمن الحديث 48، عن مصباح الشريعة، ورواه - باختلاف
في اللفظ - المحدث النوري في مستدرك الوسائل 9: 126، الباب 132 من
أبواب أحكام العشرة، الحديث 50، عن لب اللباب، للقطب الراوندي.
(4) البحار 75: 257، الحديث 48.
317

فيقال له: إن فلانا اغتابك فدفع حسناته إليك... الخبر (1) " (2).
ومنها: ما ذكره كاشف الريبة رحمه الله من (3) رواية عبد الله (4)
ابن سليمان النوفلي - الطويلة - عن الصادق عليه السلام، وفيها: عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أدنى الكفر أن يسمع الرجل من أخيه كلمة
فيحفظها عليه يريد أن يفضحه بها، أولئك لا خلاق لهم "، وحدثني
أبي، عن آبائه، عن علي عليه السلام أنه: " من قال في مؤمن ما رأته عيناه
أو سمعت أذناه مما يشينه ويهدم مروته، فهو من الذين قال الله عز وجل:
* (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم) * " (5).
ثم ظاهر هذه الأخبار كون الغيبة من الكبائر - كما ذكره
جماعة (6) - بل أشد من بعضها. وعد في غير واحد من الأخبار
من الكبائر الخيانة (7)، ويمكن إرجاع الغيبة إليها، فأي خيانة أعظم

(1) كذا في النسخ، والظاهر زيادة " الخبر "، إذ الحديث مذكور بتمامه.
(2) مستدرك الوسائل 9: 121، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث
30، مع اختلاف في بعض الألفاظ.
(3) كلمة " من " من " ن " و " ش ".
(4) في " ص " و " ش ": عن عبد الله.
(5) كشف الريبة: 130، الحديث 10 من الخاتمة (ما كتبه الصادق عليه السلام
إلى عبد الله النجاشي)، وعنه في الوسائل 12: 155، الباب 49 من أبواب
ما يكتسب به، الحديث الأول.
(6) منهم الشهيد الثاني في الروضة البهية 3: 129، وكشف الريبة: 52، ونسبه
السيد المجاهد في المناهل (261) إلى المقدس الأردبيلي أيضا واستجوده.
(7) الوسائل 11: 261 - 262، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، الحديث 33 و 36.
318

من التفكه بلحم الأخ على غفلة منه وعدم شعور؟
وكيف كان، فما سمعناه من بعض من عاصرناه من الوسوسة في
عدها من الكبائر أظنها في غير المحل.
ثم إن ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن، فيجوز
اغتياب المخالف، كما يجوز لعنه.
وتوهم عموم الآية - كبعض الروايات (1) - لمطلق المسلم، مدفوع
بما علم بضرورة المذهب من عدم احترامهم وعدم جريان أحكام
الإسلام عليهم إلا قليلا مما يتوقف استقامة نظم معاش المؤمنين عليه،
مثل عدم انفعال ما يلاقيهم بالرطوبة، وحل ذبائحهم ومناكحتهم (2)
وحرمة دمائهم لحكمة دفع الفتنة، ونسائهم (3)، لأن لكل قوم نكاحا،
ونحو ذلك.
مع أن التمثيل المذكور في الآية مختص بمن ثبت أخوته، فلا يعم
من وجب التبري عنه.
وكيف كان، فلا إشكال في المسألة بعد ملاحظة الروايات الواردة
في الغيبة، وفي حكمة حرمتها، وفي حال غير المؤمن في نظر الشارع.
ثم الظاهر دخول الصبي المميز المتأثر بالغيبة لو سمعها، لعموم
بعض الروايات المتقدمة وغيرها الدالة على حرمة اغتياب الناس وأكل

(1) مثل النبويين المتقدمين: " من اغتاب مسلما أو مسلمة... " و " إن أربى الربا
عرض الرجل المسلم " ونحوهما.
(2) في " ف ": مناكحهم.
(3) في " خ "، " م "، " ع " و " ص ": فسادهم.
319

لحومهم (1) مع صدق " الأخ " عليه، كما يشهد به قوله تعالى: * (وإن تخالطوهم
فإخوانكم) * (2) مضافا إلى إمكان الاستدلال بالآية (3) وإن كان الخطاب
للمكلفين، بناء على عد أطفالهم منهم تغليبا، وإمكان دعوى صدق
" المؤمن " عليه مطلقا أو في الجملة.
ولعله لما ذكرنا صرح في كشف الريبة بعدم الفرق بين الصغير
والكبير (4)، وظاهره الشمول لغير المميز أيضا.
ومنه يظهر حكم المجنون، إلا أنه صرح بعض الأساطين (5)
باستثناء من لا عقل له ولا تمييز، معللا بالشك في دخوله تحت أدلة
الحرمة. ولعله من جهة أن الإطلاقات منصرفة إلى من يتأثر لو سمع،
وسيتضح ذلك زيادة على ذلك.

(1) مثل قول الصادق عليه السلام: " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يغتابه
ولا يغشه ولا يحرمه "، وقول أمير المؤمنين عليه السلام: " يا نوف! كذب من زعم
أنه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة "، انظر الوسائل 8: 597 - 600،
الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 5 و 16.
(2) البقرة: 220.
(3) وهي قوله تعالى: * (ولا يغتب بعضكم بعضا...) * الحجرات: 12.
(4) كشف الريبة: 111.
(5) صرح به كاشف الغطاء قدس سره في شرحه على القواعد (مخطوط): 36.
320

بقي الكلام في أمور:
الأول
الغيبة: اسم مصدر ل‍ " اغتاب " أو مصدر ل‍ " غاب ".
ففي المصباح: اغتابه، إذا ذكره بما يكرهه من العيوب وهو حق،
والاسم: الغيبة (1).
وعن القاموس: غابه، أي عابه وذكره بما فيه من السوء (2).
وعن النهاية: أن يذكر الإنسان في غيبته بسوء مما يكون فيه (3).
والظاهر من الكل - خصوصا القاموس المفسر لها أولا بالعيب -
أن المراد ذكره في مقام الانتقاص، والمراد بالموصول (4) هو نفس النقص
الذي فيه.
والظاهر من " الكراهة " في عبارة المصباح كراهة وجوده، ولكنه
غير مقصود قطعا. فالمراد إما كراهة ظهوره ولو لم يكره وجوده
- كالميل إلى القبائح - وإما كراهة ذكره بذلك العيب.
وعلى هذا التعريف دلت جملة من الأخبار، مثل
قوله صلى الله عليه وآله وسلم - وقد سأله أبو ذر عن الغيبة -: " إنها ذكرك أخاك

(1) المصباح المنير: 458، مادة " غيب ".
(2) القاموس المحيط 1: 112، مادة " غيب ".
(3) النهاية لابن الأثير 3: 399، مادة " غيب ".
(4) أي " ما " الموصولة في التعاريف المتقدمة.
321

بما يكرهه " (1).
وفي نبوي آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: " أتدرون ما الغيبة؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره " (2).
ولذا قال في جامع المقاصد: أن حقيقة (3) الغيبة - على ما في الأخبار -
أن تقول في أخيك ما يكرهه (4) مما هو فيه (5).
والمراد ب‍ " ما يكرهه " - كما تقدم في عبارة المصباح - ما يكره ظهوره،
سواء كره وجوده كالبرص والجذام، أم لا، كالميل إلى القبائح.
ويحتمل أن يراد بالموصول نفس الكلام الذي يذكر الشخص به،
ويكون كراهته إما لكونه إظهارا للعيب، وإما لكونه صادرا على جهة
المذمة والاستخفاف والاستهزاء وإن لم يكن العيب مما يكره إظهاره،
لكونه ظاهرا بنفسه، وإما لكونه مشعرا بالذم وإن لم يقصد المتكلم الذم
به، كالألقاب المشعرة بالذم.
قال في الصحاح: الغيبة أن يتكلم خلف إنسان مستور بما يغمه
لو سمعه (6). وظاهره التكلم بكلام يغمه لو سمعه.

(1) الوسائل 8: 598، الباب 151 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 9، وفيه:
بما يكره.
(2) تنبيه الخواطر: 126، وكشف الريبة: 52.
(3) في " ش " والمصدر: حد الغيبة.
(4) في المصدر زيادة: لو سمعه.
(5) جامع المقاصد 4: 27.
(6) الصحاح 1: 196، مادة " غيب ".
322

بل في كلام بعض من قارب عصرنا أن الإجماع والأخبار متطابقان
على أن حقيقة الغيبة أن يذكر الغير بما يكره لو سمعه، سواء كان بنقص
في نفسه أو بدنه، أو دينه أو دنياه، أو في ما يتعلق به من الأشياء (1).
وظاهره أيضا إرادة الكلام المكروه.
وقال الشهيد الثاني في كشف الريبة: إن الغيبة ذكر الإنسان
في حال غيبته بما يكره نسبته إليه مما يعد نقصا في العرف بقصد الانتقاص
والذم (2).
ويخرج على هذا التعريف ما إذا ذكر الشخص بصفات ظاهرة
يكون وجودها نقصا مع عدم قصد انتقاصه بذلك، مع أنه داخل في
التعريف عند الشهيد رحمه الله أيضا، حيث عد من الغيبة ذكر بعض
الأشخاص بالصفات المعروف بها، كالأعمش والأعور، ونحوهما. وكذلك
ذكر عيوب الجارية التي يراد شراؤها إذا لم يقصد من ذكرها إلا بيان
الواقع، وغير ذلك مما ذكره هو وغيره من المستثنيات.
ودعوى أن قصد الانتقاص يحصل بمجرد بيان النقائص، موجبة
لاستدراك ذكره بعد قوله: " مما يعد نقصا ".
والأولى بملاحظة ما تقدم من الأخبار وكلمات الأصحاب - بناء
على إرجاع " الكراهة " إلى الكلام المذكور به، لا إلى الوصف -
ما تقدم من أن الغيبة أن يذكر الإنسان بكلام يسوؤه، إما بإظهار
عيبه المستور وإن لم يقصد انتقاصه، وإما بانتقاصه بعيب غير مستور،

(1) لم نقف على قائله.
(2) كشف الريبة: 51.
323

إما بقصد المتكلم، أو بكون الكلام بنفسه منقصا له، كما إذا اتصف
الشخص بالألقاب المشعرة بالذم.
نعم، لو أرجعت " الكراهة " إلى الوصف الذي يسند إلى الإنسان
تعين إرادة كراهة ظهورها، فيختص بالقسم الأول، وهو ما كان إظهارا
لأمر مستور.
ويؤيد هذا الاحتمال، بل يعينه، الأخبار المستفيضة الدالة على
اعتبار كون المقول مستورا غير منكشف، مثل قوله عليه السلام في ما رواه
العياشي بسنده عن ابن سنان: " الغيبة أن تقول في أخيك ما فيه
مما قد ستره الله عليه " (1).
ورواية داود بن سرحان - المروية في الكافي - قال: " سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن الغيبة، قال: هو أن تقول لأخيك في دينه
ما لم يفعل، وتبث عليه أمرا قد ستره الله عليه لم يقم عليه
فيه حد " (2).
ورواية أبان عن رجل - لا يعلمه (3) إلا يحيى الأزرق - قال:
قال لي أبو الحسن عليه السلام: " من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه
مما عرفه الناس لم يغتبه، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه مما لا يعرفه

(1) تفسير العياشي 1: 275، الحديث 270، وعنه الوسائل 8: 602، الباب
152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 22، مع اختلاف.
(2) الكافي 2: 357، الحديث 3، وعنه الوسائل 8: 604، الباب 154 من أبواب
أحكام العشرة، الحديث الأول.
(3) في المصدر: لا نعلمه.
324

الناس فقد اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته " (1).
وحسنة عبد الرحمن بن سيابة - بابن هاشم - قال، قال: " سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه،
وأما الأمر الظاهر - مثل الحدة والعجلة - فلا، والبهتان أن تقول فيه
ما ليس فيه " (2).
وهذه الأخبار - كما ترى - صريحة في اعتبار كون الشئ
غير منكشف.
ويؤيد ذلك ما في الصحاح من أن الغيبة أن يتكلم خلف إنسان
مستور بما يغمه لو سمعه، فإن كان صدقا سمي غيبة، وإن كان كذبا سمي
بهتانا (3).
فإن أراد من " المستور " من حيث ذلك المقول وافق الأخبار،
وإن أراد مقابل المتجاهر احتمل الموافقة والمخالفة.
والملخص من مجموع ما ورد في المقام: أن الشئ المقول
إن لم يكن نقصا، فلا يكون ذكر الشخص حينئذ غيبة، وإن اعتقد
المقول فيه كونه نقصا عليه، نظير ما إذا نفى عنه الاجتهاد وليس ممن
يكون ذلك نقصا في حقه إلا أنه معتقد باجتهاد نفسه. نعم، قد يحرم
هذا من وجه آخر.
وإن كان نقصا شرعا أو عرفا بحسب حال المغتاب فإن كان مخفيا

(1) الوسائل 8: 604، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.
(2) الوسائل 8: 604، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.
(3) الصحاح 1: 196، مادة " غيب ".
325

للسامع بحيث يستنكف عن ظهوره للناس، وأراد القائل تنقيص المغتاب
به، فهو المتيقن من أفراد الغيبة. وإن لم يرد القائل التنقيص فالظاهر
حرمته، لكونه كشفا لعورة المؤمن، وقد تقدم الخبر: " من مشى في غيبة
أخيه وكشف عورته " (1).
وفي صحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: " قلت
[له] (2): عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال: نعم. قلت: تعني
سفلتيه (3)؟ قال: ليس حيث تذهب إنما هو (4) إذاعة سره " (5).
وفي رواية محمد بن فضيل (6) عن أبي الحسن عليه السلام: " ولا تذيعن
عليه شيئا تشينه به وتهدم به مروته، فتكون من الذين قال الله عز وجل:
* (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم) * " (7).
ولا يقيد إطلاق النهي بصورة قصد الشين والهدم من جهة
الاستشهاد بآية حب شياع الفاحشة، بل الظاهر أن المراد مجرد فعل
ما يوجب شياعها، مع أنه لا فائدة كثيرة في التنبيه على دخول القاصد

(1) تقدم في الصفحة: 317.
(2) من المصدر.
(3) في الكافي (2: 359): سفليه، وفي الوسائل: سفلته.
(4) في الكافي: هي.
(5) الوسائل 8: 608، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة، الحديث الأول.
(6) في " ف "، " خ "، " م "، " ن " و " ع ": ابن يعقل.
(7) الوسائل 8: 609، الباب 157 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4، والآية
من سورة النور: 19.
326

لإشاعة الفاحشة في عموم الآية، وإنما يحسن التنبيه على أن قاصد
السبب قاصد للمسبب وإن لم يقصده بعنوانه.
وكيف كان، فلا إشكال من حيث النقل والعقل في حرمة إذاعة
ما يوجب مهانة المؤمن وسقوطه عن أعين الناس في الجملة، وإنما الكلام
في أنها غيبة أم لا؟
مقتضى الأخبار المتقدمة بأسرها ذلك، خصوصا المستفيضة
الأخيرة (1)، فإن التفصيل فيها بين الظاهر والخفي إنما يكون مع عدم
قصد القائل المذمة والانتقاص، وأما مع قصده فلا فرق بينهما في الحرمة.
والمنفي في تلك الأخبار وإن كان تحقق موضوع الغيبة دون الحكم
بالحرمة، إلا أن ظاهر سياقها نفي الحرمة فيما عداها (2)، أيضا، لكن
مقتضى ظاهر التعريف المتقدم عن كاشف الريبة (3) عدمه، لأنه اعتبر
قصد الانتقاص والذم. إلا أن يراد اعتبار ذلك فيما يقع على وجهين،
دون ما لا يقع إلا على وجه واحد، فإن قصد ما لا ينفك عن الانتقاص
قصد له.
وإن كان المقول نقصا ظاهرا للسامع، فإن لم يقصد القائل الذم
ولم يكن الوصف من الأوصاف المشعرة بالذم - نظير الألقاب المشعرة
به -، فالظاهر أنه خارج عن الغيبة، لعدم حصول كراهة للمقول فيه،

(1) هي روايات ابن سنان، وداود بن سرحان، وأبان، وعبد الرحمن، المتقدمات
في الصفحة: 324 - 325.
(2) عبارة " فيما عداها " مشطوب عليها في " ن ".
(3) تقدم في الصفحة: 323.
327

لا من حيث الإظهار، ولا من حيث ذم المتكلم، ولا من حيث الإشعار.
وإن كان من الأوصاف المشعرة بالذم أو قصد المتكلم التعيير
والمذمة بوجوده، فلا إشكال في حرمة الثاني، بل وكذا الأول، لعموم
ما دل على حرمة إيذاء المؤمن وإهانته (1) وحرمة التنابز بالألقاب (2)
وحرمة تعيير المؤمن على صدور معصية منه، فضلا عن غيرها، ففي عدة
من الأخبار: " من عير مؤمنا على معصية لم يمت حتى يرتكبه " (3).
وإنما الكلام في كونهما (4) من الغيبة، فإن ظاهر المستفيضة
- المتقدمة - عدم كونهما منها.
وظاهر ما عداها من الأخبار المتقدمة (5)، بناء على إرجاع
" الكراهة " فيها إلى كراهة الكلام الذي يذكر به الغير، وكذلك كلام أهل
اللغة - عدا الصحاح على بعض احتمالاته -: كونهما غيبة.
والعمل بالمستفيضة لا يخلو عن قوة، وإن كان ظاهر الأكثر

(1) انظر الوسائل 8: 587 - 588، الباب 145 و 146 من أبواب أحكام العشرة.
(2) قال سبحانه وتعالى: * (ولا تنابزوا بالألقاب...) * الحجرات: 11، وانظر
الوسائل 15: 132، الباب 30 من أبواب أحكام الأولاد.
(3) انظر الوسائل 8: 596، الباب 151 من أبواب أحكام العشرة.
(4) مرجع ضمير التثنية الكلام المشعر بالذم وإن لم يقصد به، وما قصد به الذم
وإن لم يشعر الكلام به، وما في بعض النسخ: " كونها " بدل " كونهما " سهو،
وهكذا فيما يأتي.
(5) مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم في تعريف الغيبة: " ذكرك أخاك بما يكره " في
النبويين المتقدمين في الصفحة: 321 - 322.
328

خلافه، فيكون ذكر الشخص بالعيوب الظاهرة - الذي لا يفيد (1) السامع
اطلاعا لم يعلمه، ولا يعلمه عادة من غير خبر مخبر - ليس (2) غيبة،
فلا يحرم إلا إذا ثبتت الحرمة من حيث المذمة والتعيير، أو من جهة
كون نفس الاتصاف بتلك الصفة مما يستنكفه المغتاب - ولو باعتبار
بعض التعبيرات - فيحرم من جهة الإيذاء والاستخفاف والذم والتعيير.
[ثم الظاهر المصرح به في بعض الروايات: عدم الفرق في ذلك
- على ما صرح به غير واحد (3) - بين ما كان نقصانا] (4) في بدنه
أو نسبه أو خلقه أو فعله أو قوله أو دينه أو دنياه، حتى في ثوبه
أو داره أو دابته، أو غير ذلك. وقد روي عن مولانا الصادق عليه السلام
الإشارة إلى ذلك بقوله: " وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق والفعل
والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه " (5).

(1) كذا في " ش "، وأما سائر النسخ، ففي بعضها: " التي لا تفيد " وفي بعضها
الآخر: " التي لا يفيد ".
(2) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: ليست.
(3) منهم الشهيد الثاني في كشف الريبة: 60، وصاحب الجواهر في الجواهر
22: 64.
(4) ما بين المعقوفتين لم يرد في " ف "، إلا أن في الهامش بخط مغاير لخط النسخة
ما مفاده: هنا سقط، والمناسب للسياق ما يلي: " ثم لا فرق في حرمة ذكر
الغيبة بين كون المقول في بدنه ".
(5) مستدرك الوسائل 9: 118، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 19،
وفيه: " ووجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق والخلق والعقل والفعل والمعاملة
والمذهب والجهل وأشباهه ".
329

قيل (1): أما البدن، فكذكرك فيه العمش، والحول، والعور، والقرع،
والقصر والطول، والسواد والصفرة، وجميع ما يتصور أن يوصف به
مما يكرهه.
والنسب، بأن (2) يقول: أبوه فاسق أو خبيث أو خسيس أو إسكاف
أو حائك، أو نحو ذلك مما يكره.
وأما الخلق، فبأن يقول (3): إنه سئ الخلق، بخيل، مراء (4) متكبر،
شديد الغضب، جبان، ضعيف القلب، ونحو ذلك.
وأما في أفعاله المتعلقة بالدين، فكقولك: سارق، كذاب، شارب،
خائن، ظالم، متهاون بالصلاة، لا يحسن الركوع والسجود، ولا يجتنب
من النجاسات، ليس بارا بوالديه، لا يحرس نفسه من الغيبة والتعرض
لأعراض الناس.
وأما أفعاله المتعلقة بالدنيا، فكقولك: قليل الأدب، متهاون بالناس،
لا يرى لأحد عليه حقا، كثير الكلام، كثير الأكل، نؤوم (5) يجلس في
غير موضعه.

(1) القائل هو الشيخ ورام بن أبي فراس في مجموعته (تنبيه الخواطر: 125)
والشهيد الثاني في كشف الريبة: 60 - 61.
(2) في مصححة " ص " و " ش ": وأما النسب فبأن....
(3) في بعض النسخ: تقول.
(4) مراء: بفتح الميم وتشديد الراء من المراء، بمعنى المجادلة، لا بضم الميم
وتخفيف الراء [من] الرياء، لأنه من قبيل الأفعال والكلام... بخلاف الأول،
فإنه من الأخلاق (شرح الشهيدي: 84).
(5) نؤوم على وزن " فعول " بمعنى: كثير النوم.
330

وأما في ثوبه، فكقولك: إنه واسع الكم، طويل الذيل، وسخ الثياب،
ونحو ذلك (1).
ثم إن ظاهر النص وإن كان منصرفا إلى الذكر باللسان، لكن
المراد به حقيقة الذكر، فهو مقابل الإغفال، فكل ما يوجب التذكر
للشخص - من القول والفعل والإشارة وغيرها - فهو ذكر له.
ومن ذلك المبالغة في تهجين المطلب الذي ذكره بعض المصنفين،
بحيث يفهم منها الإزراء بحال ذلك المصنف، فإن قولك: " إن هذا المطلب
بديهي البطلان " تعريض لصاحبه بأنه لا يعرف البديهيات، بخلاف
ما إذا قيل: " إنه مستلزم لما هو بديهي البطلان "، لأن فيه تعريضا
بأن صاحبه لم ينتقل إلى الملازمة بين المطلب وبين ما هو بديهي البطلان،
ولعل الملازمة نظرية.
وقد وقع من بعض الأعلام بالنسبة إلى بعضهم ما لا بد له من
الحمل والتوجيه، أعوذ بالله من الغرور، وإعجاب المرء بنفسه، وحسده
على غيره، والاستيكال بالعلم.
ثم إن دواعي الغيبة كثيرة، روي عن مولانا الصادق عليه السلام
التنبيه عليها إجمالا بقوله عليه السلام: " أصل الغيبة تتنوع بعشرة أنواع:
شفاء غيظ، ومساعدة قوم، وتصديق خبر بلا كشف، وتهمة، وسوء
ظن، وحسد، وسخرية، وتعجب (2) وتبرم، وتزين... الخبر " (3).

(1) إلى هنا ينتهي ما أورده الشهيد الثاني قدس سره في كشف الريبة: 61.
(2) كذا في " ف " والمصدر، وفي سائر النسخ: تعجيب.
(3) مستدرك الوسائل 9: 117، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 19.
331

ثم إن ذكر الشخص قد يتضح كونها غيبة، وقد يخفى على النفس
لحب أو بغض، فيرى أنه لم يغتب وقد وقع في أعظمها! ومن ذلك: أن
الإنسان قد يغتم بسبب ما يبتلى به أخوه في الدين لأجل أمر يرجع
إلى نقص في فعله أو رأيه، فيذكره المغتم في مقام التأسف عليه بما يكره
ظهوره للغير، مع أنه كان يمكنه بيان حاله للغير على وجه لا يذكر
اسمه، ليكون قد أحرز ثواب الاغتمام على ما أصاب المؤمن، لكن
الشيطان يخدعه ويوقعه في ذكر الاسم.
بقي الكلام في أنه هل يعتبر في الغيبة حضور مخاطب عند المغتاب،
أو يكفي ذكره عند نفسه؟ ظاهر الأكثر الدخول، كما صرح به بعض
المعاصرين (1).
نعم، ربما يستثنى من حكمها - عند من استثنى - ما لو علم اثنان
صفة شخص فيذكر أحدهما بحضرة الآخر. وأما على ما قويناه من
الرجوع في تعريف الغيبة إلى ما دلت عليه المستفيضة المتقدمة من كونها
" هتك ستر مستور " (2)، فلا يدخل ذلك في الغيبة.
ومنه يظهر أيضا أنه لا يدخل فيها ما لو كان الغائب مجهولا
عند المخاطب مرددا بين أشخاص غير محصورة، كما إذا قال: " جاءني
اليوم رجل بخيل دنئ ذميم "، فإن (3) ظاهر تعريف الأكثر (4) دخوله،

(1) لم نقف عليه.
(2) راجع الصفحة: 324 و 325.
(3) كذا في النسخ، والأنسب: لكن.
(4) تعريف الأكثر هو: " أن يذكر الإنسان بكلام يسوؤه "، انظر الصفحة: 322.
332

وإن خرج عن الحكم، بناء على اعتبار التأثير عند السامع، وظاهر
المستفيضة المتقدمة عدم الدخول.
نعم، لو قصد المذمة والتعيير حرم من هذه الجهة، فيجب على
السامع نهي المتكلم عنه، إلا إذا احتمل أن يكون الشخص متجاهرا
بالفسق، فيحمل فعل المتكلم على الصحة، كما سيجئ في مسألة الاستماع (1).
والظاهر أن الذم والتعيير لمجهول العين لا يجب الردع عنه، مع
كون الذم والتعيير في موقعهما، بأن كان مستحقا لهما، وإن لم يستحق
مواجهته بالذم أو ذكره عند غيره بالذم.
هذا كله لو كان الغائب المذكور مشتبها على الإطلاق، أما لو كان
مرددا بين أشخاص، فإن كان بحيث لا يكره كلهم ذكر واحد مبهم منهم
كان كالمشتبه على الإطلاق، كما لو قال: " جاءني عجمي أو عربي
كذا وكذا " إذا لم يكن بحيث يكون الذم راجعا إلى العنوان، كأن يكون
في المثالين تعريض إلى ذم تمام العجم أو العرب.
وإن كان بحيث يكره كلهم ذكر واحد مبهم منهم، كأن يقول:
" أحد ابني زيد، أو أحد أخويه كذا وكذا " (2) ففي كونه اغتيابا لكل منهما،
لذكرهما بما يكرهانه من التعريض، لاحتمال كونه هو المعيوب، وعدمه،

(1) سيجئ في الصفحة 359.
(2) في غير نسخة " ش " زيادة ما يلي: " فإن ذكر كل واحد منهما على وجه يحتمل
السامع توجه النقص عليه مما يكرهه كل واحد. ولذا لو قال: أحد هذين الرجلين
صدر منه القبيح الفلاني، كان ذلك مكروها لكل منهما "، لكن شطب عليها في " ف "،
وأشير في بعضها إلى كونها زائدة، وفي بعضها الآخر عليها علامة (خ ل).
333

لعدم تهتك ستر المعيوب منهما، كما لو قال: " أحد أهل البلد الفلاني
كذا وكذا " وإن كان فرق بينهما من جهة كون ما نحن فيه محرما
من حيث الإساءة إلى المؤمن بتعريضه للاحتمال دون المثال، أو كونه
اغتيابا للمعيوب الواقعي منهما، وإساءة بالنسبة إلى غيره، لأنه تهتك
بالنسبة إليه، لأنه إظهار في الجملة لعيبه بتقليل مشاركه في احتمال العيب
فيكون الاطلاع عليه قريبا، وأما الآخر فقد أساء بالنسبة إليه، حيث
عرضه لاحتمال العيب، وجوه (1):
قال في جامع المقاصد: ويوجد في كلام بعض الفضلاء أن من
شرط الغيبة أن يكون متعلقها محصورا، وإلا فلا تعد غيبة، فلو قال عن
أهل بلدة غير محصورة ما لو قاله عن شخص واحد كان غيبة (2)،
لم يحتسب غيبة (3)، انتهى.
أقول: إن أراد أن ذم جمع غير محصور لا يعد غيبة وإن قصد
انتقاص كل منهم، كما لو قال: " أهل هذه القرية، أو هذه البلدة كلهم
كذا وكذا "، فلا إشكال في كونه غيبة محرمة، ولا وجه لاخراجه عن
موضوعها أو حكمها.
وإن أراد أن ذم المردد بين غير المحصور لا يعد غيبة، فلا بأس
- كما ذكرنا -، ولذا ذكر بعض - تبعا لبعض الأساطين (4) - في مستثنيات

(1) من مصححة " ص " و " ش ".
(2) كذا في " خ " وظاهر " م "، وفي سائر النسخ: غيبته.
(3) جامع المقاصد 4: 27.
(4) صرح به كاشف الغطاء قدس سره في شرحه على القواعد (مخطوط): 36، وفيه:
" ومنها تعليق الذم بطائفة أو أهل بلدة أو قرية مع قيام القرينة على عدم إرادة... الخ ".
334

الغيبة ما لو علق الذم بطائفة أو أهل بلدة أو أهل قرية مع قيام القرينة
على عدم إرادة الجميع، كذم العرب أو العجم أو أهل الكوفة أو البصرة
وبعض القرى (1)، انتهى.
ولو أراد الأغلب، ففي كونه اغتيابا لكل منهم وعدمه، ما تقدم
في المحصور.
وبالجملة، فالمدار في التحريم غير المدار في صدق الغيبة، وبينهما
عموم من وجه.

(1) العبارة من الجواهر 22: 65.
335

الثاني
في كفارة الغيبة الماحية لها
ومقتضى كونها من حقوق الناس توقف رفعها على إسقاط
صاحبها.
أما كونها من حقوق الناس: فلأنه ظلم على المغتاب، وللأخبار
في أن " من حق المؤمن على المؤمن أن لا يغتابه " (1) وأن " حرمة عرض
المسلم كحرمة دمه وماله " (2).
وأما توقف رفعها على إبراء ذي الحق، فللمستفيضة المعتضدة
بالأصل:

(1) مثل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " للمؤمن على المؤمن سبعة حقوق واجبة
من الله عز وجل - إلى أن قال -: وأن يحرم غيبته " انظر الوسائل 8: 546، الباب 122
من أبواب أحكام العشرة، الحديث 13، وما ورد عن الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام
لما سئل ما حق المؤمن على المؤمن، قال: " من حق المؤمن على المؤمن المودة
له في صدره - إلى أن قال - ولا يغتابه " انظر مستدرك الوسائل 9: 45، الباب
105 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 16.
(2) لم نقف على خبر يصرح بأن " حرمة عرض المسلم كحرمة دمه "، نعم ورد:
" المؤمن حرام كله، عرضه وماله ودمه "، انظر مستدرك الوسائل 9: 136،
الباب 138 من أبواب أحكام العشرة، الحديث الأول، وورد أيضا: " سباب
المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه "، انظر
الوسائل 8: 610، الباب 158 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3، وكلا الخبرين
- خصوصا الثاني منهما - لا يدلان على المطلوب، كما لا يخفى.
336

منها: ما تقدم من أن الغيبة لا تغفر حتى يغفر صاحبها (1)،
[وأنها ناقلة للحسنات والسيئات (2)] (3).
ومنها: ما حكاه غير واحد عن الشيخ الكراجكي بسنده المتصل
إلى علي بن الحسين، عن أبيه (4) عن أمير المؤمنين عليهم السلام، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " للمؤمن على أخيه ثلاثون حقا لا براءة
له منها إلا بأدائها، أو العفو - إلى أن قال -: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا فيطالبه
به يوم القيامة، فيقضى له عليه (5) " (6).
والنبوي المحكي في السرائر وكشف الريبة: " من كانت لأخيه

(1) تقدم في الصفحة: 316.
(2) راجع الصفحة: 317.
(3) لم يرد في " ش "، واستدرك في هامش " ف "، وفي " ن "، " خ "، " م " و " ع " عليه
علامة (خ ل).
(4) في النسخ - ما عدا " ش " - زيادة: " عن آبائه ". وهو سهو، والسند كما
في كنز الفوائد: حدثني الحسين بن محمد بن علي الصيرفي، قال: حدثني
أبو بكر محمد بن علي الجعابي، قال: حدثنا أبو محمد القاسم بن محمد بن جعفر
العلوي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليه السلام... وسيأتي
بهذا السند في الصفحة: 365 أيضا.
(5) في النسخ: ويقضى له عليه، وفي المصدر: فيقضى له وعليه، وسوف يأتي
معنى " يقضى له عليه " في الصفحتين: 340 و 366.
(6) كنز الفوائد 1: 306، وعنه كشف الريبة: 115، والوسائل 8: 550، الباب
122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 24.
337

عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها من قبل أن يأتي يوم ليس
هناك درهم ولا دينار، فيؤخذ من حسناته، فإن لم تكن له حسنات
أخذ من سيئات صاحبه فيتزايد (1) على سيئاته " (2).
وفي نبوي آخر: " من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل الله
صلاته ولا صيامه أربعين يوما وليلة، إلا أن يغفر له صاحبه " (3).
وفي الدعاء التاسع والثلاثين من أدعية الصحيفة السجادية (4)
ودعاء يوم الاثنين من ملحقاتها (5) ما يدل على هذا المعنى أيضا.
ولا فرق في مقتضى الأصل والأخبار بين التمكن من الوصول
إلى صاحبه وتعذره، لأن تعذر البراءة لا يوجب سقوط الحق، كما في
غير هذا المقام.
لكن روى السكوني (6) عن أبي عبد الله عليه السلام عن

(1) كذا في النسخ، وفي كشف الريبة: فتزيد.
(2) السرائر 2: 69، فيه قسم من صدر الحديث، بلفظ: " من كانت عنده
مظلمة من أخيه فليستحلله "، وأورد تمامه في كشف الريبة: 110، بتفاوت يسير.
(3) مستدرك الوسائل 9: 122، الباب 132 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 34.
(4) حيث قال عليه السلام - في الفقرة الرابعة من الدعاء -: " اللهم وأيما عبد من
عبيدك أدركه مني درك أو مسه من ناحيتي أذى... الخ ".
(5) وهو قوله عليه السلام: " فأيما عبد من عبيدك أو أمة من إمائك كانت له قبلي
مظلمة... إلى أن قال: أو غيبة اغتبته بها... فقصرت يدي وضاق وسعي عن
ردها إليه والتحلل منه... الخ ".
(6) كذا في النسخ، وهو سهو، لأن راوي الخبر هو " حفص بن عمر " كما في
الكافي (2: 357، الحديث 4)، أو " حفص بن عمير " كما في الوسائل، وأما رواية
السكوني فوردت في باب الظلم، وسيذكرها المؤلف قدس سره في الصفحة: 340.
338

النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أن " كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته كلما (1)
ذكرته " (2). ولو صح سنده أمكن تخصيص الإطلاقات المتقدمة به، فيكون
الاستغفار طريقا أيضا إلى البراءة. مع احتمال العدم أيضا، لأن كون
الاستغفار كفارة لا يدل على البراءة، فلعله كفارة للذنب من حيث كونه
حقا لله تعالى، نظير كفارة قتل الخطأ التي لا توجب براءة القاتل،
إلا أن يدعى ظهور السياق في البراءة.
قال في كشف الريبة - بعد ذكر النبويين الأخيرين المتعارضين -:
ويمكن الجمع بينهما بحمل الاستغفار له على من لم تبلغ غيبته المغتاب،
فينبغي له الاقتصار على الدعاء والاستغفار، لأن في محالته إثارة للفتنة
وجلبا للضغائن، وفي حكم من لم تبلغه من لم يقدر على الوصول إليه
لموت أو غيبة، وحمل المحالة على من يمكن التوصل إليه مع بلوغه
الغيبة (3).
أقول: إن صح النبوي الأخير سندا فلا مانع عن العمل به، بجعله
طريقا إلى البراءة مطلقا في مقابل الاستبراء، وإلا تعين طرحه والرجوع
إلى الأصل وإطلاق الأخبار المتقدمة، وتعذر الاستبراء أو وجود
المفسدة فيه لا يوجب وجود مبرئ آخر.

(1) في " ف " و " م ": كما.
(2) الوسائل 8: 605، الباب 155 من أبواب أحكام العشرة، الحديث الأول،
ونصه: عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: " سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كفارة
الاغتياب؟ قال: تستغفر الله لمن اغتبته كلما ذكرته ".
(3) كشف الريبة: 111.
339

نعم، أرسل بعض من قارب عصرنا (1) عن الصادق عليه السلام: " أنك
إن اغتبت فبلغ المغتاب فاستحل منه، وإن لم يبلغه فاستغفر الله له ".
وفي رواية السكوني - المروية في الكافي في باب الظلم - عن
أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من ظلم
أحدا ففاته، فليستغفر الله له، فإنه كفارة له " (2).
والإنصاف، أن الأخبار الواردة في هذا الباب كلها غير نقية السند،
وأصالة البراءة تقتضي عدم وجوب الاستحلال ولا الاستغفار، وأصالة
بقاء الحق الثابت للمغتاب (بالفتح) على المغتاب (بالكسر) تقتضي عدم
الخروج منه إلا بالاستحلال خاصة، لكن المثبت لكون الغيبة حقا
- بمعنى وجوب البراءة منه - ليس إلا الأخبار غير النقية السند، مع أن
السند لو كان نقيا كانت الدلالة ضعيفة، لذكر حقوق أخر في الروايات،
لا قائل بوجوب البراءة منها.
ومعنى القضاء يوم القيامة لذيها على من عليها: المعاملة معه
معاملة من لم يراع حقوق المؤمن، لا العقاب عليها، كما لا يخفى على
من لاحظ الحقوق الثلاثين المذكورة في رواية الكراجكي (3).

(1) هو النراقي الكبير قدس سره أرسله في جامع السعادات 2: 314، وأورد العلامة
المجلسي قدس سره هذا المرسل في البحار (75: 257، الحديث 48) عن مصباح
الشريعة.
(2) الكافي 2: 334، الحديث 20، وعنه الوسائل 11: 343، الباب 78 من
أبواب جهاد النفس، الحديث 5.
(3) انظر الصفحات: 337 و 365 - 366.
340

فالقول بعدم كونه حقا للناس بمعنى وجوب البراءة، نظير الحقوق
المالية، لا يخلو عن قوة، وإن كان الاحتياط في خلافه، بل لا يخلو
عن قرب، من جهة كثرة الأخبار الدالة على وجوب الاستبراء منها،
بل اعتبار سند بعضها (1).
والأحوط الاستحلال إن تيسر، وإلا فالاستغفار.
غفر الله لمن اغتبناه ولمن اغتابنا بحق محمد وآله الطاهرين
صلوات الله عليهم أجمعين.

(1) مثل الدعاء التاسع والثلاثين من الصحيفة السجادية، المتقدم في أدلة وجوب
الاستحلال (الصفحة: 338)، ومن البديهي أن الصحيفة وصلت إلينا بسند معتبر
عن سيد الساجدين زين العابدين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المعصومين.
341

الثالث
فيما استثني من الغيبة وحكم بجوازها بالمعنى الأعم
فاعلم أن المستفاد من الأخبار المتقدمة وغيرها أن حرمة الغيبة
لأجل انتقاص المؤمن وتأذيه منه، فإذا فرض هناك مصلحة راجعة إلى
المغتاب - بالكسر، أو بالفتح، أو ثالث - دل العقل أو الشرع على كونها
أعظم من مصلحة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه، وجب كون
الحكم على طبق أقوى المصلحتين، كما هو الحال في كل معصية
من حقوق الله وحقوق الناس، وقد نبه عليه غير واحد.
قال في جامع المقاصد - بعد ما تقدم عنه في تعريف الغيبة -:
إن ضابط الغيبة المحرمة: كل فعل يقصد به هتك عرض المؤمن، أو التفكه به،
أو إضحاك الناس منه، وأما ما كان لغرض صحيح فلا يحرم، كنصح
المستشير، والتظلم وسماعه، والجرح والتعديل، ورد من ادعى نسبا
ليس له، والقدح في مقالة باطلة خصوصا في الدين (1)، انتهى.
وفي كشف الريبة: اعلم أن المرخص في ذكر مساءة الغير هو غرض
صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به (2)، انتهى (3).

(1) جامع المقاصد 4: 27.
(2) كذا في المصدر، والعبارة في النسخ كما يلي: اعلم أن المرخص في ذكر
مساوئ الغير غرض صحيح لا يمكن التوصل إليه إلا بها.
(3) كشف الريبة: 77.
342

وعلى هذا، فموارد الاستثناء لا تنحصر في عدد. نعم، الظاهر
استثناء موضعين لجواز الغيبة من دون مصلحة:
أحدهما:
ما إذا كان المغتاب متجاهرا بالفسق، فإن من لا يبالي بظهور
فسقه بين الناس لا يكره ذكره بالفسق. نعم، لو كان في مقام ذمه كرهه
من حيث المذمة، لكن المذمة على الفسق المتجاهر به لا تحرم،
كما لا يحرم لعنه.
وقد تقدم (1) عن الصحاح أخذ " المستور " في المغتاب.
وقد ورد في الأخبار المستفيضة جواز غيبة المتجاهر:
منها: قوله عليه السلام - في رواية هارون بن الجهم -: " إذا جاهر
الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة " (2).
وقوله عليه السلام: " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له " (3).
ورواية أبي البختري: " ثلاثة ليس لهم حرمة: صاحب هوى
مبتدع، والإمام الجائر، والفاسق المعلن بفسقه " (4).
ومفهوم قوله عليه السلام: " من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم

(1) في الصفحة: 322.
(2) الوسائل 8: 604، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4.
(3) الإختصاص: 242 وعنه مستدرك الوسائل 9: 129، الباب 134 من أبواب
أحكام العشرة، الحديث 3.
(4) الوسائل 8: 605، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 5، وفيه:
المعلن بالفسق.
343

يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروته [وظهر عدله] (1)
ووجبت أخوته، وحرمت غيبته " (2).
وفي صحيحة ابن أبي يعفور - الواردة في بيان العدالة، بعد تعريف
العدالة -: " أن الدليل على ذلك أن يكون ساترا لعيوبه حتى يحرم على
المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته " (3) دل (4) على ترتب حرمة
التفتيش على كون الرجل ساترا، فتنتفي عند انتفائه.
ومفهوم قوله عليه السلام في رواية علقمة - المحكية عن المحاسن (5) -:
" من لم تره بعينك يرتكب ذنبا ولم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل
العدالة والستر، وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنبا، ومن اغتابه بما فيه
فهو خارج عن ولاية الله تعالى، داخل في ولاية الشيطان... الخبر " (6)،
دل على ترتب حرمة الاغتياب وقبول الشهادة على كونه من أهل الستر
وكونه من أهل العدالة - على طريق اللف والنشر - أو على اشتراط
الكل بكون الرجل غير مرئي منه المعصية ولا مشهودا عليه بها،

(1) من " ص " و " ش " والمصدر.
(2) الوسائل 8: 597، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2، مع
اختلاف.
(3) الوسائل 18: 288، الباب 41 من أبواب الشهادات، مع اختلاف.
(4) كذا، والمناسب: دلت.
(5) كذا، والظاهر أنه مصحف " المجالس "، انظر أمالي الصدوق: 91، المجلس 22،
الحديث 3، وقد رواها في الوسائل عنه، لا غير.
(6) الوسائل 8: 601، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 20،
باختلاف يسير.
344

ومقتضى المفهوم جواز الاغتياب مع عدم الشرط، خرج منه غير المتجاهر.
وكون قوله: " من اغتابه... الخ " جملة مستأنفة غير معطوفة على
الجزاء، خلاف الظاهر.
ثم إن مقتضى إطلاق الروايات جواز غيبة المتجاهر في ما تجاهر به،
ولو مع عدم قصد غرض صحيح، ولم أجد من قال باعتبار قصد
الغرض الصحيح، وهو ارتداعه عن المنكر.
نعم، تقدم عن الشهيد الثاني احتمال اعتبار قصد النهي عن المنكر
في جواز سب المتجاهر، مع اعترافه بأن ظاهر النص والفتوى عدمه (1).
وهل يجوز اغتياب المتجاهر في غير ما تجاهر به؟
صرح الشهيد الثاني وغيره بعدم الجواز (2)، وحكي عن الشهيد
أيضا (3).
وظاهر الروايات النافية لاحترام المتجاهر وغير الساتر (4) هو
الجواز، واستظهره في الحدائق من كلام جملة من الأعلام (5) وصرح به
بعض الأساطين (6).

(1) قد تقدم في حرمة سب المؤمنين نقل ذلك عن الروضة البهية، فراجع الصفحة: 255.
(2) كشف الريبة: 79، وصرح بذلك قبل الشهيد الثاني المحقق الثاني في رسالته
في العدالة، انظر رسائل المحقق الكركي، (المجموعة الثانية): 45.
(3) القواعد والفوائد 2: 148.
(4) انظر الوسائل 8: 604، الباب 154 من أبواب أحكام العشرة.
(5) راجع الحدائق 18: 166.
(6) صرح به كاشف الغطاء قدس سره في شرحه على القواعد (مخطوط) الورقة: 35،
وفيه: ومنها ذكر المتجاهرين بالفسق، فإنهم لا حرمة لهم ولو في غير ما تجاهروا به.
345

وينبغي إلحاق ما يتستر به بما يتجاهر فيه إذا كان دونه في القبح،
فمن تجاهر باللواط - والعياذ بالله - جاز اغتيابه بالتعرض للنساء الأجانب (1)،
ومن تجاهر بقطع الطرق جاز اغتيابه بالسرقة، ومن تجاهر بكونه
جلاد السلطان يقتل الناس وينكلهم جاز اغتيابه بشرب الخمر، ومن تجاهر
بالقبائح المعروفة جاز اغتيابه بكل قبيح، ولعل هذا هو المراد
ب‍ " من ألقى جلباب الحياء "، لا من تجاهر بمعصية خاصة وعد مستورا
بالنسبة إلى غيرها، كبعض عمال الظلمة.
ثم المراد بالمتجاهر من تجاهر بالقبيح بعنوان أنه قبيح، فلو تجاهر
به مع إظهار محمل له لا يعرف فساده إلا القليل - كما إذا كان من
عمال الظلمة وادعى في ذلك عذرا مخالفا للواقع، أو غير مسموع منه -،
لم يعد متجاهرا.
نعم، لو كان اعتذاره واضح الفساد لم يخرج عن المتجاهر.
ولو كان متجاهرا عند أهل بلده أو محلته مستورا عند غيرهم،
هل يجوز ذكره عند غيرهم؟ ففيه إشكال، من إمكان (2) دعوى ظهور
روايات الرخصة في من لا يستنكف عن الاطلاع على عمله مطلقا،
فرب متجاهر في بلد، متستر في بلاد الغربة أو في طريق الحج والزيارة،
لئلا يقع عن عيون الناس.
وبالجملة، فحيث كان الأصل في المؤمن الاحترام على الإطلاق،
وجب الاقتصار على ما تيقن خروجه.

(1) كذا في النسخ، والمناسب: الأجنبيات.
(2) كذا في النسخ، ولم يذكر وجه الجواز، ولعله تركه لوضوحه.
346

فالأحوط الاقتصار على ذكر المتجاهر بما لا يكرهه لو سمعه
ولا يستنكف من ظهوره للغير.
نعم، لو تأذى من ذمه بذلك دون ظهوره، لم يقدح في الجواز،
ولذا جاز سبه بما لا يكون كذبا.
وهذا هو الفارق بين " السب " و " الغيبة "، حيث إن مناط الأول المذمة
والتنقيص فيجوز، ومناط الثاني إظهار عيوبه فلا يجوز إلا بمقدار الرخصة.
الثاني:
تظلم المظلوم وإظهار ما فعل به الظالم وإن كان متسترا به
- كما إذا ضربه في الليل الماضي وشتمه، أو أخذ ماله - جاز ذكره بذلك
عند من لا يعلم ذلك منه،
لظاهر قوله تعالى: * (ولمن انتصر بعد ظلمه
فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون
في الأرض بغير الحق) * (1) وقوله تعالى: * (لا يحب الله الجهر بالسوء من
القول إلا من ظلم) * (2) فعن تفسير القمي: " أي لا يحب أن يجهر الرجل
بالظلم والسوء ويظلم إلا من ظلم، فأطلق له أن يعارضه بالظلم " (3).
وعن تفسير العياشي، عنه صلوات الله عليه: " من أضاف قوما فأساء
ضيافتهم (4) فهو ممن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه " (5).

(1) الشورى: 41 - 42.
(2) النساء: 148.
(3) تفسير القمي 1: 157.
(4) في النسخ: إضافتهم، وما أثبتناه من المصدر.
(5) تفسير العياشي 1: 283، الحديث 296.
347

وهذه الرواية وإن وجب توجيهها، إما بحمل الإساءة على ما يكون
ظلما وهتكا لاحترامهم أو بغير ذلك، إلا أنها دالة على عموم " من ظلم "
في الآية الشريفة، وأن كل من ظلم فلا جناح عليه فيما قال في
الظالم.
ونحوها في وجوب (6) التوجيه رواية أخرى في هذا المعنى محكية
عن المجمع: " أن الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فلا جناح
عليه في أن يذكره بسوء (7) ما فعله " (8).
ويؤيد الحكم فيما نحن فيه أن في منع المظلوم من هذا - الذي
هو نوع من التشفي - حرجا عظيما، ولأن في تشريع الجواز مظنة ردع
الظالم، وهي مصلحة خالية عن مفسدة، فيثبت الجواز، لأن الأحكام
تابعة للمصالح.
ويؤيده ما تقدم من عدم الاحترام للإمام الجائر (9)، بناء على أن
عدم احترامه من جهة جوره، لا من جهة تجاهره، وإلا لم يذكره
في مقابل " الفاسق المعلن بالفسق ". وفي النبوي: " لصاحب الحق مقال " (10).
والظاهر من جميع ما ذكر عدم تقييد جواز الغيبة بكونها عند من

(6) في " ن "، " خ "، " خ " و " ع ": وجوه.
(7) في أكثر النسخ: أن يذكر سوء.
(8) مجمع البيان 2: 131.
(9) تقدم في رواية أبي البختري، المتقدمة في الصفحة: 343.
(10) أرسله الشهيد الثاني في كشف الريبة: 77.
348

يرجو إزالة الظلم عنه، وقواه بعض الأساطين (1)، خلافا لكاشف الريبة (2)
وجمع ممن تأخر عنه (3) فقيدوه، اقتصارا في مخالفة الأصل على المتيقن
من الأدلة، لعدم عموم في الآية وعدم نهوض ما تقدم في تفسيرها للحجية،
مع أن المروي عن الباقر عليه السلام في تفسيرها - المحكي عن مجمع البيان -:
أنه " لا يحب [الله] (4) الشتم في الانتصار إلا من ظلم، فلا بأس له
أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين " (5). قال في الكتاب
المذكور: ونظيره * (وانتصروا من بعد ما ظلموا) * (6).
وما بعد الآية (7) لا يصلح للخروج بها عن الأصل الثابت بالأدلة
العقلية والنقلية، ومقتضاه الاقتصار على مورد رجاء تدارك الظلم،
فلو لم يكن قابلا للتدارك لم تكن فائدة في هتك الظالم. وكذا لو لم يكن

(1) صرح به كاشف الغطاء قدس سره في شرحه على القواعد (مخطوط): 34، وفيه:
" ومنها التظلم مع ذكر معائب الظالم عند من يرجو أن يعينه... ويقوى جوازه
عند غيره لظاهر الكتاب ".
(2) كشف الريبة: 77.
(3) كالمحقق السبزواري في كفاية الأحكام: 86، والمحقق النراقي في المستند
2: 347، والسيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 66.
(4) من المصدر.
(5) مجمع البيان 2: 131.
(6) الشعراء: 227.
(7) أراد بما بعد الآية: المؤيدات التي ذكرها، والتعبير عنها بعنوان كونها " ما بعد
الآية " مع كونها بعد الأخبار، مبني على كون الأخبار واردة في تفسيرها، فهي
من توابع الآية ولواحقها (حاشية المامقاني).
349

ما فعل به ظلما،
بل كان من ترك الأولى، وإن كان يظهر من بعض
الأخبار جواز الاشتكاء لذلك:
فعن الكافي والتهذيب بسندهما عن حماد بن عثمان، قال: " دخل
رجل على أبي عبد الله عليه السلام فشكا [إليه] (1) رجلا من أصحابه
فلم يلبث أن جاء المشكو عليه (2)، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ما لفلان
يشكوك؟ فقال: يشكوني أني استقضيت منه حقي، فجلس
أبو عبد الله عليه السلام مغضبا، فقال: كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ!
أرأيت قول الله عز وجل: * (ويخافون سوء الحساب) * (3) أترى أنهم خافوا
الله عز وجل أن يجور عليهم؟ لا والله! ما خافوا إلا الاستقضاء، فسماه
الله عز وجل سوء الحساب، فمن استقضى فقد أساء " (4).
ومرسلة ثعلبة بن ميمون - المروية عن الكافي -، قال: " كان
عنده قوم يحدثهم، إذ ذكر رجل منهم رجلا فوقع فيه وشكاه، فقال
له أبو عبد الله عليه السلام: وأنى لك بأخيك كله (5)! وأي الرجال (6)

(1) من المصدر.
(2) لم يرد " عليه " في " ش " والمصدرين.
(3) الرعد: 21.
(4) الكافي 5: 100، الحديث الأول، التهذيب 6: 194، الحديث 425. وعنهما في
الوسائل 13: 100، الباب 16 من أبواب الدين والقرض، الحديث الأول.
(5) فسر العلامة المجلسي - في مرآة العقول (12: 550) - عبارة " بأخيك كله "
بقوله: أي كل الأخ التام في الأخوة، أي: لا يحصل مثل ذلك إلا نادرا، فتوقع
ذلك كتوقع أمر محال، فارض من الناس بالقليل.
(6) كذا ورد في " ف " والمصدر، وفي سائر النسخ كما يلي: " وأنى لك بأخيك
الكامل، أي الرجل المهذب ".
350

المهذب (1)! " (2).
فإن الظاهر من الجواب أن الشكوى إنما كانت من ترك الأولى
الذي لا يليق بالأخ الكامل المهذب.
ومع ذلك كله، فالأحوط عد هذه الصورة من الصور العشر
الآتية (3) التي رخص فيها في الغيبة لغرض صحيح أقوى من مصلحة
احترام المغتاب.
كما أن الأحوط جعل الصورة السابقة خارجة عن موضوع الغيبة
بذكر المتجاهر بما لا يكره نسبته إليه من الفسق المتجاهر به، وإن جعلها
من تعرض لصور الاستثناء منها.
فيبقى من موارد الرخصة لمزاحمة الغرض الأهم صور تعرضوا
لها:
منها:
نصح المستشير، فإن النصيحة واجبة للمستشير، فإن خيانته قد

(1) هذه العبارة وردت في شعر النابغة، حيث قال:
حلفت لم أترك لنفسي ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني خيانة لمبلغك الواشي أغش وأكذب
فلست بمستبق أخا لا تلمه على شعث، أي الرجال المهذب؟
انظر مرآة العقول 12: 550.
(2) الكافي 2: 651، الحديث الأول. وعنه في الوسائل 8: 458، الباب 56 من
أبواب أحكام العشرة، الحديث الأول.
(3) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ: المتقدمة.
351

تكون أقوى مفسدة من الوقوع في المغتاب.
وكذلك النصح من غير استشارة، فإن من أراد تزويج امرأة
وأنت تعلم بقبائحها التي توجب وقوع الرجل من أجلها في الغيبة (1)
والفساد، فلا ريب أن التنبيه على بعضها - وإن أوجب الوقيعة فيها -
أولى من ترك نصح المؤمن، مع ظهور عدة من الأخبار في وجوبه (2).
ومنها:
الاستفتاء، بأن يقول للمفتي: " ظلمني فلان حقي، فكيف طريقي في
الخلاص؟ " هذا إذا كان الاستفتاء موقوفا على ذكر الظالم بالخصوص،
وإلا فلا يجوز.
ويمكن الاستدلال عليه بحكاية هند - زوجة أبي سفيان - واشتكائها
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقولها: " إنه رجل شحيح لا يعطيني
ما يكفيني وولدي " (3)، فلم يرد صلى الله عليه وآله وسلم عليها غيبة أبي سفيان.
ولو نوقش في هذا الاستدلال - بخروج غيبة مثل أبي سفيان
عن محل الكلام - أمكن الاستدلال بصحيحة عبد الله بن سنان،
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقال: إن أمي لا تدفع يد لامس! فقال: احبسها، قال: قد فعلت،
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: فامنع من يدخل عليها، قال: قد فعلت،
قال صلى الله عليه وآله وسلم: فقيدها، فإنك لا تبرها بشئ أفضل من أن تمنعها

(1) كذا في النسخ، ولعله تصحيف: " العنت " أي المشقة.
(2) انظر الوسائل 11: 594، الباب 35 من أبواب فعل المعروف.
(3) مستدرك الوسائل 9: 129، الباب 134 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4.
352

عن محارم الله عز وجل... الخبر " (1).
واحتمال كونها متجاهرة، مدفوع بالأصل.
ومنها:
قصد ردع المغتاب عن المنكر الذي يفعله، فإنه أولى من ستر
المنكر عليه، فهو في الحقيقة إحسان في حقه، مضافا إلى عموم أدلة
النهي عن المنكر (2).
ومنها:
قصد حسم مادة فساد المغتاب عن الناس، كالمبتدع الذي يخاف
من إضلاله الناس. ويدل عليه - مضافا إلى أن مصلحة دفع فتنته عن
الناس أولى من ستر المغتاب -: ما عن الكافي بسنده الصحيح عن
أبي عبد الله عليه السلام، قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رأيتم
أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم
والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم، كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام،

(1) الوسائل 18: 414، الباب 48 من أبواب حد الزنا، الحديث الأول.
(2) مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من رأى منكم منكرا فلينكر بيده إن استطاع،
فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه " الوسائل 11: 407، الباب 3 من
أبواب الأمر والنهي، الحديث 12. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " مروا بالمعروف وإن
لم تعملوا به كله، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله " الوسائل 11: 420،
الباب 10 من أبواب الأمر والنهي، الحديث 10. وقول الصادق عليه السلام: " أيها
الناس مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر " الوسائل 11: 399، الباب الأول من
أبواب الأمر والنهي، الحديث 24، وغير ذلك من الروايات الظاهرة في العموم.
353

ويحذرهم الناس، ولا يتعلموا (1) من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك
الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات " (2).
ومنها:
جرح الشهود، فإن الإجماع دل على جوازه، ولأن مصلحة عدم
الحكم بشهادة الفساق أولى من الستر على الفاسق.
ومثله - بل أولى بالجواز - جرح الرواة، فإن مفسدة العمل برواية
الفاسق أعظم من مفسدة شهادته.
ويلحق بذلك: الشهادة بالزنا وغيره لإقامة الحدود.
ومنها:
دفع الضرر عن المغتاب، وعليه يحمل ما ورد في ذم " زرارة "
من عدة أحاديث.
وقد بين ذلك الإمام عليه السلام بقوله - في بعض ما أمر عليه السلام
عبد الله بن زرارة بتبليغ أبيه -: " اقرأ مني على والدك السلام، فقل له:
إنما أعيبك دفاعا مني عنك، فإن الناس يسارعون إلى كل من قربناه
ومجدناه (3) لإدخال الأذى فيمن نحبه ونقربه، ويذمونه لمحبتنا له وقربه
ودنوه منا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله، ويحمدون كل من عيبناه نحن،

(1) في المصدر: ولا يتعلمون.
(2) الكافي 2: 375، باب مجالسة أهل المعاصي، الحديث 4، وعنه الوسائل
11: 508، الباب 39 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، الحديث الأول.
(3) في " ف " ونسخة بدل " ص ": حمدناه.
354

وإنما أعيبك، لأنك رجل اشتهرت بنا (1) بميلك إلينا، وأنت في ذلك مذموم
[عند الناس] (2) غير محمود الأمر (3)، لمودتك لنا وميلك إلينا، فأحببت
أن أعيبك، ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون ذلك منا
دافع شرهم عنك، يقول الله عز وجل: * (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون
في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) * (4).
هذا التنزيل من عند الله، لا والله! ما عابها إلا لكي تسلم من
الملك ولا تغصب (5) على يديه، ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها
مساغ، والحمد لله، فافهم المثل رحمك الله! فإنك أحب الناس إلي وأحب
أصحاب أبي إلي حيا وميتا، وإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام
الزاخر، وإن وراءك لملكا ظلوما غصوبا، يرقب عبور كل سفينة صالحة
ترد من بحر الهدى ليأخذها غصبا ويغصب أهلها، فرحمة الله عليك
حيا ورحمة الله عليك ميتا... الخ " (6).
ويلحق بذلك الغيبة للتقية على نفس المتكلم أو ماله أو عرضه،

(1) كذا في " ش "، وفي سائر النسخ ونسخة بدل " ش ": منا.
(2) من " ش " والمصدر.
(3) في " ش ": الأثر (خ ل).
(4) الكهف: 79.
(5) في " ف " ونسخة بدل " ش " والمصدر: ولا تعطب.
(6) رجال الكشي 1: 349، الرقم 221، مع اختلافات كثيرة لم نتعرض لذكرها
لكثرتها.
355

أو عن (1) ثالث، فإن الضرورات تبيح المحظورات.
ومنها:
ذكر الشخص بعيبه الذي صار بمنزلة الصفة المميزة التي لا يعرف
إلا بها (2) - كالأعمش والأعرج والأشتر والأحول، ونحوها -، وفي الحديث:
" جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " (3).
ولا بأس بذلك فيما إذا صارت الصفة في اشتهار يوصف (4)
الشخص بها إلى حيث لا يكره ذلك صاحبها، وعليه يحمل ما صدر
عن الإمام عليه السلام وغيره من العلماء الأعلام.
لكن كون هذا استثناء مبني على كون مجرد ذكر العيب الظاهر من
دون قصد الانتقاص غيبة، وقد منعنا ذلك سابقا، إذ لا وجه لكراهة
المغتاب، لعدم كونه إظهارا لعيب غير ظاهر، والمفروض عدم قصد الذم
أيضا.
اللهم إلا أن يقال: إن الصفات المشعرة بالذم كالألقاب المشعرة
به، يكره الإنسان الاتصاف بها ولو من دون قصد الذم، فإن إشعارها
بالذم كاف في الكراهة.
ومنها:
ما حكاه في كشف الريبة عن بعض: من أنه إذا علم اثنان من

(1) كذا في النسخ، والمناسب: على.
(2) في " ف "، " ن "، " خ "، " م " و " ع ": لا تعرف إلا به.
(3) الوسائل 12: 209، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.
(4) في " ن "، " ش " ومصححة " ص ": توصيف.
356

رجل معصية شاهداها فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي
جاز، لأنه لا يؤثر عند السامع شيئا، وإن كان الأولى تنزيه النفس
واللسان عن ذلك لغير غرض من الأغراض الصحيحة، خصوصا مع
احتمال نسيان المخاطب لذلك، أو خوف اشتهارها (1) عنهما (2)، انتهى.
أقول: إذا فرض عدم كون ذكرهما في مقام التعيير والمذمة وليس
هنا هتك ستر أيضا، فلا وجه للتحريم ولا لكونها غيبة، إلا على ظاهر
بعض التعاريف المتقدمة (3).
ومنها:
رد من ادعى نسبا ليس له، فإن مصلحة حفظ الأنساب أولى
من مراعاة حرمة المغتاب.
ومنها:
القدح في مقالة باطلة وإن دل على نقصان قائلها، إذا توقف
حفظ الحق وإضاعة الباطل عليه.
وأما ما وقع من بعض العلماء بالنسبة إلى من تقدم عليه منهم
من الجهر بالسوء من القول، فلم يعرف له وجه، مع شيوعه بينهم من
قديم الأيام!
ثم إنهم ذكروا موارد للاستثناء لا حاجة إلى ذكرها بعد

(1) كذا في المصدر، وفي النسخ: اشتهاره.
(2) كشف الريبة: 80.
(3) مثل ما تقدم في الصفحة: 321، عن المصباح، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
" إنها ذكرك أخاك بما يكرهه ".
357

ما قدمنا (1) أن الضابط في الرخصة وجود مصلحة غالبة على مفسدة
هتك احترام (2) المؤمن، وهذا يختلف باختلاف تلك المصالح ومراتب
مفسدة هتك المؤمن، فإنها متدرجة في القوة والضعف، فرب مؤمن
لا يساوي عرضه شئ، فالواجب التحري في الترجيح بين المصلحة
والمفسدة.

(1) في الصفحة: 351.
(2) في " ف ": على مصلحة احترام.
358

الرابع
يحرم استماع الغيبة بلا خلاف، فقد ورد: " أن السامع للغيبة أحد
المغتابين " (1).
والأخبار في حرمته كثيرة (2) إلا أن ما يدل على كونه من الكبائر
- كالرواية المذكورة ونحوها (3) - ضعيفة السند.
ثم المحرم سماع الغيبة المحرمة، دون ما علم حليتها.
ولو كان متجاهرا عند المغتاب مستورا عند المستمع وقلنا بجواز
الغيبة حينئذ للمتكلم، فالمحكي جواز الاستماع مع احتمال كونه متجاهرا،
لا مع (4) العلم بعدمه.
قال في كشف الريبة: إذا سمع أحد مغتابا لآخر وهو لا يعلم
المغتاب مستحقا للغيبة ولا عدمه، قيل: لا يجب نهي القائل، لإمكان
الاستحقاق، فيحمل فعل القائل على الصحة ما لم يعلم فساده، ولأن (5)

(1) أورده في كشف الريبة: 64، مرسلا عن علي عليه السلام.
(2) انظر الوسائل 8: 606، الباب 156 من أبواب أحكام العشرة، ومستدرك
الوسائل 9: 131، الباب 136 من أبواب أحكام العشرة.
(3) مثل ما رواه في كشف الريبة: 64 مرسلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بلفظ:
" المستمع أحد المغتابين ".
(4) في " ن "، " خ "، " م " و " ع ": إلا مع.
(5) كذا في " ش "، وفي غيره: لأن.
359

ردعه يستلزم انتهاك حرمته، وهو أحد المحرمين. ثم قال: والأولى
التنزه عن ذلك (1) حتى يتحقق المخرج منه، لعموم الأدلة وترك
الاستفصال فيها، وهو دليل إرادة العموم حذرا من الإغراء بالجهل،
ولأن ذلك لو تم لتمشى فيمن يعلم عدم استحقاق المقول عنه بالنسبة
إلى السامع مع احتمال اطلاع القائل على ما يوجب تسويغ مقالته،
وهو هدم قاعدة النهي عن الغيبة (2)، انتهى.
أقول: والمحكي بقوله: " قيل " لا دلالة فيه على جواز الاستماع،
وإنما يدل على عدم وجوب النهي عنه.
ويمكن القول بحرمة استماع هذه الغيبة مع فرض جوازها للقائل،
لأن السامع أحد المغتابين، فكما أن المغتاب تحرم عليه الغيبة إلا إذا علم
التجاهر المسوغ، فكذلك السامع يحرم عليه الاستماع إلا إذا علم التجاهر،
وأما نهي القائل فغير لازم مع دعوى القائل العذر المسوغ، بل مع احتماله
في حقه وإن اعتقد الناهي عدم التجاهر.
نعم، لو علم عدم اعتقاد القائل بالتجاهر وجب ردعه.
هذا، ولكن الأقوى جواز الاستماع إذا جاز للقائل، لأنه قول
غير منكر، فلا يحرم الإصغاء إليه، للأصل.

(1) كذا في النسخ، وفي المصدر: " والأولى التنبيه على ذلك "، إلا أن في نسخة
" ف " كتب أولا مثل ما في المصدر، ثم شطب عليه وأثبت مثل ما في سائر
النسخ.
(2) كشف الريبة: 81.
360

والرواية (1) - على تقدير صحتها - تدل على أن السامع لغيبة
كقائل تلك الغيبة، فإن كان القائل عاصيا كان المستمع كذلك، فتكون
دليلا على الجواز فيما نحن فيه.
نعم، لو استظهر منها أن السامع للغيبة كأنه متكلم بها، فإن جاز
للسامع التكلم بغيبة (2) جاز سماعها، وإن حرم عليه حرم سماعها أيضا،
كانت الرواية - على تقدير صحتها - دليلا للتحريم فيما نحن فيه،
لكنه خلاف الظاهر من الرواية على تقدير قراءة " المغتابين " بالتثنية،
وإن كان هو الظاهر على تقدير قراءته بالجمع، لكن هذا التقدير خلاف
الظاهر، وقد تقدم في مسألة التشبيب أنه إذا (3) كان شك السامع في حصول
شرط حرمته من القائل لم يحرم استماعه، فراجع (4).
ثم إنه يظهر من الأخبار المستفيضة وجوب رد الغيبة:
فعن المجالس بإسناده عن أبي ذر رضوان الله عليه عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من اغتيب عنده أخوه المؤمن وهو يستطيع نصره
فنصره، نصره الله تعالى في الدنيا والآخرة، وإن خذله وهو يستطيع
نصره، خذله الله في الدنيا والآخرة " (5).

(1) وهي قوله عليه السلام: " إن السامع للغيبة أحد المغتابين "، المتقدم في الصفحة: 359.
(2) ظاهر " ف ": بغيبته.
(3) في " ن "، " ع " و " ص ": إذا كان.
(4) راجع الصفحة: 181.
(5) أمالي الطوسي 2: 150، وعنه الوسائل 8: 608، الباب 156 من أبواب
أحكام العشرة، الحديث 8.
361

ونحوها عن الصدوق بإسناده عن الصادق عن آبائه عليهم السلام في
وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام (1).
وعن عقاب الأعمال بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من رد عن
أخيه غيبة سمعها في مجلس رد الله عنه ألف باب من الشر في الدنيا
والآخرة، فإن لم يرد عنه وأعجبه كان عليه كوزر من اغتابه " (2).
وعن الصدوق بإسناده عن الصادق عليه السلام - في حديث المناهي -
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من تطول على أخيه في غيبة سمعها [فيه، في
مجلس] (3) فردها عنه رد الله عنه ألف باب من الشر في الدنيا
والآخرة، فإن هو لم يردها وهو قادر على ردها كان عليه كوزر من
اغتابه سبعين مرة... الخبر (4) " (5).
ولعل وجه زيادة عقابه أنه إذا لم يرده تجرأ المغتاب على الغيبة،
فيصر على هذه الغيبة وغيرها.
والظاهر أن الرد غير النهي عن الغيبة، والمراد به الانتصار

(1) الفقيه 4: 372، باب النوادر، الحديث 5762، وعنه الوسائل 8: 606،
الباب 156 من أبواب أحكام العشرة، الحديث الأول.
(2) عقاب الأعمال: 335، وعنه الوسائل 8: 607، الباب 156 من أبواب
أحكام العشرة، الحديث 5.
(3) من " ع "، " ص " والمصدر.
(4) كذا في النسخ، والظاهر زيادة " الخبر "، لأن الحديث مذكور بتمامه.
(5) الفقيه 4: 15، الحديث 4968، وعنه الوسائل 8: 600، الباب 152 من
أبواب أحكام العشرة، الحديث 13.
362

للغائب بما يناسب تلك الغيبة، فإن كان عيبا دنيويا انتصر له بأن العيب
ليس إلا ما عاب الله به من المعاصي التي من أكبرها ذكرك أخاك
بما لم يعبه الله به، وإن كان عيبا دينيا وجهه بمحامل تخرجه عن المعصية،
فإن لم يقبل التوجيه انتصر له بأن المؤمن قد يبتلي بالمعصية، فينبغي
أن تستغفر له وتهتم له، لا أن تعير عليه، وأن تعييرك إياه لعله أعظم
عند الله من معصيته، ونحو ذلك.
ثم إنه قد يتضاعف عقاب المغتاب إذا كان ممن يمدح المغتاب
في حضوره، وهذا وإن كان في نفسه مباحا إلا أنه إذا انضم مع ذمه
في غيبته سمي صاحبه " ذو اللسانين " (1) وتأكد حرمته، ولذا ورد
في المستفيضة: " أنه يجئ ذو اللسانين يوم القيامة وله لسانان من النار " (2)،
فإن لسان المدح في الحضور وإن لم يكن لسانا من نار، إلا أنه إذا انضم
إلى لسان الذم في الغياب صار كذلك.
وعن المجالس بسنده عن حفص بن غياث، عن الصادق عليه السلام،
عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" من مدح أخاه المؤمن في وجهه واغتابه من ورائه فقد انقطعت العصمة
بينهما " (3).

(1) في " خ " و " م " زيادة: يوم القيامة.
(2) الوسائل 8: 581، الباب 143 من أبواب أحكام العشرة، الأحاديث 1 و 7
و 8 و 9، وفي الجميع: " لسانان من نار "، بدون الألف واللام.
(3) أمالي الصدوق: 466، المجلس 85، الحديث 21 مع اختلاف يسير، وعنه
الوسائل 8: 583، الباب 143 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 10.
363

وعن الباقر عليه السلام: " بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين!
يطري أخاه شاهدا ويأكله غائبا، إن أعطي حسده، وإن ابتلي خذله " (1).
واعلم أنه قد يطلق الاغتياب على " البهتان " وهو أن يقال
في شخص ما ليس فيه، وهو أغلظ تحريما من الغيبة، ووجهه ظاهر،
لأنه جامع بين مفسدتي (2) الكذب والغيبة، ويمكن القول بتعدد العقاب
من جهة كل من العنوانين والمركب.
وفي رواية علقمة، عن الصادق عليه السلام: " حدثني أبي، عن
آبائه عليهم السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: من اغتاب مؤمنا
بما فيه لم يجمع الله بينهما في الجنة أبدا، ومن اغتاب مؤمنا بما ليس فيه
فقد انقطعت العصمة بينهما، وكان المغتاب خالدا في النار وبئس
المصير " (3).

(1) الوسائل 8: 582، الباب 143 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.
(2) في " ف ": جامع لمفسدتي.
(3) الوسائل 8: 601، الباب 152 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 20،
باختلاف يسير.
364

خاتمة
في بعض ما ورد من حقوق المسلم على أخيه
ففي صحيحة مرازم، عن أبي عبد الله عليه السلام: " ما عبد الله
بشئ أفضل من أداء حق المؤمن " (1).
وروي في الوسائل وكشف الريبة، عن كنز الفوائد - للشيخ
الكراجكي -، عن الحسين بن محمد بن علي الصيرفي، عن محمد بن علي
الجعابي، عن القاسم بن محمد بن جعفر العلوي، عن أبيه، عن آبائه،
عن علي عليهم السلام، قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: للمسلم على أخيه
ثلاثون حقا، لا براءة له منها إلا بأدائها أو العفو: يغفر زلته،
ويرحم عبرته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته،
ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويعود مرضه، ويشهد ميتته (2)،
ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته،
ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويستنجح مسألته،
ويسمت عطسته، ويرشد ضالته، ويرد سلامه، ويطيب كلامه، ويبر إنعامه،
ويصدق أقسامه، [ويوالي وليه] (3) ولا يعاديه (4) وينصره ظالما ومظلوما

(1) الوسائل 8: 542، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث الأول.
(2) كذا في " ف " و " ص " والمصادر، وفي غيرها: ميته.
(3) كذا في النسخ، وشطب عليه في " ف "، وكتب بدله: ويواليه، والعبارة في
كشف الريبة أيضا: ويواليه.
(4) في الوسائل: " ولا يعاد "، وأما في كنز الفوائد فهكذا: " ويوالي وليه ويعادي
عدوه ".
365

- فأما نصرته ظالما فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوما فيعينه
على أخذ حقه -، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب
لنفسه، ويكره له [من الشر] (1) ما يكره لنفسه "، ثم قال عليه السلام:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه
شيئا فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له عليه " (2).
والأخبار في حقوق المؤمن كثيرة (3).
والظاهر إرادة الحقوق المستحبة التي ينبغي أداؤها، ومعنى القضاء
لذيها على من هي عليه (4): المعاملة معه معاملة من أهملها بالحرمان
عما أعد لمن أدى حقوق الأخوة.
ثم إن ظاهرها وإن كان عاما، إلا أنه يمكن تخصيصها بالأخ
العارف بهذه الحقوق المؤدي لها بحسب اليسر، أما المؤمن المضيع لها
فالظاهر عدم تأكد مراعاة هذه الحقوق بالنسبة إليه، ولا يوجب إهمالها
مطالبته (5) يوم القيامة، لتحقق المقاصة، فإن التهاتر يقع في الحقوق،
كما يقع في الأموال.

(1) لم ترد في أصل النسخ، إلا أنها استدركت في هامش بعضها من المصدر.
(2) كنز الفوائد 1: 306، وعنه كشف الريبة: 114، والوسائل 8: 550، الباب
122 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 24، وفيها: فيقضي له وعليه.
(3) انظر الوسائل 8: 542، الباب 122 من أبواب أحكام العشرة.
(4) كذا في " ش " ومصححة " ص "، وفي " ف "، " ن "، " م " و " ع " وهامش " ش "
(خ ل): لذيها على من عليها.
(5) في " ن "، " خ "، " م "، " ع " و " ص ": مطالبة.
366

وقد ورد في غير واحد من الأخبار ما يظهر منه الرخصة في
ترك هذه الحقوق لبعض الإخوان، بل لجميعهم إلا القليل:
فعن الصدوق رحمه الله - في الخصال، وكتاب الإخوان -، والكليني
بسندهما عن أبي جعفر عليه السلام (1) قال: " قام إلى أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام
رجل بالبصرة، فقال: أخبرنا عن الإخوان، فقال عليه السلام: الإخوان
صنفان، إخوان الثقة وإخوان المكاشرة (2)، فأما إخوان الثقة فهم
كالكف والجناح والأهل والمال، فإذا كنت من أخيك على ثقة فابذل له
مالك ويدك، وصاف من صافاه، وعاد من عاداه، واكتم سره وعيبه (3)،
وأظهر منه الحسن، واعلم أيها السائل أنهم أعز من الكبريت الأحمر!،
وأما إخوان المكاشرة فإنك تصيب منهم لذتك، فلا تقطعن ذلك منهم،
ولا تطلبن ما وراء ذلك من ضميرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك من
طلاقة الوجه وحلاوة اللسان " (4).
وفي رواية عبيد الله الحلبي - المروية في الكافي - عن

(1) في " ف " زيادة: ففي مرسلة أحمد بن محمد بن عيسى، عن بعض أصحابه،
عن أبي جعفر عليه السلام.
(2) كاشره: إذا تبسم في وجهه وانبسط معه (مجمع البحرين 3: 474 - كشر).
(3) كذا في " ش " والكافي والخصال، وفي سائر النسخ: " وأعنه "، كما في كتاب
مصادقة الإخوان والوسائل.
(4) الخصال 1: 49، باب الاثنين، الحديث 56، مصادقة الإخوان: 30، الحديث
الأول، الكافي 2: 248، الحديث 3، وانظر الوسائل 8: 404، الباب 3 من
أبواب أحكام العشرة، الحديث الأول.
367

أبي عبد الله عليه السلام، قال: " لا تكون الصداقة إلا بحدودها فمن كانت
فيه هذه الحدود أو شئ منها فانسبه إلى الصداقة، ومن لم يكن فيه
شئ منها فلا تنسبه إلى شئ من الصداقة:
فأولها - أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة.
والثانية - أن يرى زينك زينه وشينك شينه.
والثالثة - أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال.
والرابعة - أن لا يمنعك شيئا تناله مقدرته (1).
والخامسة - وهي تجمع (2) هذه الخصال -: أن لا يسلمك عند
النكبات " (3).
ولا يخفى أنه إذا لم تكن الصداقة لم تكن الأخوة، فلا بأس بترك
الحقوق المذكورة بالنسبة إليه.
وفي نهج البلاغة: " لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في
ثلاث: في نكبته، وفي غيبته، وفي وفاته " (4).
وفي كتاب الإخوان، بسنده عن الوصافي، عن أبي جعفر عليه السلام،

(1) كذا في " ص " والمصدر، وفي سائر النسخ: بقدرته.
(2) كذا في " ف " والمصدر، وفي سائر النسخ: مجمع.
(3) الكافي 2: 639، الحديث 6، وعنه الوسائل 8: 413، الباب 13 من أبواب
أحكام العشرة، الحديث الأول.
(4) نهج البلاغة: 494، الحكمة رقم: 134، وفيه: " في نكبته، وغيبته،
ووفاته ".
368

قال: " قال لي: أرأيت من كان قبلكم (1) إذا كان الرجل ليس عليه
رداء وعند بعض إخوانه رداء يطرحه عليه؟ قلت: لا، قال: فإذا كان
ليس عنده إزار يوصل إليه بعض إخوانه بفضل إزاره حتى يجد له إزارا؟
قلت: لا، قال: فضرب بيده على فخذه! وقال: ما هؤلاء بإخوة... الخ (2) " (3)
دل على أن من لا يواسي المؤمن ليس بأخ له، فلا يكون له حقوق
الأخوة المذكورة في روايات الحقوق.
ونحوه رواية ابن أبي عمير عن خلاد - رفعه - قال: " أبطأ على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل، فقال: ما أبطأ بك؟ قال: العري
يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أما كان لك جار له ثوبان يعيرك
أحدهما؟ فقال: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذا لك
بأخ " (4).
وفي رواية يونس بن ظبيان، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام:
" اختبروا إخوانكم بخصلتين، فإن كانتا فيهم، وإلا، فاعزب ثم

(1) في المصدر: من قبلكم.
(2) كذا في النسخ، والظاهر زيادة: " الخ "، فإن ما ورد هو تمام الحديث.
(3) مصادقة الإخوان: 36، الحديث الأول، وعنه الوسائل 8: 414، الباب 14
من أبواب أحكام العشرة، الحديث الأول.
(4) مصادقة الإخوان: 36، الحديث 4، وعنه الوسائل 8: 415، الباب 14
من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.
369

أعزب (1): المحافظة على الصلوات في مواقيتها، والبر بالإخوان في اليسر
والعسر " (2).

(1) كذا في المصدر، وفي سائر النسخ: فاغرب ثم اغرب، وفي المصدر زيادة:
ثم أعزب. قال في مجمع البحرين (2: 120): أعزب ثم أعزب على [عن - ظ]
الأمر: أي أبعد نفسك عن الأمر ثم أبعد.
(2) الوسائل 8: 503، الباب 103 من أبواب أحكام العشرة، الحديث الأول.
370

[المسألة] الخامسة عشر
القمار حرام إجماعا،
ويدل عليه الكتاب (1) والسنة المتواترة (2).
وهو - بكسر القاف - كما عن بعض أهل اللغة: " الرهن على اللعب
بشئ من الآلات المعروفة " (3) وحكي عن جماعة أنه قد يطلق على اللعب
بهذه الأشياء مطلقا ولو من دون رهن (4)، وبه صرح في جامع المقاصد (5).
وعن بعض (6) أن أصل المقامرة المغالبة.
وكيف كان، فهنا مسائل أربع، لأن اللعب قد يكون بآلات القمار

(1) مثل قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) * المائدة: 90.
(2) انظر الوسائل 12: 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به.
(3) انظر مجمع البحرين 3: 463، ففيه ما هو قريب من العبارة المذكورة.
(4) حكاه في مفتاح الكرامة (4: 56) عن ظاهر الصحاح والمصباح المنير
والتكملة والذيل، لكن راجعنا الصحاح والمصباح فلم نقف فيهما على كلام ظاهر
في ذلك، وأما التكملة والذيل فلم تكونا في متناول أيدينا لنراجعهما.
(5) جامع المقاصد 4: 24.
(6) لم نقف عليه.
371

مع الرهن، وقد يكون بدونه، والمغالبة بغير آلات القمار قد تكون مع
العوض، وقد تكون بدونه.
فالأولى - اللعب بآلات القمار مع الرهن.
ولا إشكال في حرمته وحرمة العوض، والإجماع عليه (1) محقق،
والأخبار به (2) متواترة (3).
الثانية - اللعب بآلات القمار من دون رهن.
وفي صدق القمار عليه نظر، لما عرفت، ومجرد الاستعمال
لا يوجب إجراء أحكام المطلقات ولو مع البناء على أصالة الحقيقة
في الاستعمال، لقوة انصرافها إلى الغالب من وجود الرهن في اللعب بها.
ومنه تظهر الخدشة في الاستدلال على المطلب بإطلاق النهي
عن اللعب بتلك الآلات، بناء على انصرافه إلى المتعارف من ثبوت الرهن.
نعم، قد يبعد دعوى الانصراف في رواية أبي الربيع الشامي:
" عن الشطرنج والنرد؟ قال: لا تقربوهما، قلت: فالغناء؟ قال:
لا خير فيه، لا تقربه " (4).

(1) كذا في جميع النسخ، والمناسب: عليها.
(2) كذا في جميع النسخ، والمناسب: بها.
(3) انظر الوسائل 12: 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، وراجع الأبواب
102 و 103 و 104.
(4) الوسائل 12: 239، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.
372

والأولى الاستدلال على ذلك بما تقدم في رواية تحف العقول
من أن ما يجئ منه الفساد محضا لا يجوز التقلب فيه من جميع وجوه
الحركات (1).
وفي تفسير القمي، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام
- في قوله تعالى: * (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل
الشيطان فاجتنبوه) * (2) - قال: " أما الخمر فكل مسكر من الشراب
- إلى أن قال -: وأما الميسر فالنرد والشطرنج، وكل قمار ميسر
- إلى أن قال -: وكل هذا بيعه وشراؤه والانتفاع بشئ من هذا حرام (3)
محرم " (4).
وليس المراد بالقمار - هنا - المعنى المصدري، حتى يرد ما تقدم
من انصرافه إلى اللعب مع الرهن، بل المراد الآلات بقرينة قوله: " بيعه
وشراؤه "، وقوله: " وأما الميسر فهو النرد... الخ ".
ويؤيد الحكم ما عن مجالس المفيد الثاني رحمه الله - ولد شيخنا
الطوسي رحمه الله - بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير الميسر من أن
" كل ما ألهى عن ذكر الله فهو الميسر " (5).

(1) تقدم نص الرواية في أول الكتاب.
(2) المائدة: 90.
(3) في المصدر: حرام من الله محرم.
(4) تفسير القمي 1: 180 - 181، والوسائل 12: 239، الباب 103 من أبواب
ما يكتسب به، الحديث 12.
(5) أمالي الطوسي 1: 345، وعنه الوسائل 12: 235، الباب 100 من أبواب
ما يكتسب به، الحديث 15.
373

ورواية الفضيل، قال: " سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الأشياء
التي يلعب بها الناس من النرد والشطرنج... حتى انتهيت إلى السدر (1)،
قال: إذا ميز الله الحق من الباطل مع أيهما يكون؟ قلت (2): مع الباطل،
قال: وما لك والباطل؟! " (3).
وفي موثقة زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام: " أنه سئل عن
الشطرنج وعن لعبة شبيب (4) - التي يقال لها: لعبة الأمير (5) - وعن لعبة
الثلاث؟ فقال: أرأيتك (6) إذا ميز الله بين الحق والباطل مع أيهما
تكون؟ قلت (7): مع الباطل، قال: فلا خير فيه " (8).
وفي رواية عبد الواحد بن مختار، عن اللعب بالشطرنج، قال: " إن
المؤمن لمشغول عن اللعب " (9).
فإن مقتضى إناطة الحكم بالباطل واللعب عدم اعتبار الرهن في

(1) السدر - كعبر - لعبة للصبيان (مجمع البحرين 3: 328 - سدر). قال
ابن الأثير: السدر لعبة يقامر بها، وتكسر سينها وتضم، وهي فارسية معربة
عن ثلاثة أبواب (النهاية 2: 354 - سدر).
(2) من مصححة " ص " والكافي (6: 436، الحديث 9)، وفي سائر النسخ: قال.
(3) الوسائل 12: 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.
(4) كذا في " ص " والمصدر، وفي سائر النسخ: لعبة شيث.
(5) كذا في " ص " والمصدر، وفي سائر النسخ: لعبة الأحمر.
(6) في " ن "، " ع " و " س ": أرأيت.
(7) كذا في " ف "، " ص " و " ش "، وفي سائر النسخ: قال.
(8) الوسائل 12: 238، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.
(9) الوسائل 12: 239، الباب 102 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11.
374

حرمة اللعب بهذه الأشياء، ولا يجري دعوى الانصراف هنا.
الثالثة - المراهنة على اللعب بغير الآلات المعدة للقمار.
كالمراهنة على حمل الحجر الثقيل وعلى المصارعة وعلى الطيور
وعلى الطفرة، ونحو ذلك مما عدوها في باب السبق والرماية من أفراد
غير ما نص على جوازه.
والظاهر الإلحاق بالقمار في الحرمة والفساد، بل صريح بعض أنه
قمار (1).
وصرح العلامة الطباطبائي رحمه الله - في مصابيحه - بعدم الخلاف في
الحرمة والفساد (2)، وهو ظاهر كل من نفى الخلاف في تحريم المسابقة
فيما عدا المنصوص مع العوض وجعل محل الخلاف فيها بدون العوض (3)،
فإن ظاهر ذلك أن محل الخلاف هنا هو محل الوفاق هناك، ومن المعلوم
أنه ليس هنا إلا الحرمة التكليفية، دون خصوص الفساد.
ويدل عليه أيضا قول الصادق عليه السلام: أنه قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الملائكة لتحضر الرهان في الخف والحافر

(1) صرح بذلك السيد الطباطبائي في كتاب السبق والرماية من الرياض 2: 41.
(2) (مخطوط) ولم نقف عليه.
(3) من وقفنا عليه منهم هو الشهيد الثاني في المسالك (الطبعة الحجرية) 1: 301،
والمحقق النجفي في الجواهر 28: 218 و 219، لكنه في كتاب التجارة استظهر
اختصاص الحرمة بما كان بالآلات المعدة للقمار، كما سيأتي.
375

والريش، وما سوى ذلك قمار حرام " (1).
وفي رواية العلاء بن سيابة، عن الصادق عليه السلام، عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أن الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه
ما خلا الحافر [والخف] (2) والريش والنصل " (3).
والمحكي عن تفسير العياشي، عن ياسر الخادم، عن الرضا عليه السلام
قال: " سألته عن الميسر، قال: الثقل (4) من كل شئ، قال: والثقل (5)
ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم وغيرها (6) " (7).
وفي مصححة معمر بن خلاد: " كل ما قومر عليه فهو ميسر " (8).
وفي رواية جابر عن أبي جعفر عليه السلام: " قيل: يا رسول الله

(1) الوسائل 13: 349، الباب 3 من أبواب أحكام السبق والرماية، الحديث 3،
باختلاف يسير.
(2) من هامش " ص " والمصدر.
(3) الوسائل 13: 347، الباب الأول من أبواب أحكام السبق والرماية، الحديث 6.
وقد روى المحدث العاملي هذه الرواية عن الصدوق عن الصادق عليه السلام،
وليس في سندها " العلاء بن سيابة "، لكنه موجود في الفقيه 3: 48، الحديث 3303.
(4) في الوسائل: التفل.
(5) في المصدر: الخبز والثقل.
(6) في المصدر: وغيره.
(7) تفسير العياشي 1: 341، الحديث 187، وعنه في الوسائل 12: 121،
الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.
(8) الوسائل 12: 242، الباب 104 من أبواب ما يكتسب به، الحديث الأول.
376

ما الميسر؟ قال: كل ما يقامر به (1) حتى الكعاب والجوز " (2). والظاهر
أن المقامرة بمعنى المغالبة على الرهن.
ومع هذه الروايات الظاهرة بل الصريحة في التحريم - المعتضدة
بدعوى عدم الخلاف في الحكم ممن تقدم - فقد استظهر بعض مشايخنا
المعاصرين (3) اختصاص الحرمة بما كان بالآلات المعدة للقمار، وأما
مطلق الرهان على المغالبة (4) بغيرها فليس فيه إلا فساد المعاملة وعدم
تملك الرهن (5)، فيحرم التصرف فيه، لأنه أكل مال بالباطل، ولا معصية
من جهة العمل كما في القمار، بل لو أخذ الرهن هنا بعنوان الوفاء
بالعهد، الذي هو نذر لا كفارة له مع طيب النفس من الباذل - لا بعنوان
أن المقامرة المذكورة أوجبته وألزمته - أمكن القول بجوازه (6).
وقد عرفت من الأخبار إطلاق القمار عليه، وكونه موجبا للعن
الملائكة وتنفرهم، وأنه من الميسر المقرون بالخمر.
وأما ما ذكره أخيرا من جواز أخذ الرهن بعنوان الوفاء بالعهد،
فلم أفهم معناه، لأن العهد الذي تضمنه العقد الفاسد لا معنى لاستحباب
الوفاء به، إذ لا يستحب ترتيب آثار الملك على ما لم يحصل فيه سبب تملك،

(1) في المصدر: تقومر به.
(2) الوسائل 12: 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(3) هو صاحب الجواهر قدس سره.
(4) في مصححة " خ " و " ش ": مطلق الرهان والمغالبة.
(5) في " ص " و " ش ": الراهن.
(6) انتهى ما أفاده صاحب الجواهر - نقلا بالمعنى -، انظر الجواهر 22: 109 - 110.
377

إلا أن يراد صورة الوفاء، بأن يملكه تمليكا (1) جديدا بعد الغلبة في اللعب.
لكن حل الأكل على هذا الوجه جار في القمار المحرم أيضا، غاية
الأمر الفرق بينهما بأن الوفاء لا يستحب في المحرم، لكن الكلام
في تصرف المبذول له (2) بعد التمليك (3) الجديد، لا في فعل الباذل
وأنه يستحب له أو لا.
وكيف كان، فلا أظن الحكم بحرمة الفعل - مضافا إلى الفساد -
محل إشكال، بل ولا محل خلاف، كما يظهر من كتاب السبق والرماية،
وكتاب الشهادات، وتقدم دعواه صريحا من بعض الأعلام (4).
نعم، عن الكافي والتهذيب بسندهما عن محمد بن قيس، عن
أبي جعفر عليه السلام: " أنه قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل آكل
وأصحاب له شاة، فقال: إن أكلتموها فهي لكم، وإن لم تأكلوها فعليكم
كذا وكذا، فقضى فيه: أن ذلك باطل، لا شئ في المؤاكلة من الطعام (5)
ما قل منه أو كثر (6)، ومنع غرامة (7) فيه " (8).

(1) في " ف "، " خ "، " م "، " ع " و " ص ": تملكا.
(2) من مصححة " ن " و " ش ".
(3) في " ن "، " خ "، " م "، " ع " و " ص ": التملك.
(4) تقدمت دعواه عن العلامة الطباطبائي قدس سره في الصفحة: 375.
(5) في التهذيب: لا شئ فيه للمواكلة في الطعام.
(6) في المصدرين: وما كثر.
(7) في " ص " والمصدرين: غرامته.
(8) الكافي 7: 428، الحديث 11، والتهذيب 6: 290، الحديث 803، وعنهما
الوسائل 16: 114، الباب 5 من أبواب كتاب الجعالة، الحديث الأول وذيله.
378

وظاهرها - من حيث عدم ردع الإمام عليه السلام عن فعل مثل
هذا - أنه ليس بحرام، إلا أنه لا يترتب عليه الأثر. لكن هذا وارد
على تقدير القول بالبطلان وعدم التحريم، لأن (1) التصرف في هذا المال
مع فساد المعاملة حرام أيضا، فتأمل.
ثم إن حكم العوض - من حيث الفساد - حكم سائر المأخوذ
بالمعاملات الفاسدة، يجب رده على مالكه مع بقائه، ومع التلف فالبدل
مثلا أو قيمة.
وما ورد من قئ الإمام عليه السلام البيض الذي قامر به الغلام (2)،
فلعله للحذر من أن يصير الحرام جزءا من بدنه، لا للرد على المالك.
لكن يشكل بأن ما كان تأثيره كذلك يشكل أكل المعصوم عليه السلام
له جهلا، بناء على عدم إقدامه على المحرمات الواقعية غير المتبدلة بالعلم
لا جهلا ولا غفلة، لأن ما دل على عدم جواز الغفلة عليه في ترك
الواجب وفعل الحرام دل على عدم جواز الجهل عليه في ذلك.
اللهم إلا أن يقال: بأن مجرد التصرف من المحرمات العلمية
والتأثير الواقعي غير المتبدل بالجهل إنما هو في بقائه وصيرورته بدلا
عما يتحلل من بدنه عليه السلام، والفرض اطلاعه عليه في أوائل وقت
تصرف المعدة ولم يستمر جهله.
هذا كله لتطبيق فعلهم على القواعد، وإلا فلهم في حركاتهم

(1) كذا في النسخ، والعبارة - على فرض عدم وقوع السقط أو التصحيف فيها -
لا تخلو عن إجمال.
(2) الوسائل 12: 119، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.
379

من أفعالهم وأقوالهم شؤون لا يعلمها غيرهم.
الرابعة - المغالبة بغير عوض في غير ما نص على جواز المسابقة فيه.
والأكثر - على ما في الرياض (1) - على التحريم، بل حكى فيها
عن جماعة (2) دعوى الإجماع عليه، وهو الظاهر من بعض العبارات
المحكية عن التذكرة.
فعن موضع منها: أنه لا تجوز المسابقة على المصارعة بعوض
ولا بغير عوض عند علمائنا أجمع، لعموم النهي إلا في الثلاثة: الخف،
والحافر، والنصل (3). وظاهر استدلاله أن مستند الإجماع هو النهي،
وهو جار في غير المصارعة أيضا.
وعن موضع آخر (4): لا تجوز المسابقة على رمي الحجارة باليد
والمقلاع والمنجنيق، سواء كان بعوض أو بغير عوض عند علمائنا (5).
وعنه (6) أيضا: لا يجوز المسابقة على المراكب والسفن والطيارات (7)

(1) الرياض 2: 41، وفيه: النسبة إلى الأشهر.
(2) منهم القاضي في المهذب 1: 331، والمحقق الثاني في جامع المقاصد 8: 326،
والعلامة في التذكرة، كما يأتي.
(3) التذكرة 2: 354.
(4) العبارات المحكية عن التذكرة - هنا - كلها في موضع واحد وصفحة واحدة.
(5) التذكرة 2: 354.
(6) كذا في " ف " ومصححة " م "، وفي سائر النسخ: وفيه.
(7) أي: ما يطير من الحيوانات.
380

عند علمائنا (1).
وقال أيضا: لا يجوز المسابقة على مناطحة الغنم ومهارشة الديك،
بعوض ولا بغير عوض.
قال: وكذلك لا يجوز المسابقة على (2) ما لا ينتفع به في الحرب (3).
وعد في ما مثل به اللعب بالخاتم والصولجان، ورمي البنادق والجلاهق،
والوقوف على رجل واحدة، ومعرفة ما في اليد من الزوج والفرد،
وسائر الملاعب، وكذلك اللبث في الماء، قال: وجوزه بعض الشافعية،
وليس بجيد (4)، انتهى.
وظاهر المسالك الميل إلى الجواز (5)، واستجوده في الكفاية (6)، وتبعه
بعض من تأخر عنه (7)، للأصل، وعدم ثبوت الإجماع، وعدم النص
عدا ما تقدم من التذكرة من عموم النهي، وهو غير دال، لأن " السبق "
في الرواية يحتمل التحريك، بل في المسالك: أنه المشهور في الرواية (8)،
وعليه فلا تدل إلا على تحريم المراهنة، بل هي غير ظاهرة في التحريم
أيضا، لاحتمال إرادة فسادها، بل هو الأظهر، لأن نفي العوض ظاهر

(1) التذكرة 2: 354.
(2) كذا في " ف " والمصدر، وفي سائر النسخ: وكذلك لا يجوز المسابقة بما....
(3) في " ف ": ما لا ينفع في الحرب.
(4) التذكرة 2: 354.
(5) المسالك (الطبعة الحجرية) 1: 301.
(6) كفاية الأحكام: 137.
(7) الظاهر المراد به هو المحدث البحراني، انظر الحدائق 22: 366.
(8) المسالك 1: 301.
381

في نفي استحقاقه، وإرادة نفي جواز العقد عليه في غاية البعد.
وعلى تقدير السكون، فكما يحتمل نفي الجواز التكليفي يحتمل
نفي الصحة، لوروده مورد الغالب، من اشتمال المسابقة على العوض.
وقد يستدل للتحريم أيضا بأدلة القمار، بناء على أنه مطلق
المغالبة ولو بدون العوض، كما يدل عليه ما تقدم من إطلاق الرواية (1)
بكون اللعب بالنرد والشطرنج بدون العوض قمارا.
ودعوى أنه يشترط في صدق القمار أحد الأمرين: إما كون
المغالبة بالآلات المعدة للقمار وإن لم يكن عوض، وإما المغالبة
مع العوض وإن لم يكن بالآلات المعدة للقمار - على ما يشهد به إطلاقه
في رواية الرهان في الخف والحافر (2) - في غاية البعد، بل الأظهر
أنه مطلق المغالبة.
ويشهد له أن إطلاق " آلة القمار " موقوف على عدم دخول الآلة
في مفهوم القمار، كما في سائر الآلات المضافة إلى الأعمال، والآلة
غير مأخوذة في المفهوم، وقد عرفت أن العوض أيضا غير مأخوذ
فيه (3)، فتأمل.

(1) أي رواية أبي الربيع الشامي أو رواية أبي الجارود، المتقدمتان في الصفحة:
372 و 373، ويحتمل أن يراد بها الجنس، فيكون المراد بها جميع الروايات
المذكورة في المسألة الثانية.
(2) رواية العلاء بن سيابة، المتقدمة في الصفحة: 377.
(3) لم نعرف منه فيما تقدم إلا ما ذكره آنفا من إطلاق الرواية بكون اللعب بالنرد
والشطرنج بدون العوض قمارا، والكلام هنا في المفهوم العرفي للقمار، ولعله إلى
ذلك أشار بقوله: " فتأمل ".
382

ويمكن أن يستدل على التحريم أيضا بما تقدم من أخبار حرمة
الشطرنج والنرد، معللة بكونهما (1) من الباطل واللعب، وأن " كل ما ألهى
عن ذكر الله عز وجل فهو الميسر " (2). وقوله عليه السلام في بيان حكم اللعب
بالأربعة عشر: " لا نستحب (3) شيئا من اللعب غير الرهان والرمي " (4).
والمراد رهان الفرس، ولا شك في صدق اللهو واللعب في ما نحن فيه،
ضرورة أن العوض لا دخل له في ذلك.
ويؤيده ما دل على أن كل لهو المؤمن باطل خلا ثلاثة، وعد
منها إجراء الخيل، وملاعبة الرجل امرأته (5) ولعله لذلك كله استدل في
الرياض (6) تبعا للمهذب (7) [في مسألتنا] (8) بما دل على حرمة اللهو.
لكن قد يشكل الاستدلال في ما إذا تعلق بهذه الأفعال غرض
صحيح يخرجه عن صدق اللهو عرفا، فيمكن إناطة الحكم باللهو ويحكم

(1) كذا في مصححة " ن "، وفي سائر النسخ: بكونها.
(2) تقدم في الصفحة: 373.
(3) كذا في " ف " و " ن "، وفي غيرهما: لا تستحب، وفي الوسائل: لا يستحب.
(4) الوسائل 12: 235، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 14.
(5) الوسائل 11: 107، الباب 58 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3، وفيه:
" كل لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث: في تأديبه الفرس، ورميه عن قوسه،
وملاعبته امرأته... الحديث ".
(6) الرياض 2: 41.
(7) لم نقف عليه في مهذب القاضي، والاستدلال المذكور موجود في المهذب البارع
3: 82.
(8) لم يرد في " ن "، " م " و " ش "، وشطب عليه في " ف ".
383

في غير مصاديقه بالإباحة، إلا أن يكون قولا بالفصل، وهو غير
معلوم. وسيجئ بعض الكلام في ذلك عند التعرض لحكم اللهو
وموضوعه إن شاء الله.
384

[المسألة] السادسة عشر
القيادة حرام (1)، وهي السعي بين الشخصين لجمعهما على الوطء
المحرم، وهي من الكبائر، وقد تقدم تفسير " الواصلة والمستوصلة " بذلك
في مسألة تدليس الماشطة (2).
وفي صحيحة ابن سنان: أنه " يضرب ثلاثة أرباع حد الزاني،
خمسة وسبعين سوطا، وينفى من المصر الذي هو فيه " (3).

(1) من " ش " وهامش " م "
(2) في رواية سعد الإسكاف: "... قلنا له: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
لعن الواصلة والمستوصلة، فقال: ليس هناك، إنما لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الواصلة التي تزني في شبابها فإذا كبرت قادت النساء إلى الرجال، فتلك
الواصلة "، راجع الصفحة 168.
(3) الوسائل 18: 429، الباب 5 من أبواب حد السحق والقيادة، الحديث
الأول.
385

انتهى الجزء الأول
من
المكاسب المحرمة
ويليه
الجزء الثاني
وأوله
القيافة
386