الكتاب: جواهر الكلام
المؤلف: الشيخ الجواهري
الجزء: ٢٨
الوفاة: ١٢٦٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: تحقيق وتعليق : الشيخ علي الآخوندي
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: ١٣٦٨ ش
المطبعة: حيدري
الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران
ردمك:
ملاحظات:

جواهر الكلام
" في شرح شرائع الاسلام "
تأليف
شيخ الفقهاء وإمام المحققين الشيخ محمد حسن النجفي
المتوفى سنة 1266
الجزء الثامن والعشرون
حققه وعلق عليه
الشيخ علي الآخوندي
الناشر
دار الكتب الاسلامية
تهران - بازار سلطاني
تلفن 520410
چاپ سوم أين كتاب با تيراژ 1900 جلد در
تابستان 1368 در چاپخانه حيدري بچاپ رسيد.
1

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
(كتاب الوقوف والصدقات)
(و) تمام (النظر) فيه يحصل (في العقد، والشرائط، واللواحق)
(الأول: الوقف عقد ثمرته تحبيس الأصل واطلاق المنفعة) كما في القواعد و
التنقيح وإيضاح النافع والكفاية على ما حكي عن بعضها بل وفي النافع واللمعة أيضا
لكن ترك ذكر العقد، كما هو المحكي عن المبسوط، وفقه القرآن للراوندي والوسيلة و
السرائر والجامع والمهذب البارع، ومجمع البرهان إلا أنه تبديل الاطلاق بالتسبيل
كما في النبوي (1) " حبس الأصل وسبل المنفعة " إلا أن المتأخرين أبدلوه بالاطلاق لما
قيل من أنه أظهر في المراد من التسبيل الذي هو إباحتها للجهة الموقوف عليها
بحيث يتصرف كيف شاء كغيره من الأملاك، لكن في الصحاح سبل فلان ضيعته أي
جعلها في سبيل الله تعالى، ومن هنا كان التعبير بالتسبيل أولى، بناء على إرادة
ذلك من الاطلاق القابل للتحبيس كما هو مقتضى ابداله بذلك في المتن وغيره
لاشعاره باعتبار القربة حينئذ وأنه من الصدقات، كما في النهاية ومحكي المراسم أن
الوقف والصدقة شئ واحد ولعله لذا عرفه في الدروس بأنه الصدقة الجارية، بل في
المسالك ومحكي التذكرة والمهذب البارع والتنقيح " قال العلماء: المراد بالصدقة
الجارية الوقف ".
وعلى كل حال فقد ذكرنا غير مرة أن المقصود من أمثال هذه التعاريف التمييز
في الجملة، فلا ينبغي نقض تعريف المصنف بالسكنى وأختيها، والحبس، وتعريف
الدروس بنذر الصدقة والوصية ولا الجواب عن الأول بإرادة الحبس على الدوام، و

(1) المستدرك: ج 2 ص 511 لكن فيه " وسبل الثمرة ".
2

كان الاختلاف في ذكر العقد وعدمه على نحو ما سمعته في البيع ونحوه من أنها اسم
للعقود، أو للمعنى الحاصل منها، وإن لم نقل بمشروعية المعاطاة فيه، أو لما تسمعه
من الخلاف باعتبار القبول فيه وعدمه، المقتضي للاختلاف في عقد أولا كما ستسمع.
(و) كيف كان ف‍ (اللفظ الصريح فيه وقفت) بلا خلاف كما في المسالك، و
محكي التذكرة وجامع المقاصد، بل في محكي السرائر والتحرير والتنقيح وإيضاح النافع و
الاجماع على صراحتها فيه.
نعم عن الشافعي في بعض أقواله أنها كناية عن الوقف، وعن الفاضل في
التذكرة أنه من أغرب الأشياء، ونفى الغرابة عنه بعض متأخر المتأخرين باستعمال
لفظ الوقف في مجرد الحبس والسكنى والرقبى والعمرى، في صحيح ابن مهزيار (1)،
والصفار (2) وفيه أن الاستعمال مجازا لا ينافي الصراحة المراد منها وضع اللفظ لذلك
كما هو واضح.
نعم الظاهر أنها الصريحة (لا غير) وفي بعض اللغات الشاذة أوقفت، ولا
بأس بالعقد بها على شذوذها (أما) لفظ (حرمت وتصدقت) فلا خلاف في عدم
صراحتهما فيه كما اعترف به غير واحد بل حكى الاجماع في المسالك، ومحكي التنقيح
(فلا يحمل على الوقف إلا مع القرينة لاحتمالهما مع الانفراد) عن قرينة حال أو مقال
(غير الوقف) لاشتراكهما بينه وبين غيره
(و) لكن (لو نوى بذلك الوقف من دون القرينة دين بنيته) كما عن الخلاف
والمبسوط والغنية والسرائر وغيرها من كتب المتأخرين، بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف
به بعض مشايخنا، بل ولا في أنه يدان بنيته إن لم يقصد الوقف بما هو صريح فيه إذا
لم يكن له معارض، لكن قد يشكل الأول بعدم الاجتزاء بمثل ذلك في غيره من العقود
اللازمة، بل المشهور فيما بينهم عدم انعقادها بالمجازات، وإن كان خلاف المختار
إلا أنه على كل حال لا بد من اعتبار الدال على القصد في حصول أصل العقد، لا
الحكم به، لأنه المتيقن من السببية وإن لم نجد في المقام دليلا مخصوصا، ودعوى

(1) الوسائل الباب - 7 - من أبواب أحكام الوقوف - الحديث - 1 - 2.
(2) الوسائل الباب - 7 - من أبواب أحكام الوقوف - الحديث - 1 - 2.
3

- أن هذا العقد ليس من الخطاب الذي يراد به افهام الغير حتى يعتبر فيه ذكر
القرينة - تستلزم الاكتفاء بذلك في غيره من العقود، فلاحظ وتأمل.
وعلى كل حال فالمراد من الإدانة بنيته هو ايكاله إلى دينه وقصده فيما بينه
وبين ربه، فيعامل كلا منهما معاملة حاله في الواقع مع فرض عدم المعارض.
(نعم لو أقر أنه قصد ذلك) أي الوقف بالكناية (حكم عليه بظاهر الاقرار)
في الظاهر فيكون كالصريح حينئذ من هذه الجهة، وإن بقي حكم الإدانة بحاله في
الواقع أيضا، هذا.
وفي محكي التذكرة إذا أتى بالكناية فالمقترن الزايد عليه إما لفظ أو نية، فاللفظ
أن يقرن إليه صدقة موقوفة أو محبسة إلى أن قال: وأما النية فينظر إن أضاف اللفظ
إلى جهة عامة كأن قال: تصدقت بهذا على المساكين بنية الوقف، فالأقرب الحاقه
بالصحيح، وإن أضافه إلى معين، فقال: تصدقت عليكم أو عليك لم يكن وقفا على الأقوى
وفي المسالك وغيرها أن الفرق غير واضح، إلا أنه لم يحك عن التذكرة كما حكيناه
وقد يقال: إن مراده من عدم الحكم بوقفه وإن نواه لعدم ما يقتضي التأييد.
ثم إنه قد يظهر من عبارة المصنف وما شابهها أن اللفظين صيغة واحدة للوقف
باعتبار افراد الضمير الراجع إليهما ولعله لذا قال في الدروس، أن ظاهر الأصحاب
يدل على أنهما صيغة واحدة، فلا تغني الثانية عن الأولى، وتغني الأولى مع القرينة
ولو قال: جعلته وقفا أو صدقة مؤبدة محرمة كفى لكن في المسالك " إن ما ادعاه من الظاهر
غير ظاهر ".
قلت: قد عرفت الاشعار في المتن وما شابهه، نعم قد يناقش - فيما ذكره من الفرق
بين الأولى والثانية - بأنه لا دليل عليه، بل في محكي التذكرة " وأما حرمت هذه البقعة
للمساكين أو أبدتها، أو داري محرمة أو مؤبدة، فالأقرب أنها كناية عن الوقف، فإن
انضم إليها قرينة تدل على الوقف صارت كالصريح، وإلا فلا، وكذا عن غيرها.
نعم حكى فيها عن أظهر وجهي الشافعية المنع في حرمت وأبدت لعدم استعمالهما
مستقلين، وإنما يؤكد بهما غيرهما، وأما ما ذكره أخيرا فلا أجد فيه خلافا.
4

نعم في المسالك بعد أن استحسنه قال: إلا أن فيه خروجا عن صيغة الوقف
المنقولة، وظاهرهم عدم المسامحة في مثل ذلك، وإن كان الأقوى الاكتفاء في كل
لفظ يدل على المطلوب صريحا.
قلت: هو كذلك في غير المقام، أما فيه فمسامحتهم فيه في غاية الظهور، نعم هو
ليس صريحا في الاصطلاح الذي هو وضع اللفظ لخصوص المعنى.
(ولو قال حبست أو سبلت قيل: يصير وقفا وإن تجرد لقوله (صلى الله عليه وآله) (1) " حبس الأصل
وسبل الثمرة) فيكون صريحا في الوقف كما عن الخلاف والغنية والجامع والتذكرة و
الكيدري، بل في الأول الاجماع عليه (وقيل لا يكون وقفا إلا مع القرينة) كما عن
الأكثر لعدم الوضع له والاستعمال أعم (إذ ليس ذلك عرفا مستقرا بحيث يفهم (عند)
الاطلاق) لا أقل من الشك والأصل بقاء الملك، (و) لا ريب في أن (هذا أشبه)
بأصالة عدم النقل والانتقال، وعدم ترتب أثر الوقف وأحكامه، خصوصا مع معلومية
اشتراك كل منهما معنى بين الوقف وغيره، والخبر إنما يدل على حصول الوقف بهما
معا، لا بكل واحد منهما، فيكون صريحا في عدم صراحتهما التي هي بمعنى وضع اللفظ
للوقف الذي معناه مركب من معناهما، كما هو واضح بأدنى تأمل. هذا بل هما معا
لا يقومان مقام وقفت في الصراحة، لاشتراكهما بين الوقف وبين الحبس، بل لعلهما في
الثاني أظهر، وربما توهم من عدم تعرض المصنف للقبول، عدم اعتباره فيه، وكذا غيره.
ولكن فيه أنه يمكن اكتفاء المصنف عنه بذكر كونه عقدا، ومن المعلوم اعتباره في
معناه، وعدم ذكره بالخصوص لعدم النزاع في خصوص ألفاظ له إذ هو ما يدل على
قبول ذلك الايجاب، ولذا ترك ذكره المصنف فيما تقدم من بعض العقود الجايزة
المعلوم اعتباره فيه، على أنه سيأتي له التصريح بعدم اعتباره في خصوص ما إذا
كان على جهة عامة، وهو كالصريح في اعتباره فيه في غيرها، ونحوه غيره ممن ذكره
في قسم العقود، بل في جامع المقاصد والمسالك اطباق الأصحاب على أنه من
قسمها مؤيدا ذلك كله بمعلومية عدم دخول عين أو منفعة بسبب اختياري ابتداء في

(1) المستدرك ج 2 ص 511
5

ملك الغير من دون قبول، مع أنه لو كان لاتجه كونه حينئذ من قسم الايقاع، فلا يبطله
الرد، وهو مناف لما صرح به جماعة من البطلان به، وإن لم نقل باشتراط القبول،
بل عن ظاهر الإيضاح وجامع المقاصد أنه لا خلاف فيه بيننا، وأن المخالف فيه إنما هو
بعض الشافعية وحينئذ فعدم اشتراطه فيه مطلقا - كما عساه يتوهم من عدم ذكر
جماعة له - في غير محله.
نعم قد صرح المصنف ومن تأخر عنه كالفاضل والشهيدين وغيرهم بعدم الحاجة
إليه في الوقف على الجهات العامة، لعدم القابل للقبول فيها، ولما عساه يظهر من
المحكي من صدقات أمير المؤمنين (عليه السلام) والزهراء (عليها السلام) والصادق (عليه السلام) (1) المشتملة على
ذكر انشاء الايجاب بدون قبول، ولأن الأصل عدم اشتراطه بعد تناول المطلقات
للمجرد عنه إلا أن الجميع كما ترى، ضرورة عدم اقتضاء الأول الصحة بلا قبول، بل
بعد فرض الدليل على اعتباره، يتجه عدم الصحة فيها حينئذ، على أن قبول الولي
العام كالحاكم أو منصوبه ممكن، بل ربما يستفاد من بعض الأدلة الآتية في القبض الاكتفاء
بقبول من يجعله قيما لها، ولو نفسه كالقبض ولعله على ذلك ينزل ما وقع من صدقاتهم
بناء على أنها من الوقف، لا قسم مستقل برأسه، يثبت مشروعيته من هذه الروايات،
لخلوها عن التصريح بكونه وقفا، ولا بعد في دعوى مشروعية مثل هذا التسبيل بهذه
النصوص، وإن لم أجد من احتمله.
وأما الأصل فيقتضي اعتباره، لا عدمه، لما سمعت من أن مقتضاه عدم ترتب
الأثر، والمطلقات لا تتناوله، بعد فرض الشك في معناه، وأنه من قسم العقود المعتبر
فيها المعنى الارتباطي بين اثنين أو لا، بل من ذلك ينقدح قوة اعتباره مطلقا على
نحو غيره من العقود، حتى في الفورية والعربية وغيرهما، ضرورة ظهور النصوص
أجمع في كونه قسما واحدا، وقد عرفت المفروغية من اعتبار القبول فيه في الجملة، إذ
القول بعدم اعتباره مطلقا وأنه فك ملك كالتحرير في غاية السقوط، بل لم نعرفه
قولا لأحد من المعتبرين وإنما يذكر احتمالا، وتهجسا، فالوحدة المزبورة حينئذ

(1) الوسائل الباب - 1 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات.
6

تقتضي اعتباره أيضا حتى في الجهات العامة، بعد فرض مشروعيته فيها، على نحو
فرض مشروعية غيره من العقود فيها، من الصدقة وغيرها، وإلا كان للوقف معنيان
أحدهما عقدي، والآخر ايقاعي، وهو مناف للوحدة المزبورة، كما هو واضح ونافع وموافق
للذوق السليم.
نعم قد يقال: إن الأصل يقتضي عدم اعتبار القربة في صحته، وإن كان هو خيرة
الفاضل في القواعد، للأصل بعد اندراج فاقدها بناء على ما ذكرناه في العقود المأمور
بالوفاء بها، وفي نحو قوله (1) " الوقوف على حسب ما يقفها أهلها " وقوله (صلى الله عليه وآله) (2) " حبس الأصل
وسبل الثمرة " ونحوها، واطلاق الصدقة عليه في كثير من النصوص - بل لم يذكر فيما
ورد مما أوقفوه (عليهم السلام) إلا بلفظ الصدقة، ومن المعلوم اعتبار القربة فيها خصوصا بعد
الصحيحين (3) " لا صدقة ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله عز وجل " بل هو دال عليه في
الفرض، بناء على إرادة الوقف منه أو ما يشمله، وإرادة نفي الصحة فيه كما هو الأقرب
للحقيقة لا الكمال، بل لو سلم اطلاقها عليه من باب المجاز فهو من التشبيه البليغ،
أو الاستعارة المقتضيين للمشاركة في الأحكام الظاهرة التي لا شك في كون القربة
منها، مؤيدا ذلك كله بما صرح به في وقوفهم من وقوع ذلك منهم ابتغاء وجه الله، -
لا يقتضي ذلك، ضرورة عدم اقتضاء شئ من ذلك أن الوقف جميعه من الصدقة، بل
أقصاه أن منه ما يكون كذلك، وهو ما قصد به وجه الله تعالى، وهو الذي وقع منهم (عليهم السلام)
ولذا اتبعوه بذلك، ولا دلالة فيه على اعتبارها في صحته على وجه، بحيث لو وقف على
ولده ونحوهم من دون ملاحظة القربة يكون باطلا، مع أن مقتضى ما سمعته من الاطلاقات
صحته، وما من الغنية والسرائر من الاجماع على ذلك لم نتحققه، لخلو كثير من عبارات
الأصحاب المشتملة على بيان شرائطه عنه.
نعم قد يقال: باستفادة رجحانه في نفسه عند الشارع على نحو رجحان النكاح

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات.
(2) المستدرك ج 2 ص 511.
(3) الوسائل الباب - 13 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 2 - 3.
7

وهو غير اعتبار النية فيه على وجه يلحقه بالعبادات، على بحث يأتي فيه، أنه هل هو
اسم للصحيح منه أو للأعم، وأن القربة في الصيغة، أو في القبض والاقباض وغير ذلك مما
لا يخفى على الفقيه بأدنى ملاحظة القطع بعدمه، خصوصا بعد معلومية عدم اعتبار
ما يعتبر في الصدقة في الموقوف عليه من فقر ونحوه، بل ستسمع انشاء الله تصريحهم
بجوازه على الكافر، وبصحة وقف الذمي على البيع والكنايس، ومنه ومن العامي المعلوم
عدم صحة عباداتهما لفقد الايمان، ولعله لذا وغيره اعترف غير واحد من المحققين هنا
بعدم الدليل على الاشتراط هنا، وفي الأول أي القبول بأن الأولى اعتباره حتى في
الجهات العامة لما ظهر من ذلك، فتأمل جيدا فإن كثيرا من الكلمات هنا غير نقية،
بل ظاهرة في التشويش من أهلها، والله العالم.
(و) كيف كن ف‍ (لا يلزم) عقد الوقف (إلا بالاقباض) الذي هو القبض بالإذن
فلكل منهما حينئذ فسخه قبله، وهذا لا ينافي كونه مع ذلك من شرائط الصحة التي هي
بمعنى ترتب الأثر من ملك الموقوف عليه المنفعة وغيره كما سيصرح به المصنف وغيره،
بل فرعوا عليه البطلان بموت الواقف قبله وغيره، ضرورة كون المراد هنا بيان عدم اللزوم
قبله كما عن بعض العامة أو بيان أن وقوع العقد لا يقتضي وجوب الاقباض الذي هو من
شرائط الصحة، وإن توهم من نظير المقام جمعا بين قوله تعالى (1) " أوفوا " وما دل على
اعتباره في الصحة التي هي بمعنى ترتب الملك ونحوه إذ هو - مع أنه مناف لأصالة
البراءة وغيرها - لا يوافق ما دل هنا على اعتباره مما هو كالصريح بل صريح في الإذن
بالفسخ قبل حصوله، وأنه لا إثم عليه.
قال صفوان في الصحيح (2) " سألت عن الرجل يوقف الضيعة ثم يبدو له أن يحدث
في ذلك شيئا؟ فقال: إن كان وقفها لولده ولغيرهم، ثم جعل لها قيما لم يكن له أن
يرجع، وإن كانوا صغارا، وقد شرط ولايتها لهم حتى يبلغوا فيحوزها لهم لم يكن له
أن يرجع فيها، وإن كانوا كبارا ولم يسلمها إليهم، ولم يخاصموا حتى يحوزونها عنه،

(1) سورة المائدة - 1.
(2) الوسائل الباب - 3 - من أبواب الوقوف الحديث 4 و 8.
8

فله أن يرجع فيها، لأنهم لا يحوزونها عنه، وقد بلغوا ".
وعن الأسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله عن العمرى (1) عن صاحب الزمان
روحي له الفداء " وأما ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يجعل لنا ثم يحتاج إليه
صاحبه ما لم يسلم، فصاحبه فيه بالخيار، وكل ما سلم فلا خيار فيه لصاحبه، احتاج أو
لم يحتج، افتقر إليه أو استغنى عنه " إلى أن قال ": وأما ما سألت عنه من أمر الرجل
الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويسلمها من قيم يقوم فيها ويعمرها ويؤدي من دخلها
خراجها ومؤنتها، ويجعل ما بقي لنا من الدخل لناحيتنا، فإن ذلك جائز لمن جعله
صاحب الضيعة قيما عليها إنما لا يجوز ذلك لغيره " لكن هما كما ترى غير صريحين، بل
ولا ظاهرين في اشتراطه في الصحة بمعنى ترتب الأثر الذي هو الملك ونحوه ضرورة
انطباق ما فيهما على كونه شرطا في اللزوم، وتظهر الثمرة في النماء المتخلل بينهما.
لكن في جامع المقاصد والمسالك نفي الخلاف من كونه شرطا فيها مكررا، بل فيها
الاجماع على ذلك، وإن كان قد يناقش بما قد يظهر من الغنية من كونه شرطا في اللزوم
حيث إنه بعد أن ذكر شرايط الصحة، قال: " فأما قبض الموقوف عليه أو من يقوم مقامه في
ذلك فشرط في اللزوم " بل لعله صريحها بعد التأمل في جميع كلامه، وحينئذ يكون هو
معقد اجماعها، بل لعله ظاهر اللمعة أيضا حيث ذكر أولا أنه لا يلزم بدون القبض
بإذن الواقف، فلو مات قبله بطل، إلى أن قال، وشرطه التنجيز والدوام إلى آخره ولا
دلالة في تفريعه البطلان بالموت قبله على إرادته الصحة من اللزوم، إذ من المحتمل
بل الظاهر كونه من العقود الجائزة فيلحقه حكمها من البطلان بالموت، ولو للنصوص
الدالة على ذلك في الصدقة بناء على إرادة الوقف منها، أو ما يشمله.
نعم عبارة المصنف وما شابهها محتملة لإرادة الصحة بقرينة تصريحه بعد ذلك
بكونه من شرائطها أو من شرائطه الظاهر في إرادتها أيضا، واحتمال العكس بعيد
ولإرادة ما ذكرناه أو لبيان أنه متى كان شرطا في الصحة كان شرطا في اللزوم، أما
من لم يكن له إلا التعبير بكونه شرطا في اللزوم، فلا ريب في ظهوره بترتب الصحة

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب الوقوف الحديث 4. 8.
9

قبله كالمحكي عن المبسوط والخلاف والسرائر، بل عن الأخيرين الاجماع عليه مضافا
إلى اجماع الغنية، وبذلك يظهر أن في المسألة قولين، بل عن الوسيلة أنه جعل
التسليم شرطا في الصحة، إلا إذا جعل ولاية الوقف لنفسه مدة حياته.
وعن كافي أبي الصلاح " إذا تصدق على أحد الوجوه المذكورة، وأشهد على
نفسه بذلك، ومات قبل التسليم، فإن كانت الصدقة على مسجد أو مصلحة فهي ماضية،
وإن كانت على من يصح قبضه، أو وليه، فهي وصية يحكم فيها بأحكام الوصايا " وعن
سلار في المراسم عدم ذكره من الشروط أصلا، وبذلك كله يظهر لك ما في المسالك
والرياض وغيرهما من المفروغية عن اشتراطه فيها حتى فيما حكوه عن التنقيح من
الاجماع على ذلك، مع أن التأمل في كلامه يقتضي إرادة دعواه على اعتباره في الجملة،
لأنه بعد ذلك بلا فاصلة معتد بها حكى الخلاف فيه، بل قد يقال: باقتضاء القواعد
كونه شرطا فيه لا فيها، جمعا بين ما يدل عليها بدونه من الاطلاقات، وآية " أوفوا " و
غيرها وبين الخبرين السابقين.
وأما النصوص المتضمنة لبطلان الصدقة بالموت قبل القبض، فمع أن الاستدلال
مبني على إرادة الوقف منها أو ما يشمله، لا تدل على اشتراطه في الصحة، وإن ذكره
غير واحد، إذ من الممكن ما سمعت من كونه عقدا جايزا ينفسخ بالموت ومثله ولو لهذه
النصوص، والخروج عن ذلك في الصدقة غير الوقف لدليل لا يقتضي الخروج عنه في
الوقف أيضا، ومع الاغضاء عن ذلك كله فالمتجه كونه شرطا كاشفا لا جزء سبب، كما حرره
في المسالك، وتبعه غيره، لما عرفت من وجود مقتضى الصحة فلا وجه حينئذ لجعل
الثمرة في النماء المتخلل، فتأمل جيدا، والله العالم.
(و) كيف كان فلا خلاف ولا اشكال في أنه (إذا تم) الوقف بجميع شرائطه
المعتبرة فيه (كان لازما، لا يجوز الرجوع فيه، إذا وقع في زمان الصحة) بل الاجماع
بقسميه عليه عندنا، بل هو كالضروري من مذهبنا، خلافا لأبي حنيفة، فجوز للواقف
الرجوع به بل لورثته، إلا أن يرضوا به بعد موته، فيلزم، أو يحكم به حاكم، مع أن تلميذه
أبا يوسف لما قدم إلى بغداد كان على قوله، ولكن حدثه إسماعيل بن إبراهيم بن
10

علية عن ابن عوف عن ابن عمر خلافه، فقال هذا لا يسع أحد خلافه، ولو تناهى إلى أبي حنيفة لقال به، مع أن المحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إن أوصى بالوقف لزم في
الثلث، وفي الخلاف، تناقض، لأنه جعله لازما في ثلثه في مرضه المخوف، ولم يجعله
إذا نجزه لازما في جميع ماله في حال صحته، وإن كان قد يفرق بينهما، بعد تسليم
إرادة لزوم الوقف منه، هذا.
ولكن للمفيد في المقنعة ما ينافي بظاهره لما ذكرنا قال: " الوقوف في الأصل
صدقات لا يجوز الرجوع فيها إلا أن يحدث الموقوف عليهم ما يمنع الشرع من معونتهم،
والقرب إلى الله سبحانه وتعالى بصلتهم أو يكون تغير الشرط في الوقف إلى غيره
أرد عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله، وإذا أخرج الواقف الوقف عن يده إلى من
وقفه عليه لم يجز له الرجوع في شئ منه، ولا يغير شرائطه ولا نقله من وجوهه وسبله "
وعن ابن إدريس أنه أطال في رده، ويمكن أن يكون ذلك منه بناء على اعتبار بقاء
صلاحية الموضوع للتقريب في الموقوف، فيكون انتفاء الوصف المزبور حينئذ مقتضيا
لانتفاء الموقوف عليه المقتضي لبطلان الوقف بناء على مختاره من عدم اعتبار التأبيد
فيه، والأمر سهل بعد وضوح الحال، والله العالم.
هذا كله لو وقف في زمان الصحة
* (أما لو وقف في مرض الموت فإن أجازه الورثة)
نفذ من الأصل (وإلا اعتبر من الثلث) لكونه حينئذ (ك‍) باقي منجزاته من (الهبة
والمحاباة في البيع) ونحوهما (وقيل يمضي من أصل التركة و) لا ريب في أن
(الأول أشبه) كما أوضحنا ذلك مفصلا في كتاب الحجر وكتاب الوصايا (و) حينئذ
ف‍ (لو وقف ووهب وأعتق وباع فحابى ولم يجز الورثة، فإن خرج ذلك من الثلث، صح
وإن عجز بدئ بالأول فالأول) لأنه هو السابق في التعلق (حتى يستوفى قدر
الثلث ثم يبطل ما زاد) خلافا للمحكي عن الفاضل في المختلف فبسط الثلث على
الجميع فارقا بين المنجزات والوصايا، وضعفه واضح.
(وهكذا لو أوصى بوصايا، ولو جهل المتقدم قيل) والقائل الشيخ في
المحكي عن مبسوطه، لكن فيما إذا أوصى (يقسم على الجميع بالحصص) لعدم
11

الترجيح بعد قيام احتمال التقدم المعلوم كونه في أحدها في كل منها، وبذلك يكون
الفرض كالمنجزات التي لم يعلم التقدم في أحدها المحكوم فيها بالاقتران لأصالة عدم
تقدم كل منها على الآخر، كما هو قضية كل حادث اشتبه سبقه بالآخر وتأخره عنه ولكن
فيه ما لا يخفى عليك في المقيس، والمقيس عليه، ضرورة كون المتجه في الأول القرعة،
ولذا قال المنصف (ولو اعتبر ذلك بالقرعة كان حسنا) " لأنها لكل أمر مشتبه (1) " ولا ريب
في أن الفرض منه، بل لعل الأمر كذلك في المقيس عليه أيضا إذا فرض عنوان الحكم في
الشرع السبق والاقتران، ولم يعلم أحدهما، إذ الأصل لا يشخص الثاني الذي هو
من الحوادث، والأصل عدمه فليس إلا القرعة.
نعم لو قلنا أن العنوان في الشرع السبق خاصة كما هو الظاهر فمع عدم العلم
يبقى الحكم على مقتضى اطلاق الوصية الذي هو التعلق بالجميع فمع القصور يتجه
التقسيم حينئذ بالحصص، لا القرعة كما سلف لنا غير مرة في نظائر المقام، بل قد ذكرنا
جملة من ذلك في هذه المسألة في كتاب الوصايا فلاحظ وتأمل.
ثم إنه لا يخفى عليك أنه ليس في الشرع اعتبار كيفية خاصة للقرعة بالنسبة إلى
التعدد والاتحاد، فله حينئذ تعددها في الثلاثة التي في المتن مثلا، مع فرض جهل
الحال فيها على وجه لم يعلم أنها مرتبة كلا أو بعضا أو لا، فيقرع أولا لبيان اقترانها
على السواء، أو ترتبها كذلك، أو الاقتران في بعض والترتب في آخر، فإذا خرج
أحدهما أقرع لتعرف احتمالاته خاصة إن كانت.
وله أن يقرع قرعة واحدة بثلاثة عشر ورقة على عدد الاحتمالات فيها، وهي ترتبها
مع سبق الوقف ثم العتق ثم البيع، أو مع تقدم البيع على العتق، وسبق العتق ثم الوقف
ثم البيع، أو مع تقدم البيع وسبق البيع مع الصورتين، فهذه ست.
ومقارنة اثنين منها وهي ست أيضا، اقتران العتق والوقف سابقين، وتأخر البيع
ولاحقين له، وتقارن الوقف والبيع سابقين وتأخر العتق ولا حقين له، واقتران العتق

(1) الوسائل الباب - 13 - من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث 11 و 18.
وفيها " كل مجهول ففيه القرعة ".
12

والبيع سابقين وتأخر الوقف ولا حقين له واقتران الثلاثة.
وله القرعة بكتابة سبع رقاع في أحدها الوقف وفي الثانية العتق، وفي الثالثة البيع، وفي الرابعة الوقف والعتق، وفي الخامسة الوقف والبيع، وفي السادسة العتق
والبيع، وفي السابعة اجتماع الثلاثة، ثم يخرج واحدة، فإن ظهرت بأحد المنفردين
قدم، وأخرج أخرى، فإن ظهر منفرد آخر أو مجتمع مع غيره عمل به ثانيا واستغنى عن
الثالث، وإن ظهر السابق مع غيره والثلاثة أطرحتا وأخرج غيرها كما ذكر، وإن ظهر
أولا رقعة الثلاثة أفاد الاجتماع، أو رقعة اثنين جمع بينهما سابقا وحكم بتأخر الثالث،
وبالجملة، فالمدار على كتبة رقاع تصح على جميع الاحتمالات، والله العالم
(وإذا وقف شاة كان صوفها) الذي على ظهرها (ولبنها الموجود) في
ضرعها (داخلا في) ما اقتضاه (الوقف) من تسبيل الثمرة (ما لم يستثنه نظرا إلى
العرف كما لو باعها) بلا خلاف أجده بين من تعرض له من الفاضل والشهيدين و
الكركي وغيرهم، بخلاف الحمل، بل وبخلاف ثمرة النخل والشجر ونحوهما، فإنه لا عرف
يقتضي ذلك إلا أن الانصاف عدم خلوه من الاشكال بحسب ما نجده الآن، بل قد يشك
في أصل الحكم حتى مع التصريح بناء على عدم اقتضاء عقد الوقف تمليك نفس الثمرة و
إنما اقتضاؤه ذلك بادخال العين الموقوفة في ملك الموقوف عليه، فتكون الثمرة نماء
ملكه المحبوس عليه بالمنع من التصرف فيه ببيع ونحوه بخلاف الثمرة، ومن المعلوم أن
ذلك إنما يكون في النماء المتجدد دون ما حصل من النماء الذي هو ملك الواقف،
فإنه لا يتصور تملكه من حيث التبعية المزبورة كما هو واضح، ودعوى قابلية عقد الوقف
لنقلها باعتبار كونها ثمرة تقتضي قابليته لها على جهة التسبيل حتى مع الانفصال و
هو محل تأمل، إلا أن ظاهر من تعرض المفروغية من قابليته لذلك كاقتضائه دخول
باقي المنافع المتجددة في ملك الموقوف عليه كالصوف واللبن المتجددين، وعوض
البضع، وأجرة الدابة والعبد ونحوها، بل والنتاج المتجدد، كما نص عليه الفاضل في
القواعد ومحكي التذكرة وإن كان لا يخلو من نظر تقدم في نظائره في كتاب البيع.
وأما أغصان الشجر الذي هو كالثمر فيها نحو شجر الخلاف فهو أيضا ملك
13

للموقوف عليه لأنه من المنافع، بل لا يبعد دخول ما جرت العادة بقطعه كل سنة مما
فيه إصلاح الشجر والثمرة من تهذيب الأغصان وما يقطع من أغصان شجر العنب في
الثمار كما لا يبعد كونه من أجزاء الموقوف في حال، ومن المنافع في حال آخر، مثل
أطراف النخل حال كونها رطبة ويابسة، والله العالم.
بقي الكلام في فروخ الأشجار المتجددة بعد الوقف، ولا يبعد أن تكون من نماء
الوقف ومن فوائده إن كانت متولدة منها نفسها، وإلا فهي لمن يحوزها أو لمن كان
بذرها له هذا
وعن التذكرة اشتراط دخول اللبن المتجدد في منافع الموقوف على وجه يدخل
في ملك الموقوف عليه بما إذا لم تكن العين موقوفة على جهة خاصة لا يدخل فيها
نحو ذلك كما إذا وقف بقرة للحرث، فإن الدرع يكون للواقف، ومرجعه إلى جواز الوقف
في بعض المنافع دون بعض ولنا فيه نظر يأتي انشاء الله تعالى.
(النظر الثاني: في الشرائط)
(وهي أربعة أقسام:) القسم (الأول: في شرائط الموقوف وهي أربعة)
الأول (أن تكون عينا مملوكة ينتفع بها مع بقائها، ويصح اقباضها، فلا يصح وقف
ما ليس بعين كالدين) معجلة ومؤجلة على المؤسر والمعسر (وكذا) الكلي كما (لو
قال: وقفت فرسا أو ناضحا أو دارا ولم يعين) وإن وصفها بأوصاف معلومة، بل وكذا
المنفعة، لأن العين تطلق في مقابل الثلاثة التي لا يصح وقف شئ منها للشك في
تناول أدلة الوقف لذلك، ولا تفاق الأصحاب ظاهرا، ولأن المستفاد من قوله (1) (صلى الله عليه وآله)
" حبس الأصل وسبل الثمرة " وما وقع من وقوفهم، اعتبار فعلية التهيؤ للمنفعة في الأصل
الذي يراد حبسه، ولا ريب في انعدام التهيؤ فعلا للكلي المسلم فيه مثلا، ولذا لا
تصح إجارته ولا غير الإجارة مما يقع على المنفعة، لعدم ملكها لمن يملكه.
نعم يصح بيعه والصلح عليه وغيرهما مما يقتضي نقله نفسه، بل وهبته إن لم
يدل دليل على اعتبار الشخصية فيها، وتهيؤه بعد القبض لا يقتضي ذلك قبله الذي

(1) المستدرك ج 2 ص 511.
14

هو مورد العقد في الفرض.
وأما وقف كلي موصوف في الذمة على نحو إجارته الذي أشار إليه المصنف بقوله
" وكذا " إلى آخره فيمنعه أولا: عدم صلاحية عقد الوقف لاثبات نحو ذلك في الذمم،
كغيره من عقد الهبة والصدقة ونحوهما مما هو ليس عقد معاوضة، بل هو غير مملوك و
ثانيا: عدم تحقق الحبس والتسبيل فعلا وتأخره إلى التعيين مناف لاعتبار تنجيزه،
ومقارنة الأثر لسببه، وبذلك افترق عن الإجارة المقتضية لملك دابة موصوفة عليه فعلا،
وتأخر تعينها للوفاء لا ينافي ذلك، كما لا ينافي ذلك ملك عين الكلي في ذمته، كل
ذلك، مضافا إلى ما في جامع المقاصد، من دعوى الاتفاق على ما في القواعد من عدم
صحة وقف الدين والمطلق كفرس غير معين وعبد في الذمة وملك مطلق، قال: والمراد
بالأخير أن يقف ملكا من الأملاك أيها كان ولا يشخصه، ويجوز أن يراد به أن يقول
وقفت ملكا ويقتصر على ذلك ".
قلت: قد يشك في عدم صحة وقف عبد من عبيده المعينين على وجه يكون
الموقوف فيها واحدا منهم بخصوصه وشخصه على البدل على نحو مذهب الإمامية في
الواجب المخير، ويتعين حينئذ بالقرعة، أو بتعيين الواقف، أو يكون الموقوف عبدا منها
الصادق على كل منها، بل لعل هذا هو المتيقن في الفرض على تقدير الصحة،
ضرورة عدم وقف كل منها بالخصوص على البدل، وإن جاز ذلك في الواجب المخير
لغة وعرفا على وجه لا يحتاج إلى تعيين من الأمر ولا قرعة، بخلافه في المقام المفروض
فيه كون أحدهما، لا كل منهما، وفي محكي التذكرة عن الشافعية في أحد الوجهين
صحته كصحة عتق أحد العبدين، وربما يشعر به اقتصار المصنف وغيره على القسمين
الأولين في التفريع على العين، اللهم إلا أن يريد بقرينة قوله ولم يعين خصوص
المفروض أو الأعم منه، وفي مفتاح الكرامة " قل من تعرض لعدم الصحة في ذلك، وأول
من تعرض له الفاضل في التذكرة " لكن في الرياض عن الغنية الاجماع على عدم الصحة
في المنفعة والدين والمبهم، وإن كنا لم نتحققه، وإنما الموجود فيها وفي المحكي
عن السرائر الاجماع على كونه معلوما مقدورا على تسليمه مع بقاء عينه في يد الموقوف
15

عليه، مع أنه يمكن إرادة اخراج نحو وقفت شيئا من أملاكي، وبطلانه حينئذ للابهام
المحض الذي يشك معه في صلاحية كونه موردا للعقد إن لم يظن العدم، ولعله
المراد من الملك المطلق في القواعد كما سمعته من جامع المقاصد في تفسيرها بل لعله
المراد من اعتبار العلم فيما حكيناه عن الغنية والسرائر، ضرورة إرادة اخراج فاقده
أصلا وهو المبهم المحض وبالجملة إن لم يكن اجماعا فالقول بالصحة لا يخلو من وجه
خصوصا على المختار عندنا من صحه وقف المشاع المنافي لدعوى التشخص، ولتحقق
الحبس والتسبيل فعلا في أحدهما كالوصية به لشخص والجهل بعينه لا يقدح بعد
عدم اعتبار المعلومية فيه كالبيع والإجارة، فتأمل جيدا فإنه قد يكون المسألة مبنية على
جواز ملك الكلي في الخارج بدون الإشاعة بناء على أن الموقوف ملك للموقوف عليه،
وقد تقدم الكلام فيها في كتاب البيع وغيره، والله العالم.
وأما عدم صحه وقف المنفعة فلعدم تصور الحبس فيها، ضرورة كونها مبنية على
الاستيفاء شيئا فشيئا، ودعوى - عدم اعتبار أصل التحبيس في الوقف، بل يكفي فيه
تسبيل المنفعة كما عن أبي الصلاح - يدفعها ظهور النص والفتوى بخلافه بل يمكن
دعوى ضرورة المذهب أو الدين على ذلك، نعم نحو ذلك يشرع في السكنى والرقبى
والعمرى، وهي غير الوقف كما هو واضح.
(و) كيف كان فلا اشكال كما لا خلاف بيننا في أنه (يصح وقف العقار والثياب
والأثاث والآلات المباحة و) نحو ذلك مما (ضابطه كلما يصح الانتفاع به منفعة محللة
مع بقاء عينه) لا كمنفعة أعيان الملاهي ونحوها، ولا ما لا منفعة له أصلا، أو لا منفعة
له إلا باتلاف عينه، كالطعام والشمع ونحوهما، بلا خلاف أجده في شئ من ذلك
بيننا، بل الاجماع بقسميه عليه، لاطلاق الأدلة وخصوصها في بعض.
نعم عن أبي حنيفة عدم جوازه في الحيوانات والكتب، بل عن مالك في مطلق
المنقول، وعن أبي يوسف عدم جوازه إلا في الأرض والدور، والكراع، والسلاح، و
الغلمان تبعا للضيعة، إلا أنها كما ترى مخالفة للنصوص من طرقنا، وطرقها عموما و
خصوصا، والاجماع والسيرة المستمرة في وقف الحصير والقناديل والزوالي ونحوها.
16

لكن هل يعتبر طول زمان المنفعة أو لا؟ ظاهر الأكثر كما اعترف به في الروضة
والنصوص الثاني، فيصح حينئذ وقف ريحانة يسرع فسادها، وربما احتمل الأول، بل
هو ظاهر جماعة وصريح محكي التذكرة والتحرير، لدعوى الانسباق الممنوعة على
مدعيها، وللمنافاة للتأبيد المراد من الوقف الذي يدفعها معلومية عدم إرادة أزيد
من عمر العين منه، وإلا لم يصح وقف أبدا، لعدم عين عمرها الأبد كما هو واضح.
وكذا لا يعتبر فعلية النفع، بل يكفي تأهله، فيصح وقف الفلو والجحش، و
العبد الصغار، بلا خلاف أجده، لاطلاق الأدلة أيضا (وكذا يصح وقف الكلب
المملوك) ككلب الصيد والماشية والزرع والحائط بناء على ملكيتها (والسنور) وغيرها
من الحيوانات التي تدخل تحت الملك، ولها منافع مقصودة محللة، لحصول مقتضى
الصحة حينئذ من ملك الأصل و (لإمكان الانتفاع به) المحلل مع بقاء العين.
نعم لو قلنا بعدم ملكها وأن لصحابها حق الاختصاص، ولكن له الانتفاع بها
اتجه حينئذ عدم صحة وقفها، بناء على اعتبار ملك الأصل، ولكن قد يشكل أصل اشتراط
ذلك إن لم يكن اجماعا على وجه يخرج عنه الفرض، بل لعل قوله حبس الأصل وسبل
الثمرة يشمله، إذ لا دلالة في الأصل على اعتبار كونه مملوكا (و) هو واضح، نعم (لا
يصح وقف الخنزير، لأنه لا يملكه المسلم) وكذا غيره من كلب الهراش، ونحوه مما لا يدخل
تحت يد المسلم على وجه يملك منفعته بلا خلاف أجده فيه، أما الكافر فالأقرب صحة
وقفه له على مثله، كما في القواعد وغيرها، بناء على صحة الوقف منه لمعاملته معاملة
الملك في حقه، والمراد بصحة الاقباض في المتن القدرة على تسليمه أو ما يشملها، و
لذا قال (ولا وقف الآبق لتعذر التسليم) مفرعا له على ذلك، وهو جيد فيما يرجع
منه إلى السفه، كالطير في الهواء والسمك في الماء، أما إذا لم يكن كذلك فلا دليل
على عدم جوازه، لاطلاق الأدلة التي ليس في شئ منها ما يقتضي مقارنة امكان القبض
للعقد في الصحة، بناء على اعتبارها فيها، بخلاف البيع المعتبر فيه، عدم الغرر،
الذي هو بمعنى الخطر، وحينئذ فيقف الآبق فإن قبض بعد ذلك صح، وإلا فلا كما
صرح به ثاني المحققين والشهيدين، وأولى بالصحة وقفه على القادر على تسلمه لحصول
17

الاقباض من المالك الذي هو بمعنى الإذن فيه من جهته، بل قد عرفت في كتاب
البيع قوة صحة بيع مثله، فضلا عن وقفه.
(وهل يصح وقف الدراهم والدنانير قيل: لا) يصح (وهو الأظهر) عند
المصنف وفاقا لجماعة من القدماء، بل في الدروس عن المبسوط الاجماع عليه إلا ممن
شذ، والموجود في المحكي عنه وعن الغنية والسرائر نفي الخلاف فيه، (لأنه لا نفع
لها إلا بالتصرف فيها) وهو مناف للوقف المقتضي بقاء الأصل (وقيل، يصح) كما
أرسله في محكي المبسوط (لأنه قد يفرض لها نفع مع بقائها) كالتزين بها، ودفع
الذل ونحوها، فيتناولها حينئذ اطلاق الأدلة، ولعله لذا استشكل الفاضل في القواعد
بل في محكي التذكرة أن أصحابنا ترددوا، وفي محكي السرائر لو قيل بالجواز كان
وجها، وفي المسالك أقوى، وفي الدروس ومحكي التذكرة والحواشي وجامع المقاصد
الصحة مع المنفعة، كالتحلي ونحوه.
قلت: ويؤيده الاجماع في الظهور فضلا عن النصوص، كما تقدم في محله - على
جواز إعارتها، وهي كالوقف في اعتبار وجود المنفعة، واحتمال الفرق بينهما لا وجه له
هذا كله في خصوص الدراهم والدنانير.
أما إذا اتخذت حليا أو اتخذ منها حليا فلا اشكال في جواز وقفها، وعن
التحرير أنه يصح وقف الحلي اجماعا (ولو وقف ما لا يملكه لم يصح وقفه) مع عدم الإجازة
قطعا (ولو أجاز المالك) قيل: لا يصح - لا لأن الفضولي على خلاف الضوابط فيقتصر
فيه على خصوص ما ورد فيه، لأن الظاهر عدم الاختصاص، بل - لأن نية التقرب شرط
فيه، ولا يقوم الغير مقام المالك فيها ونيتها حين الإجازة غير نافعة، إما لاشتراط
المقارنة للصيغة، أو لأن تأثير نيته في الصحة غير معلوم، والأصل بقاء الملك واختاره
الكركي وفاقا للمحكي عن المهذب وجامع المقاصد والتحرير في موضع، وكأنه قال به
أو مال إليه في الروضة.
و (قيل: يصح، لأنه) بالإجازة صار (كالوقف المستأنف وهو حسن) وفاقا
للمحكي عن التحرير في آخر، واللمعة والحواشي وشرح الإرشاد وللفخر، والروض و
18

التنقيح، وظاهر المسالك وغيرها، لأنه قسم من الصدقة التي ثبت بالنص جوازها من
الفضولي في مثل مجهول المالك ونحوه، والتقرب بمال الغير عن الفاعل غير مشروع
أما عن الغير نفسه ففي الأدلة ما يدل على مشروعية كل ذلك، بناء على اعتبار نية
التقرب فيه على وجه يكون من العبادة، أما على القول بعدم اعتبارها أصلا فلا ريب
أن المتجه حينئذ الصحة.
(ويصح وقف المشاع) بلا خلاف أجده فيه عندنا، بل الاجماع بقسميه عليه،
بل نصوص التصدق به مستفيضة أو متواترة، فيدخل فيه الوقف، أو يراد منه بل في الغنية
أنه مورد قوله (عليه السلام) حبس الأصل وسبل الثمرة، فما عن الشيباني - من عدم الجواز
لعدم امكان قبضه - واضح أضعف لما عرفت (و) لأن (قبضه) هنا كقبضه في
البيع) كما هو واضح، والله العالم.
بقي الكلام فيما يندرج في الضابط المزبور من جواز وقف من ينعتق على
الموقوف عليه، وقد صرح به الفاضل في قواعده، ووافقه عليه في جامع المقاصد لأن
العتق إنما هو في الملك التام، بل عن غاية المراد الميل إلى ذلك، أو القول
به، هذا.
ولكن الانصاف عدم خلوه من النظر، وتسمع لذلك تتمة انشاء الله تعالى، في
صيرورة الأمة الموقوفة أم ولد، إذا وطأها الموقوف عليه، فولدت منه فتنعتق بموت
السيد، ويؤخذ من تركته قيمتها للبطون المتأخرة، وأما أم الولد فالمتجه عدم جواز
وقفها بناء على انتقال الموقوف للموقوف عليه، لعدم جواز نقلها إلى الغير بجميع
وجوه النقل، أما على القول ببقائه على ملك الواقف فقد يقال بالجواز، وتبقى حينئذ
على الوقف إلى موت السيد، ولو مات ولدها قبله تأبد وقفها، وإلا عتقت من نصيبه
وبطل وقفها.
وفيه أنه مناف للتأبيد المعتبر فيه الذي يراد منه بناؤه عليه من أول الوقف،
اللهم إلا أن يمنع اعتبار ذلك، أو يقال: كما عن بعض الشافعية من بقاء منافعها
للموقوف عليه وإن تحررت، كما لو آجرها ومات، وأما المدبر فلا اشكال في جواز وقفه،
19

ويكون حينئذ رجوعا عنه، ولعله لذا حكي الاجماع عن التذكرة على جواز وقفه.
نعم الظاهر عدم صحة وقف المكاتب بقسميه، لانقطاع سلطنة المولى عنه، كما
عن التذكرة التصريح به، وأما العين المستأجرة والموصى بمنفعتها شهرا مثلا فلا يجوز
للمستأجر والموصى له وقفها، لأنه لا يملك إلا المنفعة، وقد عرفت عدم جواز وقفها، أما
المالك فلا بأس به، والقبض حينئذ يكون بإذن الآخر، أو إلى انقضاء تعلقه.
نعم لو فرض مدة الإجارة يستغرق عمر العين غالبا، وتأبيد الوصية بالمنافع لم
يجز الوقف، ضرورة كون العين حينئذ مسلوبة المنافع، كضرورة عدم جواز الوقف في
العين المملوكة التي تعلق بها حق الرهن، أو الدين لفلس ونحوه، فالغرض من
الملك في الضابط الخالي من نحو ذلك، ويمكن أن يكون نظر المصنف وغيره في
خروج ذلك إلى ما تسمعه من شرايط الوقف التام، والله العالم.
(القسم الثاني: في شرائط الواقف)
(ويعتبر فيه البلوغ) ولو بالعشر (وكمال العقل وجواز التصرف) ولعل
الأخير مغن عن الأولين ولذا اكتفى في اللمعة باشتراط الكمال، وفي الدروس بأهلية
الوقف، وفي محكي السرائر والغنية كونه مختارا مالكا للتبرع به إجماعا، والأمر سهل
بعد معلومية سلب عبارة الصبي، وإن قلنا بشرعية عبادته، وأن الوقف من العبادة،
وسلب عبادة المجنون بقسميه، وأن المحجور عليه لفلس أو سفه لا يجوز له التصرف
المالي بعبادة أو غيرها، بل قد يشكل صحته منه مع الإجازة المتأخرة بما عرفته سابقا
في الفضولي، اللهم إلا أن يجعل ذلك من شرايط الصحة كالقبض، فلا يمنع التقرب
بالصيغة حينئذ.
(و) على كل حال ف‍ (في وقف من بلغ عشرا) مميزا (تردد) بل خلاف، فعن
المقنعة الأول، وعن وصايا النهاية والمهذب جواز صدقته، بل في جامع المقاصد
في الوكالة أن المشهور جواز تصرفه في الوصية والعتق والصدقة، والمشهور الثاني
بل لعل عليه عامة المتأخرين، بل لعل الخلاف منحصر في خصوص المفيد بناء على
إرادة ما لا يشمل الوقف من الصدقة في كلامهم، بل ولا دليل عليه، ضرورة اختصاص
20

خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) في الصدقة على الوجه المعروف في البالغ عشرا.
وموثق جميل (2) " عن أحدهما في صدقة الغلام إذا كان قد عقل " وكذا موثق الحلبي
ومحمد بن مسلم (3).
(و) من هنا قال المنصف: (المروي جواز صدقته) على أنه في المسالك مثل هذه
الأخبار الشاذة المخالفة لأصول المذهب بل اجماع المسلمين لا تصلح لتأسيس هذا
الحكم، وفي جامع المقاصد لا تنهض معارضات للتواتر.
قلت: ولا ينافي ذلك جواز وصيته ولو بالوقف للنصوص المعمول بها بين معظم
الأصحاب مع حرمة القياس، (و) حينئذ فلا ريب في أن (الأولى المنع) بل هو الأصح
(ل‍) ما عرفت، ومعلومية (توقف رفع الحجر على البلوغ والرشد) ومن المعلوم عدم
تحقق الأول منهما ببلوغ العشر، ودعوى كونه بلوغا بالنسبة إلى خصوص ذلك واضحة
المنع، ضرورة أن البلوغ مرتبة خاصة لا تفاوت فيها في ذلك.
(و) كيف كان فلا اشكال في أنه (يجوز أن يجعل الواقف النظر) في الموقوف
(لنفسه) خاصة (ولغيره) كذلك ولهما معا على الاشتراك والاستقلال، بل ولا
خلاف إلا ما يحكى عن ابن إدريس، والموجود في محكي السرائر في عداد الشروط، و
منها أنه لا يدخله شرط خيار للواقف في الرجوع فيه، ولا أن يتولاه هو بنفسه أو بغيره
متى شاء هو، وليست صريحة، ولذا نفى الخلاف عنه من دون استثنائه غير واحد، و
قطع به آخر ونفى الشبهة عنه ثالث، وإلا كان محجوجا بعموم الأدلة وخصوصها بل
مقتضى الاطلاق نصا وفتوى عدم الفرق في ذلك بين كونه عدلا أو فاسقا كما صرح به غير
واحد بل لم أجد فيه خلافا، وإن احتمله في المسالك، لكن في الرياض تبعا للكفاية فيه
قولان ولم نتحققه.
نعم قد صرح غير واحد باعتبارها في غيره، بل في الكفاية أنه المعروف من
مذهب الأصحاب، بل في الرياض دعوى حكاية الاتفاق عليه، وإن كان فيه ما لا يخفى

(1) الوسائل الباب - 15 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 1 - 2.
(2) الوسائل الباب - 15 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 1 - 2.
(3) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 2.
21

على المتتبع، بل في محكي التحرير لو جعل النظر للأرشد عمل بذلك، ولو كان
الأرشد فاسقا فالأقرب عدم ضم عدل إليه، وقال أيضا: لو جعل النظر لأجنبي عدل
ثم فسق ضم إليه الحاكم أمينا، ويحتمل انعزاله بفسقه، وحينئذ فالمتجه عدم الفرق بين
اشتراطها لنفسه ولغيره بالنسبة إلى ذلك، وما في وقف سيدنا أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) من
اعتبار الرضا بهديه واسلامه وأمانته لا يدل على اشتراط ذلك في أصل الناظر
وعلى كل حال ففي المسالك وغيرها أنه إن عادت العدالة إليه عادت النظارة
إن كان مشروطا من الواقف، ونحو ذلك قد ذكروه في الوصي، والظاهر اختصاص ذلك
فيهما من بين العقود لاقتضاء العموم في دليل مشروعيتهما من قوله (عليه السلام) (2) " الوقوف على
حسب ما يقفها أهلها إن شاء الله " وقوله تعالى (3) " فمن بدله بعد ما سمعه " إلى آخره
جواز ذلك، وهو جعل العنوان الشخص الموصوف من حيث الوصف، ومن المعلوم عدم
جواز مثل ذلك في الوكالة، ونحوها على وجه تدور وكالته مدارها وجودا وعدما.
ثم الناظر المشروط في نفس العقد لازم من جهة الواقف، لا يجوز له عزله مطلقا،
لعموم الأمر بالكون مع الشرط، وإن كان لا يجب على المشروط له القبول، للأصل بل
لو قبل: لم يجب عليه الاستمرار لما في الدروس والروضة من أنه في معنى التوكيل.
وفي المسالك " لأنه غير واجب في الأصل فيستصحب فإذا رد صار كما لا ناظر له
ابتداء فيتولاه الحاكم، أو الموقوف عليه، ويحتمل الحاكم مطلقا، لخروج الموقوف عليه
من استحقاق النظر بشرطه، فعوده إليه يحتاج إلى دليل، بخلاف الحكم فإن
نظره عام ".
قلت: قد يناقش في جواز الرد بعد القبول باطلاق الأمر بالوفاء بالعقد من
المتعاقدين وغيرهما ممن له تعلق بالعقد، والقبول بالنسبة إليه حينئذ رضاه بما
اشترط له منه، ودعوى أنه في معنى التوكيل كما ترى، ضرورة عدم الدليل وعدم القصد

(1) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 4.
(2) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 2.
(3) سورة البقرة الآية 181.
22

بل ربما يومئ في الجملة إلى ما قلناه وجوب القيام بما تقتضيه النظارة عليه مع عدم الرد
لكونه من مقتضى العقد المزبور، بل وما ذكروه أيضا من أنه إن اشترط الواقف له شيئا
من الثمرة عوضا من عمله جاز، وليس له أزيد منه وإن كان أقل من الأجرة وإن أطلق
فله أجرة مثل عمله إن لم يرد التبرع، ضرورة ابتناء التزامه بالعوض القليل على كونه
من مقتضى العقد اللازم الذي لا وجه عند التأمل في جواز رده بعد قبوله، مع أن
المردود من أجزاء مقتضاه، فتأمل جيدا فإنه دقيق.
ولو جعل النظارة لاثنين مثلا اشتركا فيها على وجه لا يجوز لأحدهما الاستقلال
على ما صرح به غير واحد ولا بأس به مع قصد الواقف ذلك لعموم (1) " المؤمنون " (2) " والوقوف "
المقتضي جواز جميع الصور المتصورة في المقام من الاستقلال والاشتراك في الجميع
والبعض وغيرهما مما لم يكن فيها مانع من الشرع.
ولكن هل يحمل على الاشتراك المزبور بمجرد تعدد الناظر لا يخلو من اشكال،
كالاشكال في استقلال الآخر لو مات أحدهما أو انعزل بفسق ونحوه، كما أوضحنا ذلك
في الوصي الذي لا مقتضى للفرق بينه وبين الناظر في مثل هذه الأحكام التي مرجعها
إلى فهم معنى، أو عموم دليل أو نحو ذلك، ومنه يعلم ما في المسالك من أنه لو اختص
أحدهما بالعدالة أو بقي عليها ضم إليه الحاكم حيث لا يكون منفردا وانضم إلى الموقوف
عليه إن انتقل إليه النظر كما تقدم، فلاحظ وتأمل.
ثم إن وظيفة الناظر مع الاطلاق ما يتعارف من ذلك من العمارة والإجارة و
تحصيل الغلة وقسمتها على مستحقها، وحفظ الأصل ونحو ذلك مما لا يجوز لغيره
بعد فرض اشتراط النظر المنصرف عرفا إلى تولي شئ من ذلك.
وفي التوقيع (3) وأما ما سألت عن أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة فيسلمها
من يقوم بها ويعمرها ويؤدي من دخلها خراجها ومؤنتها ويجعل ما بقي من الدخل
لناحيتنا، فإن ذلك لمن جعله صاحب الضيعة لا يجوز ذلك لغيره.

(1) الوسائل الباب - 20 - من أبواب المهور الحديث 4.
(2) الوسائل الباب - 2 - من أبواب الوقوف الحديث - 2
(3) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الوقوف - الحديث - 8.
23

لكن في المسالك " الاشكال في ذلك من وجهين: (أحدهما) ما لو كان
الموقوف عليه متحدا، أما ابتداء أو لاتحاده في بعض الطبقات اتفاقا، فإنه مختص بالغلة
فتوقف تصرفه فيها على إذن الناظر بعيد، لعدم الفائدة خصوصا مع تحقق صرفها
إليه بأن تكون فاضلة عن العمارة وغيرها مما تقدم على القسمة نعم لو أشكل الحال
توقف على إذنه قطعا، لاحتمال أن يحتاج إليها أو إلى بعضها في الأمور المتقدمة
على اختصاص الموقوف عليه، (وثانيهما) الأوقاف العامة على المسلمين ونحوهم التي
يريد الواقف انتفاع كل من الموقوف عليه بالثمرة إذا مر بها كأشجار الثمار فإن مقتضى
القاعدة أيضا عدم جواز تصرف أحد منهم في شئ منها إلا بإذن الحاكم، ولا يخلو من
اشكال، وتفويت لكثير من أغراض الواقف، بل ربما دلت القرينة على عدم إرادة الواقف
النظر على هذا الوجه، بل يريد تفويض الانتفاع إلى كل واحد من أفراد تلك الجهة،
فكأنه في قوة جعل النظر إليه، لكن هذا كله لا يدفع الاشكال لما تقدم من أنه بعد
الوقف حيث لا يشترط النظر لأحد يصير كالأجنبي، وينتقل الحكم إلى الحاكم فلا عبرة
بقصده خلاف ذلك، حيث لا يوافق القواعد الشرعية، وجعل مثل هذا الاطلاق نظرا
إلى كل واحد في حيز المنع، وبالجملة فهذه القواعد الشرعية المتفق عليها، لا تدفع
بمثل هذا الخيال، وينبغي أن يقال: إن المتصرف على هذا الوجه يأثم خاصة، ويملك
حيث لا يجب صرف الثمرة في الأمور المتقدمة على صرفها إلى الموقوف عليه، وكذا
القول في تصرف الموقوف عليه المتحد، أما المتعدد فلا، لأن قسمتها وتمييز حق كل
واحد من الشركاء يتوقف على ناظر، فيكون كالتصرف في المال المشترك بغير إذن
الشريك، فتستقر في ذمته حصة الشريك من ذلك، ولم أقف في هذه الأحكام للأصحاب
على شئ فينبغي تحرير النظر فيه ".
إلا أنه من غرائب الكلام، ضرورة أنه لا استبعاد في توقف تصرف الواحد على
إذن الناظر مع فرض اشتراطه من الواقف على هذا الوجه، " لأن الوقوف على حسب
ما يقفها أهلها " كما أنه لا وجه لدعوى توقف المنتفع بثمر شجر أو ماء بئر أو ظلال أو نحو
ذلك مما يراد من وقفه الانتفاع لمن يمر به على إذن الحاكم، إذ هو وإن كان الناظر
24

مع الاطلاق إلا أنه فيما لم يتجه المالك بوقفه له على هذا الوجه.
ودعوى - أنه أجنبي مع فرض أنه وقف على هذا الوجه - غريبة، وأغرب منها
دعوى الإثم بالتناول المزبور، وإن ترتب عليه الملك، لمنافاته السيرة المستمرة، و
للمعلوم من قصد الواقف بوقفه على هذا الوجه، ولما ورد في النص من أحقية السابق
من غيره ولغير ذلك، وكذا لا يخفى عليك ما فيه من الفرق بين المتحد والمتعدد مع
فرض تراضي الشركاء فيما بينهم بالقسمة، فإن الناظر لا مدخلية له في ذلك إلا أن
يشترط الواقف كما هو واضح.
بقي الكلام فيما ذكره المصنف بقوله (فإن لم يعين) الواقف (الناظر كان النظر
إلى الموقوف عليهم بناء على القول بالملك) ونحوه في القواعد ومحكي التحرير والجامع
وغيرها، وإليه يرجع ما عن جماعة من إطلاق كونه للموقوف عليهم، وما في المسالك " من
أنه إن جعلنا الملك للواقف أو للموقوف عليه مطلقا فالنظر إليه، وإن جعلناه للموقوف
عليه إن كان معينا، ولله تعالى إن كان على جهة عامة، فالنظر في الأول للموقوف
عليه، وللحاكم الشرعي في الثاني، وكذا غيرها مما صرح فيه بتولية الحاكم إن كان
عاما وإن كان على معين وليه بنفسه، لمعلومية ابتناء ذلك على كونه في العام لله أو
للفقراء، وعلى كل حال فالولي الحاكم ".
لكن لم نعرف لهم دليلا يعتد به مع فرض إرادة أحكام الناظر المشترط التي
تمضي إجارته على الأعقاب ونحوها، وكون العين والمنفعة ملكا لهم ما داموا أحياء لا
يقتضي اثبات مثل هذه الولاية لهم.
نعم لهم تناول ما هو ملك لهم من دون استيذان، ولهم التصرف في تنميته و
اصلاحه ونحو ذلك مما هو من توابع الملك، وليس لهم اهماله كما يهمل المالك ملكه
كما أنه ليس لهم النظر فيه على وجه يمضي على البطون المتأخرة، ومن ذلك يظهر
لك قوة ما حكاه في الدروس عن بعضهم من احتمال كون النظر للحاكم عند الاطلاق
في الوقوف كلها، لتعلق حق البطون المتعاقبة، بناء على إرادته ما ذكرناه بقرينة
تعليله، لا مطلق التصرف بها، وتناول ثمرتها ونحو ذلك مما لا ينافي حق البطون أو
25

كان فيه مصلحة لها، بل يمكن تنزيل اطلاق الكلمات على ما ذكرناه من التفصيل.
وأما احتمال أنه للمالك، لأن النظر والملك كانا له، فإذا زال أحدهما بقي
الآخر، فإنه وإن حكاه في الدروس، بل احتمله الفاضل في محكي التذكرة، إلا أنه
في غاية الضعف، ضرورة خروج الواقف بعد الوقف وصيرورته كالأجنبي بالنسبة إلى
ذلك، وإنما كان له ماله تبعا لملكه، وقد زال كما هو واضح. والله العالم.
القسم (الثالث: في شرائط الموقوف عليه)
(و) قد اشتهر فيما بينهم أنه (يعتبر في الموقوف عليه شروط أربعة) (1) الأول:
(أن يكون موجودا) والثاني: أن يكون (ممن يصح تملكه و) الثالث: (أن يكون
معينا و) الرابع: (أن لا يكون الوقف عليه محرما) بل في محكي الغنية والسرائر
الاجماع على كونه معروفا متميزا يصح التقرب بالوقف عليه، وهو ممن يملك، بل فيه
أيضا ومحكي المبسوط نفي الخلاف عن عدم صحته على المعدوم الذي لم يوجد بعد
والحمل والعبد، بل في الأخير أيضا أن الذي يقتضيه مذهبنا أنه لا يصح الوقف
على المجهول والمعدوم، كل ذلك مضافا إلى معلومية اقتضاء " عقد " (2) الوقف ملك
الموقوف عليه المنفعة أو هي مع العين، والمعدوم وغير القابل للملك لا يصلح لذلك
لعدم صلاحيتهما للقبول الذي قد عرفت اعتباره فيه.
(و) حينئذ ف‍ (لو وقف على معدوم ابتداء لم يصح، كمن وقف على من سيولد
له) مثلا (أو على حمل لم ينفصل) فإنه وإن كان موجود أو صحت الوصية له وعزل
الميراث له، إلا أنه بحكم المعدوم بالنسبة إلى الوقف للاجماع المزبور، أو لعدم
قابليته للملك إلا ما خرج بناء على صحة الوصية له بمعنى التمليك الاختياري الفعلي
ولو بقبول وليه، بناء على ثبوت الولاية له قبل التولد لا الوصية العهدية أو التمليكية
المتأخر قبولها من وليه عن تولده، فإن ثبوتهما لا يقتضي صحة الوقف.

(1) وفي المتن " شروط ثلاثة أن يكون موجودا، ممن يصح أن يملك، وأن يكون معينا
وأن لا يكون الوقف عليه محرما إلى آخره ".
(2) كلمة " عقد " ليست موجودة في بعض النسخ.
26

(أما لو وقف على معدوم) قابل لذلك بعد وجوده فضلا عن الحمل (تبعا لموجود)
قابل لعقد الوقف ومقتضاه من التملك للمنفعة (فإنه يصح) بلا خلاف فيه بل الاجماع
بقسميه عليه، والنصوص بعمومها وخصوص صدقاتهم مستفيضة أو متواترة فيه على معنى
تملكه بعد وجوده مرتبا (و) مشاركا.
نعم (لو بدء بالمعدوم ثم بعده على الموجود) لم يصح على المعدوم قطعا لما
عرفت، ولكن هل يقتضي ذلك بطلان العقد رأسا (قيل:) هو كذلك ف‍ (لا يصح) حينئذ
حتى بالنسبة إلى الموجود كما هو المشهور، وفي المسالك نسبته إلى المصنف والمحققين
لأن اللازم من الصحة أحد أمور ثلاثة معلومة البطلان، وهي: إما صحة الوقف مع انتفاء
الموقوف عليه، أو وقوع الوقف المشروط أو عدم جريان الوقف على حسب ما أراد الواقف،
ضرورة أنه حال الوقف إن لم يكن موقوفا عليه فهو الأول أو الثاني، وإن فرض أنه البطن
الثاني فهو الثالث.
(وقيل) والقائل الشيخ في محكي خلافه ومبسوطه (يصح على الموجود) قال في
الأول: إذا وقف على من لا يصح الوقف عليه مثل العبد أو حمل لم يوجد أو رجل مجهول وما
أشبه ذلك ثم بعد ذلك على أولاده الموجودين في الحال، وبعد ذلك على الفقراء بطل
الوقف فيما بدء بذكره، لأنه لا يصح الوقف عليهم، وصح في حق الباقين لأنه لا دليل على
إبطاله، ولا مانع يمنع منه، وقال في الثاني ما حاصله أنه مبني على صحة تفريق الصفقة التي
اعترف بالقول بها، ثم إن كان من بطل الوقف في حقه لا يمكن اعتبار انقراضه، كالوقف على
معدوم أو مجهول صرفت منفعة الوقف إلى من صح في حقهم في الحال، وإن كان ذلك
ممكنا كالعبد ففي صرفها إليهم أيضا وعدمه، بل تصرف إلى الفقراء والمساكين إلى انقراض
العبد فترجع إليهم قولان.
وعن يحيى بن سعيد في الجامع موافقته في الصحة في حق الباقين، وكأنه مال إليه
في غاية المراد حيث أجاب عن دليل الأول بالتزام إن هناك موقوفا عليه وهم البطن الثاني
فإن أمكن اعتبار انقراض الأول اعتبر ذلك في جواز انتفاع البطن الثاني، لا في نفوذ الوقف،
والنماء حينئذ للواقف أو ورثته، كمنقطع الوسط، مع احتمال مساواته لمن لا يمكن انقراضه،
27

ويقال فيهما أنه لما كان المصدر به محالا كان شرط الواقف كلا شرط، فلا يلزم بمخالفته
محال، واتباع شرطه إنما يلزم لو كان سابقا، وبطلان الوقف إنما يلزم لو لم يكن هناك موقوف
عليه لكنه موجود قطعا والواسطة غير صالح للمانعية
وفيه - مضافا إلى ما عرفت - أنه مبني على عدم بطلان العقد ببطلان الشرط الذي
قد تقدم الكلام فيه في محله، بل في المسالك أنه مناف أيضا لاعتبار اخراج الواقف نفسه عن
الوقف ولو وفاء دين أو غلة سنة في صحة الوقف، وتشبيهه له بمنقطع الوسط رد له إلى المتنازع
فإنه بمثابة منقطع الأول فيما بعد الانقطاع، وإن أراد فيما قبله فالفرق واضح.
وبذلك ظهر لك حينئذ صلاحية الواسطة للمانعية (و) إن (الأول أشبه)
بأصول المذهب وقواعده بعد وضوح الفرق بينه وبين تبعيض الصفقة التي يساويها
وقف الشاة والخنزير مثلا، أو الوقف على العبد مثلا وزيد الذي صرح الأكثر بجوازه في الثاني
في النصف، لتوجه القصد في الأول إليهما فيصح في الجامع ويبطل في الفاقد، وفي الثاني
إلى التشريك بينهما فيصح في القابل، ويبطل في الفاقد بخلاف الفرض الذي تترتب في
القصد بل هو قصد إلى المرتب الذي هو كالمركب في اقتضاء انتفاء المرتب عليه انتفاءه،
لعدم الترتيب حينئذ، بل لعل التأمل يقتضي البطلان بنحو ذلك في منقطع الوسط، و
منقطع الأخير بناء على مدخلية الترتيب في المتأخر كمدخليته في المتقدم، لاتحاد سلسلة
الترتيب، فمتى كان اختلال في أولها أو وسطها أو آخرها بطلت، لأن المعنى الترتيبي واحد
بالنسبة إلى الجميع.
اللهم إلا أن يدعى الفرق بين المرتب عليه والمرتب في العرف، ولكنه صعب مع
التأمل وإلا فلا اشكال فيه مع فرض قصد الواقف ذلك، وحينئذ يكون من تبعيض الصفقة،
بل لو فرض في الأول أيضا كان كذلك فلاحظ وتأمل جيدا كي لا يخفى عليك ما في الذي
حكيناه عن غاية المراد من التشبيه بمنقطع الوسط، وما سمعته من رده بما في المسالك،
(و) كذا أظهر أيضا لك الحال فيما (لو وقف على من لا يملك ثم على من يملك و)
إن كان (فيه) ال‍ (تردد) والخلاف المزبور (و) لكن (المنع أشبه) بأصول المذهب
وقواعده لما عرفت، ولا أقل من أن يكون الوقف المفروض محل شك في تناول الأدلة، ولو
28

الاطلاقات والعمومات فالأصل فيه الفساد، لكن لا يخفى عليك أن بناء جميع ما سمعته
من الأصحاب في المنع على خلو الوقف عن موقوف عليه ولا ريب في كون ذلك مانعا ومنافيا
لتنجيز الوقف، من غير فرق بين ابتداء الوقف وفي أثنائه، وفي آخره، مما عساه يظهر من
المصنف والدروس من أن هذا الشرط إنما هو في ابتداء الوقف، وإلا فلا بأس بالوقف على
المعدوم تبعا للموجود - لا يخلو من ابهام، ضرورة أن الصحيح من الوقف على المعدوم
تبعا هو ما لا يقتضي خلو الوقف عن موقوف عليه في أحد الأزمنة، وبهذا المعنى لو فرض في
الأول يكون صحيحا للعمومات بمعنى أنه يقف على الموجودين ما دام لم يولد له مثلا، و
متى ولد له كان الوقف عليهم على وجه يكونون هم المقدمون، ودعوى عدم صحة هذا أيضا
ممنوعة على مدعيها، وإن كان سيأتي من المصنف ما يوهمها، وهو قوله " ولو شرط نقله عن
الموقوف عليهم إلى من سيوجد لم يجز وبطل الوقف " إلا أنه في نقل الوقف من أصله عنهم،
وهو غير ما نحن فيه مع أن ظاهر الشهيد في الدروس وغيره جوازه كما تسمعه في محله انشاء
الله تعالى.
(و) كيف كان فقد عرفت أنه لا خلاف بيننا كما لا اشكال في أنه (لا يصح) الوقف
(على المملوك) بجميع أفراده المشتركة في عدم قابليته للملك الذي قد عرفت أنه من
مقتضى الوقف.
نعم لو قلنا بأنه يملك صح الوقف عليه وإن كان محجورا عليه، بل في عدم اعتبار إذن
مولاه في القبول وجه، وما عن بعض العامة - من جواز الوقف عليه على الأول ويكون لسيده
واضح البطلان، ضرورة كون الوقف عقدا (و) هو تابع للقصد ف‍ (لا ينصرف الوقف إلى
مولاه ل‍) كون المفروض (أنه لم يقصده بالوقفية) وإنما كان قاصدا للعبد (و) كذا لا
خلاف ولا إشكال في أنه (يصح الوقف على المصالح) الراجعة إلى كافة الناس أو
بعضهم (كالقناطر والمساجد) لعموم الأدلة ولا ينافي ذلك عدم قابليتها للملك
(لأن الوقف في الحقيقة على) الناس (المسلمين) وإن وقعت هي في اللفظ والقصد
الأولى (لكن) المراد حقيقتهم باعتبار انتفاعهم في ذلك ف‍ (هو) حينئذ (صرف إلى
بعض مصالحهم) وكذا الوقف على أكفان الموتى ومؤنة حفر قبورهم بل وعلى العبيد
29

المعدين لخدمة البيت والحضرات المشرفة والأماكن المعظمة، بل والبهائم كذلك
لرجوع الأمر في ذلك كله إلى ما عرفت، بل يمكن القول بصحة الوقف على الجهات
الخاصة، كالوقف على كتب زيد ومدرسته مثلا لأنه في الحقيقة وقف على زيد على أن يصرفه
في مصلحة خاصة.
نعم يحتاج مع ذلك إلى ما يكون به مؤبدا، ضرورة اتحاد الجميع في المدرك، و
أما المرسل في الفقيه في باب فضل المساجد (1) " أنه سئل عن الوقوف عليها، فقال لا يجوز،
لأن المجوس وقفوا على بيوت النار " المراد به على الظاهر ما رواه هو والشيخ في التهذيب
من خبر الصحارى (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قلت له: الرجل اشترى دارا فبقيت عرصة فبناها
بيت غلة أيوقفه على المسجد، فقال: إن المجوس أوقفوا على بيوت النار " الذي هو مع
شذوذه وضعف سنده - واحتماله الوقف على نفس المسجد أو للتزويق والزخرفة أو وقف
الأولاد للخدمة كما كان في الشرع السابق وغير ذلك وإن بعد - فيمكن حمله على إرادة
بيان الأولوية بالجواز مما ذكر فيه من التعليل، فيكون حينئذ مؤيدا لترك " لا " في بعض
النسخ في المرسل الذي يكون حينئذ صريحا على هذا التقدير في الجواز الموافق لما دل
على الأمر بعمارتها وكنسها وغير ذلك مما يكون الوقف مقدمة له، والله العالم.
(ولا يقف المسلم على الحربي وإن كان رحما) وفاقا للمشهور كما عن المسالك،
بل قد تشعر عبارته بعدم الخلاف كما عن ظاهر التنقيح وإن كان فيه حينئذ ما ستعرف،
للنهي عن موادته وبره، ولأنه مباح المال على وجه ينافي صحة الوقف عليه التي يترتب
عليها عدم جواز تناوله منه كما أومى إليه بتعليل المنع في الدروس بذلك.
لكن عن كثير من القدماء اطلاق جوازه على الكافر - بل عن مجمع البيان الاجماع
على جواز أن يبر الرجل على من شاء من أهل الحرب قرابة كان أو غير قرابة، وإنما الخلاف
في إعطائهم الزكاة والفطرة والكفارات، فلم يجوزه أصحابنا، وفيه خلاف بين الفقهاء -
لعموم قوله (3) (عليه السلام) الوقوف على حسب إلى آخره ونحوه والحث على الاحسان والمعروف

(1) الوسائل الباب - 66 - من أبواب أحكام المساجد الحديث 1 - 2.
(2) الوسائل الباب - 66 - من أبواب أحكام المساجد الحديث 1 - 2.
(3) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 1 - 2.
30

وصلة الأرحام، وربما كان فيه تأليف لقلوبهم وميلهم إلى الاسلام، ولأن " كل كبد حراء
أجر (1) " والنهي عن الموادة من حيث كونه محادا ومحاربا، وإلا لحرم محادثتهم والتعارف
معهم ونحوه، وتحريم تغييره من حيث كونه وقفا، لا ينافي جوازه من حيث كونه مال حربي،
لا أقل من أن يكون التعارض من وجه، ولا ريب في رجحان الأخير، ومع الاغضاء عن ذلك
كله، فالنهي عن الموادة لا يقتضي الفساد إذا كانت في عقد من العقود بل أقصاها الإثم.
ولكن فيه - بعد امكان إرادة خصوص الذمي الذي ستعرف الحال فيه من
الاطلاق كما عن الشهيد وجماعة، وأن يراد من معقد الاجماع المزبور ما لا يشمل الوقف
عليهم، الذي هو أولى بالمنع من الوصية التي أطبقوا على ما قيل إلا من شذ على عدم
جوازها بل ظاهر المبسوط الاجماع على ذلك - أن ضرورة الشريعة تقتضي الحث
على قطع رحم الكفر، وعلى الإساءة لهم بكل ما يمكن، لأنهم شر دواب الأرض المؤذية
وأن الفساد على تقدير اعتبار القربة فيه واضح، لمعلومية عدم كون العبادة محرمة، بل
وعلى العدم أيضا للنهي عن نفس العقد الذي هو فرد المقتضي للبر والموادة كالنهي
عن فرد الإعانة على الإثم، وليس هو لأمر خارجي كالبيع وقت النداء، والظاهر أن ذلك
مبنى الفساد عندهم، لا ما في الرياض من عدم صلاحية الحربي للملك الذي هو مقتضى
الوقف، ولا أقل من أن يكون محل شك، والأصل الفساد، إذ هو كما ترى مناف للضرورة وما
سمعته من إباحة ماله لا يقتضي ذلك، بل هو ظاهر في خلافه كظهور أدلة التمليك في
ذلك أيضا، بل هو كالضروري من مذهبنا.
نعم قد يتوقف بناء على الصحة في تملك المسلم منه بالاغتنام ونحوه، لكونه وقفا
لمسلم جامعا للشرايط، اللهم إلا أن يرجح ما دل على أن ماله فئ للمسلمين على ذلك
بعد فرض تناول ذلك لمثل هذا المال له، كما أومأنا إليه سابقا، وهو أمر آخر غير ما نحن
فيه، فتأمل جيدا والله العالم.
(و) أما القول بجواز أن (يقف) المسلم (على الذمي ولو كان أجنبيا) فهو
محكي عن التذكرة والتبصرة، وموضع من التحرير والدروس وإيضاح النافع، بل لعله

(1) الوسائل الباب - 39 - من أبواب الصدقة الحديث - 5.
31

لازم للقائل بجواز الصدقة عليه الذي نسبه في المسالك إلى الأشهر، بل في الكفاية
إلى المشهور، بل قيل لم يحك الخلاف فيه إلا عن الحسن، ومنه ينقدح الاستدلال
عليه بالنصوص الدالة على ذلك، مضافا إلى عموم المقام، بل وعموم الاحسان والمعروف
وصلة الرحم وغيرها، بعد قوله (تعالى) (1) " لا ينهاكم الله... " وإلى فحوى ما دل على جواز
الوصية من الاجماع المحكي، أو النصوص وإلى ما سمعته من اجماع مجمع البيان، بل
لا ينافي ذلك القول باعتبار القربة فيه بعد فرض شمول الأدلة له، ضرورة عدم المانع
من كونه مقربا إلى الله تعالى، وإن كان على أهل الذمة كالصدقة، وبذلك يظهر لك
ضعف القول باختصاص الجواز في الرحم - وإن حكي عن الشيخين، وأبي الصلاح وبني
حمزة وزهرة وسعيد وإدريس، بل في جامع المقاصد أنه المشهور، بل في الخلاف الاجماع
عليه، بل قد يظهر من الغنية نفي الخلاف فيه - للمرسل (2) " إن صفية وقفت على أخ لها
يهودي فأقرها النبي (صلى الله عليه وآله) ضرورة عدم دليل صالح للاختصاص، وإن زاد الرحم بما
دل على رجحان صلته والوقف على الأرحام، بل يمكن إرادة القائلين وضوح القول
بالجواز فيهم، لا الجزم بنفيه عن غيرهم، وحينئذ لا يكون مخالفا للمختار، وكذا القول
باختصاصه فيما إذا كان أحد الأبوين مع أنا لم نتحقق القول به إلا ما يحكى عن السرائر
مع أن المنقول عنها في موضع آخر التصريح بجوازه على مطلق الأرحام، كما لم نتحقق
الدليل له إلا المرسل في محكي المراسم " إذا كان الكافر أحد أبوي الواقف كان جائزا "
والأمر بمعاشرتهما بالمعروف وهما غير صالحين للدلالة على الاختصاص، وأما القول
بالمنع، وإن حكي عن سلار وابن البراج والفخر والشهيد في الحواشي المنسوبة إليه
لكن لا دليل لهم سوى ما سمعته في الحربي الذي يجب الخروج عنه بما عرفته هناك كما
هو واضح، هذا.
ولكن في الرياض المناقشة في أصل دلالة العمومات على الجواز مطلقا بكون المراد
من قوله (عليه السلام) " الوقوف " إلى آخره وغيره، الوقوف الصحيحة المتضمنة لشرائط الصحة

(1) سورة الممتحنة الآية - 8.
(2) المغني لابن قدامة ج 6 ص 242 طبعة بيروت دار الكتاب العربي سنة 1392
32

التي منها قصد القربة، وهي فرع الأمر بالوقف أو مطلق الصدقة عليهم والمبرة بهم، ولا
أثر له في الشريعة لا في الكتاب ولا في سنة، فيكف يقصد التقرب بشئ لم يرد به أمر
أو حث أو ترغيب نحو ما ورد في المستحبات الشرعية، وبذلك يظهر لك الجواب عن
الاستدلال بقوله (عليه السلام) " لكل كبد حراء أجر " وبآية " لا ينهاكم الله " إلى آخره فإن غايتهما
الدلالة على ثبوت الأجر، وعدم النهي عن المودة، وهما لا يستلزمان الأمر بالوقف
أو المودة حتى يتحقق فيه قصد القربة المشترطة في الصحة، مع معارضتها بعموم دليل
المنع، وهو قوله تعالى (1) " لا تجد قوما يؤمنون بالله " إلى آخره، مع أني لم أجد لهذا القول
عدا الماتن هنا وفي الشرايع قائلا، إلى أن قال: فهو ضعيف غايته.
وهو من غرائب الكلام وما كنا لنؤثر أن يقع ذلك منه لا في النظر ولا في التتبع،
إذ قد عرفت أنه قول غير المصنف أولا، وثانيا لا يخفى عليك - بعد الاغضاء عما في تقييد
العمومات بالصحيحة المقتضي لعدم استفادة الصحيح منها حينئذ، الاغضاء عن
شرطية نية القربة - أنه يكفي في ذلك اطلاق ما دل على استحباب الوقف، وأنه من
الصدقة الجارية، ضرورة عدم الفرق بين متعلقه ومتعلق أوامر الصدقة بين المسلم
والذمي خصوصا بعد الخبر " أن لكل كبد حراء أجرا " وكذا ما دل على الأمر بالاحسان
وبالمعروف وفعل الخير ونحو ذلك، بل قوله تعالى (2) " لا ينهاكم الله " إلى آخره كاف
في ثبوت الحث على برهم، والأقساط إليهم بالمودة " فإن الله يحب المقسطين و
المحسنين، ويأمر بالاحسان (3) " وأغرب من ذلك قوله فإن " غايتهما " إلى آخره وبالجملة
هو من غرائب الكلام، والله هو المؤيد والمسدد والحافظ من زلل الأقدام والأقلام.
هذا كله في الوقف عليهم أنفسهم من حيث أنهم من بني آدم، (و) يمكن تولد
مسلم منهم، بل يمكن صيرورتهم مسلمين، بخلاف ما (لو وقف على الكنايس والبيع)
التي هي معابدهم فإنه (لم يصح) بلا خلاف أجده فيه بل عن ظاهر المبسوط و
الغنية نفيه بين المسلمين لكونه إعانة لهم على ما هو محرم عليهم من التعبد فيها

(1) سورة المجادلة الآية - 22.
(2) سورة الممتحنة الآية - 8.
(3) سورة البقرة الآية - 195 وسورة النحل الآية 90.
33

ونحوه وبذلك افترق عن الوقف عليهم لا بقصد شئ من ذلك وإن صرفوهم في المحرم،
وعلى المسلمين أو مصالحهم كمساجدهم وقناطرهم ونحوها مما يستحب إعانتهم
عليه هذا.
ولكن في المسالك بعد أن ذكر وجه المنع بنحو ما قلناه قال: وأما تعليل المنع
- بأن من جملة مصرف الوقف عمارتها وهي محرمة، بخلاف عمارة المساجد، وباقي
مصالح أهل الذمة - فغير مطرد، لأن من الكنايس ما يجوز لهم عمارتها بل هو الأغلب
في بلاد الاسلام، وتخصيصه بكنيسة لا يجوز احداثها كالمحدثة في أرض الاسلام، أو
أرضهم بعيد عن الاطلاق من غير ضرورة ".
وفيه أن عدم منعنا لهم عن ذلك لكونه من مقتضى عقد الذمة، لا يقتضي الجواز
لهم في الواقع، بل هو محرم عليهم، وحينئذ لا يجوز الوقف منا لهم على هذه الجهة،
للإعانة على الإثم، نعم لا بأس في الوقف على المصالح الراجعة إليهم الجائزة لهم كبناء
دورهم ونحوها، لأنه كالوقف عليهم.
(وكذل‍) ك في عدم الصحة (لو وقف على معونة الزناة) في زناهم من المسلمين
فضلا عن غيرهم، (أو قطاع الطريق أو شاربي الخمر) أو غيرهم لاشتراكهم معهم في
الدليل الذي هو النهي عن الإعانة على الإثم، والوقف بهذا القصد فرد منها، فبناء
على اعتبار القرية فيها فالأمر واضح، وعلى العدم يبطل لكون النهي عنه نفسه باعتبار
أنه إعانة، نحو ما سمعته في الموادة (وكذا لو وقف على كتب ما يسمى الآن بالتوراة، و
الإنجيل) بلا خلاف أجده فيه كما عن التذكرة وكذا المبسوط، لا لأنها منسوخة، فإن
ذلك لا يقتضي حرمة النظر فيها كالمنسوخ من القرآن وإن توقف فيه في جامع المقاصد
لاختلاف الملتين بخلاف منسوخ القرآن إلا أنه كما ترى بل (لأنها محرفة) ولو في
الجملة وبه صارت من كتب الضلال التي لا يجوز نسخها والنظر فيها لغير النقض ولذا
غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عمر لما رأى في يده شيئا من التوراة (1) " وقال له: أفي شك أنت
يا بن الخطاب، ألم آت بها بيضاء نقية، ولو كان أخي موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي "

(1) المغني لابن قدامة ج 6 ص 242 طبعة بيروت دار الكتاب العربي سنة 1392.
34

ولو وقف عليها بقصد الوجه الذي يجوز له امساكها والنظر فيه جاز، لكونه حينئذ طاعة إلا
أن الفرض لما كان نادرا أطلقوا المنع من الوقف عليها، كاطلاقهم المنع على الحربي، و
البيع مع امكان فرض جهة راجحة يجوز لها ذلك، لكنه بعد تسليم امكان فرضه خروج عن
محل البحث كما هو واضح. هذا كله في وقف المسلم.
(و) أما (لو وقف الكافر) على البيع والكنايس أو أحد الكتابين (جاز) بلا خلاف
أجده فيه كما عن المقتصر الأعراف به بل عن ظاهر التنقيح الاجماع عليه.
نعم في جامع المقاصد بعد أن أفتى بالجواز قال: " وفيه وجه آخر " وعلى كل حال
فالمعروف الأول: اقرارا لهم على دينهم، لكن في المسالك هو يتم بناء على عدم اشتراط
القربة، أما معه فمشكل من حيث إن ذلك معصية في الواقع، فلا يتحقق معنى القربة
بها إلا أن يراد قصدها في الجملة وإن لم تحصل، أو قصدها ممن يعتقد حصولها، و
هذا هو الظاهر، والأصل في ذلك ما عن الآبي في كشفه قال: سألت المصنف عن وجه
عدم الصحة أي الذي ذكره في النافع، فأجاب بأنه يمكن أن يقال: إن نية القربة شرط
في الوقف، ولا يمكن ذلك في الكافر، فلا يصح منه الوقف.
وناقشه فيه بأن لقائل أن يمنع المقدمتين، والوجه الصحة، إذ كل قوم يدينون
بدين ويعترفون بمعبود يتوجهون إليه، وتبعهما في الرياض، فإنه بعد أن حكى عن
المصنف احتمال عدم الجواز لتعذر النية قال: وفيه نظر، لاختصاصه بالمعطلة و
الدهرية.
وفيه أن الجواز الاقرار غير محتاج إلى شئ من ذلك، ضرورة أنه كوقف الخنزير
ونحوه، وأما الجواز الواقع الذي ينبغي فرضه في الجامع لشرائط الصحة عندنا، سوى
أنه من كافر لاقى نحو المقام الذي باطل عندنا، والفرض اشتراكهم في الفروع معنا، و
حينئذ فلا ريب في الفساد بناء على أن الوقف من العبادات المعتبر فيها النية المتوقفة على
تحقق الأمر، وليس هي إلا بالصحيحة الجامعة للشرايط التي منها الاسلام، ودعوى
الاتفاق على الصحة من الكافر في وقفه الجامع يقتضي ما أشرنا إليه من عدم اعتبار نية
القربة فيه، وإلا لم يكف القصد المزبور، ضرورة شرطية الاسلام في صحة عباداتهم
35

الجامعة للشرايط، فضلا عن محل الفرض الذي ليس موضوع عبادة في الواقع، والمذهب
على اشتراكهم معنا في الفروع. ولعل ذلك هو مراد المنصف كما وقع له في العتق، بل
كذلك الكلام في الوقف من فرق المسلمين المخالفة للحق، فإنه باطل على اعتبار
القربة لمعلومية اشتراط الايمان في صحة العبادة ".
وأما الوقف عليهم فالظاهر جوازه لنحو ما سمعته في الوقف على الذمي، إلا ما كان
ملحقا منهم بالحربي كالخوارج والغلاة والنواصب ونحوهم مما لم يثبت شرعية الوقف
عليهم إن لم يكن الثابت من الأدلة خلافه، وهو معنى آخر غير اشتراط القربة، وعليه
يتفرع عدم جواز الوقف على الفاسق من حيث كونه كذلك، وكذا الكافر والمخالف على وجه
لا يكون من الإعانة على الإثم، فليس حينئذ إلا اعتبار مشروعية جهة الوقف في الصحة فتأمل
جيدا، فإنه دقيق نافع، ومما ذكرنا يعلم وجه الصحة في وقف الكافر على بيوت النيران
وقرابين الشمس والكواكب كما هو المحكي عن المقنعة والمهذب والكافي ولوسيلة و
السرائر والدروس والمقتصر، بل وظاهر النهاية والجامع، إذ هي إما أن يراد منها
الصحة الاقرارية إن كانوا ممن يقرون على ذلك، نحو قولهم بصحة وقف الذمي الخنزير
على مثله، أو مبني على عدم اعتبار نية القربة في الوقف، بل وعلى عدم اعتبار مشروعية
الجهة في الوقف في الواقع، لكن عن المختلف والتنقيح التصريح بعدم صحة ذلك،
وهو مبني على إرادة الصحة الواقعية لا الاقرارية، وأن القربة معتبرة فيها أو مشروعية
الجهة والله العالم.
(والمسلم إذا وقف على الفقراء انصرف) عرفا (إلى) إرادة (فقراء المسلمين
دون غيرهم) وإن كان اللفظ جمعا معرفا، ومقتضاه الاستغراق، إلا أن شهادة الحال
عرفا تكفي في تخصيصه (و) من هنا (لو وقف الكافر كذلك) بأن جعل عنوان وقفه
الفقراء (انصرف إلى فقراء نحلته) أيضا لما عرفت بلا خلاف أجده فيهما، وليس هو من
الحقيقة العرفية حتى يبنى على مسألة تقديمها على اللغوية أو بالعكس كما توهم، بل هو
من القرينة على إرادة الاختصاص، بل الظاهر قيامها على إرادة فقراء أهل مذهبه، لا
غيرهم كما اعترف به بعضهم، بل يمكن إرادة الأكثر له، وإن أطلقوا، إلا أنه كان بصدد
36

بيان عدم دخول فقراء الكافرين من حيث كون الواقف مسلما، من المحقين كان أو
المبطلين، أما لو فرض كونه إماميا فشاهد الحال الذي ذكرناه بنفسه قائم أيضا على إرادة
الفقراء من الإمامية دون غيرهم، وهكذا إلا مع القرينة الدالة على إرادة خلاف قرينة
الاطلاق، وكذا لو جعل العنوان فقراء بلد أو بلد مخصوص.
نعم لو لم يكن في البلد إلا فقراء غير مذهبه، وكان عالما بذلك اتجه حينئذ الصرف
إليهم للقرينة، أما إذا لم يكن عالما فلا يبعد بطلان الوقف لعدم الموقوف عليه خلافا لما في
المسالك من أن الأولى الصحة عملا بالعموم المتناول للموجودين وحملا للوقف على الوجه
الصحيح، وفيه ما لا يخفى بعد فرض انصراف الاطلاق إلى ما ذكرناه وعدم القرينة إلى
غيره.
(ولو وقف على المسلمين انصرف إلى من صلى إلى القبلة) كما عن الأكثر، بل
المشهور، وهي الكعبة المشرفة، أي تدين بالصلاة إليها وإن لم يفعل، خلافا لما عن
المفيد من اشتراط الفعل، بل الظاهر ما صرح به غير واحد من دخول أطفالهم ومجانينهم
والمستضعفين منهم ونحوهم ممن محكوم باسلامه شرعا للتبعية، بل والإناث وإن كانت
الصيغة للذكور، إلا أن المراد منها الجنس.
نعم يخرج عنهم كل من حكم بكفره، ولو لسب ونحوه، وإن انتحل الاسلام كالخوارج
والغلاة ونحوهم ما لم يكن الواقف منهم، وإن احتمل دخولهم في الرياض، لكنه في غير
محله، من غير فرق في ذلك كله بين كون الواقف من المسلمين محقا وغيره، للعموم.
وقيل: إن كان الواقف محقا اختص الوقف بقبيلته بشاهد الحال، كما لو وقف على
الفقراء، ولمنع صحة الوقف على غير المحق، بناء على اعتبار القربة فيه، وفيه منع شهادته
بذلك، ولا تلازم بين اقتضائه في لفظ الفقراء، واقتضائه في لفظ المسلمين، وإلا لاقتضى
في لفظ الناس وبني آدم ونحوهم، والتعليل بعدم صحة الوقف على غير المحق خروج
عن محل البحث أولا، وممنوع ثانيا وإن قلنا باعتبار القربة فيه، كما أوضحناه سابقا.
ومنه يعلم ضعف ما عن الحلبي من خروج غير المؤمن إن كان مبناه الحكم بكفره على
وجه لا يجوز الوقف عليه كما أن من ذلك كله يظهر لك الحال فيما أطنب فيه في الرياض
37

خصوصا بعد ملاحظة كون المرجع في المسألة الفهم عرفا ولو بشاهد الحال، فايكاله
حينئذ إلى الوجدان كما في نظائره أولى من إقامة الدليل والبرهان، وكذا ما في الدروس
من أن الرجوع إلى الاعتقاد قوي، وإن خفي بني على تحقق الاسلام والكفر وهو في علم
الكلام، والله العالم.
(ولو وقف على المؤمنين انصرف إلى الاثني عشرية، وقيل:) والقائل الشيخ وجماعة
(إلى مجتنبي الكبائر) منهم التي منها الاصرار على الصغائر (والأول أشبه) لعدم
الدليل عل اعتبار ذلك في الايمان بل ظاهر الأدلة خلافه بل استقر المذهب الآن على
ذلك، بل هو المحكي عن التبيان للشيخ قائلا أنه كذلك عندنا، مشعرا بالاتفاق عليه، و
عن الحلبي والديلمي وكافة المتأخرين، بل ظاهر المصنف والأكثر على ما اعترف به بعضهم
بل في الرياض نسبته إليهم عدم الفرق في الانصراف المزبور بين كون الواقف منهم أو من
غيرهم.
لكن في المسالك بعد أن ذكر أن للايمان معنيين، عام، وهو التصديق القلبي بما
جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أخص من الاسلام، وخاص، وهو أيضا قسمان أحدهما أنه كذلك
مع العمل الصالح، فصاحب الكبيرة ليس بمؤمن والثاني الاعتقاد بإمامة الأئمة الاثني عشر
(عليهم السلام)، وهو المتعارف بين الإمامية وذكر ما اقتضاه ظاهر المصنف والأكثر قال: " وهو
مشكل لأن ذلك غير معروف عنده، ولا قصده متوجه إليه، فكيف يحمل عليه، وليس الحكم
فيه كالمسلمين في أن لفظه عام فينصرف إلى ما دل عليه اللفظ، وإن خالف معتقد
الواقف كما تقدم، لأن الايمان لغة هو مطلق التصديق، وليس بمراد هنا واصطلاحا مختلف
بحسب المصطلحين، والمعنى الذي اعتبره أكثر المسلمين هو المعنى العام، فلو قيل
بحمله عليه إذا كان الواقف غير إمامي كان حسنا، أو يقال: إذا كان من الوعيدية يحمل
على معتقده أو من الإمامية، فعلى معتقده، أو من غيره فعلى معتقده عملا بشاهد الحال
ودلالة العرف الخاص والقرائن الحالية، ولو كان الواقف إماميا وعيديا كما اتفق لكثير من
قدمائنا تعارض العرفان، ولعل حمله على المعنى المشهور وهو الأخير أوضح لأنه أعرف "
وتبعه على ذلك في الرياض.
38

قلت: قد يقال: إن نظر الأصحاب إلى أن هذا الاختلاف في مصداق المؤمن
الموجود في الكتاب والسنة النبوية وأخبار الأئمة (عليهم السلام)، وليس هو تعدد اصطلاح منهم،
وحينئذ فمن أوقف أو أوصى وجعل العنوان المؤمن نفذ فيما هو مصداقه واقعا، لظهور
إرادة الواقع من كل متكلم إذا كان من قبيل لا يعرف اختلاف علمائه في ذلك، بل لعله
كذلك وإن كان خلاف ما اعتقده الواقف، إلا أن تكون قرينة على إرادته بوقفه ما يزعم
أنه مصداق له، ومجرد الاختيار في التفسير لا يصلح قرينة على ذلك، ولا ريب في أن المؤمن
في العرف السابق، المصدق قلبا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما جاء به، وفي العرف الحادث المصدق
مع ذلك بإمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، فهم المؤمنون حينئذ حقا.
نعم يعتبر فيهم عدم صدور ما يخرجهم عن الايمان إلى الكفر من سب وانكار
ضروري المذهب ونحو ذلك، مثل ما سمعته في المسلم بالنسبة إلى ذلك، بل وبالنسبة
إلى ادخال أطفالهم ومجانينهم مما هو محكوم بايمانه بالتبعية، بل والمستضعف
منهم، وكأنه أشار إلى بعض ما ذكرنا في الدروس حيث اعتبر اعتقاد العصمة في الاثني عشر
مع الإمامة، ولعله لأنها من ضروريات المذهب الذي يقتضي إنكارها - من أهل المذهب
الكفر، وإن نظر فيه في المسالك قال: " ويلزمه اشتراط اعتقاد أفضليتهم على غيرهم من
معتقدات الإمامية المجمع عليها، والفتاوى خالية عنه، والظاهر يشهد بخلافه " لكن فيه
ما لا يخفى بعد الإحاطة بما ذكرناه، والله العالم.
(ولو وقف على الشيعة فهو) في عرفنا الآن (للإمامية) خاصة كما اعترف به في
الرياض، بل في المسالك، حكاه عن بعض من تقدمه، لكن قال: هو غريب بناء منه على أن
الشيعي من شايع عليا (عليه السلام) في الإمامة مقدما له على غيره، بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
(و) حينئذ فيندرج فيهم (الجارودية) والإسماعيلية من فرق الزيدية (دون
غيرهم) والكيسانية والواقفية والفطحية وغيرهم، إلا أن المصنف اقتصر على الجارودية
(من فرق الزيدية) للقول: بإمامة الشيخين من باقي فرقهم وانقراض الطوائف الأخر.
وعلى كل حال فالقول بالانصراف المزبور هو المشهور بين الأصحاب كما في المسالك
ولا يختص به فرقة نحلة الواقف خلافا للمحكي عن ابن إدريس فقال: " إن كان الواقف من
39

إحدى فرق الشيعة حمل كلامه العام عليه، وصرف في أهل نحلته دون من عداهم،
عملا بشاهد الحال " وعن التذكرة نفى البأس عنه، وهو كذلك مع فرض قيام قرينة عليه،
وإلا فالحكم لمصداق اللفظ في الواقع كالمسلم، ومع فرض الاختلاف في مصداق الشيعي
فالحكم على حسب ما قلناه في المؤمن، وهو واضح، كوضوح الانصراف الآن من هذا اللفظ
- لو كان الواقف اثني عشريا - إليهم خاصة، ولا يدخل فيه أحد من الجارودية أو غيرهم
ولعل كلام الأصحاب محمول على حال عدم القرينة، فإن الأمر يدور حينئذ على المفهوم
واقعا في نفسه، ومن ذلك يظهر لك الحال فيما أورده بعض الناس - ممن قارب عصرنا -
على الأصحاب من معلومية خروج غير الاثني عشرية إذا كان الواقف واحدا منهم كما هو
واضح (وهكذا إذا وصف الموقوف عليه بنسبة دخل فيها كل من أطلقت) عليه إلا أن
تكون هناك قرينة صارفة، وهذا هو الضابط في جميع هذه المسائل على حسب غيره من
المقامات.
لكن في المسالك " لا كلام في ذلك مع اتفاق العرف والاصطلاح، ومع التعدد يحمل
على المتعارف عند الواقف، وبهذا يتخرج الخلاف والحكم في الجميع " وهو كذلك مع
فرض العرف الخاص، لا القول الخاص في التفسير كما عرفته سابقا، ولكن لا يخفى عليك
عدم تخرج الخلاف على ذلك ضرورة عدم النزاع في تقديم العرفية الخاصة على غيرها
في لفظ أهلها كما هو واضح.
(و) على كل حال ف‍ (لو وقف على الإمامية، كان للاثني عشرية) خاصة لأنهم
المعروفون بهذا الاسم، والظاهر عدم اعتبار اجتناب الكبائر هنا ممن اعتبره في المؤمن
كما هو مقتضى دليل القائل أما اعتبار العصمة فقد يظهر من الدروس ذلك، ولا يبعد أن
يكون التحقيق فيها ما ذكرناه في المؤمن فلاحظ وتأمل (ولو وقف على الزيدية كان
للقائلين بإمامة زيد بن علي) بن الحسين (عليه السلام) ثم لكل من خرج بالسيف
من ولد فاطمة (عليها السلام) من ذوي العلم والرأي والصلاح، وما عن ابن إدريس من بطلان
الوقف إذا كان الواقف غير زيدي خروج عن محل البحث.
(وكذا) الحال (لو علقهم بنسبته إلى أب، كان لكل من انتسب إليه بالأبوة
40

كالهاشميين: فهو لمن أنتسب إلى هاشم من ولد أبي طالب (عليه السلام) و
الحارث والعباس وأبي لهب، والطالبيين: فهو لمن ولده أبو طالب (عليه السلام)
منهم خاصة بلا خلاف ولا اشكال في شئ من ذلك بل (و) لا اشكال في أنه
(يشترك الذكور والإناث) في ذلك (المنسوبون إليه من جهة الأب نظرا إلى العرف)
إذا كان بلفظ لا يخص أحدهم، كالهاشمية والعلوية، بل والهاشميين والعلويين و
نحوهم مما يفهم إرادة الجنس منه أو هو مبني على التغليب (و) أما المنتسبون إليه بالأم
ف‍ (فيه خلاف للأصحاب) وقد حققنا في كتاب الخمس عدم دخولهم في مثل هذه الأسماء
التي هي نحو أسماء القبائل، وإن قلنا بكونهم أبناء وأولادا حقيقة، فضلا عن الذرية
ونحوهما، فلا يجري عليهم الحكم الذي عنوانه ذلك كالخمس، بخلاف الحكم الذي
عنوانه الثاني كالنكاح، ولعل المرتضى ومن تابعه اشتبه في حكم العنوانين، لا في
الاندراج في الموضوعين فلاحظ وتأمل جيدا والله العالم.
(ولو وقف على الجيران رجع إلى العرف) كما في القواعد والنافع وكشف الرموز و
التذكرة والتحرير والمختلف والإيضاح وجامع المقاصد والروض والمسالك والكفاية على ما
حكي عن بعضها، وقواه بعض، واستحسنه آخر، وحكاه في جامع المقاصد عن جماعة،
لأنه المدار في الألفاظ الصادرة من أهله (وقيل: لمن يلي داره إلى أربعين ذراعا)
كل ذراع أربعة وعشرون إصبعا من كل جانب (وهو حسن) بل في غير كتاب نسبته إلى
الأكثر، بل في المسالك، وغيرها نسبته إلى المشهور، بل في محكي الغنية وظاهر التنقيح
الاجماع عليه، بل قيل إنه يلوح أو يظهر من السرائر بل عن موضعين من الخلاف نسبته
إلى روايات أصحابنا واجماعهم، بل قد أفتى به من لا يعمل إلا بالقطعيات كالتقي وابني
زهرة وإدريس، وذكره من عادته التعبير بمتون الأخبار كالمقنعة والنهاية وغيرهما من
كتب القدماء، ولعله غير مناف للأول ضرورة أنه تحديد للعرف بذلك، كما هي عادة الشارع
في مثل ذلك، كالوجه والمسافة ونحوهما مما يشك في بعض الأفراد منها، بعدم معرفة
التحقيق في العرف على وجه يعلم الداخل فيه، والخارج عنه فيضبطه الشارع الذي لا
يخفى عليه الشئ بما هو حد له في الواقع، وليس ذلك منه معنى جديد، ولا ادخال لما
41

هو معلوم الخروج في العرف وبالعكس.
(و) من هنا كان ما (قيل) وإن لم نعرف قائله كما اعترف به في المسالك من
تحديده بما يلي داره (إلى أربعين دارا من كل جانب) صغيرة كانت أو كبيرة ضعيفا
جدا، بل في المتن (وهو مطرح) وفي غيره شاذ وفي ثالث ليس بشئ، كل ذلك للقطع
بمخالفة العرف له وجعله عرفا شرعيا غير مجد في الألفاظ المتداولة بين أهل العرف
في غيره كما هو المفروض.
وإن رواه جميل بن دراج في الحسن أو الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) " حد
الجواز أربعون دارا من كل جانب، من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله ".
وعمرو بن عكرمة عنه (عليه السلام) أيضا (2) " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كل أربعين دارا جيران من
بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ".
وعمرو بن عكرمة عنه (عليه السلام) أيضا في حديث طويل في آخره (3) " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أمر عليا وسلمان وأبا ذر أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنه لا ايمان لمن لم يأمن
جاره بوائقه فنادوا بها ثلاثة، ثم أومأ بيده إلى أربعين دارا من بين يديه ومن خلفه و
عن يمينه وعن شماله ".
لكنها محمولة على التقية من العامة الذين حكموا بذلك (4) للمرسل عن عايشة
" أن النبي سئل عن حد الجواز، فقال: إلى أربعين دارا " أو على إرادة جوار الشرف
كساكني النجف وكربلا وغيرهما بعنوان المجاورة لقبورهم، أو غير ذلك، فمن الغريب
ميل ثاني الشهيدين إلى هذا القول مع شدة مخالفته للقواعد الشرعية، ضرورة اقتضائه
الوقف أو الوصية لمن يعلم بعدم إرادة الواقف والموصى إياه كما هو واضح.
ومن ذلك يعلم أن المدار في التحديد المزبور على نحو ذلك أيضا، فلو علم
بدخول من خرج عن التحديد في إرادة الواقف حكم بدخوله، وإنما فائدة التحديد

(1) الوسائل الباب - 90 - من أبواب أحكام العشرة الحديث 1 - 2.
(2) الوسائل الباب - 90 - من أبواب أحكام العشرة الحديث 1 - 2.
(3) الوسائل الباب - 86 - من أبواب أحكام العشرة الحديث 1.
(4) المغني لابن قدامة ج 6 ص 556 طبع دار الكتب العربية بيروت سنة 1390.
42

عند الاشتباه.
ولو انتهى عدد الأذرع إلى باب الدار خاصة فعن ابن البراج الدخول، وقواه
في الدروس، بل لعله ظاهر محكي المقنعة والنهاية أيضا وكأنه مبني على دخول الغاية
في المغيا، ولعله هنا كذلك: أما إذا انتهى إلى أثناء دار فلا اشكال في الدخول عرفا.
لكن في المسالك إن انتهى العدد إلى آخر دار أو بين دارين فالحد متميز، وإن
انتهى أثناء دار هل يدخل في الحد أم لا يبني على دخول الغاية في المغيا مطلقا أم لا
أم بالتفصيل بالمفصل المحسوس، فلا يدخل وعدمه فيدخل، والأقوى تفريعا عليه حينئذ
الدخول، ولو وصل المقدار إلى باب داره خاصة، بني على ما ذكر وأولى بعدم الدخول
هنا، وصرح ابن البراج بدخوله في عبارة ردية وقواه في الدروس، ولا يخفى عليك ما فيه
ضرورة كون المدار في التحديد دخول من وصل إليه بعض الحد إنما الاشكال خاصة فيما
إذا كانت باب الدار مثلا على رأس الذراع الأخير، وهو المبني على ذلك كما هو واضح
بأدنى تأمل. ولا يعتبر في الجار عرفا الملكية، فيدخل حينئذ المستأجر والمستعير ونحوهما
بل والغاصب في وجه قوي، وإن كان المحكي عن التحرير عدم استحقاقه، بل حكى عنه
التوقف في المستأجر والمستعير، ولو باع صاحب الدار داره فسكنها المشتري دخل هو
وخرج البايع، ولو عاد عاد الاستحقاق، وكذا المستعير والمستأجر وغيرهما ضرورة دوران
الحكم على التلبس بالوصف وجودا وعدما.
نعم لو غاب غيبة بقصد الرجوع مع بقاء عياله وعدمه لم يخرج بذلك عن الوصف،
وإن حصل الوقف حالها إلا مع طول المدة المقتضية ذلك عرفا، ولا عبرة بتقارب الدور
مع عدم السكنى حتى على الثالث، وإن احتمله في المسالك، لكنه في غاية الضعف،
ضرورة مدخلية السكنى في صدق اسم الجار، لا ملك الدار ونحوه، لكن يكفي فيها صدقها
عرفا، فلو كان له داران يسكنهما صدق كونه جار الكل من يليهما مع تردده لكل منهما أما
إذا كانت سكناه فيهما على التناوب ولو بحسب الفصول، ففي المسالك، استحق زمن
السكنى.
والظاهر أن القسمة على عدد الرؤس على الثلاثة، لصدق الجيران عرفا على الجميع
43

وإن دخل بعضهم في العيال في وجه قوي.
نعم يخرج العبد لعدم قابليته للملك، إن كان المراد الملكية، لكن في المسالك
لو اعتبرنا عدد الدور ففي قسمته على رؤس أهلها أو على عدد الدور وجهان، وعلى الثاني
يقسم على الدور أولا، ثم يقسم حصة كل دار على رؤس أهلها، وفيه ما لا يخفى من أنه
لا اقتضاء في التحديد بالدور واعتبارها نفسها في الجوار لا ساكنيها، بل المراد هم، وإن
كان التحديد بها كما هو واضح، الله العالم.
(ولو وقف على مصلحة) كمسجد وقنطرة ونحوهما (فبطل رسمها) وأثرها
بالمرة (صرف في وجوه البر) كما هو المشهور على ما اعترف به غير واحد، بل لم أقف على
راد له من الأصحاب عدا المصنف في النافع. حيث نسبه إلى قول، مشعرا بتردده فيه،
وقد نسبه في محكي المهذب إلى الندرة، وغيره إلى الضعف، بل في محكي السرائر
نفى الخلاف فيه، بل قيل ظاهرة بين المسلمين، وكان الوجه فيه بعد معلومية إرادة
الواقف الدوام، ولو زعم دوام تلك المصلحة، بل عن جامع الشرايع وجامع المقاصد
التصريح بكون الفرض مما تقتضي العادة بدوامها إلا أنه اتفق بطلان رسمها على خلاف
العادة استصحاب صحته، واطلاق الأدلة التي ليس فيها ما يقتضي البطلان بتعذر
المصرف المعين، إذ هو ليس مقتضيا لانتفاء الموقوف عليه الذي هو في الفرض المسلمون.
كما أنه ليس فيها ما يقتضي الانتقال إلى ما يشابه تلك المصلحة، فليس حينئذ إلا الصرف
في وجوه البر التي هي الأصل في كل مال خرج عن ملك مالكه لمصرف خاص تعذر، كما
ستعرف في نظائر المقام.
ومن ذلك يعرف ما في المسالك وغيرها حتى فيما ذكره من التحقيق الذي قد اعترف
بتوجه كلام الأصحاب فيما لو كان الوقف في مصلحة ما شأنه الدوام، لخروج الملك عن
الواقف بالوقف فعوده يحتاج إلى دليل، وهو منتف، وصرفه في وجوه البراء نسب بمراعاة
غرضه الأصلي إن لم يجز صرفه فيما هو أعم منه، وإنما توقف في الوقف على مصلحة مما تنقرض
غالبا كشجر التين والعنب أو مجهولة الحال كالوقف على مسجد في قرية صغيرة أو على
مدرسة كذلك، بل جزم في الأول بأنه كمنقطع الآخر، بل هو بعض أفراده، فيرجع بعد
44

انقضائه إلى الواقف أو ورثته على الخلاف حيث لا يجعله بعده لمصلحة أخرى تقتضي
التأبيد وأما الثاني فقد استشكل فيه من أصالة البقاء فيكون كالمؤبد، ومن الشك في
حصول شرط انتقال الملك عن مالكه مطلقا الذي هو التأبيد فيحصل الشك في المشروط
فلا يحكم إلا بالمتيقن منه، وهو خروجه عن ملكه مدة تلك المصلحة، ويبقى الباقي على
أصالة البقاء على ملك مالكه.
ولا يخفى عليك ما فيه بعد ما عرفت من ظهور كلمة الأصحاب في إرادة الوقف المؤبد
لا ما يشمل منقطع الآخر الذي هو بناء على مشروعيته ما يراد انقطاعه من أول صدوره وكون
ذي المصلحة مما ينقرض غالبا لا ينافي دوام الوقف بعد عدم انحصاره فيها، وإنما هو
مصرف فيها حيث يكون، ولو بأن يعود بعد الخراب، وإلا فهو وقف على المسلمين، ويراد
حينئذ بوجوه البر ذلك، أو أن المراد تلك الجهة، ولكن قد تعذرت، وتعذرها لا يقتضي
البطلان كما عرفت وأن الصرف في وجوه البر للأصل الذي قد ذكرناه في كل مال قد تعذر
مصرفه، كما يومي إليه في الجملة ما في كثير من النصوص الواردة في نحو الوصية والنذر
المعين الذي له مصارف مخصوصة وقد تعذر
كالخبر (1) " عن انسان أوصى بوصية فلم يحفظ الوصي إلا بابا واحدا منها كيف يصنع
بالباقي، فوقع (عليه السلام) الأبواب الباقية اجعلها في وجوه البر ".
ونحوه خبر طويل (2) يتضمن " أنه لو أوصى رجل بتركته إلى رجل وأمره أن يحج بها
عنه، قال الوصي: فنظرت فإذا شئ يسير لا يكفي للحج، فسألت الفقهاء من أهل الكوفة
فقالوا تصدق به عنه، فتصدق به، ثم لقي بعد ذلك أبا عبد الله (عليه السلام) فسأله وأخبره بما
فعل، فقال: إن كان لا يبلغ أن يحج به من مكة فليس عليك ضمان، وإن كان يبلغ ما
يحج به، فأنت ضامن ".
بل قد يؤيده في الجملة، ما في جملة وافرة من الأخبار (3) مما يدل أن ما أوصى به

(1) الوسائل الباب - 61 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(2) الوسائل الباب - 87 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(3) الوسائل الباب - 60 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
45

للكعبة أو كان هديا أو نذرا يباع إن كان جارية ونحوها، وإن كان دراهم يصرف في
المنقطعين من زوارها، على أن القسم الأول الذي قد اعترف بصحة كلام الأصحاب
فيه مبني على ذلك، ضرورة عدم مدخلية زعمه لدوام المصلحة في صحة الوقف بعد فرض
بيان فساده، ولولا تفاق خلاف العادة، إذ لو لم يكن مبنى الصحة ما ذكرناه توجه بطلانه
لعدم الموقوف عليه حينئذ ولو في الفرض النادر. هذا.
وربما احتمل وجوب الصرف في الفرض إلى ما شابه تلك المصلحة فيصرف وقف
المسجد في مسجد آخر، والمدرسة إلى مثلها، اقتصارا على المتيقن، لاحتمال إرادة
المثالية فيما ذكره مصرفا في الوقف المراد تأبيده أو لفحوى ما دل على صرف آلات المسجد
بعد اندراسه أو خرابه في مسجد آخر، على ملاحظة الشارع الأقرب إلى نظر الواقف.
ولكن قد عرفت اطلاق فتوى الأصحاب الذي مبناه ما قلناه، من استواء القرب كلها
في عدم تناول عقد الوقف لها، وعدم قصده إليها بخصوصها، فلا أولوية لبعضها على
بعض بالنسبة إلى ذلك، ومجرد المشابهة لا دخل لها في تعلقه بها، فيبطل القيد، و
يبقى أصل الوقف من حيث القربة، فيصرف في كل فرد منها، ولعل ذلك منشأ ما ذكرناه
من الأصل، ونوقش بأن تحري الأقرب فالأقرب ليس من حيث المشابهة، بل من حيث
دخوله في نوع المصلحة الخاصة، وإن تميزت عنه بالخصوصية، فإذا أزالت بقي أفراد
النوع الآخر الممكنة داخلة، فكان الوقف تضمن أشياء ثلاثة، القربة والمسجدية مثلا، و
خصوصية المسجد، فإذا أزال الأخير بقي الأول، لقاعدة " الميسور " و " ما لا يدرك ".
بل في المسالك ولعل هذا أقرب، وتبعه في الرياض، إلا أنه أشكله في الأول بأنه
آت في المصلحة التي تعلم انقطاعها أيضا، مع أن حكم منقطع الآخر متناول لها، إلا أن
يخص هذا بما لا يتعلق بمصالح المسلمين، مثل الوقف على أولاده من غير أن يسوقه في
باقي البطون ونحو ذلك، ثم قال (1): (وليس بذلك، البعيد) وللتوقف مجال، وكذا في
الرياض، فإنه بعد أن ذكر مثل ذلك قال: هذا كله في غير معلومة الانقطاع، أما فيها ففي
انسحاب الحكم أو لحاقها بمنقطع الآخر كما يظهر من بعض الأجلة وجهان، من اطلاق

(1) هكذا في النسخ لكن الظاهر " وليس ذلك ببعيد ".
46

الفتاوى هنا وثمة، والاحتياط لا يترك في المقام.
وفيه ما لا يخفى بعد الإحاطة بجميع ما ذكرناه، بل منه يعلم عدم تحريرهم موضوع
البحث عند الأصحاب، وأنه الوقف المؤبد الذي ذكر فيه الصرف على مصلحة خاصة وقد
تعذرت، وأنه لا محل هنا لقاعدة الميسور، بعد ما سمعت من الأصل ومعلومية عدم قصد
الواقف ذلك، إذ لم يصدر منه إلا ذكر المصرف الخاص الذي يرتفع بارتفاع الخصوصية
كما هو واضح.
(ولو وقف على وجوه البر) الذي هو كما قيل: اسم جامع للخير كله (وأطلق صرف
في الفقراء والمساكين وكل مصلحة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى) بلا خلاف محقق
أجده، وإن تعلق بعض وجوهه في الأغنياء أيضا بعد أن يكون من الخير المأمور يفعله
شرعا ولا يجب تحري الأكمل فالأكمل بعد اطلاق العنوان كما هو واضح، وما عن الوسيلة و
الجامع من أن سبل البر الجهاد والحج والعمرة: ومصالح المسلمين، ومعونة الفقراء و
الضعفاء، لا خلاف فيه لما ذكرناه، مع أن العنوان فيه سبيل البر لا وجوهه، وإن كانا
هما بمعنى.
(ولو وقف علي بني تميم) ونحوهم مما هو غير محصور (صح) ولو بني آدم (ويصرف
إلى من يوجد منهم) ولا يجب عليه تتبع غيرهم، بل لا يجب استيعاب الموجودين على
الأصح كما ستعرفه في المسألة العاشرة في اللواحق.
(وقيل:) والقائل ابن حمزة منا والشافعي من غيرنا (لا يصح لأنهم مجهولون)
فيعتذر المصرف (والأول هو المذهب) بل حكي الاجماع عليه غير واحد صريحا وظاهر أو
اشعارا، مضافا إلى اطلاق الأدلة وخصوص خبر النوفلي (1) " كتبت إلى أبي جعفر الثاني
(عليه السلام) أسأله عن أرض وقفها جدي على المحتاجين من ولد فلان بن فلان، وهم
كثير متفرقون في البلاد فأجاب (عليه السلام) ذكرت الأرض التي وقفها جدك على الفقراء من ولد
فلان بن فلان، وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف، وليس لك أن تتبع من كان غائبا "
ويمكن حمل كلام المخالف على ما إذا علم إرادة الاستيعاب المفروض تعذره فيه، لا ما إذا

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب الوقوف والصدقات الحديث - 1.
47

علم العدم أو أطلق وحينئذ يكون خارجا عما نحن فيه.
وعلى كل حال ففي وجوب استيعاب من حضر على السوية أو التفاوت أو يكفي الصرف
إلى أحدهم كالزكاة أو إلى الثلاثة التي هي أقل الجمع مع فرض كون العنوان جمعا بحث
يأتي تحقيقه عند تعرض المصنف له في المسألة العاشرة والله العالم.
(ولو وقف على الذمي جاز) كما عرفت البحث فيه مفصلا (لأن الوقف تمليك، فهو
كإباحة المنفعة) التي لا اشكال في جوازها له، ولكل من لم تنه عن موادته من الفرقة الباطلة
(وقيل: لا يصح، لأنه يشترط فيه نية القربة) وهي مفقودة فيه وفي كل فرقة غير محقة، وفي
أصل الاشتراط منع قدمناه، وعلى تسليمه نمنع فقده بعد فرض مشروعيته لشمول العمومات
له، فإنه نفسه حينئذ قربة.
وقيل لا يصح (إلا على إحدى الأبوين) المأمور بمعاشرتهما بالمعروف، وقيل يصح
على ذوي القرابة خاصة.
(والأول أشبه) بأصول المذهب وقواعده، كما عرفت الكلام فيه مفصلا، وكلام
المصنف صريح أو كالصريح هنا في عدم اشتراط نية القربة فيه والله العالم.
(وكذا يصح على المرتد) كما في القواعد والمسالك، لكن قيداه بما إذا كان عن علة
وزاد في الخير الفطري إذا كان امرأة، ولم أجد شيئا من ذلك لغيرهم، بل الذي عثرت
عليه من محكي التذكرة والإيضاح وجامع المقاصد على الجواز في الملي، فضلا عن الفطري
الذي قد صرح بعدم جواز الوقف عليه الشهيدان أيضا، وغيرهم، بل لم نعرف فيه خلافا،
عدا ما يحكى عن التذكرة أنه حكي فيه قولا ولم نعرفه بل ولا وجهه، بناء على عدم قبول توبته،
وعدم قابليته للتملك، كم صرح به في المسالك، بل وعلى تقدير قبول توبته، فلا أقل من أن
يكون حينئذ مساويا للملى الذي قد عرفت التصريح أيضا بعدم جواز الوقف عليه، ولعل الوجه
فيه ما سمعته في الحربي، ضرورة عدم اقراره على دينه الذي يرجع إليه وقبول توبته لا
يخرجه عن الحربي الذي نهينا عن موادته، وإن كان مقبول التوبة فيجري حينئذ ما يجري
فيه، وقد عرفت عدم جواز الوقف عليه، وإن قال المصنف هنا: (وفي) الوقف على (الحربي
تردد، أشبهه المنع) لكن قد عرفت الكلام فيه مفصلا، والله العالم.
48

(ولو وقف ولم يذكر المصرف بطل الوقف) على المشهور بل لم أقف فيه على مخالف
إلا ابن الجنيد كما اعترف به في المسالك بل قد سمعت فيما سبق اجماعي الغنية السرائر على
كونه معروفا متميزا، بل لعل كون الموقوف عليه من أركان العقد من ضروريات الفقه، بل
لعل ابن الجنيد غير مخالف في ذلك، فإن المحكي عنه لو قال: صدقة لله ولم يذكر من
يتصدق بها عليه جاز ذلك وكانت في أهل الصدقات التي سماهم الله تعالى وهو ليس خلافا
في أصل اعتبار الموقوف عليه، بل هو دعوى انصراف ذلك إلى أهل الصدقات، وليس بأبعد
من انصراف الوقف على مصلحة المسلمين باعتبار عودها إليهم.
ولعله لذا مال إليه في المختلف، واقتصر في الدروس على نقل القولين مشعرا بالتردد
بل ربما يؤيده معلومية صحة الوصية بالثلث، وإن لم يعين مصرفه، ودعوى - عدم جواز
ذلك أو اختصاص الوصية به دون الوقف مع أن كلا منهما عقد كما ترى، وكذا نذر الصدقة
بالمال، وحينئذ فلا وجه لرده بأن الوقف يقتضي التمليك المستلزم لذات تقوم به، كما
في كل عرض بالنسبة إلى جوهر، بل لا يخلو قوله من قوة.
نعم لو فرض ملاحظة الواقف عدم موقوف عليه اتجه البطلان فيه، بل وفي المصالح
أيضا ونحوها، وأما إذا كان يكفي في ملاحظته ما يرجع إليه فهو مستحق في المقام فتأمل
جيدا.
(وكذا لو وقف على غير معين كأن يقول: على أحد هذين، أو على أحد المشهدين
أو الفريقين فالكل باطل) بلا خلاف أجده، بل في المحكي من اجماعي الغنية والسرائر
اعتبار كونه معروفا متميزا مضافا إلى ما عرفت، من اقتضاء الوقف التمليك الذي لا بد له من
مالك معين، ولو في ضمن عام أو مطلق، ولا يعقل تمليك ما ليس بمعين.
ولما في المسالك من أن الوقف حكم شرعي، فلا بد له من محل معين يقوم به، كما
يفتقر مطلق العرض إلى المحل الجوهري، وأحد الأمرين كلي لا وجود له خارجا، وإن
كان كل واحد منهما موجودا خارجا، ومقتضاه اختصاص البطلان بالمبهم الذي لا يتقوم في
فرد في الخارج، أما لو كان الموقوف عليه أحدهما الصادق في كل منهما فلا بأس به، ولعله
لقابليته حينئذ التمليك كغيره من المفاهيم الكلية المالكة والمملوكة، ولا دليل على اعتبار
49

العلم في الموقوف عليه على وجه تقدح فيه مثل هذه الجهالة.
ولا ينافي ذلك ما في القواعد من الحكم بالبطلان في رجل غير معين أو امرأة كذلك،
بناء على إرادته المبهم الذي لا يتحقق في فرد، ولا يعقل تمليكه بل ولا تملكه، لا في
المقام ولا في الوصية، كما لا ينافيه اعتبار المعرفة والتمييز في معقد الاجماعين، ضرورة الاكتفاء فيهما بالاطلاق والعموم، ولا يتوهم انحلال ما ذكرناه إلى الوقف عليهما ضرورة
اقتضاء ذلك التنصيف بينهما، وجواز تناول كل منهما من حيث أنه مصداق لأحدهما
لا يقتضي الوقف عليهما من حيث الخصوصية كما هو واضح.
(وإذا وقف على أولاده، أو إخوته أو ذوي قرابته، اقتضى الاطلاق اشتراك
الذكور والإناث والأقرب والأبعد) بعد فرض التساوي في صدق القرابة عرفا (و
التساوي في القسمة، إلا أن يشترط ترتيبا) فيهم (أو اختصاصا) لبعضهم على بعض
(أو تفضيلا) له على آخر، بزيادة النصيب ولو للأنثى أو الأبعد، بلا خلاف معتد به
أجد في شئ من ذلك، بل ولا اشكال ضرورة اقتضاء الاطلاق ذلك كاقتضاء قاعدة
" المؤمنون " " والوقوف على ما اشترطه "، وما عن الإسكافي من أن للذكر مثل حظ الأنثيين
في الوقف على الأولاد والذرية في غير محله، إلا أن يريد الوقف عليهم على حسب الإرث
لا مع الاطلاق الظاهر في التساوي كما هو واضح.
نعم الظاهر خروج الإناث مع فرض كون الصيغة تخص الذكور، إلا مع القرينة،
وما في المسالك وغيرها - من أن الإناث يدخلن تبعا في اللفظ المختص في مثل هذه
الاطلاقات، كما يدخلن في الأوامر الشرعية المختصة بالذكور اجماعا - كما ترى،
ضرورة الفرق بينهما بمعلومية دليل الاشتراك فيها دون المقام إلا مع فرض القرينة
على إرادة الجميع كما هو واضح.
(ولو وقف على أخواله وأعمامه تساووا جميعا) لاشتراكهم في أصل الوقف
الظاهر في التسوية، بلا خلاف أجده فيه، وإن حكى عن ابن الجنيد، لكن لم أتحققه
وإنما المحكي عنه أنه روى عن الباقر (عليه السلام) (1) " إذا أوصى بشئ معين لأعمامه وأخواله

(1) الوسائل الباب - 42 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
50

كان لأعمامه الثلثان، ولأخواله الثلث " والرواية ليست فتوى، والوصية غير الوقف، وعلى
تقديره فهو واضح الضعف.
(وإذا وقف على أقرب الناس إليه) ففي القواعد وغيرها بل المشهور (هم
الأبوان والولد، وإن سفلوا، فلا يكون لأحد من ذوي القربة شئ، ما لم يعدم المذكورون
ثم الأجداد والأخوة وإن نزلوا، ثم الأعمام والأخوال على ترتيب الإرث، لكن يتساوون
في الاستحقاق، إلا أن يعين التفضيل) لتساويهم في سبب الاستحقاق، لكن في محكي
المبسوط أن المتقرب بالأبوين من الإخوة، الأقرب مطلقا، لأن الانفراد بقرابة يجري
مجرى التقدم بدرجة
وقواه في محكي المختلف، بل اختاره في محكي التحرير بل زاد الأعمام والأخوال
فجعل المتقرب بالأبوين منهم مقدما على غيره وإن كان متقربا بالأم الذي عن بعضهم
استبعاد دخوله، وخروج المتقرب بالأب. لكن في الجميع أن مبنى كلام الأصحاب تعليق
قصد الواقف على مفهوم الأقرب في الواقع الذي كشف عنه الشارع بما ذكرناه في الميراث
الذي سببه آية (1) " وأولوا الأرحام " لأن الناس لا يعلمون أيهم أقرب إليهم.
نعم لو كان قصد الواقف على ما هو أقرب في ظاهر ما عندنا من العرف اختلف مع
الميراث في كثير من الأفراد، لا في خصوص ما ذكروه كما هو واضح.
(القسم الرابع في شرائط الوقف)
(وهي أربعة: الدوام، والتنجيز، والاقباض، واخراجه عن نفسه) بلا خلاف أجده
في الأول بمعنى عدم توقيته بمدة كسنة ونحوها، بل الاجماع محصله ومحكيه - في
الغنية وعن الخلاف والسرائر - عليه، وبذلك يخص عموم " أوفوا بالعقود " (2) بناء على أنه
منها، بل وعمومات الوقف أيضا إن لم نقل باعتبار ذلك في مفهومه كما هو ظاهر تعبيره
عنه بالشرطية، وإلا فلا شمول فيها له حينئذ، وحينئذ (فلو) وقفه و (قرنه بمدة بطل)
قطعا مع فرض إرادته وقفا، أما إذا لم يعلم فهل يكون التوقيت قرينة عل إرادته حبسا،

(1) سورة الأنفال الآية - 75.
(2) سورة المائدة الآية - 1.
51

كما صار التأبيد قرينة على إرادة الوقف لو كان اللفظ حبسا ولولا صالة الصحة، صرح
المصنف والشهيدان في الدروس والمسالك والروضة بالأول منهما، وفي جامع المقاصد
فيه قوة، لكن قد يناقش بعدم صلاحية ذلك صارفا عن المعنى الحقيقي، ولو بملاحظة
أصالة الصحة التي لا مدخلية لها في الدلالة على المقصود الشامل للصحيح والفاسد
بعد ظهور اللفظ في الحقيقة المقتضية للفساد.
نعم لو قيل: بصيرورته حبسا وأن قصد معنى الوقف بدعوى أنه قدر مشترك بينهما
كما عساه يظهر من بعضهم، وأن تشخيص كل منهما يحصل بذلك ونحوه كان متجها إلا أنه كما ترى، ضرورة تباينهما مفهوما حتى بالنسبة إلى تمليك العين وإن اشتركا في
شئ في الجملة نحو اشتراك البيع والصلح مثلا في نقل العين على أنك قد عرفت فيما
مضى أن التمييز على هذا الفرض منحصر في القصد حينئذ فمع فرض عدمه يبطلان معا كما
هو واضح.
ومن هنا قال في المسالك تبعا لجامع المقاصد، بعد أن ذكر التعليل المزبور
إنما يتم مع قصد الحبس فلو قصد الوقف الحقيقي وجب القطع بالبطلان، وإن ناقشه
في الرياض بأنه كذلك بناء على المختار من اشتراط الدوام، وأما على مختاره من التردد
في اشتراطه، فلا وجه للقطع به، ولعل مراده على تقدير اشتراطه، ولكن يدفعها أن
تردده فيه بالنسبة إلى المسألة الآتية، لا بالنسبة إلى التوقيت الذي لم نعرف قولا
بصحته، بل ولا احتمالا.
ومن ذلك يظهر لك أن ما أتعب به نفسه - حتى أنه ذكر أدلة المسألة الآتية
وما فيها من الشهرة وغيرها في هذه المسألة - في غير محله واشتباه، وكان الذي أوقعه
في ذلك ما في الكفاية من نسبة القول باعتبار الدوام إلى جماعة، وفرع عليه الاقتران
بمدة، إلا أنه لم يذكر فيه أيضا قولا بالصحة وقفا بخلاف المسألة الآتية، فإنه هو قد اختار
الصحة وقفا.
كما أنه غره في الاستدلال في المقام على الصحة حبسا بالصحيحين فقال:
الأظهر الاستدلال عليه بصحيح ابن مهزيار (1) " قلت له: روى بعض مواليك عن آبائك

(1) الوسائل الباب - 7 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 1 - 2.
52

(عليهم السلام) أن كل وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة، وكل وقف إلى غير وقت
جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة، وأنت أعلم بقول آبائك (عليهم السلام)، فكتب (عليه السلام)
هو كذلك عندي ".
وصحيح ابن الصفار (1) " كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله عن الوقف الذي يصح
كيف هو، فقد روى أن الوقف إذا كان غير مؤقت فهو باطل مردود على الورثة، وإذا كان
موقتا فهو صحيح ممضى، وقال قوم: إن الموقت هو الذي يذكر فيه أنه وقف على فلان و
عقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها،
قال: وقال آخرون: هو مؤقت إذا ذكر أنه لفلان وعقبه ما بقوا ولم يذكر في آخره للفقراء و
المساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والذي غير مؤقت أن يقول: هذا وقف ولم
يذكر أحدا، فما الذي يصح من ذلك، ما الذي يبطل؟ فوقع (عليه السلام): الوقوف بحسب ما
يوقفها إن شاء الله تعالى " ثم قال: وهما وإن دلا ظاهرا على الصحة وقفا إلا أن حملهما
على الصحة حبسا متعين جدا، جمعا بينهما وبين ما دل على كون التأبيد شرطا ورجوع
مثل هذا الوقف بعد موت الموقوف عليه إرثا فإنه من لوازم الحبس كما يأتي انشاء الله
تعالى.
وفيه أنه لا وجه لما ذكره في الصحيح الثاني المشتمل على تفسير الموقت فيه بما
سمعت، بل هو شاهد على إرادته أيضا من الصحيح الأول كما ذكره شيخ الطائفة خصوصا
بملاحظة كونه المعروف فيما بينهم من السؤال والنزاع فيه، لا المقرون بمدة الذي لم يعرف
قديما وحديثا قول بصحته وقفا، ولا أقل من احتمال ذلك فيها على وجه يرتفع ظهورها،
فكيف يصح الاستدلال بها.
ومنه يعلم كون المراد من معاقد الاجماعات على اعتبار الدوام عدم التوقيت
بمدة ما هو صريح ابن زهرة وغيره، وإلا كان ما تسمعه منهم من الخلاف في صحته وقفا
لو وقف على من ينقرض غالبا متدافع مع ذلك، ضرورة منافاته للاجماع على اعتبار الدوام
المنافي لذلك.

(1) الوسائل الباب - 7 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 1 - 2.
53

ودعوى كون النزاع في صحته حبسا وعدمها لا وقفا لا يخفى بطلانها على من له
أدنى ممارسة ودرية كدعوى الاستدلال بعموم الجواب في الثانية على المطلوب،
ضرورة كونه كما ستعرف دالا على الصحة منقطعا لا الحبس، وبذلك كله ظهر لك الخلط
في كثير من كلمات المتأخرين في تحرير موضوع المسألة الذي قد عرفت أنه لا كلام في
بطلانه وقفا في الاقتران بمدة، وإنما الكلام في صحته حبسا بمعنى أن ذلك قرينة على
قصده الحبس أو لا، وقد سمعت الحال فيه.
(وكذا) قد سمعت غير مرة اعتبار التنجيز في كل سبب شرعي إلا ما خرج وأنه
(يبطل لو علق) شيئا (بصفة متوقعة) الحصول فيما يأتي، بل أو متيقنه بلا خلاف ولا
اشكال كما تسمع تمام الكلام فيه انشاء الله تعالى.
(وكذا) ظهر لك الحال في الجملة (لو جعله) وقفا (لمن ينقرض غالبا، كأن
يقفه على زيد ويقتصره أو يسوقه إلى بطون ينقرضون غالبا، أو يطلقه في عقبه ولا يذكر
ما يصنع به بعد الانقراض) وإن هذه مسألة ثانية لا تتفرع على اعتبار الدوام بالمعنى
المزبور (و) تحقيق البحث فيها أنه (لو فعل ذلك قيل: يبطل الوقف) كما عن المبسوط
ارساله أيضا ولكن لم أتحقق قائله.
نعم في القواعد ومحكي الوسيلة وجامع الشرايع والإرشاد والمختلف والتنقيح و
المقتصر وإيضاح النافع وجامع المقاصد والمسالك والروضة، وكذا الروض التصريح بكونه
حبسا، وهو يوهم في بادي النظر ذلك لكن من المحتمل إرادتهم الحبس حكما كما
يقضي بذلك بعض كلماتهم، بل هو صريح المختلف والمسالك وفي جامع المقاصد بعد
أن حكى عن التذكرة عدم نقل العين منه إلى الموقوف عليه، معللا له بأن ذلك في
المؤبد منه قال: " فعلى هذا بعض أقسام الوقف كان حبسا، وحينئذ فالنزاع يرجع إلى
التسمية فقط " انتهى.
(وقيل: يجب اجراؤه حتى ينقرض المسمون) بمعنى أنه يصح وقفا كما هو صريح
جماعة، بل في جامع المقاصد نسبته إلى الشيخين والمختلف والتذكرة وأكثر الأصحاب
بل قد عرفت احتمال كونه مذهب الجميع بناء على إرادة المساواة في الحكم من التصريح
54

بكونه حبسا.
وبذلك يظهر لك وجه نقل الأصحاب في المسألة، ففي المختلف ومحكي الإيضاح
نسبة صحته وقفا إلى الشيخين وابن الجنيد وسلار وابن البراج وابن إدريس، وقال
ابن حمزة " يكون حبسا بلفظ الوقف "، وعن المهذب البارع مثل ذلك، وفي
التنقيح نسبته إلى النافع والشيخ وابني حمزة وإدريس والعلامة وفي محكي المقتصر
أنه يكون سكنى أو عمري أو حبسا بلفظ الوقف ونسبه إلى الشيخين وتلميذهما وأبي علي
وابن إدريس والمحقق في النافع وقد سمعت ما في جامع المقاصد، ولا تلتئم كلماتهم إلا
على ما ذكرنا مؤيدا بأن المفهوم من أدلتهم وعنوانهم وغير ذلك كون البحث في صحة
الوقف المنقطع آخره وبطلانه، ومن المعلوم أن المراد مع قصد الوقفية، وهذا لا يمكن
القول بصحته حبسا، ضرورة كون الحبس عقدا آخر يحتاج إلى قصد مستقل وهو مباين
لقصد الوقف المقتضي لنقل العين للموقوف عليه وخروجها عن الواقف بخلاف الحبس
فلا يتصور حينئذ القول به في مفروض المسألة إلا على إرادة المساواة له في الحكم كما هو
واضح بأدنى تأمل.
نعم القول بالحبس في مسألة أخرى وهي أنه بعد البناء على بطلان الوقف المنقطع
لو عبر بلفظ وقفت وجعل متعلقها منقرضا، فهل يكون ذلك قرينة على قصد الحبس دون
الوقف نحو ما سمعته في الاقتران بمدة، وهذه مسألة لفظية لها طريق آخر من الاستدلال
لا نحو هذا المذكور في كلماتهم، وقد عرفت تحقيق الحال في نظيرها، وهي الاقتران بمدة.
ومن ذلك يظهر لك ما في جامع المقاصد والمسالك من ذكر أقوال ثلاثة، أحدها
الحبس في مفروض مسألة المتن وغيره من كتب الأصحاب التي هي صحة الوقف المنقطع
وعدمها، وأعجب من ذلك ما أطنب في الرياض من أن المسألة ذات قولين: أحدهما
البطلان مطلقا، والآخر الصحة والمراد الصحة حبسا لا وقفا، واستشهد على ذلك بتصريح
جماعة ممن قال بالصحة بانتقال العين الموقوفة بعد الانقراض إلى الواقف وورثته، و
هذا من لوازم الحبس فتكون كلمة القائلين بالصحة متفقة على إرادة الصحة حبسا لا
وقفا، وهو من غرائب الكلام، وما كنا لنؤثر وقوع ذلك منه خصوصا بعد قول جماعة منهم
55

بالانتقال إلى ورثة الموقوف عليه.
وقول آخر أنه يصرف في وجوه البر، وتصريح غير واحد بأن الأكثر على صحته وقفا،
بل التتبع يشهد به، بل قد عرفت عدم امكان تصور القول بصحة ذلك حبسا، وما ذكره
من اللازم المزبور كاد يكون صريحا بخلافه، ضرورة ظهور كلام بعض وصريح آخر بعود
ذلك إلى الواقف بعد الانتقال إلى الموقوف عليه، وهذا لا يكون في الحبس الذي لم
تنقل فيه العين عن المالك، والمصرح ببقاء العين هنا - مع ندرته - مدع أن هذا
الوقف له حكم الحبس، وإنما الذي يخالفه الوقف المؤبد دونه، وبالجملة لا ينبغي
التأمل في ضبط تحرير المسألة منه ومن غيره والتحقيق ما عرفت.
كما أن التحقيق فيها القول بالصحة (و) أنه (هو الأشبه) بأصول المذهب و
قواعده، لا لكثير مما ذكروه مما هو محل للنظر، بل لأصالة عدم الاشتراط المستفادة من
عموم أدلة العقود وخصوص أدلة الوقف، سيما نحو قولهم (عليهم السلام) " الوقوف على حسب ما -
يوقفها (1) " وخصوصا الصحيحان المزبور أن (2) الظاهران أو الصريحان بعد تفسير أحدهما
بما في الآخر في أن الوقف الموقت المحكوم فيهما الأعم من القسمين، بل هما ظاهران
أو صريحان لمن وهبه الله تعالى قريحة نقادة في أن كل وقف مؤقت صحيح، وكل
وقف غير مؤقت باطل مردود على الورثة، ففي مثل المفروض هو مؤقت ما دام الموقوف عليه
موجودا، وغير مؤقت إذا انقرضوا فيثبت له حكم كل منهما من الصحة والفساد، ضرورة
أن قوله (عليه السلام) في الصحيح الأول " هو كذلك عندي " تقرير للكليتين المفسرتين بالصحيح
الآخر الذي هو كالصريح في صحة الوقف بالتفسير الثاني منهما وهو مفروض مسألتنا،
فالجمع بينهما حينئذ نتيجة ما ذكرناه.
بل من قوله " على حسب " إلى آخره، يستفاد أيضا اعتبار الموقوف عليه في الصحة
وإلا لم يدخل تحت المصداق الظاهر للفظ حسب هنا، كما أن منه يستفاد تأثير عقد
الوقف بالنسبة إلى نقله العين والمنفعة على حسب ما تضمنه العقد، وما زاد عليه مما

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 2.
(2) الوسائل الباب - 7 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 1 - 2.
56

لم يكن فيه موقوف عليه هو من غير الموقت الذي حكم ببطلانه ورجوعه إلى الوارث.
بل لا يخفى ظهور قوله (عليه السلام) في الصحيح الأول باطل مردود على الورثة في نحو
المفروض، لظهور لفظ الرد في ذلك، وكذا الورثة إذ لو كان المراد خصوص الباطل من أول
الأمر لكان الرد فيه على الواقف الذي لم ينتقل عنه حتى يرد عليه، فتأمل جيدا.
ودعوى - أن ملك العين لا يكون إلى أمد، وأنها متى خرجت عن ملك المالك
يحتاج عودها إلى سبب جديد - واضحة الفساد، لا لما في المسالك من النقض بالحبس
وإخوته، ضرورة اقتضائها نقل المنافع لا العين التي لا اشكال في بقائها على ملك المالك
في الثلاثة، بل لأنها كالاجتهاد في مقابلة النص والفتوى في الوقف الذي قد شرع نقله
على هذا الوجه، ولذا يتغير بتغيير الأوصاف التي منها الحياة والموت، والفقر والغنى
والعلم والجهل، وغير ذلك وفي الجميع يتلقى الثاني الملك عينا ومنفعة من الواقف لا
من زائل الوصف.
وحينئذ فلا بأس في مفروضنا من دعوى كون العين المملوكة للموقوف عليه المفروض
انقراضه ما دام موجودا مثلا، وبعده تعود إلى الواقف، لأن عقد الوقف بعد فرض مشروعيته
على هذا الوجه إنما اقتضى نقلها عن المالك ما دام الموقوف عليه غير منقرض، ومتى صار غير مؤقت
صار باطلا مردودا على الواقف أو ورثته كما هو صريح الصحيح الأول، فلا يحتاج حينئذ إلى
سبب جديد، لأن الناقل عن مقتضى الملك إنما نقل هذا المقدار، وليس هذا من
التوقيت في الملك أو في الوقف الذي قد حكينا الاجماع على عدم جوازه، ضرورة كون ذلك
الذي قد أخذت فيه المدة غاية، لا ما إذا جاءت تبعا لانقراض الموقوف عليه فالعود إلى
الملك بانتهاء سبب النقل كالعود بسبب الفسخ بالإقالة والخيار اللذين ليسا سبب
ملك جديد للمال، الذي خرج عن ملك المالك، وإنما هما سبب فسخ للسبب الذي
اقتضى النقل، فعاد مقتضى السبب الأول على حاله، بل لعل ذلك هو الأصل في بطلان
كل سبب طار على السبب الأول الذي منه ما نحن فيه كما هو واضح.
ومن ذلك كله ظهر لك أنه لا وجه للقول بانتقاله إلى ورثة الموقوف عليه كما في
المقنعة ومحكي السرائر، بل ربما حكى عن سلار أيضا، بل مال إليه أو قال به الفاضل
57

في محكي التحرير، باعتبار كونه ملكا لمورثهم، إذ المورث إنما ملكه على الوجه المزبور فلا
يدخل في تركته حتى تشمله أدلة الإرث.
وذلك القول بصرفه في وجوه البر الذي جعله في الغنية أحوط، ونفى عنه
البأس في المختلف، إذ هو إما مبني على بقائه وقفا وترك ذكر المصرف فيه فيصرف فيها
أو على أنه مال جهل مالكه، ولو من حيث الأدلة الشرعية بمعنى عدم دليل بالخصوص
يشخص مالكه وكلاهما كما ترى، ضروة عدم صحة بقائه وقفا، بعد فرض أن الواقف لم يقصد
بوقفه الأعلى خصوص المفروض انقراضهم، وقد عرفت أنه (عليه السلام) قال: " الوقوف على حسب،
ما يوقفها أهلها (1) " فبقاؤه وقفا حينئذ وصرفه في ذلك مناف للعنوان المزبور قطعا.
وأما دعوى كونه مجهول المالك شرعا فيدفعها ما عرفت من أن عقد الوقف لم يقتض
إلا الاخراج عن الملك بالقدر المزبور، وما عرفت من التصريح برجوع الوقف إلى الورثة، و
أنه المراد بعدم التوقيت الذي منه ما نحن فيه بعد الانقراض.
نعم قد يتوقف في انتقاله مع فقد الواقف إلى ورثته حين انقراض الموقوف عليه،
باعتبار صيرورته بحكم ماله في ذلك الوقت، فلا مدخلية للوارث السابق الذي كان وارثا
للمال الذي هو للميت حال موته، أو إلى الوارث الأول باعتبار تأهل الميت لصيرورته
ملكا له بانقراض الموقوف عليه، لأن الملك إنما خرج عنه متزلزلا وهذا التأهل ينتقل إلى
وارثه، لأن كل ما هو له يكون لوارثه، فهو حينئذ كفسخ المشتري بخياره بعد موت الميت
بمدة، فإنه يكون المبيع للوارث الأول، ولو لأن انتقال المبيع عنه كان متزلزلا، بفسخ
المشتري، إذ هو هنا كذلك قد انتقل المال عنه متزلزلا.
ولعل الثاني منهما لا يخلو من قوة، وإن أمكن الفرق بين المشبه والمشبه به،
بوجود الثمن في البيع الذي ملكه البايع متزلزلا، والفسخ يقتضي رد العوض بخلاف المقام
إلا أنه فرق لا ينافي ما ذكرناه من القوة التي مبناها تناول أدلة الإرث لمثل ذلك.
وبذلك كله ظهر لك وجه القول بالرجوع إلى ورثة الواقف على فرض الحصة وقفا.
وأما دعوى أن الفرض وإن كان وقفا إلا أنه لا يفيد إلا مفاد الحبس - حتى ذكر

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 2.
58

بعضهم ندور الثمرة في الفرق بينهما، وإنما هي في النذر والوصية، والنية المصححة لمثل
هذا الوقف إن كان متعلقها الحبس والمفسدة له إن كان الوقف، ونحو ذلك فلا يفيد
حينئذ نقل العين إلى الموقوف عليه، وإن أفاده في المؤبد - فيدفعها ظهور أدلة
الوقف في اتحاد مقتضاها في جميع أفراده، وإلا لاقتضى التوقف حينئذ في الحكم
بملك العين وعدمه في نحو الفرض المحتمل لانقراض الموقوف عليه وعدمه وهو معلوم
البطلان كما هو واضح.
ومن الغريب دعوى هؤلاء كون الفرض من الحبس، وقولهم بندور الثمرة بينه و
بين الحبس، ضرورة عدم معقولية ذلك إلا على جعله وقفا، كي يتجه ظهورها بمثل
النذر واليمين، كل ذلك ناش من عدم تحريهم المسألة على وجهها.
ولا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه ما في كثير من الكلمات في المقام - فضلا
عما فيها من التشويش، والله الهادي والحافظ من زلل الأقدام والأقلام - ولا ما في
دليل القول بالبطلان الذي أرسله الشيخ المبني على دعوى اعتبار الدوام في الوقف
على وجه يشمل الفرض - وهي مصادرة محضة، كدعوى رجوع ذلك إلى التوقيت الذي قد
عرفت بطلانه، للفرق الواضح بينهما وعلى أنه يكون وقفا على مجهول وهو باطل وفيه أن
المجهول إن أريد به بالابتداء فظاهر فساده، وإن أريد به بعد الانقراض فليس هناك
موقوف عليه أصلا، فلا يحكم عليه بالجهالة، إذ بعد انقراضه يبطل الوقف ويصير موروثا
كما عرفت.
وكذا ظهر لك الحال أيضا فيما ذكره المصنف وغيره بقوله (فإذا انقرضوا رجع
إلى ورثة الواقف، وقيل: إلى ورثة الموقوف عليهم) وقيل: يصرف في وجوه البر (و)
أن (الأول أظهر) وأشهر بل المشهور، والله العالم.
هذا كله فيما لو حصل الانقراض في الموقوف عليه، وأما مع فرض دوام له وإن كان
محتملا من أول الأمر، فلا وجه لاحتمال البطلان حينئذ، فلو قال: وقفت على أولادي و
نسلهم، فإن مات الأولاد ولا نسل، فعلى إخوتي، فإذا انقرض النسل فعلى الفقراء، و
اتفق حصول النسل وانقراضهم، صح الوقف بلا اشكال لعموم " الوقوف (1) " وغيره لكن

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 2.
59

في الدروس ربما احتمل البطلان على تقدير انقراض النسل، لأنه لم يعلم تأبيده حال
العقد، وهو كما ترى، لأن المصحح صرفه إلى جهة مؤبدة وإن لم تكن معلومة الوقوع
ومن ثم لو بقي النسل أبدا صح الوقف، كما أن ما ذكرناه من الصحة إنما هو في منقطع الآخر
بخلاف منقطع الأول الذي قد عرفت سابقا بطلانه، خلافا للشيخ، وأما منقطع الوسط
فالظاهر الصحة إليه ثم البطلان بعده، فلو وقف مثلا على زيد ثم على عبده ثم على
المساكين صح على زيد، وبطل في العبد والمساكين.
لكن في الدروس احتمال صحته في الطرفين، وبطلانه في الوسط، وصرف غلته
فيه إلى الواقف أو وارثه، وكأنه مبني على مختار الشيخ من اجراء حكم تبعض الصفقة
فيه الذي قد عرفت بطلانه فيما تقدم، واحتمال الاستدلال له بالكليتين في الصحيح
السابق يدفعه معلومية تقييد ذلك بما إذا لم يحصل للوقف مبطل آخر من تعليق و
نحوه فتأمل.
نعم قد يحتمل البطلان على زيد أيضا باعتبار عدم حصول سلسلة الترتيب، فلم
يكن الوقف حينئذ على حسب ما وقفه أهله، ومنه يظهر الفرق حينئذ في منقطع الآخر بين
أن يكون لعدم ذكر موقوف عليه، وبين من كان لترتيب من لا يصح الوقف عليه، لكن فيه
أن الظاهر من ذلك عدم ملاحظة الواقف الترتيب بالنسبة إلى ذلك، وإنما الظاهر
ملاحظته بالنسبة إلى اعتبار المتقدم في المتأخر لا العكس، إلا مع القرينة المقتضية لملاحظة
الترتيب في كل منهما، وحينئذ يتجه البطلان بفساد شئ من السلسلة فتأمل.
ولو وقف على ابنيه ثم على الفقراء فمات أحدهما ففي الدروس الأقرب صرف نصيبه
إلى أخيه، لأن شرط الصرف إلى الفقراء انقراضهما ولم يحصل، ويمكن جعله منقطع
الوسط فيكون نصيب الميت لأقرباء الوقف، ويمكن جعله للفقراء عملا بالتوزيع.
وفيه أن صرف نصيبه إلى أخيه مع عدم كون ذلك من الواقف لا وجه له فيتعين
انقطاع الوقف حينئذ بالنسبة إليه وتختص صحته في نصيب الآخر خاصة ومنه يعلم الحال
فيما احتمله فيها أيضا فيما لو حبسه على ابنيه ثم مات أحدهما احتمل صرف نصيبه إلى
الحابس أو وارثه، ويحتمل صرفه إلى الآخر لأنه مصرف الحبس في الجملة، ولو وقفه على
60

ولده سنة ثم على الفقراء أو مدة حياة الواقف على ولده ثم الفقراء ففي الدروس " صح
ونقل فيه الفاضل الاجماع، لأنه وقف مؤبد في طرفيه ووسطه ".
قلت: لكن فيه أنه مناف لاشتراط الدوام بالمعنى الذي ذكرناه سابقا، اللهم
إلا أن يحمل ذلك على إرادة تقييد أصل الوقف بمدة، لا تقييده بالنسبة إلى خصوص
موقوف عليه فتأمل جيدا.
ولو وقف على أولاده وشرط أن يكون غلته العام الأول لزيد والثاني لعمرو وهكذا
وبعدهم على الفقراء ففي العام الأول لعلمائهم وفي الثاني لزهادهم، وفي الثالث
لشيوخهم اتبع شرطه، كما في الدروس لعموم " المؤمنون " " والوقوف " إذا كان الشرط
للموقوف عليهم، أما إذا كان لأجنبي فالظاهر الصحة ما لم يستغرق، وكون الولد موقوفا
عليهم لا ينافي ذلك، وإن استحقوا هم المنفعة لولا الشرط المزبور، وربما يستأنس له في
الجملة بخبر جعفر بن حيان (1) " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل وقف غلة له على قرابة له
من أبيه، وقرابة من أمه، وأوصى لرجل وعقبه من تلك الغلة ليس بينه وبينه قرابة
بثلاثماءة درهم كل سنة، ويقسم الباقي على قرابته من أبيه وأمه؟ قال: جائز للذي أوصى
له بذلك، قلت: أرأيت إن مات الذي أوصى له؟ قال: إن مات كانت الثلاثماءة درهم
لورثته يتوارثونها ما بقي واحد منهم، فإذا انقطع ورثته ولم يبق منهم أحد كانت الثلاثماءة
درهم لقرابة الميت ترد إلى ما يخرج من الوقف " بحمل الوصية فيه على تمليك ذلك
بالشرط.
ولو وقف على ولده، فإذا انقرضوا وانقرض أولادهم فعلى المساكين ففي الدروس،
" الأقرب عدم دخول أولادهم في الوقف والنماء لأقرباء الواقف حتى ينقرضوا " وقال الشيخ
بدخولهم، إما لشمول لفظ الولد للنافلة كقول المفيد وجماعة، وإما لقرينة الحال، و
هو قوي.
قلت لا اشكال مع ذلك، إنما الكلام مع فرض تصريح الواقف بذلك، ولا ريب في كونه
حينئذ مع انقراض الأولاد دون أولادهم منقطع الآخر، وحينئذ يتجه بطلانه لخلوه عن

(1) الوسائل الباب - 6 - من أبواب الوقوف والصدقات الحديث - 8. باختلاف يسير.
61

موقوف عليه في بعض الزمان، وفي القواعد بعد أن حكى قول الشيخ قال: " وليس بمعتمد،
بل يكون منقطع الوسط، فإذا انقرض أولاد أولاده عاد إلى الفقراء والنماء قبل انقراض
أولاد الأولاد لورثة الواقف على اشكال " وهو مبني على اختصاص البطلان في منقطع
الوسط فيه خاصة، إلا أن ذلك يقتضي عدم الاشكال حينئذ في كونه لورثته.
(ولو قال: وقفت إذا جاء رأس الشهر وإن قدم زيد لم يصح) بلا خلاف ولا اشكال
بل الاجماع بقسميه عليه، لما ذكرناه غير مرة من منافاة التعليق على متيقن الحصول أو
متوقعه لظاهر ما دل على تسبيب الأسباب المقتضي لترتب آثارها حال وقوعها، فما في
المسالك من عدم الدليل على ذلك في غير محله.
ومن هنا كان المتجه الصحة في التعليق الذي لا يقتضي ذلك كقوله وقفت إن
كان اليوم الجمعة للعالم بذلك وإن أبطله بعضهم أيضا بدعوى مانعية صورة التعليق
لكن الاشكال في اثباتها هذا، وفي المسالك " أنه يتوجه على قول الشيخ بجواز الوقف
المنقطع الابتداء إذا كان الموقوف عليه أولا مما يمكن انقراضه أو يعلم كنفسه وعبده بمعنى
صحته بعد انقراض من بطل في حقه جواز المعلق على بعض الوجوه ".
قلت: قد عرفت تحقيق كلامه وضعفه، وامكان خروجه عن التعليق في بعض وجوهه
المحكية عنه والأمر سهل، وكذا تقدم الكلام مشبعا في أن القبض بإذن الواقف شرط
فيه للنصوص التي ستسمع بعضها مضافا إلى الاجماع بقسميه عليه في الجملة.
وصحيح صفوان عن أبي الحسن عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) " سألته عن الرجل يوقف
الضيعة ثم يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا فقال إن كان وقفها لولده ولغيرهم ثم
جعل لها قيما لم يكن له أن يرجع فيها وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتى
يبلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها وإن كانوا كبارا لم يسلمها إليهم، ولم
يخاصموا حتى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها لأنهم لا يحوزونها عنه، وقد بلغوا " وخبر
العمرى (2) عن صاحب الزمان (عليه السلام)، وأما ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا ثم يحتاج

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 4.
(2) الوسائل الباب - 4 - من أبواب الوقوف الحديث 8.
62

إليه صاحبه ما لم يسلم فصاحبه بالخيار، وكل ما سلم فلا خيار فيه لصحابه احتاج إليه
أو لم يحتج افتقر إليه أو استغنى عنه " الحديث.
(و) لكن قد عرفت البحث في أن (القبض شرط في صحته) على وجه لا يترتب
عليه الأثر قبله، أو أنه أنه شرط للزومه (فلو وقف ولم يقبض ثم مات بطل وكان ميراثا) على
الأول بل والثاني، وكذا يبطل لو جن أو أغمي عليه كما هو الشأن في جميع شرايط الصحة
إذا حصل المانع منها في أثنائها قبل تمام السبب الذي ظاهر ما دل على سببيته أو
المتيقن منه اعتبار دوام التأهل إلى تمام السبب من غير فرق بين الموجب والقابل و
العين التي هي متعلق العقد، ومن هنا لم يظهر خلاف بين الأصحاب في سائر المقامات
في بطلان السبب بعروض المانع في أثنائه وإن زال بعد ذلك.
نعم لو قلنا بكون شرط اللزوم انفسخ بموت الواقف للصحيح الآتي بناء على إرادة
الوقف فيه من الصدقة، وإن ناقش فيه في المسالك، إلا أن المشهور الاستدلال به،
بخلاف الجنون والاغماء، بل قد يتوقف في الانفساخ بموت البطن الأول من الموقوف
عليه قبله بناء على أنه شرط اللزوم، ودعوى أن ذلك شأن العقد الجائز يدفعها عدم
الدليل على ذلك لو كان من المملكات كالهبة والجواز في نفسه أعم من ذلك، بل ربما
احتمل عدم البطلان بموتهم على تقدير كونه شرطا للصحة أيضا لامكان قيام البطن
الثاني مقامه في القبض، وإن بطل بموت الواقف للفرق بينهما بالانتقال إلى الوارث
المقتضي للبطلان بخلاف الفرض، ولعله لذا توقف في صحته إذا قبض البطن الثاني
في محكي التحرير.
لكن قد يناقش - بأن المراد القبض ممن كان قبول العقد له، بل لعله ظاهر صحيح
صفوان وغيره مما دل على اعتبار القبض - بما في الرياض من أن قبض البطن الثاني إنما
يؤثر الصحة بالنسبة إليه، دون من مات ولم يقبض، فوجوده حينئذ كعدمه، ويكون وقفا
على معدوم غير تابع لموجود، على أن معنى صحة الوقف صحة ما جرت عليه صيغة العقد
وهو ليس إلا الوقف عليهما دون الثاني فقط، فصحته بالنسبة إليه خاصة دون الأول غير
ما جرى عليه العقد، وفيه أن لا حاصل له بعد فرض جريان العقد على وجه صحيح،
63

والبطلان وعدمه إنما عرض بحصول شرط الصحة شرعا وعدمه، فهو كالوقف على شخصين
قبض أحدهما دون الآخر فتأمل جيدا.
ثم إن الظاهر عدم اعتبار الفورية فيه، لظهور ما دل على اعتباره من خبري عبيد
ومحمد في ذلك، مؤيدا بعدم الخلاف فيه فيما أجد، وإن استشكل فيه الفاضل في القواعد
مما ذكرناه، ومن أنه باعتبار توقف الصحة عليه كان كالقبول من العقد، إلا أنه كما ترى
(ولو وقف) ما في يده (على أولاده الأصاغر) الذين هو ولي عنهم (كان قبضه
قبضا عنهم، وكذا الجد للأب) بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم، لصحيح محمد
بن مسلم (1) عن أبي جعفر (عليه السلام) " أنه قال في الرجل يتصدق على ولده، وقد أدركوا: إذا
لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث، فإن تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز لأن
والده هو الذي يلي أمره ".
وخبر عبيد بن زرارة (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " أنه قال في رجل تصدق على ولد له قد
أدركوا قال: إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث، فإن تصدق على من لم يدرك من
ولده فهو جائز، لأن الوالد هو الذي يلي أمره، وقال: لا يرجع في الصدقة إذا تصدق
بها ابتغاء وجه الله ".
وخبر علي بن جعفر (3) المروي عن قرب الإسناد عن كتابه " إذا كان أب تصدق على
ولد صغير فإنها جايزة، لأنه يقبض لولده إذا كان صغيرا " إلى غير ذلك من النصوص
الدالة على ذلك.
بل في المسالك وغيرها أن الظاهر عدم الفرق بين قصده بعد ذلك القبض عن
المولى عليه للوقف، وعدمه، لتحقق القبض الذي لم يدل الدليل على أزيد من تحققه
قلت: لا ينبغي التأمل في ظهور دليله في اعتبار كون القبض على أنه وقف، فلا
يجزي القبض، بعد الوقف مع الذهول عنه، أو كان على وجه العارية أو الوديعة، أو نحو
ذلك مما هو ليس قبضا للوقف من حيث أنه وقف قطعا، وحينئذ فمع فرض شرطيته حتى في

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الوقوف الحدث 1 - 5.
(2) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الوقوف الحدث 1 - 5.
(3) الوسائل الباب - 5 - من أبواب أحكام الهبات الحديث 5.
64

الفرض لا يتعقل بدون القصد، ضرورة عدم امتياز أصل الفعل المشترك، فضلا عن الاستدامة التي كان افتتاحها لغيره.
نعم لو قيل بعدم اشتراطه في مثل الفرض لعدم العموم في دليله أو لخصوص
النصوص المزبورة، بناء على أنه المراد من التعليل فيها أيضا على معنى أنه إذا كان هو
الذي يقبض عنه، فكيف يعتبر القبض في وقفه، إذ لا يتصور أن يقبض نفسه، اتجه حينئذ
ذلك، إلا أنه مناف لظاهرهم من عموم شرطيته.
اللهم إلا أن يراد من نحو العبارة صيرورة قبضه قبضا عنهم شرعا، ولكن فيه حينئذ
أنه خلاف ظاهر الأدلة، خصوصا صحيح صفوان (1) الظاهر في اعتبار الحيازة لهم المتوقف
على النية، بل لعل ذلك هو المراد من التعليل، لا إرادة عدم الاحتياج إلى قصد،
كما هو واضح لمن أو هبة الله تعالى الانتقاد.
ولعله إلى ذلك أشار في جامع المقاصد بعد أن ذكر ظهور العبارة في كفايته
مع عدم القصد، قال: " ويشكل بأن القبض إنما يحسب لذي اليد، ما لم يقصده لغيره
ممن له ولاية عليه ونحوه " خلافا لما سمعته من ثاني الشهيدين وغيره بل وشيخنا
في كشفه، بل في الأخير ولو نوى الخلاف فالأقوى الجواز، وفيه نظر، أغرب منه ما
سمعته من الأول من الحاق قبض الودعي والمستعير، بل والغاصب في وجه، بقبض
الولي في عدم الحاجة إلى الإذن والقصد.
وعلى كل حال فلا فرق في هذا الحكم بين أصناف الولي، خصوصا بعد ملاحظة
التعليل المزبور، ولكن المتن (وفي الوصي تردد، أظهره الصحة) ولم أجده لغيره
عدا ما يحكى عن التحرير، وما تشعر به عبارة النافع، وكأنه للتردد فيه في غير موضع،
باعتبار اتحاد الموجب والقابل فيه، المغتفر في الأب والجد، للنصوص، إلا أنه قد بينا
ضعف ذلك أيضا في غير موضع، والمراد هنا أن التردد لذلك، لا لدعوى أن ولاية الوصي
ضعيفة، فلا تقتضي صيرورة قبضه قبضا عنهم، التي هي واضحة الفساد، إذ لا اشكال
في عدم مدخلية ذلك، كما لا اشكال في كفاية قبضه عنهم في الوقف من أجنبي والهبة

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 4.
65

وغيرهما مما لا خلاف فيه، ولا اشكال فيه، وإن ظن في الرياض دخول القبض من الأجنبي
في التردد، إلا أنه كما ترى.
وكيف كان ففي المسالك وفي معنى ما ذكر، أي قبض الولي ما لو كان الموقوف تحت
يد الموقوف عليه قبل الوقف بوديعة وعارية ونحوهما، لوجود المقتضي للصحة، وهو
القبض، فإن استدامته كابتدائه، إن لم يكن أقوى، ولا دليل على اعتبار كونه واقعا مبتدأ
بعد الوقف فيه.
وإن كان فيه ما لا يخفى، بناء على عموم شرطيته، وعدم الإذن والقصد في
الاستدامة، بل قد عرفت البحث فيه معهما في كتاب الرهن، وإن كان الأقوى الاكتفاء
بهما حتى في القبض بالغصب والشراء الفاسد، تنزيلا للاستدامة معهما منزلة العود،
ثم القبض في الإثم وغيره.
وأما احتمال الاكتفاء - بالقبض بلا إذن من الواقف ولا قصد من الموقوف عليه، بل
ومع قصد العدم، لأن المدار كونه تحت يده بعد الوقف مع فرض القول بالشرطية الشاملة
للفرض - ففي غاية الضعف، بل لا ينبغي صدوره من ذي مسكة.
وعلى كل حال فلا يعتبر فيما ذكرنا بناء على المختار مضى زمان يمكن فيه احداث
القبض، ضرورة عدم صيرورته قبضا حقيقة بذلك، وإنما المدار تنزيل زمان الاستدامة
المفروض حصولها بالإذن والقصد منزلة القبض حقيقة، وهذا لا يحتاج إلى زمان بعد
حصولها.
وفي المسالك " وحيث لا يعتبر تجديد القبض لا يعتبر مضي زمان يمكن فيه احداثه
وإن اعتبر اعتبر، لأن الإذن فيه يستدعي حصوله، ومن ضروراته مضي زمان، بخلاف
ما لا يعتبر فيه التجديد ".
وفيه أن ذلك لا يجدي في التجديد الحقيقي، وأما الحكمي فغير محتاج إلى ذلك
كما هو واضح.
(ولو وقف على نفسه لم يصح) بلا خلاف أجده كما اعترف به غير واحد بل عن
التذكرة نسبته إلى علمائنا، بل في محكي السرائر الاجماع، وهو الحجة، مضافا إلى عدم
66

تعقله، لما عرفت من اقتضاء الوقف نقل المنفعة خاصة، أو مع العين للموقوف عليه، ولا
معنى لنقل ملكه إلى نفسه، وإلى فحوى ما تسمعه من النصوص في المسألة الآتية، فما
عن بعض العامة - من جوازه لأن استحقاق الشئ وقفا غير استحقاقه ملكا، وقد يقصد
حبسه أو منع نفسه من التصرف المزيل للملك - واضح الفساد.
(وكذا) لم يصح الوقف من أصله (لو وقف على نفسه ثم على غيره) لكونه حينئذ
منقطع الأول الذي قد عرفت تحقيق الحال فيه، (وقيل:) والقائل الشيخ (يبطل في
حق نفسه ويصح في حق غيره) ولا ريب في أن الأول أشبه بأصول المذهب وقواعده
كما تقدم الكلام فيه وفي غيره من الصور مفصلا.
نعم لو عطف الغير عليه بالواو فالأقوى الصحة في النصف، لعدم الانقطاع فيه
لبقاء موقوف عليه ابتداء وهو الغير، فإن الموقوف عليه ليس هو المجموع منه ومن الغير
من حيث هو مجموع، بل كل واحد منهما، فيبطل النصف في حقه، ويصح في النصف
الآخر الذي لا مانع من الصحة فيه، وربما احتمل كون المجموع للغير كما سمعته من الشيخ
في المرتب فضلا عن المفروض، إلا أنه واضح الفساد فيهما، لمخالفته لقصد الواقف الذي
جعل الشارع الوقف على حسب ما وقفه، كوضوحه أيضا في دعوى البطلان فيهما معا،
لأن ما وقع عليه العقد لا يجب به الوفاء اجماعا، والعقد لا يكون مبعضا ضرورة عدم كون
ذلك من التبعيض الممنوع، بل هو من باب تبعض الصفقة الذي قد فرغنا من الكلام في
صحته في محله، ولو وقف على نفسه والفقراء فالظاهر الصحة أيضا في النصف، وفي
الدروس احتماله، والصحة في الثلاثة الأرباع، والبطلان رأسا وفي الأخيرين - المبني
أولهما على إرادة أقل الجمع، وهو الثلاثة من لفظ الفقراء، ويكون هو حينئذ رابعا فيبطل
وثانيهما على بطلان تبعض الصفقة - ما لا يخفى.
(و) كذا (لو وقف على غيره وشرط) قضاء ديونه أو (إدرار مؤنته لم يصح)
بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل ظاهر المسالك نسبته إلى الأصحاب، معللا له بأن
الوقف يقتضي نقل الملك والمنافع عن نفسه، فإذا شرط ذلك ونحوه فقد شرط ما ينافي
مقتضاه، فيبطل الشرط والوقف معا، بل مقتضى اطلاق بعض ما هو صريح آخر من عدم
67

الفرق في ذلك بين دين معين وعدمه وادرار مؤنته مدة معينة وعدمه، وبين تقدير ما يأخذه
منه أو اطلاقه، وبين الانتفاع به مدة حياته أو مدة معلومة، كل ذلك للقاعدة المزبورة.
وإلا فليس في النصوص إلا مكاتبة علي بن سليمان (1) إلى أبي الحسن (ع) " جعلت
فداك ليس لي ولد ولي ضياع ورثتها عن أبي وبعضها استفدتها ولا آمن الحدثان فإن
لم يكن لي ولد وحدث بي حدث فما ترى جعلت فداك، لي أن أقف بعضها على فقراء
إخواني والمستضعفين أو أبيعها وأتصدق بثمنها عليهم في حياتي، فإني أتخوف أن لا
ينفذ الوقف بعد موتي، فإن وقفتها في حياتي فلي أن آكل منها أيام حياتي أم لا، فكتب
(عليه السلام) فهمت كتابك في أمر ضياعك، فليس أن تأكل منها من الصدقة فإن أنت أكلت
منها لم تنفذان كان لك ورثة، فبع وتصدق ببعض ثمنها في حياتك، وإن تصدقت أمسكت
لنفسك ما يقوتك، مثل ما صنع أمير المؤمنين (عليه السلام) ".
وخبر طلحة بن زيد (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) " أن رجلا تصدق بدار له
وهو ساكن فيها فقال: الحين أخرج منها " وبعض النصوص الآتية في مسألة اشتراط
العود إليه عند الحاجة.
مع أن في خبر أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) لا يشتري الرجل ما تصدق به، وإن تصدق
بمسكن على ذي قرابة فإن شاء سكن معهم وإن تصدق بخادم على ذي قرابة خدمه انشاء الله.
بل عن النهاية إذا وقف انسان مسكنا جاز له أن يقعد فيه مع من وقف عليه، و
ليس له أن يسكن غيره فيه، ولعله نظر إلى الخبر المزبور الذي لا بد من حمله على إذن
الموقوف عليه، وإلا كان مخالفا للقواعد وغيرها ولا جابر له.
نعم ليس في تلك المكاتبة وغيرها اخراج النفس، بل ولا جميع ما ذكروه، فيكون
منشؤه القاعدة المزبورة، ولكن الظاهر عدم اقتضائها بطلان اشتراط ذلك على جهة
الاستثناء له من التسبيل الذي قصده بالوقف لقاعدة " المؤمنون " " والوقوف " وغيرهما.
بل ربما كان المراد من قوله (عليه السلام) في المكاتبة المزبورة، " وإن تصدقت أمسكت
لنفسك ما يقوتك " كما عساه يظهر من عنوان الحر في الوسائل، أقصاها بطلان استحقاقه

(1) الوسائل الباب - 3 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 1 - 4 - 2.
(2) الوسائل الباب - 3 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 1 - 4 - 2.
(3) الوسائل الباب - 3 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 1 - 4 - 2.
68

له من حيث كونه وقفا لاعتبار اخراج نفسه من عينه ومنفعته، لا نحو ما ذكرناه الراجع إلى
وقف عين وتسبيل منفعتها الخارجة عما استثناه، فهو حينئذ كوقف العين المستأجرة مدة
مثلا، وربما يشهد له في الجملة ما تقدم له سابقا من دخول اللبن والصوف الموجودين
في الشاة الموقوفة ما لم يستثنه، بل حكينا عن الفاضل في التذكرة أن وقف البقرة للحرث
مثلا خاصة يقتضي بقاء باقي المنافع من اللبن وغيره للواقف.
لكن في جامع المقاصد التصريح في مسألة الشاة بعد جواز استثناء شئ من
المنافع المتجددة بخلاف الصوف واللبن الموجودين، فإنه يجوز استثناؤهما ويكون
المسبل ما عداهما.
إلا أنه كما ترى مجرد دعوى عارية عن الدليل بل مخالفة لما ذكره من الدليل، بل
ستسمع هنا من المسالك جواز الشرط للناظر، فإذا كان الواقف، هو أخذه، وهو مبني على
ما ذكرناه، بل في كشف الأستاذ " ولو شرط رد مظالم عنه أو صدقة أو عبادة أو أداء ديون
لزمته في حياته، ونحو ذلك قوى القول بالصحة " مع أنه قال قبل ذلك: " ولو شرط إجارة عن
عبادة تجوز عن الاحياء وكان حيا كزيارة وحج ونحوهما قوى البطلان " وكأنه بناه على الفرق
بين شرط الانتفاع به حال حياته، وبعد موته الذي هو خروج عن الوقف، وإن رجع إليه
ثواب ذلك فلا تنافيه القاعدة المزبورة كما لا تنافي شرط أكل أهله منه، بل وأضيافه ومن
يمر به والتابعة، فيصح حينئذ كما حكي من فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خبر أحمد (1) عن أبي الحسن
الثاني (عليه السلام) بل نحو ذلك عن فاطمة (عليها السلام) أيضا في صدقتها (2).
بل في الدروس والرياض ولا يقدح كونهم واجبي النفقة، وتسقط نفقتهم إن اكتفوا
به، وهو متجه في غير الزوجة والمملوك، أما هما فيشكل برجوع ذلك إلى نفسه أيضا، ولذا
قال في الأول منهما بعد ما سمعت: " ولو شرط أكل الزوجة ففيه نظر من عود النفع إليه " و
من توهم بقاء نفقتها كما لو وقف عليها وإن كان فيه أنه لا نظر في جواز أكلها، وإنما الكلام
في اشتراط نفقة الزوجة، وهو الذي قلنا أنه من شرط النفع لنفسه، وكذا مملوكه ولو كان
حيوانا ".

(1) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 3 - 1.
(2) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 3 - 1.
69

وعلى كل حال فالمدار على عدم منافاة القاعدة المزبورة، فيصح حينئذ جميع
ما لا ينافيها، بل في المسالك " وكذا لو شرط أن يأكل الناظر منه أو يطعم غيره، فإن
كان وليه الواقف كان له ذلك عملا بالشرط، ولا يكون ذلك شرطا لنفع نفسه " وهو إن
لم يكن مبنيا على ما ذكرناه مشكل، ضرورة عدم خروجه بسبب النظارة عن ملكه صدقته
وعدم اخراج نفسه عن وقفه، وكذا قيل: لا ينافي ما ذكره المصنف وغيره بقوله.
(أما لو وقف على الفقراء) وكان منهم أو لم يكن (ثم صار فقيرا، أو على الفقهاء)
وكان منهم أو لم يكن (ثم صار فقيها صح له المشاركة بالانتفاع) بل والاختصاص به،
لأنه ليس وقفا على نفسه ولا على جماعة هو منهم، فإن الوقف بهذا الوجه ليس وقفا
على الأشخاص المتصفين بهذا الوصف، بل على الجهة المخصوصة، ولهذا لا يعتبر
قبولهم، ولا قبول بعضهم ولا قبضهم وإن أمكن.
بل في المسالك " ولا ينتقل الملك إليهم، وإنما ينتقل إلى الله تعالى، ولا
يجب صرف النماء في جميعهم، بل مثل هذا يسمى وقفا على الجهة، لأن الواقف
ينظر إلى جهة الفقر والمسكنة ويقصد نفع كل موصوف بهذا الوصف لا شخص بعينه ".
لكن في الكفاية الاشكال في المشاركة المزبورة قال: " واحتجاجهم بأن ذلك
ليس وقفا على نفسه ولا على جماعة هو منهم صحيح غير نافع، إنما ينفع لو كان النص
المانع واردا بلفظ الوقف على نفسه، أو ثبت اجماع على المشاركة في محل البحث، و
ليس كذلك، إذ الأخبار المذكورة ليس على هذا الوجه كما لا يخفى، ولا اجماع على
المشاركة هنا " وكأنه لحظ في نفي الاجماع خلاف ابن إدريس، فإن المحكي عنه عدم جواز
انتفاع الواقف بما وقفه على حال، بل والفاضل في المختلف والتذكرة.
قال في الأول: " الوجه عندي أن الوقف إن انتقل إلى الله تعالى كالمساجد
فإن للواقف الانتفاع به كغيره من الصلاة فيه وغيرها، وإن انتقل إلى الخلق لم
يدخل سواء كان مندرجا فيهم وقت الوقف، كأن وقف على المسلمين أو على الفقهاء و
هو منهم، أو لم يكن منهم وقت العقد ثم صار منهم "، وكذا عن التذكرة وعن المهذب
لابن البراج أنه جعل الوقف العام أقساما، وقف المسجد والقنطرة، ووقف الدور و
70

المنازل التي ينزلها الحاج والخانات، ووقف الدور والمنازل التي ليست كذلك، و
الوقف على المسلمين، فحكم في الأول والأخير بجواز الانتفاع وفصل في الدور والمنازل و
بين ما ينزلها الحاج والخانات وبين غيرها فجوز في الأول دون الثاني.
لكن في محكي المبسوط فأما إذا وقف وقفا عاما مثل أن يقفه على المسلمين جاز
له الانتفاع بلا خلاف، لأنه يعود إلى أصل الإباحة، فيكون هو وغيره سواء، ومثله في
محكي الغنية.
قلت: لا ينبغي التأمل ولو للسيرة القطعية في جواز الانتفاع في المسجد، و
الخان ونحوهما اللذين صارا بسبب الوقف كالتحرير، بل الظاهر خروجهما عن المالية
فيتنفع به حينئذ على الوجه الذي ذكره من غير فرق بين الواقف وغيره.
لكن دعوى - أن كل وقف عام حتى ما كان موضوعه العلماء والمجتهدون وغير
ذلك وكان له ثمرات تدخل تحت الملك كثمرة البستان ونحوها كذلك - محل بحث
أو منع، ضرورة كون الملك فيه بقصد الواقف وغيره للجنس، ولو بواسطة أفراده التي لو -
فرض كون الواقف منها، لم يكن قد أخرج نفسه عن صدقته وتحقق فيه المانع المزبور،
من غير فرق بين ذي الوصف السابق والمتجدد، على أن وقفه على الفقراء نحو ملك
الزكاة للفقراء الذين لا يندرج فيهم من عليه الزكاة، ومالكية الكلي على نحو مملوكيته،
فكما أن خصوص الفرد في الثاني يكون منطبقا على الكلي المملوك وتحصل به براءة
الذمة ممن عليه فكذلك مالكية الكلي أيضا إذا تشخص بفرد انطبق عليه، فإذا فرض أنه
الواقف، صار هو المالك لصدقته المعتبر فيها خروجه عنه، فلا بد حينئذ في صحة الوقف
من خروج تشخص الكلي به عنه، كما أومئ إليه الفاضل فيها حكي عنه.
نعم لا بأس به فيما ذكرناه مما هو خارج عن المالية، والانتفاع به ليس على
طريق الملك، كالصلاة في المسجد والعبور على القنطرة والجلوس في الخان ونحو
ذلك مما هو جائز باعتبار الإباحة الشرعية، ولو بسبب الوقف أو للسيرة القطعية أو
لغير ذلك هذا.
وفي جامع المقاصد عن بعض فتاوى الشهيد أنه يشارك ما لم يقصد منع نفسه
71

أو ادخالها واستحسنه كثاني الشهيدين في المسالك قال: " فإنه إذا قصد إدخال
نفسه فقد وقف على نفسه ولم يقصد الجهة، وإذا قصد منع نفسه خصص العام بالنية
وهو جائز، فيجب اتباع شرطه للخير السابق وإنما الكلام مع الاطلاق ".
وفيه أن قصد ادخال نفسه بقصد الجهة التي يندرج فيها عين مفروض المسألة
فمع فرض بطلانه يتجه ما قلناه فتأمل جيدا.
(ولو شرط عوده إليه عند حاجته صح الشرط، وبطل الوقف وصار حبسا ويعود
إليه مع الحاجة) التي يرجع في مصداقها إلى العرف على حسب غيرها من الألفاظ
(ويورث) مع عوده بها أو مطلقا كما ستعرف، والأصل في ذلك خبر إسماعيل بن الفضل (1)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) يتصدق ببعض ماله في حياته في كل وجه من وجوه
الخير، وقال: إن احتجت إلى شئ من المال فأنا أحق به ترى ذلك له؟ وقد جعله لله
يكون له في حياته، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا إلى أهله أو يمضي صدقة؟ قال: يرجع
ميراثا إلى أهله ".
والموثق (2) " من أوقف أرضا ثم قال: إن احتجت إليها فأنا أحق بها ثم مات
الرجل فإنها ترجع إلى الميراث ".
ولكن اختلف فيه الأصحاب، فبين قائل ببطلان ذلك من أصله كما عن أبي على
وابني حمزة وإدريس والآبي، بل حكاه في المختلف عن الشيخ في المبسوط أيضا وإن
كنا لم نتحققه نعم هو ظاهر لنافع والحر والكفاية، لمنافاة الشرط المزبور دوام الوقف،
بل هو من التعليق، ولظهور قوله يرجع ميراثا، في إرادة البطلان، ولأنه صدقة ولا
يجوز رجوع إلى صدقة، ولوجوب اخراج نفسه من الوقف.
وبين قائل بصحته وقفا فإن احتاج كان منقطعا، وإلا كان مؤبدا كما هو صريح
كلام السيد في الانتصار، مدعيا عليه الاجماع، والفاضل في المختلف والقطيفي في
المحكي عن ايضاحه وظاهر المقنعة والمراسم، بل في المسالك نسبة صحة الشرط

(1) الوسائل الباب - 3 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 3 - 1.
(2) التهذيب ج 9 ص 150 الحديث - 60.
72

إلى السيد والمعظم تارة وأخرى قال: " إن العمل بخبر إسماعيل بن الفضل اتفاق من
الأصحاب أو من أكثرهم ".
وعلى كل حال فلا ريب في أنه الأقوى، لعموم " الوقوف " و " المؤمنون " وعدم جواز
الرجوع بالصدقة التي لم يكن التصدق بها على الوجه المزبور، وليس هذا من ادخال
الواقف نفسه في الوقف قطعا بل هو تقييد للوقف بما يقتضي انتهاءه، ودوام الوقف غير
شرط كما عرفته سابقا من صحة الوقف المنقطع، ولا تعليق فيه على وجه ينافي عقد
الوقف، بل هو تقييد للوقف على نحو تقييده بوجود الموقوف عليه أو بغيره من الأوصاف
التي لا اشكال في جوازها، ضرورة رجوعه إلى جعله وقفا ما دام غنيا عنه، فإنه بناء على
مشروعية المنقطع منه، لا فرق في الأوصاف التي يكون ارتفاعها غاية، بين أن تكون في
الموقوف عليه أو في غيرهم بعد اشتراكهما في اقتضاء ارتفاعهما بقاء الوقف حينئذ بلا
موقوف عليه، وصيرورته من غير الموقت الذي قد عرفت بطلانه نصا وفتوى، وليس هو من
اشتراط الخيار في الوقف الذي لم أعرف خلافا في عدم جوازه، عدا عبارة في محكي التحرير
لم يعلم أنها له أو للشيخ.
وعلى كل حال لا ريب في شذوذها لمنافاته اللزوم في الوقف على وجه لم يشرع
فسخه اختيارا بوجه، وما نحن فيه إنما هو من انتهاء الوقف بانتهاء الوصف المعلق
عليه، وفرق واضح بين المقامين، والخبران - بعد احتمال إرادة البطلان فيهما باعتبار
اشتراط كونه أحق به، وهو وقف، لما سمعت من اعتبار اخراج نفسه من الوقف في جميع
الأحوال، وحينئذ يكونان خارجين عما نحن فيه - يمكن إرادة الرجوع ميراثا في الأول
منهما بعد فرض حصول الحاجة منه، وعاد الوقف إليه بحسب شرطه فإذا هلك بعد أن
كان كذلك رجع المال إلى ورثته، ضرورة بطلان الوقف بحصول الحاجة، والوجه في
ذلك أن السائل سأل عن صحة الشرط وعدمه، وأنه على تقدير صحته يكون أحق به
ما دام حيا، فإذا هلك يبقى على الصدقة لعدم حاجته إليه، أو يرجع ميراثا؟ فأجاب
الإمام عن ذلك كله بالرجوع ميراثا، بمعنى أن الشرط صحيح وإذا حصلت الحاجة
إليه رجع المال إليه، وبعد رجوعه لا يعود إلى الوقف، بل هو ميراث.
73

ومنه يعلم وجه المراد في الموثق لظهور اتحاد المراد فيهما، بل ربما يشهد لذلك في الجملة ما في صدقة أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) حيث قال: " وأنه يقوم على ذلك الحسن بن علي يأكل منه بالمعروف وينفقه حيث يريد الله تعالى في حل محلل لا حرج عليه، فإن
أراد بيع نصيب من المال فيقضي به الدين فليفعل إنشاء ولا حرج عليه فيه، وإن شاء
جعله شراء الملك " بناء على إرادة الرخصة له إن شاء بيع نصيب من المال الموقوف
على جهة ابطال وقفه لا خصوص الثمرة منه، فتأمل.
وأما القول بصحة الشرط المزبور ورجوع الوقف حبسا حتى جعلوه قولا ثالثا في
المسألة، ونسبوه إلى الشيخ والقاضي والمصنف هنا، والفاضل في القواعد والتذكرة و
الإرشاد والشهيد في الدروس والتنقيح وجامع المقاصد الروض والروضة، فإن أرادوا به
ذلك مع فرض تحقق الحاجة، فهو المختار، وإن أرادوا به ذلك مع عدم الحاجة أيضا
بدعوى أن الميت بموته قد احتاج فهو كالخرافة، ضرورة عدم كون ذلك المراد من اطلاق
الشرط مع امكان فرض التصريح بإرادتها حال الحياة، وكذا دعوى - كون موت
الحابس غاية لحبسه بعد أن لم يذكر له أمدا، ضرورة أنه قد ذكر له أمدا ولم يحصل
فمقتضى ذلك بقاؤه محبوسا إلى آخره، على أن مفروض المسألة في الوقف وهو ما علم
قصد الوقف به، لا أن مفروض المسألة من قال وقفت، فيحمل قصده على إرادة الحبس
بقرينة الشرط المزبور إذ هو كما ترى خروج عما نحن فيه ورجوع إلى مسألة لفظية قد
عرفت البحث في نظيرها، وأن المتجه فيها الحمل على البطلان لعدم صلاحية أصالة
الصحة لصرف ظاهر اللفظ كما تقدم تحقيق الحال فيه سابقا.
على أن دعوى بطلان الشرط المزبور بعد فرض القول بصحة الوقف المنقطع
- واضحة الفساد، وكونه باطلا في نفسه للتعليق، يدفعه معلومية جواز نظائره في
الوقف، وأنه ليس تعليقا ممنوعا، ولو سلم فهو باطل في الحبس أيضا ضرورة اشتراكهما
بالنسبة إلى ذلك.
وكذا دعوى أن الحكم بكون الفرض حبسا مع القول بصحة الوقف المنقطع، و

(1) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام العشرة الحديث - 4.
74

صحة هذا الشرط، وكون القصد الوقف إنما هو للخبرين المزبورين، إذ قد عرفت أنهما
- بعد احتمالهما ما سمعت - لا يصلحان لاثبات مثل هذا الحكم المخالف للضوابط
من وجوه، وليس بأولى من القول بصحته وقفا على هذا الوجه، بمعنى أنه له حكم الحبس
نحو ما سمعته منافي حمل كلامهم في الوقف على من ينقرض، بل هو صريح الفاضل في
المختلف، وإن كان هو هنا فيه ما لا يخفى فلا محيص حينئذ عن القول بالصحة حسب
ما قلناه.
ومما ذكرناه يظهر لك الوجه في المسألة وأقوالها وأدلتها، بل وما في الفوائد
التي ذكرها في المسالك، بل وما في غيرها من كتب الأصحاب أيضا، هذا ويمكن حمل
عبارة المصنف والفاضل وما شابهها على إرادة بطلانه وقفا على كل حال وإن حبسه
وصيرورته إرثا بعد عوده إليه للحاجة، لا كما ذكره في المسالك، أو يراد حكم الحبس
فيها، أو غير ذلك.
ومن الغريب بعد ذلك كله دعوى ابن إدريس الاجماع على البطلان، ومن هنا
حكم بخطائه في المختلف قال: " فإنه قد ذكرنا ما صرنا إليه وهو قول أكثر علمائنا، حتى
أن السيد المرتضى ادعى الاجماع عليه، واحتج عليه بأن كون الشئ وقفا تابع لاختيار
الواقف، وما يشترط فيه، فإذا شرط ما ذكرناه كان كسائر ما يشترطه واعترض على نفسه
بأن هذا شرط يناقض كونه وقفا وحبسا بخلاف غيره من الشروط، وأجاب بأنه غير مناقض
لأنه متى لم يختر الرجوع فهو ماض على سبيله، وإن مات قبل العود نفذ نفوذا ثابتا،
وهذا حكم ما أفاده في عقد الوقف، فكيف يكون نقضا لحكمه، ولا يقاس على العتق لبطلانه
وللفرق بعدم صحة دخول الشرط مطلقا في العتق، بخلاف الوقف الذي لا فرق بين
هذا الشرط وغيره في الجواز، ثم اعترض وقال: فإن قيل: قد خالف ابن الجنيد فيما
ذكرتموه، ثم أجاب بأنه لا اعتبار به، وقد تقدمه اجماع الطائفة، وتأخر أيضا عنه، وإنما
عول على ظنون له وحسابات وأخبار شاذة لا يلتفت إلى مثلها.
(ولو شرط اخراج من يريد بطل الوقف) بلا خلاف أجده فيه كما عن المبسوط
اعترافه به، بل قيل ظاهره نفيه بين المسلمين، بل في المسالك وعن صريح وظاهر
75

غيره الاجماع عليه، ولعله العمدة، وإلا ففي الكفاية فيه اشكال، نظرا إلى الدليل،
أي عموم " الوقوف " ونحوها مما اقتضى جواز نظائره، كالعود عند الحاجة وغيره، مما يمكن
فرض ما نحن فيه نحوه، وحينئذ فدعوى أنه شرط مناف لمقتضى اللزوم في عقد الوقف،
يدفعها عدم المنافاة، مع فرض وقوعه على نحو غيره من الشرائط التي ينقطع الوقف بها
ولا تكون منافية للزومه.
وربما كان مراد الأصحاب باشتراط اخراج من يريد، فسخ الوقف حينئذ، لا
خروجه بانتقاء الوصف المعلق عليه الوقف، وحينئذ يتجه البطلان فيه، ضرورة رجوعه
إلى نحو اشتراط الخيار الذي قد عرفت فساده أو إلى اشتراط كون سلطنة السبب الذي
هو المشهور إليه، ونحو ذلك مما تسمعه في اشتراط الادخال والنقل، اللهم إلا أن يدعى
صلاحية الإرادة وصفا للموقوف عليه، ولكنه كما ترى.
بل قد يشكل ذلك بما ذكره المصنف (و) غيره من أنه (لو شرط ادخال من
يريد مع الموقوف عليهم جاز سواء وقف على أولاده أو على غيرهم) معللين له بأن هذا
الشرط لا ينافي مقتضى الوقف، فإن بناءه على جواز ادخال من سيوجد أو سيولد مع
الموجود، واشتراط ادخال من يريد ادخاله في معناه، بل أضعف منه لأنه قد يريد،
فيكون في معنى اشتراط دخوله، وقد لا يريد فيبقى الوقف على أصله، فإذا جاز الأول،
اتفاقا جاز الآخر كذلك، أو بطريق أولى.
وما يقال: - من أن ذلك يقتضي نقصان حصة الموقوف عليه فيكون ابطالا للوقف
في ذلك البعض -.
يدفعه أولا: أنه وارد في ادخال كل معدوم تابعا للموجود.
وثانيا: أن العقد لما تضمن الشرط لم يكن للموقوف عليه حق إلا ما كان مطابقا له
فلا يعتبر.
وثالثا: أن الوقف حق لازم في حق الموقوف عليه في الجملة، وإنما المختلف
الحصة، وذلك غير قادح، كما لو وقف على بطون فزادت تارة، ونقصت أخرى، ضرورة أن
ذلك كله مبني على صلاحية الإرادة وصفا لدخول الموقوف عليه كالوجود والعلم و
76

نحوهما، فإذا جاز ذلك جاز جعلها وصفا للخروج منهم، كباقي الأوصاف التي يقتضي
زوالها ذلك.
أما لو فرض إرادة اشتراط سلطنة الاخراج والادخال إليه، على وجه يكون أصل
الوقف بيده دخولا وخروجا، فالمتجه البطلان فيهما، لرجوعه إلى اشتراط كون أصل
السببية بيده، والفرض أن ذلك أمر شرعي لا يرجع إليه.
ولعله لذا أبطله بهما في ظاهر الدروس كما حكاه عنه في جامع المقاصد وغيره قال
فيها: " وليس له ادخال غيرهم معهم، وإن كانوا أطفاله على الأصح، ولا اخراج من
يريده ولو شرطه في العقد بطل وفي محكي المبسوط ولو شرط أن يخرج من شاء منهم،
ويدخل في ذلك من شاء، وأن يفضل بعضهم على بعض إن شاء، أو يسوي بينهم إن
شاء كان ذلك كله باطلا، لأنه شرط التصرف فيما هو ملك لغيره، بلا خلاف، وقد روى:
أصحابنا أنه يجوز أن يدخل فيهم غيرهم، وأما الاخراج والنقل فلا خلاف عندنا أيضا في
عدم جوازه ".
ومن ذلك يظهر ذلك ما في جامع المقاصد فإنه بعد أن حكى عن ظاهر الدروس
ما عرفت قال: وهو بعيد، لعدم المنافاة، وعموم قوله (1) " الوقوف " فالأصح الصحة إذ قد
عرفت أن المتجه الصحة مع جعل الإرادة وصفا للدخول والخروج، فيدخل ويخرج
من اتصف بها من غير ادخال واخراج منه، كما أن المتجه عدمها مع اشتراط الادخال
والاخراج، بمعنى جعل السلطنة إليه في الادخال والاخراج.
بل وكذا يظهر لك النظر فيما في المتن، وغيره من الفرق بينهما في الحكم،
اللهم إلا أن ينزل على ما ذكرناه ولكنه بعيد، ضرورة ظهورها في الفرق بين الادخال
والاخراج، فلا يصح شرط الأول بخلاف الثاني.
وقد عرفت تحقيق الحال الذي عليه أو على ما لا ينافيه ينزل خبر أبي طاهر
البلالي المروي عن اكمال الدين (2) قال: كتب جعفر بن حمدان " استحللت بجارية إلى

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 1 - 2
(2) الوسائل الباب - 5 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 4
77

أن قال: " ولي ضيعة قد كنت قبل أن تصير إلى هذه المرأة سبلتها على وصاياي وعلى
سائر ولدي على أن الأمر في الزيادة والنقصان فيه إلى أيام حياتي وقد أتت بهذا الولد
فلم ألحقه بالوقف المتقدم المؤبد، وأوصيت إن حدث بي حدث الموت أن يجري عليه
ما دام صغيرا، فإن كبر أعطى من هذه الضيعة جملة مأتي دينار غير مؤبد، ولا يكون له
ولا لعقبه بعد اعطائه ذلك في الوقف شئ، فرأيك أعزك الله تعالى، فورد جوابها يعني
من صاحب الزمان، أما الرجل الذي استحل بالجارية " إلى أن قال: " وأما اعطاؤه،
المأتي دينار واخراجه من الوقف، فالمال ماله، فعل فيه ما أراد.
(و) كيف كان فهذا كله في الشرط على النحو المزبور و (أما لو شرط نقله عن
الموقوف عليهم إلى من سيوجد لم يجز وبطل الوقف) في المشهور بل قد سمعت نفي
الخلاف عنه في محكي المبسوط، بل قيل: إن ظاهره إرادة نفيه بين المسلمين، لكن
في القواعد على اشكال، بل في الدروس الأقرب جوازه، وفي محكي التذكرة لو قال: هذا
وقف على أولادي سنة ثم على المساكين صح اجماعا.
وفيه أيضا لو قال هذا وقف على أولادي مدة حياتي ثم بعد مماتي للمساكين صح
اجماعا، لكن في المقام أفتى بالبطلان كالمشهور.
ولعله من التأمل فيما ذكرناه يعلم تحقيق الحال هنا، فيحكم بالبطلان على
إرادة النقل منه، لرجوعه إلى اشتراط ما هو المشهور والصحة على إرادة الانتقال على
حسب باقي العنوانات في الوقف، بمعنى أنه وقف على هؤلاء مثلا ما دام خاليا عن
الولد، وإلا كان الوقف عليه، ثم منه على المساكين مثلا، فإن خروج من خرج حينئذ
لفوات عنوان الموقوف عليهم، كالفقر والعلم ونحوهما، فيشمله (1) " الوقوف على حسب "
إلى آخره وغيره.
ولعله إلى ذلك أومئ في جامع المقاصد فإنه بعد أن حكم بالبطلان قال: و
يمكن الفرق بين ما هنا وبين إناطة الوقف بصفة في الموقوف عليه، مثل فقراء أولاده، و
فقهائهم، بأن الوقف في الثاني لم يكن على الأولاد، بل على الفقراء منهم، فإذا أزال

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 1 - 2.
78

الفقر ينتفي الموقوف عليهم، فكان ذلك جاريا مجرى موتهم وعدمهم، بخلاف ما إذا
ثبت الوقف لهم وشرط نقله عنهم، فإن ذلك ابطال للوقف باختياره ".
وقال أيضا في شرح قول الفاضل متصلا بمسألتنا السابقة " وكذا الاشكال لو قال
على أصاغر أولادي سنة ثم على الفقراء، منشأ الاشكال هنا قريب من الذي قبله، إلى
أن قال: واعلم أن بين هذه المسألة والتي قبلها فرقا، من حيث أنه في تلك شرط
نقله عن الموقوف عليهم إلى من سيوجد، وفي هذه وقفه على أولاده سنة ثم بعد
مضيها هو وقف على المساكين، فينتقل إليهم هو، من غير أن ينقله هو " وهو ظاهر أو -
صريح في أن موضوع البطلان ما فرضناه، لا ما حكمنا بصحته.
أو يقال: إن المدار في الصحة والبطلان في هذه المسائل كلهما ملاحظة معنى
العنوانية، سواء كانت لوصف في الموقوف عليه، أو في الواقف، أو في غيرهما فيصح لعموم
" الوقوف " (1) وغيره وملاحظة معنى الشرطية التي تقتضي تعليقا في السبب أو ابطالا لما
هو ثابت في الشرع أو اثباتا لما هو للشارع لا له أو نحو ذلك، فيبطل فتأمل جيدا، فإن
في كلامهم تشويشا حتى الرياض، فإنه بعد الاغضاء عما حكاه فيه عن التذكرة وعما ذكره
من غير ذلك.
قال: " والتحقيق أن يقال: إن هنا اجماعين متصادمين بحسب المرجحات، فلا
يمكن التمسك بأحدهما، فيبقى الرجوع إلى حكم الأصل، وهو عدم الصحة، واثباتها
بالعمومات غير ممكن، بعد فرض سقوطها، كالشهرة المرجحين للاجماعين في البين،
كنفس الاجماعين، مضافا إلى ما عرفت من وهن الاجماع الثاني، فإذا المذهب مختار
الأكثر، وإن كان الصحة في الجملة أحوط ".
إذ هو كما ترى من غرائب الكلام، بعد ما عرفت من أن موضوع اجماع التذكرة من انتقال
الوقف، غير موضوع اجماع الشيخ الذي هو النقل، ومن هنا قد سمعت أن المحكي عنه هنا
البطلان، مع دعواه الاجماعين المزبورين.
بل ويظهر لك ما في المسالك، بل وما في جامع المقاصد فضلا عن غيرهما من الكتب

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 1 - 2
79

فلاحظ وتأمل كي تعرف الحال في المسائل الثلاثة، وأن المدار في البطلان فيها أجمع
على اشتراط الادخال والاخراج والنقل، وفي الصحة على اشتراط الدخول والخروج و
الانتقال، وفي معقد اجماع التذكرة وغير ذلك من مسألة الوقف على الأولاد سنة، ثم
على الفقراء وغيرها والله العالم.
(و) على كل حال فقد (قيل) والقائل الشيخ في النهاية (إذا وقف على
أولاده الأصاغر، جاز له أن يشرك معهم) من يتجدد له من الأولاد (وإن لم
يشترط) ووافقه على ذلك القاضي، ولكن بشرط عدم تصريحه بإرادة الاختصاص، و
لعل ذلك مراد الشيخ أيضا.
(و) كيف كان فهو (ليس بمعتمد) لمنافاته قاعدة الأسباب وما استفاضت
به النصوص (1) من عدم جواز الرجوع فيما كان لله، إذ التشريك فيه رجوع عما فعله أولا، و
لغير ذلك، ولذا أعرض المشهور عنه، بل لم أجد من وافقهما عليه كما اعترف به غير واحد، فإن
احتج لهما بصدر صحيح ابن يقطين (2) " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يتصدق على
بعض ولده بطرف من ماله، ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده، قال:
لا بأس بذلك، وعن الرجل يتصدق ببعض ماله على بعض ولده ويبينه لهم، أله أن -
يدخل معهم من ولده غيرهم بعد أن أبانهم بصدقة؟ قال: ليس له ذلك، إلا أن
يشترط أنه من ولد له فهو مثل من تصدق عليه فذلك له ".
وخبر سهل (3) " سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الرجل يتصدق على بعض ولده
بطرف من ماله، ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده، قال: لا بأس به ".
وصحيح ابن الحجاج (4) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في الرجل يجعل لولده شيئا
وهم صغار ثم يبدو له أن يجعل معهم غيرهم من ولده، قال: لا بأس ".
وخبر علي بن جعفر (5) عن أخيه (عليه السلام) المروي عن قرب الإسناد " سألته عن رجل
تصدق على ولده بصدقة ثم بدا له أن يدخل غيره فيه مع ولده، أيصلح ذلك؟ قال:
نعم يصنع الوالد بمال ولده ما أحب، والهبة من والد بمنزلة الصدقة من غيره " فإن

(1) الوسائل الباب - 1 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث 2
(2) الوسائل الباب - 13 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث - 1 - 2 - 3 - 5.
(3) الوسائل الباب - 13 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث - 1 - 2 - 3 - 5.
(4) الوسائل الباب - 13 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث - 1 - 2 - 3 - 5.
(5) الوسائل الباب - 13 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث - 1 - 2 - 3 - 5.
80

الجميع - بعد الاغضاء عما في السند مع عدم الجابر، وعما في المتن من أنها غير مختصة
بدعوى القائل من تشريك خصوص من يتجدد له من الأولاد، واحتمال الصدقة والجعل
غير الوقف أو إرادة الصدقة والعزم عليها - من المطلق الذي يجب حمله على المقيد
الذي في خبر ابن يقطين، بل هو كالصريح في ذلك، ضرورة عدم الفرق بين سؤاليه حتى
أجاب الأول منهما بنفي البأس، والثاني بعدم الجواز إلا بالتقييد المزبور، بل منه يظهر
أن الاطلاق في مثل هذا السؤال منصرف إلى فاقد القيد، المراد منه عدم الاقباض
أو عدم بيان المتصدق به، وإن كان عازما عليه.
وعلى كل حال يكون خارجا عن المفروض الذي هو التشريك في الوقف، بعد وقوعه
وجمعه لجميع شرايط الصحة واللزوم، وتجرده عن اشتراط الشركة بالإرادة.
ومن الغريب ما في المسالك من الميل إلى قول القاضي حيث قال بعد ذكر النصوص
" ويمكن التوفيق بين النصوص بأمرين أحدهما - أن يكون في الثاني قد شرط قصره على
الأولين كما يشعر به قوله " بعد أن أبانهم بصدقة " ويحمل الأول على ما لم يشترط ذلك على
ما يدل عليه اطلاقه، فيكون ذلك كقول القاضي، والثاني حمل النفي في الثاني على
الكراهة جمعا، وكلاهما متجه إلا أن الأول من التأويلين أوجه ".
إذ هو كما ترى مناف للاستثناء الظاهر في الاتصال في الخبر المزبور، وبعيد عن
لفظ الإبانة أو التبيين، فلا ريب في أن الجمع بينهما بما ذكرناه، وخبر قرب الإسناد (1) إنما
هو على مذاق غيره من النصوص الدالة على ثبوت السلطنة للوالد على مال ولده، نحو (2)
" أنت ومالك لأبيك " المحمولة على رجحان عدم معارضة الولد للوالد فيما أحبه لو كان
بالغا، وعلى ثبوت الولاية له على ماله على حسب الوجه الشرعي، فلا بد من حمل
الصدقة فيه على ما يقبل التشريك الحاصل من الوالد، ولو بسبب جديد حتى في الوقف
بالنظر إلى التشريك معه في المنفعة بصلح ونحوه.
فظهر لك من هذا كله أن الوقف متى تم لم يجز له حينئذ تغييره بادخال أو اخراج

(1) الوسائل الباب - 5 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 5.
(2) الوسائل الباب - 78 - من أبواب ما يكتسب به الحديث - 2 و 8 و 9.
81

أو نقل إلا مع الشرط الذي ذكرناه، لكن في المقنعة " لو حدث في الموقوف عليهم حدث
يمنع الشرع عن معونته والصدقة عليه، والتقرب إلى الله تعالى بصلته جاز التغيير فإن
الوقف صدقة، فلا يستحقه من لا يستحقها، فإذا حدث في الموقوف عليه كفر أو فسق بحيث
يستعان بذلك المال عليهما جاز حينئذ للواقف التغيير والادخال ".
ونفى عنه البعد في المختلف قال: " وإن منعه الحلي وغيره " ثم قال " وهذا مع
حدوث المانع، أما لو كان حاصلا حال الوقف فلا.
وهو كما ترى لا يخفى عليك ما فيه إذا لم يكن ذلك على جهة تغيير العنوان، ضرورة
معلومية اللزوم في عقد الوقف، ولا دليل على جواز نقضه وتغييره بحدوث الحادث المزبور
في الموقوف عليه الذي صار الموقوف بسبب الوقف كساير أمواله، اللهم إلا أن يدعى أن الوقف
لما كانت صدقة جارية اعتبر في استدامته ما اعتبر في ابتدائه من كان الموقوف عليه محلا
للصدقة، ولكن هي أيضا كما ترى.
ومما ذكرنا ظهر لك جواز كل شرط سائغ في الوقف، حتى أنه لو شرط أن يؤجر من
ضعيف أو مما طل أو لا يؤجر أزيد من عام مثلا أو لا يوقع عليه عقدا حتى ينقضي مدة الأول،
أو لا يسلم حتى يقبض الأجرة ونحو ذلك.
نعم لو شرط أن له كلما شرط الواقفون في وقفهم أو سيشترطونه، ففي الدروس " بطل
للجهالة " وعن بعض العلماء جوازه، وكأنه يحمله على الشروط السائغة بأسرها، ولو
أنه صرح بذلك فالظاهر البطلان لعدم انحصارها.
قلت: قد يقال: إنه لم يثبت البطلان بعدم الانصحار هنا بعد فرض تناول عموم
" الوقوف " " والمؤمنون " له والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (القبض معتبر) في الصحة أو اللزوم (في الموقوف عليهم
أولا) وإن شاركهم في طبقتهم من يتجدد من المعدومين (ويسقط اعتبار) غير
(ذلك) من القبض (في بقية الطبقات).
بلا خلاف أجده فيه، بل يمكن تحصيل الاجماع عليه، بل قد تشعر به عبارة بعضهم
في باقي الطبقات، لعموم الأدلة واطلاقها التي اقتصر في الخروج عنهما على هذا المقدار
82

من القبض، دون غيره الذي يمكن دعوى القطع بعدم اعتباره، وهذا هو العمدة لا ما
ذكروه - من أنهم يتلقون الملك عن الأول، وقد تحقق الوقف ولزم بقبضه، فلو اشترط
قبض الثاني لانقلب العقد اللازم جايزا بغير دليل، وهو باطل -.
إذ هو كما ترى، ضرورة أن التلقي من الواقف، وخصوصا مع شركة المعدوم معهم في
طبقتهم، فمع فرض عموم دليل القبض وعدم حصوله من الحاكم الذي هو ولي البطون،
لا مانع من صيرورة العقد لازما في حق من قبض، دون غيره ممن فقد الشرط، وليس ذلك
انقلابا للعقد، ولا تبعيضا ممنوعا، بل أقصاه أنه يكون منقطعا مع فرض الفسخ قبل قبض
الطبقة الثانية أو عدم قبضهم، والممنوع إنما هو انقلابه جايزا في حق من لزم في حقه
بلا دليل، كما هو واضح والأمر سهل بعد معلومية الحال.
(ولو وقف على الفقراء أو على الفقهاء) أو نحو ذلك ممن لا يمكن حصول القبض
منهم أجمع، (فلا بد) بعد فرض تناول دليل اعتبار القبض لذلك (من) قبض الحاكم
الذي هو الولي العام أو (نصب قيم) من (لقبض الوقف) ولا يكفي قبض بعض
المستحقين فإنه ليس هو الموقوف عليه بل الجنس الذي لا يتحقق القبض بالنسبة إليه
إلا بقبض جميع أفراده أو الولي العام دون بعض أفراده.
ومن هنا كان قبض الحاكم للزكاة قبضا للفقراء أجمع وموجبا لبراءة ذمة الدافع
وكان له الصلح عنها بخلاف قبض بعض مستحقيها فإنه لا يكون قبضا لها عن الجميع، و
إنما له قبض ما يخصه الدافع به، باعتبار كونه مصرفا من مصارفها، كما هو واضح، هذا.
ولكن في الدروس والمسالك والروضة والكفاية والمفاتيح أن للواقف نصب قيم
لذلك، بل في الثاني منها خصوصا مع فقد الحاكم ومنصوبه، ومحل نصبه قبل ايقاع الصيغة
إن اعتبرنا فوريته، وإلا فقبله أو بعده.
وفيه أنه لا دليل على أن له هذه الوظيفة باعتبار كونه واقفا. نعم له اشتراط
الناظر على وقفه في عقد وقفه، لعموم (1) " المؤمنون عند شروطهم " وهو غير قابض الوقف و

(1) الوسائل الباب - 20 - من أبواب المهور الحديث - 4.
83

ربما استدل له بما في صحيح صفوان (1) السابق في مبحث القبض " إن كان أوقفها لولده و
لغيرهم، ثم جعل لها قيما، لم يكن له أن يرجع فيها " إلى آخره.
وبما في التوقيع السابق (2) فإن ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها،
ولا يجوز لغيره، إلا أن الثاني منهما إنما هو في الناظر، ضرورة كون الوقف فيه خاصا عليه،
فلا يراد من القيم فيها إلا الناظر في عمارتها، وأداء خراجها ومؤنتها وايصال ما بقي
من دخلها إليه، وأما الأول منهما - فهو مع أن من الموقوف عليه ولده، ولم يتعرض فيه
لقبضهم أو للقبض عنهم، والقيم لا يجدي بالنسبة إليهم - ظاهر في الاكتفاء في مثل
هذا الوقف بذلك، ولا يحتاج إلى قبض، ولا دلالة فيه على ما ذكروه من النصب المزبور
قبل الوقف أو بعده.
بل لعل التزام ذلك أولى منه، بدعوى أنه لا دليل على اعتبار القبض في مثل
الفرض، لاختصاص أدلته بما لا يشمله، فاطلاق الأدلة وعمومها بحاله بالنسبة إلى نفي
شرطيته فيه، وحينئذ فما ذكروه لا يخلو من اشكال، خصوصا بعد اعترافهم بأن المراد مما
أطلقه المصنف وغيره من النصب، الحاكم، لا ما يشمل ذلك.
(ولو كان الوقف على مصلحة) كالقنطرة والمسجد ونحوهما (كفى ايقاع الوقف
عن اشتراط القبول) عند المصنف وجماعة، بل في المسالك أن وجهه ظاهر، لأن القبول
يكون من الموقوف عليه، وقد عرفت أن الموقوف عليه في مثل ذلك هو الجهة، ولا يعقل
اعتبار قبولها، بخلاف ما لو كان الوقف على معين، فإن قبوله ممكن.
وإن كان لا يخفى عليك ما فيه، ضرورة كون القبول جزء من الوقف الذي قد عرفت
الاجماع على أنه من العقود، فهو أولى من القبض الذي هو شرط على فرض اعتباره، و
تكلفوا حصوله بقبض الناظر والحاكم وغيرهما، وقد مر تحقيق المسألة، وقلنا الظاهر
وحدة سببية الوقف، لا أنه عقد في المعين، وايقاع في غيره، وقد استظهرنا كونه عقدا في
الجميع، فلا بد من القبول من الحاكم أو منصوبه في المفروض، فضلا عن سابقه.

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب الوقوف الحديث 4
(2) الوسائل الباب - 4 - من أبواب الوقوف الحديث 8.
84

إنما الكلام في قول المصنف ومن تأخر عنه هنا، (وكان القبض إلى الناظر في تلك
المصلحة) الذي هو مبني على اعتبار القبض في الوقف مطلقا، حتى أنه في المسالك
نفى الريب عنه، كما أن فيها وفي غيرها أيضا أنه إن كان لتلك المصلحة ناظر شرعي من قبل
الواقف تولى القبض من غير اشتراط مراجعة الحاكم، لأن الناظر مقدم عليه، فإن لم يكن
لها ناظر خاص فالقبض إلى الحاكم.
وإن كان قد يناقش بأن لا دليل على اقتضاء نظارته المستفادة من عموم " المؤمنون "
ثبوت ولاية له على وجه يكون قبضه لما يوقف على الصرف فيها قبضا عن الموقوف عليه،
اللهم إلا أن يقال: إن مشروعية نظارته تقتضي ذلك، أو يقال: إن الوقف إنما هو على
المصلحة التي تحقق ولايته عليها باشتراط النظارة فيها، فيكون وليا لها بالنسبة
إلى ذلك.
لكن فيه ما عرفت من أن الوقف في ذلك على المسلمين وإن صرف في المصلحة
الخاصة لهم، لعدم قابلية الجهة للوقف عليها، وحينئذ فاشتراط نظارته فيها لا تقتضي
الولاية على المسلمين على وجه يقوم قبضه ما يوقف لإرادة تعميرها ونحوه مقام قبضهم،
فضلا عن أن يكون هو مقدما على الحاكم الذي هو الولي العام، ولعله لذا وغيره عبر في
الرياض عن هذا الحكم بلفظ قالوا مشعرا بعدم الاذعان به.
(ولو وقف مسجدا صح الوقف، ولو صلى فيه واحد) بإذنه بنية أنه قبض له، بل
حتى لو كان هو الواحد، (وكذا لو وقف مقبرة تصير وقفا بالدفن فيها ولو واحدا) كذلك
لتحقق القبض حينئذ بذلك، ولعل دليله ما يقال: من الاجماع المستفاد من الإيضاح،
وجامع المقاصد، وإن كنا لم نتحققه.
نعم ذكره غير واحد من الأصحاب ذكر المسلمات، فإن تم إجماعا وإلا فلا يخفى
ما فيه من الاشكال، ضرورة أنه لا ولاية للفاعل على جميع الموقوف عليهم، حتى يكون
القبض منه بالفعل المزبور قبضا عنهم، على أنه لم يعتبر أحد منهم في القبض وغيرهما
انتفاع القابض بالموقوف فيما وقفه عليه واقفه، وإلا لاكتفى به في باقي الأوقاف العامة
التي قد عرفت أنه لا بد من نصب قيم فيها، ودعوى الفرق بينهما - بأن الوقف فيها
85

على الجهة، فيكفي قبض واحد من عباد الله بخلاف غيرها من الوقف على الفقراء ونحوهم
كما ترى لا تستأهل ردا، ضرورة أن الوقف هنا على المسلمين أو أخص منهم، كما في المقبرة
الخاصة، مع أن الفعل المزبور فرع حصول الوقف لا أنه به يتم الوقف وخصوصا في أمثال
ذلك من المصالح العامة التي مرجعها للمسلمين بل إن أريد حصر قبضها لمثل ذلك
على وجه لا يجزي غيرها ازداد اشكالا، لمخالفته لعموم ولاية الحاكم المقتضي للاكتفاء
بحصول القبض منه، ومن منصوبه بالاستيلاء عليه بإذن الواقف، كغيره من الموقوفات
من غير حاجة إلى صلاة أو دفن.
ولذا صرح الفاضل في القواعد والمحقق الثاني في جامعه والشهيد الأول في
دروسه، والثاني في مسالكه بالاكتفاء به، كما هو المحكي عن الايضاحين والتنقيح والكفاية
والمفاتيح، إلا أن الجميع ذكروا ذلك بلفظ الأقرب والأقوى ونحوهما، مشعرين
باحتمال العدم، كما صرح به في جامع المقاصد قال: لعدم النص، وظاهره وجوده في
الأول، لكن لم نعثر عليه.
وعلى كل حال فقد قيده غير واحد بوقوع ذلك بإذن الواقف ليتحقق الاقباض
الذي هو شرط صحة القبض، وبوقوعهما بنية القبض أيضا فلو أوقعاه لا بنيته كما لو وقع
قبل العلم بالوقف أو بعده قبل الإذن في الصلاة أو بعدها لا يقصد القبض أما لذهوله
عنه، أو لغير ذلك لم يعتبر، وهو مؤكد لما قلناه هناك في القبض.
لكن في جامع المقاصد وتبعه غيره " وإنما اختص هذا الوقف بنية القبض ولم
يشترط في مطلقه، لأن المقصود هنا صرفه إلى الجهة الموقوف عليها، وقبض بعض
المستحقين كقبض الأجنبي بالنسبة إلى قبض الموقوف عليه، فلا بد من نية صادقة له
إلى الوقف، بخلاف الوقف على معين، فإن قبضه متحقق لنفسه، والمطلوب صرفه إليه
وهو حاصل، فلا حاجة إلى قصد بعينه " ومن الفرق يظهر أن القابض لو كان وكيلا عن
الموقوف عليه اعتبر قصده القبض عن الغير، وكذا لو وقف الأب والجد ما بيدهما على
المولى عليه اعتبر قبضهما عن الطفل، ولا يكفي استصحاب يدهما، لأن القبض السابق
محسوب لنفسه لا لغيره.
86

ولا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه سابقا ما في هذا الكلام، بعد معلومية كون
القبض يقع على وجوه متعددة، فلا بد من تشخيصه بالقصد، وإن كان الوقف على معين
سواء كان في يده المال بعارية ونحوها أو لم يكن، فلا يكفي فاقد القصد فضلا عن المقصود
به عدم قبض الوقف كما هو واضح مع أنه قد يقال في المقام الذي فرض دليله اطلاق
الأصحاب ذلك، الاكتفاء بذلك كيف كان، للاطلاق المزبور، اللهم إلا أن يقال: بانسياق
المقصود من القبض منه دون الأعم، ومثله آت في الوقف على المعين مع فرض وجود اطلاق
يقتضي الاكتفاء به، وإلا فقد عرفت أن ظاهر الأدلة القبض المقصود به قبض وقف كما
عرفت الكلام فيه مفصلا، وكذا المنساق بعد انحصار الدليل في الاطلاق المزبور الوقوع
على الوجه الشرعي، وكون المدفون من جملة الموقوف عليهم، كالمسلم فيما يوقف على
المسلمين، وفي حكمه من يتبعه من طفل أو مجنون، بل والمسبي في وجه قوي كما صرح
بذلك كله بعضهم، وإن كان لا يخلو من نظر في بعض الأفراد التي يمكن دعوى تحقق
صدق القبض فيها كالدفن الذي لم يمنع الرائحة مثلا.
(ولو صرف الناس في الصلاة في المسجد أو في الدفن ولم يلفظ ب‍) صيغة
(الوقف، لم يخرج عن ملكه) بلا خلاف أجده فيه هنا (وكذا لو تلفظ بالعقد ولم يقبضه)
بل في المسالك هذا موضع وفاق، وإنما نبه به على خلاف أبي حنيفة حيث جعل الوقف
متحققا بالإذن مع الصلاة وبالدفن كذلك محتجا بالعرف، وقياسا على تقديم الطعام
للضيف، والعرف ممنوع، والفرق ظاهر.
قلت: لكن قد ذكرنا في أحكام المساجد أنه قال في المبسوط: " إذا بنى مسجدا
خارج داره في ملكه، فإن نوى به أن يكون مسجدا يصلي فيه كل ما أراده، زال ملكه، و
إن لم ينو ذلك فملكه باق عليه، سواء صلى فيه أو لم يصل " وقال في الذكرى: " ظاهره
الاكتفاء بالنية، وليس في كلامه دلالة على التلفظ، ولعله الأقرب " ونحوه في الدروس،
ومحكي مجمع البرهان وقلنا هناك، إن دليلهم دعوى السيرة من المسلمين على ذلك،
وهي ممنوعة، وعن جامع المقاصد أن في النفس من ذلك شيئا، لأن الحال فيه كالحال
في غيره من العقود مثل النكاح.
87

قلت: هو حينئذ كالنكاح من العقود الخاصة مما شرعت المعاطاة فيه بالسيرة
القطعية عند القائل بها كما نقحناه في محله إلا أنها لما كانت مفقودة في مثل المساجد
ونحوها فضلا عن غيره من الأوقات الخاصة قلنا: أنه كالنكاح لا يجري فيه إلا العقد، و
لا تشرع فيه المعاطاة وإن حكى عن بعض المعاصرين المتأخرين توهم ذلك، إلا أنه
كما ترى.
(النظر الثالث في اللواحق)
(وفيه مسائل: الأولى:
الاولى: الوقف) اذا تم زال عن ملك الواقف عند الأكثر، بل
عن المشهور بل في محكي الغنية والسرائر الاجماع عليه، وهو الحجة على ما تفرد به
أبو الصلاح في ظاهر المحكي من كافيه من البقاء على ملك الواقف، مضافا إلى امكان دعوى
القطع به من النصوص التي ستسمع بعضها في اثبات انتقاله إلى الموقوف عليه ومضافا
إلى دعوى كون ذلك هو المراد من انشائه الذي شرع الشارع المعنى المتعارف فيه
على نحو شرعه باقي العقود، وإن جعل لها شرائط صحة ولزوم، خصوصا بعد ملاحظة
كونه قسما من الصدقات.
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) " حبس الأصل وسبل الثمرة " لا دلالة فيه على ما ينافي ذلك، ضرورة،
امكان إرادة يقاء الأصل محبوسا ولو على ملك الموقوف عليه، بحيث لا يباع ولا يوهب ولا
يورث إذ الحبس فيه مقابل تسبيل الثمرة، لا الحبس الذي هو العقد المقتضي بقاء ملك
العين للمالك، إذ هو قسيم الوقف، لا نفسه، وجواز ادخال من يريد فيه - مع صغر الأولاد
وإن لم يشترط - قد عرفت منعه عندنا، مع أنه لا يدل على ذلك، ضرورة إمكان كونه
لدليل شرعي، وهو النصوص السابقة، وإلا فلا اشكال في كون الثمرة للموقوف عليه فتكفي
حينئذ في المنع عن التشريك المزبور كما هو واضح، فما عن بعض العامة - من بقائه على
ملك الواقف ذلك وللأصل المقطوع بما عرفت واضح الفساد.
بل الأقوى ما أطلقه المصنف من أنه (ينتقل إلى ملك الموقوف عليه) كما عن
المبسوط وفقه القرآن والغنية والسرائر والتذكرة والإرشاد وشرحه لولده وجامع الشرايع

(1) المستدرك ج 2 ص 511.
88

والتحرير والمختلف، سواء كان على معين أو غير معين أو جهة عامة حتى المسجد و
المقبرة التي وقف على المسلمين مثلا، بل في المسالك نسبة ما في المتن إلى الأكثر
وعن غيرها إلى المشهور (لأن فائدة الملك) باستحقاق النماء والضمان بالتلف
ونحوهما (موجودة فيه).
ونقض ذلك بضمان بواري المسجد وآلاته مع أنها ليست مالا - يدفعه منع عدم
كونها مالا، وإلا لم تضمن، ضرورة اقتضاء اعتبار المالية في الضمان المستفاد من قوله
(عليه السلام) (1) " من أتلف مال غيره " ونحوه فيتعين حينئذ ضمانها للمسلمين الذين هم الموقوف
عليهم، كباقي أموالهم من أرض الخراج وغيره، لعلو رتبة مالك السماوات والأرض عن
التشبيه، بملك الآدميين، وما كان له ذلك فهو لوليه، كما في الأنفال، ومن المعلوم
عدم كون المقام منها.
وعلى كل حال فلا محيص عن القول بالملك للموقوف عليه، (والمنع من البيع
لا ينافيه كما في أم الولد و) غيره مع أنه (قد يصح بيعه على وجه) من الوجوه عند
كثير من الأصحاب، ولما سمعته سابقا من أن كل وقف لا بد له من موقوف عليه، بل هو
من أركانه، وأن الوقف على الجهات في الحقيقة على المسلمين، والمراد بالموقوف
عليه هو الذي يتصدق عليه بعين الموقوف ومنفعته، كما هو صريح ما ورد عنهم (عليهم السلام)
في صدقاتهم.
ففي صدقة الكاظم (عليه السلام) (2) هذا ما تصدق به موسى بن جعفر (عليه السلام) تصدق بأرضه،
بمكان كذا وكذا وحد الأرض كذا وكذا كلها ونخلها وأرضها وبياضها ومائها وأرجائها
وحقوقها وشربها من الماء وكل حق قليل أو كثير هو لها في مرفع أو مظهر أو مفيض أو مرفق
أو ساحة أو شعبة أو مشعب أو مسيل أو عامر أو غامر، تصدق بجميع حقه من ذلك على
ولده من صلبه الرجال أو النساء " إلى آخره.
بل هو المستفاد من قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لما جائه البشير بعين ينبع (3) فقال:

(1) قاعدة مستفادة من مضامين الأخبار.
(2) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 5. مع اختلاف يسير.
(3) الوسائل الباب - 6 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 2.
89

بشر الوارث هي صدقة بتا بتلا في حجيج بيت الله تعالى وعابر سبيل الله لا تباع ولا
توهب ولا تورث فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل
الله منه صرفا ولا عدلا " فإن المراد بالوارث الموقوف عليه كما أن المراد من قوله (عليه السلام)
" بتة بتلاء " بائنة منقطعة عن صاحبها، بل لعل قوله لاتباع ولا توهب يومي إلى إرادة
الصدقة بها عينا ومنفعة على الموقوف عليه، إلا أن الصدقة بالعين ليس على حد غيرها
من الصدقة التي تباع وتوهب بل هي له على إرادة ملك نحلتها مثلا ملكا مطلقا، على
أنه لا إشكال في أن أمثال هذه العيون والبساتين والدور والعبيد أموال تضمن
بالتلف، وليس في الشرع مال بلا مالك، والفرض خروج الواقف بوقفه عنه، فليس إلا الموقوف
عليه الذي قصد التصدق به عليه، ودعوى كونه لله واضحة الفساد، ضرورة أن المتصدق
قصد بصدقته خصوص الموقوف عليه، ومقتضى شرعية ذلك ترتب ما قصده عليه لا غيره، على
أن رب العزة تعالى عن شبه ملك الآدميين، وإنما هو مالك السماوات والأرضين وما
نحن فيه من الملك المالي المختص بالآدميين، وملكه بالمعنى المزبور إنما هو لوليه كما
في النص، والتزام ذلك هنا معلوم الفساد، ضرورة عدم كون العين الموقوفة من الأنفال
التي هي للإمام (عليه السلام) بحق الإمامة، كما هو المعلوم من حصرها بغير المقام كما هو
واضح.
وبذلك كله ظهر لك وجه الدليل في المسألة، لا ما يذكر في جامع المقاصد والمسالك
وغيرهما مما هو واضح الضعف، ومن الغريب مع اعتراف بعضهم بضعف ما ذكروه دليلا
قال: الأقوى الانتقال إليه، لكنه إنما يتم في الموقوف عليه المعين، أما لو كان على جهة
عامة أو مسجد ونحوه فالأقوى أن الملك فيه لله تعالى شأنه، لتساوي نسبة كل واحد من
المستحقين إليه واستحالة ملك كل واحد أو واحد معين أو غير معين، للاجماع واستحالة
الترجيح ولا المجموع من حيث هو مجموع، لاختصاص الحاضر به.
وكأنه تبع بذلك الفاضل في قواعده حيث أنه بعد أن جزم بزوال الوقف عن مالكه
قال: " ثم إن كان مسجدا فهو فك ملك، كالتحرير، وإن كان على معين فالأقرب أنه
يملكه، وإن كان على جهة عامة فالأقرب أن الملك لله تعالى " وإن كان مخالفا له في
90

المسجد ونحوه.
وفيه أولا: مضافا إلى ما عرفت امكان دعوى الاجماع منا على الانتقال إلى الموقوف
عليه، خصوصا في المعين، وإن أرسل في محكي المبسوط والسرائر قولا بالانتقال إلى
الله تعالى إلا أن الظاهر كونه للعامة كما لا يخفى على المتتبع، بل قيل: ظاهر
التذكرة أو صريحها أن الخلاف بين الخاصة والعامة - في أنه هل ينتقل إلى الموقوف
عليه أو إلى الله سبحانه وتعالى - إنما هو فيما إذا وقف على معين أو جهة عامة.
وثانيا: امكان دعوى القطع باتحاد كيفية سببية الوقف، وأن مقتضاه مقتضى واحد
سواء كان متعلقه عاما أو خاصا ولا اشكال في اقتضائه الانتقال إلى المعين، فيثبت في
غيره أيضا مطلقا، إذ كل وقف لا بد له من موقوف عليه كما عرفته في محله
وثالثا: قد ذكرنا غير مرة أن نسبة الملك إلى الكلي كنسبة المملوكية له ثابتة في
الشرع، ولا محيص عن القول بها في مثل الزكاة والخمس والأرض المفتوحة عنوة والوصية
والنذور؟ وغيرها، فما ندري ما السبب الذي دعاهم إلى هذه التكلفات والتجشمات
التي لا توافق قواعد الفقه، خصوصا بعد احتماله في الدروس أن الملك في المسجد فضلا
عن غيره للمسلمين، ضرورة اقتضاء ذلك عدم امتناعه، فيجب أن يكون هو مقتضى العقد
الذي قد قصد به الصدقة بالعين والمنفعة عليهم، لكن على الوجه الذي اعتبره الواقف،
" فإن الوقوف عليه حسب ما يوقفها أهلها " " بالنسبة إلى ذلك.
ولعله لذا أطلق المصنف والمعظم أن الوقف ينتقل إلى الموقوف عليه لمعلومية
عدم خلو وقف عن موقوف عليه، إما عام، وإما خاص حتى الوقف على الجهات، بل
لعل ما تقدم من الفاضل من جواز وقف البقرة للحرث مثلا خاصة، على معنى بقاء
غيره من المنافع على ملك المالك أيضا كذلك فتكون عين البقرة ومنفعتها الخاصة
للموقوف عليه، وإن بقي غيرها من المنافع على ملك الواقف كما لو استثنى بعض المنافع
من تسبيل الوقف، فتأمل جيدا في ذلك بل وفي غيره من الوقف المنقطع بناء على
المختار عندنا من أنه قسم من الوقف لا أنه حبس، فيتجه حينئذ ما ذكرناه في الوقف
المؤبد، والله العالم.
91

وبذلك كله يظهر لك النظر فيما في جملة من كتب الأصحاب كالدروس والإيضاح
وجامع المقاصد وغيرها، فتأمل جيدا.
(فلو وقف) عبده أو (حصة من عبد) مشترك بينه وبين غيره مثلا (ثم أعتقه
لم يصح العتق) قطعا (لخروجه عن ملكه) عندنا " ولا عتق في ملك (1) " بل وعلى
القول ببقائه له، لمنافاته ما سبق من الوقف المقتضي حبس العين على وجه لا تتغير
عينا ولا منفعة عما وقعت عليه بسبب قهري كالإرث فضلا عن الاختياري من بيع ونحوه، و
فسخه بالشفعة إنما هو لسبق تعلقها بالعين قبل حصوله، فكأنه صار وقفا مستحقا في عينه
الشفعة وليس كذلك الخيار المتعلق بالعقد دون العين كما أوضحناه في محله.
وعلى كل حال ظاهر أدلة مشروعيته عدم تغيره بسبب من الأسباب إلا ما خرج
(و) من هنا (لو أعتقه الموقوف عليه) الذي قد عرفت أنه المالك عندنا (لم يصح
أيضا) لما سمعت، و (لتعلق حق البطون به) حيث يكون مؤبدا عليهم مثلا، بل
(و) كذا الحال فيما (لو أعتقه الشريك) وإن (مضى العقد في حصته و) لكن
(لم يقوم عليه) في الحصة التي هي الوقف، لما عرفت من اقتضاء الوقف بقاءها و (ل‍) كن
في المتن تعليله ب‍ (أن العتق لا ينفذ فيه مباشرة فأولى أن لا ينفذ سراية) لأن العتق
مباشرة أقوى من العتق بالسراية، لأنه يؤثر إزالة الرق بلا واسطة، وهي إنما تؤثر فيه
بالواسطة، ولأنها من خواص عتق المباشرة وتوابعه، فإذا لم يؤثر الأقوى المتبوع وذو الخاصة
فالأضعف والتابع أولى فاتجه له أن يقول.
(ويلزم من القول بانتقاله إلى الموقوف عليهم انفكاكه من الرق ويفرق بين العتق
مباشرة وبينه سراية) لفقدان الشرط الأول ل‍ (أن العتق مباشرة يتوقف على انحصار
الملك في المباشر أو فيه وفي شريكه) وهو هنا مفقود لتعلق حق البطون (وليس كذلك
افتكاكه فإنه) لا يشترط فيه ذلك إذ هو (الزالة للرق شرعا) بطريق القهر لقوله (عليه السلام) (2)
" من أعتق شقصا من عبد وله مال قوم عليه الباقي " وحينئذ (فيسرى في باقيه، ويضمن

(1) الوسائل الباب - 5 - من أبواب العتق.
(2) الوسائل الباب - 64 - من أبواب العتق الحديث - 8.
92

الشريك القيمة، لأنه يجري مجرى الاتلاف) الموجب لذلك.
(و) لكن (فيه تردد) بل منع بعد ما عرفت من أن الدليل ظهور أدلة الوقف
في بقاء العين على وجه لا يؤثر في تغييرها عنه السبب الاختياري بعوض ودونه كالهبة و
البيع، ولا القهري كالإرث.
بل لعل ما في النصوص من أنه لا تباع ولا توهب ولا تورث يشير إلى ذلك، و
حينئذ فلا يعارضه أدلة الأسباب الأخر من غير فرق بين دليل السراية وغيره مع
عدم (1) (تمامها) في المنقطع بناء على المختار من كونه قسما من الوقف حقيقة لا حبسا و
ليس مبنى المنع شركة البطون التي لاحظها المصنف في الفرق بين العتق مباشرة و
سراية.
على أنه قيل: من شرط السراية، أن تستلزم الانتقال إلى ملك المعتق وهو مفقود
في المقام فلا ريب في عدم نفوذ العتق فيه مباشرة ولا سراية وفاقا للمشهور، بل في
المسالك كاد أن يكون اجماعا بل لم أجد قائلا بخلافه.
ثم إن ظاهر المتن اختصاص جريان الاحتمال المزبور على القول بانتقاله إلى
الموقوف عليهم، دون القول ببقائه على ملك الواقف أو انتقاله إلى الله تعالى شأنه،
بل هو صريح الدروس حيث قال: " إن الوجهين مبنيان على المالك، فإن قلنا: هو الله
تعالى أو الواقف فلا سراية، وإن جعلناه الموقوف عليه فالأقرب عدم السراية ".
وفي غاية المراد " أن احتمال التقويم على تقدير القول بالانتقال إلى الله تعالى
ويقوى على تقدير القول بانتقاله إلى الموقوف عليهم " ولم يتعرض لحكمه على القول ببقائه
على ملك الواقف، وربما وجه بأن انتقاله إلى الله سبحانه في معنى التحرير فلا وجه
للسراية فيه، إلا أنه كما ترى، ضرورة إرادة قطع سلطنة الآدميين عنه، وإلا فهو كملكهم
ولذا يباع في بعض الوجوه، وحينئذ فلا مانع من نفوذ العتق فيه مع الدليل، كما أن
توجيه عدم السراية فيه - على القول ببقائه على ملك الواقف، بأنه ليس ملكا محضا له
لملك البطون منفعته بالوقف، ومن شرط السراية محضية الملك - واضح المناقشة،

(1) هكذا في النسخ والظاهر " تماميتها ".
93

بأن دليلها عام.
ومن هنا قال في المسالك: " الحق أن الاحتمال قائم على الجميع، لأن عموم خبر
السراية شامل للجميع، والمنع مباشرة لعارض موجود كذلك، وقد قررناه سابقا، والفرق
بين ملك الواقف والموقوف عليه ضعيف جدا، فإن كلا منهما، ممنوع من التصرف، أما
لحق الموقوف عليه مطلقا، أو لباقي البطون، أو لعموم اقتضاء الوقف تحبيس الأصل عن
مثل هذا التصرف.
قلت: ودعوى أنها على خلاف القواعد فيقتصر فيها على المتيقن، وهو غير الملك
المفروض - تقتضي عدم جريانها حتى إذا كان الملك للموقوف عليهم كما هو واضح، و
الأمر سهل بعد معلومية الحال.
المسألة (الثانية: إذا وقف مملوكا) ففي محكي المبسوط (كانت نفقته في كسبه
شرط ذلك أو لم يشترط) وإن قلنا بانتقاله إلى الموقوف عليه، لأن نفقته من شروط
بقائه كعمارة العقار، وهي مقدمة من غلته على حق الموقوف عليه، ولأن الغرض بالوقف
انتفاع الموقوف عليه، وهو موقوف على بقاء عينه (و) إنما تبقى بالنفقة فيصير كأنه
شرطها من كسبه.
نعم (لو عجز عن الاكتساب) بما لا ينعتق به، كانت نفقته على الموقوف عليهم
وفيه أن الكسب أحد أموال المولى الذي هو الموقوف عليه ولا دليل على اختصاص الانفاق
الواجب عليه من المال المزبور، وكذا العقار إلا مع الشرط المفروض عدمه.
(و) من هنا (لو قيل في المسألتين كذلك) أي أنها عليهم بناء على الانتقال
إليهم (كان أشبه) بالأدلة (لان‍) ها مطلقة في أن (نفقة المملوك تلزم المالك)
من غير فرق بين الموقوف عليه وغيره، وبين كسبه وغيره، ومن هنا اختاره جميع من تأخر
عن المصنف.
نعم قيده جماعة بما إذا كانوا معينين، وإلا كانت في كسبه، إن كان ذا كسب،
قال بعضهم: وإلا ففي بيت المال، فإن لم يكن بيت مال وجبت كفاية كغيرها من
المحتاجين، بل في الدروس هي في كسبه أيضا، وإن كان لمعينين إن قلنا بأن الملك
94

لله تعالى، فإن تعذر فعلى الموقوف عليهم، وبناه في المسالك على أن نفقة الأجير
الخاص والموصى بخدمته على مستحق المنافع أم لا، فإن جعلناها عليه فهي على
الموقوف عليهم أيضا، وإلا ففي كسبه، فإن تعذر ففي بيت المال، ويحتمل كونها في بيت
المال مطلقا، ثم قال: " وعلى القول بكونه للواقف، فالنفقة على الموقوف عليه على الأول
وعلى الواقف على الثاني، فإن تعذر لاعسار أو غيره ففي كسبه، فإن قصر ففي بيت المال
ويحتمل تقديم كسبه، وتقديم بيت المال " وعن الايضاح وظاهر الدروس أو صريحها
أنها في كسبه، وعن ظاهر التذكرة في بيت المال.
ولكن لا يخفى عليك أن مقتضى اطلاق دليل لزوم النفقة للمالك عدم الفرق بين
كونه معينا أو غير معين، مع فرض وجود مال للأخير كما لو فرض أنه للفقراء، ولهم مال زكاة
أو غيرها، فلا يتعين كونه في كسبه، وكذا لو قلنا: أنه لله تعالى شأنه كانت نفقته على غيره
من أموال الله تعالى إن كانت، وإلا وجب على بيت المال، أو على الناس كفاية
كغيره من المحتاجين، وبناء على أنه للواقف تكون النفقة عليه، فإن تعذر كان في بيت
المال، وإلا وجب على الناس كفاية، لأن المولى هو، لا مالك المنفعة، فالنفقة عليه،
وكذا نفقة الأجير والموصى بخدمته إن لم يفهم الاشتراط، أو يكون متعارفا ينزل عليه
العقد، وكذا الكلام في مؤنة تجهيزه بعد موته، وأما عمارة العقار مع عدم الشرط فلا
يتعين كونها من غلته، بل لهم بذلها من غيره.
نعم مع عدمه أخذت عمارته منها، لمعلومية إرادة بقاء العين، فإذا قصرت لم
تجب على أحد، بخلاف الحيوان الذي يجب حفظ حياته لمكان النفس المحترمة، و
ربما تسمع في النفقات ماله دخل في المقام.
(و) على كل حال ف‍ (لو صار مقعدا) مثلا (انعتق عندنا فتسقط) حينئذ
(عنه الخدمة وعن مولاه نفقته) لصيرورته حرا فيجري عليه حينئذ حكم الأحرار وكأنه لا
خلاف في ذلك بيننا، ولولاه لأمكن الاشكال في تأثير نحو هذه الأسباب العتق لنحو
ما سمعته في السراية، اللهم إلا أن يدعى قوة دليلها على أدلة الوقف ولو لهذا
التسالم.
95

المسألة (الثالثة: لو جنى العبد الموقوف عمدا، لزمه القصاص) بلا خلاف، بل
الاجماع بقسميه عليه لعموم أدلته على وجه لا تصلح أدلة الوقف لمعارضتها (فإن كانت
دون النفس بقي الباقي وقفا)، للأصل، (وإن كانت نفسا اقتص منه، وبطل الوقف)
حينئذ بانتفاء موضوعه، (وليس للمجني عليه استرقاقه) هنا كما هو ظاهر الأكثر، وإن
جاز في غيره، لما فيه من ابطال الوقف الذي قد عرفت اقتضاء الصحيح منه بقاء العين
على حالها حتى يرثها وارث السماوات والأرض.
لكن في جامع المقاصد والمسالك أن له ذلك، لأولويته من استحقاق الابطال
بالقتل بعد مطلوبية العفو شرعا، بل فيه جمع بين ذلك، وبين حق المجني عليه، و
التأبيد في الوقف إنما هو حيث لا يطرء عليه ما ينافيه، وهو موجود هنا في القتل الذي هو
أقوى من الاسترقاق، وهو كما ترى بعد القطع بعدم الأولوية المزبورة، وحرمة القياس عندنا
والتخيير الثابت للمجني عليه إنما هو في غير الفرض المعتذر فيه أحد الفردين، لظهور
قوة أدلة الوقف على ذلك من وجوه بالنسبة إليه، دون القصاص الذي لا مدخلية له
في تغيير الوقف المستفاد منعه من الأدلة الظاهرة في إرادة نقله عما هو عليه بالسبب
الاختياري أو القهري، لا نحو ذلك الذي هو من قبيل حده بالارتداد ونحوه، ولذا
يتعين حينئذ القصاص دونه.
(وإن كانت الجناية خطأ تعلقت بمال الموقوف عليه) وإن كان ذا كسب، كما
عن الشيخ وجماعة، بناء على الانتقال إليهم (لتعذر استيفائها من رقبته) الموقوفة،
لاقتضاء ذلك بطلان الوقف في الكل والبعض فيتعين عليه الفرد الآخر من التخيير، و
هو الفداء كما تعين القصاص من الفردين في الأول.
(و) قيل: كما عن الشيخ أيضا (يتعلق) المال (بكسبه، لأن المولى لا
يعقل عبده ولا يجوز اهدار الجناية، ولا طريق إلى عتقه فيتوقع) فيتعين ذلك جمعا
بين الحقين (وهو) هنا (أشبه) عند المصنف وفاقا للقواعد وغيرها، بل عن ظاهر
التذكرة الاجماع عليه، وفيه أن كسبه أحد أموال المولى، فالتأدية منه يقتضى عقل
المولى له، ولا دليل على اختصاص هذا المال من أمواله على أنه لا يتم في غير الكسوب.
96

ومن هنا قال في المسالك: " يتجه حينئذ تعلق حق الجناية برقبته، إذا لم يكن
كسوبا، فيجوز بيعه كما يقتل في العمد، بل هو أدنى منه ".
وفيه أن ذلك يقتضى ترجيح أدلة الجناية على أدلة الوقف، وحينئذ يتجه
تعلقها من أول الأمر برقبته، إلا أن يفديه المولى، كما احتمله الفاضل في المحكي من
المختلف، ولعله لا يخلو من قوة، وإلا كان المتجه سقوط حق الجناية عن المولى مطلقا
حتى في كسب العبد الذي هو أحد أمواله، لأنه لا يعقل عبده، فينتظر حينئذ انعتاقه
القهري أو يأخذ الأرش من بيت المال كالحر المعسر.
وبالجملة فالمتعين في المسألة أحد الاحتمالين، وإن كان الأول أقواهما،
لا التعلق بمال المولى مطلقا، ولا خصوص كسبه، فإن لم يكن كسوبا فبرقبته، إذ لا
يخفى عليك خروجهما عن قواعد الفقه، ولا ينافي ذلك ما ذكرناه في مسألة العمد الذي
تعين حق الجناية، وعدم بطلان دم المسلم بالقصاص، بخلافه هنا، فإنه مع عدم
التعلق برقبته الذي هو مقتضى دليل الجناية يقتضي بطلان دم المسلم ومرجوحية
حق الجناية بالنسبة إلى حق الوقف، والمعلوم خلافه فتأمل جيدا، فإنه دقيق نافع
والله العالم.
هذا كله على القول بانتقاله إلى الموقوف عليهم، أما لو قلنا بعدم انتقاله أو
انتقاله إلى الله تعالى ففي القواعد وغيرها تعلق بكسبه، بل في المسالك " هو كذلك
قطعا - لكن قال متصلا بذلك ويحتمل تعلقها بمال الواقف ببيت المال، بل في
القواعد وكذا إن كان على المساكين أو على المعسر أي في التعلق بالكسب.
ولكن لا يخفى عليك بعد التأمل فيما ذكرنا أنه لا فرق بين الجميع فيما سمعته من
الاحتمالين وأقواهما.
(أما لو جنى عليه فإن أوجبت الجناية أرشا) لكونها خطأ أو كان الجاني حرا
(فللموجودين من الموقوف عليهم) دون غيرهم كما في محكي السرائر والتبصرة، و
احتمله في القواعد وقواه في محكي المبسوط والايضاح لكونه حينئذ شبه المنفعة المختصة
بهم، إن لم يكن منها، فلا استحقاق لغيرهم من البطون الذين يتوقف استحقاقهم
97

على وجودهم المفروض عدمه، وعلى وجود العين الموقوفة.
(وإن كانت نفسا توجب القصاص فإليهم) بناء على أنهم المالكون، بل ربما
احتمل ذلك حتى على القول بكون المالك هو الله تعالى شأنه، من حيث استحقاقهم
المنفعة، ولاحتمال مصالحة القاتل على مال فيرجع نفعه إليهم طلقا أو وقفا، وإن كان
هو كما ترى، بل المتجه أنه للحاكم، وإلا لاقتضى كون ذلك إليهم وإن كان المالك
الواقف وإن لم أجد من احتمله، ضرورة منافاته ما دل على كون ذلك للمولى الذي هو
مالك الرقبة قطعا لا المنفعة.
(وإن أوجبت دية أخذت من الجاني) قطعا (وهل يقام بها مقامه؟ قيل:
نعم) واختاره في المسالك (لأن الدية عوض رقبته وهي) ليست (ملكا تاما
للموجودين، (ل‍) تعلق حق ا (لبطون) بها، ولو بالقوة القريبة باعتبار حصول
سبب الملك، ومقدماته حينئذ فيلحق القيمة حينئذ حكم العين، ولا يكون ذلك إلا بشراء
مثلها ووقفها، ولأن الوقف تابع لبقاء المالية، ولهذا يجب الشراء بقيمته حيث يجوز
بيع ما يكون وقفا، ولأن حق الوقف أولى من نحو حق الرهن الذي يتعلق بالقيمة.
(وقيل: لا، بل تكون للموجودين من الموقوف عليهم) لعين ما سمعته في الأرش
ضرورة أنها عوض المنافع في الحقيقة، لعدم قيمة للعين مسلوبة منها، فكان المنافع
أجمع وجدت دفعة لا تدريجا كي يستحقها البطون بتدرجهم.
(وهو أشبه) بأصول المذهب وقواعده، (لأن الوقف) تعلق بالعين الذي
فرض تلفها، المقتضي لبطلان الوقف وانقطاع حق البطون، و (لم يتناول القيمة) و
إلا لاقتضى صيرورتها نفسها وقفا، والشراء بها عبدا مماثلا بالذكورة أو الأنوثة أو شقصا
فيكون وقفا أو بصيغة جديدة من الموقوف عليهم، أو من الحاكم الذي هو ولي البطون
فيتولى الشراء والوقف مع التمكن منه أو منصوبه وإلا فعدول المؤمنين حسبة أحكام
شرعية تحتاج إلى دليل، ولا تكفي فيها البدلية المعنوية وأسبق إلى الذهن ذلك
لكنه من الاستحسان الفاسد عندنا، مع عدم الدليل المعتبر على أن وقف العين المشتراة
بالقيمة على الموجودين مع فرض كونها ملكهم، مناف لوجوب اخراج الواقف نفسه عن
98

الوقف، سواء كانوا هم الواقفين أو الحاكم إذ لا نيابة عن الواقف الأصلي الذي قد فرض
خروجه عن العين بوقفه، وأضعف من ذلك دعوى مساواة الأرش للدية في ذلك كله،
خصوصا في أرش الصفة ونحوها، على أنه حيث يكون المستحق القصاص فالدية
عوض عن نفس الجاني المستحق ازهاقها، لا نفس المجني عليه التي كانت وقفا، و
الفرض عدم القول بالفصل، بل هي على كل حال من الابدال الشرعية عن النفس،
بمعنى ترتب حكم شرعي بالسبب المزبور، لا البدلية المقتضية للحوق أحكام المبدل
منه، بل اللازم على ما ذكروه أنه مع تعذر العين المماثلة والشقص يتجه شراء مال آخر
ووقفه.
بل يشكل الحال في أرش - مثلا لا يقابل ما لا تنتفع به البطون الذي مدار
هذه الأحكام على مراعاة حقهم، ولعل احتمال كون الدية هنا للواقف - باعتبار
بطلان الوقف الذي من أركانه بقاء العين والانتفاع بها، فيكون من قبيل الوقف
المنقطع، ولو بانقطاع بقاء العين - أو لبيت المال لتزاحم الأمارات فيها، أولى مما
ذكروه.
وكيف كان فقد ظهر لك النظر في المباحث المذكورة في المسالك وغيرها التي
منها - هل للموقوف عليهم العفو عن القصاص أو عن الأرش أو الدية؟ يبني على أن
البطون اللاحقة هل تشارك فيه، أم لا، فعلى الأول ليس لهم العفو، وعلى الثاني
لهم، لانحصار الحق فيهم، وعلى تقدير المشاركة لو عفى الأول فللثاني أن يستوفى
لوجود سبب الاستحقاق من حين الجناية، وإن لم يثبت بالفعل، مع احتمال العدم
لتجدد استحقاقهم بعد سقوط الحق بالعفو، وعلى تقدير جواز استيفاء الثاني هل
له القصاص كالأول لو كانت الجناية توجبه، أو تختص بالدية وجهان، من مساواته
للأول في الاستحقاق، ومن تغليب جانب العفو بحصوله من الأول، والأقوى الأول،
وكأنه أخذ بعض ذلك مما في القواعد من أنه لو جنى عليه بما يوجب القصاص، فإن
اقتص الموقوف عليهم استوفى، وإن في فهل لمن بعده من البطون الاستيفاء،
الأقرب ذلك إن لم يكن نفسا.
99

وفيه أنه مناف لما ذكروه أجمع بلا اشكال ولا تردد، من أن للموقوف عليهم الموجودين
استيفاء القصاص، بناء على انتقال العين إليهم بلا غرامة منهم للبطون اللاحقة، و
على تقدير أنها لله تعالى - يتولاه الحاكم - أو للواقف يتولاه هو، ويحتمل على ضعف
الموقوف عليهم فيهما كما تقدم سابقا - ضرورة أنه لا يتجه استيفاؤهم له، مع فرض مشاركة
البطون اللاحقة لهم فيه، كما أن المتجه مع فرض أن ذلك لهم جواز عفوهم عنهم
لمعلومية تخيير ذي الحق بين استيفائه وبين العفو عنه، وليس للبطون الآتية القصاص
حينئذ لعدم حق لهم فيه، وإن لوحظ قاعدة استيفاء حق القصاص للمشتركين أنه إن
عفى أحدهم دون الآخر، كان له القصاص مع غرامة ما يخص من عفى من الدية، فيتجه
حينئذ بناء على الاشتراك هنا غرامة من يقتص منهم الدية تماما للآخرين لعدم معلومية
التوزيع هنا، مع عدم انحصار الموقوف عليهم، ودعوى - أن ذلك يوجب عدم الغرامة -
ليس بأولى من دعوى عدم جواز القصاص مع العفو عن بعضهم.
كل ذلك مضافا إلى ما في القواعد من اشكال الفرق بين الطرف والنفس، وإن كان
قد يوجه باقتضاء الجناية على النفس بطلان الوقف، فلا حق حينئذ للبطون، بخلاف
الأطراف، فإن حق الوقف باق ببقاء محله، لكنه كما ترى، ضرورة اقتضاء ذلك اختصاص
الواقف بالدية في الجناية على النفس خطأ لبطلان الوقف، بل مقتضاه أن ولاية القصاص
له، وإن قلنا بالانتقال إليهم لانتقال ملكهم الوقفي بتلف ملك العين المفروض كونه
من مبطلات الوقف نحو الانقطاع بموت الموقوف عليهم، وفرق واضح بين انتهاء الوقف،
وبين بطلانه هذا.
وعن الإيضاح أنه حكى قولا بأن البطون يستوفون الدية لتغليب العفو وقال إنه الأصح، وعن الكركي إن فيه قوة.
وفيه إن العفو مع صحته على مال أو مطلقا يقتضي السقوط مطلقا، وإلا فلا يؤثر
شيئا، وجميع هذه الاحتمالات والتهجسات نشأت من احتمال بقاء أثر عقد الوقف مع
تلف العين بنحو ذلك، فينتقل أثره إلى ما أوجبه الاتلاف المزبور، ولو القصاص، إلا أنه
هو كما ترى، وإنما المتجه اختصاص الموقوف عليهم، بناء على الانتقال إليهم بذلك
100

قصاصا أو دية أو أرشا، أو بطلان الوقف ورجوع ذلك إلى الواقف، أو يرجع أمره إلى والي
المسلمين، لعدم معرفة حاله، ولعلها مترتبة بالقوة والضعف، وإن لم أجد المصرح
بالأخيرين.
ولا يخفى عليك بعد ذلك كله الحال فيما لو كان الجاني عبدا واسترق كله أو
بعضه بجنايته، فهل يختص به الموجودون أو يكون وقفا، إذ هو على البحث السابق
وكذا لو اتفق هو ومولاه على الفداء، فهل يختصون به أيضا، أو يشترى به عبدا أو
شقصا أو مالا آخر يكون وقفا.
المسألة (الرابعة: إذا وقف في سبيل الله انصرف إلى) جميع (ما يكون
وصلة) وطريقا (إلى الثواب، كالغزاة والحج والعمرة وبناء القناطر والمساجد) و
نفع المحاويج ونحو ذلك مما هو طريق إلى ثوابه ورضوانه، كما هو المعروف بين
الأصحاب، بل عن ابني زهره وإدريس في بحث الوصية الاجماع عليه، وهو الحجة
مضافا إلى الفهم عرفا، وإلى الخبر المروي عن تفسير علي بن إبراهيم (1) على ما تقدم
مفصلا في كتاب الزكاة خلافا للمحكي عن الشيخ من اختصاصه بالغزاة المطوعة دون
العسكر المقاتل على باب السلطان، وبالحج والعمرة، فيقسم أثلاثا، وابن حمزة من
اختصاصه بالمجاهدين إذ هو كما ترى، مناف للمفهوم - عرفا ولغة - من ذلك بلا دليل
وإن كان ما ذكروه أقوى في الدلالة، إلا أنه لا يمنع من تناول غيره مما يدخل في مفهومه
وملاحظة معنى الطريق في ذلك لا يقتضي التخصيص المزبور عرفا كما هو واضح.
(وكذا لو قال في سبيل الله) تعالى (وسبيل الثواب وسبيل الخير كان
واحدا) بمقتضى الفهم عرفا (و) حينئذ ف‍ (لا يجب قسمة الفائدة أثلاثا) أحدها
للغزاة والحج والعمرة وهو سبيل الله، والثاني: للفقراء والمساكين ويبدء بأقاربه وهو
سبيل الثواب، والثالث: لأصناف الزكاة وهو سبيل الخير، كما عن الشيخ لعدم الدليل
على ذلك على وجه يقتضي الخروج عن مفهوم اللفظ لغة وعرفا، ودعوى أنه كذلك
فيها لا يخفى عليك ما فيها.

(1) الوسائل الباب - 1 - من أبواب المستحقين للزكاة الحديث - 7.
101

المسألة (الخامسة إذا كان له موال من أعلى وهم المعتقون له) أو من انتهى
إليه ولاء العتق (وموال من أسفل وهم الذين أعتقهم) ومن أنتقل إليه ولاؤه، (ثم
وقف على مواليه، فإن علم أنه أراد أحدهما) بقرينة حال أو مقال (انصرف الوقف
إليه) بلا خلاف ولا اشكال، كما إذا لم يكن إلا أحدهما، بناء على أنه قرينة على عدم
إرادة غير الموجود، ولو مع الضم إلى الموجود، (وإن لم يعلم) ففي المسالك،
" رجع إليه في تفسيره، لأنه أعلم بما أراد، فإن تعذر الرجوع إليه أو قال: إنه لم
يقصد شيئا بخصوصه، وإنما وقف على مدلول هذا اللفظ، ففي بطلان الوقف أو صرفه
إليهما، أو أحدهما أقوال ".
وفيه إنه لا وجه لتعيين الرجوع إليه، بناء على أن للفظ ظاهرا ينصرف إليه، كما
أنه لا بد من التأمل في تصور المسألة هنا، حيث يقول إني لم أقصد شيئا مع أنك قد
عرفت فيما سلف الاجماع على اعتبار معلومية الموقوف عليه وتمييزه، ولو بجهة العموم،
ضرورة اعتبار قصد انشاء التمليك للمنفعة، أو مع العين منه، خصوصا في الوقف الخاص
المحتاج إلى قول للانشاء الذي توجه إليه على أن المشترك اللفظي لا مدلول له
بالخصوص يحمل عليه من دون قصد.
وعلى كل حال فالأمر في ذلك سهل، إذ يكفي في ذلك تصور المسألة الصورة
الأولى: وحكمها عند المصنف وجماعة أنه إذا كان كذلك (انصرف) الوقف (إليهما)
وفاقا للمشهور، كما عن الدروس، وهو مبني على جواز استعمال المشترك في أكثر من
معنى مطلقا أو إذا كان للفظ الجمع، وأنه يحمل على إرادة جميع المعاني مع التجرد
عن القرائن مطلقا، وإذا كان بلفظ الجمع الذي لا يعتبر فيه - وفي التثنية - اتفاق
المعنى، كما صرح به بعض النحويين، لأنه بمثابة العطف بالواو، خلافا لجماعة
فأبطلوه، بناء على عدم جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى وإن كان بلفظ الجمع
أو على عدم حمله على الجميع مع التجرد.
قال في المسالك: " وإن قلنا بعدم حمله على معانيه حقيقة بطل، لعدم
تعين مصرفه، سواء جوزنا جمع المشترك بجميع معانيه أم لا، أما على الأول فظاهر،
102

وأما على الثاني فلأنه حينئذ بمنزلة المفرد المشترك، وحكمه كذلك، وتبعه عليه غيره ".
قلت: قد حققنا في الأصول جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد لكن
على جهة المجاز، وأن المعتبر في الجميع اتفاق المعنى مع اتفاق اللفظ، وأنه لا
يحمل اللفظ المشترك على الجميع مع التجرد عن القرائن، بل على معنى واحد منها
بخصوصه، إلا أنه مع ذلك كله قد يقال: بالصحة في المقام، ويستخرج الموقوف عليه
بالقرعة، بعد فرض اجتماع باقي شرائط الصحة فيه، إذ اجمال الموقوف عليه في الظاهر
لا يقتضي بطلان الوقف، بل هو كالمشتبه في الأثناء.
نعم لو فرض تجرد الواقف عن قصد واحد بخصوصه، اتجه البطلان، ولكنه خلاف
ظاهر الاستعمال، خصوصا في مثل المقام، وأما بناء الصحة في الفرض على أنه مشترك
معنوي كما عن الشيخ فهو مناف للمحكي عن نص أهل اللغة على الاشتراك اللفظي،
بل وللعرف الآن عندنا، خصوصا مع عدم صلاحية قدر مشترك بينهما يقصده المستعمل
وكذا ما عن ابن حمزة من أنه إن جمع اللفظ حمل عليهما، وإن أفرد حمل على الأعلى،
بقرينة المكافات للاحسان، وأضعف منه ما عن بعض الشافعية من الحمل على المولى
من أسفل خاصة، بقرينة كونه محتاجا فتوجه النفس إلى الوقف عليه لشدة حاجته بخلاف
الأعلى، فإنه على العكس غالبا إذ هو كما ترى لا يستأهل ردا، ومما ذكرنا يعلم لك
الحال فيما لو كان الوقف بلفظ المفرد، كما أنه يظهر لك الحال أيضا في ظاهر جملة من
الكلمات هنا والله العالم.
المسألة (السادسة: إذا وقف على أولاد أولاده، اشترك أولاد البنين والبنات،
ذكورهم) كما عن الشيخ (وإناثهم) بلا خلاف أجده فيه، بل الاجماع صريحا وظاهرا
عليه من غير واحد، بل لعله لا اشكال فيه بناء على تناول اسم الولد الذي هو بمعنى
التولد منه لهما حقيقة، وإن كان هو محل تأمل في عرفنا الآن، بل لعل الظن بالعدم
كما أنه لا اشكال ولا خلاف في اشتراكهم في ذلك (من غير تفصيل) لأنه المفهوم عرفا
من اطلاق سبب الاستحقاق المفروض اتحادهم فيه، بل الظاهر دخول الخناثى
معهم أيضا كذلك، وإن قلنا أنهم طبقة مستقلة، لصدق اسم الولد بالمعنى المزبور
103

عليها.
نعم لو كان وقفه على البنين خاصة، قيل: لم يدخلن، كالبنات، وعلى البنات
لم يدخلن كالبنين، وعليهما بنى دخولهم - على عدم خروجهم عن الصنفين في نفس
الأمر، لقوله تعالى (1) " يهب لمن يشاء إناثا " إلى آخره ولاستخراج أحدهما بالعلامات
ومع فقدها نصف النصيبين - وخروجهم على كونهم واسطة لعدم ظهور الآية في الحصر
ولا كلام فيه مع وجود العلامات، كما لا دلالة في نصف النصيبين على ذلك، بل يمكن
دلالته على عدمه، ضرورة جواز كون نصيبها المتوسط، لأنها متوسطة الحقيقة.
قلت: قد يقال: إن المتجه القرعة في الأول كما في الدروس، قال: " لأنها في
نفس الأمر من أحد الصنفين " قلت: بل لعله كذلك، وإن قلنا بالواسطة، فتتجه القرعة،
حتى في الثاني أيضا، إذ هي غير معلومة اللهم إلا أن يقال: بتشخصها حينئذ بالخروج
عنها بعدم ظهور أمارة أحدهما، وإلا فالأصول متعارضة حتى أصالة عدم الاستحقاق.
فإنه معارض بأصالة عدم اختصاص غيرها به أيضا، ومنه يظهر قوة القول بها في الأول،
فتأمل جيدا.
ثم لا يخفى عليك أن المراد هنا بيان اندراج أولاد البنين والبنات في الدرجة
الأولى في أولاد الأولاد، لصدق الولد على الذكر والأنثى، لا بيان دخول أولاد أولاد
الذكور والإناث من الدرجة الثانية والثالثة، وهكذا كما احتمله في الرياض، وأشكله في
أولاد بنات أولاد الواقف، بناء على المشهور بأنهم ليسوا بأولاد حقيقة لأولاده بخلاف
أولاد أولاده الذكور، فإنهم أولاد أولاد حقيقة، وإن نزلوا اجماعا إذ هو كما ترى مناف
لما تسمعه منه بلا خلاف من اختصاص الوقف على أولاده وأولاد أولاده بالبطنين فيما
لو قال: أولادي، وأولاد أولادي، لدعوى الانصراف عرفا فلا وجه لاحتمال إرادتهم هنا
ما ذكره كما هو واضح.
وعلى كل حال فذلك غير ما نحن فيه (أما لو قال من أنتسب إلى منهم لم يدخل
أولاد البنات) على الأشهر بل المشهور، بل يمكن دعوى الاجماع من الجميع، فإن

(1) سورة الشورى الآية - 49.
104

المرتضى وابن إدريس وإن قالا فيما لو قال أولادي وأولاد أولادي أنه ولد، لكن لا
يلزم القول منه بصدق الانتساب المفهوم منه عرفا، خلاف ذلك.
ومن هنا قال في محكي السرائر في الباب إنما أراد الشاعر بقوله " بنونا بنو أبنائنا "
إلى آخره الانتساب، بمعنى أن أولاد البنت لا ينسبون إلى أمهم، وإنما ينسبون إلى
أبيهم، وليس كلامنا فيه، بل في الولادة وهي متحققة من جهة الأم من غير خلاف، و
الذكر والأنثى فيه سواء، ونحوه عن الخلاف، وقد أومأنا نحن سابقا إلى نحو ذلك، و
قلنا: إن أولاد البنات وإن كانوا أولادا حقيقة إلا أنهم لا يستحقون الخمس الذي
عنوانه اسم القبيلة الخاص بالذكور، ومن يتولد منهم، وحينئذ فما عن التحرير - من أن
في دخول أولاد البنات في الفرض نظرا، وعن إيضاح النافع أن الفرض ضعيف و
عن الكفاية أن الأظهر الرجوع إلى العرف بل عن الايضاح وجامع المقاصد، أن
الخلاف مع المرتضى وابن إدريس في غير محله.
(ولو وقف على أولاده) وأولاد فلان وأطلق ولم يكن ثم قرينة حال أو مقال
(انصرف إلى أولاده لصلبه، ولم يدخل معهم أولاد الأولاد) وفاقا للمشهور (و
قيل:) لما عن المقنعة والكافي والنهاية والمهذب والسرائر، وبعض نسخ النافع،
واللمعة والتحرير (بل يشترك الجميع) لصدق الولد على الجميع حقيقة (و) لا
ريب في أن (الأول أظهر، لأن ولد الولد لا يفهم من اطلاق لفظ الولد) وإن
قلنا أنه حقيقة، لمعلومية اختلاف أفراد المتواطي، فلا ينافي الاختصاص بغيره كونه
حقيقة، ضرورة رجوعه إلى انسياق بعض أفراد المطلق عند الاطلاق، وربما يؤيده
قراءة النصب في قوله تعالى (1) " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " واحتمال كونه لتفخيم
شأن يعقوب كما في عطف جبرئيل على الملائكة في قوله تعالى (2) " من كان عدوا لله "
إلى آخره خلاف ظاهر العطف، وبذلك يظهر لك سقوط الاطناب هنا في الاستدلال
على كونه ولدا حقيقة مطلقا، أو في خصوص ولد الذكر دون الأنثى، لما عرفت من أن

(1) سورة البقرة الآية - 132.
(2) سورة البقرة الآية - 97.
105

وجه المسألة ما ذكرنا، اللهم إلا أن يمنع الانسياق المزبور، فيتجه الاستدلال المذكور
حينئذ، وقد ذكرنا مختارنا فيه غير مرة أن ولد الولد ولد حقيقة، من ذكر كان أو أنثى،
والله العالم.
(ولو قال: على أولادي وأولاد أولادي اختص بالبطنين) دون ما نزل، إلا مع
القرينة، بناء على ما عرفت من الانسياق المزبور من غير فرق في ذلك بين الذكور و
الإناث.
(ولو قال: على أولادي فإذا انقرضوا وانقرض أولاد أولادي فعلى الفقراء،
فالوقف لأولاده) لصلبه خاصة بناء على ما عرفت (فإذا انقرضوا قيل:) كما عن
الشيخ حاكيا له عن بعض (يصرف إلى أولاد أولاده، فإذا انقرضوا فإلى الفقراء) وإلا
لكان ذكرهم لغوا، وفي الدروس أنه قوي، إما لقرينة الحال وإما لشمول لفظ الولد
للنافلة، كقول المفيد وجماعة، وكأنه مال إليه أيضا في غاية المراد، قال: عملا بالظاهر
والقرينة المقالية بجعل ذلك المجاز واردا مورد اللفظ، ولا شك أن عطف الانقراض،
على الانقراض مشعر بذلك، وإلا لكان الوقف منقطعا، والوقف شأنه الدوام.
(وقيل: لا يصرف إلى أولاد الأولاد لأن الوقف لم يتناولهم، لكن يكون انقراضهم
شرطا لصرفه إلى الفقراء) بناء على صحة منقطع الوسط (وهو أشبه) بأصول المذهب
وقواعده، ضرورة أنه لا دلالة في اللفظ المزبور على دخولهم في الوقف، لا مطابقة ولا
تضمنا ولا التزاما إذ لا تلازم بين اشتراط انقراضهم، وبين كونه وقفا عليهم، وإلا
لاقتضى اشتراكهم مع الأولاد، لا ترتبهم عليهم، والخصم لا يقول به، واعتبار الدوام في
الوقف لا يكون قرينة على ما لا يظهر من اللفظ، ويكفي في فائدة ذكرهم إرادة الشرطية
فلا دلالة في عطفه انقراضهم على انقراض الأولاد على إرادة الدخول، بل لعل فيه
دلالة على العدم.
نعم على قول المفيد ومن تبعه بشمول اطلاق الأولاد لأولادهم يتجه دخولهم
في الوقف معهم على الشركة - لا على الترتيب - بمجرد اللفظ الأول، ويكون ذكرهم
ثانيا لفائدة بيان وقت استحقاق الفقراء، فيكون في قوة تقييد اطلاق الأولاد الشامل
106

للبطون المترتبة أبدا بالبطنين الأولين، ويكون ذكرهما قرينة لإرادة تخصيصهما
بالأولين، وإن كان منهما متناولا لما بعده أبدا لولا القرينة.
أما على المختار من انسياق خصوص أولاد الصلب من اطلاق الأولاد وبطلان
منقطع الوسط في المراتب المتأخرة مع فرض تحقق انقطاعه فالمتجه البطلان، اللهم
إلا أن يدعى أنا نفهم عرفا أن العبارة المزبورة للدخول على الترتيب المذكور، ولكن
المتجه أيضا على ما ذكرنا اختصاص ذلك بالبطنين، وقد تقدم البحث سابقا في مصرف
الوقف بناء على صحة المنقطع حال الانقطاع بنحو ذلك، فلا حاجة إلى إعادته بعد
معلومية فساده لديك بلا مزيد عليه كما هو واضح.
المسألة (السابعة: إذا وقف مسجدا) مثلا (فخرب أو خربت القرية أو
المحلة) التي هو فيها لم تبطل بذلك مسجد نته، للأصل بعد امكان الانتفاع به، ولو
فيما يأتي وحينئذ (لم يعد) لذلك (إلى ملك الواقف، ولا تخرج العرصة عن الوقف)
وإن لم يبق من آثاره غيرها، إذ هي العمدة في المسجدية بلا خلاف أجده في شئ من
ذلك بيننا.
نعم في المسالك هذا كله يتم في غير المبني في الأرض المفتوحة عنوة حيث يجوز
وقفه، تبعا لآثار التصرف، فإنه حينئذ ينبغي بطلان الوقف بزوال الآثار، لزوال المقتضي
للاختصاص، وخروجه عن الأصل، اللهم إلا أن تبقى فيه رسوم، ولو في أصول الحيطان
بحيث يعد ذلك أثرا في الجملة، كما هو الغالب في خراب البناء، وحينئذ فقول المصنف
" لا تخرج " إلى آخره لا يتم إلا في المملوك بالأصل، إذ لم يعتبر في الوقف إلا العرصة وهي
أرض المسجد، وإن زالت الآثار أجمع.
قلت: قد أشرنا في كتاب البيع إلى خروج ذلك بالسيرة القطعية على اتخاذ المساجد
فيها، واجراء حكمها عليها من غير مدخلية للآثار في ذلك، ضرورة اقتضاء المسجدية
الدوام والتأبيد، وحينئذ فلا وجه للحكم بمسجديتها لا على هذا الوجه، بل التزام عدم
صيرورتها مسجدا حينئذ أولى، وإن كان هو مردودا بالسيرة القطعية، بل بالمعلوم من
الشرع من جريان أحكام المساجد على مساجد العراق ونحوه، وغيرها من المفتوحة عنوة.
107

(و) على كل حال فما عن بعض العامة - من عود المسجد بما عرفت إلى ملك
الواقف قياسا على ما (لو أخذ السيل) مثلا (ميتا فيئس منه كان الكفن للورثة) لجامع
تعذر المصرف في الموضعين - واضح الضعف، ضرورة أن الكفن الذي هو من التركة
قد كان ملكا لهم بموت الميت، وإن وجب عليهم صرف ذلك في تكفينه فإذا أزال الموجب
عاد إلى ما كان، كما يعود إلى الزكاة أو إلى الوقف أو إلى باذله إن كان منها، بل لو قلنا
أن مقدار الكفن من التركة على حكم مال الميت، فالحكم كذلك أيضا لمعلومية تقييده
بما دام الميت محتاجا إليه، وإلا دخل في الإرث.
المسألة (الثامنة: إذا انهدمت الدار) ولم يبق من آثارها شئ (لم تخرج
العرصة) بذلك (عن الوقف ولم يجز بيعها) بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له،
كالفاضل والشهيدين وغيرهم، لأن الخراب لا يصلح لنقض الوقف وابطاله، مع بنائه
على التأبيد، وعلى عدم جواز بيعه، ولأن العرصة من جملة الموقوف، وهي باقية، بل لم
يحكوا الخلاف في ذلك إلا عن بعض العامة، فجوز بيعها، إذا انهدمت، ولم يمكن
عمارتها كالمسجد، وفي المسالك تقييده في غير الأرض الخراجية على نحو ما سمعته
في المسجد ".
قلت: لا ريب في أن الحكم كذلك مع فرض وقوع عقد الوقف عليها من حيث نفسها، و
إن قارن بذلك كونها دارا، فينتفع بها حينئذ بزرع ونحوه مما تكون قابلة له، إذ لا حصر
للانتفاع بها في الدارية، وإن كانت حال الوقف دارا، إلا أن يصرح بالاشتراط.
نعم قد يشكل تغييرها اختيارا كما نص عليه في محكي التذكرة قال: لا يجوز تغيير
الوقف عن هيئته، فلا يجوز جعل الدار الموقوفة بستانا ولا حماما، ولا بالعكس، ولو
تعذر الاستمرار صار إلى أقرب الأوصاف، وعن الكاظم (عليه السلام) (1) فيما وقفه " لا يحل لمؤمن بالله
تعالى واليوم الآخر أن يبيعها، ولا يبتاعها، ولا ينحلها ولا يغير شيئا منها " إلى آخره،
اللهم إلا أن يحمل ذلك منه لبيان الاشتراط منه (عليه السلام). كما يحمل كلام التذكرة على
وقف الدار الملحوظ في وقفها داريتها، لكن لا يخفى أنه لا داعي إلى هذا الحمل،

(1) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 5. مع اختلاف يسير.
108

لظهور وقف الدار إلى إرادة الانتفاع بها دارا وهكذا إلا مع التصريح بعدم قصد ذلك
وهو خارج عن محل الفرض.
هذا كله مع عدم ملاحظة الدارية في وقفه، أما إذا لاحظ الواقف في وقفه لها
حيثية كونها دارا، فمتى بطل كونها كذلك بحيث خرجت عن قابلية ذلك، يمكن الحكم
ببطلان الوقف حينئذ بذهاب موضوعه، بل يمكن التزامه في النخلة الموقوفة الملاحظة
في وقفها تسبيل ثمرتها أيضا إذا سقطت كما ستسمعه انشاء الله تعالى.
ولعل مرجعه إلى نظير ما سبق من جواز الوقف في منفعة خاصة، وربما يشهد
لذلك ما سمعته سابقا من ثاني الشهيدين ومن تبعه في أن الوقف على مصلحة
تنقرض غالبا يكون من الوقف المنقطع الآخر، وهو كذلك.
ومن ذلك كله يظهر لك أن وقف الدار مثلا يقع على وجوه:
أحدها: وقفها ما دامت دارا فانهدمت والظاهر كونها من منقطع الآخر.
ثانيها: وقفها دارا على معنى أنه ينتفع بها دارا، والظاهر أنها وقف كذلك
ما دامت صالحة لذلك، وإن انهدمت نعم إذا خرجت عن قابلية ذلك على وجه
لا يرجى عودها، أمكن القول ببطلان وقفها.
ثالثها: وقف الدار على معنى تسبيل منفعتها كائنة ما كانت وإن قارن كونها
دارا حال الوقف، والظاهر بقاء وقفها، بل يجوز تغييرها اختيارا.
رابعها: وقفها دارا وعلم إرادة دوام أصل الوقف منه، فاتفق انهدامها، و
الظاهر عدم جواز تغييرها اختيارا لكن إذا انهدمت جاز له الانتفاع بها على غير
وجه الدارية، إلا مع التصريح.
وقد ذكرنا تفصيل بعض ذلك في كتاب البيع في مسألة بيع الوقف إذا أدى بقاؤه
إلى خرابه (و) من ملاحظته يعلم الحال فيما (لو وقع بين الموقوف عليهم خلف
بحيث يخشى خرابه) وإن قال المصنف هنا (جاز بيعه) جازما به، إلا أن المسألة
شديدة الاشكال والاختلاف، وقد استقصينا الكلام فيها هناك بحمد الله تعالى شأنه
(و) كذا فيما (لو لم يقع خلف) بينهم (ولا يخشى خرابه، بل كان البيع أنفع
109

لهم) وإن (قيل:) أنه (يجوز بيعه) حينئذ في ذلك (و) لكن (الوجه
المنع) كما ذكرنا الكلام فيه مفصلا (و) منه يعلم الحكم أيضا فيما (لو انقلعت نخلة
من الوقف) وإن قال المصنف هنا (قيل:) والقائل الشيخ في محكي مبسوطه ونهايته
(يجوز بيعها لتعذر الانتفاع إلا بالبيع وقيل:) والقائل ابن إدريس (لا يجوز
لامكان الانتفاع بالإجارة للتسقيف وشبهه وهو أشبه) وفي المختلف أن النزاع
بينهما لفظي، لأن الشيخ فرض عدم الانتفاع إلا بالبيع، وابن إدريس فرضه
بالتسقيف ونحوه.
قلت: عبارة الخلاف لأنه لا يمكن الانتفاع بها إلا على هذا الوجه، لأن الوجه
الذي شرطه الواقف قد بطل، ولا يرجى عوده، وعبارة المبسوط جاز بيعها لأرباب
الوقف لأنه تعذر الانتفاع بها على الوجه الذي شرطه، وهو أخذ ثمرتها، وظاهرهما
بطلان الوقفية المقتضية لحبس العين وعدم جواز بيعها، ببطلان المنفعة التي
وقفت العين أي حبست العين عن النوافل، لإرادة استيفائها، فلا يجب حينئذ على
الموقوف عليه حبسها لغيرها من المنافع، وإن كانت صالحه للانتفاع بها مع بقاء
عينها، وحينئذ يكون الخلاف معنويا لا لفظيا وإن زعمه الفاضل في المختلف.
بل لعل كلام الشيخ لا يخلو من قوة، وإن خالفه من تأخر عنه، خصوصا مع
ملاحظة الواقف ذلك قيدا في وقفه، كما هو مقتضى تعبير الشيخ بالشرطية، وحينئذ
يرجع إلى ما ذكرناه في البيع وفي المقام من أنه متى جعل الجاعل هيئة الموقوف
عنوانا في وقفه، فذهبت الهيئة، بطلت الوقفية المقتضية لتحبيس الأصل وجاز البيع
للموقوف عليهم، لا للواقف كما أوضحناه في كتاب البيع.
نعم لو لم يجعل ذلك عنوانا بل كان مراده الانتفاع بالعين مع بقائها كائنة ما
كانت المنفعة لم يجز البيع حينئذ، إلا مع سلب المنافع أجمع وانحصار منفعتها بالاتلاف
كالخشبة للاحراق ونحوه فتأمل جيدا.
ولا ينافي ذلك - ولا ما تقدم من مسألة المسجد والدار - ما تقدم سابقا من صرف
الوقف - على مصلحة فبطل رسمها - في وجوه البر بعد ما عرفت أن مرادهم ذلك في
110

الوقف المؤبد الذي ذكر له مصرفا خاصا فاتفق تعذره المنزل على أنه يصرف له ما دام
ممكنا ليجامع تأبيد وقفه كما أوضحناه فيما تقدم هذا.
وفي القواعد ولو شرط بيعه عند التضرر به كزيادة خراج وشبهه، وشراء غيره بثمنه أو عند
خرابه وعطلته أو خروجه عن حد الانتفاع أو قلعه أو قلة نفعه ففي صحة هذا الشرط
اشكال، بل عن الإرشاد الوجه الجواز، ونفى عنه البأس في محكي الروض قيل: وكأنه
مال إليه، أو قال به الشارحان له ولده والشهيد، بل وثاني المحققين وفي الحواشي
أنه الأقوى.
ولعله لعموم " الوقوف " (1) و " المؤمنون " (2) وما عساه يظهر من إذن أمير المؤمنين (عليه السلام) (3)
للحسن (عليه السلام) في صدقته بذلك، وربما يرجع ذلك كله أو بعضه إلى نحو ما قررناه في
شرط عوده إليه عند الحاجة، كما أنه لا ينبغي الاشكال في جواز اشتراط بعض ذلك
بناء على جواز بيعه منه من دون شرط، فضلا عنه معه.
نعم بناء على منافاة هذا الشرط لعقد الوقف في الجميع كما عن الايضاح، أو في
البعض وجه المنع واضح.
لكن قد عرفت فيما تقدم سابقا من المباحث امكان كونه على وجه لا ينافي مقتضاه،
إذ المسلم منه عدم جواز بيعه وهو وقف، لا جواز بيعه بعد خروجه عنه، ويمكن عود الشرط
في جميعها أو في بعضها إلى ذلك، كما أومأنا إليه في اشتراط العود عند الحاجة،
فلاحظ وتأمل كي تعرف بقرينة ما سمعته في الدية، وقيمة العين الموقوفة من اختصاص
البطن الأول بها كالقيمة عند سلب المنافع منها، أن معنى الوقف تمليك العين محبوسة
على المالك عن النواقل ما دامت قابلة، ومتى خرجت عن الانتفاع تكون ملكا مطلقا من
دون حبس، وكذا لو شرط الواقف ذلك معلقا له على حال من الأحوال السابقة أو يشترط
شراء غيرها بثمنها على أن يكون وقفا، ولا يقدح ملك البطن في صحة الوقف عليهم،
إذ المسلم منه غير هذا النوع من الملك، ولعل هذا غير الانقطاع من الملك الذي ذكرناه

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 1 - 2.
(2) الوسائل الباب - 20 - من أبواب المهور الحديث - 4.
(3) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 4.
111

عوده إلى الواقف، ضرورة كون الفرض تقييدا في الحبس، لا في الملك، ولكن الانصاف عدم
خلو ذلك عن التأمل، وإن كان يشهد له بعض كلماتهم، فلاحظ وتأمل.
وكذا في القواعد ولو خلق حصير المسجد وخرجت عن الانتفاع به فيه أو انكسر
جذع بحيث لا ينتفع به في غير الاحراق، فالأقرب بيعه، وصرف ثمنه في مصالح المسجد
كما عن التذكرة والإيضاح وجامع المقاصد والدروس التصريح به.
نعم زاد في الأخير اشتراط أن لا ينتفع به في غيره أيضا كما أنه في الثلاثة التصريح
بصرف ثمنه في بدله من حصير وجذع، فإن تعذر صرف في مصالح المسجد اعتبارا لما يقرب
من مراد الواقف، وفي محكي التذكرة أيضا أنه لا خلاف بين العامة في جواز بيع ما اشترى
من الوقف أو قبل المتولي هبته عند الحاجة، وفي جامع المقاصد أنه لا يخلو من قوة، فإذا
بيع صرف في مصالح المسجد من غير تعيين شراء مثله، ولا يخفى عليك التحقيق في
ذلك كله وفي شراء عين بثمن الموقوف عوضه مساوية له أو غير مساوية أو يكون طلقا لهم،
بعد الإحاطة بما أسلفناه في كتاب البيع، وبما ذكرناه في كتاب الوقف في مسألة ما لو
أتلف العين الموقوفة متلف وغيرها من المسائل، فلاحظ وتأمل. لكن لا ينبغي ترك ما
أمكن من الاحتياط في كثير من هذه المسائل لأنها غير منقحة.
نعم لا ينبغي التأمل في صرف حاصل الوقف في وجوه البر مع الجهل بأربابه، و
إن توقف فيها أو في نحوها الخراساني في كفايته لكنه في غير محله، ضرورة أنه من
مجهول المالك، مضافا إلى خبر أبي علي (1) بن الراشد " اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي
بألفي درهم، فلما وفرت المال خبرت أن الأرض وقف، فقال: لا يجوز شراء الوقف، ولا
تدخل الغلة في ملكك ادفعها إلى من أوقفت عليه، قلت: لا أعرف لها ربا، قال: تصدق
بغلتها " وهو صريح فيما ذكرنا، بل منه يعلم الحال في نسيان المصرف ونحوه، فإن
الجميع من واد واحد.
نعم لو علم الموقوف عليه، ولم يعلم سهامهم ولا ترتيبهم ولا عدمه ولو لتلف
ما رسمه الواقف، فالظاهر تساويهم في القسمة الذي هو الأصل في نظائره، خلافا

(1) الوسائل الباب - 6 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 1.
112

لبعض الشافعية فيوقف إلى أن يصطلحوا، وكذا لو اختلفوا في شرط الواقف ولا بينة،
يقسم بينهم بالسوية.
نعم لو علم تفضيل بعضهم على بعض ولم يعرف المفضل احتمل الوقف حتى
يصطلحوا والأقوى القرعة، وعن التذكرة أنه لا بعد في الرجوع إلى قول الواقف لو كان
حيا، لأنه هو المتصدق، وفيه أنه لا رجوع إليه بناء على رجوعه عن الوقف، إذ هو حينئذ
كالأجنبي، وكالبايع الذي لا يرجع إليه عند اختلاف المشتريين منه.
المسألة (التاسعة: إذا آجر البطن الأول الوقف مدة معينة) مثلا (ثم
انقرضوا) أجمع (في أثنائها فإن قلنا أن الموت يبطل الإجارة) في الملك المطلق
(فلا كلام) ضرورة أولوية المقام منه (وإن لم نقل فهل يبطل هنا؟ فيه تردد) من
اطلاق ما دل على صحة الإجارة ولزومها عموما وخصوصا، ومن انكشاف دخول غير ما لهم
من المدة في مدتهم (أظهره البطلان) كما في الخلاف والمبسوط والتذكرة والتحرير
والإرشاد والدروس والإيضاح واللمعة وجامع المقاصد والروض والروضة والمسالك، بل
لا أجد فيه خلافا.
(لأنا بينا أن هذه المدة ليست للموجودين) ضرورة اقتضاء الوقف تسبيل
المنفعة للموقوف عليه مدة العنوان الذي يجعله الواقف لا أزيد، والبطن الثاني يتلقى
عن الواقف كالأول، ولذا لا تمضي إجارته مدة يعلم بالعادة زيادتها على حياته مثلا
بل قد يتوقف في صحة غير ذلك لو صرح الواقف بإرادة تمليك البطن الأول على حسب
الملك المطلق، بناء على عدم مشروعية عقد الوقف لمثل هذا التمليك، وإن كان لا يخلو
من نظر.
لكن لا اشكال في حمل قصد الواقف مع الاطلاق على ما ذكرنا، وحينئذ فإجارته في
الفرض وقعت على ماله وما ليس له، بخلاف المالك الذي هو مسلط على أمواله، والوارث
إنما يرث ما يجده على ملكه، فمع فرض زيادة مدة الإجارة على موته لم يكن للوارث شئ،
إذ المنفعة صارت ملكا للغير بعقد الإجارة، وليست من تركة الميت.
وحينئذ (فيكون) في الفرض (للبطن الثاني الخيار بين الإجازة في الباقي
113

وبين الفسخ فيه) لأنه من الفضولي، وهو المراد من البطلان المزبور.
وإن كان قد يشكل أولا: بعدم المجيز له في المال بناء على اشتراط ذلك في
الفضولي وفرض عدمه، اللهم إلا أن يجعل الناظر الولي على ذلك، إلا أنه كما ترى.
وثانيا: بعدم الملك والمالك حال العقد ومجرد تأهل العقد لملكهم لو وجد وإلا
يجعله من الفضولي، اللهم إلا أن يدعى تناول أدلته لمثله، وتكون الإجازة حينئذ
كاشفة حال انقراض البطن الأول، لا حال وقوع العقد، وفيه بحث، ولعله لذا حكي
عن جماعة البطلان، الذي لا يترتب عليه أثر بالنسبة إليهم، لا بالمعنى الذي سمعته
من المصنف.
وعلى كل حال فمع الفسخ (و) تسليمهم الأجرة (يرجع المستأجر على تركة
الأولين بما قابل المتخلف) بلا خلاف ولا اشكال فينسب أجرة مثله إلى آجره مثل
مجموع المدة ويرجع من المسمى بمثل تلك النسبة، فلو كان قد آجره سنة بمأة ومات
بعد انقضاء نصفها، وفرضنا أن أجرة مثل النصف المتخلف تساوي ستين وأجرة مثل
النصف الماضي تساوي ثلاثين رجع المستأجر بثلثي المأة كما هو واضح.
فمن الغريب وسوسة بعض متأخري المتأخرين في ذلك، حتى تجرأ بعض من
تأخر عنه إلى الجزم بجواز إجارة البطن الأول مدة تستغرق عمر الموقوف عليه، معللا
له بأن المنفعة ملكهم ملكا مطلقا، والناس مسلطون على أموالهم، وهو كما ترى.
نعم لو كان المؤجر، الناظر على الوقف لمصلحة الوقف اتجه ذلك، لأن له الولاية
المقتضية لنفوذ تصرفه في ذلك مع وجودهم، فضلا عما قبله، والأجرة يملكها الموجودون،
وإن كانت هي عوضا عن منافع المدة المتأخرة عن حياتهم، إلا أنها بعد فرض المشروعية
لهذه الإجارة بالاجماع، وظاهر بعض النصوص الدالة على جواز اشتراط الناظر
صيرورته وليا للمال نفسه، وأن له هذه الولاية تكون حينئذ بمنزلة وجود المنافع المتأخرة
في حياتهم إلا أنها محبوسة أيضا لا يجوز لهم صرفها في غير التعمير ونحوه، مما يرجع
مصلحته للبطون أيضا، ولو سلم عدم الجزم بذلك، كان الحكم بالصحة كافيا في حصول
المطلوب وإن لم يجزم بتعيين ما لك ما زاد من المنافع على الموجودين، والله العالم.
114

ولو آجر المتولي بأجرة المثل في الحال، فاتفق زيادة لم تنفسخ الإجارة لا صالة
لزومها بعد وقوعها على الوجه المعتبر شرعا، فلا خيار له، نعم لو آجره زيادة عن المدة
التي اشترطها الواقف بطلت الإجارة في الزائد خاصة، لأنه من تبعض الصفقة، بل قد
يحتمل البطلان بالجميع، لأنه عقد مخالف لشرط الواقف، إلا أن الأول هو الأقوى.
المسألة (العاشرة لو وقف على الفقراء) مثلا (انصرف إلى) إرادة صرف نمائه
في ذي الوصف منهم، لا استيفاؤهم، ضرورة كون المراد من مثل هذا الوقف باعتبار عدم
انحصارهم الجهة المخصوصة، وحينئذ فله صرفه في (فقراء البلد، ومن يحضره) من
غيرهم، ولا يجب تتبع الجميع بلا خلاف أجده فيه.
(وكذا لو وقف على العلويين، وكذا لو وقف علي بني أب منتشرين، صرف إلى
الموجودين، ولا يجب تتبع من لم يحضر) فإن الجميع من واد واحد في عدم إرادة -
الاستيعاب وفي خبر علي بن محمد بن سليمان النوفلي (1) عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) " قال:
كتبت إليه أسأله عن أرض وقفها جدي على المحتاجين من ولد فلان بن فلان وهم كثير
متفرقون في البلاد، فأجاب (عليه السلام) ذكرت الأرض التي وقفها جدك على الفقراء من ولد فلان
هي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف، وليس لك أن تتبع من كان غائبا ".
لكن كلمات الأصحاب هنا لا تخلو من تشويش، إذ ظاهر المتن وغيره ممن عبر
كعبارته وجوب استيعاب فقراء البلد ومن يحضره من غيرها، بل لعله ظاهر الخبر المزبور
بل هو صريح المحكي عن شرح الإرشاد للفخر، قال: " إذا وقف على الفقراء صح إجماعا
ولم يكن لبيان المصرف إجماعا، بل كان تشريكا، وصرفه للكل معتذر لانتشارهم، و
للزوم خروج نصيب كل واحد منهم عن الانتفاع والتملك، وصرفه للبعض ترجيح من غير
مرجح، فلا بد من أن يقال: إنه يصرف إلى كل فقراء البلد، ومن حضر في البلد من غيرهم،
ويجب الاستيعاب مهما أمكن، فهذا الوقف يشابه بيان المصرف من جهة الاقتصار على
البعض، والتشريك من جهة أنه لا يجوز الاقتصار مع المسكنة ".
وفي الدروس " يفرق في فقراء بلد الوقف ومن حضره، ولا يجب تتبع الغائب، ولو

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 1.
115

تتبعه جاز، ولا ضمان في الأقرب بخلاف الزكاة، والفرق أن الفقراء فيها البيان المصرف
بخلاف الوقف، ولا يجزى أقل من ثلاثة، مراعاة لأقل الجمع، ولا يجب التسوية، بخلاف
المنحصرين " إلى غير ذلك من عباراتهم الظاهرة والصريحة، إلا أن ما في أيدينا من
العرف في أمثال ذلك على خلافه، وأنه لا فرق بينه وبين الزكاة والخمس.
وحينئذ فلا فرق بين الواحد والأزيد من أهل البلد وغيرهم، والحاضرين وغيرهم
ولا مدخلية لأقل الجمع، وكونه ثلاثة واثنين، بل يمكن إرادة ذلك من الخبر (1) المنساق
لبيان عدم وجوب التتبع، وإنه كان مشتملا على النهي، إلا أنه في مقام توهم الوجوب، و
إلا لاقتضى عدم جواز الدفع إلى غيرهم، وهو باطل إجماعا، كما اعترف به بعضهم بل
الظاهر أن المراد من قوله فيه " لمن حضر " بيان كونهم مصرفا لذلك، وإن كان لا يجب
استيعابهم، (لموضع المشقة) وغيره أيضا، وحينئذ فالمتجه الضمان مع التأخير،
بعد أن كان مقتضاه المصرفية ووجود المستحق، ضرورة كونه كالزكاة بالنسبة إلى ذلك.
(ولا يجوز للموقف عليه وطي الأمة الموقوفة) وإن انحصر في واحد، وقلنا:
بانتقال الملك إليه، بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له، بل قيل: قد يظهر من
المبسوط والتذكرة، أنه لا خلاف فيه بين الخاصة والعامة إلا أن ما ذكروه من الدليل
له لا يخلو من اشكال، (ل‍) أن المنصف وجماعة عللوه ب‍ (أنه لا يختص بملكها) و
غيره بأنه وإن كان مالكا إلا أن للبطون اللاحقة له حقا، ووطؤه وإن كان له انتفاعا
في زمن ملكه، إلا أنه يغاير غيره من وجوه الانتفاعات من حيث أنه معرض للحمل
الموجب لصيرورتها أم ولد المانعة من دوام وقفها على البطون، لانعتاقها بموته.
وهما معا كما ترى، إذ هما - مع أنهما غير تأمين في المنقطع المختص به، وفي اليائسة
ونحوها المعلوم عدم ولادتها - قد يناقش في الأول منهما بمنع عدم الاختصاص الآن وإن
تأهل العقد لملك البطن الثاني، إلا أنه ليس ملكا فعلا، حتى يترتب عليه الاشتراك
ونحوه، خصوصا مع فرض كون معدوما.
ومنه يعلم وجه المناقشة في الثاني الذي لا يتم على القول بعدم صيرورتها أم

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 1.
116

ولد بذلك أيضا، على أن مجرد تعريضها لذلك لا يمنع الموقوف عليه من الانتفاع
الحاصل له بسبب عقد الوقف فالعمدة حينئذ الاجماع إن تم.
(و) على كل حال ف‍ (لو أولدها كان الولد حرا) لأن وطأه غير معدود من
زنا لأنه مالك في الجملة (ولا) يجب (قيمت‍) ه (عليه) لمن بعده من البطون،
(لأنه) المستحق له الآن إذ الولد بمنزلة كسبها وثمرة البستان، وحينئذ ف‍ (لا يجب
له على نفسه غرم) وكذا لا مهر عليه للبطون الآتية.
نعم لو قلنا أن ولد الموقوفة وقف أيضا ففي المسالك " يجب أن يشتري بقيمته عند
سقوطه - حيا ما يكون وقفا " وفيه نظر، ولا يجب عليه الحد لما عرفت من عدم كونه زانيا
وإن أثم كالوطئ في الحيض، ولكن عليه التعزير مع العلم، بل عن التذكرة نفي الحد
عليه أيضا على القول بانتقال الملك إلى غيره، لأنها مسألة اجتهادية، لا يرفع ترجيح
أحد جانبيها أصل الشبهة عن الجانب المخالف، وهو كاف في درء الحد، ونفي عنه
البأس في المسالك. وإن كان فيه ما لا يخفى.
هذا كله إذا لم يكن له شريك، بأن انحصر أهل طبقته فيه، وإلا وجب عليه
قيمة حصة الشريك، بل في المسالك " وفي حده بنسبة حصته وجه قوي، لأن ملكها
مشترك بينهما على حد سواء، ووطء الأمة المشتركة يوجب ذلك، ولكن لم يتعرضوا
له هنا ".
قلت: قد يناقش فيه بعدم صدق الزاني عليه أيضا، ولا أقل من الشبهة التي تدرء
الحد أيضا، وقد مر تمام الكلام في ذلك في البيع فيما لو وطء أحد الشريكين الجارية
المشتركة.
(و) كيف كان ف‍ (هل تصير) الأمة في الفرض (أم ولد؟ قيل: نعم) كما
عن المبسوط والتذكرة وشرح الإرشاد للفخر والإيضاح وحواشي الشهيد، بل عن غاية
المراد نسبته إلى الأصحاب لتحقق علوقها منه في ملكه، وهو السبب في صيرورتها أم
ولد بالنص والاجماع على ما في المسالك.
(و) حينئذ (تنعتق بموته) كغيرها من أمهات الأولاد، (وتؤخذ القيمة
117

من تركته لمن يليه من البطون، وفيه تردد) بل منع، وفاقا لثاني المحققين والشهيدين
لمنع سببية مطلق ذلك على وجه يشمل الفرض الذي قد عرفت ظهور الأدلة في عدم
تغيره بالأسباب الاختيارية والقهرية، مضافا إلى خصوص استصحاب بقاء حكمه ولزومه و
دوامه، المقدم على عموم الاستيلاد، أو السالم عن معارضته، بعد معارضته بعمومات
الوقف، وخصوصا بناء على عدم اقتضاء الملك الوقفي الانعتاق، ولذا صح وقف من
ينعتق على الموقوف عليه عند بعض.
ثم على تقدير صيرورتها أم ولد، فلا خلاف أجده فيه في ترتب الحكمين المزبورين
حينئذ بل عن التذكرة والإيضاح الاتفاق على ذلك، بل عن المبسوط أن الناس
متسالمون على أخذ قيمتها من تركته وإنما اختلفوا فيماذا يعمل بها، فمن قال: إن
الموقوف عليه إذا أتلف اشترى بقيمته آخر قال هنا: يشتري بها أخرى تقوم مقامها، و
من قال: تنتقل إليه قال: أعطى من يليه من البطون تلك القيمة، كما إذا وجبت القيمة
وهو حي، وحاصل مراده أن الاتلاف منه على من بعده إنما هو بعد موته الذي هو
سبب في انعتاقها المترتب عليه رتبة كغيره من المسببات، وهو في ذلك الحال غير
مالك، وإنما هو زمان ملك البطن المتأخر فلا تكون القيمة له.
نعم يجري فيها الاحتمالان اللذان سمعتهما في قيمة العين الموقوفة والموقوف
عليه موجود، ولعل هذا هو الوجه في استشكال الفاضل في القواعد قال: " ومعه تنعتق
بموته، وتؤخذ من تركته قيمتها لمن يليه من البطون على اشكال " بل وتردد المصنف
بناء على رجوعه إلى ذلك، لا إلى صيرورتها أم ولد، واعترضهم الشهيد في شرح الإرشاد
" بأنها إذا صارت أم ولد حكم بنفوذ الاستيلاد في الحال، كما في صورة ما إذا وطأ
أحد الشريكين وعلقت، إلى أن قال: ولعلهم أرادوا ذلك، إلا أنه لما كان أحد
الاحتمالين صرفها إلى من يليه من البطون، وهو الآن غير مالك، تأخر الدفع إلى ما
بعد الموت، ولا يلزم منه تأخر الحكم بنفوذ الاستيلاد.
وفيه أولا: أن الفرق بين المقام وبين وطي الشريكين واضح ضرورة حيلولته بين
المالك وبين التصرف في ملكه، بمجرد الاستيلاد، بل بالاحبال، فتتوجه له القيمة
118

عليه، كما تطابقت عليه النصوص والفتاوى هناك، بخلاف المقام الذي لا حيلولة فيه بين
العين الموقوفة وبين البطن اللاحق، لعدم استحقاقه، ولأن الوقف كان هو السبب
في المنع من التصرفات الناقلة، فلا وجه لترتب الضمان عليه هنا بمجرد الاستيلاد.
وثانيا: أنه مناف لتصريح بعضهم بانعتاقها من نصيب ولدها، إذ على تقدير
أنها من وطي أحد الشريكين ينبغي أخذ القيمة منه، لأنه من نصيب ولدها، ومناف
أيضا لصريح المحكي عن المبسوط والتذكرة وبل كلامه نفسه في الحواشي بل ولظاهر
المتن وغيره بل للاجماع المحكي على أخذ قيمتها من تركته على كل حال، بل ولما
سمعته من عبارة الفاضل، لأنه على هذا التقدير لا تختص القيمة بمن يليه من البطون
قطعا، فلا يتجه الاشكال المذكور، لأن احتمال اختصاص البطن الذي يليه بها
إنما يتجه إذا كان الاتلاف واقعا حين اختصاصهم بالوقف، ولا يتحقق إلا إذا كان
الحكم بنفوذ الاستيلاد بعد الموت.
أما إذا حكمنا بنفوذه قبله فإن الاختصاص بالوقف ثابت للواطي حينئذ فإيجاب
القيمة عليه حينئذ على هذا التقدير إنما هو لتعلق حقوق الموقوف عليهم جميعا فكيف
يحتمل اختصاص البطن الذي يليه بالقيمة ليكون فيه اشكال، واحتمال أن المراد بقولهم
إن القيمة لمن يليه شراء جارية تكون وقفا لهم لاختصاصهم بذلك طلقا، يأباه صريح
المحكي عن المبسوط والتذكرة وظاهر غيرهما.
هذا مع أن الاستيلاد إنما يترتب عليه العتق الموجب للاتلاف بعد الموت،
ضرورة أن الولد إذا مات قبل أبيه لم يتحقق سبب العتق، المقتضي لبطلان الوقف
بعد تمامه ولزومه، ودعوى أن ذلك كاشف عن نفوذ الاستيلاد من حينه، ليس بأولى من
دعوى عدم تمامية السبب قبله، وليس في النصوص (1) إلا الانعتاق من نصيب الولد، ومسألة
وطي أحد الشريكين قد عرفت أنها مورد نص (2) وفتوى، ووجه الفرق بينها وبين ما نحن
فيه واضح، وقد أفرغنا الكلام فيها في محله فلاحظ وتأمل، على أنه لو سلم اقتضاء

(1) الوسائل الباب - 6 - من أبواب الاستيلاد.
(2) الوسائل الباب - 3 - من أبواب أحكام الشركة.
119

الاستيلاد ذلك كان المتجه شراء عين بدلها حينها، لا تأخيرها إلى البطن اللاحق
ملاحظة إلى إرادة استمرار الوقف واستدامته المقصود للواقف، بل هو مع كونه صدقة
جارية كما هو واضح.
وأضعف مما ذكره ما حكاه هو عن شيخه السيد عميد الدين في شرح مشكلات
القواعد وفي حلقة درسه من أن هذين الاشكالين إنما يتأتيان على تقدير دخول ولدها
في الوقف لينتقل إليه بموت أبيه شئ منها أو المجموع، أما على تقدير عدم دخوله في الوقف
فيموت الواطئ انتقلت إلى بطون آخر غيره فلم يجر للولد عليها ملك، فلا يفرض فيها
عتق.
وفيه أولا: أنه مناف لاطلاق صيرورتها أم ولد.
وثانيا: أنه مناف لما ذكره الفاضل في القواعد من جواز وقف من ينعتق على الموقوف
عليه، وأنه يبقى وقفا وحينئذ ملك ولدها لها على جهة الوقف لا يقتضي انعتاقها عليه،
إنما المقتضي له ملكها بطريق الإرث.
ومن ذلك يظهر لك زيادة ضعف القول بصيرورتها أم ولد، ضرورة توقف ذلك
على القول بخروجها عن الملك الوقفي إلى غيره من الملك بالاستيلاد من حينه أو قبل
الموت بآن ما، ليتوجه وارثية ولدها حينئذ نصيبا منها ينعتق عليه، ويسري في غيره،
فيؤخذ القيمة منه، وهو كما ترى، ضرورة أن الاستيلاد لا يغير كيفية الملك، وإنما هو يبطل
سلطنة بعض التصرفات فيه.
وكذا يظهر لك منه أيضا ما في جملة من الكتب في هذه المسألة التي قال فخر
المحققين: " تسمى بمتشعبة المبادي ".
ثم لا يخفى عليك أن جميع ما ذكرناه على فرض اختصاص البطن الأول بالواطئ
أما مع فرض شريك له فهل يحكم بالقيمة من حين الاستيلاد، أم بعد الموت؟ الظاهر
الثاني كما في جامع المقاصد لمثل ما قلناه، وإن خالف في ذلك الشهيد في نكت
الإرشاد، إذ هي الآن باقية على حكم الوقف، فلا ضرر على الشريك إلا بالموت المقتضي
لانعتاقها، كما عرفت.
120

كما لا يخفى عليك أيضا أن المتجه على ما سمعته من الشهيد أخذ قيمة عوض الأمة
من أصل التركة يشترى بها ما يكون وقفا للموقوف عليهم، ثم يغرم الولد ما زاد على نصيبه
من أصل التركة، للورثة بسبب الانعتاق الحاصل من سراية انعتاق نصيبه عليه بل
لعل ذلك كذلك بناء على ظاهر كلمات الأصحاب أيضا بل ربما كان هو المنساق من
نحو عبارة المتن، اللهم إلا أن يقال إنها تنتقل من الواقف إلى خصوص ولده دون
باقي الورثة فيختص حينئذ بغرم قيمتها للموقوف عليهم من نصيبه، لكنه كما ترى، ولو
كانت الأمة موقوفة على الواطي وقف انقطاع، وقلنا بانتقال الملك إليه فأولدها ففي
غرامته القيمة فعلا، أو إلى أن يموت، البحث السابق، وكذا لو أولدها الواقف وقلنا
هو المالك، لا الموقوف عليه.
و) كيف كان فلا خلاف بيننا كما اعترف به بعضهم صريحا وظاهرا في أنه
(يجوز تزويج الأمة الموقوفة) وما عن جامع الشرايع من نسبة عدم الجواز إلى القيل
لا يقتضي كون القائل منا، كما أن التعبير في محكي المبسوط والتحرير عن الحكم
بالأقوى والأقرب لا يقتضي ذلك أيضا بل لا ينبغي الاشكال فيه أيضا ضرورة أنه عقد
على بعض منافعها كالإجارة، واقتضاء ذلك التعريض لها للحبل المعطل لها والذي
يتحقق معه التلف بالطلق لا يمنع جواز الانتفاع بها المملوك لهم بعقد الوقف ومن
ذلك يعلم قوة جواز وطئ الواقف لها إن لم يكن اجماعا.
وعلى كل حال فالمتولي لتزويجها هو الموقوف عليه، بناء على الانتقال
إليه، والواقف بناء على البقاء على ملكه، والحاكم بناء على الانتقال إلى الله تعالى
شأنه، كما لو كانت أيضا موقوفة على جهة العموم، وما عن الشيخ من تزويجها لنفسها
على الأخير في غير محله، وكذا احتمال أنه الموقوف عليه مطلقا، لأنه من المنافع التي
هي له، وإن كان الملك للعين غيره.
وكذا الاخلاف (و) لا اشكال في أن (مهرها للموجودين من أرباب الوقف،
لأنه فائدة كأجرة الدار) فلا مدخلية لمالك العين حينئذ، إذ لا يخفى عليك الفرق
بين النكاح وغيره، في توقف الأول على الإذن من السيد وهو المالك للعين، ولا
121

يكفي فيه ملك المنفعة، بخلاف غيره، ولعل هذا هو السبب في اتفاقهم ظاهرا على
كون المتولي للنكاح على التفصيل الذي ذكرناه، وإن كان هو أيضا إن لم يكن اجماعا
محلا للنظر، بعد اقتضاء عقد الوقف تمليك سائر المنافع للموقوف عليه التي منها النكاح
كما هو المفروض.
(وكذا ولدها من نمائها، إذا كان من مملوك أو من زنا) إذ هو كثمرة البستان
(و) حينئذ (يختص به البطن الذي تولد معهم) وإن كانوا غير من حصل العقد
في زمانهم، بل الظاهر اختصاص من كان علوقه في زمانهم وإن لم يولد، خلافا
للمحكي عن الإسكافي والشيخ من تبعية الولد للأم في الوقف كالمدبرة والمرهونة إذ
هو بعد تسليم الحكم في المقيس عليه لا يصح عندنا، بناء على حرمة القياس كما هو
واضح.
(فإن كان من حر بوطئ صحيح كان حرا) بلا خلاف ولا اشكال تغليبا لجانب
الحرية بالتبعية لأشرف الأبوين (إلا أن يشترطوا) عليه (رقيته في العقد) فإنه
يكون رقا حينئذ، خلافا لبعض كما تسمعه في كتاب النكاح انشاء الله تعالى.
(ولو وطأها الحر بشبهة، كان الولد حرا) لأنها كان كالصحيح بالنسبة إلى
ذلك، (و) لكن (عليه قيمته) طلقا (للموقوف عليهم) بناء على ما عرفت كما
لو وطأ غير الموقوفة شبهة، لأنه السبب في اتلاف النماء على أهله كما هو واضح، ومحرر
في محله.
(ولو وطأها الواقف كان كالأجنبي) بناء على خروجها عنه عينا ومنفعة
بالوقف هذا كله في الوقف.
(وأما الصدقة) غير الوقف التي قد تواتر ندبها والحث على فعلها حتى صار
ذلك من ضروري المذهب، بل الدين، خصوصا في شهر رمضان وخصوصا على الجيران
وخصوصا على الأرحام، فإن الصدقة بعشر (1)، وصلة الاخوان بعشرين وصلة الأرحام بأربع
وعشرين وهي دواء المريض (2)، ودافعة البلاء وقد أبرم ابراما (3)، وبها يستنزل الرزق (4) و

(1) الوسائل الباب - 20 - من أبواب الصدقة.
(2) الوسائل الباب - 1 إلى 20 - من أبواب الصدقة.
(3) الوسائل الباب - 1 إلى 20 - من أبواب الصدقة.
(4) الوسائل الباب - 1 إلى 20 - من أبواب الصدقة.
122

تقع في يد الرب قبل يد العبد (1)، وتقضى الدين وتخلف البركة وتزيد في المال، ويستحب
التبكير بها لدفع شر ذلك اليوم (2) وفي أول الليل كذلك (3) وأنها تدفع ميتة السوء والداء،
والدبيلة، والحرق، والغرق، والهدم، والجنون إلى أن عد سبعين بابا من السوء (4)
إلى غير ذلك مما ورد فيها، هذا.
ولكن قال الصادق (عليه السلام): في خبر زرارة (5) " إنما الصدقة محدثة، إنما كان الناس
على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينحلون ويهبون، ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع
فيه، قال: وما لم يعط لله تعالى أو في الله تعالى، فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة
حيزت أو لم تحز، ولا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته ".
ولعل المراد على ما قيل: أن الناس كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتصدق
بعضهم على بعض، إذا أرادوا معروفا فيما بينهم، سوى الزكاة وما يعطى لأهل
المسكنة، بل كانوا يهبون وينحلون، إما لإرادة تحصيل ملكة الجود، أو لإرادة سرور
الموهوب له، والإثابة منه، وغير ذلك، وإنما صدقة بعضهم على بعض في غير الزكاة و
الترحم للمساكين أمر محدث، أعني القصد بالهبة والنحلة لله تعالى شأنه المسمى
ذلك بالصدقة محدث، كما يشهد لذلك في الجملة ما في خبر ولده (6) " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الرجل يتصدق بالصدقة أله أن يرجع في صدقته؟ فقال: إن الصدقة
محدثة، إنما كان النحل والهبة، ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز
ولا ينبغي لمن أعطى شيئا لله عز وجل أن يرجع فيه ".
وربما احتمل كون المراد حدوث الصدقة بمعنى الوقف، إلا أنه كما ترى، ومن هنا
قال في محكي المبسوط: إذا قصد الثواب والتقرب بالهبة إلى الله تعالى سميت
صدقة، وفرق بذلك بينها وبين الهبة والهدية.

(1) الوسائل الباب - 1 إلى 20 - من أبواب الصدقة.
(2) الوسائل الباب - 1 إلى 20 - من أبواب الصدقة.
(3) الوسائل الباب - 1 إلى 20 - من أبواب الصدقة.
(4) الوسائل الباب - 9 - من أبواب الصدقة الحديث - 1.
(5) الوسائل الباب - 3 - من أبواب أحكام الهبات الحديث 1.
(6) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الهبات الحديث 1.
123

وفي الحدائق الظاهر أن اطلاق الصدقة على هذا المعنى المشهور المشروط
بالشروط المعلومة أمر محدث، لم يكن في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما كان الذي في زمنه
النحل والهبات، والصدقة يومئذ إنما تستعمل بمعنى الوقف، كما في صدقات على و
فاطمة (عليهما السلام) والكاظم (عليه السلام) (1)، ثم استدل على ذلك بخبر عبيد المزبور، مدعيا ظهوره في
السؤال عن الصدقة المعهودة، فأجاب بأنها بهذا المعنى محدث، وإنما المستعمل
يومئذ النحل والهبة، ثم أجاب بأن من أعطى لله أي قرن عطيته بالقربة صدقة أو هبة
أو نحله لا ينبغي الرجوع فيه، وأما قوله ولمن وهب فالمراد به عدم القربة، وفيه أن ما ورد
من الكتاب والسنة بهذا اللفظ مرادا به هذا المعنى لا يكاد يحصى، فليس المراد إلا
حصول الحدوث بالمعنى الذي ذكرناه، ولعله هو الذي ينطبق عليه ما عن التذكرة و
المسالك من أن الهبة أعم من الصدقة، لاشتراطها بالقربة دونها، وأن الهدية أخص
من الهبة أيضا لأنها تفتقر إلى حمل الهدى من مكان إلى مكان، فلا يقال: أهدى إليه
دارا أو عقارا، بل يقال: وهبه ذلك، فلو نذر الهبة برئ بالصدقة والهدية، ولو حلف
أن لا يهب حنث إذا تصدق أو أهدى، دون العكس، وهل يعتبر في حد الهدية أن
يكون بين المهدي والمهدى إليه واسطة أو رسول وجهان: أظهرها العدم وهو جيد،
إلا أنك ستعرف أنها أعم منه من وجه.
(و) على كل حال ف‍ (هي عقد يفتقر إلى ايجاب وقبول) بلا خلاف محقق
أجده فيه، بل عن ظاهر المبسوط وفقه الراوندي والغنية والكفاية والمفاتيح الاجماع
عليه، بل صريح بعض وظاهر آخر اعتبار ما يعتبر في العقد اللازم فيها.
لكن في الرياض يعتبر فيها ما يدل على الايجاب والقبول ولو فعلا، وفاقا لبعض
أصحابنا خلافا لجماعة فاشترطوا فيها ما يشترط في العقود اللازمة، واطلاق النصوص
بلزوم الصدقة بعد القبض وقصد القربة يدفعه، وهي وإن اشتملت ما ليس فيه ايجاب و
قبول بالمرة، إلا أن اعتبارهما ولو فعلا لازم البتة، فإن مع عدمها لا يعلم كونها صدقة
مضافا إلى عدم انصراف الاطلاق بحكم التبادر إلى خلافهما، هذا مضافا إلى الاتفاق

(1) الوسائل الباب - 6 - من أبواب أحكام الوقوف.
124

في الظاهر على اعتبارهما في الجملة، وسيأتي عن المبسوط أن عليه اجماع الإمامية، و
فيه أن ما ذكره أيضا مناف للمتفق عليه في الظاهر من كونها عقدا بالمعنى المتعارف الذي
قد عبروا به في غيرها من العقود، ومن المعلوم عدم تحققه اصطلاحا بالايجاب الفعلي
كما أن من المعلوم تحقق الصدقة بالأفعال، ولو من الطرفين، فلا محيص عن التزام أن
لها عقدا أو معاطاة على نحو ما سمعته في البيع، بل كان ينبغي التزام الجواز في الثاني
وإن اندرج تحت اسم الصدقة على نحو اندراجها في اسم البيع، إلا أن ظاهر قوله
في نصوص المقام " أن ما كان لله تعالى لا رجوع فيه " يقتضي لزومها، ضرورة استبعاد
حمله على خصوص العقد منها، كاستبعاد القول بجوازها وإن قصد الله تعالى شأنه
فيها، باعتبار عدم العقد فيها، فيتعين القول بلزومها وإن كانت معاطاة، إذ هو جهة
غير جهة العقدية والمعاطاتية، والمتفق عليه في باب المعاطاة من الفرق بين العقد
اللازم ومعاطاته بالجواز وعدمه، إنما هو إذا كان اللزوم من جهة العقدية، لا ما إذا كان
من جهة هي متحققة في العقد ومعاطاته، بل لولا الجهة المخصوصة لكان عقدها جايزا
ضرورة كونه حينئذ هبة، وهي من العقود الجايزة.
ومن ذلك يعلم أنه لا وجه لاعتبار ما يعتبر في العقود اللازمة من اللفظ المخصوص
ونحوه، ضرورة كون لزومها من جهة القربة لا من جهة العقدية، فهي حينئذ كالهبة
المعوضة.
نعم يبقى شئ وهو احتمال دعوى أعمية الصدقة من العقد، ضرورة صدقها
على الابراء المتقرب به، والوقف كذلك، بل وعلى بذل الطعام والماء ونحوهما للفقراء
والمساكين مثلا، وإن لم يكن على جهة معنى العقدية الذي هو قصد الارتباط
بالايجاب والقبول، ولقد كان علي بن الحسين (عليه السلام) (1) " يتصدق على الفقير في السر على
وجه لا يحصل فيه معنى العقدية، بل لا يبعد كونها دفع المال مجانا قربة إلى الله
تعالى شأنه، فإن كان مورده الابراء، كان صدقة وابراء، وإن كان مورده الهبة،
كان هبة وصدقة، وإن كان مورده الوقف، كان وقفا وصدقة، وإن كان غير ذلك كان

(1) الوسائل الباب - 13 - من أبواب الصدقة الحديث - 8.
125

صدقة، ومنه الزكاة والكفارة ونحوهما،
فالابراء حينئذ منه ما هو صدقة، ومنه ما هو ليس كذلك، وكذلك الهبة والوقف،
وحينئذ فيجري على كل منها أحكام ذلك إلا الرجوع بها حيث تقوم مقام الهبة للعلة
التي سمعتها، وليست هي عقدا مستقلا تقوم مقام المذكورات على نحو الصلح، كما
عساه يظهر من أفرادها بكتاب عن الهبة واطلاقهم كونها عقدا، لكنه ليس في محله
عند التأمل، وإلا لاحتاجت إلى القبول في قيامها مقام الابراء، ومن المعلوم خلافه،
بل لم يجر حكم الابراء حينئذ على ما كان صدقة منه وكذا الوقف والهبة، وبذلك يظهر
أن ذلك ليس ممنوعا لها عنها، كما أومئ إليه الفاضل وغيره فيما سمعته من الحنث
بالصدقة لو حلف أن لا يهب ولا يهدي.
وبذلك يظهر لك النظر فيما ذكره في جامع المقاصد حيث قال: " إن ما ذكروه في
الاحتجاج على أن الابراء لا يحتاج إلى القبول، وهو قوله تعالى (1) " وأن تصدقوا خير
لكم " حيث فسروا الصدقة هنا بالابراء، يقتضي عدم اشتراط القبول، ولا نية القربة ".
إذ هو كما ترى لا يقتضي إلا عدم اعتبار القبول في هذا القسم خاصة وأما اعتبار
القربة فهو من مقوماتها دونه، فليس كل ابراء صدقة، ولا كل صدقة ابراء، وكذلك الهبة
والوقف، بل بينها وبين هذه العموم من وجه، لما عرفت من صدق الصدقة على ما لا يندرج
في شئ منه، فليست هي إلا لمعنى متحد شامل للجميع، وهذه أفراده، وكل فرد منها
داخل تحت اسم آخر يلحقه حكمه، وإن سمى باعتبار قصد القربة فيه أنه صدقة، إلا أن
ذلك كله مناف لظاهر جعلها عقدا مستقلا عن الهبة، الظاهر في مباينتها لها، وأن
التميز بينها وبين الهبة بالقصد وإن اتحد موردها، وحينئذ لا تجتمع الصدقة العقدية
مع غيرها من العقود أصلا، والهبة قربة إلى الله تعالى مع عدم القصد بأنها صدقة
تكون هبة لا صدقة، وبالعكس صدقة لا هبة.
وبذلك يظهر النظر في جملة من الكمات السابقة، ولعله إلى ذلك يرجع ما في
المسالك وإن كان هو لا يخلو من نظر من وجه آخر، قال: قد يلوح من بعض كلامهم

(1) سورة البقرة الآية - 28.
126

عدم الاتفاق على اشتراط القربة، حيث استدلوا على أن الابراء لا يحتاج إلى القبول
بقوله تعالى (1) " وأن تصدقوا خير لكم " وفسروا الصدقة هنا بالابراء، مع أنه غير مفتقر إلى
القربة، ويلزم منه عدم افتقارها إلى القبول أيضا كذلك، إلا أن يقال: إنها تطلق على
معنيين: خاص وعام، وأن الابراء صدقة بالمعنى العام، وكلامهم هنا في المعنى الخاص
وقد تقدم في الوقف أنه صدقة، والأخبار مشحونة به، مع أن الأصح عدم اعتبار نية القربة
فيه، وهذه فوائد اعتبار معنى العام ".
(و) كيف كان فتفتقر صحتها مع الايجاب والقبول إلى (اقباض) أي القبض
بإذن، بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به غير واحد، بل قيل: إنه قد يلوح الاجماع على
ذلك، أو يظهر من المبسوط وفقه الراوندي بل عن التذكرة، الاجماع عليه في موضعين
وهو الحجة بعد النصوص المذكورة في الوقف، كحسنة عبيد بن زرارة (2) عن الصادق (عليه السلام)
" في رجل يتصدق على ولد له قد أدركوا فقال: إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث " و
غيره مما تقدم سابقا لما عرفت من أعمية الصدقة من الوقف، فترك الاستفصال حينئذ
يقتضي العموم، بل قد يدعى أنه المتبادر من نصوص الصدقة المشتملة على ذلك فإنها
بمعنى الاعطاء صدقه، بل ربما يستدل بأصالة عدم الصحة أيضا، إلا أنه في غير محله،
لانقطاعه بالعمومات.
نعم يتجه الاستدلال عليه بما دل على اعتباره في الهبة بناء على أنها هي مع
زيادة نية القربة التي اقتضت عدم جواز الرجوع بها بعد اجتماع شرائط صحتها التي
منها الاقباض المزبور.
(و) حينئذ ف‍ (لو قبضها المعطى له، من غير رضا المالك لم ينتقل إليه)
لعدم حصول الاقباض الذي هو بمعنى القبض بالإذن، كما في كل مقام كان القبض
فيه من شروط الصحة، لا لكونه منهيا عنه حينئذ بدون الإذن، إذ هو معاملة لا ينافي
ترتب أثره عليه كونه محرما، ولكن لكون الشرط الاقباض ولو للاجماع على ذلك، لم

(1) سورة البقرة الآية - 28.
(2) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 5.
127

يحصل الشرط حينئذ، فلم يترتب عليه الأثر، فضلا عن عدم القبض أصلا، وارتفاع
الضمان عن المبيع - بقبض المشتري من دون إذن البايع - إنما هو لعدم كون القبض
فيه شرطا للصحة، كما في الفرض، لتمامية الملك بعقد البيع، وإنما وجب الإذن للتقابض
الذي هو مقتضى المعاوضة، وهو أمر خارج عما نحن فيه، والضمان بالتلف قبل قبضه إنما
كان لفوات المعاوضة، فمع فرض تحققه تمت المعاوضة، فلا ضمان بعد على البايع حينئذ
من هذه الجهة، وإن كان القبض بغير إذنه.
نعم لا يرتفع الخيار مثلا بهذا القبض ولا غيره من الأحكام التي تترتب على
القبض والله العالم.
(ومن شرطها) إن لم يكن من مقوماتها (نية القربة) بلا خلاف أجده فيه
بل الاجماع بقسميه عليه، والمناقشة في ذلك - وفي اعتبار القبول بقوله تعالى (1) " و
إن تصدقوا خير لكم " المستدل به على الابراء - قد عرفت جوابها مما تقدم، كل ذلك
مضافا إلى حسنى حماد وصحيحه (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " لا صدقة ولا عتق إلا ما أريد
به وجه الله عز وجل "، وصحيح محمد بن مسلم (3) عن أبي جعفر (عليه السلام) " ولا يرجع في
الصدقة إذا ابتغى وجه الله عز وجل " وخبر الحكم (4) " إنما الصدقة لله فما جعل لله فلا
رجعة له فيه " وغير ذلك من النصوص الدالة عليه حتى النبوي (5) المروي في الطرفين
أن مثل الراجع في صدقته مثل الراجع في قيئه ".
(و) حينئذ ف‍ (لا يجوز الرجوع فيها بعد القبض على الأصح) بل عن
السرائر والتذكرة وظاهر المفاتيح وكذا الغنية الاجماع عليه، للعموم المقتضي ذلك،
والخصوص الذي عرفته، و (لأن المقصود بها الأجر وقد حصل، فهي كالهبة المعوض
عنها) وكالعبادة التي لا خيار فيها، مضافا إلى أولوية اللزوم في المقام منه في

(1) سورة البقرة الآية - 28.
(2) الوسائل الباب - 13 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 2 - 3.
(3) الوسائل الباب - 14 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 7 و 4.
(4) الوسائل الباب - 11 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 1.
(5) الوسائل الباب - 14 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث 7 و 4.
128

الهبة المنوي فيها القربة المحكي عليه الاجماع عن الإنتصار والغنية والتذكرة إن لم -
تكن هي، كما عرفته سابقا.
لكن مع ذلك كله عن المبسوط، والمهذب وفقه الراوندي أن صدقة التطوع
بمنزلة الهبة في جميع الأحكام، ومن شرطها الايجاب والقبول، ولا تلزم إلا بالقبض أو.
ما يجري مجراه، وكل من له الرجوع في الهبة، له الرجوع في الصدقة، ولا ريب في ضعفه
وإن احتمل بناءه على عدم اعتبار القربة في الصدقة، إذ هو لا يخفى عليك ما فيه، بل
المحكي عن صريحه التصريح باعتبار القربة في مفهومها، فضلا عن كونه شرطا فيها، وما
أبعد ما بينه، وبين المحكي عنه في النهاية، والمفيد في المقنعة، ومن أن ما تصدق به
لوجه الله فلا يجوز أن يعود إليه بالبيع أو الهبة أو الصدقة، وإن رجع بالميراث كان
جائزا، ولعله لقول الصادق (عليه السلام) في صحيح منصور بن حازم (1) " إذا تصدق الرجل بصدقة
لم يحل له أن يشتريها، ولا يستوهبها ولا يستردها إلا في ميراث " المحمول على الكراهة
لمعارضته للعمومات التي هي أصول المذهب وقواعده، بل عن المحقق حمل عبارة
النهاية على ذلك، بل عن ابن إدريس نفى الخلاف عن جواز الرجوع بذلك، ولعله
تحمل عبارة المقنعة على ذلك أيضا.
(و) كيف كان ف‍ (الصدقة المفروضة) أو الزكاة منها خاصة (محرمة علي بني
هاشم إلا صدقة الهاشمي أو صدقة غيره عند الاضطرار، ولا بأس بالصدقة المندوبة
عليهم) مطلقا أو ما عدا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) منهم، كما تقدم الكلام في ذلك مفصلا.
ومن الغريب أنه بناء على أن الصدقة هي الهبة المتقرب بها وكذا الهدية وأن
المندوبة محرمة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) يتوجه تحريمها حينئذ عليهم إلا مع عدم
ملاحظة القربة ويمكن القطع بعدمه، ومنه يعلم كون كل منها مفهوما مستقلا عن الآخر.
(مسائل ثلاث)
(الأولى): قد عرفت أنه (لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض، سواء عوض
عنها أو لم يعوض، لرحم كانت أو لأجنبي على الأصح) خلافا لمن سمعت، فجعل حكمها

(1) الوسائل الباب - 12 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 1.
129

حكم الهبة، لأنها قسم منها، وقد عرفت ضعفه.
ولكن لا يخفى أن مرجع ذلك ومرجع ما سمعته عن التذكرة وغيرها أن الصدقة
حينئذ الأوصاف اللاحقة للهبة، وليست عقدا مستقلا مقابلا لها، وحينئذ فإذا أفسدت
النية فيها بمنافاة الاخلاص ونحوه يتجه ثبوت حكم الهبة لها حينئذ فله الرجوع بها
حينئذ مع عدم العوض، وعدم كونها لرحم، وإلا فلا يجوز، أما على ما قلناه من كونها عقدا
مستقلا فالمتجه بطلان العقد حينئذ بفساد شرطه، فتأمل جيدا والله العالم.
المسألة (الثانية: يجوز الصدقة على الذمي) وغيره من الكافر غير الحربي (و
إن كان أجنبيا) على الأصح (لقوله (عليه السلام) " على كل كبد حراء أجر (1) " ولقوله تعالى لا
ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و
تقسطوا إليهم (2) " وغير ذلك مما سمعته في الوقف، فإن المسألة من واد واحد دليلا، و
خلافا والله العالم.
المسألة (الثالثة: صدقة السر) التي تطفئ غضب الرب (3) (أفضل من) صدقة
(الجهر) بلا خلاف أجده فيه بل في المسالك هو موضع وفاق، قال الله تعالى (4) " و
إن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " وعن الصادق (عليه السلام) (5) " والله الصدقة في السر
أفضل منها في العلانية " إلى غير ذلك، (إلا أن يتهم في ترك المواساة، فيظهرها
دفعا للتهمة) التي تجنب عنها سيد الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) مع بعده عنها فضلا عن غيره أو قصد
الاقتداء به، أو ترغيب الناس، أو نحو ذلك مما يقترن به الجهر على وجه يرجح على مراعاة
السرية التي هي أرجح من الجهرية من حيث نفسها.
نعم في الدروس وغيرها تخصيص ذلك للمندوبة، أما الواجبة فالأفضل اظهارها،
كما عن تفسير علي بن إبراهيم روايته (6) عن الصادق (عليه السلام)، ولبعدها عن تطرق الريا، و

(1) الوسائل الباب - 19 - من أبواب الصدقة الحديث - 2 والمستدرك ج 1 ص 546.
(2) سورة الممتحنة الآية - 8.
(3) الوسائل الباب - 13 - من أبواب الصدقة الحديث - 1.
(4) سورة البقرة الآية - 271.
(5) الوسائل الباب - 13 - من أبواب الصدقة الحديث - 1.
(6) الوسائل الباب - 54 - من أبواب المستحقين للزكاة الحديث - 1.
130

للأمر بحملها إلى الإمام المنافي للكتمان، بل عن ابن عباس (1) " أن صدقة السر في التطوع
تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة و
عشرين ضعفا " لكن المصنف وغيره أطلقوا أفضلية السر، وهو لا يخلو من وجه والأمر
سهل بعد ايكال الأمر إلى عالم السر والجهر، والله العالم.
ويكره الصدقة بجميع ماله على ما صرح به غير واحد، ولعله لقوله تعالى (2) " يسئلونك
ماذا ينفقون، قل العفو " أي الوسط وقوله تعالى (3) " ولا تبسطها كل البسط " (4) " وإذا أنفقوا
لم يسرفوا " وقوله (عليه السلام) (5) " أفضل الصدقة عن ظهر غنى " لكن لا يخفى عليك رجحان مقام
الايثار الذي أشار إليه رب العزة بقوله (6) " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " و
فعله الأولياء، ولعله لذا قال في الدروس: " ويكره أن يتصدق بجميع ماله إلا مع وثوقه
بالصبر ولا عيال له " وكأن الرجوع في ذلك كله إلى الموازين الشرعية - المختلفة باختلاف
الأمكنة والأزمنة والأحوال - هو المتجه في ذلك وفي غيره، كالصدقة وعنده عيال محتاجون
أو عليه دين التي نفى استحبابها في الأول في القواعد، وعن غيرها، وحكم بكراهتها
في الثاني.
لكن من المعلوم إرادة قلة الثواب من ذلك، نحو الصدقة على الأجنبي مع حاجة
القريب الذي ورد فيها (لا صدقة وذو رحم محتاج) المراد منها المرجوحية بالنسبة إلى
تلك، التي سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي الصدقة أفضل؟ قال على الرحم الكاشح) هذا.
وقد تضمنت النصوص وظائف كثيرة للصدقة، كما أنها تضمنت الحكم بالصدقة في

(1) المستدرك ج 1 ص 534.
(2) سورة البقرة الآية - 215.
(3) سورة الإسراء الآية - 29.
(4) سورة الفرقان الآية - 67.
(5) الوسائل الباب - 28 - من أبواب الصدقة الحديث - 4.
(6) سورة الحشر الآية - 9.
(7) الوسائل الباب - 20 - من أبواب الصدقة لحديث - 4 - 1.
(8) الوسائل الباب - 20 - من أبواب الصدقة لحديث - 4 - 1.
131

جملة من الأمور كالتوسعة على العيال، وبذل الجاه، والكلمة اللينة ونحو ذلك مما
هو مراد منها مشابهتها في الفضل، لأنها منها حقيقة، فلاحظ وتدبر. والله العالم
والموفق والمؤيد والمسدد.
132

(كتاب السكنى) وأختيها (والحبس)
(وهي عقد) بالمعنى الأعم الشامل للمعاطاة بناء على مشروعيتها (يفتقر)
في الصحة (إلى) معنى (الايجاب والقبول) ولو فعلا بلا خلاف ولا إشكال، و
يفتقر في اللزوم إلى اللفظين منه على نحو غيرها من العقود اللازمة التي شرعت المعاطاة
فيها، على أنها من أفرادها ولا فرق في ذلك بين كونها مطلقة، أو مقترنة بمدة أو عمر، كما
هو ظاهر الأصحاب، وجواز الرجوع بها في الأول متى شاء لا ينافي افتقار مشروعيتها إلى
معنى الايجاب والقبول، على حسب ما سمعته في العقود الجايزة على أن الظاهر
لزومها في الفرض أيضا بالنسبة إلى مسمى الاسكان، وجواز الرجوع لمكان تحقق مقتضاها
لا لكون العقد جائزا، وإلا لجاز عدم إسكانها أصلا والأمر في ذلك سهل.
(و) أما (القبض) فلا خلاف أجده في اعتبارها فيها أيضا، بل في الرياض
عن ظاهر جماعة وصريح آخر الاجماع عليه. نعم في جامع المقاصد ينبغي أن يكون اشتراطه
على القول باللزوم، أما على عدم اللزوم فإنه بمنزلة العارية، والظاهر أن مراده ما في الروضة
من أنه إنما يشترط على تقدير لزومها، أما لو كانت جائزة فالاقباض شرط في جواز التسلط
على الانتفاع، ولما كانت الفائدة بدونه منتفية، أطلق اشتراطه فيها، وإلا فلا يخفى
عليك عدم منافاة شرطيته لجواز، كما في القبض بالنسبة إلى الهبة، على معنى عدم
تحقق أثر العقد إلا به، هذا.
وعن المبسوط والمهذب وفقه الراوندي والسرائر وغيرها أنه يفتقر في صحتها إلى
الايجاب والقبول، ولزومها إلى القبض، ولعله لا يخلو من قوة، لأن العمدة في اشتراطه
اجماع الخلاف، وهو أنه إنما يقتضيه، لا الصحة التي هي من مقتضى العمومات والاطلاقات
قال في المحكي عنه: (إذا أتى بواحدة منها أي العقود الثلاثة، وأقبضه فقد لزمت
العمرى، ثم ادعى عليه اجماع الفرقة وأخبارهم.
لكن ظاهر الأكثر وصريح بعض أنه شرط في الصحة، بل الظاهر أنه معقد ما
133

سمعته من الرياض، ولعله لكونها من لواحق الوقف أو الهبة، بل في المحكي من كلام
ابن حمزة اعتبار نية القربة في صحتها أيضا، ولا دليل عليه، بل لا دليل على اعتباره
في لزومها أيضا كما هو المحكي عن المقنعة والكافي وجامع الشرايع والغنية، بل ظاهر
الأدلة كعموم " أوفوا " (1) و " المؤمنون " (2) وغيرهما لزومها بدون ذلك، وغيرها.
ومن هنا كان ظاهر الأكثر أو المشهور ما هو صريح جماعة من عدم اعتبارها في
الصحة واللزوم، وإن توقف عليها حصول الثواب. نعم في جواز السكنى المطلقة أو
لزومها في المسمى خلاف تسمع تحريره انشاء الله.
(و) على كل حال ف‍ (فائدتها التسلط على استيفاء المنفعة) تمام المدة
المشترطة (مع بقاء الملك على) ملك (مالكه) بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به
غير واحد، إلا ما يحكى عن الشيخ والراوندي وابن البراج من اقتضائها نقل العين
في خصوص ما لو قال: هذه الدار لك عمرك ولعقبك من بعدك، مع أنا لم نتحقق ذلك عن
الشيخ وابن البراج، بل المتحقق عن أولهما خلافه، وإن حكى عنه ما يوهم ذلك، وعلى
تقديره فلا ريب في ضعفه، ضرورة عدم اختلاف مقتضاها باختلاف كيفية تعلقها، مع أن
الأصل بقاء الملك على ملك مالكه، كما ستسمع تحقيق الحال فيه.
وإنما غرض المصنف وغيره فيما ذكره التنبيه على خلاف بعض العامة حيث جعلها
مفيدة فائدة الهبة على بعض الوجوه، فينتقل ملك العين إلى الساكن وهو واضح
الفساد. والله العالم.
(
و) كيف كان ف‍ (يختلف عليها) أي السكنى (الأسماء بحسب اختلاف
الإضافة، فإذا اقترنت بالعمر قيل: عمري) وسكنى (وبالاسكان) وحده (قيل:
سكنى) خاصة (وبالمدة) المعينة (قيل:) سكنى و (رقبى) إما من الارتقاب،
أو من رقبة الملك، فالسكنى حينئذ مع تعلقها بالمسكن، وكون الصيغة بلفظها أعم منهما،
وإن كانا هما أعم منها من وجه آخر وهو فيما إذا كانت الصيغة بلفظ أعمرتك وأرقبتك

(1) سورة المائدة الآية - 1.
(2) الوسائل الباب - 20 - من أبواب المهور الحديث - 4.
134

فإنهما حينئذ عمري ورقبى، ولا يقال: سكنى، أو كان موردهما غير المسكن بل دابة ونحوها،
كذا في المسالك حاكيا له عن الأكثر، بل ستسمع فيما يأتي التصريح منه بأن العمرى و
الرقبى المتعلقة بالمسكن هما كالسلم والصرف بالنسبة إلى البيع، أي قسم خاص من
السكنى.
لكن لا يخفى عليك أولا: أن مقتضاه اطلاق السكنى عليهما وإن كانت الصيغة
بلفظهما، كاطلاق البيع على السلم والصرف.
وثانيا: أن المعلوم من النص والفتوى تباين العقود، وأنه لا يجتمع عقدان في
عقد واحد، ضرورة كون كل منهما سببا مستقلا في نفسه، كما أن المعلوم منهما هنا أن هذه
العقود الثلاثة كغيرها من العقود، بدليل - اختلاف مواردها في كثير من المقامات -
وغيره، ومع فرض اتحاد موردها واتحاد الصيغة القابلة لكل منهما يجب التمييز بالنية و
القصد، كالصلح والبيع والهبة المعوضة.
بل قد يظهر من المحكي عن التحرير عدم إمكان اجتماعها أصلا، قال: " إن كانت
السكنى مطلقة أو يقول أسكنتك عمري أو عمرك، أو مدة معينة من الزمان قيل: سكنى، و
إن قيدت بالعمر بأن يقول: أعمرتك مدة عمرك أو عمري قيل: عمري وإن قرنت بالمدة
قيل: رقبى، بأن يقول: أرقبتك هذه الدار مدة " ضرورة ظهوره في اعتبار تحقق كل
منها الصيغة باسمها بل لعل التباين ظاهر المحكي عن الوسيلة والكافي.
قال في الأولى: " العمرى أن يجعل منفعة داره أو ضيعته لغيره مدة حياته، و
الرقبى أن يجعلها مدة معلومة، والسكنى أن يجعل سكناها لغيره مدة عمر أحدهما ".
وفي الثاني: السكنى أن يجعل منفعة سكناها لغيره مدة معلومة، والرقبى
أن يسكنه فيها مدة حياة المالك، والعمرى أن يسكنه فيها طول عمر المعمر " أي
الغير.
وعن المبسوط والخلاف والمهذب وفقه القرآن للراوندي والغنية والسرائر
أن صورة الرقبى صورة العمرى، إلا أن اللفظ يختلف، فإنه يقول: أعمرتك هذه الدار
مدة حياتك أو حياتي، الرقبى يحتاج أن يقول أرقبتك هذه الدار مدة حياتك أو
135

حياتي بل عن المبسوط لا فرق بينهما عندنا، وعن المهذب وما يفرق به بعض الناس
ليس مذهبا لنا.
وفي محكي التذكرة عن علي (عليه السلام) (1) " الرقبى والعمرى، سواء " وفي محكي الخلاف
أن العمرى عندنا سكنى، وعن الجامع أن العمرى والرقبى بحكم السكنى، وعن صيغ
العقود أن العبارات شتى والمقصود واحد، وعن المختلف بعد أن ذكر كلام المبسوط
والمهذب والوسيلة والكافي والسرائر قال: وهذه اختلافات لفظية.
قلت: لا إشكال في أن المفاد واحد مع فرض كون المورد المسكن، إلا أنه تظهر الثمرة
مع فرض التباين بلزوم القصد مع فرض العقد باللفظ الصالح للجميع، كما في كل مشترك، و
قصد القدر المشترك غير كاف، لعدم ثبوت مشروعيته لنفسه، نحو قصد النقل المطلق من
دون تشخيص كونه بيعا أو صلحا أو هبة معوضة، والفرض صلاحية المورد، فإن كان المراد
من الوحدة والتسوية بالنسبة إلى النتيجة أو بالنسبة إلى أكثر الأحكام الثابتة لهما،
فكذلك، وإن أريد بالوحدة الاتحاد بالعقد وإن تكثرت أسماؤه باعتبار ألفاظه فخلاف
ظاهر النص والفتوى أنها عقود مستقلة مختلفة المعاني، بل لو أريد من مورد أحدها
الآخر بطل، نحو ما يراد من البيع الصلح، وبالعكس، إلا بناء على جواز انشاء العقد
اللازم بالمجاز، والفرض قصد المعنى المجازي، أما مع عدمه فلا ريب في بطلانه ضرورة
كونه حينئذ كإرادة الإجارة بالبيع، وبالعكس، فتأمل.
ومن ذلك يظهر أن الأولى قصد السكنى والعمرى في اللفظ المشتمل عليهما،
وكذا اللفظ المشتمل على المدة المعينة وربما تسمع لذلك تتمة انشاء الله تعالى.
(و) على كل حال ف‍ (العبارة عن العقد أن يقول: أسكنتك أو أعمرتك أو
أرقبتك أو ما جرى مجرى ذلك، هذه الدار أو هذه الأرض أو هذا المسكن عمرك أو عمري
أو مدة معينة) بلا خلاف ولا اشكال في أصل جواز العقد بذلك.
إنما الكلام في حصره بذلك، وقد قدمنا سابقا تحقيق الحال في سائر العقود
اللازمة، فضلا عن غيرها بالنسبة إلى خصوص اللفظ وبالنسبة إلى اعتبار الماضوية و

(1) المستدرك ج 2 ص 514.
136

غيرها فلاحظ وتأمل.
لكن عن التذكرة هنا أو يقول: أرقبتك هذه الدار، وهي لك مدة حياتك أو وهبت
منك هذه الدار عمرك على أنك إن مت قبلي عادت إلي، وإن مت قبلك استقرت
عليك، قيل: وظاهره الملك للعين مستقرا كما حكاه هو وغيره عن بعض العامة، و
يمكن إرادة الاستقرار للمنفعة بقية العمر لمعلومية مخالفة الأول لظاهر المذهب
وأن يكون مراد صحة الهبة على هذا الوجه، ولكن جاء بها في المقام لأن لها شبها
بالعمرى من حيث التقييد به، لا عقد العمرى بلفظ الهبة الذي قد يشكل بأنه مجاز
فلا يعقد به العقد اللازم بناء على المعروف عندهم، والأمر في ذلك سهل بعد وضوح
الحال.
ثم إنه غير خفى عليك وجه المناسبة في العمرى، أما الرقبى فالظاهر أنها من
الارتقاب الذي هو الانتظار، لانتظار كل منهما المدة المضروبة، أو من رقبة الملك باعتبار
دفع الرقبة إليه لاستيفاء المنفعة، وعن بعض أصحابنا أن الرقبى أن يقول: جعلت
خدمة هذا العبد لك مدة حياتك أو مدة حياتي، وكأنه أخذها من رقبة العبد إلا أنا
لم نعرفه، كما اعترف به غيرنا.
بل في الحدائق انكار أصل عقد الرقبى، لعدم وجود لفظها في شئ من
نصوصنا، وإن كان فيه عدم اعتبار ذلك في ثبوت العقد، خصوصا بعد المرسل عن
علي (عليه السلام) المتقدم، بل عن الخلاف نسبته إلى أخبارنا، والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (تلزم) السكنى وأختاها (بالقبض) بعد فرض اجتماع
غيره مما يشترط فيها (قيل:) والقائل الشيخ على ما في التنقيح، وإن كنا لم
نتحققه (لا تلزم) مطلقا (وقيل:) والقائل أبو الصلاح في المحكي عن كافيه، بل
لعله ظاهر المحكي عن المقنعة والغنية، وجامع الشرايع (تلزم أن قصد به القربة) و
إلا فلا.
(والأول أشهر) بل المشهر بل في المسالك هو المعروف من مذهب
137

الأصحاب، بل فيها أيضا لم نقف على قائل بالقولين الآخرين، بل في محكي الخلاف
إذا أتى بواحدة منها أي العقود الثلاثة وأقبضه فقد لزمت العمرى، ثم ادعى عليه
اجماع الفرقة وأخبارهم، ولعله الحجة مضافا إلى قاعدة اللزوم واستصحابه.
وخبر أبي الصباح الكناني (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " سئل عن السكنى والعمرى
فقال: إن كان قد جعل السكنى في حياته فهو كما شرط، وإن كان جعلها له ولعقبه
بعده حتى يغني عقبه، فليس لهم أن يبيعوا ولا يرثوا ثم ترجع الدار إلى صاحبها
الأول ".
ومضمر حمران (2) " سألته عن السكنى والعمرى؟ فقال: إن الناس فيه عند شروطهم
إن كان شرط حياته سكن حياته، وإن كان لعقبه فهي لعقبه كما شرط حتى يفنوا،
ثم ترد إلى صاحب الدار ".
وحسن الحلبي أو صحيحه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) " في الرجل يسكن الرجل
داره ولعقبه من بعده، قال: يجوز، وليس لهم أن يبيعوا ولا يرثوا، قلت: فرجل
أسكن رجلا في حياته قال: يجوز ذلك، قلت: فرجل أسكن رجلا داره، ولم يوقت، قال:
جائز ويخرجه إذا شاء " المعلوم إرادة المضي من الجواز فيه خصوصا بملاحظة ذيل
الخبر، وما تقدمه من النصوص المراد منها لزوم الشرط على حسب ما شرط.
وكذا صحيح الحسين بن نعيم (4) عن الكاظم (عليه السلام) " سألته عن رجل جعل سكنى
داره لرجل أيام حياته أو له ولعقبه من بعده، هل هي له ولعقبه كما شرط؟ قال: نعم
قلت فإن احتاج يبيعها قال: نعم، قلت: فينقض بيعه الدار السكنى؟ قال: لا ينقض
البيع السكنى، كذلك سمعت أبي (عليه السلام) يقول: قال أبو جعفر (عليه السلام): لا ينقض البيع الإجارة
ولا السكنى، ولكن يبيعه على أن، الذي يشتريه لا يملك ما اشترى حتى تنقضي السكنى
على ما شرط، وكذلك الإجارة ".

(1) الوسائل الباب - 3 - من أبواب أحكام السكنى الحديث 1.
(2) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام السكنى الحديث - 2.
(3) الوسائل ذكر صدره في الباب - 3 - من أبواب أحكام السكنى الحديث - 2 وذيله
في الباب - 4 - الحديث - 1.
(4) التهذيب ج 9 ص 141 الحديث - 40 الفقيه ج 4 ص 185.
138

كما صرح به في خبر أحمد بن عمر الحلبي (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) (سألته عن رجل
أسكن داره رجلا في حياته؟ قال: يجوز له وليس له أن يخرجه، قال: قلت: فله ولعقبه؟
قال يجوز له، وسألته عن رجل أسكن رجلا ولم يوقت له شيئا قال يخرجه صاحب الدار
إذا شاء ".
إلى غير ذلك من النصوص التي لا يعارضها خبر أبي البختري (2) المروي عن قرب
الإسناد عن جعفر عن علي (عليه السلام) " أن السكنى بمنزلة العارية إن أحب صاحبها أن
يأخذها أخذها، وإن أحب أن يدعها فعل أي ذلك شاء " القاصر عن ذلك من وجوه
مع أنه محمول على السكنى المطلقة، بل لعلها هي السكنى، وأما المحدود بالعمر و
المدة المعينة فهي العمرى، والرقبى، كما سمعت الكلام فيه سابقا، واطلاق المصنف
وغيره هنا لزومها منزل على غير هذا الفرد الذي سيصرح المصنف بحكمه، مع إمكان
إرادته الاطلاق حتى بالنسبة إليه لكن في مسماها خاصة، كما سمعته من الفاضل بل
هو مقتضى الجمع بين الأدلة على ما ستعرف.
وعلى كل حال فقد ظهر لك ضعف القولين المزبورين اللذين لم نتحقق أولهما
كما لم نعرف دليله، سوى الخبر المزبور المعارض بما عرفت وبما دل سابقا من النصوص
على عدم جواز الرجوع بما أعطى لله تعالى شأنه، وإن كان مراده الجواز حتى في هذا
الفرد، بل ولا دليل الثاني منهما إلا العمل به أيضا وبنصوص ما أعطى لله تعالى شأنه
لا يجوز الرجوع فيه، إلا أن الجميع كما ترى مناف لقواعد الاستنباط، والجمع بين جميع
الأدلة بعد وزنها بموازين القسط. والله العالم.
(ولو قال: لك سكنى هذه الدار) مثلا (ما بقيت) أنت (و) ما (حييت)
أنت (جاز) بلا خلاف ولا إشكال، لعموم الأدلة، وخصوصها التي تقدمت الإشارة
إليها (و) مقتضاها أن السكنى (ترجع إلى المسكن بعد موت الساكن) لأن،
ذلك هو مقتضى شرطه الذي شرطه.

(1) التهذيب ج 9 ص 140 الحديث - 36 الفقيه ج 4 ص 186.
(2) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام السكنى الحديث - 3.
139

لكن قال المصنف: (على الأشبه) مشعرا بوجود الخلاف فيه بيننا، ولم نجده
كما اعترف به غيرنا أيضا، بل في محكي المبسوط أنه الصحيح على مذهبنا، بعد أن حكى
في المسألة قولين الصحة والبطلان، وأن القائلين بالصحة منهم من قال: إنها تكون
للعمر مدة بقائه ولورثته بعده، ومنهم من قال: إنه إذا مات رجعت إلى المعمر أو ورثته
إن كان هو مات، وظاهره أن هذه الأقوال للعامة خصوصا بعد أن كان المحكي عن أكثر
أصحاب الشافعي استظهار البطلان من قوله في القديم، إلا أبا إسحاق منهم، فإنه
استظهر منه الصحة، والرجوع بموته إلى المالك أو ورثته، وأما القول بالصحة وأنها ترجع
إلى ورثته الساكن، كالهبة فهو قوله في الجديد، فكان الذي ينبغي ترك قول المصنف
" والأشبه " هذا كله مع الاطلاق.
(وأما لو قال فإذا مت رجعت إلى فإنها ترجع قطعا) بلا خلاف ولا إشكال بل
عن المبسوط والخلاف اجماع الفرقة عليه، مع زيادة وأخبارهم في الثاني، وإن كان
لا فرق بين ذلك والأول سوى التصريح وعدمه، وهو ليس فارقا كما هو واضح، والله
العالم.
(ولو قال: أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك، كان عمرى) فيجري عليها حكمها
من لزومها ما دام العقب، فإذا انقرضوا رجعت المنفعة إلى المالك.
وأما العين فهي على ملك المالك (ولم تنقل منه إلى المعمر) بالفتح (وكان
كما لو لم يذكر العقب، على الأشبه) بأصول المذهب وقواعده والنصوص المتقدمة سابقا
بل في ظاهر المحكي من التذكرة في مواضع وجامع المقاصد الاجماع عليه.
لكن عن المبسوط، إذا قال: لك عمرك ولعقبك من بعدك، فإنه جائز، لما رواه
جابر (1) " أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أيما رجل أعمر عمري له ولعقبه، فإنما هي للذي يعطاها
لا ترجع للذي أعطاها، فإن أعطى عطاء وقعت فيه المواريث ".
قيل وظاهر احتجاجه بالحديث لفتواه عمله بمضمونه، إذ لولا ذلك لكان احتجاجه
بالأخبار التي ذكرها هو في التهذيب كرواية أبي الصباح وغيرها أولى، وفيه أنه يمكن

(1) المستدرك ج 2 ص 515.
140

إرادة اثبات أصل المشروعية الذي أفتى به بالخبر المزبور، ومن ثم لم يذكروا خلافه،
بل عن بعض نسخ الكتاب أنها خالية عن لفظ الأشبه.
نعم يحكى عن فقه القرآن للراوندي الفتوى بمتن الخبر المذكور، من دون نسبة
إلى رواية، ولا ريب في ضعفه، ضرورة كون الخبر عاميا معرضا عنه منافيا لظاهر النصوص
المزبورة، بل ولأصول المذهب وقواعده، إذا أريد النقل إليه وإن لم يقصده الناقل.
والله العالم.
(وإذا عين للسكنى مدة، لزمت بالقبض) لما عرفته سابقا (ولا يجوز الرجوع
فيها إلا بعد انقضائها، وكذا لو جعلها عمر المالك لم ترجع) السكنى (وإن مات
المعمر) بالفتح لجميع ما تقدم من أدلة اللزوم، (و) حينئذ ف‍ (ينتقل بما كان له
إلى روثته) كغيرها من الحقوق والأملاك، (حتى يموت المالك) بل عن الشيخ في
الخلاف أن عليه اجماع الفرقة وأخبارهم، معتضدا بما في المسالك وعن غيرها من نفي
الخلاف فيه.
وإن كان قد يناقش بما عن المصنف في المحكي من نكت النهاية قال: " إن الذي
يرجح في ذهني أنه لا تكون لعقبه السكنى إلا إذا جعلها له ولعقبه بعده، ولو جعل
السكنى له مدة حياة المالك ولم يتلفظ بجعلها لعقبه، ومات المجعول له بطلت
السكنى، لأنه ليس بتمليك، بل هو أشبه شئ بالإباحة، فلا يتعدى المجعول له، وما
ذكره في النهاية مطالب بدليله ".
وفيه: إن الدليل ما عرفت من الاجماع المزبور وغيره، وبل خبر محمد بن قيس في
أحد احتماليه قضى في العمرى أنها جائزة لمن أعمرها، فمن أعمر شيئا ما دام حيا فإنه
لورثته إذا توفي.
لكن الانصاف عدم خلو كلامه من قوة بناء على ما تسمعه من ظهور اطلاق السكنى
في سكناه خاصة، ومن يتبعه في العادة، وأنه ليس له اسكان غيره، ولا إجارته، اللهم
إلا أن يقال: إن ذلك لا ينافي كون السكنى حقا له على وجه الصلح عنه للمالك، و

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام السكنى الحديث - 2.
141

حينئذ يتجه انتقاله إلى الوارث، وإن لم نجوز له سكناه، ولكن يكون الحق له على وجه
له الصلح عنه من المالك، فيكون إسقاطا، إذ لا تلازم بين تعذر السكنى بموت أو حبس
مثلا وبقاء الحق المزبور، وبهذا يجمع بين كلامهم هنا وكلامهم الآتي، أو يحمل هذا على
ما إذا كانت العمرى على وجه تنتقل إلى الوارث باعتبار التصريح فيها على أنها له يفعل
فيها ما شاء، وكلامهم الآتي إنما هو في الاطلاق المنزل على إرادة الخصوصية الذي يقوى
فيه ما سمعته من المصنف فلاحظ وتأمل جيدا.
(ولو قرنها بموت المعمر) بالفتح (ثم مات) المالك قبله، لم يكن لورثته
إزعاجه، لقاعدة اللزوم وغيرها مما عرفته سابقا، بلا خلاف معتد به أجده فيه، سوى ما
يحكى عن أبي على من التفصيل بأنه إن كانت قيمة الدار يحيط بها ثلث الميت لم يكن
لهم إخراجه، وإن كان ينقص عنها كان ذلك لهم، وهو مع شذوذه مخالف للقواعد و
الضوابط، فضلا عن الأدلة السابقة.
ولم نعثر له على شاهد سوى خبر خالد بن نافع البجلي (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
" سألته عن رجل جعل لرجل سكنى دار له مدة حياته، يعني صاحب الدار، فمات
الذي جعل السكنى، وبقي الذي جعل له السكنى، أرأيت إن أراد الورثة أن يخرجوه
ألهم ذلك؟ فقال: أرى أن يقوم الدار بقيمة عادلة، وينظر إلى ثلث الميت، فإن كان
في ثلثه ما يحيط بثمن الدار، فليس للورثة أن يخرجوه، وإن كان الثلث لا يفي بثمن
الدار فلهم أن يخرجوه، قيل له: أرأيت إن مات الرجل الذي جعل له السكنى بعد موت
صاحب الدار تكون السكنى لورثة الذي جعلت له السكنى؟ قال: لا ".
وهو مع ضعف سنده واضطراب متنه حتى قال الشيخ: ما تضمنه الخبر المزبور من
قوله " يعني صاحب الدار " غلط من الراوي ووهم منه في التأويل، لأن الأحكام التي
ذكرها بعد ذلك إنما تصح إذا كان قد جعل السكنى حياة من جعلت له السكنى فحينئذ
يقوم وينظر باعتبار الثلث وزيادته ونقصانه، ولو كان جعل له مدة حياته يعني صاحب الدار
لكان حين مات بطلت السكنى، ولم يحتج معه إلى تقويمه، واعتباره بالثلث وربما

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب السكنى الحديث - 1.
142

استظهر من هذا الكلام موافقة الشيخ لابن الجنيد.
وفيه: أنه يمكن إرادته بيان بطلان هذا التأويل بعدم جريان الأحكام المزبورة
عليه، أما إذا جعل عمر الساكن والفرض حياته، وموت المالك فيمكن جريان الحكم
المزبور، بعد إرادة منفعة الدار من الدار فيه، وإرادة تسلطهم على الاخراج بالنقصان
لثبوت حق لهم في الجملة، لا البطلان أصلا، ولو بحمله على الوصية أو على التنجيز في
مرض الموت، أو على ما يوافق كلام الإسكافي أو غير ذلك.
ومن هنا قال غير واحد: إن في متن الخبر المزبور اضطرابا وخللا، فكيف يخرج
بمثله عن مقتضى الأدلة السابقة. فمن الغريب بعد ذلك كله وسوسة الخراساني في
الكفاية في المسألة بعد أن لم نجد موافقا للإسكافي من زمنه إلى زمنه إلا ما سمعته من
الشيخ.
هذا كله إذا مات المالك والمعمر حي أما إذا مات هو والفرض أن الغاية عمره
(لم يكن لوارثه) شئ (ورجعت إلى المالك) بلا خلاف ولا اشكال والله العالم.
ثم لا يخفى عليك أن مورد النصوص في العمرى عمر أحدهما وعمر عقب المعمر بالفتح
لكن يقوى في النظر التعدي إلى غير ذلك من عمر الأجنبي كما عن الشهيد الفتوى به في
بعض فوائده، ونفى عنه البأس في المسالك وبعض من تأخر عنها، لعموم " الأمر بالوفاء،
بالعقود " (1) " والمؤمنون " (2) وخصوص مضمر حمران (3) وغيره مما تقدم سابقا، ولصدق اسم العمرى
في الجملة، المدلول على شرعيتها في بعض الأخبار من غير تقييد بعمر أحدهما، كما في
المسالك، بل مقتضى ذلك التعدي إلى غير ذلك من عمر حيوان بل جماد، ولو نفس
العين التي هي مورد العمرى، وإن كان الأحوط عدمه، وأحوط منه الاقتصار على ما في
خصوص النصوص.
وعلى كل حال فيفرع على التعدي المزبور حكم ما لو مات أحدهما في حياة من
علقت بعمره، فإن كان المالك، فالحكم كما لو مات في حياة المعمر الذي علقت العمرى بموته

(1) سورة المائدة الآية - 1.
(2) الوسائل الباب س - 20 - من أبواب المهور الحديث - 4.
(3) الوسائل الباب - 2 - من أبواب السكنى الحديث - 1.
143

وقد عرفت سابقا أنه يبقى على استحقاقه، وإن كان هو المعمر ففي المسالك، وغيرها
رجعت العمرى إلى المالك، كما لو مات من علقت على عمره.
وفيه: أن المتجه بناء على ما ذكرناه عوده إلى ورثة المعمر في الأول نحو ما
سمعته فيما لو مات بحياته المالك الذي كان عمره غاية العمرى، إلا على ما سمعته من
المحقق في النكت كما تقدم الكلام فيه هنا، وفيها أيضا أنه أولى مما في النصوص جواز
جعل العمرى لبعض معين من العقب، ومثله ما لو جعله له مدة عمره ولعقبه مدة
مخصوصة، والعقد حينئذ مركب من العمرى والرقبى، وفيه ما لا يخفى مع فرض اتحاد ايجاب
العقد، وإلا لجاز اجتماع السكنى المطلقة والعمرى والرقبى في عقد واحد، وإن كان
متعلق كل منهما مختلفا، وحينئذ يكون العقد جائزا لازما، وهو كما ترى.
نعم قد يقال: إن مقتضى العمومات خصوصا خبر حمران جريان كثير من أحكام
الوقف فيها، من التشريك والترتيب وتبعية المعدوم للموجود، من غير فرق بين عقبه و
غيره، والدوام والانقطاع وغير ذلك، بل يجوز فيها كل شرط سائغ في نفسه، نحو ما
سمعته في الوقف أيضا، ولعل ترك الأصحاب التعرض لأكثر من ذلك اتكالا على ذكرهم
له فيه، نحو اتكالهم في ذكر جملة من الأحكام على العمرى مثلا، أو السكنى أو الرقبى
مثلا على اتحاد الجميع في ذلك، خصوصا بعد ما سمعت من المرسل عن علي (عليه السلام)
" العمرى والرقبى سواء " وفي محكي المبسوط لا فرق بينهما عندنا، والمهذب وما يفرق
به بعض الناس ليس مذهبا لنا، إلى غير ذلك مما تقدم مما هو محمول على إرادة التساوي
في الأحكام، حتى إذا كان مورد العمرى والرقبى غير المسكن، فضلا عنه.
(ولو أطلق المدة ولم يعينها كان صحيحا) بلا خلاف أجده فيه، بل الاجماع
بقسميه عليه، لاطلاق الأدلة وعمومها، (و) لكن (له الرجوع متى شاء) لحسن
الحلبي أو صحيحة (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وخبر أحمد بن عمر الحلبي (2) عن أبيه عنه أيضا
المتقدمين سابقا، لكن ظاهر الاخراج فيهما كما هو المحكي من تعبير الأكثر لا ينافي
لزوم العقد الذي هو مقتضى ما عرفته سابقا من أدلته الشاملة لجميع الأفراد فيما يتحقق

(1) الوسائل الباب - 3 و 2 - من أبواب السكنى الحديث - 3 و 2.
(2) الوسائل الباب - 3 و 2 - من أبواب السكنى الحديث - 3 و 2.
144

به مسمى السكنى، كما عن العلامة في التذكرة التصريح به، ووافقه عليه أول الشهيدين
وثاني المحققين فيما حكى عنهما، وما في المسالك من المناقشة في ذلك - " بأن الرواية
مخصصة للآية، لدلالتها على جوازه مطلقا، كما خصصت الآية بسائر العقود الجائزة،
بدليل من خارج " - يدفعها ما سمعت من عدم اقتضاء الرواية أزيد مما عرفت، والأمر
سهل هذا كله في السكنى المطلقة.
أما العمرى والرقبى فالظاهر بطلانهما مع الاطلاق، كما قطع به في الدروس في
الأول، ولم يتعرض للرقبى، ولعله لاتحادها معها في الحكم، واحتمل في المسالك
" الصحة، إقامة لها مقام السكنى، لاشتراكهما في كثير من الأحكام والمعاني، وتناسبهما
على الوجه الذي قررناه سابقا، فيكون كاستعمال لفظ السلم في مطلق البيع، وكذا القول:
في الرقبى، وأولى بالصحة هنا، لأن اطلاقها باعتبار رقبة الملك، أو ارتقاب المدة التي
يرتضيها المالك ممكنة هنا بطريق الحقيقة، فاستعمالها في السكنى يكون كاستعمال
أحد المرادفين مكان الآخر، وإن اختلفا من جهة أخرى وهذا قوي ".
وفيه: أن الكلام ليس في استعمال لفظ العمرى والرقبى والسكنى، بل هو في
مشروعية إطلاق عقديهما على نحو عقد السكنى، ولو في غير الدار، ثم حكى عن التحرير
القطع بأنه مع إطلاق العمرى والرقبى يصح، ويكون للمالك إخراجه متى شاء كالسكنى
قال: وهو في الرقبى حسن، وفتوى الدروس في العمرى أحسن.
وفيه ما لا يخفى، إذ يمكن أن يكون بناء ما في السرائر على مساواة العمرى والرقبى في
الحكم المزبور للسكنى، ولولا مكان دعوى تحققهما بعمر من الأعمار، وبمضي زمان من
الأزمنة لا لاستعمال لفظيهما فيها، حتى يفرق بينهم بالحقيقة والمجاز.
وأغرب من ذلك قوله ويتفرع على ذلك ما لو أعمره مدة معينة، فعلى جواز اطلاق
العمرى لا شبهة في الجواز هنا، لانضباطها بالمدة، فهي أولى من الاطلاق، وعلى
المنع يحتمله هنا، لاختصاصها بالعمر، ولم يحصل هنا، الجواز هنا، وإن منع على
الاطلاق، والفرق أنها مع الاطلاق محمولة على عمر أحدهما، أو عمر مطلق ولم يعين،
فبطلت للجهالة، بخلاف ما لو عين المدة، فإنه صريح في إقامتها مقام السكنى أو الرقبى
145

فيصح كما صح إقامة السلم مقام غيره من أفراد البيع الحال، مع التصريح بإرادة الحلول
إقامة للنوع مقام الجنس، وأقل مراتبه أنه مجاز مشهور، وليس بجيد، لأن المعتبر في
العقود اللازمة الألفاظ الحقيقية الصريحة، وهو منفي هنا، إذ هو كما ترى.
والتحقيق عدم مشروعية الجميع، للأصل السالم عن معارضة الأدلة الظاهرة
في غير الفرض، فلا يصحان مع الاطلاق، ولا استعمال العمرى في الرقبى ولا العكس
لما عرفت من أنها عقود متمايزة، وأما استعمال لفظ كل منهما في عقد الآخر فهو مبني على
ما حررنا في محله من جواز العقد اللازم بكل لفظ صالح للدلالة، ولو على جهة المجازية
كما هو الأقوى، أو يعتبر لفظ مخصوص، وهذا غير ما نحن فيه كما هو واضح، والله العالم.
(و) كيف كان فلا يتوهم اختصاص مورد العمرى والرقبى بمورد السكنى، بل هو
أعم إذ (كل ما صح وقفه، صح اعماره من العقار والحيوان والأثاث) وغير ذلك كما صرح
به كثير من الأصحاب، بل لا أجد فيه خلافا بل عن ظاهر التذكرة الاجماع عليه، للعمومات
وخصوصا خبر محمد بن قيس (1) المتقدم سابقا، بل في صحيح محمد بن مسلم (2) " سألت أبا
جعفر (عليه السلام) عن رجل جعل لذات محرم جاريته حياتها، قال: هي لها على النحو
الذي قال ".
وخبر يعقوب بن شعيب (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " سألته عن الرجل يكون له الخادمة
تخدمه فيقول هي لفلان تخدمه ما عاش، فإذا مات فهي حرة فتأبق الأمة قبل أن يموت
الرجل بخمس سنين أو ستة ثم يجدها ورثته، ألهم أن يستخدموها بمقدار ما أبقت؟
قال: إذا مات الرجل فقد أعتقت " وهما في الرقبى، فكان على المصنف أن يذكرها مع
العمرى، إلا أنك قد عرفت أن ذاك ونحوه لمعلومية تساويهما في الحكم.
(و) على كل حال فلا (يبطل) عقد العمرى (بالبيع) وغيره من
نواقل العين الذي مورده غير موردها كما لا تبطل بالإجارة بلا خلاف أجده فيه، بل
يمكن دعوى تحصيل الاجماع عليه، كما عن ظاهر التنقيح أو صريحه، مضافا إلى الأصل،

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام السكنى الحديث - 2.
(2) الوسائل الباب - 6 - من أبواب السكنى الحديث - 1 - 2.
(3) الوسائل الباب - 6 - من أبواب السكنى الحديث - 1 - 2.
146

وغيره من أدلة اللزوم المتقدمة، وخصوص صحيح الحسين بن نعيم المتقدم سابقا والظاهر
أن الرقبى أيضا كذلك، لاتحاد الدليل في الجميع، بل قيل أنها أولى، بل وكذا السكنى
اللازمة، أما السكنى المطلقة والعمرى والرقبى بناء على مشروعية الاطلاق فيهما فالذي
صرح غير واحد بل لا أجد خلافا بينهم فيه انفساخها، كما هو شأن العقد الجائز إذا
طرء عليه لازم ينافيه.
وربما يحمل على ذلك ما في الدروس " لو باع المالك العين كان فسخا للسكنى،
لا للعمرى والرقبى " بناء منه على عدم جريان الاطلاق فيهما، وقد يناقش بعدم منافاة
نقل العين لنقل المنفعة، وإن كان على وجه الجواز حتى يكون ذلك فسخا شرعا وإن
لم يقصده به.
نعم لو قصد به الفسخ ولو بقصد التسليط على العين ومنافعها في وجه اتجه
حينئذ ذلك.
وكيف كان فالمراد أن نقل العين من حيث كونه كذلك لا يقتضي فسخ العقد
اللازم الذي مورده المنفعة، (بل يجب أن يوفى المعمر) مثلا (ما شرط له).
نعم في صحة أصل البيع من بين النواقل وبطلانه خلاف، فالأكثر على الصحة،
للعموم وخصوص الصحيح المزبور، والجهالة بوقت الانتفاع لا ينافيه، لأنها ليست موردا
له، خصوصا مع عدم انحصار المنفعة في ذلك، لجواز التصرفات التي لا تنافيها، و
استقرب الفاضل في محكي التحرير البطلان، بل عن إيضاح النافع القطع به واستشكل
فيه في القواعد ومحكي المختلف وموضع من التذكرة والإيضاح والتنقيح، وجزم بالصحة
في محكي الإرشاد، فاختلف كلامه في كتبه، ولعل ذلك مما عرفت، ومن أن الغرض المقصود
من البيع هو المنفعة، ولهذا لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه، والفرض أن زمان استحقاق
المنفعة مجهول، فيتجهل المبيع، ولذا منع الأصحاب من بيع المسكن الذي تعتد
فيه المطلقة بالأقراء لجهالة وقت الانتفاع به، ومن المعلوم أن المقام أولى منه،
لامكان استثناء الزوج مدة يقطع بعدم زيادة العدة عليها، بخلاف المتنازع.
إلا أن ذلك جميعه كما ترى، ضرورة تحقق الانتفاع بالمبيع، وإنما تخلف منه
147

نوع خاص، وذلك لا يقدح، كما أن الجهل بوقت الانتفاع ليس جهلا بعين المبيع، إذ
هو ليس من أوصافه فما دل على اعتبار المعلومية في المبيع لا ينافيه، مثل هذا الجهل
الذي لم يثبت مانعيته من الصحة، ومنع الأصحاب من بيع مسكن المعتدة مبني على
ما منعوه هنا لاشتراكهما في المعنى، ويلزم القائل بالصحة هنا القول به.
ثم إن لم يكن دليل يخصه، مضافا إلى النص المعتبر هنا بالجواز صريحا، الذي
يكون القول بالبطلان معه كالاجتهاد في مقابلته، وهو صريح في الجواز، بل لعله
ظاهر فيه حتى لو كانت العمرى في العقب الذي لإعادة بانتهائه، ومن هنا أمكن
الفرق بينهما بذلك، إن لم ندع اتحاد الطريق، أو يقال بخروج ذلك بدليله إن كان
والأولوية التي ادعوها في مسكن المعتدة باعتبار امكان استثناء قدر يقطع بانقضاء
العدة قبله.
ففي المسالك " إن مثله آت في العمرى، نظرا إلى العمر الطبيعي الذي لا
يعيش المعمر بعده قطعا أو عادة، ومن ثم يحكم بموت المفقود، وحينئذ يقسم ماله،
وتعتد زوجته عدة الوفاة، اتفاقا ".
وإن كان قد يناقش في أصل ذكر الأولوية المزبورة، بأن المنع إنما هو مع فرض
استثناء قدر العدة المجهول الدائر بين كونه ستة وعشرين يوما ولحظتين، أو خمسة
عشر شهرا أو سنة، أو تسعة أشهر، لا ما إذا فرض استثناء الزائد، ضرورة القطع بجواز
بيع العين المستأجرة مدة معلومة.
أنه قد يناقش في النقض بذلك، وبأن العمرى قد لا يمكن فيها ذلك، كما إذا كانت
مقرونة بعمر العقب أيضا، فلا ريب في أن ذلك كله خروج عن وجه المسألة الذي هو
بيع العين المستحق منفعتها زمانا مجهولا، باعتبار عود مثل هذه الجهالة للبيع و
عدمه، ولا ريب في أن المتجه الصحة، إلا أن تكون المعاملة سفهية.
نعم يكون له الخيار مع الجهل بين الصبر مجانا إلى انقضاء المدة وبين الفسخ
لقاعدة الضرر، من غير فرق في ذلك بين بيعه على المعمر وغيره، وإن قال في المسالك
" إنه ربما فرق بينهما، فيصح في الأول، دون الثاني، نظرا إلى استحقاق المعمر
148

المنفعة ابتداء واستمرار استحقاقه فتقل الجهالة، بخلافه غيره ".
وفيه أن المعتبر من العلم بالمنفعة المطلوبة في البيع إن كان مما ينافيه هذا
الفائت منها بطل مطلقا، وإلا صح مطلقا، لاختلافه الاستحقاقين، فلا يبني أحدهما
على الآخر، كما هو واضح.
" بقي شئ " وهو أن المعمر لو كان هو المشتري ففي المسالك جاز بيع العين
بجميع منافعها، لأنها بأجمعها مملوكة له، ولا مانع من نقلها إلى غيره بوجه، وإن كان
قبل الشراء ما كان يمكنه بيع هذه المنفعة، فإن المانع لم يكن الجهالة، بل عدم جواز
افراد المنفعة بالبيع، وليس ببعيد جواز الصلح عليها، لاحتماله من الجهالة ما لا يحتمله
البيع، وصحته على العين والمنفعة، فعلى هذا لو كان مشتري العين غيره وجوزناه
جاز له أن يصالح المشتري على تلك المنفعة المستحقة له مدة عمره، بمال معلوم، و
يصير المشتري حينئذ مالكا للجميع، كما لو كان هو المعمر ".
وفيه أولا: أن البيع لا يقع إلا على العين، والمنفعة تكون تابعة للعين باعتبار
تبعية النماء للأعيان في الملك، فمع فرض كون المنفعة مستحقة للمعمر بعقد العمرى
لا يصح تناول عقد البيع لها، ضرورة عدم تبعيتها للعين المملوكة بسبب الملك كما هو
واضح، وكذا في العين المستأجرة ونحوها، وثانيا أنه لا يوافق ما سيأتي من عدم جواز
اسكان الساكن غيره، ولا إجارته للمسكن، اللهم إلا أن يحمل على عمري مصرح فيها
بجواز انقل للغير، والأمر سهل.
(و) كيف كان ف‍ (اطلاق السكنى يقتضي أن يسكن بنفسه) هو (وأهله
وأولاده، ولا يجوز أن يسكن غيرهم إلا أن يشترط ذلك) كما صرح به جماعة، بل في
جامع المقاصد نسبته إلى الأكثر، بل في المسالك وغيرها نسبته إلى المشهور والظاهر
إرادة ما في النافع وغيره من أن اطلاقها يقتضي أن يسكن بنفسه، ومن جرت عادته
بإسكانه معه، ولذا نسبه في التنقيح، إلى الشيخ، والقاضي والمشهور، قال: وعليه
الفتوى.
لكن قد يظهر من بعض المتأخرين الخلاف بينهم، في ذلك، حتى أنه في الكفاية
149

قال: يلحق بأهله وولده من جرت العادة بإسكانهم كالعبيد، والإماء والخدم و
المرضعة والضيف وغيرهم، وفي غيرها عن جماعة أيضا الحاق الدابة إذا كان الموضع
معدا لمثلها، وجواز وضع ما جرت العادة بوضعه من الأمتعة والغلة.
وفي التنقيح يحرز من الغلة قدر الحاجة، والظاهر عدم الخلاف بينهم في ذلك
ومراد الجميع أن المدار على ما يفهم عرفا من مثل الاطلاق المزبور الذي هو كغيره من
الخطابات العرفية، وليس هو إلا سكناه نفسه وتوابعها.
(و) حينئذ ف‍ (لا يجوز له أن يؤجر السكنى لغيره كما لا يجوز أن يسكن غيره
بعارية ونحوها، ضرورة اقتضاء الإجارة ثبوت السلطنة على موردها، والفرض أن
التمليك له قد وقع على وجه خاص.
لكن في السرائر: " الذي يقتضيه أصول المذهب أن له جميع ذلك، وأن له
إجارته وانتقاله واسكان غيره معه، سوى ولده وامرأته، سواء إذن له في ذلك أم لا،
لأن منفعة هذه الدار استحقها، وصارت مالا من أمواله وحقا من حقوقه فله استيفاؤها
كيف شاء، بنفسه وغيره، وما أورده شيخنا في نهايته فلا شك أنه خبر واحد قليلا ما يورده
أصحابنا في كتبهم، فشيخنا المفيد لم يورده في مقنعته، ولا السيد المرتضى ولا المحصلون
من أصحابنا ".
قلت: لم نقف فيما وصل إلينا من النصوص على الخبر الذي ذكره كما اعترف به في
الحدائق، اللهم إلا أن يقال: أنه قول الصادق (عليه السلام) في خبري أبي الصباح والحلبي (1)
المتقدمين " ليس لهم أن يبيعوا ولا أن يورثوا " وزاد في أولهما " ثم ترجع الدار على
صاحبها " على معنى إرادة عدم نقل المنفعة لهم وعدم إرثها لا العين المعلوم فيها
ذلك، بل ربما في جعل ذلك جوابا للشرط في أحدهما اشعار بذلك، ولا ينافيه نفي
الإرث إذ هو كذلك في مفروض البحث الذي هو سكناه وسكنى عقبه مدة عمر كل واحد
منهم، ومع فرض موت أحدهما تنتهي السكنى، فلا إرث.
ولولا ذلك لاتجه كلام ابن إدريس، ضرورة اقتضاء عقد السكنى وأختيها ملك

(1) الوسائل الباب - 3 - من أبواب أحكام السكنى الحديث - 1 - 2.
150

المنفعة، التي هي السكنى، والناس مسلطون على أموالهم وكون مورد العقد سكناه لا
يقتضي اختصاص تمليكه بمباشرته، وإلا لاقتضى ذلك في الإجارة للسكنى، أو للركوب أو
نحو ذلك مما كان المستأجر فيه موردا، لا شرطا، ودعوى ظهور عقد السكنى في ذلك
ممنوعة كل المنع، وأولى بذلك عقد العمرى والرقبى، بل قد يقال: إن منافع الأعيان لا
تتشخص بفعل المستوفى لها، ضرورة عدم كون فعله حينئذ من منافعها المملوكة له، و
إنما الفعل مملوك لفاعله.
نعم قد يكون ذلك بطريق الاشتراط، كما في الإجارة، بل لو قلنا بالتشخص المزبور
لم يتجه (الإ) رث في مورده، بل لم يتجه ذلك ملك الساكن الأجرة (بإذن المسكن)
لأن سكنى الغير حينئذ ليس مما انتقل إليه فلا يملك أجرته، فليس حينئذ إلا دعوى أن
الايجاب هنا قد تحمل تمليك السكنى، واشتراط كون الساكن هو المستوفى، وهي كما
ترى لا يساعده عليها عرف، ولا شرع، إذ ليس الايجاب هنا إلا كغيره مما يراد منه نقل
مورده إلى المخاطب، وليس هو هنا إلا منفعة الدار لا عمل الساكن، أي سكونه الذي
هو ليس من منافع الدار.
وبذلك يظهر لك وجه النظر الذي ذكره في المسالك، فإنه بعد أن حكى عن
ابن إدريس ما سمعته، والجواب عنه بمنع ملكه لها مطلقا بل على الوجه المخصوص فلا
يتناوله غيره، قال: " وفيه نظر " بل ويظهر لك النظر في أصل استدلال المشهور، بأن
الأصل عصمة مال الغير من التصرف بغير إذنه، خرج ذلك ما أذن فيه، وهو سكناه
بنفسه، ومن في معناه، فيبقى الباقي على أصل المنع، ضرورة ابتناء ذلك على أن
المفهوم من العاقد ذلك، وحينئذ يكون النزاع مع ابن إدريس فيما يفهم منه عرفا، فإن
كان كما ذكره الشيخ وافقه ابن إدريس عليه، وإن كان العكس انعكس الحال، وقد
سمعت من ابن إدريس أن مبنى منع الشيخ الخبر الذي أورده لا الفهم من عبارة
العاقد، وبالجملة إن كلمات هؤلاء المتأخرين في غاية التشويش، لا يمكن الجمع بين
تعليلهم المزبور وقولهم أن الأجر للساكن إذا أذن المالك وقولهم بإرث حق
السكنى فيما إذا كان الغاية عمر المالك، وبين قولهم أنه ملك على وجه خاص.
151

نعم يتم ذلك بناء على أن هذه الخصوصية شرعية على نحو خصوصية الموقوف
عليه ملك العين الموقوفة، وخصوصية ملك أم الولد، وغير ذلك مما ثبت من الشرع، و
يبقى المطالبة في دليل هذه الخصوصية، وليس فيما نجد إلا الخبران المزبوران.
ولكن يشكل الخروج بهما عن مقتضى القواعد، مع عدم استدلال أحد من
الأصحاب بهما على ذلك، اللهم إلا أن يقال بكفاية عمل المشهور على ما يوافقهما
ولا ريب في أنه أحوط.
(وإذا حبس حبس فرسه) مثلا (في سبيل الله تعالى) شأنه (أو غلامه في
خدمة البيت أو المسجد لزم ذلك، ولم يجز تغييره ما دامت العين باقية) بلا خلاف
أجده فيه، كما اعترف به الحلي وغيره، قال في المحكي من نوادر قضاء سرائره: " إذا كان
الحبس على مواضع قرب العبادات مثل الكعبة والمشاهد والمساجد، فلا يعاد إلى
الأملاك، ولا تنفذ فيه المواريث، لأنه بحبسه على هذه المواضع، خرج عن ملكه عند
أصحابنا بلا خلاف، مضافا إلى ما تقدم من النصوص في الصدقة (1) المتضمنة لعدم جواز
الرجوع في كل ما يعطى لله تعالى شأنه، بل صريح ما سمعته من الحلي نفي الخلاف
في الخروج عن الملك، فضلا عن اللزوم، لكن في المسالك ظاهر العبارة أنه لا يخرج
عن ملك المالك، حيث حكم بلزومه، وعدم جواز تغييره ما دامت العين باقية ".
وفيه منع الظهور المزبور، ولعل السيرة قديما وحديثا في فرش المساجد والمشاهد
المشرفة بناء على أنه منه على ذلك، بل لعل قصد الحابس ذلك أيضا، بل ربما كان
ثوب الكعبة الذي قد تضمنت بجواز أخذ القطع منه عند انتهاء عمره للتبرك من
أيدي الخدمة منه أيضا.
بل قد يقال: أن مقتضى السيرة الاكتفاء فيه بالفعل بهذا العنوان فلا يحتاج
صحته بل ولا لزومه إلى لفظ، فضلا عن أن يكون عقدا محتاجا إلى القبول من الناظر،
أو الحاكم، لكن عن التحرير واللمعة وصيغ العقود والمسالك والروضة والتنقيح والتذكرة
التصريح بكون الحبس عقدا بل قيل: إنه ظاهر الباقين، ويمكن إرادتهم غير المفروض،

(1) الوسائل الباب - 11 - من أبواب أحكام الوقوف.
152

إذ قد عرفت فتوى المشهور في الوقف، بعدم الاحتياج إلى القبول، فضلا عن الحبس،
وإن كان قد سمعت المناقشة فيه منا، وأما القبض فعن التذكرة، واللمعة والمسالك
والروضة اعتباره في الحبس.
لكن قد سمعت سابقا في الوقف وفي الصدقة أن أقصى ما تقتضيه الأدلة اعتباره
في اللزوم، دون الصحة، فضلا عنه، فإنه لا دليل على اعتباره فيه، اللهم إلا أن يستفاد
من فحوى ما دل عليه في الوقف المنقطع، ومما دل عليه في الصدقة فيما كان منهما
متمما بعدم القبول بالفصل.
نعم الظاهر عدم اعتبار نية القربة في صحته، لما عرفته سابقا في الوقف، وفي
السكنى من أصالة عدم الاشتراط وغيرها، خلافا للمحكي عن المقنعة، والنهاية
والوسيلة والتحرير وجامع المقاصد والتذكرة، ثم إن الظاهر أنه كالوقف بالنسبة إلى
الموقوف والموقوف عليه كما عن المقنعة والنهاية والمهذب والوسيلة وجامع الشرايع
والتحرير وغيره من كتب المتأخرين، بل لعل حكمهم في الوقف المنقطع الآخر بأنه
حبس ظاهر أو صريح في ذلك، وربما كان هذا هو السبب في عدم استقصائهم الكلام
في عقده، وشرطه، ومورده والمحبوس عليه، ونحو ذلك.
بل لعل النصوص أيضا كذلك، فإنا لم نعثر فيه إلا على صحيح ابن أذينة (1) قال:
" كنت شاهدا لابن أبي ليلى فقضى لرجل جعل لبعض قرابته غلة داره ولم
يوقت وقتا فمات الرجل فحضر ورثته عند ابن أبي ليلى، وحضر قرابته التي جعل لها
غلة الدار فقال ابن أبي ليلى أرى أن أدعها على ما تركها صاحبها، فقال له: محمد
ابن مسلم الثقفي أما إن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قد قضى في هذا المسجد بخلاف ما
قضيت، فقال: وعلمك؟ فقال سمعت أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) يقول قضى: علي بن
أبي طالب (عليه السلام) برد الحبس وانفاذ المواريث، فقال ابن أبي ليلى: هذا عندك في
كتاب؟ قال: نعم قال: فأرسل إليه وائتني به، فقال محمد بن مسلم: على أن لا تنظر في
الكتاب إلا في ذلك الحديث، فقال: لك ذلك، فأحضر الكتاب فأراه الحديث عن

(1) الوسائل الباب - 5 - من أبواب أحكام السكنى الحديث - 1.
153

أبي جعفر (عليه السلام)، فرد قضيته ".
وخبر عبد الرحمن الجعفي (1) قال: كنت اختلف إلى ابن أبي ليلى في مواريث لنا
ليقسمها وكان فيه حبيس، فكان يدافعني فلما طال شكوته إلى أبي عبد الله (عليه السلام)
فقال: أو ما علم أن رسول الله أمر برد الحبيس وانفاذ المواريث، قال: فأتيته ففعل مثل
ما كان يفعل، فقلت إني شكوتك إلى جعفر بن محمد (عليه السلام) فقال لي كيت وكيت قال:
فحلفني ابن أبي ليلى أنه قد قال ذلك؟ فحلفت له، فقضى لي بذلك.
والمكاتبة عن ابن معبد قال: كتب إليه محمد بن أحمد بن إبراهيم سنة ثلاث و
ثلاثين ومأتين يسأله عن رجل مات وخلف امرأة وبنين وبنات وخلف لهم غلاما أوقفه
عليهم عشر سنين ثم هو حر من بعد عشر سنين فهل يجوز لهؤلاء الورثة بيع هذا
الغلام، وهم مضطرون، إذا كان على ما وصفته لك جعلني الله فداك؟ فكتب (عليه السلام) لا
يبيعوه إلى ميقات شرطه إلا أن يكونوا مضطرين إلى ذلك فهو جائز لهم " بناء على
إرادة الحبس من الوقف فيه.
وكذا خبر محمد بن مسلم (2) " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل جعل لذات محرم
جاريته حياتها؟ قال: هي لها على النحو الذي قال " وخبر يعقوب بن شعيب عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل له الخادم تخدمه فيقول: هي لفلان تخدمه
ما عاش، فإذا مات فهي حرة فتأبق الأمة قبل أن يموت الرجل بخمس سنين أو ستة
ثم يجدها ورثته، ألهم أن يستخدموها قدر ما أقت؟ قال: إذا مات الرجل فقد عتقت ".
وعلى كل حال فمما سمعت يظهر الوجه فيما ذكره المصنف وغيره بقوله (أما
لو حبس شيئا على رجل) مثلا (ولم يعين وقتا، ثم مات الحابس كان ميراثا) كما دل
عليه الخبران الأولان بل لا أجد فيه خلافا، بل الاجماع بقسمه عليه، (وكذا لو -
عين مدة) ولو عمر أحدهما (وانقضت كان ميراثا لورثة الحابس) بلا خلاف، ولا
إشكال في ذلك، ولا في لزومه إليها، لعموم " أوفوا " (4) و " المؤمنون " وخبر محمد بن مسلم

(1) الوسائل الباب - 5 - من أبواب أحكام السكنى الحديث - 2.
(2) الوسائل الباب - 6 - من أبواب السكنى الحديث 1 - 2.
(3) الوسائل الباب - 6 - من أبواب السكنى الحديث 1 - 2.
(4) سورة المائدة الآية - 1.
(5) الوسائل الباب - 6 - من أبواب السكنى الحديث 1 - 2.
154

وسابقه، بناء على أنهما من الحبس ولا ينافيه اطلاق الخبرين المزبورين المحمولين
على الحبس المطلق، خصوصا وفي سؤال أحدهما ذلك، على أن التعارض بينهما و
بين ما ذكرنا من وجه، ولا ريب في أن الترجيح لذلك، ولو لفتوى الأصحاب.
إنما الكلام في لزوم الأول إلى موت الحابس، وجوازه ففي القواعد إن لم يعين
كان له الرجوع متى شاء، ومال إليه بعض من تأخر عنه، ولعله لكونه حينئذ كالسكنى
المطلقة، بناء على أن جوازها للقاعدة باعتبار عدم اقتضاء عقدها إلا الطبيعة التي
تتحقق بالمسمى.
وفيه أن ذلك لما سمعته من النص، وإلا فمقتضى العقد اللزوم، وصيرورة السكنى
مطلقا ملكا له، إذ ليست هي إلا شيئا متحدا، والتعدد إنما يكون في استيفائها، وقد
ملكت بالعقد، إلا أن النص المزبور كشف عن أن الحكم فيها شرعا ذلك، فلا يقاس عليها
الحبس خصوصا بعد ظهور الفرق بينهما، بعدم انسياق احتمال إرادة ذلك فيه، بل
مقتضى عقده حصول الحبس في المحبوس الذي يحتاج إلى دليل شرعي في فكه، و
الوقت ليس من مقوماته.
ومن هنا ذهب وهم ابن أبي ليلى إلى لزومه، وعدم تغييره بموت الحابس،
ولولا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقضاء علي (عليه السلام) " برد الحبيس وانفاذ المواريث " لكان
متجها، بل قد يدعى ظهور الخبرين المزبورين في لزومه إلى موت الحابس، بل لعله
مقتضى التدبر في عبارة اللمعة أيضا.
وربما يشهد لما ذكرنا حكمهم بلزوم الوقف المنقطع الآخر إلى موت الموقوف
عليهم، فيرجع إلى ورثة الواقف حينئذ، وما هو إلا لاقتضاء عقد الوقف ملك الموقوف
عليه المنفعة المقتضي دوامه، ولو بالاستصحاب بل مقتضاه صيرورة المنفعة إرثا، إلا
أن النصوص السابقة صرحت برجوعه إلى الورثة.
ومنه يعلم قوة ما تقدم منا من كون الوقف المنقطع قسما من الوقف مشروع في
نفسه، لا أنه حبس كما ذكروه، وإلا لاقتضى بطلانه بموت الحابس، ونحو ما سمعته هنا
في الحبس المطلق، لا موت المحبوس عليه، بل وكان جائزا على ما ذهب إليه
155

الفاضل ومن تبعه مع أنه لا خلاف عندهم في لزوم الوقف المنقطع إلى موت الموقوف
عليه، اللهم إلا أن يحمل كلامهم هناك على ما إذا علم إرادة الوقف ما دام الموقوف
عليه حيا فلا ينافيه حينئذ ما ذكروه في الحبس المطلق، إذ هو بناء على كلامهم من
الحبس المعلق على مدة
إلا أنه كما ترى، ضرورة اكتفائهم في انقطاع الوقف بنحو قول الواقف " وقفته على
زيد " من دون ذكر شئ آخر هذا.
وربما كان ظاهر المحكي عن التنقيح وإيضاح المنافع كون الحبس المطلق كالوقف
المنقطع في العود إلى المالك بموت المحبوس عليه، لا الحابس، إلا أنه خلاف المشهور
وخلاف ما دل عليه الخبران المزبوران.
وعلى كل حال ربما يؤيد ما ذكرناه اطلاقهم اللزوم في المحبوس على القرب من
غير تقييد ذلك بما إذا أقرنه بمدة عمر المحبوس، بل ظاهرهم الاكتفاء بلزومه بمجرد
الحبس على الأماكن المخصوصة، اللهم إلا أن يدعى ظهور ذلك في إرادة الدوام، و
فيه منع.
ودعوى - خروج ذلك عن الفرض من حيث نية القربة فيه - يدفعها أنه لا تقتضي
إلا اللزوم في مقتضى العقد، إن دائما فدائما وإن مقيدا فمقيدا، فلو حبسه مثلا في
سبيل الله تعالى سنة لم يلزم في غيرها، بل الظاهر عدم خروجها عن الملك بذلك
وإن قلنا به في المطلق، لعدم السيرة فيه، فيبقى حينئذ على حكم غيره من أفراد
الحبس إذ لا خلاف في بقائه على ملك مالكه، وبذلك كله بان لك أكثر أحكام الحبس،
وإن أشكلت على بعض الناس، لعدم استيفاء الأصحاب لها، إلا أنك قد عرفت
ايكالهم جملة منها إلى الوقف والسكنى وأختيها والله هو العالم.
156

(كتاب الهبات)
التي جمعها باعتبار اختلاف حكم أفرادها، وإلا فهي حقيقة واحدة، كالبيع و
نحوه، ولذا عبر الأكثر بها موحدة، (و) كيف كان ف‍ (النظر) فيها (في الحقيقة
والحكم).
أما (الأول) فحقيقة (الهبة: هي العقد المقتضي تمليك العين من غير
عوض، تمليكا منجزا مجردا عن القربة) أو الأثر الحاصل منه، ولو بالمعاطاة أو فعل
الواهب، كما تقدم نظير ذلك، إذ الظاهر كون المسألة من واد واحد.
لكن في الرياض هنا أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على دعوى اعتبار العقد القولي
كما يظهر من الكفاية، وصرح به في المسالك.
وفيه: أن ما ذكر سندا للمعاطاة في غيرها من دعوى السيرة القطعية متحقق في
المقام، كتحقق صدق الهبة عليها بدون العقد، فلا محيص عن القول بمشروعيتها هنا
بناء على مشروعيتها هناك لذلك، وحمل كلام المصنف ونحوه على إرادة بيان أنها
من قسم العقود، لا الايقاعات، وإن تحققت بما يتضمن معنى الايجاب والقبول من
الأفعال، أو على بيان القسم العقدي منها، كما تسمع تتمة لذلك إنشاء الله.
وحينئذ فالعقد بمنزلة الجنس الشامل لسائر العقود الذي يخرج به الفعل
الدال على ذلك، والمقتضي له، كنثار العرس وحيازة المباح، والموت المقتضي للتمليك
بالإرث ونحو ذلك، كما أنه خرج بقوله " تمليك العين " نحو العارية والإجارة والسكنى
والرقبى والعمرى، ونحوها، مما تقتضي تمليك المنفعة، أو إباحتها، وبقوله " من غير
عوض " البيع ونحوه، وبقوله " منجزا " الوصية بالأعيان، وبقوله " مجردا عن القربة " الصدقة
بل والوقف، بناء على اعتبارها فيه، إلا أنك قد عرفت أن الأصح عدم شرطيتها فيه،
فينتقض التعريف، اللهم إلا أن يقال إنه بناء على اقتضائه نقل العين ليس بملك تام،
157

وهو المنساق من لفظ التمليك.
نعم ينتقض بالهبة المعوضة، ولو بالقربة، وقد يدفع بأن المراد - من قوله " من
غير عوض ومجردا عن القربة " - عدم لزوم ذلك فيها، لا عدم اتفاق حصوله فيها، كما
أن المراد من اقتضائه التمليك ما لا ينافي توقفه على أمر آخر، كالقبض كما هو واضح.
(و) على كل حال ف‍ (قد يعبر عنها بالنحلة والعطية) وإن كانا هما أعم
منها، ضرورة صدقهما على مطلق العطاء المتبرع به، الشامل للوقف والصدقة وغيرهما،
كما أن الهبة أعم من الصدقة والهدية، بناء على ما سمعته سابقا من التذكرة والمسالك
مفرعين عليه البر بهما فيما لو نذر الهبة، دون العكس مطلقا، والحنث بهما فيما لو حلف
أن لا يهب فتصدق أو أهدى، دون العكس، بتقدير فعله فردا منها خارجا، وإن
كان قد عرفت النظر فيه منا بالنسبة إلى الصدقة والهبة، فلاحظ وتأمل.
(و) كيف كان ف‍ (هي) بمعنى العقد (تفتقر إلى الايجاب والقبول و
القبض) بالنسبة إلى صحتها وترتب الأثر عليها، (فالايجاب كل لفظ) أو ما قام
مقامه نحو إشارة الأخرس (قصد به التمليك المذكور) وكان صالحا للدلالة عليه،
بحسب التحاور (كقوله مثلا وهبتك وملكتك) أو نحوهما، من غير فرق بين صيغة الماضي
وغيره، فيكفي مثل قوله هذا لك قولا واحدا، كما في الرياض وغيره، وهو مؤيد لما قلناه
سابقا من عدم اعتبار اللفظ المخصوص في العقود اللازمة، فضلا عن الجائزة كما أوضحناه
سابقا هذا.
ولكن في المسالك بعد أن حكى عن ظاهر الأصحاب الاتفاق على افتقار الهبة
مطلقا إلى العقد القولي في الجملة، قال: " فعلى هذا ما يقع بين الناس على وجه
الهدية من غير لفظ يدل على ايجابها وقبولها لا يفيد الملك، بل مجرد الإباحة، حتى
لو كان جارية لم يحل الاستمتاع به، لأن الإباحة لا تدخل في الاستمتاع ".
قال الشيخ في المبسوط: " وإن أراد الهدية ولزومها وانتقال الملك منه إلى
المهدي إليه الغائب، فليوكل رسوله في عقد الهدية معه، فإذا مضى وأوجب له وقبل
المهدي إليه أقبضه إياها لزم العقد، وملك المهدي إليه الهدية " ونحوه قال في
158

الدروس، وجعل عدم اشتراط الايجاب والقبول احتمالا.
واختلف كلام الفاضل، ففي القواعد جزم باعتبار الايجاب والقبول والقبض فيها و
في محكي التحرير قرب في أول الباب استغنائها عن الايجاب والقبول، عملا بالإذن
المستفادة من العادة، وقال في آخر كلامه نحو ما في المبسوط، ثم قال: " ولو قيل: بعدم
اشتراط القبول نطقا كان وجها، لقضاء العادة بقبول الهدايا من غير نطق ".
وظاهر المحكي عن التذكرة عدم احتياجها إليهما، لأنه حكى عن قوم من العامة
أنه لا حاجة في الهدية إلى ذلك، بل البعث من المهدي كالايجاب، والقبض من
المهدى إليه، كالقبول، لأن الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من كسرى وقيصر
وسائر الملوك فيقبلها، ولا لفظ هناك، واستمر الحال من عهده إلى هذا الوقت من
سائر الأصقاع، ولهذا كانوا يبعثون على أيدي الصبيان الذين لا يعتد بعباراتهم - ثم
قال - ومنهم من اعتبرهما، كما في الهبة، واعتذروا عما تقدم بأن ذلك إباحة لا تمليك،
وأجيب بأنه لو كان كذلك لما تصرفوا فيه تصرف الملاك، ومعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان
يتصرف فيه ويملكه غيره، ويمكن الاكتفاء في هدايا الأطعمة بالارسال والأخذ، جريا
على العادة بين الناس، - إلى أن قال: - والتحقيق مساواة غير الأطعمة لها، فإن
الهدية قد تكون غير طعام، فإنه قد اشتهر هدايا الثياب والدواب من الملوك إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن مارية القبطية أم ولده كانت من الهدايا ".
وفي جامع المقاصد إنه قوي متين، وفي المسالك هو حسن، لكن قال: " ومع ذلك
يمكن أن يجعل ذلك كالمعاطاة يفيد الملك المتزلزل، ويبيح التصرف والوطي، ولكن
يجوز الرجوع فيها قبله، عملا بالقواعد المختلفة، وهي أصالة عدم اللزوم مع عدم تحقق عقد
يجب الوفاء به، وثبوت جواز التصرف فيها، بل وقوعه، ووقوع ما ينافي الإباحة وهو الوطي
واعطاؤه الغير، فقد وقع ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، في مارية القبطية أم ولده (1)، وقد كان يهدى
إليه الشئ فيهديه لزوجاته وغيرهن (2)، وأهدى إليه حلة فأهداها لعلي (عليه السلام) من غير
أن ينقل عنه قبول لفظي، ولا عن الرسل ايجاب كذلك مقارن له، وهذا كله يدل على

(1) البحار ج 22 ص 193 المغني لابن قدامة ج 6 ص 249 إلى 252.
(2) البحار ج 22 ص 193 المغني لابن قدامة ج 6 ص 249 إلى 252.
159

استفادة الملك في الجملة، لا الإباحة، ولا ينافي جواز الرجوع بها ما دامت العين باقية
قلت: قد عرفت القول بمشروعية المعاطاة في الهبة وغيرها من العقود، إلا ما
خرج فضلا عن الهدية، وأنها تفيد مفاد العقد في الملك، لاندراجها في الاسم وإن لم
تكن عقدا، إلا أنهم اعتبروا فيها جميع ما يعتبر في العقد سوى اللفظ، وحينئذ يشكل
في الفرض دعوى كونها منها، ضرورة عدم المقارنة بين الفعلين المنزلين منزلة الايجاب
والقبول، المقصود بهما الانشاد.
نعم بناء على التوسع بالنسبة إلى ذلك في المعاطاة فيتجه كونها حينئذ منها،
بل وكذا في معاطاة كل عقد، أما على عدمه فلا محيص حينئذ عن دعوى مشروعيته قسما
آخر من الهدية مثلا مستقلا برأسه، خارجا عن العقد والمعاطاة، لمكان السيرة القطعية
التي هي الأصل في مشروعية المعاطاة، فالفرض مثلها حينئذ، ولعله أومأ إليه بقوله
كالمعاطاة، بل ينبغي التزامه في غير المقام، حتى البيع وشبهه، بناء على اندراج هذا
القسم وإن لم يكن معاطاة في اسمه.
وأما إذا فرض مشروعيته بالسيرة، وعدم اندراجه في الاسم، فلا بد من القول
باستقلاله بنفسه، وإن شابه معاطاة كل عقد في المفاد، ولزومه وجوازه يتبع الأدلة من
استصحاب الملك ونحوه.
إنما الكلام في أصل مشروعيته، وترتب الأثر عليه من الملك وغيره، فهو كذلك في
الهدية وغيرها، ومن الغريب ما في ظاهر الرياض من عدم مشروعية المعاطاة في
الهبة، لشبهة الاتفاق المزبور، ومشروعيتها في خصوص الهدية لما عرفت، وكأنه لم يسرح
نظره في أطراف المسألة، بل اقتصر على بعض الكلمات الموهمة لذلك في المقام، وفي
غيره، فلاحظ وتأمل، والله العالم.
(و) على كل حال ف‍ (لا يصح العقد) أو ما يقوم مقامه (إلا من بالغ كامل
العقل جائز التصرف) على حسب ما مر غير مرة من تفصيل الحال في ذلك كله
بالنسبة إلى غيره من العقود فلاحظ.
(ولو وهب ما في الذمة، فإن كانت لغير من عليه الحق لم يصح على الأشبه)
160

بأصالة عدم الانتقال وغيرها، والأشهر بل المشهور (لأنها مشروطة بالقبض) وما
في الذمة يمتنع قبضه، ودعوى - إمكانه بقبض أحد جزئياته - يدفعها أن الموهوب
الماهية، وهي غير الجزئيات قطعا، وصحة بيعه مع معلومية اشتراط صحته بالقدرة على
التسليم، لمعلومية الاكتفاء فيها بما تتحقق به المعاوضة وتحققها يكفي فيه القدرة
على تسليم بعض أفراد الماهية المعدود أحد العوضين، ويدخل في ملك المشتري من
غير توقف على قبض، ثم يستحق المطالبة بالاقباض.
بخلاف المقام الذي لا شك في مدخلية الاقباض في حصول الملك فيه، فلا بد
أن يقبض الواهب الدين، ثم يقبضه المتهب، فامتنع نقله إلى ملك المتهب حين هو
دين، وكذا بعد تعيين المديون له قبل قبض الواهب، لانتفاء الملك، وبقبض الواهب
يحدث الملك له، فيمتنع تقدم انشاء الهبة عليه، إذ يكون هبته حينئذ جارية مجرى
هبة ما سيملكه ببيع وغيره، وذلك غير جائز قطعا، وإلا لصح تمليك ما سيشتريه ويحتطبه
ويحتشيه، ومن ثم لم يصح هبة موصوف في الذمة، وصح بيعه.
ولكن قد يناقش في ذلك كله بمعلومية كون التحقيق في محله أن وجود الكلي
الطبيعي عين وجود أفراده، وبذلك جاز نقله بالبيع، المشروط بالقدرة على التسليم،
وغيره من النواقل التي منها الهبة، ولا يقدح الفرق باستحقاق المبيع من دون
القبض، بخلاف الهبة، لأنا لا نحكم بصحة الهبة حينئذ إلا بعد القبض، كما لا نحكم
بصحتها لو تعلقت بعين خاصة إلا بعد قبضها، وهو ممكن بقبض بعض أفراد الماهية
الذي وجوده عين وجود الكلي.
وقبض الواهب له إنما يفيد تعيينا له من بين الأفراد، لا أنه يحدث ملكا
جديدا، بل التأمل الصادق يقتضي عدم الفرق بين المقام، وبين هبة المشاع الذي
هو كلي أيضا فلو وهبه كذلك، ثم عينه الواهب ودفعه إلى الموهوب له لم يكن إشكال
في صحته، لعموم الأدلة فكذلك المقام.
هذا كله مع إرادة قبض الشخصي فيه، أما إذا وهبه كليا، لأنه مال مملوك له
متحقق، ولذا جاز جريان غير الهبة عليه من النواقل، ثم أراد إقباضه على كليته بأن
161

أذن للموهوب بقبضه على وجه التقابض بينه وبين من عليه الدين، إذا فرض كون
الموهوب مديونا لمن عليه الدين بقدرة، ولا قائل بالفرق - فلا إشكال فيه حينئذ.
كل ذلك مضافا إلى ما يشعر به صحيح صفوان (1) " سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل كان له على
رجل مال فوهبه لولده، فذكر له الرجل المال الذي له عليه، فقال له: ليس عليك فيه شئ
في الدنيا والآخرة، يطيب ذلك له؟ وقد كان وهبه لولد له؟ قال: نعم يكون وهبه له،
ثم نزعه فجعله لهذا " - من صحة هبته، وإنما جاز له نزعه منه لعدم حصول القبض
واطلاق لفظ النزع باعتبار ايجاد عقد الهبة الذي هو جزء السبب المملك.
ومن ذلك يظهر لك أن حمل الخبر على ما ذكرنا أولى من طرحه ورميه بالندور
وتأويله بإرادة المجاز من اطلاق الهبة، بمعنى العزم عليها ونحو ذلك، كما أنه ظهر
لك منه قوة القول بالصحة، كما عن المبسوط والسرائر والمختلف وغيرها، وفي المسالك
أنه متجه، بل عن المبسوط أنه الذي يقتضيه مذهبنا، ولعله لذا ترك الترجيح في
محكي التذكرة والإيضاح والدروس.
هذا كله في هبة الدين لغير من هو عليه (وإن كانت له صح) بلا خلاف
أجده فيه، بل في بعض كتب مشايخنا ظاهرهم الاتفاق عليه ولعله لصحيح معاوية
بن عمار (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " سألته عن الرجل يكون له على الرجل دراهم فيهبها
له، أله أن يرجع فيها قال: لا ".
ولا ينافيه صحيحه الآخر (3) عنه أيضا " رجل كانت عليه دراهم لانسان فوهبها له
ثم رجع فيها ثم وهبها له ثم هلك قال: هي للذي وهب له " إذ الرجوع بعد الهبة إنما
كان في كلام السائل مضافا إلى عموم الأدلة التي لا ينافيها ما دل على اعتبار القبض
في الهبة، إذ الموهوب هنا مقبوض للموهوب له، باعتبار كونه في ذمته، فهو حينئذ كهبة ما
في يده بل أقوى.
ولذا لم يجز الرجوع فيها ضرورة اقتضاء صحتها سقوط المال عن ذمته لعدم

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1.
(2) الوسائل الباب - 1 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1 - 2.
(3) الوسائل الباب - 1 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1 - 2.
162

تعقل ملك الانسان على نفسه شيئا نحو غيرها من أسباب النقل كبيع الدين على من
هو عليه، وغيره، فيكون ذلك بمنزلة تلف المال الموهوب الذي هو ملزم للهبة.
(و) من هنا قال المصنف (صرفت إلى الابراء) على معنى اتحادها معه
في المفاد لا أن المراد بلفظ الهبة الابراء، فإن ذلك خارج عن المقام الذي هو هبة
ما في الذمة، ومن المعلوم أنها من أسباب التمليك كالبيع ونحوه لا الاسقاط ولكنها
تفيد مفاد الابراء بالطريق الذي عرفت.
ومن هنا كان المتجه اعتبار القبول فيها (و) إن قلنا إنه (لا يشترط في
الابراء القبول على الأصح) وفاقا للأكثر بل المشهور، وخلافا للمحكي عن الغنية و
السرائر بل والمبسوط وإن كنا لم نتحققه، بل المحكي عنه التصريح بكون الأقوى عدم
الاشتراط، وإن كان الاشتراط قويا أيضا كالراوندي في فقه القرآن.
وعلى كل حال فالمذهب الأول، لصدق الاسم بدونه، ولأنه اسقاط، ولذا عبر
عنه بالعفو في قوله تعالى (1) " إلا أن يعفون " إلى آخره وللنصوص المتكثرة (2) في ابراء
المديون حيا مع عدم حضوره وميتا، ولغير ذلك.
لكن المقام من العقود التي لا بد فيها من القبول، وإن كان هي بعد تمامها
تفيد مفاد الابراء، كالصلح وبيع الدين على من هو عليه، وبذلك ظهر لك حقيقة الحال
على وجه لا يخفى عليك التشويش في جملة من كلماتهم التي بعضها ظاهر في كون
البحث في التعبير عن الابراء بلفظ الهبة ومن المعلوم خروج ذلك عما نحن فيه، إذ هو بحث
آخر، مبني على عدم اشتراط لفظ مخصوص في الابراء بل يكفي كل ما دل عليه من
حقيقة أو مجاز، وبعضها ظاهر في أنه من الهبة، ولكن هذا القسم من الهبة لا يحتاج
إلى القبول، لأنها كالابراء وهو لا يحتاج إليه.
وفيه أن ظاهر النص والفتوى كون الهبة قسما واحدا، وأنها من قسم العقود، و
ثالث جعلها من قسم الابراء، وبنى مسألة القبول على احتياج الابراء إليه وعدمه،

(1) سورة البقرة الآية 237.
(2) الوسائل الباب - 14 - من أبواب الدين.
163

وقد عرفت تحقيق الحال في ذلك.
(ولا حكم للهبة) من ملك وغيره (ما لم يقبض) الموهوب على ما هو المعروف
من مذهب الأصحاب كما في جامع المقاصد، وعليه المتأخرون إلا الفاضل في المختلف
والشهيد في الدروس، والأكثرون من علمائنا في محكي السرائر، والمشهور في محكي
إيضاح النافع، بل عن التذكرة بعد أن حكى القول بأن القبض شرط في اللزوم، لا
الصحة عن ظاهر الشيخين.
وجماعة قال: " لا يحصل الملك بدونه عند علمائنا أجمع " والإيضاح: عليه اجماع
الإمامية، ونص الأئمة، ونهج الحق: ذهبت إليه الإمامية، بل لعله مقتضى التدبر في
المحكي عن الخلاف، وإن قال فيه لا تلزم إلا بالقبض مستدلا عليه بإجماع الفرقة و
أخبارهم، إلا أن الظاهر إرادة الصحة من اللزوم فيه.
بل في الدروس لعل الأصحاب أرادوا باللزوم الصحة فإن في كلامهم اشعارا
به، فإن الشيخ قال: لا يحصل الملك إلا بالقبض وليس كاشفا عن حصوله بالعقد مع
أنه قائل بأن الواهب لو مات لم تبطل الهبة، فيرتفع الخلاف، نظر فيه المسالك بأن
العلامة في المختلف نقل القولين، واحتج لهما ثم اختار الثاني، فيكف يحمل على
الآخر.
نعم كلام الشيخ الذي نقله متناقض، وليس حجة على الباقين، فإن الخلاف
متحقق، ثم قال: وفي التذكرة اتفق ما هو أعجب مما في الدروس فإنه قال: الهبة والهدية
والصدقة لا يملكها المتهب والمهدى إليه والمتصدق عليه بنفس الايجاب والقبول إذا
كان عينا إلا بالقبض، وبدونه لا يحصل الملك عند علمائنا أجمع، وهذا ظاهر في دعوى
الاجماع على أن القبض شرط في الصحة اجماعا، وهو يؤيد ما في الدروس، وينافي ما في
المختلف ويمكن أن يحمل على أنه لا يحصل بدونه الملك التام، وهو اللازم فيكون أعم
من الصحة وعدمها لئلا ينافي فتواه في المختلف، ونقله الخلاف، وإن كان خلاف
الظاهر.
قلت: الظاهر أن مراده في المختلف من الصحة الحاصلة بدون القبض صحة
164

العقد من حيث كونه عقدا لا صحته بمعنى ترتب الملك عليه فيكون المراد عدم مدخلية
القبض في مفهوم الهبة باعتبار أنها عطية، وهي كذلك بل تصدق الهبة، وتتحقق
بالعقد، وإن توقف الملك مع ذلك على القبض كما يشهد لذلك جوابه عن مرسل أبان
- بعد أن ذكره دليلا للمخالف - بأنا نقول بموجبه بأن الهبة بنفسها لا تنقل الملك
بل مع القبض.
نعم العقد صحيح لكنه ليس لازما، وهو ظاهر فيما قلناه إن لم يكن صريحا وكأنه
أراد بقوله ليس لازما الرد على ما حكاه عن الشيخ وابن البراج بعد مسائل من أنه إذا مات
الواهب قبل الاقباض لا تبطل الهبة، وقام الوارث مقامه كالبيع في مدة الخيار لأنه بعد
أن حكى عنهما ذلك قال: والأقرب البطلان لنا أنها عقد جائز قبل القبض فانفسخ
بالموت كالوكالة والشركة، وخبر داود بن الحصين الآتي.
قلت: وبه يظهر ما في المسالك وغيرها من جعل ذلك من ثمرات الخلاف فتأمل
ثم قال: والفرق ظاهر بينه وبين بيع الخيار لأنه نوع معاوضة بخلاف الهبة خصوصا و
الشيخ رحمه الله ذكر خلافا في المبسوط إن الملك هل يحصل من حين القبض أو من
حين العقد، ويكون القبض كاشفا، واختار الأول وجعله الصحيح عنده، وهو الذي
سمعت من الدروس وحكايته عن الشيخ مستظهرا منه إرادة الصحة من اللزوم فيها،
وربما يؤيده أيضا ما عن الخلاف والمبسوط من التصريح بأنه إذا قبض بغير إذن الواهب
كان القبض فاسدا بناء على أن ذلك من لوازم كون القبض شرطا في الصحة لا اللزوم،
كما عن فخر الاسلام وأبي العباس الاعتراف به بل زاد الثاني منهما البطلان لو مات
أحدهما قبل القبض بل عن المبسوط إنه فرع على ما اختار من حصول الملك بالقبض
فساده بدون الإذن هذا، ولكن المحكي عنه في الخلاف والمبسوط إنه قال: إذا
وهب لغيره عبدا ولم يقبضه حتى هل شوال ثم قبضه فالفطرة على الموهوب له لأن
الهبة تنعقد الايجاب والقبول وليس من شرط انعقادها القبض وسنبين ذلك في
باب الهبة، وإذا ثبت ذلك ثبت هذه لأن أحدا لم يفرق بينهما وفي أصحابنا من
يقول القبض شرط في صحة الهبة وعلى هذا لا فطرة، وتلزم الفطرة - الواهب، وهو
165

كالصريح في حصول الملك الموجب للفطرة بالهبة قبل القبض، اللهم إلا أن يدعى
أن عنوان وجوب الفطرة " الموهوب " وإن لم يكن ملكا، إلا أنه كما ترى، والتزام اختلاف
كلام الشيخ لبعد المسافة بينهما أولى منه.
وعلى كل حال فكلام القائلين بكونه شرطا للزوم غير منقح، وخصوصا بعد ما
ستعرفه من الاجماع على جواز الهبة بعد القبض أيضا إلا في مواضع خاصة، وحمل
كلام القائل عليها - بمعنى أنه لا جهة للزوم قبله - بخلاف ما بعده فإنه قد يلزم -
واضح الفساد، بل الظاهر أن اللزوم في المواضع المخصوصة، لخصوصها، لا للقبض
الذي هو كما أنه حاصل فيها حاصل في غيرها، ولو كان سببا في اللزوم لاقتضاه في
الجميع كما هو واضح، اللهم إلا أن يقال كما ستعرف فيما يأتي أن المراد بجواز الرجوع
بالهبة ما لا ينافي اللزوم، باعتبار عدم كونه فسخا لعقد الهبة، وإنما هو ناقل للملك
من المتهب، وحينئذ يكون العقد لازما بالقبض، بمعنى عدم جواز فسخه، وإن جاز
الرجوع بالهبة، بخلاف ما القبض، فإن له فسخ العقد، وعليه ينطبق حينئذ ما في
بعض النصوص من أن له الخيار ما لم يقبض، فإنه لا خيار له في نفس العقد بعد القبض
ولكنه أيضا مناف لظاهر ما تسمعه منهم من كون الرجوع بالهبة بعد القبض فسخا لعقدها
لا ناقلا مستقلا، وإن ذهب إليه بعض الشافعية فلاحظ وتأمل، وحينئذ تتم المنافاة
المزبورة، بل هو أيضا مناف للاجماع المحكي إن لم يكن المحصل على مدخلية القبض في
الهبة مطلقا في الجملة، وعلى التقدير المزبور ليس للقبض حينئذ في أكثر أفراد الهبة
مدخلية لا في صحة ولا في لزوم.
وبذلك كله يظهر ضعف القول المزبور بل لم أتحقق قائلا به على الوجه
المحرر عند المتأخرين الذي ذكروا له الثمرات، وإن نسب إلى جماعة كظاهر الشيخين
وبني حمزة والبراج وإدريس ولم يحضرنا كلام بعضهم، ولعله كغيره مما حضرنا لا صراحة
فيه أو غير مفتح.
كل ذلك مضافا إلى دلالة النصوص على المشهور أيضا كخبر أبي بصير (1) المنجبر

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الهبات - 7.
166

بما عرفت عن أبي عبد الله (عليه السلام) " الهبة لا تكون أبدا هبة حتى يقبضها والصدقة جائزة
عليه " فإن نفي الصحة أقرب من غيره إلى نفي الماهية، وموثق داود (1) " الهبة والنحلة ما لم
تقبض حتى يموت صاحبها قال: هو ميراث، فإن كانت لصبي في حجره أو أشهد عليه فهو
جائز " فإن الظاهر منه بقاؤها على الملكية، ولذا كان ميراثا، لا أنه كان عقدا جائزا انفسخ
بالموت وصار ميراثا، كما التزم به الفاضل في المختلف فإنه وإن كان محتملا إلا أنه
مخالف للظاهر، ولا داعي له لما ستعرف من عدم المعارض المقتضي لارتكاب خلاف
الظاهر.
وبذلك بظهر وجه الدلالة أيضا في مرسل أبان (2) عن الصادق (عليه السلام) أيضا " النحلة
والهبة ما لم تقبض حتى يموت صاحبها، قال: هي بمنزلة الميراث " إذ هو كالسابق، و
إن اختلف معه بلفظ المنزلة المراد منه من جهة تعلق عقد الهبة المفيد للتهيؤ
وإن لم يكن ناقلا.
كل ذلك مضافا إلى فحوى ما تقدم في الصدقة التي لا فرق بينها وبين الهبة إلا
باشتراط قصد القربة وعدمه، كما أومأت إليه النصوص سابقا، وإلى عدم دليل صالح
لمعارضة ما سمعت سوى العمومات التي يجب الخروج عنها ببعض ما عرفت فضلا عن جميعه
مضافا إلى المناقشة في نحو " أوفوا بالعقود " منها وإن كان فيها ما فيها.
وسوى صحيح أبي بصير (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " الهبة جائزة قبضت أو لم تقبض،
قسمت أو لم تقسم، والنحل لا تجوز حتى تقبض وإنما أراد الناس ذلك فأخطأوا " الذي
ليس بواضح الدلالة.
ضرورة كون المظنون مساواة المراد به لخبره الآخر (4) " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
صدقة ما لم يقسم ولم يقبض فقال: جائزة، إنما أراد الناس النحل فأخطأوا " بل عن
بعضهم احتمال اتحاده معه، والتعبير بالهبة من الراوي أو النساخ، وقد فسر في

(1) الوسائل - 4 - من أبواب أحكام الهبات - 5 - 1.
(2) الوسائل - 4 - من أبواب أحكام الهبات - 5 - 1.
(3) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 4.
(4) الوسائل الباب - 9 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 2.
167

الوافي خبر الصدقة بأنهم أرادوا الفتوى بالمنع من ذلك في النحل فأخطأوا، فمنعوا منه
في الصدقات، وذلك لأنهم أطلقوا الصدقة وأرادوا به النحلة.
وعلى كل حال يكون الموضوع فيهما حينئذ هبة ما لم يقبض للواهب ولم يقسم
كذلك وهو غير ما نحن فيه مضافا إلى ما في التنقيح - من أنه لا دلالة في الرواية على
المدعى، وإنما هي حكاية قول الناس وخطأهم فيه وتبين فيها الحق - وإلى ما فيها من
مخالفة الاجماع من الفرق بين الهبة والنحلة وإلى احتمال كون المراد في الصدر
بيان حكم هبة ما لم يكن مقبوضا للواهب من أملاكه كميراث لم يصل إلى يده أو قبل أن
يقسمه، وفي ذيله بيان عدم جوازها بدون قبض الموهوب، والتعبير بالنحلة، لا للفرق
بينها وبين الهبة، بل تفننا في التعبير وإلى غير ذلك مما يقطع ببعضه بسقوط دلالته
على المطلوب فضلا عن جميعه.
ومن ذلك يعلم الكلام في دعوى دلالة خبر عبد الرحمان بن سيابة (1) عن أبي عبد -
الله (عليه السلام) " إذا تصدق الرجل بصدقة أو هبة قبضها صاحبها أو لم يقبضها علمت أو لم
تعلم فهي جائزة ".
ضرورة إمكان إرادة الواهب من الصاحب لا الموهوب، بل ربما احتمل فيه وفي غيره
إرادة اللزوم من الجواز كما في كثير من النصوص فيكون حينئذ خارجا مخرج التقية، وإن
كان هو بعيدا في مثل الخبر الأول الذي ذكر التعريض بهم فيه، وإرادة أصل
المشروعية بمعنى عدم وقوع عقد الهبة باطلا بحيث لو جاءه القبض بعد ذلك لم يصح و
غير ذلك فلا محيص حينئذ عن القول باعتبار القبض في الصحة على وجه لا يترتب عليه ملك
قبلها إلا على احتمال الكشف الذي هو قوي في نفسه، وقد قررناه في نظائره غير مرة إلا
أن الاجماع بحسب الظاهر هنا على خلافه، وأما الاستدلال بما في بعض النصوص (2) من
الخيار في الرجوع وعدمه قبل القبض لا بعده فلا خيار، ففيه مؤولة عند الفريقين بإرادة
الكراهة ونحوها للاتفاق على الجواز بعد القبض من الجميع.
(ولو أقر) الواهب (بالهبة والاقباض، حكم عليه بإقراره) لعموم " اقرار

(1) الرسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الهبات الحديث 3.
(2) الرسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 6 و 8.
168

العقلاء (ولو كانت في يد الواهب) لعدم المنافاة بعد جواز اقباضه إياها ثم ردها
إليه إلا مع العلم بكذبه (ولو أنكر بعد ذلك لم يقبل) بلا إشكال ولا خلاف بل ليس
له اليمين على الموهوب، لأن الغرض ثبوت الهبة والاقباض شرعا.
نعم لو ادعى المواطاة على الاقرار، وأن مخبره لم يكن واقعا توجه له اليمين
عليه على حصول القبض كما في الدروس والمسالك ومحكي المبسوط والمهذب، أو على
عدم المواطاة كما في محكي الحواشي المنسوبة إلى الشهيد وجامع المقاصد، والأقوى
الأول لأنه هو المقصود في الدعوى والمواطاة إنما ذكرت لبيان دعوى العلم بفساد
ما وقع من الاقرار الذي هو أمارة في الظاهر، ومثله الاقرار بالبيع، وقبض الثمن ثم
أنكر وادعى المواطاة أو الاقتراض وادعاها.
(ولو مات الواهب) أو الموهوب (بعد العقد) بل والإذن (وقبل القبض
كانت ميراثا) على المشهور بل في محكي التذكرة نسبته إلى علمائنا لعدم اجتماع
شرائط الصحة، وتلفيق السبب من الوارث والمالك لم يثبت مشروعيته بعد انسياق
العمومات والاطلاقات إلى خلافه.
ومن هنا كان الحكم عاما في جميع شرائط الصحة مضافا إلى ما سمعته من الخبرين
السابقين المحكوم فيهما بكونها ميراثا إلا أنه مع ذلك كله حكى عن الشيخ وابن البراج
القول بعدم بطلانها بموت الواهب وأنه يقوم مقامه كالبيع في مدة الخيار من حيث
إن الهبة عقد يؤل إلى اللزوم فلا تنفسخ وهو كأنه اجتهاد في مقابلة النص، بل و
القواعد.
ولذا جزم الفاضل بكونها ميراثا مع قوله بعدم كون القبض من شروط الصحة،
على أن المحكي عن الشيخ رحمه الله في هبة ذي الرحم إذا مات قبل قبضها كان
ميراثا كما أن المحكي عنه ما سمعته من أن الملك يحصل بالقبض، وليس هو كاشفا عن حصوله
بالعقد، فكلامه لا يخلو من تهافت كما أومأنا إليه سابقا، ولا فرق في الحكم المزبور بين
الإذن قبله وعدمها لبطلانها بالموت، وهو واضح كوضوح الحكم فيما لو أرسل هدية
إلى انسان فمات المهدي أو المهدى إليه قبل وصولها، إذ هو من المفروض في الحقيقة
169

فليس للرسول حينئذ دفعها إليه ولا إلى وارثه للبطلان بالموت، والله العالم.
(ويشترط في صحة القبض) الذي هو شرط في صحة الهبة على ما عرفت (أذن
الواهب) كما في غيره مما اعتبر فيه القبض بلا خلاف أجده فيه بل الاجماع بقسميه عليه
مضافا إلى أنه مقتض أصل عدم ترتب الأثر، وأصل عدم الانتقال مع عدم اطلاق يوثق
به في تناوله مثله بل لعل ما دل على شرطيته ظاهر في خلافه بناء على قرائته يقبضها من
باب الأفعال أو التفعيل كما هو واضح.
وحينئذ (فلو قبض الموهوب) له (من غير إذنه لم ينتقل إلى الموهوب له)
لعدم حصول الشرط إلا مع الإجازة بناء على جريانها في مثله، ولا فرق في ذلك عندنا -
بين المجلس وغيره، ودعوى ظهور العقد في الإذن بذلك في المجلس دون غيره كما
عن بعض العامة، بل أبي حنيفة منهم - واضحة الفساد مع فرض عدم القرينة.
نعم قد يتوجه عدم اعتبار الإذن على القول بتحقق الملك قبله لقاعدة " تسلط
الناس على أموالها " وإن كان لا يترتب عليه لزوم في حق الواهب في موضوعه كهبة الرحم
ونحوها لبعض ما سمعته من الأدلة على القول الأول مع احتماله هذا.
وربما استفيد من اطلاق اعتبار الإذن عدم اشتراط كونه بنية الهبة فلو إذن فيه
مطلقا صح، بل في الرياض أنه الأشهر، وعليه عامة من تأخر، وفي الكفاية أنه المشهور
لكن قد عرفت الكلام فيه في الوقف لم نتحقق ما ذكراه من الشهرة بل صرح الفاضل في
القواعد هنا باعتبار ايقاع القبض للهبة.
وفي المسالك هنا بعد أن حكى عن بعض الأصحاب اعتبار ذلك لصلاحية مطلق
القبض لها ولغيرها فلا بد من مايز، وهو القصد قال تبعا لجامع المقاصد، وهو حسن حيث
يصرح بكون القبض لا لها، لعدم تحقق القبض المعتبر فيها، أما لو أطلق فالاكتفاء به
أجود لصدق اسم القبض وصلاحيته للهبة، ودلالة القرائن عليه، بخلاف ما لو صرح
بالصارف ".
ولا يخفى عليك ما فيه، ضرورة عدم كون البحث في الحكم الظاهري إنما الكلام في
أصل تحقق الشرط بالقبض الخالي في الواقع عن قصد كونه للهبة، سواء كان بقصد غيرها
170

أولا، ولا معنى لصرف مثل ذلك إليها بعد فرض تشخصه في الخارج، ودعوى - تحقق
الشرطية بذلك دون المقصود به غير الهبة - واضحة المنع، ولا ريب في أن الأصل عدم
ترتب الأثر بعد فرض عدم اطلاق يوثق به في تناول مثله لتحقق الشرط المعلوم اشتراطه
ويقبل قول كل من الواهب والمتهب في تشخيص القصد، فلو خالفه الآخر قدم بيمينه،
لأنه أعلم بقصده، هذا كله في هبة غير المقبوض للموهوب له.
(و) أما (لو وهب ما هو في يد الموهوب له صح، ولم يفتقر إلى إذن الواهب
في القبض، ولا أن يمضي زمان يمكن فيه القبض) بلا خلاف أجده بين من تأخر عن
المصنف (و) لا إشكال.
نعم (ربما صار إلى ذلك بعض) من تقدمه من (الأصحاب) كالشيخ رحمه
الله ويحيى بن سعيد فاعتبرا الإذن في القبض، ولو من إقراره له ومضى زمان يمكن فيه
القبض، قال أولهما في المحكي عن مبسوطه: إذا وهب له شيئا في يده مثل أن يكون في
يده وديعه فيهبها له نظر، فإن أذن له في القبض ومضى بعد ذلك زمان يمكن القبض
فيه لزم العقد، وإن لم يأذن له في القبض فهل يلزم القبض بمضي الزمان الذي يمكن
فيه القبض أو لا بد من الإذن في القبض، الأقوى أنه لا يفتقر إلى الإذن في القبض، لأن
اقرار يده عليه بعد العقد دليل على رضاه بالقبض.
وثانيهما في المحكي عن جامعه إذا أذن له في قبضه ومضى زمان يمكن فيه
القبض صحت الهبة، وفيه منع تناول دليل الشرطية لمثل الفرض فيبقى أصالة استقلال
العقد بتسبيب الملك بحاله، وإلا لوجب ارجاعه ثم قبضه جديدا، لتحقق صدق القبض
للهبة حينئذ حقيقة، فإن استدامة القبض ولو مع الإذن ومضى الزمان ليست قبضا
حقيقة، ولو سلم فيكفي الإذن ولا يحتاج إلى مضي زمان قطعا، ووجه في المسالك
بأن اقرار يده عليه بعد العقد دليل على رضاه بالقبض، فيكون ذلك كتجديد الاقباض
فيعتبر مضي زمان يمكن فيه القبض، كما لو لم يكن مقبوضا بيده فأقبضه إياه فإنه يعتبر
مضي زمان يكون فيه القبض، فكذا هنا، ثم أجاب عنه بما حاصله أن ايجاب العقد و
اقرار يده على العين بعده دليل على رضاه بقبضه لها وليس هو اقباضا بل هو متحقق
171

قبله، وإنما هو علامة وأمارة على رضاه بالقبض السابق، وينزله منزلة الاقباض.
وفيه ما لا يخفى عليك بعدم الإحاطة بما ذكرناه من عدم الدليل على الشرطية
في الفرض وعلى تقديره فالمتجه عوده ثم قبضه، ولو سلم كفاية الإذن في الاستدامة
في تحقق مسماه، فيمكن منع دلالة الايجاب والاقرار على مقتضى القبض السابق على
ذلك، وإلا لاتجه كلام أبي حنيفة المتقدم سابقا، على أنه لا يتم فيما لو فرض خلو
الواهب عن ذلك المشمول لاطلاق المصنف وغيره.
ومن هنا ناقش في الرياض في أصل الدليل بعد أن حكاه عنهم: " بأن -
دعوى حصول القبض المشترط أول البحث " لعدم عموم يدل على كفاية مطلقه لا من
اجماع ولا من غيره للخلاف، وظهور النصوص المشترطة له بحكم التبادر في القبض
بعد العقد فاللازم في غيره الرجوع إلى حكم الأصل الدال على عدم الصحة، أو
اللزوم إلى أن يتحقق القبض المتيقن ايجابه لهما، وليس إلا الجميع عليه وهو القبض
الخاص به، أو المأذون فيه ثانيا للهبة، ولعله لذا اعتبر بعض الأصحاب ما أسقطه
الأكثر، وهو أظهر، إن لم يكن اجماع المتأخرين على خلافه انعقد، إلى أن قال: و
يحتمل قويا المصير إلى مختار الأكثر لما مر في الوقف وسيأتي في هذا البحث من الاكتفاء
بقبض الولي الواهب مع سبقه على العقد، للنصوص الدالة عليه، المعللة بعضها له
بحصول القبض، من دون أن يذكر فيها ما مر من القيود، وهذا التعليل جار في المفروض
والعلة المنصوصة يتعدى إلى غير المورد كما تقرر في الأصول ".
وإن كان فيه مواضع للنظر لمن أحرز ما قدمناه في الوقف وفي المقام، وما يأتي،
وقد تقدم نظير هذه المسألة في الرهن وفي الوقف فلاحظ وتأمل كي تعرف الحال
في القبض الغصبي أيضا الذي قد صرح هنا غير واحد بعدم الفرق بينه وبين غيره، بل
لم أجد فيه خلافا إلا ما عساه يظهر من ثاني الشهيدين في الروضة من المسيل إلى
الفرق بينه وبين غيره، باعتبار أنه لا يد للغاصب عليه شرعا، بل ظاهره أنه قول للبعض،
وإن كنا لم نتحققه، بل لا وجه معتد به له بناء على حصول الإذن من العقد فيه، إذ
لا فرق في اقتضائها تغيير الاستدامة عن الابتداء بين الجميع كما أن الوجه عدم
172

الفرق أيضا على ما ذكرناه وهو واضح والله العالم.
(وكذا) الحال (لو وهب الأب أو الجد للولد الصغير) ولو أنثى ما هو في
يده (لزم بالعقد) بلا خلاف أجده فيه لنحو ما سمعته فيما تقدم ولذيل موثق داود (1)
المتقدم (فإن كانت لصبي في حجره وأشهد عليه فهو جائز) مضافا إلى فحوى ما تقدم
في الوقف من قوله (2) (وإن كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتى يبلغوا فيحوزها
لهم).
والتعليل في الصحيح الآخر (3) (لأن والده هو الذي يلي أمره) وفي خبر علي
بن جعفر (عليه السلام) (4) (إذا كان أب تصدق على ولد صغير فإنها جائزة، لأنه يقبض لولده إذا
كان صغيرا) وغير ذلك، إنما الكلام في اعتبار قصد القبض عن الطفل بعد الهبة ليتمحض
القبض بها وعدمه.
في المسالك تبعا لغيره ينبغي ذلك عند من يعتبر ايقاع القبض للهبة كالعلامة
لأن المال المقبوض في يد الولي له، فلا ينصرف إلى الطفل إلا بصارف، وهو القصد، و
على ما اخترناه من الاكتفاء بعده قصد القبض لغيره يكفي هنا، وينصرف الاطلاق إلى
قبض الهبة، ويلزم ذلك.
قلت: قد عرفت تحقيق الحال هنا وفي باب الوقف وأنه بناء على الشرطية في الفرض
وكفاية القصد في الاستدامة في تحقق مسماه لا بد من حصوله، وإلا لم يكن قبضا، ومع
الاطلاق لا ينصرف إليه قطعا، إذ الفرض خلوه في الواقع خصوصا في قبض الولي الذي
كان قبضا لنفسه على أنه مع فرض عدم التجديد يكون ناويا للخلاف، ضرورة لحوق الاستدامة
بالابتداء ما لم يجدد لها قصدا يفصلها عن الابتداء، والنصوص السابقة إن لم تكن
ظاهرة فيما ذكرناه من تجديد القصد المزبور، فهي مبنية على سقوط الشرط في الفرض
نحو ما ذكرناه في المسألة السابقة، وربما كان قول المصنف، (وكذا) إشارة إلى ذلك،

(1) الوسائل الباب - 5 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 2.
(2) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 4 و 5.
(3) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 4 و 5.
(4) الوسائل الباب - 5 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 5.
173

ولا ينافيه التعليل بقوله (لأن قبض الولي قبض عنه) الذي يمكن إرادة بيان الوجه
في سقوط الشرط بذلك منه.
وعلى كل حال فالمراد من المتن وغيره ممن أطلق ما قيدنا به العبارة من كون
الموهوب في يده، أما لو فرض خروجه عنها كميراث لم يصل إليه، أو مبيع لم يقبضه فلا ريب
في افتقار صحة هبة إلى قبض.
نعم في المسالك وغيرها عدم خروج الوديعة عن اليد، لأن يد المستودع كيده
وفي العارية وجهان أجودهما خروجها عن يده فيفتقر إلى قبض جديد من الولي أو من
يوكله فيه، ولو وكل المستعير فيه كفى.
لكن لا يخفى ما في الفرق بين الوديعة والعارية، سواء كان ذلك من حيث كونهما
كذلك أو من حيث أفرادهما، كما أنه لا يخفى عليك ما في دعوى عدم الخروج بالاستيداع
مطلقا عن اليد، ضرورة عدم صدق كونه في يده، وتحت قبضته في جملة من أفراد الوديعة
وإن حكى عن الايضاح الاجماع عليه في الوديعة، وأنها كالمال في يد الوكيل، فإن
تم كان هو الحجة، وإلا كان مشكلا.
وفي القواعد، ولو كان مغصوبا أو مستأجرا أو مستعارا على اشكال، افتقر إلى
القبض بخلاف ما في يد وكيله، والظاهر اختصاص الاشكال في العارية، كما عن الإيضاح
التصريح بذلك، مدعيا الاجماع على الافتقار في الأولين، وجعل وجه الاشكال فيها
من عدم كونها بحق لازم فكانت كقبض الوكيل، ومن أنه إنما قبضه لنفسه فكانت اليد له
لا للمعير فكان كالمستأجر.
وفيه: أنه لا مدخلية للأول في صدق القبض وإلا لكان المغصوب مقبوضا أيضا
كما عن الشهيد الاشكال فيه أيضا لذلك حاكيا له عن بعض النسخ المقروءة على المصنف
إلا أنه كما ترى مناف للصدق العرفي الذي عليه المدار، حتى في مثل الإجارة التي
يمكن حصولها مع فرض كون العين في يد المؤجر، وحينئذ لا ينافي القبض المزبور
الذي هو في كل شئ بحسبه بمقتضى العرف فتأمل جيدا.
وخرج بقوله (الصغير) الكبير الذي لا ولاية لهما عليه في مثل ذلك ذكرا كان
174

أو أنثى، وإن بقيت ولايتهما على الأنثى في النكاح عند بعض، لدعوى الدليل عليه
بالخصوص لا مطلقا، فإن الرشيدة إذا تصرفت بما لها بيع وهبة لم يتوقف على الولي
اتفقا لعموم " الناس مسلطون " وغيره لكن عن الإسكافي الحاق الإناث وإن رشدن
بالصغار في كون قبض الأب قبضا لهم، ولا ريب في ضعفه، إلا أن ينزل على الوكالة والإذن
في ذلك كما هو واضح.
(ولو وهبه غير الأب والجد لم يكن له بد من القبض عنه سواء كان له ولاية أو لم
تكن، ويتولى ذلك الولي أو الحاكم) بلا خلاف ولا اشكال في ذلك، إذا كان الواهب
غير الولي، ضرورة كونه حينئذ أجنبيا، فلا يكون قبضه حينئذ عن الطفل قبضا إنما الكلام
في قول المصنف (سواء) إلى آخره فإن مقتضاه كون الوصي أجنبيا أيضا، فلا يقوم
قبضه عنه، ومن غير فرق بين كونه هو الواهب أو غيره، كما عن المبسوط التصريح بذلك،
ولم نعرفه لغيرهما صريحا، محتجا بأنه لا يصح له أن يبيع له شيئا من نفسه، ولا أن
يشتري منه كذلك فينصب الحاكم أمينا يقبل منه هبة الصبي ويقبضها له.
وفيه: أن ولاية الوصي عامة كالأب والجد بالنسبة إلى ذلك، بل ولايته في
الحقيقة من ولايتهما، بل لعلل التعليل المزبور في الخبر المتقدم سابقا يقتضي ذلك
بل قد يشكل ولاية الحاكم الذي هو ولي من لا ولي له في الفرض المزبور الذي وصى
أحد الأبوين فيه موجود، ودعوى ولايته في خصوص هذا التصرف كما ترى، بل التزام
عدم جواز هذا التصرف حينئذ أولى.
وأولى منه ما اخترناه من عموم ولايته، بل هي ولاية الأبوين في الحقيقة، كما
أن عموم ولاية الحاكم التي هي من ولاية الولي الحقيقي أولى، فمن الغريب موافقة
المصنف هنا لما سمعته عن الشيخ الممنوع أصلا وتفريعا، ولو حمل كلام المصنف على
أن ذلك منه بناء على التردد في مسألة اتحاد الموجب والقابل بالنسبة إلى غير الأب
والجد كما سمعته منه في الوقف - ففيه أن الذي استظهره بعد التردد هناك الاكتفاء
بقبض الوصي، فكان المناسب هنا ذكر الحكم كذلك هذا.
وفي المسالك " قول المصنف: ويتولى " إلى آخره يمكن فرضهما مع كون الواهب
175

غير ولي، وأما إذا كان وليا كالوصي فلا يفرض فيه إلا تولي الحاكم، لأن الوصي لا يتحقق
مع وجود الأب والجد له كما سيأتي، فلم يبق إلا الحاكم، وفي معنى الحاكم منصوبه لذلك
مطلقا.
قلت: وأما لو كان الواهب الحاكم، والفرض عدم ولي غيره، فلا بد من التزام قبض
حاكم آخر عنه، وقد عرفت التحقيق الخالي عن مثل هذه الالتزامات والله العالم.
(وهبة المشاع جائزة) عندنا بل عن الغنية ونهج الحق الاجماع عليه، بل
في جامع المقاصد لا خلاف بين أصحابنا في صحة هبة كلما صح بيعه من الأعيان سواء
كان مشاعا أو مقسوما من الشريك وغيره، وعن التذكرة تصح هبة المشاع كما يصح بيعه
على الحد الذي يجوز بيعه عند علمائنا أجمع، وهو الحجة مضافا إلى العمومات، وفحوى
ما دل عليه من النصوص الكثيرة التي يمكن دعوى تواترها في الصدقة.
وخصوص موثق أحمد بن عمر (1) الحلبي " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن دار لم تقسم
فتصدق بعض أهل الدار بنصيبه من الدار، قال: يجوز قلت: أرأيت إن كان هبة؟ قال
يجوز ".
وصحيح أبي بصير (2) المتقدم سابقا، بل قد يستفاد من المروي في طرق العامة فضلا
عن الخاصة كالنبوي (3) " زن وأرجح " بناء على أن الراجح هبة مشاع، وقوله (عليه السلام) لوفد
هوازن لما جاؤوا يطلبون منه أن يرد عليهم ما غنمه منهم (4): " ما كان لي ولبني عبد المطلب
فهو لكم " ولكن مع ذلك كله والمحكي عن أبي حنيفة أن هبة المشاع الذي يمكن قسمته
لا تجوز لغير الشريك والذي لا تمكن قسمته لا تجوز هبته مطلقا، وعن مالك المنع من
هبة المنقسم بين اثنين مستندين إلى أن وجوب القسمة يمنع من صحة القبض وتمامه
وهو كما ترى تهجس واستحسان يندفع بوجوب تسليمه أجمع ثم إنه يقسم.
(و) كيف ما كان ف‍ (قبضه) فهو (كقبضه في البيع) ضرورة اتحاد معناه

(1) الوسائل الباب - 9 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 1 - 2.
(2) الوسائل الباب - 9 - من أبواب أحكام الوقوف الحديث - 1 - 2.
(3) المستدرك ج 2 ص 464 جامع الصغير ج 2 ص 28 الطبع أحمد حنفي.
(4) البحار ج 21 ص 185 من الطبعة الحديثة (الآخوندي).
176

عرفا فيهما وفي غيرهما فيجري فيه حينئذ القولان، وهما الاكتفاء بالتخلية مطلقا كما هو
المختار، والتفصيل بها في غير المنقول وبالنقل وما في معناه فيه بلا خلاف أجده فيه
إلا ما يحكى عن القاضي منا وبعض الشافعية من غيرنا من الفرق بينهما: بأن القبض
في البيع مستحق، وللمشتري المطالبة، فجاز أن يجعل بالتمكين قابضا، بخلاف الهبة
فإن القبض غير مستحق فاعتبر تحققه، ولم يكتف بمطلق التخلية في المنقول وإن اكتفينا
بها في البيع، وليس بشئ بعد ما عرفت من اتحاد مفهومه وعرفا، وما ذكره إنما
يقتضي الفرق في حكمه لا في حقيقته.
ثم إن الظاهر تحقق التخلية من دون إذن الشريك لعدم توقف مفهومها على
التصرف فيه، ولو قبضه في يده، إذ هي على ما حققنا كون الشئ تحت يده، وفي سلطانه
على نحو المالك الذي لا إشكال في كون ماله مقبوضا له بمعنى كونه في قبضه، وإن كان
له شريك فيه، فمتى خلى بينه وبين الموهوب على هذا الوجه تحقق القبض.
وإن كان صريح جماعة وظاهر آخرين عدم اعتبار إذن الشريك في القبض بالمعنى
المزبور خلافا لما في الدروس فاعتبر إذن الشريك أيضا فيها، ووجه بأن المراد بها رفع
يد المالك وتسليط القابض على العين، وذلك لا يتحقق إلا بالتصرف في مال الشريك
فيعتبر إذنه ورفع المانع عن حصة خاصة مع الإشاعة لا يحصل به التسلط المقصود من
القبض، وقبض جميع العين واحد لا يقبل التفرقة، ومن ثم لو كانت العين مغصوبة بيد
متسلط لم تكف التخلية من الملك، وتسليطه عليها مع وجود المانع من التسليم.
وهو كما ترى وإن استحسنه في المسالك، إذ التسلط لا يتوقف على الدخول في
الدار ونحوها، وفرق واضح بين الفرض وبين الغصب الرافع للتسلط العرفي، وهو
المانع عن صدق كون المال تحت قبضته وسلطانه.
وبذلك كله ظهر لك أنه حينئذ لا بحث على المختار من تحقق القبض بالتخلية
مطلقا، أما على التفصيل فيتحقق في المنقول بتسليم الموهوب الجميع حينئذ كما إذا كان
الباقي من الحصة للواهب أو لغيره وقد أذن، فإن امتنع وكله الموهوب له على القبض
عنه، فإن امتنع مثلا رفع الأمر إلى الحاكم ليقبضه بنفسه أو نائبه.
177

وعن الفاضل في المختلف الاكتفاء بالتخلية مع امتناع الشريك تنزيلا لعدم القدرة
الشرعية منزلة عدمها الحسية في غير المنقول، وفيه منع عدم القدرة الشرعية مع وجود
الحاكم المنصوب لأمثال ذلك، أما مع عدمه ففي الدروس والمسالك لا بأس به دفعا
للضرر والعسر.
وفيه: أن المتجه حينئذ مع فرض عدم قيام غيره من عدول المؤمنين مقامه بقاء
الهبة موقوفة ضرورة عدم تغير معنى القبض بذلك، والفرض اشتراطها به كما هو واضح
ثم إنه قد صرح غير واحد بعدم وقوع القبض إذا كان من دون إذن الشريك حيث
يعتبر - لا للنهي الذي لا يقتضي الفساد في المعاملة على ما حرر في محله - بل لأن
القبض لما كان من أركان العقد اعتبر فيه كونه مرادا للشارع، فإذا وقع منهيا عنه لم
يعتد به شرعا، فيختل ركن العقد، وقد عرفت أنه قبض واحد لا يقبل التفرقة في الحكم
بجعل المقبوض للموهوب معتبرا، والنهي عن الحق الغير الخارج عن حقيقة الموهوب
إلا أنه كما ترى لا يرجع إلى مستند صالح بعد فرض كون النهي لأمر خارج لا يترتب
عليه فساد، ومعلومية كون القبض شرطا في صحة العقد، عدم اعتبار ما كان بغير إذن
الواهب لظهور الأدلة في اعتبار الاقباض المعتبر في تحققه الإذن كما أومأنا إليه سابقا.
كل ذلك مع أن الفاضل وولده والشهيدين وغيرهم على ما حكى عنهم قد صرحوا
في كتاب الرهن بصحة قبض المشاع من دون إذن الشريك، وترتب أثر الرهانة عليه،
وإن تعدى به معللين له بأن النهي إنما هو لحق الشريك لا للإذن من قبل الراهن
الذي هو المعتبر شرعا، وكونه قبضا واحدا لا ينافي الحكم بالوقوع لاختلاف الجهة، و
مثله آت في المقام إذ لا فرق بينهما بعد فرض كون القرض شرطا في الصحة فيهما.
ومن ذلك يعلم الحال أيضا في هبة المرهون واقباضه بدون إذن المرتهن و
إن استشكل فيه في القواعد، بل عن الإيضاح وغيره عدم الصحة لما سمعته من التعليل
المزبور الذي عرفت ما فيه.
نعم قد يقال: بعدم الحكم بحصول الملك فعلا حتى يقع الفك له، وإلا انكشف
فاسد الهبة، ولعله المراد من قوله في القواعد فإن سوغناه لم يحصل الملك، فإن فك
178

صحت الهبة أو يقال بحصول الملك له بذلك، ولكن حق الرهانة على تعلقها، ولا يمنع
ذلك من التسلط على بيعه وإن انتقال إلى غير الواهب إذ هو كانتقاله إلى الوارث
مثلا.
نعم تبقى الصحة مراعاة لو وهبه المرهون ولم يقبضه، فإن بيع ظهر البطلان، و
إن انفك فللراهن الخيار في الاقباض وعدمه بعد ما ستعرف من عدم اشتراط فورية
القبض.
ومن ذلك يعلم أيضا الكلام في هبة المستأجر ولغير المستأجر، ضرورة اتحاد
المدرك في الجميع، وقد تقدم في كتاب الرهن ماله نفع تام في أمثال هذه المباحث،
كما أنه تقدم في كتاب البيع في بحث اشتراط القدرة على التسليم ما يستفاد منه صحة
الهبة لغير المقدور على تسليمها حال الهبة إذا اتفق الاقباض بعد ذلك.
فما عن المبسوط والتحرير والتذكرة من اشتراط صحة هبة المغصوب لغير الغاصب
بالقدرة على الانتزاع بل عن الأخير التصريح بفسادها، وفساد هبة الآبق والضال
لامتناع الاقباض كما ترى لا دليل عليه فيما كان اقباضه ممكنا، وإن كان غير مقدور الآن
فيصح حينئذ، ويتم بالاقباض كما أوضحنا في البيع الذي فرق واضح بينه وبين المقام من
حيث المعاوضة وعدمها.
نعم هي نحوه إذا كان فيها عوض، ويكون المدار على ما يعد سفها في أنظار
العقلاء.
(ولو وهب لاثنين شيئا) مثلا (فقبلا وقبضا، ملك كل واحد منهما ما وهب له)
ولو مشاعا لوجود المقتضي من العمومات وارتفاع المانع (فإن قبل أحدهما وقبض، و
امتنع الآخر، صحت الهبة للقابض) منهما لاجتماع شرائط صحتها فيه دون الآخر، و
ليس ذا من تبعيض العقد، فإنه باعتبار تعدد القابل كان بمنزلة عقدين كما لو اشتريا
دفعة، فإن لكل منهما حكم نفسه في الخيار ونحوه كما في المسالك وغيرها.
قلت: وعليه يجوز للواهب الرجوع بهبة أحدهما دون الآخر، وكذا الحال فيما
لو تعدد الواهب، واتحد القابل.
179

نعم لو تعدد المال الموهوب قد يشكل جواز الرجوع بأحدهما دون الآخر، بناء
على أن رجوعه فسخ للعقد، لاقتضائه التبعيض في العقد الواحد، وليس كالواقع
من أصله مبعضا نحو أن يهب ماله ومال غيره، أو ما تصح هبته وما لا تصح هبته.
وكان الوجه في ذلك معلومية عدم اعتبار الوحدة في متعلق العقد، بل هي
كغيرها في اقتضائه، بخلاف تعدد القبول أو الايجاب، فإنه في قوة التعدد، وإلا لاقتضى
مشروعية عقد واحد متعدد ايجابه، ويتحد قبوله، وبالعكس وهو غير معهود، بل المعهود
خلافه، من أن العقد هو الايجاب والقبول فلا بد حينئذ من جعل ايجاب، ولو تنزيلا
مقابلا للقبول مع فرض تعدده، وبالعكس، وربما كان العرف يشهد لذلك أيضا، ومع
الاغضاء عن ذلك كله وجعل التعدد في الايجاب والقبول كالتعدد في المتعلق
بالنسبة إلى اطلاق مصداق العقد اتجه حينئذ الوحدة في الفرض ونظائره، وأشكل
الفسخ حينئذ في بعض دون آخر فتأمل جيدا والله العالم.
(ويجوز تفضيل بعض الولد على بعض في العطية) بلا خلاف معتد به أجده فيه
بل الاجماع بقسميه عليه، بل يمكن دعوى تواتر النصوص به أو القطع به منها مضافا إلى
أصول المذهب وقواعده، فما عساه يظهر من المحكي عن ابن الجنيد من حرمة ذلك و
تعديته إلى باقي الأقارب مع التساوي في القرب في غاية الضعف، بل مسبوق بالاجماع
وملحوق به.
ويمكن أن يريد به الكراهة، فإنه وإن قلنا بالجواز لكنه (على كراهية) كما هو
المشهور، بل في محكي التذكرة نفي الخلاف فيه، ولعله كذلك ولا ينافيه اطلاق نفي
البأس عن ذلك في محكي المقنعة المحتمل إرادة بيان الجواز بل مقتضى اطلاق
الفتاوى ومعقد نفي الخلاف عدم الفرق في ذلك بين حالي الصحة والمرض، والعسر
واليسر، خلافا لما عن المختلف من قصرها على حال المرض أو الاعسار، وعن بعض نسخه
" عليهما ".
وفي محكي النهاية ويكره في حال المرض إذا كان الواهب معسرا، وإن كان
موسرا لم يكن به بأس، ولعله لاطلاق النصوص في الجواز، وأنه قد فعل ذلك الأئمة
180

(عليهم السلام) على كثرتها حتى عقد لها في الوسائل بابا (1)، وليس في شئ منها إشارة إلى
كراهة، سوى خبر أبي بصير (2) عن الصادق (عليه السلام) " وقد سأله عن الرجل يخص بعض ولده
بالعطية قال: إن كان موسرا فنعم، وإن كان معسرا فلا ".
وموثق سماعة (3) " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن عطية الوالد لولده فقال: إذا كان
صحيحا فهو ماله يصنع به ما شاء، فأما في مرضه فلا يصلح ".
وخبر جراج المدائني (4) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " عن عطية الوالد لولده يبينه
قال: إذا أعطاه في صحته جاز " مع أن الأخيرين ليسا في التفضيل، بل وإن كان
الولد واحدا، ومحتملان إرادة بيان عدم مضي ذلك من الأصل إذا كان في مرض الموت
فلم يبق إلا خبر أبي بصير.
لكن لما كان الحكم الكراهة التي يتسامح فيها، ويكفي فيها بعض ما سمعت،
مضافا إلى النبوي العامي (5) إنه قال: لبشير أبي النعمان لما نحل ابنه النعمان غلاما،
أكل ولدك نحلتهم مثل هذا؟ فقال لا فقال: اردده " في رواية وفي أخرى " ارجعه "،
وفي ثالثة " اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " وفي رابعة " لا تشهدني على جور " وإلى
ما في ذلك من مثار والشحناء والبغضاء والحسد وجب حمله على شدة الكراهة الواضح
وجهها باقتضاء ذلك حرمان الوارث أو النقص المضر به خصوصا بعد امكان حمل ما في -
نصوصهم (عليهم السلام) من وقوع التفصيل منهم على المزية في الفضل، أو النقض في المفضل
عليه، بناء على زوال الكراهة بذلك كما في محكي التحرير والحواشي والروضة وجامع
المقاصد، ونفى عنه البأس في المسالك.
وعلى كل حال فالأمر سهل بعد أن كان الحكم من السنن والله العالم.
(وإذا قبضت الهبة) بالإذن (فإن كانت للأبوين لم يكن للواهب الرجوع
إجماعا) محكيا مستفيضا أو متواترا ومحصلا، وخلاف المرتضى فيهما وفي الأولاد وغيرهما
من الأرحام منقرض، ولذا لم يعتدوا بخلافه، وإن نسبه إلى اجماع الإمامية (وكذا)

(1) الوسائل الباب - 11 - من أبواب أحكام الهبات
(2) الوسائل الباب - 17 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 12 - 11 - 14.
(3) الوسائل الباب - 17 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 12 - 11 - 14.
(4) الوسائل الباب - 17 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 12 - 11 - 14.
(5) سنن البيهقي ج 6 ص 176.
181

لا يرجع (إن كان) الموهوب (ذا رحم غيرهما و) لكن (فيه خلاف) حتى في
الولد في الجملة وإن حكى الاجماع عليه في محكي كشف الرموز والمختلف والمهذب
البارع وغاية المرام والدروس في الصغار، والمختلف في هبة الأب ولده، وظاهر
الوسيلة والتذكرة
وفي المسالك الظاهران الاتفاق حاصل فيه، وعن التنقيح، وظاهر جامع المقاصد
أنه لا خلاف فيه، بل عن الآبي أني سألت المصنف عن الاخلال بذكر الأولاد مع أن
الاجماع حاصل منهم أيضا فقال كان زيغا من القلم، لكن عن موضع من المبسوط يصح
الرجوع إن وهب أولاده الكبار دون الصغار وبه جمع بين الأخبار في المحكي من
موضع من التهذيب والاستبصار.
اللهم إلا أن يحمل ما في المبسوط على ما قبل القبض، وما في كتابي الأخبار،
على أنه احتمال للجمع لا مذهب.
وعلى كل حال فالحكم في المقامين واحد، بل عن التذكرة لا فرق بين الولد
وولد الولد وإن نزل الذكور والإناث عند علمائنا، لأصالة اللزوم، وإطلاق ما دل من
النصوص على عدم جواز الرجوع في الهبة بعد القبض المقتصر في تقييدها على غير المقام
وخصوص ما مر من النصوص في الأولاد الصغار هنا وفي الصدقة وغير ذلك.
وأما باقي الأرحام فالمشهور نقلا وتحصيلا أنهم كذلك أيضا، بل في الرياض
عليه عامة من تأخر، بل قيل قد يظهر من التحرير الاجماع عليه، بل عن الغنية دعواه
صريحا وهو الحجة بعد ما سمعت، وبعد.
صحيح ابن مسلم (1) عن أبي جعفر (عليه السلام) " الهبة والنحلة يرجع فيها صاحبها
إن شاء حيزت أولم تحز إلا لذي رحم فإنه لا يرجع فيها ".
وصحيح عبد الرحمان (2) بن أبي عبد الله و عبد الله بن سليمان " قالا سألنا أبا -
عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يهب الهبة أيرجع فيها إن شاء أم لا؟ فقال: تجوز الهبة
لذوي القرابة والذي يثاب عن هبته ويرجع في غير ذلك ".

(1) الوسائل الباب - 6 - من أبواب أحكام الهبات - 2 -
(2) الوسائل الباب - 6 - من أبواب أحكام الهبات - 2 -
182

خلافا للمحكي عن أبي علي وموضع من السرائر، وما سمعته من علم الهدى فجوزا
الرجوع فيها، وفي محكي الخلاف والمبسوط إذا وهب لأجنبي أو لقريب غير الولد فإن
الهبة تلزم بالقبض وله الرجوع، وادعى عليه في الأول اجماع الفرقة وأخبارهم، وبه
جمع بين الأخبار في المحكي عن تهذيبه وكأنه أراد موثق داود (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " وأما الهبة والنحلة فإنه يرجع فيها حازها أو لم يحزها وإن كانت لذي قرابة " ومثله
صحيح المعلي بن خنيس ومرسل أبان، لكن لا يخفى عليك أن مقتضى قواعد الفقه
طرحها في مقابلة ما عرفت، لعدم المكافاة من وجوه أو تأويلها بجعل قوله (عليه السلام) " وإن "
إلى آخره قيدا لقوله (أو لم يحز) على معنى جواز الرجوع بها قبل القبض، وإن كانت
لذي قربى، أو غير ذلك.
ومن الغريب ما في الكفاية من حمل تلك النصوص على الكراهة، وأغرب من ذلك
حملها عليها مع قطع النظر عن هذه النصوص لمعارضتها اطلاق ما دل على جواز الرجوع
قال: " لأنه أولى من التقييد ويشهد له هذه الأخبار الثلاثة " وهو كما ترى لا يستأهل ردا
والله الهادي لناوله.
والمراد بالرحم في هذا الباب وفي الصلة وغيرهما مطلق القريب المعروف بالنسب
وإن بعدت لحمته وجاز نكاحه، وفي المسالك " إنه موضوع نص ووفاق " مضافا إلى آية (2)
" أولي الأرحام " والصدق العرفي وغير ذلك، فما عن بعضهم من اختصاصه بمن يحرم
نكاحه شاذ محجوج بما عرفت والله العالم.
(وإن كان) الموهوب (أجنبيا فله) أي الواهب (الرجوع ما دامت العين
باقية، فإن تلفت فلا رجوع) بلا خلاف معتد به في شئ من ذلك، بل عن الغنية و
السرائر وكشف الرموز والتذكرة وظاهر التنقيح الاجماع عليه، بل لم يحك الخلاف فيه
إلا من المرتضى فجوز الرجوع على كل حال ولعله لا يقول به في الفرض الذي هو تلف

(1) الوسائل الباب - 6 - من أبواب أحكام الهبات - 2 - 1 - 3.
(2) سورة الأنفال الآية - 75.
183

العين، وخروجها عن قابلية الرجوع بها، والرجوع إلى ضمان قيمتها لا دليل عليه، و
مناف لأصل البراءة وغيرها.
وفي صحيح جميل والحلبي أو حسنهما (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " إذا كانت الهبة
قائمة بعينها فله أن يرجع فيها، وإلا فليس له " مضافا إلى اطلاق ما دل على جواز
الرجوع بها من المعتبرة المستفيضة المقتصر في الخروج منها على المتيقن.
نعم الظاهر ما هو صريح بعض بل عن المهذب البارع الاجماع عليه، عدم الفرق
في ذلك بين كون التلف من الله تعالى شأنه أو من غيره ولو المتهب بل في المسالك
وعن جامع المقاصد والكفاية عدم الفرق بين تلف الكل أو البعض وإن كان قد يشكل
ذلك فيما يصدق عليه قيام الهبة بعينها كتلف الظفر ونحوه، ولعلهم لا يريدونه، كما
يشهد له التعليل في المسالك لما ذكره بأن العين مع تلف جزء منها لا تعد قائمة
بعينها بل لعلهم لا يريدون أيضا تلف بعض الموهوب المتعدد كعبدين ونحوهما،
اللهم إلا أن يقال: إنه وإن تعدد فهو هبة واحدة، والمدار على قيامها.
وفيه أن الأصل جواز الرجوع، والفرض محل شك - فيبقى على مقتضاه اقتصارا
في الخارج منه على المتيقن والله العالم.
(وكذا) لا رجوع بها (إن عوض عنها ولو كان العوض يسيرا) بلا خلاف أجده
فيه حتى من المرتضى بل الاجماع بقسميه عليه، بل المحكي منه مستفيض أو متواتر
مضافا إلى صحيح عبد الله بن سنان (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " إذا عوض صاحب الهبة
فليس له أن يرجع ".
وصحيح عبد الرحمان و عبد الله بن سليمان (3) المتقدم سابقا، بل ظاهر اطلاق
النص والفتوى عدم الفرق في العوض بين أن يكون في نفس العقد أو بعده بأن أطلق
في العقد ثم بذل العوض بعد ذلك.

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1.
(2) الوسائل الباب - 9 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1.
(3) الوسائل الباب - 6 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1.
184

نعم صرح جماعة باعتبار بذله على أنه عوض، وقبول الواهب له على ذلك، إذ هو
حينئذ هبة جديدة، ولا يجب عليه قبولها، ولا بأس به، اقتصارا في الخروج عن أصل
الجواز على المتيقن، ومنه يعلم المناقشة فيما في القواعد وبعض من تأخر عنها، من
الاكتفاء بها ولو كان من بعضها، بل المتبادر من المعاوضة هو كون أحد العوضين
غير الآخر، وإلا لزم صدق المعاوضة بدفعها جميعها إليه، ومن المعلوم كون مثله
ردا لا معاوضة، كما هو واضح.
(وهل تلزم) الهبة (بالتصرف) في الموهوب غير المتلف لعينه؟ (قيل:)
والقائل الشيخ والقاضي وأبو الصلاح وصاحب الرائع وابن حمزة في الواسطة وابنا
إدريس وسعيد والآبي والفاضل وولده والشهيدان والمقداد (نعم) تلزم بذلك بل
هو المشهور نقلا وتحصيلا. بل عن الخلاف نسبة ذلك في قصر الثوب - فضلا عن غيره
من التصرف - إلى اجماع الفرقة وأخبارهم.
وفي محكي المبسوط نسبته إلى رواية أصحابنا، وأنه الذي يقتضيه مذهبنا، و
عن السرائر وكشف الرموز الاجماع عليه، وهو الحجة مضافا إلى أصالة اللزوم وخصوص
اطلاق ما دل عليه في الهبة بالقبض، وإن خرج عنه ما خرج.
وصحيح الحلبي (1) المشترط جواز الرجوع ببقاء الهبة بعينها قائمة بناء على انتقاء
ذلك بمطلق التصرف وإلى منافاة الرجوع القواعد في خصوص التصرف الناقل للملك
خصوصا إذا كان على وجه اللزوم، فإن التسلط على فسخه مناف لما دل على لزومه، و
الزام المتهب بالقيمة مناف لقاعدة البراءة والضرر وغيرها، بل دليل الرجوع لا يقتضي
إلا العين وكذا الكلام في التصرف المانع من الرد بالخيار فضلا عن المقام.
(و) لكن مع ذلك كله (قيل لا تلزم) بالتصرف (وهو الأشبه) عند المصنف
خاصة وإن حكى عن المفيد وأبي الصلاح وابني حمزة وزهرة لكن في المقنعة الأول
وكذا إذا أحدث فيها حدثا لم يكن له سبيل إلى الرجوع، وفي محكي الكافي للثاني في
الهدية التي هي من الهبة وله الرجوع فيها ما لم يتصرف فيها من أهديت إليه وعن

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1.
185

الواسطة للثالث موافقة المشهور، بل في كشف الرموز أنه حكى المشهور عن الشيخين
وأتباعهما، وابن البراج وصاحب الرايع، وصاحب الواسطة.
نعم ربما كان ظاهر المحكي عن المراسم والغنية، لأنه قال في الأول: " إن هبة
الأجنبي على ضربين هبة ما يستهلك، وهبة غيره، فما كان مما يستهلك كالمواكيل و
استهلك فلا رجوع، وما لم يكن من ذلك فعلى ضربين، معوض عنه وغير معوض عنه فما
عوض عنه لا يجوز الرجوع فيه، وما لم يعوض يجوز الرجوع فيه ".
وفي الثاني قد جعل الضرب الذي لا يجوز الرجوع فيه ما استهلكت فيه الهبة أو
تعوض عنها، وكانت لذي رحم، أو كان الموهوب له ممن يصح التقرب بصلته إلى الله
تعالى، وقال: الضرب الثاني ما عدا ما ذكرنا، ويدل على ذلك الاجماع وهو الحجة
بعد استصحاب الجواز وخصوص اطلاق ما دل عليه من المعتبرة المستفيضة المتقدمة
سابقا التي لا يقدح في دلالتها على ذلك خروج ما خرج منها بدليله، بعد ما تحرر
في الأصول " أن العام المخصوص حجة في الباقي ".
وفيه أن بعض ما سمعت يكفي في الخروج عن ذلك، فضلا عن جميعه، إذ العام
لا يعارض الخاص، والمطلق لا يعارض المقيد، فضلا عن مثل المقام الذي قد عرفت
اعتضاد أدلته مع اعتبارها في نفسها بالشهرة العظيمة والفرض عدم معارضة شئ لها
عدا مطلقات، حتى اجماع الغنية، فإن معقده عام فلا يعارض ما عرفت من الاجماعات
الخاصة وغيرها،
ومن الغريب ما في الرياض من جعله العمدة في دليل هذا القول، حتى أنه مال
إليه بعد شدة اضطراب في آخر كلامه، وأغرب من ذلك كله التمسك في هذه المسألة
للقولين بعمومات ومطلقات ونحوهما، مع أن العمدة إنما هو صحيح الحلبي (1)، بل لا
دليل على اللزوم بالتلف الذي اتفقوا عليه إلا هو، بل ربما كان ظاهر من خص الحكم
بالتلف، دون باقي التصرف أنه فهم منه منافاته خاصة للقيام بعينها، وإن كان هو
كما ترى، ضرورة أنه كما يدل عليه، يدل على غيره مما لا يصدق عليه شرط الرجوع الذي

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1.
186

هو على الظاهر بقاء نفس عين الموهوب قائما في يد المتهب بالهبة السابقة ليستحق
الرجوع به، فمتى تصرف فيه تصرفا منافيا لذلك لم يجز الرجوع، لانتفاء شرطه، ويمكن
إرادة القائل باللزوم به التصرف الذي هو كذلك لا مطلقه الذي لا ينافي شيئا من
ذلك ويصدق معه بقاء نفس العين قائمة في يد المتهب، وإلا لم يبق لأخبار جواز
الرجوع في الهبة على كثرتها موضوع، ضرورة صدق التصرف بوضعه بعد قبضه ويسقى
الدابة وعلفها ولمسها وركوبها ونحو ذلك كما أنه يمكن إرادة المصنف عدم اللزوم بمطلقه
لا ما كان منه نحو التلف في انتفاء شرط الرجوع، وحينئذ تلتئم كلمة الجميع، وتذهب متعبة
ثاني الشهيدين وأطنابه في ترجيح خيرة المصنف وبطلان القول الآخر حتى ذكر له
أدلة عشرة، وردها أجمع، ولكن قد ذكرها على وجه يدخل بعضها في بعض ويسهل
الجواب عنها أجمع وظن أن ذلك أقصى ما يقال لهم، ولا يخفى عليك أنه اطناب في
غير محله، وإنما الأصل في المسألة الصحيح المزبور (1) الذي لا اشكال فيه من حيث السند
لأنه وإن عد من قسم الحسن إلا أنه كالصحيح، بل أعلى من بعض أفراده وتحرير أن
الأصل في الهبة اللزوم، أو الجواز الذي ستسمعه في المسألة الآتية فمن خص مفهومه
بصورة التلف، اقتصر في اللزوم عليه، ومن جعل مفهومه أعم من ذلك كما هو الواقع ضرورة
كونه أعم منه كما عرفت، تعدى من التلف إلى غيره مما يدخل في المفهوم المزبور، بل
إليه نظر القائل بالتفصيل الذي نسبوا إلى الدروس وابن حمزة وجماعة، وهو اللزوم
بالخروج عن الملك، أو تغيير الصورة كقصارة الثوب ونجارة الخشب والوطئ للأمة وعدمه
بدون ذلك كالركوب والسكنى واللبس، بل عن ابن حمزة زيادة ولا يقدح الرهن والكتابة
بل قيل: أن مقتضى اطلاقه عدم الفرق بين العود إلى ملك الواهب وعدمه، مع أن غير
واحد من الأصحاب جعل في المسألة قولين لا غير، بل قد سمعت احتمال كون القول فيه
واحدا لبعد التزام القول باللزوم بمطلق التصرف كبعد التزام اللزوم في خصوص التلف،
مع أن الصحيح المزبور شامل لغيره قطعا، ولعله لذا جعل في الدروس التصرف
بالخروج عن الملك خارجا عن محل الخلاف كالتلف لكن في المسالك أن التفريع على

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1.
187

القول بالجواز مطلقا واضح فيما لا يحصل مع التصرف نقل الملك، ولا مانع من الرد
كالاستيلاد، أما معهما فمقتضى كلام القائل به جوازه أيضا من غير استثناء، وعموم الأدلة
يتناوله وحينئذ فلا يتسلط على رد العين، لانتقال الملك إلى غير الموهوب في وقت كان
مالكا، فوقع التصرف صحيحا، ولكن يرجع إلى قيمة العين، وفي اعتبار قيمته وقت الرجوع
أو وقت النقل وجهان أجودهما الأول، لأنه وقت انتقال الملك له الموجب للقيمة جمعا
بين الحقين ".
وهو من غرائب الكلام ضرورة عدم تعقب الهبة المجانية الضمان المنافي لأصول
المذهب وقواعده، ولعل التزام القائل بفسخ العقد المترتب عليها مع بقاء العين لأنه
انتقل إليه ملك جائز، أولى من ذلك، وإن كان فيه أن الأدلة إنما اقتضت فسخ الهبة
من حينها، لا البيع الذي مقتضى دليله اللزوم، فلا محيص حينئذ عن القول باللزوم وأن
الرجوع بالهبة إنما هو عيني لا عقدي، كالخيار، بل قد يحتمل كون الرجوع غير فاسخ ولا
ناقض لعقدها، كما عن بعض الشافعية، وإنما هو سبب شرعي لانتقال العين من المتهب
إلى الواهب، إذ النصوص إنما أفادت الرجوع الذي هو أعم من فسخ العقد الذي مقتضى
العقد لزومه، ولعل هذا يكون وجها للقول بكون القبض فيها شرطا للزوم، مع قوله بأن له
الرجوع فيها بعده، بل ربما يؤيده ما في بعض الأخبار السابقة (1) من أن الواهب بالخيار قبل
القبض، على معنى أن له فسخ العقد قبله، لا بعده، وإن جاز له الرجوع المقتضي
لانتقال العين من المتهب إلى الواهب، إلا أن هذا الرجوع مشروط بقيام العين
نفسها في يد المتهب بالهبة التي كانت السبب في ذلك على الحال الذي انتقلت إليه
ومن هنا لم يكن له الفسخ بعد موت المتهب على الأصح لانتقال الملك فيها إلى الوارث
الذي لم يثبت سببية الرجوع به، بل بناء على أن الرجوع فسخ، يتجه اشتراطه حينئذ
بذلك للصحيح المزبور، الكاشف عن أن حق الرجوع بالهبة إنما هو الرجوع بها نفسها
من حيث كونه ملكها بالهبة.
ومن هنا يظهر لك النظر فيما في المسالك من التفريع على القول باللزوم، قال: " ولو

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الهبات
188

نقلها عن ملكه نقلا لازما فقد قطعوا بلزومها حينئذ وإن فرض عودها إلى ملكه بعد ذلك
بإقالة أو غير ذلك من وجوه النقل المتجدد، لبطلان حق الرجوع بذلك، فعوده يحتاج
إلى دليل، ولو كان عوده بخيار، أو فسخ لعيب ونحوهما مما يوجبه من حينه فكذلك،
لتحقق انتقال الملك مع احتمال عود الجواز، نظرا إلى ارتفاع العقد ووجوب سببه من
حين العقد، ويضعف بأن الملك منتقل على التقديرين وإن كان متزلزلا، وقد صدر
عن مالك وعوده إليه لم يبطل ذلك الملك، وإنما تجدد ملك آخر، ومن ثم كان النماء
المتخلل لمن أنتقل إليه دون المتهب ".
إذ لا يخفى عليك ما فيه من الفرق بين الإقالة والفسخ بالخيار أولا، ومن دعوى
سببية ملك جديد بالفسخ ثانيا، مستدلا عليه بالنماء، مع معلومية أن الملك إنما هو
الأول ولكن عاد جديدا وتبعية النماء لذلك، وإنما الكلام في ظهور الصحيح المزبور
باشتراط الرجوع ببقاء ملك الهبة على حاله الذي انتقل به وعدمه، كما أن الكلام في
غير ذلك من محل الشك بالنسبة إلى الشرط المزبور كوطئ الأمة ورهن العين ومكاتبة
العبد ونحو ذلك مما يرجع فيه إلى الأصل المزبور، مع فرض الشك في تحقق الشرط فيها
فلا يلتفت هنا إلى ما يقال من اقتضاء ما قلناه ونحوها الخرق للاجماع المركب بإحداث
قول جديد ضرورة عدم القطع بالمسألة حتى يترتب عليه ذلك، بل مدارها على الاجتهاد
في مفاد الصحيح المزبور، وفي تأسيس الأصل المذكور، وقد بينا لك الحال بعد أن دفعنا
إليك القسطاس المستقيم فزن به مستعينا بالله الرؤف الرحيم، ومنه يظهر لك ما في جملة
من الكلمات المتأخرة عن المسالك، والله هو العالم والهادي.
(وتستحب العطية لذي الرحم) وإن لم يكن فقيرا بلا خلاف، ولا إشكال في
شئ من ذلك، (وتتأكد في الوالد والولد) الذين هم أولى من غيرهم من الأرحام،
لأنها من صلة الرحم المعلوم ندبها كتابا (1) وسنة (2) واجماعا بل لعله من الضروري بل في المسالك
" وإنما تستحب عطية الرحم حيث لا يكون محتاجا إليه بحيث لا تندفع حاجته بدونها

(1) سورة النساء الآية - 1. وسورة الأنفال الآية - 75 وسورة محمد الآية - 22.
(2) الوسائل الباب - 20 - من أبواب الصدقة.
189

وإلا وجبت كفاية إن تحققت صلة الرحم بدونها، وإلا وجبت عينا، لأن صلة الرحم
واجبة عينا على رحمه، وليس المراد هنا مجرد اجتماع البدن، بل ما يصدق معه الصلة
عرفا، وقد يتوقف ذلك على المعونة بالمال، حيث يكون الرحم محتاجا، والآخر غنيا
لا يضره بذل ذلك القدر الموصول به، بل قد تتحقق الصلة بذلك وإن لم يسع إليه
نفسه، كما أن السعي إلى زيارته بنفسه غير كاف فيها مع الحاجة على الوجه المذكور، و
تبعه على ذلك في الكفاية.
ولكن قد يشكل ذلك فيما لا يرجع إلى وجوب الانفاق، لمنافاته للأصول
وعدم عدادهم له في الواجبات، وعدم بيان مقداره غير ذلك، اللهم إلا أن يفرض
تحقق قطع الرحم بدونه، وقلنا بحرمته بالنسبة إلى ذلك، وهو كما ترى، والله العالم.
(و) كذا تستحب (التسوية بين الأولاد في العطية) بلا خلاف فيه بين
العلماء كما في محكي التذكرة، بل في محكي الخلاف، لا فرق في ذلك بين الذكور والأنثى
باجماع الفرقة وأخبارهم، مضافا إلى ما سمعته من الأمر بالتسوية في النبوي المتقدم
سابقا في كراهة التفضيل والمنساق من التسوية جعل الأنثى كالذكر، وإن تفاوتت
معه في الإرث لا كما يحكى عن شريح وأحمد ومحمد بن الحسن من جعل الذكر ضعف
الأنثى، (ويكره الرجوع فيما تهبه الزوجة لزوجها، والزوج لزوجته) عند الأكثر في
المفاتيح وعندنا في محكي المبسوط بل عن الخلاف والغنية الاجماع عليه (وقيل:)
والقائل الفاضل وفخر الاسلام والمقداد والقطيفي وثاني المحققين والشهيدين و
الخراساني والكاشاني (يجريان مجرى ذوي الرحم) في اللزوم بل عن التذكرة
حكايته عن جماعة، كما عن التحرير والحواشي للشهيد حكاية عن الشيخ وكأنه مال إليه
أول الشهيدين (والأول أشبه) عند المصنف لاطلاق ما دل على الرجوع بها، و
خصوص صحيح محمد بن مسلم (1) عن أحدهما (عليه السلام) " أنه سئل عن رجل كانت له جارية
فآذته امرأته فيها فقال: هي عليك صدقة فقال: إن كان قال ذلك لله فليمضها، و
إن لم يقل فله أن يرجع إن شاء فيها " والاجماع المحكي.

(1) الوسائل الباب - 7 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 2.
190

وفيه: أن الاطلاق المزبور معارض بإطلاق ما دل على المنع فيها من النصوص و
غيرها، والصحيح معارض بصحيح عبيد بن زرارة (1) عن الصادق (عليه السلام) " لا ينبغي لمن
أعطى لله تعالى أن يرجع فيه وما لم يعطه الله وفي الله، فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو
هبة حيزت أو لم تحز ولا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته ولا المرأة فيما تهب لزوجها، حيز
أو لم يحز، أليس الله تعالى يقول " ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " وقال " فإن طبن لكم
عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " وهذا يدخل فيه الصداق والهبة المؤيد بصحيح
ابن بزيع (2) " سألت الرضا (عليه السلام) عن الرجل يأخذ من أم ولده شيئا وهبه لها، من غير
طيب نفسها من خدم أو متاع أيجوز ذلك له، قال: نعم، إذا كانت أم ولده " بناء على
أن المراد بالشرط مملوكته، لعدم صحة الهبة لها، فيدل بمفهومه حينئذ على عدم الجواز
إذا كانت زوجته، واجماع الشيخ موهون بمصيره نفسه إلى خلافه، على ما حكي عنه،
وحمل الصحيح المزبور على الكراهة ليس بأولى من حمل الصحيح الأول على فساد
الصدقة، بخلوها عن القربة، بل هذا أولى، إن لم يكن متعينا وترجيح الأول بمخالفته
لمذهب أبي حنيفة معارض بموافقة الثاني للكتاب، بل منه يستفاد كون الآية (3) دليلا
مستقلا لا يصلح لمعارضتها حينئذ ما سمعت: فضلا عن أن يحمل ما فيها من النهي
على الكراهة بعد التصريح في الخبر بتناول ذلك للصداق والهبة ولعل هذا هو الذي
دعا صاحب الكفاية إلى القول بعدم الجواز هنا مع قوله بالجواز في هبة ذي الرحم
فما أطنب في التعجب منه في الرياض حينئذ في غير محله.
والمناقشة - في الصحيح المزبور باشتماله على ما لا يقول به أحد من لزوم الهبة
قبل القبض - يدفعها عدم خروجها بذلك عن الحجية في غيره، مع أن الصحيح
الأول في الصدقة التي تنزيلها على الهبة مع عدم القصد بكونها لله ليكون مما نحن
فيه ليس بأولى من حملها على الصدقة غير لازمة أو غير صحيحة، بناء على اشتراط القربة
في صحتها أو لزومها، بل هذا أولى لما فيه من بقاء الصدقة على حقيقتها، ومع التنزل

(1) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1 - 2.
(2) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1 - 2.
(3) سورة النساء الآية - 20.
191

عن ذلك كله فلا أقل من الشك، والأصل اللزوم، ولو لاستصحاب الملك وقوله (1) " أوفوا
بالعقود " ودعوى أن الهبة من العقود الجائزة، وإن اعتراها اللزوم في بعض أفرادها
ليس بأولى من القول بأنها من العقود اللازمة، وإن اعتراها الجواز في بعض أفرادها
بل هذا أولى، لأن العقد اللازم قد يعتريه الجواز حتى البيع الذي فيه خيار المجلس،
والعيب، والغبن، وغيرها، وأما العقد الجائز فلزومه إنما يكون بأمر خارجي كشرط ونحوه
على أنه قد ذكروا في غير مقام الاجماع على انفساخ العقد الجائز بالجنون والاغماء والموت
ومن المعلوم هنا خلافه، وذلك كله دليل على أن الهبة من العقد اللازم، وإن اعتراها
الجواز في بعض أفرادها بل قد يقال: إنه وإن اختلف اطلاق النصوص في ذلك باعتبار
اطلاق الرجوع في بعضها، وعدمه في آخر، بل ربما كان دلالة بعضها على الجواز
أظهر، لذكر الفرد اللازم على جهة الاستثناء، إلا أن الأصل في العقد اللزوم، للاستصحاب
بل والآية (2) فتأمل جيدا فإنه نافع في غير المقام أيضا والله العالم.
النظر (الثاني: في حكم الهبات)
(وهي مسائل:
الأولى: لو وهب فأقبض ثم باع) مثلا (من آخر فإن كان الموهوب
له رحما، لم يصح البيع) على وجه يترقب عليه أثره، بل يكون فضولا، (وكذا إن كان
أجنبيا وقد عوض) أو نحو ذلك مما تكون الهبة به لازمة، ضرورة وقوع البيع حينئذ على مال
الغير، (أما لو كان أجنبيا ولم يعوض) فلا اشكال في زوال ملك المتهب، بل في
المسالك، وعن ظاهر المحكي عن التذكرة الاتفاق عليه.
وإنما الكلام في صحة البيع وفساده، وإليه أشار المصنف بقوله (قيل:) والقائل
الشيخ والقاضي ويحيى بن سعيد على ما حكى عنهم (يبطل) البيع (لأنه باع ما لا
يملك) ولأن الشئ الواحد لا يحصل به الفسخ والعقد، ولذا كان المصلي يخرج بتكبيرة
الاحرام الثانية من الصلاة، ولا يدخل بها فيها، ولأن البيع موقوف على الملك الموقوف
على الفسخ، المتأخر عن البيع، باعتبار كونه سببا فيه، والسبب متقدم على المسبب، فلو

(1) سورة المائدة الآية - 1.
(2) سورة المائدة الآية - 1.
192

كان الفسخ سببا في صحته لزم الدور.
(وقيل: يصح لأن له الرجوع) ولكن لم أعرف القائل به ممن تقدم على المصنف
نعم هو خيرة الفاضل في جملة من كتبه وولده والشهيد في الحواشي والمحقق الثاني
والشهيد الثاني والخراساني على ما حكى عن بعضهم لعموم (1) " أوفوا " ولأن العقد يدل
على تحقق إرادة الفسخ، قبل العقد، فيكشف العقد عن حصول الفسخ بالقصد إليه
قبل البيع، ولأنه إذا تحقق الفسخ بهذا العقد انتقلت العين إلى ملك الواهب فيصير
العقد بمنزلة الفضولي، وقد ملكه من إليه الإجازة، بل هو أولى، لأن بايع ملك غيره قد
لا يقصد بيعة على تقدير كونه مالكا لها، بخلاف الفرض فإنه قاصد إلى البيع مطلقا، ولأن
ثبوت الفسخ فرع صحة العقد في نفسه لأنه أثره، فلو كان البيع فاسدا لم يترتب عليه أثر
ولأنه بأول جزء منه تنفسخ الهبة فيكون المحل قابلا لمجموع العقد.
(و) لكن مع ذلك كله (الأول أشبه) بأصول المذهب وقواعده عند المصيف
لما عرفت، إلا أنه قد يناقش فيه بأن المسلم من الأول ما إذا اتحد مورد الفسخ والعقد
لا مع التعدد، كما في الفرض الذي هو فسخ الهبة وانعقاد البيع، وعدم الانعقاد
بالتكبيرة الثانية للنهي عنها، ولأنها وقعت في صلاة منعقدة، ولغير ذلك مما قررناه في
محله، والدور إنما هو دور معية ما ستعرف.
كما أنه قد يناقش في أدلة القول الثاني بفقد شرط وقوع البيع فيه وهو الملك لأنه
لا بيع إلا فيه، فلا وجه للتمسك بالعموم مع فقد الشرط المعلوم، وبما تقدم في إجازة
الفضولي والفسخ بالخيار، مع اعتبار اللفظ الدال على ذلك لقوله (2) " إنما يحلل الكلام "
أو مطلق الدال ولو فعلا، وإنه لا يكفي القصد المجرد عن ذلك، وبالشك في تناول
دليل الفضولي لمثله، على ما تقدم في محله، وبالمنع من توقف الفسخ على صحة العقد
بل حصول لفظ يدل عليه، وايقاع البيع على هذا الوجه يدل على إرادة الفسخ فيقتضيه
وإن تخلفت صحة البيع من حيث اشتراط تقدم الملك عليه، وبأن السبب مجموع العقد

(1) سورة المائدة الآية - 1.
(2) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام العقود الحديث - 4.
193

فلا يكفي ورود ما بقي على المحل بعد انتقاله إليه.
فالأولى من ذلك كله الاستدلال على الصحة بإطلاق ما دل على الرجوع الشامل
للأفراد والقولية والفعلية ومنها حينئذ البيع والعتق ونحوهما، إذ ليس المراد من تصور
معنى الفسخ وانشائه، بل ولا تصور معنى الرجوع وانشائه بلفظه، وإنما المراد ايجاد
ما يدل عليه أو يقتضيه من قول أو فعل، ومنه المفروض فيكون حينئذ دالا على صحة البيع،
ولو بالتزام الاكتفاء في اشتراط الملك فيه بنحو ذلك، فيؤثر عقد البيع حينئذ فسح ملك
المتهب، ورجوع الملك إلى الواهب وانتقاله عنه، كما أثر عقد بيع الأب على ولده انتقالا
من البايع إلى المشتري وتحريرا، لأنه مقتضى الجمع بين " لا عتق إلا في ملك " (1) " ومن
اشترى أباه انعتق عليه (2) " وقلنا بكفاية الترتب الذاتي عن الزماني، جمعا بين الأدلة، وكذا
المقام، فإنه بعد أن شرع له الرجوع بالبيع لا محيص عن التزام ذلك كله فيه، كما أنه بعد
أن شرع الرجوع بالوطي مثلا، كان فعله سببا لفسخ الملك عن المتهب مثلا، مقارنا
لدخوله في ملك الواطي، لكي يقع الوطي في ملك، فلا يكون أو له محرما وثانية محللا
والمقام من هذا القبيل عند التأمل، فلا وجه، حينئذ لهذه الاشكالات، التي منها أنه
لا وجه لاقتضاء البيع صيرورة الملك لشخصين في زمان واحد، إذ ليس هو بأعظم من
اقتضاء الملك، والخروج عنه في زمان واحد في صورة شراء الأب والترتب الذاتي آت
هنا، بأن يقال اقتضى الانفساخ والدخول في ملك البايع ومنه إلى المشتري كما هو
واضح، فإن العمدة ثبوت شرعيته المقتضية ذلك كله، خصوصا بعد معلومية كون الأسباب
الشرعية من قبيل الأوضاع الجعلية، فيجوز ذلك كله فيه، بعد مجئ الدليل، لا أنها
أسباب عقلية، والله العالم. هذا كله في الهبة الصحيحة.
(و) أما (لو كانت الهبة فاسدة صح البيع على جميع الأحوال) من غير فرق
فيها بين هبة الرحم والمعوض عنها وغيرهما، ضرورة بقاء المال حينئذ على ملك مالكه،
بل في القواعد الاجماع على ذلك، بل لعله كذلك في حالي العلم بالفساد والجهل به

(1) الوسائل الباب - 5 - من أبواب العتق الحديث - 1 - 2 - 6.
(2) الوسائل الباب - 7 - من أبواب العتق الحديث - 1 - 2 - 3.
194

وإن كان قد يشكل في الثاني مما في المسالك من عدم قصده النقل عن ملكه، لبنائه
على أنه ملك غيره، والعقود تابعة للقصود، ولعله لو علم بالفساد وأن المال ماله لم
يبعه، بل على تقدير احتمال إرادته البيع مطلقا، فمجرد إيقاعه البيع أعم من قصده
إليه على تقدير علمه بملكه وعدمه، والعام لا يدل على الخاص، فالقصد إلى البيع على
تقدير كونه مالكا مشكوك فيه، فلا يكون العقد فيه معلوم الصحة.
لكن قد يدفع أولا: بأن المفروض صدور البيع منه على أنه رجوع بالهبة التي يزعم
صحتها على حسب البيع المذكور في المسألة السابقة، وهذا لا يكون إلا بقصد نقل ملكه و
لعله لذا حكى في القواعد الاجماع كما سمعت، وإن حكى الخلاف فيها فيمن باع مال
مورثه فبان موته واستوجه الصحة في كتاب البيع لوضوح فرق بينهما حينئذ.
وثانيا: أن وقوع البيع يقتضي قصد نقل المال إلى المشتري، وكونه عنه أو عن
غيره ليس من مشخصاته، ولذا لو قصد بيع مال الغير عن نفسه لم يخرج عن الفضولية
فكذا لو قصد بيع ماله - ولو واقعا - عن غيره لم يخرج عن كونه بيعا لازما، كما أنه يدفع
الأخير بأن ايقاع العقد واللفظ الصريح كاف في الدلالة على القصد إليه شرعا، نحو
نظائره من العقود، إذ لا يشترط في صحته العلم بكونه قاصدا إلى ذلك الشئ حيث
يكون شرعيا، بل يحمل اطلاق لفظه حيث يتجرد عن قرائن عدم القصد على كونه قاصدا
بخلاف الهاذل والمكره.
ومما ذكرنا يظهر لك النظر فيما في المسالك من استحسان الرجوع إلى قوله،
بمعنى أنه إن أخبر عن قصده إرادة البيع وإن كان مالكا صح، وإن قصده لكونه
فضوليا لم يصح على تقدير ظهور كونه مالكا لعدم توجه قصده إلى البيع اللازم ولأن هذا
أمر لا يمكن معرفته إلا منه، فيرجع إليه فيه كنظائره.
حتى أنه أشكل قول المصنف (وكذا القول فيمن باع مال مورثه وهو يعتقد
بقاءه) الظاهر في أن مفروض المسألة السابقة حال الجهل أيضا بقرينة التشبيه بما
قدمه من عدم قصده إلى البيع اللازم، وإنما قصد الفضولية، فينبغي أن يعتبر رضاه
به بعد ظهور الحال، خصوصا مع ادعائه عدم القصد على تقدير كونه مالكا، ثم قال: " و
195

لعله أقوى لدلالة القرائن عليه، فلا أقل من احتماله احتمالا مساويا للقصد إلى البيع
مطلقا، فلا يبقى وثوق بالقصد المعتبر في لزوم البيع ".
وفيه: ما لا يخفى بعد الإحاطة بما ذكرناه من عدم تشخيص العقد بذلك وإن
قصده، فيترتب عليه حينئذ ما يقتضيه من الأثر، إن لزوما فلزوم، وإن فضولا ففضول، و
حينئذ فلا مدخلية لبيان حمل المطلق على قصد البيع لنفسه وعدمه، هذا.
وكأن المصنف عطف هذه المسألة على السابقة بقوله " وكذا " مشعرا بالفرق
بينهما، لما ذكرناه أولا من فرض البيع الرجوعي الذي هو المبحوث عنه في أصل
المسألة وحينئذ لا اشكال في الفرق بينهما ضرورة قصد البيع لنفسه وقد صادف اجتماع
الشرائط في الواقع حتى لو كان جاهلا بالفساد، بل ولو كان زاعما صحة الهبة، وكانت
لرحم، لكنه فعل ذلك لزعم جواز الرجوع بها أيضا بل قد يقال إن الحكم كذلك لو فعل
ذلك بقصد الظلم والغصب بالرجوع الذي هو غير مشروع، وإن كان لا يخلو من اشكال
ولعله على ذلك ينزل ما في الدروس فإنه بعد أن حكى عن الشيخ تساوي مسألتي
فساد الهبة وبيع مال مورثه في الحكم بصحة البيع، وإن جهل الحال قال: " وقد يفرق
بينهما بالقصد إلى صيغة صحيحة في مال الموروث بخلاف الموهوب " فيسقط عنه ما
اعترضه به في المسالك - حيث أنه بعد أن حكى ذلك عنه قال: " ولا يخفى عليك،
فساد هذا الفرق فإن القصد إلى الصيغة الصحيحة بالمعنى المقابل للباطلة حاصل
في المسألتين وبمعنى اللزوم منتف فيهما، ولا فرق بينهما أصلا - كما لا يخفى، إذ قد
عرفت من كلامه في الفرض الذي ذكرناه وهو البيع لنفسه، ولو ظلما بإرادة الرجوع
بالهبة اللازمة في ظنه.
نعم قد عرفت أن الأقوى فيه الصحة على التقدير المزبور، لعموم الأدلة، وربما
كان في قول المصنف (وكذا إذا أوصى برقبة معتقة وظهر فساد عتقه) إشارة
إلى ما قلناه، فإنه نحو مفروض المسألة ضرورة كونه أوصى برقبة يزعم عتقها، ومن هنا
استوجه في المسالك كلام الدروس فيها، لعدم قصده إلى الوصية الشرعية بل بمنزلة
الهاذل والعابث بالنظر إلى ظاهر حاله، فلا ينفعه ظهور ملكه بعد ذلك في نفس
196

الأمر، بخلاف من باع مال غيره، فإنه قاصد إلى بيع صحيح شرعي غايته أنه جائز من
قبل المالك، لكنه لازم من قبل المشتري، فهو عقد شرعي مقصود إليه، وإن لم يقصد إلى
لزومه مطلقا لكنه كما ترى لا دليل على اعتبار مثل ذلك في الصحة، بل مقتضى عموم
الأدلة وإطلاقها الصحة ولذا كان بيع الغاصب - القاصد ترتب الأثر على بيع معاملا
للمغضوب معاملة مال نفسه ولو ظلما - من الفضولي، ودعوى أن ذلك والفرض، و
أشباههما كالهازل والعابث غريبة، بل هو قصد صحيح في نفسه كغيره من مقاصد
عقلاء أهل الدنيا، وإن لم يترتب عليه أثر شرعي، بل من ذلك عقد الكتابية والمخالفة
متعة مثلا، فإن الظاهر الصحة وإن زعما الفساد، فإن الصحة الشرعية تترتب على
القصد العرفي قصدت أو لم تقصد، بل وإن قصد عدمها بعد فرض حصول سببها الشرعي
كما هو واضح. بل لعل السر في ذكر المصنف وغيره المثالين المزبورين إرادة بيان
اتحاد الحكم وأنه الصحة على جميع التقادير فتأمل جيدا لكن لا يخفى عليك محال
النظر فيما في المسالك وغيرها.
المسألة (الثانية: إذا تراخى القبض عن العقد ثم اقبض، حكم بانتقال الملك)
لعدم اعتبار الفورية فيه، بلا خلاف أجده لاطلاق ما دل على شرطيته مما تقدم سابقا،
بل لعل مرسل أبان (1) منها ظاهر في عدم اعتبار الفورية فيه: بل ينبغي القطع به بناء
على أنه شرط للزوم لا الصحة، كما اعترف به بعضهم.
نعم في القواعد " الاشكال في ذلك، بناء على أنه شرط للصحة لكونه حينئذ جزء
السبب، فأشبه القبول، وللاقتصار على المتقين " وفيه أن كونه جزء السبب لا يقتضي
الفورية بعد اطلاق الأدلة، ووجوبها في القبول باعتبار كونه جوابا للايجاب، فيخرج
حينئذ مع عدم الفورية عن طريق التخاطب المعتبر في العقود كالعربية، ولعل الأولى
في وجه الاشكال احتمال توقف حقيقة الهبة عليه، لأنها عطية وايتاء، فالعقد بدونه
لا يكون هبة كما هو مقتضى الخبر المتقدم " لا تكون الهبة هبة حتى يقبضها " منضما ذلك
إلى دعوى ظهور الأدلة في أن الهبة التي يترتب عليها الأثر ليست إلا شيئا واحدا

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 1.
197

يحصل في زمان واحد مثل البيع والإجازة ونحوهما، وحينئذ فسبيته الهبة بناء على
اعتبار ذلك في مفهومها ينافيها التراخي، بل لا أقل من الشك في شمول الأدلة لها
معه، وبه يفرق بينه وبين غيره مما اعتبر القبض في الصحة كالوقف ونحوه، مما هو غير داخل
في مفهومه، وإن اعتبر في ترتب أثر السبب عليه، لكونه شرطا له.
بل كان ذلك هو السبب في اتفاق القائلين بكونه شرطا للصحة على
انتقال الملك به (من حين‍) ه أي (القبض، لا) أنه كاشف عن حصوله (من حين
العقد، وليس كذلك الوصية فإنه يحكم بانتقالها بالموت مع القبول وإن تأخر) القبض
عنهما لعدم مدخليته في الملك بها لاطلاق الأدلة كما تسمع تحقيق الحال فيه انشاء
الله، مع أنه مقتضى القواعد - التي قررناها غير مرة في نظائره - كونه كاشفا، بناء على
أنه من الشرائط فما ذاك إلا لعدم حصول الهبة إلا به، فلا سبب متقدم عليه حتى
يكون هو شرطا كاشفا، إلا أن الجميع كما ترى، ضرورة عدم توقف الهبة بمعنى العقد
عليه، وإن توقف بمعنى العطية، والكلام الآن في الأولى فليس هو حينئذ بالنسبة إليها
إلا شرطا، وكان مقتضى ما عرفت أن يكون كاشفا لكن ظاهر ما دل على شرطيته مع الاجماع
حصول النقل به لا قبله والله العالم.
المسألة (الثالثة: لو قال: وهبت ولم أقبضه كان القول قوله) بلا خلاف أجده
فيه بل عن المبسوط والمهذب والتذكرة والتحرير والدروس والحواشي أنه كذلك وإن
قال: مع ذلك خرجت منه المراد منه أني آذنت له في قبضه كل ذلك لما عرفت من عدم
دخول الاقباض في حقيقة الهبة العقدية، بناء على انصراف الاطلاق إليها، ولا
يقدح في ذلك كونه شرطا للصحة، فيكون انكاره كدعوى الفساد المعلوم تقدم دعوى
الصحة عليها، لما في المسالك من الفرق بين الأمرين، فإن منكرا لاقباض لا يدعى فساد
الهبة وإنما ينكر أمرا من الأمور المعتبرة فيها، وأنها لم تحقق بعد، كما لو أنكر
الايجاب، والقبول، وإن اشترك الجميع في عدم صحة العقد بدونه، وهو تام لو كانت
الدعوى من الواهب أما إذا كانت من وارثه التي هي دعوى الفساد بعد اقراره بأن
مورثه قد وهب، ولكنه لم يقبض، بل قد يشكل ذلك فيه أيضا ضرورة أن مبنى عدم كون
198

الاقرار بالهبة إقرارا بالقبض الذي أحد أركان صحتها دعوى كون المعروف شرعا من
الهبة هو الايجاب والقبول خاصة والقبض وإن كان معتبرا في الصحة إلا أنه خارج
عن مهيتها، وقد تقدم في تعريف الهبة أنه العقد إلى آخره ولا شبهة في أن القبض
أمر آخر غير العقد، فالاقرار بأحدهما لا يقتضي الاقرار بالآخر.
لكن قد يمنع ذلك بناء على ما تقدم غير مرة من دخول المعاطاة في مفهوم هذه
الأسماء كالبيع والإجارة ونحوهما وحينئذ فلا تكون أسماء للعقود حينئذ كي يتم الكلام
المزبور، ويدفع بأن يقال إنا وإن قلنا: بعدم كونها أسماء للعقود نفسها لكنها اسم
للأثر الحاصل بالعقد، ومن العلوم كونه التمليك المزبور، لا الأثر الحاصل من
العقد وشرايطه وليس القبض داخلا في مفهومه وحصوله بالفعل لا يقتضي دخول ما
أفاده الفعل من الاقباض في حقيقته بل أقصاه حصول الأمرين به معا.
وحينئذ على كل حال فالاقرار بها ليس اقرارا به، بل لعله كذلك حتى لو قلنا
بأن المعاطاة الفعلية نفسها هبة، ضرورة تعدد أفرادها، والاقرار بفرد منها لا يتقضى
الآخر، فعلى مدعيه البينة حينئذ فيتجه ما ذكره المصنف كما أنه قد يدفع الأول: بأن
دعوى الوارث عدم القبض ليس دعوى فساد، وإنما هي قائمة مقام دعوى المورث، و
إن قارن ذلك حصول انفساخ بالموت لكن لا يكون به دعوى فساد على وجه تقدم عليه
دعوى الموهوب، بأنه قد أقبض فتأمل وكيف كان فالاقرار بالهبة ليس اقرارا بالقبض نعم
لو قلنا بدخول القبض في مفهومها اتجه حينئذ عدم تقديم قوله (و) لكن قد عرفت
فساد الدعوى المزبور.
نعم (للمقر له احلافه إن ادعى) عليه (الاقباض) لعموم البينة، أما إذا
لم يدعه فلا يتوجه له عليه يمين، لعدم كونه منكرا حينئذ كما هو واضح لكن في المسالك
أنه منكر أيضا ولكن لا يمين عليه، إذ ليس كل منكر يتوجه عليه اليمين بمجرد الانكار، بل
لا بد من انضمام دعوى ما أنكره المنكر، وفيه ما لا يخفى. هذا وليعلم أن المحكي عن
المبسوط والمهذب والتذكرة والتحرير تقييد أصل الحكم المزبور بما إذا لم يكن الموهوب
في يد المتهب أو بما إذا كان في يد الواهب على اختلافهم في التعبير ومقتضاه أنه
199

متى كان كذلك فالقول قوله، لأن كونه في يده كناية عن اقباضه، ولعله لأنهم فرضوا
المسألة فيما لو ضم إلى قوله وهبته خرجت منه إليه، الذي هو بمعنى الإذن بقبضه و
إلا فمجرد كونه في يده لا يدل على القبض بإذن، ومن هنا حكي عن المبسوط في باب
الاقرار أن القول قول الواهب، وأنه لا فرق بين أن يكون الموهوب في يد الواهب أو
المتهب، لأنه قد يقبضه بغصب وغيره، بل قد يقال: إن الحكم كذلك حتى مع الضميمة
المزبورة فإن الاقرار بالإذن لا يقتضي كون يده عليه حال الدعوى بالإذن السابقة ضرورة
كونها أعم من ذلك فتأمل جيدا.
(وكذا لو قال: وهبته وملكته ثم أنكر القبض) في أن القول قوله إذا كان ممن يرى
أن الملك بالعقد ولو تقليدا، بل وإن لم يعلم حاله، (لأنه يمكن أن يخبر عن وهمه) و
متى احتمل فيه ذلك لم يحكم عليه بالاقرار بالقبض الذي تقتضي الأصول نفيه.
نعم لو علم أن مذهب المقر توقف الملك على الاقباض ولو تقليدا حكم عليه بالاقباض
كما صرح به غير واحد لكن قد يناقش بامكان إرادته التأكيد أو الهبة بصيغة التمليك الذي
قد عرفت أنها تنعقد به، ومع ذلك يحتاج إلى القبض صحة أو لزوما، ودفعها - باقتضاء
ذلك التأكيد الذي هو مرجوح بالنسبة إلى التأسيس - رده في المسالك " بأن ألفاظ
الأقارير لا تنزل على مثل هذه القواعد، مع احتمال الأمرين بل يعتبر فيها المعاني
الظاهرة، وهذه اللفظة مشتركة بين الصيغة وأثرها، فحملها على الثاني دون الأول
ترجيح من غير مرجح، كما في الاقرار بلفظ مشترك، فإنه لا ينزل على أحد معنييه بدون
القرينة وحمل العطف على المغايرة مطلقا ممنوع فإنه كما يجوز عطف الشئ على مباينه
يجوز عطفه على مرادفه، كما هو محقق في بابه ".
وفيه: أنه لا اشكال في جوازه، إنما الكلام في مساواة احتماله للآخر مع عدم القرينة،
ولا ريب في منعها، ومرجع هذه القواعد إلى ظاهر الخطاب الذي لا اشكال في حجيته
في الاقرار، وغيره.
وأغرب من ذلك قوله متصلا بما سمعته منه وعلى تقدير تسليم ظهور المعنى الثاني
أو أغلبيته على الأول ينبغي أن يرجع إليه في القصد، لا أن يتعين حمله على الغالب
200

كما نبهوا عليه في نظائره من الاقرار بلفظ يحتمل معنيين فإنه يقبل من المقر إرادة
أحدهما وإن حمل اطلاقه على الغالب منهما، كما لو قال له على درهم، ودرهم، و
درهم، فإنه يقبل منه دعوى إرادة تأكيد الأول بالثاني، والثاني بالثالث، وإن كان
العطف يقتضي المغايرة، وكان الغالب عدم التأكيد، إذ لا معنى للرجوع إليه بعد
فرض ظهور لفظه، ولو بسبب الغلبة في ذلك، لما عرفت من حجية ظاهر اللفظ.
نعم لو ضم إليه مع ذلك ما يصلح لصرف ذلك الظاهر اتجه حينئذ عدم الأخذ
به، كما في سائر الخطابات، والقبول في المثال - مع فرض ظهور الاطلاق في خلافه و
تأخر دعوى إرادة التأكيد عن زمان الاقرار ممنوع فالمتجه حينئذ التفصيل في المفروض
بين اتصال ما يقتضي صرف ذلك الظاهر على قياس المخاطبات التي هي كذلك عرفا
ولا يعد فيه من التناقض، فلا يؤخذ به، وبين غيره الذي هو ليس كذلك فيؤخذ به ويحكم
عليه، ولم يسمع انكاره بعد ذلك ولا تأويله، ولو متصلا به، اللهم إلا أن يكون بحيث يقبل
التأويل المتأخر على وجه يكون الأخذ باطلاقه مبنيا على عدم ذكر تأويله، فتأمل جيدا،
هذا كله فيما جاء باللفظين.
أما لو اقتصر على ملكيته فعن بعضهم كذلك يأتي فيه البحث السابق ولم يستجوده
في المسالك لعدم ما يقتضي المغايرة فيه، بخلاف الأول وحينئذ فاحتمال إرادة الهبة
المقبوضة منه، كاحتمال إرادة ايقاع صيغه الهبة خاصة بلفظ التمليك من غير أغلبية
أحدهما على الآخر.
وفيه أنه وإن لم يكن فيه ما يقتضي المغايرة من عطف ونحوه، لكن قد يدعى
ظهوره مع الاطلاق في الأخبار بحصول أثر الملك نعم لو قرنه بما ينافي ذلك من عدم
القبض ونحوه اتجه حينئذ الحكم بعدم اقتضائه الاقرار بالقبض فتأمل جيدا والله
العالم.
المسألة (الرابعة: إذا رجع في الهبة) المجانية حيث يكون له ذلك (و
قد عابت) بزيادة أو نقصان (لم يرجع بالأرش) بلا خلاف أجده فيه، للأصل، ولأنه
حدث في عين مملوكة للمتهب، وقد سلطه مالكها على اتلافها مجانا فلم تكن مضمونة عليه
201

سواء كان التعيب بفعله أم لا.
(وإن زادت زيادة متصلة) لعلف ونحوه كالسمن ولو بفعله على وجه يكون
جزء من العين (فللواهب) بلا خلاف أيضا ولا اشكال، لأنها من العين المفروض
جواز الرجوع بها.
(وإن كانت منفصلة كالثمرة والولد، فإن كانت متجددة كانت للموهوب له)
لأنها نماء ملكه، وخارجة عن العين، (وإن كانت حاصلة وقت العقد كانت للواهب)
لأنها حينئذ من الهبة التي فرضنا جواز رجوعه بها بلا خلاف معتد به أجده في شئ
منه بل هو صريح بعض، وظاهر آخر عدم الفرق في الأول بين كون الرجوع بعد الانفصال
بالولادة أو بالحلب أو بالقطف أو قبله كالحمل قبل انفصاله، واللبن، قبل أن يحلب،
والثمرة قبل قطافها والصوف المستجز قبل جزه، لأن الجميع منفصل شرعا وعرفا عن
العين الموهوبة لأنه شئ جديد.
نعم في الوسيلة الرجوع بالحيوان الحامل مع حمله بناء منه على أنه كالجزء
من الأم، وهو كما ترى.
وأما الصوف والشعر إذا لم يبلغ أوان جزه ففي المسالك " أن الأجود تبعيته للعين "
وهو حسن مع فرض كونه كذلك عرفا: هذا.
ولكن بقي الكلام في أمرين أحدهما أنه قد تقدم لزومها بتلف البعض كالكل،
فإطلاقهم الرجوع هنا بالعيب الذي قد يكون بتلف البعض لا يخلو من تسامح، الثاني،
أنهم أطلقوا هنا كون الزيادة للواهب إذا كانت متصلة، بل صرح بعضهم بأنها كذلك
وإن كانت من فعله، وقد صرحوا في خيار الغبن بمشاركة المشتري للبايع المغبون إذا
فسخ بزيادة الصفة في العين، بل وبغير ذلك مما يأتي مثله في المقام، ولم يشر أحد
منهم إلى شئ من ذلك.
نعم في المسالك قد ذكر الأقسام هنا وهي كون العين بحالها أو نقصانها بما يوجب
الأرش، أو بما لا يوجبه، وزيادتها بما يوجبه أيضا أو بما لا يوجبه، أو يوجب زيادة في القيامة
أو جامعة بين الأمرين متصلة تلك الزيادة، أو منفصلة مطلقا أو من وجه، وتغيرها بالامتزاج
202

بالأجود والمساوي والأدنى، أو بغيره من الأعمال كالنجارة والقصارة والطحن أو
غير ذلك من التغيرات، ولم يتعرض لحكمها، بل ظاهره موافقة المصنف على إطلاقه
كما أنه لم يتعرض لضمان الواهب لما يتضرر به الموهوب برجوعه من نقض بناء أو
غرس أو نحوهما، ولعل ذلك كله للإحالة على ما تقدم مما لا يصعب جريان ما يقتضي
القواعد جريانه هنا على من أحاط خبرا بما مضى من المسائل السابقة في العارية
وفي خيار الغبن وغيرهما، فلاحظ وتأمل أو على ما تسمعه منه انشاء الله في المسألة
السادسة مع احتمال عدم اختيار الشركة في الصفات المحضة من المصنف وغيره ممن
أطلق، بل يختص الواهب بالعين، وإن زادت بذلك، لاطلاق ما دل على
الرجوع بها كما ذكرنا ذلك في خيار الغبن فلاحظ كما أنه لا يخفى عليك حكم الرجوع
بالتغيير ولو بغير فعله بعد الإحاطة بما ذكرناه من كون المدار على صدق بقاء
الموهوب بعينه. والله العالم.
المسألة (الخامسة: إذا وهب وأطلق) فضلا عن أن يكون قد اشترط العدم
(لم تكن الهبة مشروطة بالثواب) سواء كانت من المساوي أو من الأدنى، أو من
الأعلى بلا خلاف محقق أجده فيه، وإن حكي عن المبسوط والخلاف إلا أن الظاهر
من المحكي عنهما خصوصا الأول إرادة اشتراط لزومها به، فلو كانت حينئذ لرحم مثلا
لزمت حينئذ بدونه.
نعم عن كافي أبي الصلاح أن هدية الأدنى إلى الأعلى تقتضي الثواب
بمثلها، ولا يجوز له التصرف فيها قبل الإثابة أو العزم عليها، ولعله يريد ما هو
المتعارف من إرادة الثواب بمثل الفرض، وهو خارج عما نحن فيه، وحينئذ يتم ما
حكيناه من نفي الخلاف في ذلك بيننا وكذا ما في السرائر من أن عليه إجماع أصحابنا
وأن أحدا لم يذكر ذلك في مسطور، وهو الحجة بعد اطلاق الأدلة.
نعم هي وإن لم تكن مشروطة به، ولكن له الإثابة وعدمها (فإن أثاب لم
يكن للواهب الرجوع) مع قبوله لما عرفته سابقا من أدلة لزومها بذلك نعم لا يجب
عليه القبول للأصل لأنه بمنزلة هبة جديدة لا يجب عليه قبولها، خصوصا بعد اقتضائه
203

سقوط حقه من الرجوع كما تقدم الكلام في ذلك بل الظاهر أيضا عدم جواز الرجوع
للموهوب بثوابه، لأنه أيضا من الهبة التي أثيبت (وإن شرط الثواب) في هبته
(صح) بلا خلاف فيه عندنا بل عن التذكرة الاجماع عليه، للاطلاق خلافا لما عن أحد
قولي الشافعي من عدم الجواز لمنافاته مقتضاها الذي هو المجانية وفيه منع واضح،
بل لا فرق في صحته (أطلق أو عين) بلا خلاف أجده في الثاني منهما، بل عن ظاهر
التذكرة الاجماع عليه بل والأول على ما في المفاتيح وظاهر قوله في المسالك عندنا
لكن عن يحيى بن سعيد في الجامع وإن شرط مجهولا لم يصح.
وفيه: أنه مناف لاطلاق الأدلة ولبنائها على المغابنة، ولأنها مضبوط بالقيمة مع
التعاسر.
ولخبر القاسم بن سليمان (1) " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يهب الجارية
على أن يثاب فلا يثاب أله أن يرجع فيها؟ قال: نعم إذا كان شرط له عليه، قلت:
أرأيت إن وهبها له ولم يثبه أيطأها أم لا؟ قال: نعم إذا كان لم يشترط عليه ".
وخبر إسحاق بن عمار (2) " قال: قلت: الرجل يهدي الهدية يتعرض لما عندي
فأخذها ولا أعطيه شيئا أيحل؟ قال: نعم هي لك حلال، ولكن لا تدع أن تعطيه ".
الخبر.
اللهم إلا أن يقال: إن الثاني منهما لا شرطية فيه، وإن كان الداعي هو الأول
والمراد منه اطلاق الثواب المنزل عند التعاسر على المثل أو القيمة، وهو غير الثواب
المجهول.
ولكن فيه بعد التسليم أن الاطلاق كاف (و) لكن (له الرجوع ما لم يدفع
إليه ما شرط) مطلقا أو معينا بلا خلاف أجده فيه لاطلاق الأدلة السابقة، وخصوص
خبر القاسم، وأولويته من العقد اللازم الذي ثبت الخيار فيه، بعدم بذل الشرط، و
لغير ذلك (ومع الاشتراط من غير تقدير، يدفع ما شاء وإن كان يسيرا) مع رضا

(1) الوسائل الباب - 9 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 2.
(2) الوسائل الباب - 91 - من أبواب ما يكتسب به الحديث - 2.
204

الواهب به، لعدم ما يقتضي التعيين، بل الاطلاق قاض بعدمه.
ولو امتنع من قبوله فعن أبي على أنه يثيبه حتى يرضى، كما عن بعض العامة،
لخبر أبي هريرة (1) " أن أعرابيا وهب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ناقته فأعطاه: ثلاثا بأبي فزاده ثلاثا،
فأبى فزاده ثلاثا فلما استكمل تسعا قال: رضيت الذي هو في غاية الضعف سندا
ودلالة.
وعن التقي في الكافي في الهداية أنه يثيبه قدر قيمة الهبة أو مثلها، كما عن
بعض العامة أيضا أو يثيبه مقدار ما يعتاد في جزاء مثله، كما عن المبسوط والخلاف
وغيرهما، لانصراف الاطلاق إليه، وفي محكي الخلاف أيضا لو قلنا: أن لا مقدار للثواب
وإنما هو ما يثاب عنها قليلا كان أو كثيرا، لكان قويا، وعن التحرير إذا شرط ثوابا
مجهولا صح ولزمه دفع ما يصدق عليه اطلاق الاسم، وكأنه يرجع إلى ما عن بعض
العامة من الاكتفاء بأقل ما يتمول، عكس ما عن آخر منهم أيضا من أنه لا بد من دفع ما
ما يزيد على القيمة، وإلا لباعها بالسوق، إلى غير ذلك مما لا يخفى عليك وجهه (و)
لا ما فيه عدا القول بدفع المثل أو القيمة الذي يرجع إليه القول بدفع المعتاد ثوابا،
ضرورة كونه المعتاد فصاعدا لا أنقص من ذلك كما أنه لا يخفى عليك أنه (لم يكن
للواهب مع قبضه الرجوع) لما عرفته من صيرورة العقد حينئذ لازما وإنما الكلام فيما
ذكره المصنف بقوله (ولا يجبر الموهوب له على دفع المشترط، بل يكون بالخيار)
بين رد العين وبين دفع المشترط، ونحوه ما في القواعد " من أنه إن لم يرض، أي
الواهب بما دفع إليه، تخير المتهب بين دفع الموهوب، وعوض المثل " قيل ومقتضاه
عدم وجوب الوفاء عليه به، وبناه في المسالك على كونه كذلك في العقد اللازم أيضا
وإنما فائدته جعل العقد اللازم جائزا، أو على أن هذا العقد من العقود الجائزة
خصوصا من جهة الواهب، فلم يجب الوفاء به، كما لا يجب الوفاء بأصله وأشكله فيها
أيضا بأنه من طرف المتهب لازم، فلا يجوز له الفسخ بنفسه، وإن لم يبذل المشروط
وتخيره بين بذل العين والثواب المشروط لا ينافيه، وإنما يظهر جوازه من قبل

(1) المغني لابن قدامة ج 6 ص 301 ط دار الكتاب العربي بيروت 1392.
205

الواهب خاصة كما أن الأول قد بينا ضعفه في محله وقلنا: إنه مناف لعموم " أوفوا " (1) و
" المؤمنون عند شروطهم (2) " فيلزم حينئذ بالوفاء، وإن تسلط البايع مع ذلك على الخيار مع
فرض عدم وصول شرطه إليه.
ويمكن أن يقال: بل لعله الظاهر أن الخيار المزبور في المتن وغيره لا ينافي لزوم
العقد ورد العين - باعتبار كونها ثوابا، أو أولى منه - ليس فسخا للعقد، بل هو نحو
رد العين في القرض، وإن أوجب عقده المثل أو القيمة، لكن رده نفسه أولى بالقول،
فكذا ما نحن فيه.
نعم يتسلط الواهب على الفسخ مع الامتناع عن أصل البذل على نحو ما سمعته
في غيره من العقود اللازمة ولعله لذا جزم بعض بتنزيل إطلاق المحكي عن جماعة
لزوم العوض على رادة الخيار المزبور.
نعم بقي الكلام في شئ آخر وهو أنه ما ذكره في المسالك أيضا من أنه يفهم من قول
المصنف " ولم يكن للواهب الرجوع مع قبضه " جواز رجوعه متى لم يقبضه وإن بذل المتهب
والأمر فيه كذلك وقد تقدم، ولا ينافيه عموم (3) " أوفوا " ولا قول أبي عبد الله (عليه السلام) في الصحيح (4)
" تجوز الهبة لذي القربى والذي يثاب عن هبته، ويرجع في غير ذلك " كما زعمه بعضهم،
لأن عموم الوفاء بالعقود مقيد بغير الجائز، وقد عرفت دلالة النصوص الصحيحة على جواز
هذا العقد على هذا الوجه، إذا سلم دلالة الوفاء على المضي فيها مطلقا، والإثابة في
الخبر لا يتحقق إلا بالاتفاق عليها، لا بمجرد بذلها، ولم يحصل هنا ".
قلت: الذي قدمه في صدر المسألة بعد أن ذكر الصور الاثني عشر، قوله: " وتفصيل
حكمها أنها مع اشتراط عدم الثواب لا يلزم قطعا، ومع اشتراطه يلزم ما شرطه مطلقا ثم إن
عينه لزم ما عين بمعنى أن المتهب أن دفع المشروط، وإلا تسلط الواهب على الفسخ،
وإن أطلق اشتراط الثواب لزم أيضا الوفاء به، لكن إن اتفقا على قدر فذاك، وإلا وجب

(1) سورة المائدة الآية - 1.
(2) الوسائل الباب - 20 - من أبواب المهور الحديث - 4.
(3) الوسائل الباب - 9 - من أبواب أحكام الهبات الحديث - 3.
206

إثابة مقدار الموهوب عينا أو قيمة، ولا يلزم الأزيد، وإن طلبه الواهب، كما لا يجبر الواهب
على قبول الأول، والمعتبر قيمة الموهوب عند القبض إذا وقع بعد العقد، ويحتمل عند دفع
الثواب ".
وهو كالصريح في وجوب القبول عليه، مع بذل المثل أو القيمة بل لعله ظاهر تقييد
عدم وجوب القبول بما إذا لم يذكر العوض في الهبة في القواعد، بل لعله ظاهر قول المصنف
ما لم يدفع إليه، إلى أخر كالقواعد أيضا، بل قيل إن مثل ذلك عبارة المبسوط والتحرير و
الدروس، بل لعله ظاهر ما سمعته أيضا من الفاضل من الخيار المزبور إذا لم يرض الواهب
باليسير، بل عن جامع المقاصد نفى البعد عنه.
نعم عن الإيضاح أن الأقرب جواز الرجوع فيه، وفيه أنه مناف لآية " أوفوا (1) " و " المؤمنون (2) "
وغيرهما، وثبوت الجواز في غير الفرض لا يقتضي ثبوته فيه، وليس هو من الشرط في العقد
الجائز، بل هو من الشك في لزوم العقد به، بعد تسليم الشك، بل ومناف للصحيح المزبور
الظاهر في صدق " يثاب عن هبته " على بذله من المتهب، بل مقتضاه ذلك وإن كان
يسيرا، إلا أن انصراف اطلاق العوض المشترط إلى المساوي - فصاعدا مضافا إلى
قاعدة لا ضرر وإلى العادة - صار سببا للخروج عنه، أما إذا كان معينا فالظاهر لزومها
ببذله، وإن كان يسيرا، وبذلك ظهر لك أن ما في المسالك مشوش، خصوصا بعد ملاحظ
كلامه في تفسير قوله في المتن " ومع الاشتراط من غير تقدير " إلى آخره فلاحظ وتأمل.
ولو خرج العوض أو بعضه متسحقا أخذه مالكه، ثم إن كانت الهبة مطلقة لم يجب
دفع بذله، ولكن للواهب الرجوع، لاطلاق دليله، بعد ظهور فساد ما دفع من العوض،
فيكون كما إذا لم يعوض عنها، وإن شرطت بالعوض.
ففي القواعد " دفع المتهب مثله أو قيمته مع التعيين أو العين، أو ما شاء إن رضي
الواهب مع الاطلاق " وهو ظاهر أيضا في وجوب دفع العوض، وفي وجوب قبول الواهب
له مع بذله، اللهم إلا أن يحمل إرادة بيان كفايته في عدم رجوع الواهب في

(1) سورة المائدة الآية - 1.
(2) الوسائل الباب - 20 - من أبواب المهور الحديث - 4.
207

العين ولو بقرينة ما تقدم له سابقا،
ولكن يشكل أيضا بأن الواجب على الواهب قبوله نفس العوض المذكور في العقد
دون غيره، لعموم قوله " المؤمنون " وغيره.
نعم لو رضي به وقبضه فلا يجب، لكن لا يختص بالمثل أو القيمة حينئذ اللهم إلا أن
يقال: إن فساد العوض فيها لا يقتضي فسادها ضرورة كونه فيها كالمهر في النكاح، لأنها
تصح بدونه وحينئذ تبقى صحيحة، ولكن لا وجه للمجانية بعد فرض قصد المعاوضة بها
فليس حينئذ إلا مثل العوض المذكور أو قيمته نحو ما ذكروه في المهر الفاسد.
لكن لا يخفى عليك النظر في المقيس عليه، كما ذكرناه في محله فضلا عن حرمة القياس.
نعم حكم بصحة النكاح للاجماع - والرجوع إلى مهر المثل، بخلاف المقام، فإنه
لا شئ مقرر هنا على تقدير الفساد - فالمتجه حينئذ البطلان مع فرض ذكر المعوض فيها
على طريق ذكره في عقود المعاوضة، بناء على صلاحية عقدها للتمليك كالنكاح فلا يحتاج
إلى سبب آخر.
نعم لو ذكر العوض فيها على معنى اشتراط هبة عوض هبة أمكن القول لعدم اقتضاء
ظهور استحقاقه فساد الهبة، ولكن يكون للواهب حينئذ الرجوع، وإن بذل المتهب
المثل أو القيمة، هذا كله في العوض المعين المشخص، أما المطلق فيدفع بدله سواء كان
مقدرا كمائة درهم، أو لم يكن، ومن ذلك يعلم ما في عبارة القواعد من التشويش، والأمر
سهل بعد وضوح الحال وفيها أيضا " ولو كان معيبا ألزم بالأرش أو دفع العين في المعينة
لا المطلقة " وهو ظاهر في وجوب قبول الواهب مع دفع الأرش.
وفيه: أن المتجه عدمه، لأن الفرض اشتراط العوض المعين المنصرف إلى الصحيح
فلا يجب عليه القبول، فالأولى الالزام بالعين، أو بما يرضى به الواهب، ولو الأرش، وأما
المطلقة، فإن كانت من دون تقدير عوض أصلا، ودفع عوضا معينا وهو مع العيب بقدر
القيمة، فإنه على ما سبق ليس له رده، ولا الرجوع، وإن كان أقل طالب بالزائد وإن
كانت بتقدير عوض غير مشخص، فدفع ذلك القدر فظهر معيبا، فإنه يتجه - بناء على أنه
كالسلم - أن يقال له المطالبة بالأرش أو البدل أو العين، ومتى دفع المتهب أحدها
208

لم يكن له الامتناع، وإن قلنا ليس المقام كالسلم، فله المطالبة بالبدل، والله العالم.
ولو ظهر استحقاق نصف العين الموهوبة، رجع بنصف العوض، بل قيل: له أن
يرد الباقي ويرجع بجميع الثواب خلافا للمحكي عن أحد قولي الشافعي، حيث قال:
ببطلان هبة الكل، ولو ظهر استحقاقها بعد تلفها في يد المتهب، ففي القواعد الأقرب
رجوعه على الواهب بما غرمه من القيمة، وإن زادت عن العوض أو قلت عنه، وعن
الإيضاح وجامع المقاصد أنه الأصح، وقد تقدم في باب البيع ويأتي في الغصب ما
يستفاد منه تحقيق ذلك والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (لو تلفت) العين الموهوبة في يد المتهب (والحال هذه)
أي كان مشروطا فيها الثواب (أو عابت لم يضمن الموهوب له) عند المصنف والفاضل
وولده في محكي التذكرة والشرح، وإن كان ذلك بفعل المتهب (لأن ذلك حدث
في ملكه) ولأن المتهب لا يجب عليه دفع العوض، وللواهب الرجوع في العين،
فالتفريط منه بتركها في يد من يجوز له ذلك فيها بتسليطه.
(و) لكن (فيه تردد) بل منع كما عن ابن الجنيد وجمع من المتأخرين لعموم
" أوفوا " ونحوه، ولأن قبضها على أن يؤدي عوضها ولأن الواجب أحد الأمرين ردها أو
دفع العوض، فإذا تعذر الأول وجب الثاني، وبذلك يظهر لك ما في دليل القول
الأول - ضرورة دخولها في ملكه، ولا هو سلطه عليها كذلك، وعدم وجوب دفع العوض
إن أريد به عدم وجوبه عينا لم يلزم منه نفي الوجوب على البدل الذي هو المدعى، و
حينئذ فإذا تعذر أحد الأمرين المخير فيهما وجب الآخر عينا وإن أريد عدم الوجوب
أصلا فهو ممنوع - لكن المراد بالضمان هنا وجوب دفع العوض إذا كان معينا، و
المثل أو القيمة إذا كان مطلقا لأنه هو مقتضى الأمر بالوفاء، وقوله " والمؤمنون " وغير ذلك
مما تقدم سابقا لا القيمة على كل حال، لأن العين مضمونة على القابض والشرط لا يجب
عليه قبوله، إذ فيه أنها مضمونة بالعوض لا غير، ودعوى عدم وجوب قبول العوض ممنوعة،
كما عرفت، وما في المسالك من أقل الأمرين من ذلك، ومن العوض قال: لما عرفت من
أن المتهب مخيرين الأمرين والمحقق لزومه هو الأقل، لأنه إن كان العوض هو الأقل
209

فقد رضي به الواهب في مقابلة العين، وإن كان الموهوب هو الأقل فالمتهب لا
يتعين عليه العوض، بل يتخير بينه وبين بذل العين، فلا يجب مع تلفها أكثر من
قيمته، وهذا هو الأقوى ".
ولا يخفى عليك ما فيه بعد فرض عدم انفساخ العقد بذلك، والاكتفاء برد العين
مع وجودها لا يقتضي الاكتفاء بقيمتها بعد تلفها، بل اللازم من اقتضاء قاعدة تعذر
أحد فردي المخير التي اعترف بها تعين الفرد الثاني فتأمل جيدا، فإن بعض الوهم
هنا قد نشأ من الخلل في المسائل السابقة، ومن تفسير الضمان بالمعنى المزبور الذي
لا يتم إلا مع انفساخ العقد، وكون العوض على طريق المعاوضات، أما إذا كان بمعنى
الثواب والجزاء بهبة جديدة فقد يتردد في الضمان من كونه كالعوض بالمعنى الأخص
ومن منع ذلك، وأنه لا يقتضي الضمان حينئذ، وكذلك الكلام لو وجدها معيبة، والله
العالم.
المسألة (السادسة: إذا صبغ الموهوب له الثوب) مثلا (فإن قلنا) مثل
هذا (التصرف يمنع من الرجوع، فلا رجوع للواهب، وإن قلنا لا يمنع إذا كان الموهوب
له أجنبيا) رجع به و (كان) الموهوب له (شريكا) معه في الثوب (ب‍) مقدار
نسبة (قيمه الصبغ) إلى الثوب.
بل في المسالك لا فرق بين الصبغ، وبين القصارة والطحن عندنا في ذلك، وقد
تقدم في الغبن وفي الفلس والعارية وغيرها النظر في أمثال هذه المسائل فلاحظ
وتأمل كي تعرف أيضا الحكم فيما لو كان للموهوب غرس ونحوه ورجع الواهب، فإن لكل
ماله، وأنه هل لصاحب الأرض اجبار الغارس على إزالته مجانا، أوليس له ذلك بل
يتخير بين الابقاء بأجرة، والقلع مع الأرش، والله العالم والمؤيد.
المسألة (السابعة: إذا وهب في مرضه المخوف، برء صحت الهبة) بلا خلاف
ولا إشكال فيها، ولا في شئ من تصرفاته المجانية (وإن مات في مرضه، ولم تجز
الورثة اعتبرت من الثلث على الأظهر) كما عرفت البحث فيه مفصلا في كتاب الحجر،
والله هو العالم، والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا وظاهرا وباطنا والشكر لله.
210

(كتاب السبق والرماية)
بسكون الباء وهو في الأصل مصدر سبق كضرب، أو سابق، بل قيل: إنه أوفق في
معاملته الكائنة بين اثنين فصاعدا على ما ستعرف، ولعل مادته كافية في ذلك عن
الهيئة، وعرفا معاملة على إجراء الخيل وما شابهها في حلبة السباق، لمعرفة الأجود
منها والأفرس من المتسابقين، وكذا الرمي والرماية في الأصل لمطلق ذلك، وعرفا
معاملة على المناضلة بالسهام مثلا ليعلم حذق الرامي ومعرفته بمواقع الرمي.
(وفائدتهما بعث العزم) وتهيأه (على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة
النضال) في حرب الكافرين.
(وهي معاملة صحيحة) و (مستندها) - بعد اجماع المسلمين بقسميه بل
المحكي منهما مستفيض أو متواتر، بل قيل: والكتاب المبين، للمرفوع المروي عن عبد الله
بن مغيرة (1) في تفسير قوله تعالى " وأعدوا لهم ما استطعتم " الآية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " إنه
الرمي " وقوله تعالى (2) " إنا ذهبنا نستبق " بناء على أصالة بقاء مشروعية ما كان في ملة
غيرنا حتى يعلم النسخ - السنة المستفيضة أو المتواترة منها (قوله عليه السلام) المروي في
طرق الخاصة والعامة (3) (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر و) منها (قول الصادق
(عليه السلام) (4) " إن الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه، ما خلا الحافر والخف والريش و
النصل) وقد سابق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسامة بن زيد وأجرى الخيل، كقوله أيضا (5) " ليس
شئ تحضره الملائكة إلا الرهان وملاعبة الرجل أهله " ومنها خبر طلحة عن الصادق -

(1) الوسائل الباب - 2 - من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث 3.
(2) سورة يوسف الآية - 17.
(3) الوسائل الباب - 3 - من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث - 1 - 2.
(4) الوسائل الباب - 1 - من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث - 6 - 4.
(5) الوسائل الباب - 1 - من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث - 6 - 4.
211

(عليه السلام) (1) " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أجرى الخيل التي أضمرت من الحصى (2) إلى مسجد
بني زريق وجعل سبقها ثلاث نخلات فأعطى السابق عذقا أي نخلة وأعطى المصلي
عذقا وأعطى الثالث عذقا " ومنها خبر غياث بن إبراهيم عنه أيضا (3) عن أبيه عن علي بن
الحسين (عليه السلام) " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أجرى الخيل وجعل سبقها أواقي من فضة إلى
غير ذلك من النصوص.
(و) كيف كان ف‍ (تحقيق هذا الباب يستدعي فصولا).
(الأول: في الألفاظ المستعملة فيه فالسابق): أي المجلى من خيل الحلبة
المجتمعة للسابق و (هو الذي يتقدم) ولو (بالعنق والكتد) بفتح التاء وكسرها
وهو العالي بين الظهر وأصل العنق ويعبر عنه بالكاهل.
(وقيل) والقائل الإسكافي يكفي التقدم (بأذنه، والأول أكثر) لقوله
(صلى الله عليه وآله وسلم) " بعثت والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر بأذنه ".
وفيه - مع امكان حمله على المبالغة نحو قوله (عليه السلام) (4) " من بنى مسجدا ولو كمفحص
قطاة بنى الله له بيتا في الجنة " مع امتناع بناء مسجد كذلك أنه لا دلالة فيه على
كون السابق على الاطلاق كذلك، إذ النزاع فيه لا المقيد بنحو ذلك.
كما أن في الأول منعا واضحا إن أريد الحمل عليه، وإن كان العرف على خلافه،
ضرورة عدم الوضع الشرعي فيه، وعلى تقديره فلا مدخلية له في ألفاظ المتراهنين،
فالتحقيق حينئذ ايكاله إلى العرف، ولعله في زماننا لا يصدق إلا أن يسبق بالكل، و
بالجملة فالمدار على العرف إن كان، وإلا فلا بد من التقييد لرفع الغرر والنزاع، بناء
على اعتبار المعلومية في ذلك، وإن كان القائل بالأول أكثر والله العالم.
(والمصلى) منها أيضا هو (الذي يحاذي) ب‍ (رأسه صلوى السابق)
فصاعدا (والصلوان) ه‍ (ما) العظمان النابتان (عن يمين الذنب وشماله)

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث - 1.
(2) الحفى (خ ل).
(3) الوسائل الباب - 1 - من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث - 1.
(4) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام المساجد الحديث - 2.
212

والتالي للمصلي هو الثالث، ويليه البارع الرابع لأنه برع المتأخر عنه وفاته، ثم المرتاح
وهو الخامس، من الارتياح بمعنى النشاط، فكأنه نشط فلحق بالسوابق، والسادس
الحظي لأنه حظي عند صاحبه حين لحق بالسوابق، أي صار ذا حظوة ونصيب عنده،
أو في مال الرهان.
والسابع: العاطف، لأنه عطف إلى السوابق أي مال إليها، أو كر عليها فلحقها
والثامن: المؤمل لأنه يؤمل اللحوق بالسوابق، والتاسع: اللطيم وزان فعيل
بمعنى مفعول، لأنه يلتطم إذا أراد الدخول إلى الحجرة الجامعة للسوابق.
والعاشر: السكيت بالتصغير مخففا، ويجوز تشديده، سمي به لسكوت ربه إذا
قيل لمن هذا، أو لانقطاع العدد عنده، وليس لما بعد العاشر من خيل الحلبة اسم
إلا الذي هو آخر الخيل كلها، فيقال له: الفسكل بكسر الفاء والكاف أو بضمهما الذي
هو آخر فرس يجئ في الرهان، وقيل: إنه السكيت.
ولا يخفى عليك أنه لا مدخلية لهذه الأسماء في شئ من أحكام الباب، ضرورة
بناء أحكامها على مسمياتها، لا على أسمائها، وهو يتبع عرف المتراهنين، أو ما يتفقون
عليه في بيان ذلك، فقد يعبرون عن المجلي والمصلي وغيرهما بغير أسمائها كما هو
واضح.
(و) على كل حال فقد عرفت أن (السبق بسكون الباء) في الأصل (المصدر)
ثم نقل إلى المعاملة الخاصة (وبالتحريك: العوض) في هذه المعاملة، (وهو)
المسمى ب‍ (الخطر) بالخاء المعجمة والطاء المهملة المفتوحتين والندب والرهن
ومنه أخذ الرهان بهذه المعاملة (والمحلل) هو (الذي يدخل بين المتراهنين)
ولا يبذل معهما عوضا بل يجري فرسه بينهما أو في أحد الجانبين على وجه يتناوله
العقد، على أنه (إن سبق) بنفسه أو مع غيره (أخذ) العوض أو بعضه على حسب
الشرط، (وإن لم يسبق لم يغرم) شيئا (والغاية مدى السباق) ومنتهاه.
(والمناضلة: المسابقة والمراماة) قال في الصحاح: ناضله: أي راماه يقال:
ناضلت فلانا فنضلته، إذا غلبته، وانتضل القوم وتناضلوا: أي رموا للسبق، وعن التذكرة
213

السباق اسم يشتمل على المسابقة بالخيل حقيقة، وعلى المسابقة بالرمي مجازا ولكل
واحد منهما اسم خاص، فيختص الخيل بالرهان، ويختص الرمي بالنضال.
وفي المسالك " اطلاق المناضلة على ما يشتمل المسابقة ليس بمعروف لغة، ولا
عرفا، ولعل المصنف ومن تبعه في ذلك تجوزوا في الاطلاق، وبعض الفقهاء عنوان الكتاب
بالمسابقة والمناضلة، وهو الموافق لما سمعته من أهل اللغة ".
قلت: يمكن أن يريد المصنف أن المناضلة المسابقة في الرمي، ويكون قوله والمراماة
تفسيرا، واطلاق السبق على الرمي هو الموافق لقوله (عليه السلام) لا سبق إلى آخره على أن يكون
المراد منه الغلبة في السبق المعنوي: والأمر سهل.
(ويقال: سبق - بتشديد الباء إذا أخرج السبق) بالتحريك أي العوض
منه لغيره (وإذا أحرز أيضا) باستحقاقه له قبضه، أم لم يقبضه.
(والرشق - بكسر الراء - عدد الرمي) أي عدد ما يرمى به من السهام يقال:
رمى رشقا: أي رمى بسهامه التي يريد رميها كلها، وإذا حصل الاتفاق على خمسة
خمسة، فكل خمسة يقال له رشق، وعن بعض أهل اللغة تخصيصه بما بين العشرين و
الثلاثين.
(و) أما (بالفتح) فهو (الرمي) الذي هو المصدر، يقال: رشقه يرشقه
رشقا: إذا رماه بالسهم، (ويقال:) أيضا (رشق وجه ويد) بكسر الراء، (ويراد،
به الرمي على ولاء حتى يفرغ الرشق) فيكون مشتركا إذا كان الاطلاقان على جهة
الحقيقة، وفي الصحاح " الرشق بالكسر الاسم، وهو الوجه من الرمي، فإذا رمى القول
بأجمعهم في جهة واحدة قالوا: رمينا رشقا ".
وفي المسالك " والمراد برشق اليد هذا المعنى، وإضافة الرشق إلى اليد كإضافته
إلى الوجه، فيقال: رشق وجه، ورشق يد، إذا كانت جهة الرمي واحدة، ويمكن مع
ذلك اضافته إليهما معا كما يظهر من العبارة ".
قلت: قد يقال: ظاهر الولاء الذي في العبارة غير الاتحاد في الجهة، المذكور
في الصحاح.
214

(و) على كل حال ف‍ (يوصف السهم) المرامى به، بأوصاف كثيرة ذكر في
محكي التحرير منها ستة عشر، ومحكي كتاب فقه اللغة تسعة عشر اسما، واقتصر المصنف
على ستة منها، لما عرفت سابقا من عدم فائدة معتد ب‍ (ها) في ذلك.
وهي (الحابي، والخاصر، والخازق، والخاسق، والمارق، والخارم)
(فالحابي: ما زلج) أي زلق (على الأرض ثم أصاب الغرض) بمعنى أنه
يقع دون الهدف ثم يحبو إلى الغرض فيصيبه، مأخوذ من حبو الصبي وجمعه حوابي،
وفي محكي الصحاح سهم زالج: يتزلج عن القوس.
(والخاصر) بالخاء المعجمة والصاد المهملة من الخاصرة هو (ما أصاب
أحد جانبيه) أي الغرض، وفي المسالك يسمى جايزا وقيل: الجايز ما سقط من وراء
الهدف، وقيل: ما وقع في الهدف عن أحد جانبي الغرض فهو مخطي إن كان شرط
الإصابة في الغرض، ومصيب إن كان في الهدف.
(والخازق) بالخاء والزاء المعجمتين (ما خدشه) أي الغرض.
(والخاسق: ما فتحه وثبت فيه) لك عن نهاية ابن الأثير خرق السهم وخسق
إذا أصاب الرمية ونفذ فيها، وسهم خازق وخاسق، وفي الصحاح: الخازق من السهام
المقرطس، والخاسق لغة في الخازق، وقال في باب السين سمي الغرض قرطاسا يقال:
رمى بمقرطس إذا أصابه ونحوه عن القاموس، وظاهر الجميع أنهما بمعنى واحد، وهو
النفوذ كما في النهاية، والإصابة كما في الصحاح والقاموس، وعن الثعالبي في سر العربية
إذا أصاب الهدف فهو مقرطس، وخارق وخاسق وصائب.
(والخارق) بالخاء المعجمة والراء المهملة هو (الذي يخرج من الغرض
نافذا) من الخرق بمعنى الشق، لكن في المسالك " لم يذكره أحد من أهل اللغة
ممن وقفت على كلامه في أسمائه، وفي بعض نسخ الكتاب المارق بالميم بدل الخارق
وهو الصواب الموافق لكلام أهل اللغة ".
(والخارم) هو (الذي يخرم حاشيته) أي الغرض، وفي المسالك أيضا " لم
يذكره أهل اللغة " والأمر سهل.
(ويقال:) أيضا في اسم السهم (المزدلف) وهو (الذي يضرب الأرض
215

ثم يثب إلى الغرض) وظاهر القواعد أنه رديف للحابي لكن قد يفرق بينهما بما تشعر
به عبارة المصنف من اعتبار القوة في الثاني، بخلاف الحابي، بل في المسالك " إن
هذا هو الظاهر من التذكرة ".
(والغرض ما يقصد إصابته، وهو الرقعة، والهدف ما يجعل فيه الغرض من تراب
أو غيره) كحائط ونحوه، وقد يطلق على الغرض القرطاس، وإن لم يكن قرطاسا، وقد
يجعل في الغرض نقش كالهلال، يقال: لها الدائرة، وفي وسطها شئ آخر يقال له
الخاتم: والإصابة تتبع الشرط، فقد يكفي فيها الهدف، وقد لا يكفي إلا الخاتم كما هو
واضح.
(والمبادرة) أحد قسمي المراماة و (هي أن يبادر أحدهما) مثلا (إلى)
مطلق (الإصابة) أو إصابة عدد معنى (مع التساوي في الرشق) من مقدار
معين أو مطلق، فلو أصاب أحدهما في أول الرشق وأخطأ الآخر فهو ناضل له، ولو
أصابا معالم يناضل أحدهما الآخر، ولو اشترطا أصابه خمسة في ضمن العشرة،
فأصاب أحدهما فيها وأخطأ الآخر فهو ناضل له، وإن أصاب أيضا لم يتناضلا، وإلى
ما ذكرناه يرجع تفسيرها في المسالك " بأنها اشتراط استحقاق العوض لمن بدر إلى
إصابة عدد معين، من مقدار رشق معنى مع تساويهما فيه " ضرورة أنه أعم منه كما هو
مقتضى اطلاق المصنف.
(و) القسم الثاني (المحاطة وهي اسقاط ما تساويا فيه من الإصابة) بعد
تساويهما في الرشق، فإن نضل أحدهما الآخر، فهو ناضل له، وإلا لم يتناضلا، سواء
اشتراطا عددا معينا أو لا، لأن المدار على تساويهما في الرشق، ونضل أحدهما الآخر
وأما غير ذلك فهو على حسب الشرط، وهذا مقتضى اطلاق المصنف، وإليه أو إلى بعضه
يرجع تفسيرها في المسالك " بأنها اشتراط العوض لمن خلص له من الإصابة عدد معلوم
بعد مقابلة إصابات أحدهما بإصابات الآخر، وطرح اشتركا فيه " ثم أكثر من الأمثلة،
ولكن اطلاق المصنف أجود، ومنه يظهر أنه لا وجه لمناقشة المصنف بأن المقصود من
معناهما غير حاصل من لفظه، وبدخول كل منهما في تعريف الآخر، كما أن منه أيضا
216

يعلم رجوع المناضلة إليهما، لا أنها قسم ثالث كما في القواعد، مع أن المحكي من
التحرير صريح في مرادفتها له.
نعم ربما قيل إن الحواب من دون ياء قسم ثالث للمراماة، وهي أن يحتسب
بالإصابة للغرض والهدف، ويسقط الأقرب للغرض ما هو الأبعد منه ولا بأس به.
الفصل الثاني (: فيما يسابق به و) لا ريب أن الأصل عدم ترتب آثار هذا
العقد وحينئذ ف‍ (يقتصر في الجواز على النصل والخف والحافر، وقوفا) فيما خالف
الأصل (على مورد الشرع) والاجماع على شرعيته في الجملة لا يقتضي العموم، كما
أن كون الحكمة فيه الاستعداد للجهاد كذلك أيضا، بل ولا " أوفوا بالعقود " بعد أن
ذكرنا غير مرة أن المراد منها العموم في أنواعها، لا أفراد كل نوع منها الذي يرجع في
مشروعيته إلى ما دل على مشروعيته نوعه إن كان على جهة العموم، أو الاطلاق الشامل
للفرد المشكوك فيه، وليس في المقام ذلك، بل ظاهر خير الحصر، ونفرة الملائكة عند
الرهان، ولعن صاحبه خلافه، وبذلك يظهر لك النظر فيما في المسالك فلاحظ و
تأمل.
نعم أطنب في الحدائق في إضافة الطيور إلى الثلاثة مستدلا على ذلك بنصوص
قاصرة السند ولا جابر، على أن خبر الحمام منها محتمل لإرادة اللعب به، بلا مسابقة
ولإرادة الخيل منه، بل قيل: إنه المتعارف في لسان أهل المدينة، بل لعله أيضا
ظاهر أو محتمل الاستدلال عليه في خبره للنبوي المتضمن لاجراء الخيل، بل ربما
احتمل في النصوص الريش منها إرادة السهم ذي الريش، وليس في عطفه على النصل
في أحد الخبرين دلالة على التغاير بينهما، بعد احتمال كونه من عطف المرادف،
أو الخاص على العام المؤيد باسقاط العطف، وابدال النصل بالريش في الخبر الثاني
المصرح فيه بحرمة الباقي، كل ذلك مضافا إلى الاجماع المحكي مستفيضا على الحصر
في الثلاثة.
(و) كيف كان ف‍ (يدخل تحت النصل: السهم والنشاب والحراب) و
السكين (والسيف) والرمح، قال في الصحاح: النصل نصل السهم والسيف و
السكين والرمح، وفيه أيضا: النشاب السهام، فيكون عطفه عليه هنا من عطف التفسير
217

وعن مبسوط الشيخ أنه باعتبار اللغات، فيقال: سهم في لغة العرب، ونشاب في لغة
العجم، وفي المسالك " إن حصر النصل فيما ذكر هو المعروف لغة، وعرفا، فلا يدخل فيه
مطلق المحدد كالدنبوس وعصا المرافق إذا جعل في رأسها حديدة ونحو ذلك عملا
بالأصل السابق " ولكن مع ذلك قال: " ويحتمل الجواز بالمحدد المذكور، إما لادعاء
دخولها في الأصل، أو لإفادتها فائدة النصل في الحرب، فقد كان بعض مشايخنا
المعتمدين يجعل وضع الحديدة في عصا المرافق، حيلة على جواز الفعل نظرا إلى
دخوله بذلك في النصل " وهو كما نرى، ضرورة أنه لا وجه لاحتمال المزبور بعد الاعتراف
بأن الحصر المزبور هو المعروف لغة وعرفا، فإن ادعاء دخولها يكون غلطا حينئذ،
كدعوى لحوقها في الحكم وإن لم تدخل في الموضوع كما هو واضح.
(ويتناول الخف: الإبل والفيلة اعتبارا باللفظ) الشامل لذلك بلا خلاف،
أجده فيه بيننا، بل ظاهر المسالك، الاجماع عليه، بل حكاه فيها عن أكثر العامة أيضا
نعم عن بعضهم المنع لأنه لا يحصل بها الكر والفر، فلا معنى للمسابقة عليها،
وكأنه مال إليه بعض متأخري المتأخرين منا، لكنه في غير محله، إذ هو كالاجتهاد في
مقابلة النص، ودعوى انصرافه إلى الأول خاصة ممنوعة، على أن كر كل حيوان وفراره
بحسب حاله.
(وكذا يدل الحافر على الفرس والحمار والبغل) فيجوز المسابقة عليها كما
في المسالك، خلافا لبعض العامة فمنع منها في الأخيرين، لأنهما لا يقاتل عليهما عملا
غالبا، ولا يصلحان للكر والفر، ومال إليه بعض متأخري المتأخرين لذلك، ولدعوى عدم
انصراف الاطلاق إلى ما يشملهما، لكنه في غير محله كما عرفت، خصوصا بعد مقاتلة
أمير المؤمنين (عليه السلام) على بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
(و) كيف كان ف‍ (لا تجوز المسابقة) المشتملة على عوض (بالطيور ولا
على القدم ولا بالسفن ولا بالمصارعة) ولا بغير ذلك مما هو غير الثلاثة المزبورة بلا
خلاف أجده فيه بيننا، بل الاجماع بقسميه عليه، مضافا إلى الحصر السابق، ولعن
الملائكة الرهان في غيرها وأنه قمار حرام.
218

نعم عن بعض العامة جواز المسابقة بالجميع، لامكان الاحتياج إلى الطيور في
حمل الكتب، واستعلام حال العدو، وتعارف الحرب على الاقدام كتعارفه بالسفن
في البحر، والنبوي المروي (1) من طرقهم " أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) سابق عايشة بالقدم مرتين، سبق في
إحديهما، وسبق في الآخر، وأنه صارع ثلاث مرات (2) كل مرة على شاة فصرع خصمه في
الثلاث، وأخذ منه ثلاث شياه ".
ولكن لم يثبت شئ من ذلك عندنا، بل الظاهر الثابت خلافه كما عرفت، أما جوازها
بدون عوض فقد حكى فيه قولان: قيل: إن منشأهما فتح الباء في لفظ سبق المروي
في خبر الحصر وسكونها، فعلى الأول الذي هو المشهور لا يدل إلا على عدم مشروعية
بذل العوض في غير الثلاثة، ولا تعرض فيها لغير ذلك، فيبقى على أصالة الجواز، و
على الثاني يدل على المنع مطلقا، لكن يرجح الأول - مع شهرة روايتها كذلك -
أن احتمال الأمرين يرفع دلالتها على المنع مطلقا، فيبقى أصالة الجواز خالية عن
المعارض.
مضافا إلى امكان ترتب غرض صحيح عليها، يخرجها عن اللهو واللعب، مع
أنهما لم يثبت تحريمهما على وجه الاطلاق بحيث يشمل المجرد عن الآلات المعدة
لمثل ذلك، فيجوز حينئذ المسابقة بالاقدام، ورمى الحجر ودفعه، والمصارعة والآلات
التي لا تشتمل على نصل والطيور، ولعل من ذلك مصارعة الحسنين (عليهما السلام) بمحضر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (3) ومكاتبتهما، وغيرهما مما هو مروي عن الحسن (عليه السلام) أيضا، ومن ذلك وغيره
جزم به ثاني الشهيدين ومن تبعه، لكن في الرياض " أن الأشهر خلافه، بل ظاهر المهذب
والمحقق الثاني وصريح المحكي عن التذكرة أن عليه اجماع الإمامية في جميع الأمور
المذكورة، ثم اختاره للاجماع المزبور المعتضد بالشهرة، وبما دل على حرمة اللهو و
اللعب لكون المسابقة في المذكورات منها بلا تأمل.
وخصوص ما مر من المعتبرة (4) المنجبر قصور سندها بالشهرة، بل وعمل الكل ولو

(1) المغني لا ابن قدامة ج 11 ص 127 - 129.
(2) المغني لابن قدامة ج 11 ص 127 - 129.
(3) المستدرك ج 2 ص 517.
(4) الوسائل الباب - 1 - من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث 8.
219

في الجملة الدالة على تنفر الملائكة عند الرهان، ولعنها صاحبها ما خلا الثلاثة، مع
التصريح في بعضها بأن ما عداها قمار محرم، ودعوى توقف صدق القمار والرهانة على
بذل العوض غير معلوم الصحة مع صدقهما، سيما الرهانة بدونه عرفا وعادة وربما جعل
ذلك كله قرينة على صحة رواية السكوني التي دلالتها على عدم الصحة بل الحرمة
ظاهرة، لعدم امكان إرادة نفي الماهية، فتحمل على أقرب المجازات، وهو إما نفي
جميع أحكامها التي منها الصحة والمشروعية، أو نفيهما خاصة، لأنه المتبادر من نفي
الماهية بلا شبهة، سيما مع الاعتضاد بما عرفته من أدلة الحرمة وبذلك يظهر الجواب
عما في الكفاية: من أنه لا دلالة في الرواية على الحرمة على النسختين، فإنه على الفتح
يحتمل أن لا لزوم، أو لا تملك، أو لا فضل للسبق، والعوض إلا في هذه الثلاثة من بين
الأفعال التي يسابق عليها، وحينئذ فلا دلالة لها على تحريم الفعل، أو الملاعبة مع
العوض أيضا في غير الثلاثة، بل لا يدل على تحريم العوض أيضا، وعلى السكون يحتمل
أن يكون معناها لا اعتداد بسبق في أمثال هذه الأمور إلا في الثلاثة، أو لا فضل لسبق
إلا في الثلاثة، فلا دلالة فيها على التحريم " إذ هو كما ترى بعد ما عرفت، إذ لا ريب في بعد
الاحتمالات التي ذكرها، ولهذا لم يشر أحد من الأصحاب إلى جريان شئ منها
في الرواية، بل أطبقوا على دلالتها على الحرمة، وإنما اختلفوا لاختلاف النسخة في
متعلقها هل هو العوض خاصة، أو نفس الرهانة، وأين هذا الاطباق من صحة ما ذكره
بل ينبغي القطع بفساده، سيما مع ما عرفت من الروايات، بل للأدلة الأخر الظاهرة
في الحرمة وأخبارهم يكشف بعضها عن بعض " هذا حاصل ما في الرياض، ونقلناه
بطوله لجودة محصوله.
لكن ينبغي أن يعلم أن التحقيق الحرمة وعدم الصحة إذا أريد ايجاد عقد
السبق بذلك، إذ لا ريب في عدم مشروعيته، سواء كان بعوض أو بدونه ولو للأصل،
فضلا عن النهي في خبر الحصر.
أما فعله لا على جهة كونه عقد سبق، فالظاهر جوازه، للأصل والسيرة المستمرة
على فعله في جميع الأعصار والأمصار من الأعوام والعلماء، وما ورد من مصارعة
220

الحسن والحسين (عليهما السلام) (1) ومكاتبتهما والتقاطهما حب قلادة أمهما، بل ما روته العامة
من مسابقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2) لعايشة بقدمه فسبق وسبق وسبق لو قلنا بصحة ذلك وعدم منافاة
مثله لمنصب النبوة، لأنه من المداعبة مع الزوجة وغير ذلك.
بل لا يبعد جواز إباحتهما العوض على ذلك، والوعد به مع استمرار رضاهما به،
لا على أنه عوض شرعي ملتزم، بل قد يحمل عليه ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في طرق العامة (3)
من المسابقة بالقدم مع أشخاص ثلاثة على شاة، فغلب الثلاثة وأخذ الشياة الثلاث
ملتزم به، والمراد من الخبر على السكون - لا عقد سبق، فإن السبق اسم لهذه
المعاملة، كالبيع والصلح والإجارة، وعلى الفتح لا سبق إلا في الثلاثة لعدم مشروعية
عقد السبق في غيرها، وحينئذ يتحد المراد منها على النسختين، والاجماعات المزبورة
إنما هي على ما ذكرنا من عدم مشروعية عقد السبق في غير الثلاثة، وإن كان بغير عوض
ففعله حينئذ تشريع محرم، لا أن المراد حرمة مطلق المغالبة، وإن تعلق بها غرض
صحيح، ودعوى أنها مطلقا لهو ولعب، وهما مطلقا حرام واضحة المنع، خصوصا بعد
معروفية مداعبة الصلحاء ومغالبتهم في كثير من الأمور، بل ربما عد مثلها عبادة، و
بذلك ظهر لك ما في كلام جملة من الأصحاب، وإنه غير محرر، فإن جملة من كلماتهم
تقضي بأن محل البحث ايقاع عقد المسابقة، وجملة منها تقتضي بحرمة مطلق المغالبة
بغير الثلاثة، وإن لم يكن على أنه عقد مسابقة، لأنها لهو ولعب وقمار، إلا أن التحقيق
ما عرفت.
الفصل (الثالث: في عقد المسابقة والرماية)
(وهو يفتقر) مضافا إلى ما يعتبر في غيره من العقود من البلوغ والعقل و
نحوهما (إلى ايجاب وقبول) كغيره من العقود بالنسبة إلى ذلك، وإلى جميع ما
يعتبر في اللازم منها، بناء على أنه منها من العربية والمقارنة ونحو ذلك.
نعم الظاهر جريان المعاطاة فيه كغيره، بناء على عموم مشروعيتها.

(1) المستدرك ج 2 ص 517.
(2) المغني لابن قدامة ج 11 ص 127.
221

(وقيل:) والقائل الشيخ فيما حكي عنه والفاضل في محكي مختلفة (هي
جعالة فلا تفتقر إلى قبول، ويكفي البذل) كما يكفي فيها قول من رد عبدي فله درهم
ونحوه، (وعلى الأول: فهو لازم كالإجارة) لعموم (1) " أوفوا " (2) و " المؤمنون " والأصل
(وعلى الثاني: هو جائز، شرع فيه أو لم يشرع) كالجعالة وإن كان التحقيق خروجه
عنهما معا، ضرورة انتفاء جملة من خواص كل منهما فيه، منها - العوض، فإن الظاهر
عدم اعتباره فيه، لاطلاق الأدلة وعمومها، بل قد وقع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدونه.
قال الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم) في خبر طلحة بن زيد (3) " أغار المشركون على سرح المدينة،
فنادى فيها مناديا سوء صباحاه فسمعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فركب فرسه في طلب العدو
وكان أول أصحابه ولحقه أبو قتادة على فرس له، وكان تحت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سرج
دفتاه من ليف ليس فيه أشر وبطر، فطلب العدو فلم يلقوا أحدا، وتتابعت الخيل.
قال: أبو قتادة: يا رسول الله إن العدو قد انصرف، فإن رأيت أن نستبق فقال: نعم
فاستبقوا فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سابقا ثم أقبل عليهم فقال: أنا ابن العواتك من
قريش إنه لهو الجواد البحر " ومنها عدم معلومية السابق، ومنها عدم رجوع العمل
للجاعل إلى غير ذلك مما يظهر بأدنى تأمل، على وجه يقطع بخروج هذا العقد
عنهما، وكونه عقدا برأسه، وثاني الشهيدين وإن ذكر ذلك هنا احتمالا لكنه جزم
بعد ذلك بخروجه عنهما، كالمحقق الثاني وعليه فرع جملة من الأحكام الخارجة عنهما
محتجا عليه بأنه عقد برأسه، بل لعل الأصحاب أجمع كذلك، وإن وقع من بعضهم
كونه إجارة أو جعالة، إلا أن مرادهم كالأول في اللزوم، والاحتياج إلى القبول، و
كالثاني في الجواز، وعدم الاحتياج إلى القبول العقدي، لا أن المراد كونه فردا
منهما، ولذا جعلوا له كتابا مستقلا على نحو غيره من العقود، وأثبتوا له أحكاما لا
توافق شيئا من العقدين كما هو واضح.

(1) سورة المائدة الآية - 1.
(2) الوسائل الباب - 20 - من أبواب المهور الحديث - 4.
(3) الوسائل الباب - 1 - من أبواب أحكام السبق والرماية الحديث - 2.
222

وعلى كل حال فالدليل على عقديته ذكر الأصحاب له في نظمها، بل ظاهر
المصنف في النافع، والفاضل في المختلف بل وغيرهما المفروغية من ذلك، وأن التردد
إنما هو في اللزوم والجواز، وإن كان ظاهره هنا تفريع لزومه وجوازه على عقديته و
عدمه، لكنه في غير محله، ضرورة كون كل منهما أعم من ذلك.
كما أن التردد في الجواز واللزوم بعد فرض عقديته في غير محله، ضرورة أن الأصل
في العقد اللزوم، لعموم " أوفوا " (1) والاستصحاب الذي مقتضاه ذلك أيضا، وإن لم نقل
بعقديته، وما في المختلف " من أن المراد من الأمر بالوفاء بالعقد العمل على مقتضاه
إن كان جائزا، وليس المراد مطلق العقود، وإلا لوجب الوفاء بالجايزة " واضح الفساد
ضرورة ظهور الأمر بالوفاء بالشئ التزامه والعمل به، لا العمل بمقتضاه من جواز أو لزوم
ومن هنا كان طريقة الأصحاب حتى هو الاستدلال بها على اللزوم، وإلا كان دورا واضحا
وخروج العقود الجائزة منها للأدلة، لا ينافي بقاء حجيتها في الباقي.
وبذلك كله ظهر لك أنه لا اشكال في اللزوم على تقدير عقديته الذي قد عرفت
ثبوتها من التسالم المزبور، بل ومن أن ثبوت العوض في ذمة المسبوق، مع فرض كون
الايجاب من السابق من الأمور التي لا تثبت إلا بالعقود، المعلوم كون موردها نحو ذلك
بخلاف موارد الانشاء، على أنه على فرض الشك في كونه عقدا أو غيره، فالأصل عدم ترتب
الأثر بالايجاب خاصة، ولا ينافيه اطلاق المسابقة بعد فرض الشك فيها، وفي الرياض
بعد الفراغ من عقديته قال: " وحينئذ الأجود الاستدلال على اعتبار القبول أن يقال
إن الوجه فيه ظاهر على القول باللزوم، وكذا على القول بالجواز، بناء على أن لزوم
العوض المبذول بعد العمل للسابق على المسبوق لا يتأتى إلا على اعتبار قبوله، إن
لولاه لأمكنه الامتناع من بذله بعد العمل، مدعيا عدم رضاه بالايجاب، ولعله خلاف
الاجماع، بل العوض لازم عليه بهذا العمل كالجعالة بلا خلاف، ولا يتم ذلك إلا با؟
لكن هذا إنما يجري لو كان السابق هو الموجب، ولو انعكس امكان عدم الاحتياج إلى
القبول كالجعالة، إلا أنه يمكن التعميم بعدم القول بالفصل فتأمل ".

(1) سورة المائدة الآية - 1.
223

وفيه: أولا: أنه لا حاجة إلى هذا الاستدلال، بعد فرض معلومية كونه عقدا، لما
هو معلوم من أنه المركب من الايجاب والقبول، سواء كان جائزا أو لازما.
وثانيا: أن المراد اعتبار القبول العقدي، واللزوم بعد العمل يمكن أن يكون
لحصول الرضا، وإن لم يكن على جهة القبول العقدي كالجعالة:
كما أن ما فيه أيضا - بعد تسليم اللزوم في هذا العقد، بمعنى عدم جواز
الامتناع من بذل العوض بعد تمام العمل لما في ذلك من الضرر على السابق بتضييع
عمله المحترم الذي لم يقع إلا برضاه، بدفع العوض عنه " من منع اللزوم بمعنى وجوب
العمل عليه ابتداء، وعدم جواز الفسخ قبله أو بعده قبل التمام، للأصل، ولأنه إنما
التزم فيه ببذل العوض بعد حصول السبق، إذ لا معنى لقوله من سبق فله كذا غير ذلك
وهو غير الالتزام بنفس العمل في العوض في بدو الأمر بل حالها حينئذ كالجعالة،
فلكل منهما فسخها ابتداء، أو في الأثناء، ولكن يجب على المسبوق منهما للسابق
بذل العوض الذي عيناه - ".
لا يخلو من نظر أيضا، ضرورة عدم الدليل على أن كيفية العقد ما ذكره، بل لعل
الظاهر خلافه، وأن ذلك يذكر بعد انشائهما الالتزام بالمسابقة والمراماة الذي
مقتضاه وجوب فعل ذلك منهما كما هو مقتضى العقود اللازمة، وكأنه لا خلاف فيه، قال
الفاضل في القواعد وعلى اللزوم يجب البدء بالعمل، لا بتسليم السبق، وفي جامع
المقاصد في شرح ذلك: " الظاهر أنه لا خلاف فيه ".
بل لا يخفى على من تأمل غير ذلك من كلماتهم خصوصا القواعد والتذكرة وجامع
المقاصد أنه لا اشكال على اللزوم في وجوب العمل، وعدم جواز الفسخ، بل يظهر من
القواعد وغيرها التوقف في الفسخ على الجواز في بعض الصور، قال فيها بعد أن
استقرب الجواز - فلكل منهما فسخه قبل الشروع، ويبطل بموت الرامي والفرس ولو مات
الفارس فللوارث الاتمام على اشكال، إلى أن قال: وإن كان بعد الشروع وظهور
الفضل، مثل أن يسبق بفرسه في بعض المسافة أو يصيب بسهام أكثر، فللفاضل الفسخ
لا المفضول على اشكال، بل في جامع المقاصد " إن الأصح عدم الجواز " وهو مقرب -
224

التذكرة، لأن ذلك يؤدي إلى سد باب المسابقة، إذ متى ظهرت أمارات الغلبة
لأحدهما فسخ الآخر، وإن كان هو كما ترى بعد استصحاب بقاء الجواز.
نعم ربما كان ذلك مؤيدا للقول باللزوم من الأصل، ثم لا يخفى عليك ما في قوله
للوارث الاتمام، إذ لا ريب في الانفساخ على اللزوم، فضلا عن الجواز، ضرورة كون المغالبة
وقعت بين الشخصين، لا ورثتهما فهو كالمستأجر المشترط عليه المباشرة.
ودعوى - أن المراد بالمسابقة امتحان الفرس، لا الفارس، وبذلك افترق عن
المراماة وانفسخت بموت الفرس - واضحة المنع كوضوح فساد أصل الحكم، خصوصا بعد
ملاحظة قصور الوارث عن ذلك، لكونه طفلا أو أنثى أو نحو ذلك، ودعوى استنابة غيرهم
في ذلك كما ترى، وبذلك كله بان لك بحمد الله تعالى الحال في جميع أطراف المسألة
(و) كيف كان فلا خلاف ولا اشكال في أنه (يصح أن يكون العوض عينا أو
دينا) على حسب غيره من المعاملات لاطلاق الأدلة وعمومها، وخصوص ما وقع من
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) من بذل النخلات والأواقي من الضفة. نعم ستعرف فيما يأتي أنه يعتبر في
ملكه - العمل على وجه يكون جزء السبب، فلا يصح ضمانه لو كان دينا قبله ولا الرهن
عليه - أولا يعتبر ذلك، وإنما هو شرط كاشف والسبب العقد، وإن أطلق في المسالك
هنا ضمانه والرهن عليه والأمر سهل.
(وإذا بذل السبق غير المتسابقين صح اجماعا) من المسلمين - إذا كان
الإمام ومطلقا - من المؤمنين، خلافا لبعض العامة فخص جوازه بالإمام، لأن له النظر
في الجهاد، وضعفه واضح، إذ هو ومقدماته مرغب فيه مطلقا.
(وإذا بذله أحدهما أو هما صح عندنا، ولو لم يدخل بينهما محلل) خلافا
لبعض العامة - أيضا، فلم يجوزه من أحدهما خاصة، معللا له بأنه قمار، وهو
كالاجتهاد في مقابلة النص الذي منه الاطلاق والعموم ولابن الجنيد فلم يجوزه منهما
من دون دخول محلل، لخبر عامي لا يصلح لمعارضة اطلاق الأدلة وعمومها.
(ولو بذله الإمام من بيت المال جاز) بلا خلاف ولا اشكال (لأن فيه

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب أحكام السبق والرماية
225

مصلحة) للاسلام والمسلمين، وهي مصرفه (ولو جعلا السبق للمحلل بإنفراده)
إذا سبق (جاز أيضا) لاطلاق الأدلة وعمومها، فلا يستحق أحدهم شيئا إذا سبق
بل يكون السبق لباذله، لعدم حصول السبق ممن بذل له، وكذا لو سبق أحدهما و
المحلل إذا كان الشرط سبق المحلل لهما نعم لو كان الشرط سبقه ولو لأحدهما
استحق حينئذ.
(وكذا) يجوز (لو قيل: من سبق منا) أي الثلاثة (فله السبق، عملا باطلاق
الإذن في الرهان) المقتضية جواز ذلك وغيره، ويرجع في معناه إلى العرف كما
تسمع في نظائره.
(و) كيف كان ف‍ (تفتقر المسابقة إلى شروط خمسة: الأول تقدير المسافة
ابتداء وانتهاء) للغرر، ولأنه مع عدم تعيين الغاية قد يديمان السير فتهلك الدابة
ولأن من الخيل ما يقوى سيره في ابتداء المسافة، ثم يأخذ بالضعف، وهو عتاق الخيل
ومنها بالعكس، وهو هجانها، وصاحب الأول يريد قصر المسافة والآخر يريد طولها،
فيؤدي عدم التعيين حينئذ إلى النزاع المعلوم من الشارع إرادة حسمه، فعلى هذا
لا يجوز استباقهما، بل وبدون غاية لمعرفة أيهما يقف.
(والثاني: تقدير الخطر) بعد معرفة جنسه، للغرر في المجهول، وإثارة
النزاع. نعم قد يجئ على القول بأنها جعالة جواز جهالته في بعض الوجوه، كما أنه
لا اشكال في اعتبار معلوميته بناء على أنها إجارة، وإن كان التحقيق خلافهما، وأنها
عقد مستقل يشارك كلا منهما في بعض الأمور، وينفرد عنهما بأمور أخر.
و (الثالث: تعيين ما يسابق عليه) بالمشاهدة، لأن المقصود امتحان الفرس
وذلك يقتضي تعينه، بل لا يكفي الوصف حينئذ، وإن كفى في السلم الذي يراد به
الكلي لا الشخصي.
و (الرابع تساوي ما به السابق في) أصل (احتمال السبق) وإن رجح
في أحدهما (فلو كان أحدهما ضعيفا تيقن قصوره عن الآخر لم يجز) لعدم الاستعلام
فيه حينئذ.
226

لكن لا يخفى عليك المناقشة في دليل كثير منها، أو جميعها كما تسمعه في الشرائط
الآتية، اللهم إلا أن يكون إجماعا كما عساه يظهر من نفي الخلاف من بعضهم، وإن
كان هو كما ترى.
(الخامس أن يجعل السبق لأحدهما أو للمحلل فلو جعل لغيرهما لم يجز)
بلا خلاف للأصل بعد الشك في تناول اطلاق الأدلة له ولما قيل: من أنه مفوت للغرض
من عقد المسابقة وهو التحريص في طلب الغلبة وبذل الجهد في الفروسية ونحوها، وإن
كان لا يخلو من مناقشة.
نعم لو جعل للمسبوق فات الغرض، بسبب اقتضاء ذلك حرص كل واحد منهما
على كونه مسبوقا، فيفوت الغرض.
بل في المسالك " وكذا لا يجوز جعل القسط الأوفر للمسبوق، ويجوز العكس لحصول
الغرض في الجملة بالنسبة إلى الزيادة، كما يجوز جعلها خاصة عوضا ".
ولكن قد يناقش بالشك في تناول اطلاق الأدلة له إن لم يكن ظاهرها خلافه، و
الأصل الفساد.
وزاد في محكي التذكرة سادسا: وهو تساوي الدابتين جنسا، فلا يجوز المسابقة
بين الخيل والبغال مثلا لأنه مناف للغرض من استعلام قوة الفرس بالسباق مع جنسها
ومرجعه إلى الأصل السابق بعد فرض الشك في تناول الاطلاق له، بل يمكن استفادته
أيضا من المتن.
نعم يمكن منع الشك المزبور مع حصول احتمال سبق كل منهما، أما لو تساويا جنسا
لا صنفا كالعربي والبرذون والبختي والعربي، فالأقوى الجواز مع فرض تحقق الاحتمال
المزبور، لتناول الاطلاق.
وسابعا: وهو ارسال الدابتين دفعة، لمنافاة الغرض مع عدمه إذ ربما كان
السبق مستندا إلى ارسال أحدهما أولا.
وفيه: أنه يتبع الشرط ولذا لا يشترط التساوي في الموقف، كما ستعرف، نعم
يعتبر معرفة مقدار ذلك مع فرض الاشتراط تخلصا عن الجهالة المفضية إلى التنازع
227

مع احتمال الاكتفاء في تحقق السبق من أحدهما.
وثامنا: وهو أن يستبقا على الدابتين في الركوب، فلو عقدا على إرسال الدواب
بنفسها كان باطلا.
وفيه: أنه خروج عن موضوع السبق لا أنه من شروطه.
وتاسعا: وهو أن يجعلا المسافة بحيث يحتمل الفرسان قطعها ولا ينقطعان
دونها، فلو كانت بحيث لا ينتهيان إلى غايتها إلا بانقطاع أو تعب شديد بطل العقد
وعاشرا: وهو أن يكون مورد العقد ممن يستعد للقتال فلا يجوز السبق والرمي
للنساء لأنهن لسن من أهل الحرب.
وفيه: منع، خصوصا في مثل الصبيان بعد العقد من أوليائهم.
والحادي عشر: العقد المشتمل على أركانه المعتبرة فيه، وفيه أن نحو ذلك
ليس من الشرايط، على أن الظاهر الاكتفاء فيه بالمعاطاة، وقد تقدم في كلام المصنف
ما يدل عليه.
والثاني عشر: عدم تضمن العقد شرطا فاسدا، فلو قال: إن سبقتني فلك هذه
العشرة، ولا أرمى بعد هذا أبدا، أو لا أناضلك إلى شهر بطل، لأنه شرط ترك قربة
مرغب فيها، ففسد وأفسد.
وفيه أولا: أنه ليس من الشرايط.
وثانيا: منع عدم صحته وبذلك كله ظهر لك الحال في أكثر هذه الشرايط،
وأنه لا دليل عليها بالخصوص، وكان كثيرا منها موافق لمذاق العامة، والتحقيق ما
عرفت من صحة ما يفهم من الأدلة منها، وما يشك في شرعية العقد الفاقد لها منها،
لأن الأصل الفساد، وإلا فإطلاق الأدلة ينفيه، هذا.
وفي القواعد وليس لأحدهما أن يجنب إلى فرسه فرسا آخر يحرصه على العدو، ولا يصيح
به في وقت سباقه ولعله للنبوي المرسل (1) " لا جلب ولا جنب " لكن عن نهاية ابن الأثير
الجلب هو أن يتبع الرجل فرسه فيزجره، ويجلب عليه ويصيح حثالة على الجرى، و

(1) جامع الصغير للسيوطي ج 2 ص 202.
228

الجنب بالتحريك أن يجنب فرسا إلى فرسه الذي يسابق عليه، فإذا فتر المركوب تحول
إلى المجنوب فنهوا عنهما، وهو غير ما في القواعد، بل قد يتوقف في أصل الحكم، لعدم
ثبوت دليله، بل لعل اطلاق الدليل يقتضي خلافه، خصوصا مع التصريح باشتراط نحو
ذلك منهما والله العالم.
(و) على كل حال ف‍ (هل يشترط التساوي في الموقف؟ قيل: نعم) لفوات
الغرض الذي هو معرفته الفرس والفارس (والأظهر) أنه (لا) يشترط بعد فرض
احتمال السبق، (لأنه مبني على التراضي) فيشمله اطلاق الأدلة (1) و " المؤمنون عند
شروطهم " وإلى هذا يرجع الشرط السابع كما أومأنا إليه سابقا، هذا كله في السبق.
(وأما الرمي فيفتقر إلى العلم بأمور ستة) والبحث فيها نحو ما عرفته في السبق
الأول: (الرشق) بكسر الراء الذي قد عرفت أنه عدد الرمي، إذا لو لم يعين
أمكن أن يطلب المسبوق تعدد الرمي حتى تحصل الإصابة، ويمتنع الآخر، فيفضي إلى
التنازع المعلوم من حكمة الشارع خلافه.
ولكن قد تقدم لنا في المبادرة ما يستفاد منه عدم اشتراط ذلك، مع فرض كون الشرط
الإصابة مع التساوي في الرمي، فمع فرض حصولها من أحدهما في المرتين أو الثلاث فهو
ناضل للآخر.
(و) الثاني: (عدد الإصابة) كخمس من عشرين رمية، لأن الاستحقاق و
بيان حذق الرامي بها، فلو عقدا على أن يكون الناضل منهما أكثرهما إصابة من غير
بيان العدد لم يصح، كما لو جعل السبق على الخيل، لا إلى غاية، وظاهر المسالك
الاجماع عليه، فإن تم كان هو الحجة، وإلا فإطلاق الأدلة يقتضي الجواز مع فرض
ضبط عدد الرمي، بل لعل ذلك قسم من المحاطة، قيل: وأكثر ما يجوز اشتراطه من
الإصابة ما نقص عن عدد الرمي المشروط بشئ وإن قل، ليكون تلافيا للخطأ الذي يتعذر
أن يسلم منه المتناضلون، وأحذق رماة من أصاب تسعة من عشرة، فلو شرطاها كذلك
جاز، لبقاء سهم الخطأ، وربما قيل: بعدمه لندوره، وأقل ما يشترط من الإصابة ما

(1) الوسائل الباب - 20 - من أبواب المهور الحديث - 2.
229

يحصل به التفاضل، وهو ما زاد على الواحد.
وفيه: أن الاطلاق يقتضي جواز اشتراطها في جميع العدد المشروط أيضا.
(و) الثالث: (صفتها) من خزق أو خرق وغيرهما من الصفات للغرر مع
عدمه.
وفيه: أن الاطلاق يقتضي جواز اشتراط مطلق الإصابة التي هي قدر مشترك
بين الجميع.
نعم لو أرادا معينا اعتبر ذكره، ولعله على هذا يحمل الشرط المزبور، إذ ذاك
هو أيضا بمنزلة التعيين، لأنه يسمى القارع المصيب للغرض كيف كان، ويسمى الخاصر
بل والخارق على بعض معانيه السابقة.
(و) الرابع معرفة (قدر المسافة) التي يرميان منها بالمشاهدة، أو ذكر
المساحة، إلا أن يكون عادة ينصرف إليها الاطلاق فتكفي حينئذ عن ذلك.
نعم يعتبر فيها احتمال الإصابة ولو نادرا على الأقوى، فلو عينا مسافة يعلم
عدم إصابتهما أو أحدهما فيها لم يصح.
(و) الخامس: (الغرض) الذي هو المقصود بالإصابة، فلا بد من العلم
بموضعه من الهدف ارتفاعا، وانخفاضا، وقدره بالنسبة إلى الضيق والسعة، ولعل
مشاهدته تكفي عن ذلك.
(و) السادس: (السبق) حذرا من الغرر والجهالة المفضية إلى النزاع
المعلوم من الشارع إرادة رفعه، لا ثبوته، لكن الظاهر عدم اعتباره في الصحة.
نعم حيث يشترط يجب معرفته بما يرتفع معه النزاع ولا دليل على اعتبار أزيد
من ذلك.
(و) كذا يفتقر الرمي إلى العلم ب‍ (تماثل جنس الآلة) من كون القوس
مثلا عربيا أو فارسيا، لاختلاف الرمي باختلاف ذلك، فهو حينئذ بمنزلة تماثل حيوان
السبق، وإنما فصله عن الشرايط السابقة، لأنه إنما يفتقر إليه في العقد لا مما يجب أن
يعلم بخلافها، لكن قد عرفت فيما مضى عدم الدليل على اشتراط نحو ذلك، مع احتمال
230

الإصابة، بل اطلاق الأدلة يقتضي خلافه، ولذلك قيل هنا لا يشترط التعيين، ولا
يضر اختلاف النوع، ويجوز اطلاق العقد، مجردا عنه، وإنما يتم مع اشتراطه.
ثم إن كان هناك عرف تعين حمل الاطلاق عليه، وإلا كان لهما الخيار فيما
يتفقان عليه، وفي المسالك " هذا هو الأقوى " وحيث يشترط التعيين أو يشترطانه
لا يجوز لأحدهما العدول عن المشترط، لعموم " المؤمنون " إلا برضا صاحبه فيجوز
حينئذ، لأن له اسقاط حقه.
(وفي اشتراط) تعيين أحد القسمين أي (المبادرة والمحاطة) في عقد
الرماية (تردد) بل وخلاف ولكن (الظاهر أنه لا يشترط) لانصراف اطلاق العقد
إلى المحاطة على الأشهر، كما قيل: إذ اشترطا السبق إنما يكون لإصابة معينة من
أصل العدد المشترط في العقد، وذلك يقتضي اكمال العدد كله، ليكون الإصابة
المعينة منه، فإنهما إذا عقدا على أن من أصاب خمسة من عشرين كان له كذا،
فمقتضاه رمى كل منهما العشرين، وإلا لم يتحقق كون الخمسة التي حصلت الإصابة
بها من العشرين، وذلك هو معنى المحاطة إذ المراد بها خلو إصابة الخمسة من
رمى العشرين لواحد، ولأنها أجود فائدة في الرمي باعتبار اكمال العدد غالبا.
وقيل: يحمل على المبادرة لأنها الغالب في المناضلة ولأن المتبادر من اشتراط
السبق لمن أصاب عددا معينا استحقاقه إياه متى ثبت له ذلك الوصف.
وعلى كل حال لا وجه للاشتراط بعد فرض الانصراف المزبور، نعم لو فرض عدم
انصراف الاطلاق اتجه الاشتراط حينئذ للغرر، وتفاوت الأغراض والرماة، فإن منهم من
يكثر في الابتداء ويقل في الانتهاء، وبالعكس وعن الفاضل في التذكرة اختياره واستجوده
في المسالك، والأقوى الأول.
(وكذا لا يشترط تعيين) شخص (القوس والسهم) لاطلاق الأدلة بل قيل:
لو عينه لم يتعين، وعن التذكرة بل يفسد العقد بذلك، كما في كل شرط فاسد، وإن
كان هو كما ترى، ضرورة عدم كونه من الشرط المخالف، فالأقوى لزومه مع الاشتراط، و
إن كان اشتراطه غير معتبر في صحة العقد، لعموم " المؤمنون " ولامكان تعلق الغرض
231

بذلك، وعدم اعتباره في الصحة لا يقتضي فساده كما هو واضح.
الفصل (الخامس: في أحكام النضال)
الشامل للسبق على ما عرفته سابقا (وفيه مسائل: الأولى: إذا قال أجنبي
لخمسة) مثلا (من سبق فله خمسة فتساووا في بلوغ الغاية، فلا شئ لأحدهم)
بلا خلاف ولا اشكال (لأنه لا سبق) لأحدهم كما لا خلاف (و) لا اشكال في أنه
(لو سبق أحدهم كانت الخمسة له) لتحقق الوصف فيه دون غيره، (و) أما (إن
سبق اثنان منهم) ففي المتن وعن جماعة (كانت) الخمسة (لهما) بالنصف
(دون الباقين وكذا لو سبق ثلاثة أو أربعة) بالثلث أو الربع موزعة على الرؤس،
لظهور كون المراد بذل الخمسة لا غير لمن حصل له الوصف المزبور متحدا أو متعددا،
خصوصا مع تشخصها، بل مع فرض منع الظهور بلا اشكال في الاحتمال والأصل براءة
الذمة من وجوب دفع الزايد، فيقتسمها السابقون.
وقيل: يستحق كل واحد منهم خمسة، واختاره في جامع المقاصد، وتبعه في
المسالك، لأن (من) للعموم الذي هو بمعنى كل فرد، بل الحكم في جميع القضايا
الكلية كذلك، على أن لفظ (من) مفرد، بدليل عود الضمير إليها كذلك فهي بمعنى
أي فرد، ولأن العوض في مقابل السبق وقد وقع ومن كل واحد، فيستحق كل منهم كمال
العوض وقد صرح المصنف والفاضل في كتاب الجعالة باستحقاق كل واحد الدرهم
في نحو قوله من دخل داري فله درهم فدخلها جماعة لأن كل واحد منهم قد دخل
دخولا كاملا، ولا يقدح في ذلك عدم معرفة العوض حينئذ لعدم معرفة السابقين، لأن
المعتبر العلم بأصل القدر في الجملة ولذا جاز من سبق فله كذا، ومن صلى فله كذا.
وقد يناقش بأن مقتضى عموم الأفراد الذي هو بمعنى، لكل واحد سابق، عدم
استحقاق واحد منهم شيئا مع التعدد، ضرورة عدم صدق الواحد السابق على الجميع
عليه، وقد اتفق القولان على عدمه، فليس المراد حينئذ إلا العموم في (من) باعتبار
الصلة الذي هو بمعنى كل سابق، الشامل للمتحد والمتعدد، إما لدعوى ظهوره في
ذلك، أو لأنه كذلك بعد انتفاء الأول، وهذا لا يتم إلا بملاحظة كون السابق المجموع
232

ضرورة كونه هو الذي تحقق فيه السبق المطلق بخلاف كل فرد، فإنما المتحقق فيه
مطلق السبق الشامل للإضافي الذي تحقق صدق السبق معه ليس بأولى من صدق
عدمه، بخلاف المجموع، فإنه يصدق اسم السبق المطلق عليه، ولا يصح عدم صدق -
السبق عليه، وبذلك افترق ما نحن فيه عن نحو من دخل داري، وكان نحو من رد عبدي
وقد اشترك في رده جماعة، وصح كلام الشيخ والمصنف والفاضل فتأمل جيدا فإنه
دقيق نافع.
(و) منه يظهر لك الوجه فيما ذكره المصنف فيما (لو قال: من سبق فله
درهمان ومن صلى فله درهم) حيث قال: (فلو سبق واحد أو اثنان، أو أربعة فلهم
الدرهمان ولو سبق واحد، وصلى ثلاثة وتأخر واحد كان للسابق درهمان، وللثلاثة
درهم، ولا شئ للمتأخر) ولو سبق ثلاثة مثلا وصلى واحد وتأخر واحد كان الدرهمان
للثلاثة وللمصلي درهم، ولا شئ للمتأخر، إذ ذلك كله مبني على ما عرفت، وحينئذ
يكون للمصلي أكثر من السابق في الفرض الأخير.
ومن هنا قال في المسالك تبعا لجامع المقاصد: " هو خلاف الأمر المعتبر في
العقد، فإنه يشترط فيه أن يجعل للسابق أزيد مما يجعل للمصلي، فلو ساوى بينهما
لم يصح، فما زاد أولى " ومن ثم احتمل البطلان هنا لفوات الغرض ثم قال: ورد بأن
استحقاق الزيادة باعتبار التفرد بالوصف، لا باعتبار جعل الفاضل للمتأخر، وفيه نظر
لمنافاة الغرض المقصود على التقديرين وعلى ما اخترناه من استحقاق كل واحد من
السابقين القدر المعين حينئذ يرتفع الاشكال، لأنه لا يتحقق معه مساواة المصلي
للسابق فضلا عن رجحانه عليه ".
قلت: قد عرفت سابقا ما في أصل اشتراط زيادة السابق، على أنه بناء على ما
ذكرنا لا اشكال أيضا، إذ هو المجموع لا كل واحد فهو أكثر من المصلي.
المسألة (الثانية: لو كان ا) لمتراهنان (اثنين) مثلا (وأخرج كل واحد
منهما سبقا وأدخلا محللا، وقالا: أي الثلاثة سبق فله السبقان، فإن سبق أحد
المستبقين كان السبقان له) بلا خلاف ولا اشكال (على ما اخترناه) من جواز
233

جميع صور بذل السبق.
(وكذا لو سبق المحلل) لحصول الوصف فيه (ولو سبق المستبقان كان لكل
واحد منهما مال نفسه، ولا شئ للمحلل) لكن قد يشكل بأنه بناء على ما ذكرناه سابقا
يشتركان في المالين، لا أنه يكون لكل واحد منهما مال نفسه، وقد يدفع بأن المعهود من
عوض السبق إذا كان من المتسابقين أن يبذله المسبوق إذا سبق ولم يسبق في الفرض
أحدهما، فلا وجه لأخذ العوض منه مع كونه سابقا.
(و) كذا الحال فيما (لو سبق أحدهما والمحلل، كان للسابق مال نفسه)
لأنه لم يسبقه أحد، (ونصف مال المسبوق، ونصفه الآخر للمحلل) لاشتراكهما في
صفة السبق له، لكن قد يشكل بعدم تناول مفروض العبارة لسبق ما زاد على الواحد
فيتجه حينئذ عدم استحقاق شئ للمركب، اللهم إلا أن يقال: بصدق سبق الواحد
منهم ولو شاركه غيره، أو يقال: إن المراد أي الثلاثة ولو المركب فتأمل.
(ولو سبق أحدهما وصلى المحلل كان الكل للسابق عملا بالشرط) خلافا
لما عن بعض العامة من كون مال المسبوق الآخر للمحلل الذي هو سابق عليه وإنما
يحرز السابق مال نفسه، وهو غلط واضح.
(وكذا لو سبق أحد المستبقين، وتأخر الآخر والمحلل، وكذا لو سبق أحدهما
وصلى الآخر وتأخر المحلل) خلافا لما عن ذلك البعض من العامة فللسابق سبق
نفسه، وللمسبوق الثاني سبق نفسه أيضا، لأنه سابق المحلل ولا شئ للمحلل، ولو
تساووا جميعا في الوصول إلى الغاية أحرز كل منهما مال نفسه ولا شئ للمحلل، و
ذلك كله واضح.
المسألة (الثالثة: إذا شرطا المبادرة، والرشق عشرين، والإصابة خمسة)
مثلا (فرمى كل واحد منهما عشرة، فأصاب) كل واحد (خمسة، فقد تساويا في الإصابة
والرمي فلا يجب اكمال الرشق، لأنه يخرج عن المبادرة) التي قد عرفت أنها اشتراط
العوض، لمن بدر إلى إصابة عدد معين، من مقدار رشق معين، مع تساويهما فيه، أو
أعم من ذلك، وحينئذ فإذا رميا رشقا وتساويا في إصابته لم يتحقق السبق، ولو وجب
234

الاكمال لرجاء السبق في الباقي، خرج عن موضوع المبادرة إلى المحاطة، وهو خلاف
المفروض.
(و) كذا لا يجب الاكمال فيما (لو رمى كل واحد منهما عشرة فأصاب أحدهما
خمسة، والآخر أربعة، فقد نضله صاحب الخمسة و) حينئذ ف‍ (لو سأل) صاحب
الأربعة (اكمال الرشق لم يجب) لحصول المبادرة، وإلا خرج عن موضوعها.
(أما لو شرطا المحاطة، فرمى كل واحد منهما عشرة، وأصاب خمسة، تحاطا
خمسة بخمسة، وأكملا الرشق) رجاء لحصول السبق، لأن مقتضى المحاطة ذلك على
ما عرفت من تعريفها.
(و) كذا (لو أصاب أحدهما من العشرة تسعة وأصاب الآخر خمسة تحاطا
خمسة بخمسة، وأكملا الرشق) رجاء لحصول السبق فيما بقي (ولو تحاطا، فباد
أحدهما إلى اكمال العدد) الذي اشترط الإصابة فيه (فإن كان مع انتهاء الرشق)
منهما (فقد نضل صاحبه) لحصول الفراغ من العقد (وإن كان قبل انتهائه،
فأراد صاحب الأقل اكمال الرشق نظر، فإن كان له في ذلك فائدة، مثل أن يرجو
أن يرجح عليه) كما لو رمى كل منهما عشرة، فأصابها أحدهما وأصاب الآخر منها خمسة
فإن صاحب الأقل يرجو إصابة العشرة أجمع، وخطأ صاحبه له، فينضله حينئذ ويكون
الخطر له، لأنه بعد التحاط يحصل له إصابة الخمسة المفروض اشتراطها في عدد
العشرين (أو يساويه) كما لو فرض في المثال خطأ أحدهما للعشرة، فإنه يرجو بالاكمال
إصابة العشرة الباقية، وخطاء الآخر له، فيساويه ويتحاطان ولا يستحق أحدهما على
الآخر شيئا (أو يمنعه أن ينفرد بالإصابة، بأن يقصر بعد المحاطة عن عدد الإصابة)
كما لو فرض إصابة الاثنين من العشرة التي أصابها أجمع صاحبه، فيرجو بالاكمال إصابة
العشرة الباقية له، وخطأ الآخر فيتحاطان عشرة بعشرة ويبقى اثنان له ولا يستحق
أحدهما على الآخر شيئا فمتى كان كذلك (أجبر صاحب الأكثر) على الاكمال (و
إن لم يكن له فائدة) لأنه مغلوب على كل حال (لم يجبر) صاحب الأكثر على
الاكمال (كما إذا رمى أحدهما خمسة عشر فأصابها ورمى الآخر فأصاب منها خمسة،
235

فيتحاطان خمسة بخمسة) ويبقى لأحدهما عشرة (فإذا أكملا فأبلغ ما) يفرض أنه
(يصيب‍) ها (صاحب الخمسة ما تخلف وهي خمسة ويخطئها صاحب الأكثر،
فيجتمع لصاحب الخمسة) حينئذ (عشرة فيتحاطان عشرة بعشرة، ويفضل لصاحب
الأكثر خمسة فلا تظهر للاكمال فائدة) وهو واضح كوضوح ما يتصور هنا من نحو ذلك.
المسألة (الرابعة: إذا تم النضال ملك الناضل العوض) بلا خلاف ولا اشكال
لأنه مقتضى العقد المحكوم بصحته شرعا، بل لا يبعد دعوى الكشف هنا، لما عرفته غير
مرة في نظائره، وإن كان هو خلاف ظاهر المتن وغيره، إلا أن سببية العقد المعلومة
من النص والفتوى تقتضي بما ذكرناه، بل لعل التدبر في عبارة المسالك يقضي بذلك
قال " وكان السر في تعليق الملك على تمامية النضال أن العقد وإن كان لازما، إلا
أن الملك لا يعلم لمن هو قبل تمامه، لاحتمال السبق من كل منهما وعدمه، فإذا تحقق
السبق على وجه من الوجوه فقد تم النضال، سواء أكمل الرشق أم لا، وتحقق الملك
للسابق وقبل ذلك لا يحصل بخلاف الإجارة ".
وهو ظاهر فيما قلناه، وبذلك يتوجه صحة ضمانه، وصحة الرهن عليه كما صرح
به في القواعد، وإن قلنا بجواز العقد، وإلا أشكل ذلك، ضرورة أنه بناء على اعتبار
العمل في ثبوته، يكون ضمانه من ضمان ما لم يجب، وإن قلنا بلزومه، إذ هو لا يجدي
في صحتهما مع عدم الثبوت في الذمة وإن كان ظاهر جامع المقاصد ذلك، لكنه في غير
محله، لما عرفت في محله أن التحقيق كون المدار الثبوت في الذمة سواء كان بعقد
جائز أو لازم.
إنما الكلام في توقف ثبوته في الذمة على العمل، ولا ريب في أنه عليه يتوجه ما
عن التذكرة من حكايته الاشكال فيه عن بعض الفقهاء.
بل في جامع المقاصد أن هذا الاشكال واضح بين، ولا مدفع له إلا ما ذكرناه،
ولا يقدح فيه عدم حصول وصف السبق حال العقد، إذ لا مانع من اقتضائه الملك حاله
لمن يتصف بالسبق بعده، بناء على أن السبق شرط كاشف.
(و) على كل حال ف‍ * (له التصرف فيه) بعد تمامية النضال (كيف شاء وله
236

أن يختص به وله أن يطعمه أصحابه) لعموم " الناس مسلطون على أموالهم " (1) وغيره
(ولو شرط في العقد اطعامه لحزبه لم أستبعد صحته) لعموم (2) " أوفوا " و " المؤمنون " (3)
خلافا للمحكي عن الشيخ في أحد قوليه من البطلان للشرط والعقد، لأن عوض العمل
يجب أن يكون للعامل، كالإجارة، فاشتراط خلافه مناف لمقتضاه.
ورده في المسالك بأن الحاقه بالإجارة قياس مع الفارق، لما عرفت أنه ليس على
نهجها مطلقا، بل ولا على نهج المعاوضات لصحة البذل فيه من الأجنبي الذي لم
يصل إليه شئ من العوض الآخر، فإذا دل على صحته دليل عام كما ذكرنا لم يقدح
فيه مخالفته لما أشبهه من العقود مع مغايرته له من وجوه " ونحوه في جامع المقاصد.
قلت: إن كان المراد بالشرط التزام صرف ما هو ملكه بالعقد في مصرف خاص فلا
يقدح في الإجارة فضلا عن غيرها، وإن كان المراد اشتراط ذلك على وجه يكون
المستحق بالعقد غير المتسابقين، فقد تقدم سابقا اعترافه بأن من شرايط صحة العقد
كون العوض ولو من أجنبي لأحد المتسابقين، وأنه لا يجوز لأجنبي، ويمكن أن يكون
المراد اشتراط اطعامه لحزب المسبوق منهما فيما إذا كان عقد المراماة بين حزبين،
كما تسمعه في المسألة السابعة، ووجه البطلان حينئذ أنه رجوع إلى اشتراطه للمسبوق
وقد عرفت جوازه، والصحة للعمومات، وكون الحزب غير المسبوق.
المسألة (الخامسة: إذا فسد عقد السبق) بسبب كون العوض خمرا مثلا أو
مجهولا أو بنحو ذلك مما هو من شرايط صحة العقد (لم يجب بالعمل أجرة المثل)
وفاقا للمحكي عن الشيخ (ويسقط المسمى لا إلى بدل) لظهور فساد العقد الذي
تضمنه، لأنه لم يعمل له شيئا، ولا استوفى منفعة عمله، إذ نفع سبقه راجع إليه بخلاف
الإجارة والجعالة الفاسدتين، والراجع نفع العمل فيهما إلى المستأجر والجاعل.
ولكن في القواعد وجامع المقاصد ومحكي التذكرة أن له أجرة المثل، بل يجب

(1) البحار ج 2 ص 272.
(2) سورة المائدة الآية 1.
(3) الوسائل الباب - 20 - من أبواب المهور الحديث - 4.
237

أجرة مثل عمله، هو مجموع ركضة لا قدر ما سبق به، لأنه سبق بمجموع عمله، لا بذلك
القدر لقاعدة " ما يضمن بصحيحه " ولا ينافيه عدم حصول النفع له، فإن القراض الفاسد
يجب فيه أجرة المثل، وإن لم يحصل نفع بالعمل للمالك.
وأشكله في المسالك بأن الالتزام لم يقع إلا على تقدير العقد الصحيح والأصل
براءة الذمة من وجوب غير ما وقع عليه العقد، والفرق بينه وبين ما تجب به أجرة المثل
من العقود واضح، لا من جهة ما ذكروه من رجوع نفع عمل العامل إلى من يخاطب بالأجرة
حتى يرد عليه مثل العمل الذي لا يعود عليه نفع في القراض، بل لأن تلك العقود
اقتضت أمر العامل بعمل له أجرة في العادة، فإذا فسد العقد المتضمن للعوض
المخصوص، بقي أصل الأمر بالعمل الموجب لأجرة المثل، بخلاف هذا العقد، فإنه
لا يقتضي أمرا بالفعل، فإن قوله سابقتك على معنى أن من سبق منا فله كذا، ونحو
ذلك من الألفاظ الدالة على المراد ليس فيها أمر، ولا ما يقتضيه بفعل له أجرة، و
الأصل براءة الذمة من وجوب غير ما في العقد، وقاعدة " ما يضمن " لا دليل عليها كلية،
بل النزاع واقع في مواردها، فكل ما لا اجماع ولا دليل صالح يدل على ثبوت شئ
فيه، فالأصل يخالف مقتضى القاعدة. نعم لو اتفق وقوع العقد بصيغة تقتضي الأمر بالفعل
وجوزناه اتجه وجوب أجرة المثل، إلا أن هذا خارج عن وضع الصيغة المعهودة وإنما
يتم حيث لا نخصه بعبارة، بل كل لفظ يدل عليه كالجعالة.
وهو من غرائب الكلام ضرورة أنه لا مدخلية للفظ الأمر المقصود به انشاء العقد
في وجوب أجرة المثل، بعد فرض فساد العقد، وإنما المقتضي لها عدم كون العمل
متبرعا به، والأصل ضمانه، لأن عمله كماله، وهو في الجميع حاصل، وإن فرض عدم
اعتبار وصول النفع إليه، على أنه لا فرق عند التأمل في أصل الضمان بين ذلك، وبين
ما ذكره المصنف (و) غيره، بل ظاهرهم عدم الخلاف فيه، من أنه (لو كان السبق
مستحقا وجب على الباذل مثله أو قيمته) ضرورة اشتراك الجميع في فساد العقد من
الأصل، وكون الأخير صالحا للصحة لو أجاز المالك لا يقتضي فرقا في الحكم المزبور.
ومنه يظهر أن المتجه فيها أيضا وجوب أجرة المثل لما عرفت، دون مثل المسمى
238

أو قيمته، لعدم وجوب المسمى حتى يتجه ضمانه بذلك، لأن الفرض الفساد من الأصل،
والقرب من المسمى الثابت لا يقتضي ضمانه، بعد فوات ما يقتضي لزوم المسمى، كما أن
ثبوت نظيره في الصداق على فرض تسليمه لا يقتضي الثبوت هنا بعد حرمة القياس، و
قد اعترف بجملة من ذلك كله في جامع المقاصد والمسالك.
المسألة (السادسة: إذا أفضل أحدهما الآخر في الإصابة، فقال له: اطرح
الفضل بكذا، قيل: لا يجوز، لأن المقصود بالنضال إبانة حذق الرامي وظهور اجتهاده
بحصول الغلبة له، فلو طرح الفضل بعوض أو بغير عوض كان تركا للمقصود بالنضال
فتبطل المعاوضة ويرد ما أخذ) ه منه لذلك، بل في المسالك بعد أن حكاه عن المشهور
لم يذكر كثير منهم فيه خلافا، إلا أنه قد يشعر من نسبة المصنف له إلى القيل بتمريضه
ووجهه في المسالك بأنه جعل على عمل محلل، ومنع كون المقصود بالنضال منحصرا فيما
ذكر، لجواز أن يقصد به كسب المال، فإذا حصل بالسبق أمكن تحصيله بمقدماته،
مضافا إلى أصالة الصحة وعموم الأمر بالوفاء، والكون مع الشرط، ومنافاته للشرع غير
متحققه.
وفي الرياض " أنه أوجه من الأول، إن لم يكن الاجماع على خلافه انعقد " وفيه
ما لا يخفى، إن أريد إدراجه في الجعالة، إذ لا عمل يستحق عليه ذلك، بل وفي الصلح
لعدم ثبوت حق له بذلك على وجه يصح بذل العوض عنه، وكذا إن أريد أنها معاوضة
برأسها كما هو ظاهر المتن، بل لعل ذلك هو مفروض البحث، لا جواز ذلك صلحا أو غيره.
وفيه: أنه لا دليل على مشروعيته، وعموم " أوفوا " إنما هو للعقود المتعارفة، لا نحو
ذلك، خصوصا بعد ما عرفت من شهرة عدم مشروعيتها، وأنه لم يذكر فيه خلاف من غير
فرق بين كون المراد من ذلك اتمام النضال بعد رفع اليد من الفضل، أو رفع اليد عنه
رأسا، بل الثاني أولى بالعدم لأنه من العقود اللازمة.
نعم يشرع فيه التقايل وهو غير المفروض هنا الذي هو طرح الفاضل بالعوض،
كما هو واضح.
المسألة السابعة: يجوز عقد النضال بين حزبين كما يجوز بين اثنين، لاطلاق
239

الأدلة والمرسل عن النبي (1) (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه مر بحزبين من الأنصار يتناضلون، فقال: أنا مع
الحزب الذي فيه ابن الأدرع، والمراد من تناضل الحزبين إيقاع العقد بين الجماعتين
ولو بوكالة كل جماعة واحدا منها، ويكون كل حزب فيما يتفق لهم من الإصابة والخطاء
كالشخص الواحد.
وفي اشتراط تساوي عددهم وجهان، بل قولان: أقواهما العدم، لاطلاق
الأدلة، فيرامي واحد مثلا ثلاثة، بمعنى أنه يرمى ثلاثة، وكل واحد منهم مرة، وهل
يعتبر تعيين كل واحد منهما في مقابلة من يرمى معه أو يكفي نصب رئيس لهما يكون
الاختيار له في تعيين ذلك؟ ولا ريب في أن الأولى الأول، وإن كان يقوى جواز
ذلك أيضا إذا فرض تراضيهم في العقد على ذلك، ولا يعتبر في العاقد عن الحزبين
أن يكون مطاعا فيما بينهم، مقدما عليهم في الرمي، وإن اعتبر ذلك بعض، ولكن
لا دليل معتبر عليه، ولو شرط السبق من الرئيس خاصة أو من أجنبي أو من أحد الحزبين
أو منهما جاز.
نعم يقسط على الحزبين بالسوية غرما وأخذا، إذا لم يشترط التفاوت، واحتمال
التوزيع على قدر الخطأ والإصابة لا دليل عليه، ويشترط قسمة الرشق بين الحزبين بغير
كسر، فيجب عدد له ثلث إذا كانوا ثلاثة، وربع إذا كانوا أربعة، وهكذا، ولو كان في أحد
الحزبين من لم يحسن الرمي بطل العقد فيه، وفي مقابله، وحينئذ يتخير كل من الحزبين
في فسخ العقد، لكونه حينئذ كتبعض الصفقة، وكيفية الغلبة بين الحزبين على حسبما
يشترطونه ويتفقون عليها بينهم، والله العالم. والحمد لله رب العاملين أولا وآخرا و
ظاهرا وباطنا والشكر له على الاكمال.
240

(كتاب الوصايا)
جمع وصية من أوصى يوصي، أو وصى يوصي، قال في الصحاح: " أوصيت له بشئ
وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك، والاسم معا الوصاية بالكسر والفتح، وأوصيته ووصيته
أيضا توصية بمعنى، والاسم الوصاة، إلى أن قال ووصيت الشئ بكذا إذا وصلته به،
وذكر غير واحد من الأصحاب أن الوصية منقولة من وصى يصي بالمعنى الأخير، لما
فيها من وصل القربات الواقعة بعد الموت بالقربات في حال الحياة أو بالعكس أو وصل
التصرف حال الحياة به بعد الوفاة، لكن ذلك كله كما ترى، والأولى نقلها من الوصية
بمعنى مطلق العهد، يقال: أوصاه ووصاه توصية عهد إليه إلى خصوص ما يعهده
الانسان بعد وفاته، بل الوصية بمعنى التمليك ألصق بهذا المعنى من الأول كما
هو واضح، والأمر سهل.
(و) على كل حال ف‍ (النظر في ذلك يستدعي فصولا).
(الأول: في الوصية وهي) إنشاء الموصى (تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة)
وهذه لا اشكال بل لا خلاف في أنها (تفتقر إلى ايجاب وقبول) للاجماع بقسميه
على أنها حينئذ بحكم العقود المتوقفة على ذلك، وأنها بمنزلة الهبة والعطية والصدقة
مضافا إلى أصالة عدم انتقال الملك من الموصي، وعدم دخوله في ملك الموصى له
بدونهما، بل ليس في الشريعة في أسباب الملك ما هو كالايقاع في الحصول من
جانب خاصة.
ودعوى صدق الوصية على الايجاب وحده، على وجه يشمل ما نحن فيه واضحة
المنع، خصوصا بعد ظهور معظم اطلاقات الوصية فيها بمعنى العهد الذي يعهد
241

الموصي فعله بعد وفاته بأمر ونحوه، لا ما يشمل محل البحث، وهي بهذا المعنى ليست
من العقود قطعا بل ضرورة.
ومن ذلك يظهر لك ما في اطلاق كثير من الأصحاب كون الوصية عقدا ثمرته تمليك
العين أو المنفعة بعد الوفاة، اللهم إلا أن يريدوا من ذلك أحد أفراد الوصية، ولعل
الظاهر ذلك، وحينئذ، فلا وجه لنقض التعريف المزبور بالوصاية وبالوصية بابراء المديون
وبالوقف ونحو ذلك، ضرورة كون المراد تعريف ذلك المفرد من الوصية، لا مطلق الوصية
به، بل لا يرد التدبير أيضا، بناء على أنه عتق معلق جاز للدليل، لا وصية، بل لو
سلمنا أنه وصية فهو قسم آخر منها خارج عما نحن فيه، من البحث عن الوصية التمليكية
الملحقة بكتاب العطايا والصدقات، وحينئذ فالتعريف تام.
نعم زاد فيه في محكي التذكرة وإيضاح النافع تبرعا، ولعله لبيان الواقع باعتبار
ظهور النص والفتوى في اعتبار المجانية في الوصية بالمعنى المزبور، لأنها بمنزلة
الصدقة، فلو قال: هذا لفلان بعد موتي بكذا بطلت.
فما في جامع المقاصد - من اشكاله بما إذا أوصى بالبيع ونحوه من المعاوضات
فإنه وصية، ولا تبرع فيه - في غير محله لما عرفت من أن محل البحث في الوصية المملكة،
لا العهدية، وقد عرفت اعتبار المجانية فيه، بل الظاهر اقتصار التمليك فيها على ما
كان نحو الصدقة، فلو قال: بعث هذا من زيد بعد وفاتي بكذا مثلا بطل - لا للتعليق
الذي يمكن دفعه بأنه ممنوع في البيع، لا في الوصية به التي مبناها على ذلك، ولذا،
جاز في صيغة التمليك المجاني، بل لعدم ما يدل على صحة الوصية على الوجه
المزبور، بعد ما عرفت من ظهور نصوصها في خلاف ذلك فيما كان بلفظ التمليك ونحوه
فضلا عما كان بلفظ البيع والصلح والإجارة ونحوها مما لا دليل على صحة إيجاب
الوصية بها، فضلا عن ملاحظة العوض فيها.
ومن ذلك لم يصح انشاء الوقف والرهن وغيرهما مما لا عوض فيه بالوصية على
وجه يكون كالتمليك، بأن يقول: هو وقف بعد وفاتي على زيد، أو هو رهن بعد وفاتي
أو نحو ذلك.
242

نعم يصح الوصية بذلك على معنى العهد، أي يأمر بوقفه بعد وفاته مثلا، فتأمل جيدا
كي يظهر لك ما في كثير من كلماتهم في المقام، حتى أن منهم من زاد في التعريف " أو
تسليط على تصرف " لإرادة شمول الوصاية بمعنى الولاية، مع أنه ينتقض بالتدبير
أيضا، ولذا زاد في الكفاية مع ذلك " أو فك ملك قيل: أو تسليط ".
ومنهم من عرفها بأنها " تنفيذ حكم شرعي من مكلف أو ما في حكمه بعد الوفاة " و
هو كما ترى خارج عما نحن فيه، ضرورة كون التنفيذ فعل الوصي أو الحاكم، وهما معا
خارجان عن الوصية، فضلا عن محل البحث، والأمر في ذلك كله سهل.
(و) على كل حال ف‍ (الايجاب كل لفظ دل على ذلك القصد) وضعا أو
بقرينة ولو حالية (كقوله: أعطوا فلانا بعد وفاتي، أو لفلان كذا بعد وفاتي) مريدا
بالأول انشاء التمليك بذلك، لا الأمر بفعله بعدها (أو أوصيت له) بكذا من غير
تقييد بما بعد الوفاة، للاستغناء عنه بلفظ الوصية بخلاف الأولين.
نعم ينبغي أن يظهر إرادة انشاء التمليك فيه بذلك ولو بقرينة حالية، لا الوصية
العهدية الخارجة عن محل البحث.
ولو قال: هو له فهو إقرار في الحال لا يقبل منه حمله على الايصاء عند التداعي،
إلا أن يكون قد قرنه بما يفسد الاقرار، ويجعله وصية.
نعم قد يقوى الاكتفاء بنيته التي قد فسر اللفظ بها بعد ذلك، إذا لم يكن له
معارض ولا خصم، والمال في يده وتحت سلطنته، وكذا الكلام في قوله وهبته، ثم فسره،
بإرادة الوصية لا التنجيز، أما لو قرن ذلك ونحوه بما يقتضي ذلك لم يكن اشكال حينئذ
في الحكم بكونه وصية، لعدم اختصاصها بلفظ، وكذا لو قال: عينت له كذا بعد وفاتي أو
جعلت له كذا.
نعم ينبغي أن يكون استعماله اللفظ في ذلك جاريا مجرى الاستعمال المتعارف
ولا يكفي إرادته ذلك من لفظ غير صالح، لإرادته حقيقة ولا مجازا، وكذلك الكلام في
القبول الذي هو أوسع من الايجاب ولذا جاز فيه أن يكون فعلا دالا على الرضا بالايجاب
بلا خلاف أجده فيه، وفي سائر العقود الجائزة.
243

نعم ظاهرهم بل صريح بعضهم عدم تحقق العقد في شئ منها بالفعل في
الايجاب، لكن لا يخفى عليك مشروعيته في الجميع، كما لا يخفى عليك صدق أسمائها
كالعارية والوديعة، ونحوهما على ذلك، فلا مناص حينئذ عن القول بجواز ذلك فيها
ولحقوق أحكامها له، إلا أنه ليس عقدا لها، فهو شبه المعاطاة في العقود اللازمة التي
تندرج في الاسم، ولا يجري عليها حكم العقد، وليس عدم الثمرة هنا بين المعاطاة و
العقد بعد الاشتراك في الجواز مانعا من ذلك كما هو واضح. فينحصر العقد هنا
بالايجاب لفظا والقبول كذلك أو فعلا، وما عداه معاطاة، وهو ما كان ايجابه فعلا،
سواء كان قبوله كذلك أو لا؟.
بقي الكلام في أمرين:
أحدهما: أن ظاهر اطلاق المصنف وغيره حتى معقد اجماع الغنية ونحوه عدم
الفرق في افتقار هذا القسم من الوصية إلى الايجاب والقبول بين كونها لمعين وغير معنى
كالوصية بشئ للفقراء أو لبني هاشم، وغير ذلك مما هو غير محصور، أو كان لجهة كالمسجد.
لكن في القواعد واللمعة وجامع المقاصد والمسالك والروضة ومحكي التذكرة والتحرير
والمختلف والإيضاح والدروس والتنقيح وإيضاح النافع والكفاية أنه ينتقل بالموت من
غير حاجة إلى القبول، بل في المسالك " نفى الخلاف فيه، وعن إيضاح النافع أن عليه
الفتوى، وظاهرهم أنه لا يحتاج إلى قبول من الحاكم وإن أمكن، بل في الروضة التصريح
بذلك، قال: " ولا يفتقر إلى قبول الحاكم وإن أمكن، كالوقف وربما قيل: فيه بذلك، ولكن
لا قائل به هنا " ونحوه في جامع المقاصد، ولعله لاطلاق الأمر بانفاذ الوصية بعد فرض
صدقها هنا على ذلك، من غير حاجة إلى قبول، والسيرة المعلومة، وما عساه يستفاد مما
ورد من الوصايا بنحو ذلك ولما استدل به في التذكرة وغيرها من تعذر القبول منهم
جميعهم، والبعض ترجيح بلا مرجح، على أن الكلام في البعض الآخر، وإن أمكن
المناقشة فيه بامكان اعتبار قبول الحاكم الذي هو بمنزلة الجميع، أو الناظر.
لكن، لا يخفى عليك أن فساد ذلك لا يقتضي فساد أصل الدعوى، وإن تخيله
بعض من عاصرناه، قائلا قضية كلامهم أنه لولا هذه العلة لوجب القول بالقبول، وهذا
244

يقضي بقوة القول به، بعد أن عرفت فسادها بالقبول من الحاكم مضافا إلى عدم
الانتقال ونحو ذلك، وإلى اطلاقهم كونها عقدا الذي يمكن أن يكون هو السبب لهم
في الاتكال على عدم التصريح بالقبول من الحاكم هنا، بل مثله يعد اجماعا على
الاشتراط، ويؤخذ حجة عليه خصوصا بعد عدم المعارض لذلك كله إلا اطلاق الأدلة
الذي لم يسق لذلك، بل قد يمنع صدق اسم الوصية على الفرض، كما أنه قد يمنع إرادة
هذا الفرد منها إلا أن الجميع كما ترى.
نعم قد يقوى كون الوصية للفقراء وللجهة غير ما نحن فيه من الوصية التمليكية بل
هو من الوصية العهدية بالصرف على ذلك، خصوصا الوصية للجهة، ضرورة عدم صحة
تمليك الجنس بعقد من العقود المملكة وإن قبل الحاكم عنه، إلا الوقف على اشكال فيه
لقصور أدلتها عن ذلك، من غير فرق بين البيع والصلح والهبة وغيرها مما اشتمل على
العوض، أو لم يشتمل، ولا يقاس التمليك بها على الملك الشرعي الثابت في الزكاة و
الخمس، بل والوقف بناء على القول به، لحرمة القياس، على أن بناء الوقف على تمليك
المعدوم بخلاف الوصية، مع أن أفراد الجنس مختلفة، كمال الاختلاف ضرورة كونهم
حال الوصية غيرهم في الزمن الآخر، لصيرورة الفقير غنيا والغني فقيرا، بل فيهم من
لم يكن موجودا أصلا، ثم وجد فقيرا وهكذا، ولا ريب في عدم ظهور معتد به في أدلة
العقود على وجه يقتضي صلاحيتها لنحو هذا التمليك، بل لا يبعد بطلان الوصية
لو قصد بها التمليك المذكور.
ومن ذلك ينقدح أن اطلاق الأصحاب كون الوصية عقدا محتاجا إلى الايجاب و
القبول في محله، ولا يرد عليهم مثل ذلك، لخروجه عن الوصية التمليكية، ودخوله في
الوصية العهدية الخارجة عن محل البحث، خصوصا الوصية للجهة كالمسجد والقنطرة
والمدرسة ونحوها، مما هي غير قابلة للتمليك، ولم يقصد منها تمليك غيرها من الفقراء
ونحوهم، فليس حينئذ إلا إرادة المصرف فتأمل جيدا فإنه جيد جدا، وإن كان مخالفا لما
صرح به بعضهم، كالفاضل والمحقق الثاني وغيرهم من كون الوصية في الفرض مملكة
ولكن لا تحتاج إلى قبول مطلقا أو تحتاج إلى قبول من الحاكم، ضرورة منافاة ذلك لكونها
245

عقدا مفتقرا إلى الايجاب والقبول المعتبر فيهما ما يعتبر في باقي العقود إلا ما خرج
بالدليل، حتى العربية بناء على اعتبارها في العقود جميعها، وإن صرح في الروضة
بعدم اعتبارها هنا، لكنه مسلم في العهدية منها دون العقدية، لعدم الفارق بينها
وبين غيرها من العقود في ذلك، والقياس على ما خرج بالدليل من الفرق بينها وبين غيرها
ممنوع عندنا.
اللهم إلا أن يدعى جواز ذلك من العقود الجائزة، وإن قدر على العربية كما
صرح به هنا في الدروس.
ولكن فيه أن دليل العربية مشترك بين العقود جميعها، إذ هو انسياق العربي
فيما اعتبر فيه اللفظ، فتأمل جيدا، فإنه قد يقال: إن الوصية حقيقة في عهد الميت بعد
وفاته، بل لعل العقدية المستفادة من قوله تعالى " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت
الوصية للوالدين " إلى آخر الآية باعتبار ظهوره في التمليك الناشئ من الوصية قسم من
العهدية، كما عساه يشعر به ذكرهم في ايجابها أعطوا وافعلوا ونحوهما، وقد عرفت
عدم الاشكال في جواز الفارسية ونحوها في العهدية فتأمل جيدا.
ثانيهما: أنه قد يظهر من اعتبار العجز عن النطق في كفاية الإشارة الدالة على
المراد في كلام جماعة من الأصحاب، بل هو معقد نفي الخلاف في محكي التنقيح بل
لا كلام فيه كما عن إيضاح النافع، بل في الروضة القطع به، بل في الرياض الاجماع عليه،
بل لعله محصل أنه لا تجزي الإشارة مع التمكن من النطق، وهو مناف لما ذكرناه من
كفاية الفعل في اجراء حكم الوصية، وإن لم يتحقق بذلك عقدها، وأنه كالمعاطاة
في البيع.
لكن يمكن أن يكون ذلك منهم لإرادة ما ادعوه من الاجماع ونفي الخلاف ونحو
ذلك، لا لإرادة اشتراط القاضي بعدم الجواز مع انتفاع ذلك، أو لإرادة تحقق العقد
حينئذ وأنه ليس من المعاطاة في حال العجز، بل تقوم الإشارة حينئذ مقام اللفظ من
القادر، لما دل عليه في الأخرس أو لغير ذلك، وإلا فلا دليل لهم يدل على ذلك، بل
لعل الأدلة بخلافه، بعد صدق اسم الوصية عليه عرفا، فتجري جميع أحكامها.
246

وصحيح الحلبي (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " ذكر أن أباه حدثه عن أبيه أن أمامة بنت
أبي العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تحت علي (عليه السلام) بعد
فاطمة (عليها السلام) فخلف بعده وتزوجها بعد على (عليه السلام) المغيرة بن نوفل، ذكر أنها توجعت
وجعا شديدا حتى اعتقل لسانها فجائها الحسن والحسين ابنا على (عليهم السلام) و
هي لا تستطيع الكلام، فجعلا يقولان لها والمغيرة كاره لما يقولان: أعتقت فلانا وأهله
فتشير برأسها نعم وكذا وكذا فجعلت تشير برأسها نعم، لا تفصح بالكلام فأجاز ذلك
لها ".
وخبر علي بن جعفر (2) عن أخيه (عليه السلام) المروي عن قرب الإسناد " سألته عن رجل
اعتقل لسانه عند الموت أو امرأة فجعل أهاليها يسائله أعتقت فلانا، وفلانا، فيومي
برأسه أو تومي برأسها في بعض نعم وفي بعض لا، وفي الصدقة مثل ذلك أيجوز ذلك
قال: نعم، هو جائز ".
مع أنه لا صراحة فيهما بالوصية التمليكية، لا دلالة فيهما على الاشتراط بل يمكن
أن يكون الاكتفاء بذلك لجوازه في نفسه، لا للعجز عن النطق، ولعله لذلك كان ظاهر
عبارة النافع الاكتفاء بالإشارة مع امكان النطق، وإن قال بعض مشايخنا أنه لا موافق
له، ولا دليل عليه.
ولكن فيه ما لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما عرفت،
وكذا الكلام في الكتابة، فإنه
لا شك كما عن جامع المقاصد الاعتراف به في الاكتفاء بها مع العجز عن النطق والقرينة
الدالة على إرادة الوصية منها بل عن التنقيح أنه لا خلاف فيه، بل عن الإيضاح الاجماع
على ذلك.
وفي خبر سدير (3) عن أبي جعفر (عليه السلام) " قال: دخلت على محمد بن علي الحنفية وقد
اعتقل لسانه، فأمرته بالوصية فلم يجب، فأمرت بطشت فجعل فيه الرمل، فوضع فقلت

(1) الوسائل الباب - 49 - من أبواب أحكام الوصية الحديث - 1.
(2) الوسائل الباب - 49 - من أبواب أحكام الوصية الحديث - 2.
(3) الوسائل الباب - 48 - من أبواب أحكام الوصية الحديث - 2.
247

له: خط بيدك فخط وصيته بيده في الرمل، ونسخته أنا في صحيفة " وربما ظهر من
تقييد الاكتفاء بالعجز عدم الاكتفاء بها مع الاختيار، بل هو صريح المحكي عن الفاضل
وولده والشهيدين والمحقق الثاني والقطيفي، بل عن السرائر نفي الخلاف فيه.
نعم عن التذكرة احتمال الاكتفاء بها مع الاختيار في أول كلامه، بل لعله الظاهر
من النافع وفي الرياض أنه لا يخلو عن قوة، مع قطعية دلالة القرينة، لكن يمكن أن يكون
ذلك كله منهم في تحقيق العقد، لا أن المراد عدم اجراء حكم الوصية على ذلك مطلقا
لما عرفت في الإشارة، من صدقها عرفا على ذلك ونحوه، فيشمله اطلاق أدلتها مضافا
إلى التأييد بكثير من النصوص الناهية عن أن يبيت الانسان إلا ووصيته تحت رأسه، و
معقد نفي الخلاف في محكي السرائر غير ما نحن فيه، قال: ولو أوصى بوصية وأدرج الكتاب
وقال قد أوصيت بما أوصيت في هذا الكتاب، ولست أختار أن يقف أحد على حالي وتركتي
وقد أشهدتكما على بما فيه، لم يصح بلا خلاف، ولعل مراده عدم صحة الشهادة عليه
بذلك للاجمال، وإن كان قد يقوى في النظر خلافه أيضا، ضرورة تناول أدلة الاقرار
لمثله، فيصح الشهادة عليه به وإن اعتبر فيها العلم، ولا اجمال بعد العموم في اللفظ
بل ينبغي القطع بالاكتفاء بها أي الكتابة في الاقرار، أو ما في حكمه نحو الإشارة بالرأس
واليد مما يفيد معنى نعم، ولا، مثلا، بل لا يبعد ذلك لو أفادته على وجه الظهور فضلا
عن الصراحة.
والحاصل أنه يمكن حمل كلامهم السابق على ما عرفت، أو يكون المراد عدم الاكتفاء
بالكتابة في ثبوت الوصية، بمعنى أنه لا يجب العمل بما يوجد مكتوبا ما لم يثبت بالبينة،
أو تقم القرائن على إرادته كالوصية بذلك، وعمل الورثة ببعض ما يجدونه مكتوبا لأمور
دلتهم على صحته، لا يلزمهم العمل بالجميع.
خلافا للمحكي عن الشيخ في النهاية فألزمهم لرواية قاصرة سندا ودلالة، ولو
كتب وصية وقال اشهدوا على بما في هذه الورقة، أو قال: هذه وصيتي فاشهدوا علي
بها ففي القواعد والمحكي عن غيرها لم يجز حتى يسمعوا منه ما فيه أو يقرء عليه، فيقربه
بل عن غير موضع من السرائر الاجماع عليه، وفي المحكي عن الجامع اشهاد الشخص
248

على نفسه في الأملاك والوصايا على كتاب يدرج لا يصح اجماعا.
لكن الانصاف أنه إن لم يتم الاجماع المزبور كان للنظر فيه مجال، لما عرفت، ولأن
المعروف القبول فيما لو قرأه الشاهد مع نفسه، فقال له الموصي: قد عرفت ما فيه فاشهد
علي به، وهما عند التأمل متقاربان، بل لا يبعد في النظر الاكتفاء بالكتابة في الاقرار و
الوصية مع ظهور إرادة ذلك منهما، فضلا عن صورة العلم، ضرورة حجية ظواهر الأفعال
كالأقوال في الجملة، سيما ما كان منها نحو شاهد الحال بل الكتابة أخت الألفاظ، و
في المرتبة الثانية في الوضع لا للدلالة على ما في النفس، فتكون أولى من باقي الأفعال
بل لا يجري على مدلول النقوش منها من الألفاظ ما يجري على اللفظ نفسه من الصراحة
والظهور والاطلاق ونحو ذلك.
ودعوى عدم كفايتها - وغيرها من الأفعال في الوصية ونحوها من العقود الجائزة
عقدا أو معاطاة - واضحة الفساد، ضرورة الاكتفاء بها في البيع ونحوه مما هو أولى
منها للصدق العرفي المشترك بين الجميع، وعدم صدق اسم العقد بعد التسليم لا
ينافي صدق اسم البيع والهبة والوصية ونحوها، وهو المدار في اجراء الأحكام، لا
اسم العقد فتأمل جيدا.
وفي خبر إبراهيم بن محمد الهمداني (1) قال: " كتبت إليه رجل كتب كتابا فيه ما
أراد أن يوصي به هل يجب على ورثته القيام بما في الكتاب بخطه، ولم يأمرهم بذلك
فكتب إليه إن كان له ولد، ينفذون كل شئ يجدون في كتاب أبيهم في وجوه البر
وغيره ".
وفيه إشارة في الجملة إلى ما ذكرنا، بل لو قلنا بعدم صدق اسم البيع ونحوه
على المعاطاة كما هو الأصح عندنا الآن، أمكن الفرق بين المقام وبين ذلك ضرورة
كون الوصية بمعنى العهد، بل يكمن تكلف اندراج العقدية منها فيه، ولا ريب في
صدقها بمعناه على الحاصل بالفعل، سيما الإشارة والكناية ونحوها، وإن لم يكن
من الوصية العقدية، وعنوان أكثر الأحكام على الوصية بمعنى العهد، لا العقد فلا

(1) الوسائل الباب - 48 - من أبواب أحكام الوصية الحديث - 2 باختلاف يسير.
249

ينبغي التوقف في جريان الأحكام على ذلك، فإنه داخل تحت النهي عن التبديل،
بخلاف البيع والصلح ونحوه مما هو معنى واحد، فلا يصدق على المعاطاة والله أعلم.
(و) كيف كان ف‍ (ينتقل) الموصى به (بها) أي الوصية (إلى
ملك (الموصى له بموت الموصي، وقبول الموصى له، ولا ينتقل بالموت منفردا عن
القبول) ولو متزلزلا كالعكس (على الأظهر) الأشهر بل المشهور شهرة عظيمة
كادت تكون اجماعا، بل هي كذلك على الظاهر، وإن حكى الخلاف عن ظاهر أبي علي
بل قيل: إنه خيرة الخلاف والتذكرة وموضع من المبسوط، بل لا ترجيح في جملة من كتب
الأصحاب، وهو يقضي بقوته، لكن في محكي السرائر أنه ليس لأصحابنا فتوى بذلك ولا
وردت به أخبار عن الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم، وفي جامع المقاصد أنه ترك
العلامة في القواعد حكايته لضعفه.
قلت: ولعله لأنه مخالف للأصل بل الأصول، وللمعهود من عدم الملك القهري
في التمليكات، ولسائر العقود، ولغير ذلك، لكن الانصاف أنه لولا دعوى الاجماع على
خلافه لكان لا يخلو من قوة، ضرورة ظهور أدلة الوصية في ملك الموصى به بمجرد الموت
كما اعترف به القائل بالكشف، من غير اعتبار القبول خصوصا ما دل على الانتقال إلى
الوارث منها إذا مات الموصى له، ولعله لذا كان خيرة بعض متأخري المتأخرين عدم
الحاجة إلى القبول في اللزوم أيضا، فضلا عن الملك، إلا أنه يمكن تحصيل الاجماع
على خلافه، فضلا عن حكايته، واستبعاد حصول الملك قهرا في التمليك بعد ظهور
الدليل فيه لا وجه له، خصوصا بعد أن لا يكون لازما عليه، وله إزالته عنه برد الوصية
كما هو مقتضى كلام القائل، لأن القبول عنده شرط في اللزوم، والاجماع على اعتبار
القبول المسلم منه كون الوصية عقدا يعتبر فيها الايجاب، والقبول، ولم يعلم مدخلية
الثاني فيها في الملك، أو في لزومه، ومخالفته لباقي العقود على التقدير الثاني لا
بأس بها بعد قضاء الدليل مع أنه بعينه وارد على المشهور، من أن القبول كاشف.
نعم قد يقال: بظهور كلامهم في اعتباره في أصل الملك، بل هو كصريح معقد
المحكي من اجماع الغنية على اعتبارهما في صحة الوصية الذي مقتضاه فساد الوصية
250

بدون القبول، لا عدم اللزوم، مع أنه يمكن أن يكون نظرهم في ذلك إلى رد الوصية،
لا مطلق عدم القبول الصادق على حال التجريد منه ومن القبول، ولو لعدم العلم
بالوصية، فلا ينافي ذلك حينئذ شرطيته بالنسبة إلى ذلك، ضرورة فساد الوصية حينئذ
عند القائل بالرد، إنما يرد ذلك على القائل بالملك اللازم من دون قبول، وهو مجهول
القائل المعتد به.
والمناقشة في أصل دليل هذا القول بمنع ظهور اطلاق أدلة الوصية في الملك
بمجردها خصوصا بعد أن لم تكن اطلاقات معتدا بها، ولا هي مساقة لبيان ذلك، بل
لعلها منزلة على ما هو الغالب من تحقق القبول في مثلها، لندرة رد ما يتبرع باعطائه.
تبطل ما هو المشهور عندهم من أن القبول كاشف، ضرورة كون ذلك عمدة أدلته
التي خرجوا بها عن أصالة مساواة هذا العقد لباقي العقود، دون ما ذكروه له من
الوجوه الاعتبارية التي منها أن الظاهر قوله تعالى (1) " من بعد وصية يوصي بها أو دين "
عدم انتقال التركة معها إلى الوارث، والميت غير قابل للملك، والاجماع على عدم ملك
الأجنبي فليس حينئذ إلا ملك الموصى له، وإلا بقي المال بلا مالك، ولما قام الاجماع و
غيره من الأدلة على اشتراط القبول التجأنا إلى أنه كاشف، جمعا بين الأدلة.
وهو كما ترى فيه نظر من وجوه، منها: أن مقتضاه ملك الديان أيضا ما قابل
الدين من التركة، وقد عرفت في باب الحجر، ظهور فساده.
ومنها: أنه مبني على عدم قابلية استدامة ملك الميت، وهو ممنوع أيضا ضرورة
بقاء ملكه على ثلثه الذي أوصى بصرفه عليه في عبادة ونحوها.
ومنها: أن البحث في اشتراط القبول في الملك، فكيف يكون ما هو محل النزاع
من مقدمات الاستدلال، ومن هنا يقوى القول بكون القبول جزء ناقلا كغيرها من
العقود كما هو خيرة جماعة وظاهر آخرين.
لكن ومع ذلك فالقول بالكشف هو الأقوى، لأن الموصي بانشاء وصيته قصد
التمليك بالموت، والقبول إنما يتعلق بما أوجبه الموجب على الكيفية التي أوجبها فمع

(1) سورة النساء الآية - 11.
251

فرض تأخره - لعدم اعتبار اتصاله بالايجاب ولا بالموت - يراد منه قبول المراد بالايجاب
الذي هو الملك بالموت، كما عرفت، وهو معنى الكشف، فيكون دليله جميع ما دل على
مشروعية هذا الفرد من الوصية التي لا وجه لقبولها إذا تأخر إلا الكشف، وبذلك
افترقت عن باقي العقود التي يراد بايجابها معناه عند القبول حتى العقد الذي لم
يعتبر فيه اتصال القبول بالايجاب كالوكالة فضلا عما اعتبر فيه ذلك كالبيع ونحوه.
وقد ظهر بذلك أن الأقوال في المسألة ثلاثة، أحدها: أن القبول تمام السبب
الناقل كباقي العقود.
والثاني: كونه شرطا في الملك كاشفا.
والثالث: كونه شرطا في اللزوم، وقد يحتمل عدم مدخليته أصلا في ملك ولا لزوم،
وإنما الرد مانع، بل قد يحتمل عدم مانعية الرد أيضا، إلا أن كلام الأصحاب كأنه
متفق على خلاف الأخيرين، بل قد سمعت ضعف الثالث عندهم، وأن المعتد به
القولان الأولان، كما أن المشهور منهما الثاني الذي قد عرفت كونه أقويهما.
ومنه يعلم عدم كون الوصية من العقود المتعارفة، بل قد سمعت ما يصلح دليلا
لكل من الأقوال، وإن أطنب في ذلك بعض المتأخرين، لكن على وجه غير مهذب ولا
منقح، بل ومشتمل على حشو كثير، وما لا فائدة يعتد به، كالاطناب في الفروع المتفرعة
على القول بالنقل والكشف، حتى عقد لذلك في التذكرة بحثا مستقلا، ضرورة عدم
خفائها على المتنبه الذي قد أحاط بما تقدم لنا في الفضولي الذي قد سمعت البحث
فيه عن الإجازة بالنسبة إلى النقل والكشف، والفروع المتفرعة على ذلك، بل قد عرفت
هناك المراد من الكشف على وجه لا ينافي شرطية الرضا في الملك، لا أنه شرط للعلم
بحصول الملك، وكذا الكلام هنا وإن كان هو ظاهر الكركي بل صريحه لكنه ضعيف
مناف لما دل من الاجماع وغيره على اعتبار القبول في الملك، كما هو واضح بأدنى
تأمل والله هو العالم.
(و) على كل حال ف‍ (لو قبل) الموصى له (قبل الوفاة) أي وفاة الموصي
(جاز) وفاقا للمشهور لصدق اسم الوصية والعقد معه، فيندرج تحت أدلتهما،
252

وبه يستدل على نفي احتمال اشتراط الوفاة في صحته، كما أنه بذلك يخرج عن أصالة
عدم النقل، وأصل بقاء المال وغيرهما من الأصول (و) كون متعلق الايجاب الملك
بعد الموت لا ينافي قبوله على هذا الوجه، ضرورة كون القبول كالايجاب في صحة التعلق
حال الحياة، فهما حينئذ متطابقان.
نعم هو (بعد الوفاة آكد، وإن تأخر القبول عن الوفاة ما لم يرد) بعدها
خلافا لجماعة، منهم الفاضل والكركي (لا يجوز) بل قيل: إنه المشهور، وإن كنا لم
نتحققه، لعدم المحل له بعد أن كان القصد الملك بعد الموت، فالقبول قبله كالقبول
قبل الوصية، وكما لو باعه ما سيملكه، ولأن القبول كاشف أو ناقل، وهما معا منتفيان هنا،
لمعلومية اشتراط الملك بالموت، ولأن ما قبل الوفاة إن كان قابلا للقبول، فليكن قابلا
للرد أيضا، كما بعد الوفاة، والمشهور أنه لا حكم للرد قبل الوفاة، كما ستعرف، فالقبول
كذلك أيضا، ولأن القبول لو كان مقبولا حال الحياة لم يعتبر قبول الوارث ولا رده،
لو مات الموصى له قبل موت الموصي وقد قبل، وهو باطل لأن اطلاق الأخبار يقتضي
عدم الفرق بين تقدم قبول الموصى له وعدمه، فيكون قبول الوارث ورده معتبرا ولما
ستعرفه في شرح قوله، " فإن رد إلى آخره ".
والجميع كما ترى، ضرورة منع عدم المحل له بعد أن كان المقصود بالقبول الرضا
بالمراد من الايجاب كيفما كان، فلا يتصور اختصاص الايجاب في زمان دون القبول.
ودعوى - كونه كالقبول قبل الوصية الذي لم يتحقق فيها ايجاب أصلا، وكما لو باعه
ما سيملكه الذي يكون الايجاب فيه باطلا - واضحة الفساد، كوضوح فساد الثاني لأن
الكشف والنقل إنما هو في القبول بعد الوفاة، لانحصار مقتضى الملك حينئذ فيه،
بخلاف حال الحياة التي لا اشكال كما لا خلاف في توقف الملك معه على الوفاة التي
قصد الموصى التمليك بعدها، وعدم الحكم للرد بعد تسليمه، لأصالة بقاء حكم
الايجاب وصلاحية الزمان للقبول، لا تستلزم صلاحيته للرد، وقبوله بعد الموت ليس
لقبول القبول فيه، بل للاجماع ونحوه مما هو مفقود في الفرض، بل هو مظنة العكس،
وقبول الوارث إنما يكون معتبرا إذا مات الموصى له قبل القبول، كما أن رده معتبر
253

إذا كان للموصى له الرد.
أما لو فرض عدم الرد له لم يكن للوارث ذلك أيضا، كما لو مات بعد القبول والوفاة
وليس في النصوص ما يدل على اعتبار قبول الوارث، كي يتمسك باطلاقه، الشامل لقبول الموصى له وعدمه، كما لا يخفى على من لاحظها هذا.
وقد أشار المصنف بقوله وإن تأخر إلى آخره، إلى عدم اعتبار اتصال القبول
بالوفاة لو وقع بعدها، سواء قلنا باشتراط صحته بذلك أو لا لاطلاق الأدلة الشامل
لذلك قطعا، ضرورة ندرة اتفاق حصول ذلك، بل تعذره فيما لو كان الموصى له غائبا
مثلا فلا ريب ولا خلاف يعتد به في عدم اعتبار اتصال قبولها بالوفاة، فضلا عن عدم
اعتبار اتصاله بالايجاب الذي هو معتبر في غيرها من العقود، بل الظاهر عدم تسلط
الحاكم على جبره على القبول وعدمه، ما لم يستلزم ذلك ضررا وخصومة وتلفا للمال،
باعتبار احتياجه إلى النفقة، وغيرها، وإلا كان له الزامه في وجه قوي بل لو تعذر
اجباره أمكن تولي الحاكم ذلك فتأمل هذا.
ثم إن الظاهر جريان البحث المزبور في إجازة التنجيز بناء على اعتبار إجازة
الوارث في الزائد على الثلث فتأمل،
ولما كان قول المصنف " ما لم يرد " موهما لخلاف
الواقع فصله بقوله (فإن رد في حياة الموصي، جاز أن يقبل بعد وفاته، إذ لا حكم
لذلك الرد) وفاقا للمشهور.
بل وجهه واضح، بناء على أن القبول معتبر بعد الوفاة خاصة، ضرورة كون
الوجه فيه أن ذلك الوقت محل القبول، والرد باعتبار التعليق في الايجاب عليه إذ
هو يقتضي عدم حصول المقصود منه قبل حصول المعلق عليه، كتعليق الحج على
الاستطاعة، ونحو قول السيد اضرب زيدا إن جاء عمرو، وصل الظهر إذا زالت
الشمس، ونحو ذلك مما لا أمر فيه قبل تحقق المعلق عليه، فكذا هنا لا انشاء تمليك
حقيقة إلا بعد الوفاة، وصدور العبارة من الموصي حال الحياة للاعلام بإرادة ذلك
عند المعلق عليه، وللاكتفاء بها عن تجديد الأمر والانشاء عنده، ولعله لذا اعتبر في
القبول كونه بعد الوفاة، كالرد، ضرورة عدم حصول متعلقهما قبلها.
254

وإن كان منع ذلك كله واضحا، لمعلومية تحقق الانشاء بصدور الايجاب، و
التعليق إنما هو لحصول الأثر لا للانشاء المقتضي لذلك، والأوامر المعلقة يتحقق
معنى الأمر فيها، بصدورها، ولذا يتحقق وصف المطيع والعاصي بالعزم على امتثالها
وعدمه، قبل حصول المعلق عليه، بل لعل التأمل يشرف الفقيه على القطع بعدم
إرادة تعليق معنى الآمرية فيها، على معنى أن يكون مأمورا عند حصول المعلق
عليه، مع أنه لم يتجدد أمر غير ذلك، فيرجع إلى صيرورته مأمورا بلا أمر، وهو معلوم
الفساد.
ومن هنا اتجه صحة القبول قبل حصول المعلق عليه، لتحقق المعنى الانشائي
القابل للقبول، ولا يستلزم ذلك قبول الرد لعدم الدليل على بطلان حكم الانشاء
بقوله لم أقبله مثلا في مثل المقام، بل وفي غيره حتى العقود اللازمة، إذا كان قد
وقع على وجه لم يقدح باتصال قبولها به، اللهم إلا أن يكون اجماعا، فيقتصر عليه
كالاقتصار هنا له أيضا على تأثيره بعد الموت دون الحياة.
ومن ذلك بان الوجه في عدم اعتباره على التقديرين، لكن ومع ذلك فالانصاف
يقتضي عدم الفرق بينه وبين القبول بالنسبة إلى تحقق المعنى المقابل، لتعلقهما
به، ولعل شهرة الأصحاب هنا غير معتد بها، بعد أن علم أن المدرك فيها عدم حصول
ما يقبل الرد لتعليق الأثر على الموت الذي قد فرض عدم تحققه، فيكون كالطلاق قبل
النكاح الذي صححه أبو حنيفة، لما عرفت من بطلانه بتحقق المعنى القابل للقبول و
الرد هنا، ويمكن أن لا يكون مدركهم ذلك، وإن ذكره بعض المتأخرين لهم، ولذا،
كان خيرة المصنف جواز القبول حال الحياة، وعدم الحكم للرد فيها، ولعله لما
أشرنا إليه من عدم دليل يصلح لقطع استصحاب صحة الايجاب بذلك، لا لما ذكروه
بقي شئ في المقام، وهو أنه ربما استفيد من اطلاق المصنف وغيره عدم الفرق
في ذلك بين سبقه بالقبول وعدمه، ولكن يشكل ذلك بما ظاهرهم الاجماع عليه من
كون الوصية عقدا جائزا من الطرفين، ومقتضاه تسلط الموصى له على فسخه حينئذ،
ولا ريب في اقتضائه بطلان العقد، إذ هو معنى الفسخ، كما أن معنى الرد والفسخ
255

واحد، واحتمال التزام عدم الحكم لهذا الفسخ، يقتضي مخالفتها للعقود الجائز بالنسبة
إلى ذلك، ويمكن حمل كلامهم على رد الايجاب خاصة الذي لا يدخل تحت حكم
فسخ العقد الجائز.
ودعوى أنه إذا كان له الفسخ بعد تمام العقد، فللايجاب خاصة أولى يمكن
منعها بعد بطلان القياس عندنا، وكذا دعوى تنزيل جواز الفسخ الذي له بعد تمام
العقد على ابطال القبول خاصة، فيحتاج إلى تجديد القبول خاصة، بل قد عرفت أن
ذلك مخالف للفسخ في العقود فتأمل جيدا فإن المسألة غير محررة في كلامهم.
وتحريرها ما ذكرناه غير مرة من أن الوصية ليست من العقود، وإن كانت هي
جائزة بمعنى أن للموصي الرجوع، وللموصى له عدم القبول، أما إذا قبل فلا رد له حتى
في حال الحياة، فضلا عما بعد الوفاة.
نعم لو لم يقبل بل لو رد كان له القبول بعد ذلك حال الحياة، بخلافه بعد
الموت، ولعل الفرق بينهما أن ما بعد الموت هو محل القبول والرد، باعتبار أن التمليك
في الوصية حينه، بخلافه حال الحياة، على أنه لو لم يقبل الرد بعد الموت ترتب الضرر
لعدم أمد له ينتظر، مضافا إلى ما عرفت من كون القبول بعد الموت كاشفا، فالرد و
القبول فيه نحو إجازة الفضولي بخلافه حال الحياة والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (إن رد بعد الموت وقبل القبول بطلت) على وجه، لا
ينفعه تجديد القبول بلا خلاف، بل الاجماع بقسميه عليه، وهو الحجة في انقطاع
الأصل المزبور.
إنما الكلام فيما ذكره المصنف وغيره بقوله (وكذا) تبطل الوصية (لو رد بعد
القبض وقبل القبول) مع أنك قد عرفت سابقا تحقق القبول بالفعل والقول فالقبض،
- بعنوان أنه موصى له - قبول، فلا يؤثر الرد حينئذ بعده، بل لا وجه لفرضه قبل
القبول، ضرورة تحققه بذلك، اللهم إلا أن يحمل كلامهم على القبض الذي لا يكون
قبولا ولو لغفلة عن الوصية أو جهل بها أو غير ذلك، وإن كان هو مناف لاطلاقهم،
ولما تسمعه مما ذكروه متصلا بذلك من أحكام القبض نحو قول المنصف.
256

(ولو رد بعد الموت والقبول وقبل القبض قيل:) والقائل الشيخ في المحكي
عن مبسوطه وابن سعيد في المحكي عن جامعه (تبطل) استصحابا لجوازها قبله،
ولكونها أضعف من الهبة والوقف اللذين يعتبر فيهما ذلك (وقيل لا تبطل، وهو
أشبه) بأصول المذهب وقواعده وأشهر بين الطائفة، بل هو المشهور، بل كاد أن
يكون اجماعا، كما أن النصوص (1) كادت تكون متواترة في عدم اعتباره، ولذا تضمنت انتقاله
إلى وارثه إذا كان قد مات الموصى له قبله، مضافا إلى اطلاق أدلة الوصية وبذلك
كله ينقطع استصحاب الجواز بعد تسليم جريانه والثاني مع وضوح فساده بعد
بطلان القياس مقتضاه كون القبض شرطا في الصحة وهو خلاف ما حكي عن المبسوط
من كونه شرطا في اللزوم كما أومى المصنف بقوله (أما لو قبل وقبض ثم رد لم تبطل)
اجماعا لتحقق الملك واستقراره.
نعم ربما احتمل بعضهم ذلك، لكن الأمر في ذلك سهل، إذ على كل حال لا
يخفى عليك ما فيه بعد ما عرفت (ولو رد) الموصى له (بعضا) مما أوصى له (وقبل
بعضا صح فيما قبله) خاصة، وكذا لو رجع الموصي ببعض دون بعض، لاطلاق أدلة
الوصية وانفاذها الشامل للفرض، لا لعدم اعتبار المطابقة بين ايجابها وقبولها
باعتبار كونها من التبرعات المحضة، بخلاف عقود المعاوضة، ولذا لم يجز للقابل فيها
الاقتصار على بعض ما ذكره الموجب، ولو بما يخصه من الثمن، بل لما عرفت وتعرف،
ضرورة اعتبارها في جميع العقود من غير فرق بين الجميع، لاتحاد المدرك فيها، إلا
أنه في المقام لم يصدر من الموجب غير تعلق قصد الايصاء بكل منهما، من غير مدخلية
لاجتماعهما وانفرادهما، بخلافه في عقد المعاوضة الظاهر بسبب الجمع بالعوض في
أن القصد قد حصل عليهما من حيث الاجتماع، وإن لم يكن ذلك على جهة الشرطية
ومن هنا لو فرض تشخيص الثمن لكل منهما كما لو قال: بعتك العبد بماءة، والجارية
بخمسين، فقبل أحدهما بثمنه لم يبعد الصحة، لحصول المطابقة بالنسبة إلى ما قلبه
وعدم قبول الثاني ليس من المخالفة بين الايجاب والقبول الممتنعة، وإن كان

(1) الوسائل الباب - 30 - من أبواب أحكام الوصايا.
257

الانصاف عدم خلوه من الاشكال، بل قد يقوى عدم حصول المطابقة إلا مع تعدد إنشاء
للايجاب.
نعم يقوى في الوصية عدم كونها من العقود المعتبر فيها المطابقة لتحقق معنى
اسم العقد الذي هو الايجاب، وقبول ذلك الايجاب بها.
ومن ذلك يظهر الاشكال هنا في صحة جزء معين من الموصى به باسم كله،
كما لو قال الموصي: بساطي مثلا لزيد، فقال الموصى له: قبلت هذا الجزء المعين
منه، فإنه لا مطابقة بين الايجاب والقبول حينئذ، بل لا ايجاب بهذا الجزء إلا ضمنا
وفي الاكتفاء به نظر، وإن قلنا إنها ليست من العقود، بل في الاجتزاء بها في الإذن
ونحوه منع.
أما لو قبل جزء مشاعا منه مقدرا بالثلث أو الربع منه مثلا، فهو أقرب إلى الصحة
منه، كما يشهد له صحة الوصية بالثلث لو أوصى بأزيد منه، فقبل الموصى له، ولم يجز
الوارث الزائد، وإن كان قد يفرق بأن الموصى له قد طابق قبوله الايجاب، لكن
لم يسلم له باعتبار عدم إجازة الوارث، نحو ما لو باع ماله ومال غيره فقبل المشتري، ولم
يجز الغير، فإنه يصح في الأول دون الثاني.
إنما الكلام فيما لو جعل متعلق القبول البعض أولا وبالذات، وكلام الأصحاب
هنا وإن كان مطلقا، لكن يمكن حمله على إرادة البعض المستقل كما لو قال: عبدي
وداري لزيد، فقال الموصى له: قبلت العبد فتأمل جيدا فإن المسألة محتاجة
إليه.
ضرورة عدم المطابقة فيه لو قلنا بكون الوصية من العقود، فإن القبول المزبور،
لم يكن له ايجاب لأن الايجاب الذي صدر من الموجب متحد وإن تعدد متعلقه،
لا أنه ايجابان وانشاءان والعطف لا يصيره كذلك، فلو وقع في مثل الهبة ونحوها
من العقود ولو التبرعية لم يكف، إذ لم تحصل المطابقة. نعم قد عرفت غير مرة أن
الوصية ليست من العقود المعتبر فيها ذلك.
(و) كيف كان ف‍ (لو مات) الموصى له (قبل القبول، قام وارثه مقامه في
258

قبول الوصية) وردها سواء كان في حياة الموصي أو بعد وفاته على المشهور بين
الأصحاب نقلا وتحصيلا، بل عن كشف الرموز أنه هو الذي انعقد عليه العمل، بل لا
خلاف محقق أجده فيه في الثاني وإن حكى، بل وفي الأول وإن حكى عن أبي علي
البطلان فيه أو مطلقا، وربما مال إليه بعض المتأخرين لكنه في غير محله، لأصالة
بقائها للموصى له، فتكون حقا من حقوقه فينتقل إلى وارثه كحق الخيار والشفعة و
غيرهما خصوصا بعد أن كان اعتبار القبول فيها ليس على حسب اعتباره في غيرها كما
عرفته سابقا، بل هي مع قبول الوارث تندرج في إطلاق أدلة الوصية، وما دل على
انفاذها، وعدم جواز تبديلها وتغييرها.
ولما رواه المحمدون الثلاثة بطريق صحيح وحسن كالصحيح عن محمد بن
قيس (1) الثقة على الظاهر بقرينة رواية عاصم بن حميد عنه، وكونه الراوي لقضايا أمير -
المؤمنين (عليه السلام) عن أبي جعفر (عليه السلام) التي هذه منها " قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام)
في رجل أوصى لآخر والموصى له غائب، فتوفي الموصى له قبل الموصي قال: الوصية
لوارث الذي أوصى له، قال: ومن أوصى لأحد شاهدا كان أو غائبا فتوفي الموصى له
قبل الموصي فالوصية لوارثه الذي أوصى له، إلا أن يرجع في وصيته قبل موته " على
أنه معتضد بخبر الساباطي (2) " قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل أوصى إلي وأمرني
أن أعطي عما له في كل سنة شيئا، فمات العم فكتب اعط ورثته ".
وبالصحيح عن المثنى (3) " قال: سألته عن رجل أوصى له بوصية فمات قبل أن
يقبضها، ولم يترك عقبا قال: أطلب له وارثا أو مولى فادفعها إليه، قلت: فإن لم
أعلم له وليا قال: اجهد على أن تقدر له على ولي، فإن لم تجده وعلم الله فيك
الجهد فتصدق بها.
وبما عرفت وهو وإن كان في الأول، لكن قد عرفت أنه محل الخلاف كما يقتضي
به التتبع، وإن حكى عن بعضهم البطلان مطلقا، لكنه غير متحقق، كما أن القول

(1) الوسائل الباب - 30 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(2) الوسائل الباب - 30 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3 - 2.
(3) الوسائل الباب - 30 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3 - 2.
259

بالتفصيل أي البطلان في الأول دون الثاني واضح الفساد، بعد النص الجامع
لشرائط العمل الذي منه يعلم أيضا أنه لا وجه للتفصيل بين من يعلم كون غرضه
خصوص الموصى له، فتبطل حينئذ مطلقا، وبين من لم يعلم غرضه فتصح وتنتقل إلى
الوارث، بل ربما ظهر من بعضهم خروج القسم الأول عن الخلاف، لكن فيه أنه إن لم
يكن ذلك على جهة الشرطية أو ما في معناها لا وجه للبطلان أيضا كالتفصيل بين علم
الموصي وظهور أمارات البقاء فكالمشهور، وبين عدم علمه، أو ظهور كون المقصود،
خصوص الموصى له، فالبطلان وإن تجرد عن جميع القرائن فالتوقف، إذ كل ذلك
اجتهاد في مقابلة النص، أو تهجس بلا داع، سوى الأصل - المقطوع بما عرفت.
والصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) " أنه سئل عن رجل أوصى له أحد، فمات الموصى
له قبل الموصي قال: ليس بشئ " الذي مثله موثق منصور بن حازم عنه أيضا القاصرين
عن معارضة ما عرفت من وجوه.
منها الاعتضاد بالشهرة العظيمة القريبة من الاجماع المخالفة للمشهور بين
العامة، ومنه ينقدح حملها على التقية دون العكس الذي لم ينقل إلا عن الحسن
البصري والتقية فيه مع بعدهما لا تتأتى فيما روي عن الصادقين (عليهما السلام) ومن بعدهما
لتأخر زمانهم عنه، بل قد يشهد لذلك العدول في الجواب إلى ما هو غير واضح
الدلالة، إذ من المحتمل كون المراد عدم كون الموت شيئا ينقض الوصية، بل قيل: إنه
أنسب بأسلوب الكلام، وتذكير الضمير المستتر في الفعل، ولعدم التنافي بين الروايات
وتنزيلها أيضا على ما إذا نقض الموصي الوصية بعد موت الموصى له، وكون المراد الوصاية
لا الوصية التمليكية، وغير ذلك مما يظهر منه أن المقام مقام ترجيح وطرح، لا مقام جمع
لانتفاء التعادل الذي هو شرط فيه، على أنه لو سلم فهو يقتضي التأويل في المحتمل
دون النص الذي لا يقبل التأويل، كما هو واضح.
وسوى أن وارث الموصى له إنما يرث ما كان له، والمال قبل قبوله للموصي الذي
لم يصدر منه إلا عطية للموصى له، فيكف يرث وارثه مال شخص آخر، وكيف يقبله له، مع
أن الايجاب وقع لغيره، وهو الذي قد أشرنا إلى أنه اجتهاد في مقابلة النص، مع
260

أنه يمكن دفعه فيما لو مات الموصى له بعد الموصي وقبله الوارث لمورثه الذي هو الموصى
له، وقلنا: إن القبول كاشف، فإنه يكشف حينئذ بالقبول من الوارث القائم مقام مورثه
دخوله في ملك الموصى له حين موت الموصي، فيرثه الوارث حينئذ، لكن الحق خلاف
ذلك كله، وأن الوارث ينتقل إليه المال من الموصي، وإن قلنا بالكشف في قبول الموصى
له لبعض ما عرفت مما هو مفقود في المقام، ضرورة ظهور الدليل في ملكية الوارث له بموت
الموصي، وإن قيدناه بالاجماع بحصول القبول منه لذلك، ولا وجه للكشف بالنسبة إليه
لأن الفرض كون الموصى له قد مات بعد الموصي، فيكف يكون قبول الوارث كاشفا عن
ملكه للمال حين موت الموصي، والموصى له موجود.
ودعوى أن القبول منه للميت الذي بموته خرج عن قابلية ادخال شئ في ملكه
ابتداء لا شاهد عليها، كما لا وجه لدعوى الكشف حين موت الموصى له، مع أن السبب
المملك ذكر للموصى له حين موت الموصي، فليس حينئذ إلا القول بأن قبول الوارث
مملك حين حصوله.
ومن هنا قال المصنف وغيره:
(فرع)
(لو أوصى بجارية وحملها لزوجها) أو غيره (وهي حامل منه فمات) الزوج
(قبل القبول كان القبول للوارث) لما عرفت (فإذا قبل ملك الوارث الولد، إن
كان ممن يصح له تملكه ولا ينعتق على الموصى له، لأنه لا يملك بعد الوفاة، ولا يرث
أباه، لأنه رق) مملوك للوارث (إلا أن يكون ممن ينعتق على الورثة ويكونوا جماعة)
فيشاركهم (فيرث) حينئذ (لعتقه قبل القسمة) لكن غير أمه التي لم تدخل في
ملك أبيه، بل انتقلت إلى الوارث من الموصي، فليست هي حينئذ من تركته حتى
يشارك الوارث فيها نعم هو شريكه في مال الموصى له.
وما عن الشيخ - من أنه لا يرث مطلقا، وإلا لاحتيج إلى قبوله، ولا يكون وارثا
إلا بالقبول، فيلزم الدور فواضح الضعف ضرورة صيرورته وارثا بقبول غيره ممن هو
الوارث حال موت الموصى له لأنه هو المعتبر قبوله، لا من تجدد إرثه، كما هو واضح
261

نعم لو كان الوراث واحدا فلا إرث له، وإن انعتق على الوارث لو قبل، لعدم
موضوع الاحتياج إلى القسمة الذي هو شرط إرثه، كما هو محرز في محله، هذا كله بناء
على ما ذكرناه من أن قبول الوارث ناقل له من حينه، ولو قلنا بكشفه عن دخول الموصى
به في ملك الموصى له حين موت الموصي، اتجه حينئذ انعتاقه على أبيه، وارثه لأمه
وانعتاقها عليه كما هو واضح.
هذا كله إذا كان للموصى له وارث خاص، فإنه كما عرفت يقوم مقامه، أما إذا لم
يكن ففي محكي التنقيح أن الأكثر على رجوع المال حينئذ إلى ورثة الموصي، وفي
الدروس نسبته إلى المعظم، وفي المصابيح إلى الشيخين والفاضلين، ولعله للاقتصار
فيما خالف الأصل على المتيقن، وهو الوارث الخاص، لكن فيه أن في الصحيح، أو
الحسن (1) " فإن لم تجد فتصدق به " وعن السرائر أنه لإمام المسلمين، وهو متجه لولا
الشذوذ الذي اعترف به في الدروس.
اللهم إلا أن يمنع عليه ذلك باعتبار اطلاق الأكثر الوارث الشامل له (عليه السلام) و
الأمر بالتصدق به في الصحيح المزبور الذي أفتى به الصدوق وابن سعيد على ما
قيل لا ينافيه، بل يؤكده باعتبار أن المال له، وقد أذن بالصدقة به، بل في مصابيح
الطباطبائي أن بذلك يحصل التوافق بين قول ابن إدريس وقول الصدوق وابن
سعيد، ثم قال: وهو الأقوى، هذا.
ومن الغريب ما حكاه فيها عن بعض شراح الحديث أنه قد استفاد من نصوص
المقام أن الوصية للأنبياء والأئمة (عليهم السلام) تصرف إلى أولادهم وذريتهم، لأنها دلت
على انتقال حق القبول إلى الوارث إذ لا يخفى ما فيه، من أن مورد الأخبار وجود
الموصى له حال الوصية، فلا يتعدى إلى غيره.
(ولا تصح الوصية) بصرف مال مثلا (في معصية) بلا خلاف أجده فيه،
كما اعترف به غير واحد، بل يمكن تحصيل الاجماع عليه، كما أنه يمكن منع اندراجه في
أدلة المقام فيبقى على أصالة المنع مضافا إلى عدم امكان تنفيذها، فهي كالوصية

(1) الوسائل الباب - 30 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
262

بغير المقدور، لأن الممتنع شرعا كالممتنع عقلا، وإلى ما كان منها مندرجا في المعاونة
على الإثم المنهي عنها في الكتاب العزيز (1) كمساعدة الظالم على - ظلمه ونحوها بل
قد يقال: إن الوصية بصرف المال في المعصية معصية، ضرورة كونها كبذل المال فيها
وإن تولى الصرف غير الباذل، وإلى الخبر (2) " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى
" فمن بدله بعد ما سمعه " الآية فقال: نسختها التي بعدها " فمن خاف من موص
جنفا أو إثما " قال: يعني الموصى إليه إن خاف جنفا من الموصي فيما أوصى به إليه مما
لا يرضى الله تعالى من خلاف الحق فلا إثم عليه أي على الموصى إليه أن يبدله إلى
الحق، وإلى ما يرضى الله تعالى به من سبيل الحق ".
ونحوه المرسل (3) المضمر عنه (عليه السلام) " أنه تعالى أطلق للموصى إليه أن يغير الوصية
إذا لم تكن بالمعروف وكان فيها جنفا ويردها إلى المعروف، لقوله تعالى " فمن خاف
من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه " وإلى غيره مما يستفاد منه عدم صحة
الوصية بغير الحق، والظاهر إرادة التخصيص من النسخ في الخبر الأول، كما أن
الظاهر إرادة ما لا ينافي البطلان من التبديل إلى الحق، لا أن المراد تبديل الوصية
بتعمير الكنيسة مثلا إلى تعمير المسجد، والوصية بإعانة الظالم على ظلمه إلى إعانة
المطيع من حيث هو كذلك، ضرورة عدم الدليل على ذلك، بل ظاهر الأدلة خلافه،
وإن كان قد يتوهم من ظاهر الخبرين، إلا أنه بمعونة الاتفاق ظاهرا على خلاف،
ذلك يمكن حمله على إرادة الوصية بالثلث أولا مثلا ثم الوصية بخلاف الحق، فإنه
حينئذ يتجه التبديل إلى الحق، أما في غير ذلك فليس إلا البطلان الذي يمكن أن
يكون أيضا من التبديل إلى الحق، لأن المراد منه ارجاعها إلى ما يقتضيه الشرع،
وهو مختلف كما عرفت فتدبر.
ثم لا فرق في استفادة الحكم المزبور وغيره من آية " كتب عليكم " (4) إلى قوله " غفور

(1) سورة المائدة الآية - 2.
(2) الوسائل الباب - 38 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 - 2.
(3) الوسائل الباب - 38 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 - 2.
(4) سورة البقرة الآية 180 - 183.
263

رحيم " بين القول بكونها منسوخة بآية المواريث (1) والقول بكونها غير منسوخة لعدم التنافي
بين الإرث والوصية للوارث، فإن حكم الوصية وعدم جواز التبديل إلا مع الجنف
مستفاد على كل حال، كما أن الظاهر عدم اعتبار المال الكثير في رجحان الوصية لاطلاق
لفظ الخبر المراد به المال، ولم يثبت تقييده بذلك، بل ولا خصوص الوالدين والأقربين،
وإن كانوا أولى من غيرهم، بل المراد مطلق الوصية بالمعروف.
وأما الحصر في الآية فيحتمل إرادة إثم التبديل منه، على معنى أن الإثم للتبديل
على المبدل، دون الموصي، لأنه (2) " لا تزر وازرة وزر أخرى " ويحتمل إرادة حصر إثم
الموصى له في المبدل، دون الميت الذي ارتفع الإثم عنه بوصيته فيه وربما يشهد له
النبوي (3) " من حضره الموت فوصى وصية على كتاب الله كان كفارة لما منع من زكاته في
حياته " بل وغير ذلك من الوجوه الاعتبارية، ولتمام الكلام في الآية محل آخر والله
العالم.
وكيف كان (فلو أوصى بمال للكنايس) التي هي معابد النصارى ومحال سبهم
للحق وأهله والعبادات الفاسدة (والبيع) التي هي لليهود كذلك (أو كتابة ما
يسمى الآن توراة وإنجيلا) وليس كذلك، لأنه قد حرف جملة منهما وبه كانا من كتب
الضلال (أو في مساعدة ظالم) على ظلمه بل فاسق على فسقه (بطلت الوصية)
لما عرفت، وإن قلنا بجواز الوصية لليهود مثلا.
والضابط أن كلما جاز له فعله حال الحياة جاز له الوصية به، وكلما لم يجز له
ذلك لم يجز له الوصية به، وبذلك يفرق بين المعابد وغيرها، كالقنطرة والخان، و
نحوهما وبين كتابة التوراة مثلا للنقض وغيره، وقد تقدم في الوقف في نظير المسألة ما له
نفع في المقام، بناء على اعتبار القربة فيه، فلاحظ ولا فرق في ذلك كله بين المسلم و
الكافر المشتركين في الفروع عندنا.

(1) سورة النساء الآية - 12.
(2) سورة الأنعام الآية 164.
(3) صحيح ابن ماجة ج 2 ص 902 الحديث 2705.
264

نعم قد أمرنا باقرار أهل الذمة منهم على ما عندهم من الأحكام، وليس ذلك
حكما بالصحة، وبه يجمع بين من أطلق البطلان كالماتن ونحوه، وبين من خص ذلك
بما إذا كان الموصي مسلما، والأمر سهل.
(و) كيف كان فقد عرفت فيما تقدم أن (الوصية عقد جائز من طرف الموصي)
فله الرجوع بها حينئذ (ما دام حيا، سواء كانت بمال أو ولاية) بلا خلاف بل الاجماع
بقسميه عليه، بل النصوص فيه مستفيضة أو متواترة.
لكن اطلاق العقد عليها بناء على اعتبار الموت في صحة قبولها نوع مسامحة،
إذ هي ما دام حيا ليست إلا إيجابا، أما بناء على صحته منه في الحياة ووقع منه
فصدق العقد عليها حينئذ حقيقة، ولعل ذلك هو المراد للمصنف، ويستفاد.
حكم الايجاب وحده حينئذ بطريق أولى، وإن كان قد عرفت فيما تقدم الاشكال
في كونها من العقود المتعارفة من غير هذه الجهة، فلاحظ وتأمل.
وخص الموصي مع أن حكم الجواز مشترك بينهما في الجملة، لبيان أنها بالنسبة
إليه لا تكون إلا جايزة، سواء حصل لها قبول أو لا، بخلافها بالنسبة إلى الموصى له،
فإنها قد تكون جائزة كما في حال الحياة حصل منه قبول أو لا، وبعد الوفاة قبل القبول
أو بعده قبل القبض، بناء على اعتباره في الملك، ولازمه بعد الوفاة والقبول والقبض،
أو الأولين فقط بناء على عدم اعتبار القبض في الصحة واللزوم، كما هو الأصح على
ما عرفته سابقا والله هو العالم.
(ويتحقق الرجوع) من الموصي (بالتصريح) به لفظا بلا خلاف نحو رجعت
أو نقضت، أو فسخت، أو لا تعطوه ما أوصيت به له، أو بما يفيده ظاهرا أيضا نحو: هذا
لوارثي، أو ميراث عني أو حرام على الموصى له، أو نحو ذلك مما يستلزم بطلان الأولى.
خلافا لبعض الشافعية، فلم يبطلها بالمثال الأول، قياسا على عدم البطلان
فيما لو أوصى بعين لزيد ثم بها لعمرو، بل يشتركان فيها.
وفيه: مع بطلان القياس منع الحكم في المقيس عليه، ضرورة التضاد بينهما لامتناع
حصول الملك لكل منهما، والطارية رافعة لحكم الأولى عرفا بل شرعا، لأن العمل
265

بالوصية واجب ولا يمكن إلا بالرجوع عن الأولى المشروع في نفسه بخلاف الثانية.
نعم لو نص على التشريك أو دلت عليه قرينة عمل به، بل في جامع المقاصد " و
كذا لو دلت قرينة على صدور الوصية الثانية لنسيان الأولى، وأنه لم يرجع عنها فإن
العمل بالأولى حينئذ وإن كان لا يخلو من نظر كما ستعرف.
نعم لو قال: من تركتي لم يكن رجوعا على الأقوى، لأن الموصى به من جملتها،
ودعوى اختصاصها بما كان حقا للوارث بالإرث ممنوعة.
ولو أوصى له بألف، ثم أوصى له بألف ففي القواعد هي واحدة، وكذا بألف
معينة ثم بألف مطلقة وبالعكس، ولو أوصى بألف ثم بألفين، فهي ألفين، ووافقه عليه
في جامع المقاصد ولكن لا يخلو من تأمل مع فرض عدم القرينة، لأصالة التعدد في
الاستثناء الذي لا يتصور في تكراره التأكيد. نعم هو كذلك في الاقرار فتأمل جيدا.
وعلى كل حال فالرجوع يتحقق بذلك (أو بفعل ما ينافي الوصية، فلو باع ما
أوصى به) أو أعتقه (أو أوصى ببيعه، أو وهبه وأقبضه أو رهنه) كذلك أو كاتبه
(كان رجوعا) لاقتضاء البيع والهبة مع القبض والعتق نقل الملك وإزالته المنافي
كل منهما لبقاء الوصية، والرهن منع الراهن من التصرف وتسلط المرتهن على استيفاء
حقه من القيمة المنافي لمقتضى الوصية الذي هو الملك تاما بالموت والقبول، وليس
هو كالوصية بالمرهون المنزلة على إرادة العهدية على تقدير الفك، وافضاء الكتابة
إلى انقطاع السلطنة عليه، التي من جملتها الوصية به وما عن بعض العامة من أن
البيع ليس رجوعا، لأنه يتضمن أخذ البدل - واضح الضعف.
إنما الكلام في أن اقتضاء هذه الأمور الرجوع - للتنافي، بل هو في الحقيقة ليس
رجوعا، بل بطلان للوصية بانتفاء محلها وانتقاله عن ملك الموصي، ومن هنا يتجه
البطلان حتى لو صدر ذلك منه نسيانا للوصية، أو الدلالة على قصد الرجوع، نحو ما
ستسمعه من التعريض لما هو مناف للوصية وتظهر الثمرة حينئذ في البطلان بما
أوقعه من البيع، وإن ظهر فساده، لكن ستعرف المناقشة في دلالة ذلك ونحوه
على إرادة انشاء الرجوع.
266

وأما الوصية ببيعه فالظاهر الرجوع بها لمنافاتها لمقتضى الوصية الأولى الذي
هو الملك بالموت فهو كالوصية به لزيد، ثم الوصية به لعمرو، الذي قد عرفت الكلام فيه.
لكن في المسالك إنها من فعل ما يدل على إرادة الرجوع - نحو مقدمات
الأمور التي لو تحققت لناقضت الوصية كالتعريض للبيع ونحوه مما هو ناقل للملك أو مزيل
له نعم لو دلت قرينة على عدم إرادة الرجوع بذلك وأنه لغرض آخر عمل عليها وإلا -
حمل على الرجوع عملا بظاهر حال العاقل، وقد جعل منه الهبة قبل القبض، وكذا
الرهن بناء على اعتباره فيه.
وفيه أن أقصى ذلك كون الموصي قد قصد شيئا لو تحقق لأبطل الوصية قهرا،
ولا دلالة في ذلك على إرادته انشاء الرجوع، بعد احتماله وجوها متعددة، ودعوى
ظهور حاله في ذلك ممنوعة، ولو سلم فلا دليل على صحته في مثل المقام.
نعم قد يقال: إن الهبة قبل القبض والرهن كذلك من المنافي فإنهما وإن لم
يحصل بهما الملك والرهن، إلا أن الاعداد لذلك مناف أيضا فإن الموصى به ينافيه
تعلق عقد الهبة به مثلا، فيكون حينئذ من القسم الأول، مع أنه لا يخلو من نظر أو منع
أيضا خصوصا مع ملاحظة استصحاب الوصية.
(وكذا) النظر فيما ذكره غير واحد أنه به يتحقق الرجوع وهو (لو تصرف في)
الموصى ب‍ (ه تصرفا أخرجه عن مسماه، كما إذا أوصى بطعام فطحنه أو بدقيق فعجنه
أو خبزه) لأنه كتلف محل الوصية المقتضي لبطلانها من غير حاجة إلى قصد، بل لو
وقع ذلك نسيانا منه أبطلها، بل الظاهر كونه كذلك أيضا إذا وقع لا بفعله، فإنه وإن -
كان جيدا لكن ينبغي تقييده بما إذا علم أن الموصي قد أوصى به من حيث كونه
مسمى باسم خاص، بخلاف ما إذا علم كون الوصية به من حيث الذات التي لا تبطل
الوصية بها حينئذ مع تغير حقيقتها، فضلا عن تغيير أحوالها التي تتغير به أسماؤها
أما إذا لم يعلم الحال كما لو اقتصر على حنطتي مثلا لزيد بعد وفاتي، فهو وإن كان
قاعدة دوران الحكم مدار الاسم تقتضي بطلان الوصية بانتفائه، نحو قول السيد
لعبده آتني بحنطة، فإنه لا يمتثل باتيان الدقيق، لكن قد يقال: إن ظاهر التمليك
267

عرفا يقتضي تعلقه بمسمى الاسم، لا من حيث التسمية به، وحينئذ يكون المتجه عدم
بطلانها بانتفاء الاسم، من غير فرق بين أن يكون ذلك بفعله أو لا بفعله.
ودعوى ظهور الأول في الرجوع لا من حيث انتفاء الاسم، بل من حيث أنه لو كان
باقيا على وصيته لم يغيره عن الحال الأول واضحة المنع.
ومن ذلك يظهر لك ما في كلام ثاني الشهيدين في المسالك وغيره الذي لا
يكاد يلتئم أطرافه، فإنه قد علل البطلان بانتفاء الاسم أولا، ثم اعترف بعد ذلك بعدم
البطلان لو فعل الموصي ذلك لمصلحة العين لدفع الدور عنها ونحوه، وبعدمه أيضا
لو كان قد فعله غيره من غير إذنه، مع أنه إذا كان المدار انتفاء الاسم يتجه البطلان
مطلقا.
نعم يتجه الفرق بذلك لو كان منشأ البطلان دعوى دلالة الفعل المزبور على
الرجوع، وقد عرفت منعها، كما أنه بذلك يظهر لك أولوية عدم البطلان فيما لو علق
الموصي وصيته باسم الإشارة ونحوه، مما لم يذكر فيه الاسم، فقال: هذه لزيد بعد وفاتي،
أو ما في البيت لزيد بعد وفاتي، فإنه لا اسم حينئذ قد علق عليه الوصية، كي تنتفي بانتفائه
بل لو جمع بين الاسم والإشارة أمكن الترجيح للثانية، بالاستصحاب وغيره، وإلى نحو
ذلك أشار في التذكرة وإن توهم في جامع المقاصد والمسالك عليه أنه في التذكرة يفرق
بين الوصية بالمعين والمطلق، فتصح الوصية بالأول وإن تغير الاسم، بخلاف الثاني
فإن الوصية تبطل بمجرد تغير ما عنده من أفراده لو كان، وهو شئ لا ينبغي أن ينسب
إلى أصاغر الطلبة فضلا عن العلامة خصوصا البطلان في المطلق الذي لا وجه له،
ضرورة وجوب تنفيذ الوصية على كل حال، سواء كان في التركة له فرد وقد تغير، أو لم
يكن كما هو واضح هذا.
مع أنه في التذكرة ما صدر منه إلا نحو ما في الكتاب مما هو ظاهر في المعين، ولو
باعتبار عود الضمائر كما اعترف به في المسالك بالنسبة إلى المتن وليس في كلامه التعرض
للمطلق أصلا.
نعم ذكر بعد ذلك ما قلناه من تعلق الوصية باسم الإشارة ونحوه، ثم قوى عدم
268

بطلان الوصية فيه، معللا له بأنه لا اسم كي تنتفي بانتفائه، فلاحظ فتأمل.
(وكذا) الكلام فيما (لو أوصى بزيت مثلا فخلطه بما هو أجود منه، أو بطعام
فمزجه بغيره) كذلك (حتى لا يتميز) فإنه أيضا قد ذكر غير واحد كونه رجوعا، بل في
المسالك ظاهرهم القطع بذلك لتجدد وصف لم يحصل الرضا ببذله، مع عدم امكان
الفصل، ولكونه كالتلف، ولدلالة هذا الفعل عرفا على الرجوع.
لكن في الأول منع اقتضائه البطلان، ضرورة بقاء عين الموصى بها في نفس
الأمر، وعدم تمييزها لا يقتضي بطلانها عرفا ولا شرعا، ولا ينافي قبول تمليكها فإذا ملكها
الموصى له شاركه بنسبة القيمة، فلم يحصل وصف للموصى له لم يوص به، ودعوى كونه
كالتلف كدعوى الدلالة واضحة المنع ولذلك اعترف غير واحد بعدم البطلان، بالخلط
بالمساوي والأردى، معللا له في المسالك في المزج بالأردى بكون القدر الناقص
بمنزلة اتلاف الموصى له، فيبقى الباقي على الايصاء الأول، وبعدمه أيضا لو خلطه
غيره بغير إذنه، أو اختلط بهيلان لنفسه ونحوه، ولو كان ذلك تلفا لم يفرق بين الجميع
كما أنه لو كان فيه دلالة على الرجوع لم يفرق بين الأجود وغيره، والمتجه عدم اقتضاء
شئ من ذلك الرجوع ما لم تقم قرينة تدل عليه، ويشارك الموصى له بنسبة القيمة في
الأجود والأردى، من غير فرق في ذلك بين كون الموصى به زيتا معينا أو طعاما كذلك
أو صاعا من صبرة معينة فمزجها بغيرها.
وبذلك يظهر ما في غير كتاب من كتب الأصحاب حتى الفاضل في القواعد
الظاهر منه الفرق بين المعين، والصاع من الصبرة، والخلط في الأول مطلقا رجوع
بخلاف الثاني ففيه التفصيل المزبور وهو غريب.
وكذا يظهر لك الوجه فيما في غير كتاب أيضا من قول (أما لو أوصى بخبز فدقه
فتيتا لم يكن) ذلك (رجوعا) بناء على ما ذكرناه. نعم قد يشكل ذلك بناء على ما
سمعته منهم، ضرورة تغير الاسم بذلك، اللهم إلا أن يفرض عدم تغيره، بأن يقال له
خبز مدقوق، أو يدعى أن مثل هذا الفعل لا يقتضي الرجوع، بخلاف الأفعال السابقة.
لكن الأخير كما ترى، فإن الدق كالطحن والعجن ونحوهما مما يقتضي إرادة
269

الانتفاع به للأكل ونحوه مما ينافي الاستمرار على إرادة الوصية فإن كان مثل ذلك
يقتضي الرجوع فهو في الجميع، وإلا فلا، وإن كان قد يمنع دلالة ذلك على إرادة الأكل
ونحوه، وبعد التسليم قد يمنع اقتضاء ذلك انشاء الرجوع والفسخ للوصية، فإنه يمكن
اجتماع الاستدامة عليها مع هذه الإرادة، إلا إذا كان المقصود ابطالها بالأكل أو لم
يخطر له ذلك بباله.
وبالجملة الفسخ كالعقد لا بد له من انشاء إرادة له سواء كان بفعل أو قول،
فتأمل جيدا فإنه دقيق، ومنه ينقدح لك النظر في كثير من كلماتهم في المقام بل من
التأمل فيما ذكرناه هنا تعرف ما في كثير مما أطنبوا به من الأمثلة وغيرها، ولو رجع
عن المصرف بأن أوصى لزيد بعين ثم لعمرو بأخرى وقصر الثلث، ثم أوصى بالأولى
لبكر، فالأقرب تقديم وصية عمرو على الوصية لبكر لتقدمها عليها فيدخل النقص على
المتأخرة، وإن كان لولا رجوعه عن الأولى لكان النقص عليها لأنها المتأخرة والله
هو العالم.
الفصل (الثاني في الموصي: ويعتبر فيه كمال العقل) الجاري مجرى غالب
العقلاء (والحرية فلا تصح وصية المجنون) مطبقا كان أو أدوارا، إذا كان قد أوصى
حاله، بلا خلاف ولا اشكال لسلب عبارته.
نعم لا تنفسخ بعروضه كالاغماء ونحوه مما لا عقل معه، وإن استمر إلى الموت
للأصل وكونها عقدا جائزا لا يقتضي مساواتها له في كل شئ، ولذا كان الموت محققا
لها من طرف الموصي لا فاسخا بخلاف باقي العقود الجائزة، وتصريح الأصحاب بصحة
وصية ذوي الأدوار كالنص على الصحة، وإن تعقب الجنون، على أن الأصحاب إنما
اشترطوا العقل لا استمراره، بل صرح بعضهم كثاني الشهيدين والمحققين بعدم
اشتراطه، بل عن الأول منهما أن في صحيح أبي ولاد تنبيها على ذلك، مريدا به
ما روي عن الصادق (عليه السلام) (1) في وصية القاتل لنفسه، إن كان أوصى قبل أن يحدث
حدثا إلى آخر ما تسمعه انشاء الله، باعتبار ظهوره في صحة الوصية مع تعقبها
بالفعل المانع من التصرف، فكذلك غيره من الموانع، ولا بأس به، وإن كان العمدة

(1) الوسائل الباب - 52 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
270

ما عرفت معتضدا بالاجماع في مصابيح العلامة الطباطبائي على عدم البطلان بعروض
الجنون والاغماء، سواء استمر إلى الموت أو انقطع.
(و) كذا (لا) تصح وصية (الصبي ما لم يبلغ عشرا) لعدم كمال العقل
فيه قبل ذلك غالبا (فإن بلغها فوصيته جايزة في وجوه المعروف لأقاربه وغيرهم
على الأشهر، إذا كان بصيرا) عاقلا بل هو المشهور نقلا وتحصيلا، بل نسبه بعضهم
إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الاجماع، بل في ظاهر محكي الغنية أو صريحه دعواه،
عليه لاطلاق أدلة الوصية وعمومها.
وقول الصادق (عليه السلام) في صحيح عبد الرحمان وخبره (1) " إذا بلغ الغلام عشر سنين
جازت وصيته ".
وفي صحيح أبي بصير (2) " إذا بلغ الغلام عشر سنين فأوصى بثلث ماله في حق جازت
وصيته " الحديث.
وفي موثق منصور بن حازم (3) جواب سؤاله عن وصية الغلام " إذا كان ابن عشر
سنين جازت وصيته ".
وقول أبي جعفر (عليه السلام) في صحيح زرارة (4) الذي رواه المشايخ الثلاثة " إذا أتى
على الغلام عشر سنين فإنه يجوز فيما له ما أعتق أو تصدق أو أوصى على حد معروف و
حق فهو جائز " وغير ذلك، وهي وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى العقد، لكن الاجماع
على اعتباره كاف في تقييدها به، مع أنه يمكن ترك ذلك فيها لغلبة حصول العقل
له في المدة المزبورة، مضافا إلى اشعار قوله في حد معروف وحق به.
وإلى موثق أبي أيوب وأبي بصير (5) عن الصادق (عليه السلام) " في الغلام ابن عشر
سنين بوصي قال: إذا أصاب موضع الوصية جازت ".
وقول أحدهما (عليه السلام) في موثق (6) ابن بكير " يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل
وصدقته ووصيته، وإن لم يحتلم، واطلاقه بالنسبة إلى العشر لا ينافي التقييد بالعقل

(1) الوسائل الباب - 44 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 و 3 و 7 و 4 و 5.
(2) الوسائل الباب - 44 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 و 3 و 7 و 4 و 5.
(3) الوسائل الباب - 44 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 و 3 و 7 و 4 و 5.
(4) الوسائل الباب - 44 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 و 3 و 7 و 4 و 5.
(5) الوسائل الباب - 44 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 و 3 و 7 و 4 و 5.
(6) الوسائل الباب - 32 - من أبواب الطلاق الحديث الاستبصار ج 3 ص 302.
271

فيه، كما لا ينافي تقييده بالعشر التي تضمنته النصوص السابقة المعتضدة بما عرفت،
الذي لا يقدح في صحتها بالنسبة إلى المطلوب اشتمال بعضها على ما لا نقول به،
فيقيد بها الموثق المزبور وبالجميع يخص ما دل على سلب عبارته، ولا حاجة إلى تكلف
دعوى عدم شمول تلك الأدلة لما بعد الوفاة التي من الواضح منعها، كمنع دعوى
جواز وصيته باعتبار كونها عبادة، وهو غير محجور عليه بالنسبة إليها، بناء على
شرعيتها.
إذ فيها أولا: منع الشرعية، وثانيا: منع شرعيتها إذا كانت بمال، فليس له أن
يؤدي زكاته المستحبة ولا الصدقة ولا الوقف ولا العتق لسلب عبارته.
ومن الغريب رد ابن إدريس هذه الأخبار، مع أنه يدعي غالبا قطعية ما هو
أقل منها عددا وعملا، وأغرب منه موافقة جماعة من المتأخرين له، ممن لم يوافقه على
عدم العمل بأخبار الآحاد على ذلك، وما في المسالك " من أنها مختلفة بحيث لا
يمكن الجمع بينها، واثبات الحكم المخالف للأصل بها مشكل ".
لا يخفى ما فيه على الناظر فيها، بعد الإحاطة بما ذكرناه.
(وقيل) والقائل ابن الجنيد (تصح) وصيته (وإن بلغ ثمان‍) يا من
السنين (و) هو وإن كان لا يخلو من وجه لكن (الرواية به) التي استند إليها
(شاذة).
وهي خبر الحسن بن راشد (1) عن العسكري (عليه السلام) " إذا بلغ الغلام ثماني سنين
فجائز أمره في ماله، وقد وجب عليه الفرائض والحدود، وإذا تم للجارية سبع سنين
فكذلك " على أن ظاهرها حصول البلوغ لهما من غير فرق بين الوصية وغيرها، وقد
قيل إنه مخالف لاجماع المسلمين وأخبارهم.
نعم لو كان مدركه أنه مع فرض بلوغ الصبي العقل المتعارف لغالب الأولاد لم
تكن للعشر خصوصية وإن قيد بها في تلك النصوص، إلا أنه جار مجرى الغالب، فلا
تصلح للتقييد، ولذا جعل المدار في غيرها على العقل وعلى إصابة موضع الوصية،

(1) الوسائل الباب - 15 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث - 4.
272

وحينئذ فتجتمع جميع النصوص على ذلك، إلا أن المتجه حينئذ عدم التقييد بالثمان
أيضا، كما عساه يشهد له قول الصادق (عليه السلام) (1) " إذا بلغ الغلام عشر سنين فأوصى بثلث
ماله في حق جازت وصيته، وإذا كان ابن سبع سنين فأوصى في ماله بشئ في حق
جازت وصيته " وعن الفقيه ابدال الشئ باليسير، ولعل المراد به الأقل من الثلث،
على أنه مخالف للاجماع بحسب الظاهر، ولذلك أمكن إرادة التقييد به، وإن سلم
كون الغالب، إلا أنه لعل الشارع لاحظ الغالب في التحديد والتقييد، الحاقا
للنادر بغيره في الحكم، كما هو المعروف في قواعد الشرع وقوانينه.
وعلى كل حال فلا ريب أن الأقوى المشهور، وأما القول بالتفضيل بين الأقارب
وغيرهم الذي قد يتوهم أنه أشار إليه المصنف بالتنصيص على عدم الفرق، فلم يتحقق
القائل به، وإن رواه ابن مسلم في الصحيح (1) " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن
الغلام إذا حضره الموت فأوصى ولم يدرك جازت وصيته، لأولي الأرحام ولم يجز
للغرباء ".
ولعل الإشارة بالتنصيص إليه، لكن لقصوره عن تقييد ما عرفت من وجوه، يمكن
حمله على إرادة بيان عقله وتمييزه بذلك، بل لعل تقييد وصيته بالمعروف مشعر بذلك
بناء على إرادة الراجح شرعا منه، كبناء القناطر والمساجد وصلة الأرحام ونحو ذلك،
ويمكن إرادة الوصية الجائزة الجارية مجرى وصايا العقلاء، كما أومى إليه بقوله (عليه السلام)
" إذا أصاب موضع الوصية " (2) بل وبقوله " حق " المراد منه ما قابل الباطل الذي هو
مظنه الصبا، والله العالم.
وكذا لا تصح وصية المملوك بما في يده من الأعيان ومطلقا بناء على أنه لا يملك
أصلا حتى مع إجازة السيد لخروجها عن موضع الوصية ضرورة كونها كقول مال، زيد لعمرو
بعد وفاتي، بل ولا من الفضولي الذي هو الوصية عن زيد بعد وفاته، لا وفاة غيره، بل
وعلى غيره للحجر عليه الشامل لهذا التصرف قطعا، ولو بملاحظة ما دل من النصوص
على جواز وصية المكاتب بمقدار ما أعتق منه.

(1) الوسائل الباب - 44 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(2) الوسائل الباب - 44 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
273

نعم لو أجاز له مولاه صح بناء على ملكه، بل وكذا لو زال الرق وفرض بقاء ماله
الموصى به على ملكه حتى مات، وإن كان قد يحتمل البطلان لكونه كبيع المرهون ثم
فك، بناء على عدم الصحة فيه، لكن قد عرفت البحث فيه في محله.
أما لو ارتفع الرق عنه بعد الايصاء منه وقد ملك بعد عتقه مثلا ما تنفذ فيه وصيته،
فوجهان - من اطلاق تنفيذ الوصية وكونه غير مسلوب العبارة فهو كالمعسر حال الوصية
الموسر حال الموت، واطلاق ما دل على نفوذ وصية المكاتب بقدر ما تحرر منه، وعدم
ثبوت اشتراط صحه الوصية بعدم المانع من نفوذها غير الموت - ومن وقوع الايجاب
عنه وهو رق، واطلاق قوله لا وصية لمملوك والتعليق في المعنى في الوصية، بغير
الموت - أقويهما الأول لما عرفت مع عدم ثبوت اعتبار الحرية حين ايجاده عبارة الوصية
بل لعل الثابت خلافه، كما سمعته في اطلاق روايات المكاتب كما أن المعتبر في
الوصية الملك حين الوفاة، لا حين الايقاع، والخبر المزبور مع عدم جمعه لشرائط
الحجية ظاهر في غير الفرض، وعدم قدح معنى التعليق الذي هو كقوله إن كانت
زوجتي فهي طالق، بل في القواعد وغيرها لو قال العبد: متى أعتقت ثم مت فالأقرب
الجواز، ولعله لأن قوله هذا لزيد بعد وفاتي إن مت حرا، بمنزلة قوله إن مت في
سفري أو مرضي، بل لا يبعد صحة التعليق على الملك في المشخص أو المطلق وإن كان
لا يخلو من نظر، سيما الأول، كالنظر في صحة الوصية بعين للغير ثم ملكها بعد ذلك
هذا كله في الوصية التمليكية للمشخص أو المطلق.
أما العهدية كالوصية بالدفن في مكان مخصوص ونحوه مما لا يحتاج إلى صرف
مال فوجهان أيضا كالوجهين في وصية السفيه بالمعروف أو مطلقا، بل القولين إلا أن
الأقوى فيه عدم جوازها، لعموم أدلة الحجر عليه، ودعوى اختصاصها في حال الحياة
واضحة المنع، لكن في جامع المقاصد " أن المشهور الجواز " بل عن ظاهر الغنية
الاجماع على ذلك، فإن تم فهو، وإلا كان الأقوى ما عرفت.
وأما المفلس فالأقوى جواز وصيته، لعدم معارضتها لحق الغرماء، لأنها من
الثلث الذي لا يكون إلا بعد وفاء الدين كما هو واضح.
274

(ولو جرح) مثلا (الموصي نفس) عمدا (بما فيه هلاكها) أي أحدث
ذلك بها ليموت (ثم أوصى) بشئ من ماله (لم تقبل وصيته) بلا خلاف معتد به
أجده، بل عن الإيضاح نسبته غير مرة إلى الأصحاب مشعرا بالاجماع عليه.
لصحيح أبي ولاد (1) المروي في الكتب الثلاثة عن الصادق (عليه السلام) " من قتل نفسه
متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها، قلت: أرأيت إن كان أوصى بوصية ثم قتل نفسه من
ساعته تنفذ وصيته فقال: إن كان أوصى قبل أن يحدث حدثا في نفسه من جراحة أو
فعل لعله يموت أجيزت وصيته في الثلث، إن كان أوصى بوصية بعد ما أحدث في
نفسه من جراحة أو فعل لعله يموت لم تجز وصيته ".
فما عن ابن إدريس من صحة وصيته واضح الضعف على أصولنا، وإن نفى عنه
البأس في محكي المختلف واستحسنه في محكي الروضة وإيضاح النافع، وكذا المسالك
إلا أنه كما ترى اجتهاد في مقابلة النص، المعمول به الجامع لشرائط الحجية والعمل
بل وكذا ما في القواعد، ولو قيل بالقبول مع تيقن رشده بعد الجرح كان وجها وأغرب
من ذلك قوله فيها أيضا: وتحمل الرواية على عدم استقرار الحياة على اشكال، إذ هو
كما ترى.
(نعم لو أوصى، ثم قتل نفسه قبلت وصيته) على حسب وصية غيره، بل لا
اشكال كما لا خلاف أجده فيه، للصحيح السابق مضافا إلى الأصول والعمومات، ولا
يقاس الأول عليه، لحرمته عندنا، مع امكان ابداء الفرق بأن الأول بفعله ذلك بنفسه
كان كمن زال عقله، لا تقبل وصيته المتأخرة بخلاف الثاني الذي هو كمن زال عقله
بعد ايصائه، بل ربما جعل وجه النص ذلك، أو أن عدم القبول في الأول لكونه غير
مستقر الحياة، أو لأن الثلث بالنسبة إليه كالإرث بالنسبة إلى غيره ممن يحرم من
الإرث بقتله الموروث عمدا، فكذلك هذا، يرحم من الثلث عقوبة، والجميع علل بعد
السماع، وإن كان خيرها آخرها.
نعم ينبغي الاقتصار فيما خالف الأصل على المتقين، وهو الوصية في الثلث،

(1) الوسائل الباب - 52 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
275

أما غيره الذي لم يستلزم وصيته في الثلث كمكان الدفن والولاية على الأطفال ونحو
ذلك فلا، ومن فعل ذلك عمدا - دون الخطأ - ورجاء لأن يموت دون غيره، من غير
فرق في ذلك بين الجرح وغيره، للصحيح المزبور، فيندرج فيه من يقتل نفسه بالسم
مثلا.
لكن هل يلحق به من ألقى نفسه إلى التهلكة اشكال، أقواه عدم اللحوق،
للأصل، كما لا يلحق به من فعل ذلك بنفسه عمدا ليموت، لكن لم يكن عاصيا لكون ذلك
جهادا في سبيل الله، أو لأنه غير مكلف، ثم ارتفع المانع.
ومحل البحث ما لو مات بذلك، أما لو عوفي منه فأوصى فلا اشكال، بل لا يبعد
صحة وصيته الأولى، إذا كان قد بقي مستمرا عليها، بناء على أن ذلك كالوصية المستأنفة
وإن كان لا يخلو من نظر مع فرض عدم تجرد انشاء تمليك، ولذا لو نساها ولم يجددها
لم تنفذ، على الأقوى لظهور الصحيح المزبور في عدم جواز وصيته في الحال المفروضة
وإن عوفي لكن على معنى عدم أثر للايجاب المفروض، دون المتجدد بعد أن عوفي.
ودعوى صحة الايجاب في نفسه وإن كان لو مات في ذلك الجرح لم يترتب
عليه أثر، أما إذا عوفي منه ثم مات أثر أثره، إذ هو بحكم المراعي - يدفعها ظهور
اطلاق عدم الجواز في الصحيح بخلافها.
نعم قد يقال: إن ظاهر الصحيح عدم الجواز من حيث كونه وصية للمجروح على
حسب الأول من البرء منه أما لو أجاز الوارث فقد يقال بالصحة، لعموم الأدلة،
اللهم إلا أن يقال: إن إجازة الوارث تنفيذ، كما ستعرفه في محله انشاء الله، وهو
يتوقف على صحة الوصية حتى يتجه التنفيذ.
وفيه: منع الدليل على عدم الصحة على وجه لا تقبل التنفيذ، بل لعل اطلاق
ما دل على الصحة مع إجازة الوارث يقضي بخلافه فلاحظ وتأمل هذا.
والظاهر عدم الحاق التنجيز بالوصية، وإن اتفق التعبير بها عنه في بعض
الأحوال على ضرب من المجاز، اللهم إلا أن يقال: إن منع الشارع له من الوصية
لعدم الثلث له فيمتنع التنجيز أيضا، لذلك، بناء على أنه منه، لكن لا يخلو من نظر
276

فتأمل جيدا والله العالم.
(ولا تصح الوصية بالولاية على الأطفال، إلا من الأب أو) من (الجد
للأب خاصة) الثابتة ولايتهما عليهم زمن الحياة على وجه لهما الوصية بها نصا و
فتوى، بل اجماعا بقسميه، ولا ينافي ذلك انقطاعها حال عدم الوصية بها، ضرورة
كونها حينئذ كالثلث الذي له الوصية به، وإن لم يفعل لم يكن له شئ، بخلاف
الحاكم الخاص الذي ثبتت ولايته عليهم من حيث الحكومة منهم (عليهم السلام) المقيدة زمن
الحياة، فهو شبه الوكيل عن الإمام (عليه السلام) بالنسبة إلى ذلك، فينعزل بالموت خصوصا
بعد أن كان النصب للصنف الذي ثبت في حق الشخص باعتبار اندراجه فيه فإذا
انعدم فرد، قام مقامه فرد آخر مما حل فيه طبيعة الصنف الذي قد نصبه إمام الأصل
ولنحو ذلك لم يصح الوصية من الأب والجد له بالولاية مع وجود الآخر ولو على ثلث
ماله باعتبار ثبوت الولاية للأب الصادق على كل منهما فمع فرض وجود مصداقه انقطع
ولاية الآخر بموته.
نعم لو كان الولاية منحصرة في أحدهما صح حينئذ الوصية بالولاية منه، وليس
هكذا الحاكم، لأن إمام الأصل موجود في كل زمان، ويتولى الأمر عنه حينئذ حسبة
عدول المؤمنين فتأمل.
وليس لوصي أحدهما عليهم الوصية بالولاية أيضا، إذا لم يكن قد نص الموصي
الأول عليه بذلك، لأنه كالوكيل عنه، ينعزل بموته لا أقل من الشك في كون ولايته
الحاصلة له بنصب الأب أو الجد قابلة للايصاء بها، والأصل العدم، والاستصحاب
لا محل له في الفرض فترجع الولاية حينئذ إلى الحاكم.
(ولا ولاية للأم) بلا خلاف معتد به للأصل (فلا تصح الوصية منها حينئذ
عليهم) خلافا للإسكافي فجعل الولاية لها مع رشدها بعد الأب، وضعفه واضح،
لعدم الدليل على ولايتها، بل ظاهر الأدلة خلافه وكون الولاية ثابتة لها على
ثلثها، فلها اخراجه عنهم، لا يقضي بثبوت الولاية لها عليهم، بحيث لو أوصت
بالثلث لهم على وجه يكون ملكا لهم، أن تجعل أمره إلى غير وليهم الشرعي لعدم
277

القدرة لها على ذلك، ضرورة رجوع ذلك إلى الشرع لا إليها، والثابت منه ما عرفت.
وكذا الكلام في وصية الأب مع وجود الجد بالعكس (و) حينئذ ف‍ (لو أوصت
لهم بمال، ونصبت) لهم (وصيا) عليه وعلى ثلثها وقضاء ديونها (صح تصرفه
في ثلث تركتها) مما لم يرجع إلى الأطفال (و) كذا تصرفه (في اخراج ما عليها
من الحقوق، ولم تمض على الأولاد) لما عرفته من عدم الولاية لها عليهم، ولا فرق في
ذلك بين أن يقع الايصاء منها بعبارة واحدة، أو بعبارات متعددة ضرورة كون الوصية
أوسع من البيع الذي إذا تعلق بما يصح بيعه وما لا يصح، فإن ينفذ في الأول دون
الثاني، وإن كان بصيغة واحدة كما هو واضح.
ولو أوصت بثلثها لأطفالها على أن يبقى بيد الوصي ثم يملكه لأطفالها بعد
البلوغ أو أوصت به على أن يصرف عليهم ففي تسلط الوصي دون الأب حينئذ اشكال من
عدم ملكيتهم للمال، فلا تسلط لوليهم عليه، ومن كونه حقا لهم، والولي مسلط عليه
كالمال، وقد يفرق بين الأول والثاني، ولعل الأقوى الأول لأنه ولاية على التصرف
لا الطفل، فهو كالوقف منها عليهم مثلا على أن يكون المتولي له غير الولي لا الوصية
بذلك، فالوقف على البالغ الرشيد والمتولي غيره، وستسمع أن الوصية أوسع من غيرها
فإن الوقف وإن كان هو على حسب ما يقفه أهله، لكن الوصية تتعلق بالمعدوم ونحوه،
وقد استدل الإمام (عليه السلام) بقوله " فمن بدله " بالوصية للمجوس وغيرهم على وجه يظهر
منه عموم مورد الوصية، وأنه لا يجوز تبديله ما لم يعلم بطلانه فلاحظ وتأمل كي تعلم
شمولها للفرض وغيره والتمليك على وجه مخصوص في الكبير الذي لا ولاية لأحد عليه و
غيره والله العالم.
الفصل (الثالث في الموصى به، وفيه أطراف).
(الأول: في متعلق الوصية، وهو إما عين) موجودة (أو) متوقعة، كحمل
الدابة والجارية ونحوهما بل وإن لم يكن معتاد الوقوع إذا كان ممكنا، وأما (منفعة)
كذلك ولو حقا قابلا للنقل والانتقال كحق التحجير.
(و) على كل حال (يعتبر فيهما الملك) للموصي على معنى قابليته لذلك
278

وإن لم يكن مملوكا فعلا كما يومئ إليه التفريع ونحوه (فلا تصح ب‍) ما لا يدخل في ملك
أحد أصلا ك‍ (الخمر) الغير المحترمة، بخلاف المحترمة كالمتخذة للتخليل (ولا)
ب‍ (الخنزير ولا) ب‍ (كلب الهراش) بخلاف الكلاب الأربعة، والجرو القابل
للتعليم التي هي مملوكة ولها منفعة مباحة ودية، كما مر البحث فيها سابقا (ولا ما لا
نفع) معتد به (فيه) ولا بآلات اللهو، ونحو ذلك من حيث كونها كذلك ملاحظا
اسمها لما عرفت من أن الوصية التمليكية قسم من العقود أو الأسباب المملكة، فلا تتعلق
بما لا يقبل الملك، بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في الرياض، بل حكي فيه عن التذكرة
الاجماع عليه وعلى جواز الوصية بالكلاب الأربعة معللا ذلك بأن فيها نفعا مباحا،
وتقر اليد عليه والوصية تبرع تصح في المال وغير المال من الحقوق، وأنه تصح هبته
فتصح الوصية به كالمال، قيل: ويستفاد منه جواز الوصية بكل ما فيه نفع محلل مقصود،
وإن لم يجز بيعه كالفيل ونحوه على القول بالمنع عن بيعه، وبه صرح في التذكرة
في المثال وغيره.
قلت: لعل ذلك كله لعموم أدلة الوصية ولذا جاز تعلقها بالمعدوم الذي هو
غير قابل لتعلق صفة الملك به، لولا الدليل حتى ما كان فيه غير معتاد الوجود، و
بالحقوق ونحوها ويمكن إرادة ما يشمل ذلك من الملك في المتن وغيره، فتصح الوصية
حينئذ بالعين التي لا تدخل في الملك، لكن للمستولي عليها حق اختصاص بها، على
معنى الوصية بذلك الحق الذي للموصي، وكذا حق التحجير.
نعم هي لا تتعلق بما لا يقبل النقل من الحقوق لغير الوارث كحق القذف و
نحوه، مما يراد به التشفي الذي هو للوارث دون الموصى له، ويخرج باعتبار الملك
أيضا ما كان ملكا للغير وإن أجاز بناء على عدم كون ذلك شبه الفضولي، ضرورة كون
ذلك وصية عن الغير بماله، كما لو قال قائل: مال زيد لعمرو بعد وفاته، ثم أجاز زيد،
لا أنه يقال مال زيد لعمرو بعد وفاتي، ثم يجيز زيد، فإنه لا دليل على مشروعية ذلك،
كما هو واضح.
والوصية بالأزيد من الثلث مع أن الحق كون الإجازة من الورثة تنفيذا كما
279

ستعرف، بمعنى أنه لا يدخل في ملك الوارث، مع إجازته، خارج بالدليل، ولا يقاس
عليه غيره، فما عن الدروس من احتمال الصحة واضح الضعف، وإن قواه بعض مشايخنا.
نعم عن التذكرة احتمال صحة الوصية بملك الغير إذا قيده بتملكه وفي القواعد
ولو قال: إن ملكت مال فلان فقد أوصيت به للفقراء. احتمل الصحة لأنه أولى من
الوصية بالمعدوم مع أنه لا يخلو من نظر أو منع يعرف مما قدمناه سابقا، وهو بطلان
التعليق على غير الموت للوصية.
نعم قد يقال: بصحته لو قال إن مت مالكا لذلك فثلثه للفقراء مثلا نحو ما سمعته
في مثل إن مت حرا وفي سفري هذا قيل: وكذا يخرج باعتباره ما لا يقصد ملكه عادة لحقارته
كفضلة الانسان أو لقلته كحبة الحنط ولعل ذلك ونحوه الذي أشار إليه بقوله " ولا
ما لا نفع " لكن قد يقال: إن ما لا نفع معتد به فيه غالبا إذا اتفق حصول النفع به يختص
به من استولى عليه، بل لعل حق الاختصاص به ثابت له مطلقا لصدق الظلم على من
انتزعه منه قهرا فتصح الوصية بهذا الحق، بل مثل حبة الحنطة مملوكة قطعا، وإن
كان لا يصح المعاوضة عليها للسفه المفقود في الوصية لعدم العوض فيها، مع أنه قد
يحصل النفع بها للفخ ونحوه، وبالجملة عمومات الوصية شاملة لذلك كله، ولكل حق
قابل للنقل ولو بصلح أو شرط سواء حرم التكسب به أو لا، بل يظهر من كلام بعضهم
شدة التوسعة في الوصية حتى أنه ربما صححوا النقل بها لما لا يجوز نقله إلا بها كبعض
المعدومات، بل لعل الضابط فيها تعلقها بكل شئ إلا ما علم خلافه، كما شهد استدلاله
(عليه السلام) بصحة الوصية للمجوس وغيرهم بقوله تعالى " فمن بدله " إلى آخره ولذا صحت
بالمعدوم والمجهول حتى مثل أحد العيدين وغير المقدور على تسليمه، كالآبق و
نحوه، بل وما ليس ما لا مما فيه نفع معتد به، كالزبل للتسميد المصرح به في قواعد الفاضل
وغيرها، ونحو ذلك مما يدل على التوسعة في متعلق الوصية ما لم يعلم العدم، وإن
كان بعضه لا يخلو من نظر، بل صرح في الدروس بالمنع من الوصية بالسرجين النجس،
والحشرات التي تقدم في المكاسب بعض الكلام في ثبوت حق أو ملك بالاستيلاء عليها
مطلقا أو حال الاحتياج إليها، وكالوصية بحق الخيار مجردا عما فيه الخيار، فإنه و
280

إن كان يورث، لكن انتقاله بالوصية أو غيرها من النواقل مشكل.
نعم يصح الصلح عنه اسقاطا، بل لو أوصى بالعين التي له الخيار فيها يشكل انتقال
الخيار للموصى له، لأنه من توابع العقد دون العين، وربما حكي عن بعض المحققين ممن
قارب عصرنا جواز نقل حق الخيار بالصلح مثلا، فيكون الثمن والمثمن لمن أنتقل إليه.
الخيار، وهو مشكل من وجوه، وكذا النظر في اعتبار بعض ما أوصى به مما ليس بمتقوم، لعدم
كونه ما لا بالنسبة إلى الثلث فهل يفرض القيمة لها نحو فرض الحر عبدا أو يجعل قيمة
منفعته قيمته، أو يرجع إلى العدد وقد يحتمل عدم اعتبار الثلث في مثل الفرض، حملا لما
دل على ذلك على غير الفرض، وابقاء لعموم الوصية على حالها، فلو فرض عدم مال له إلا
ذلك نفذ الوصية من دون شئ للوارث، بل ولا لذي الدين، لأن الفرض عدم كونه ما لا
يتعلق به الدين، على وجه يكون وفاء عنه هذا، وقد وقع للفاضل في القواعد في الفرض
ونظائره ما هو محل للنظر أو المنع، بل منه غير المنطبق على أصولنا فلاحظ وتأمل.
ثم إن اطلاق المصنف وغيره عدم جواز الوصية بالخمر والخنزير يقتضي عدم الفرق
بين كون الموصي والموصى له مسلمين أو كافرين، أو أحدهما مسلما والآخر كافرا ولعله
كذلك، لتكليف الكافر بالفروع كالمسلم، وإن كنا مأمورين باقرارهم والزامهم بما الزموا به
أنفسهم، ومعاملتهم على ما عندهم، لكن ذلك كله لا يقتضي الصحة ولعله بذلك
يجمع بين العبارات والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (يتقدر كل واحد منهما) أي العين والمنفعة (بقدر
ثلث التركة فما دون و) حينئذ ف‍ (لو أوصى بما زاد بطلت في الزائد خاصة، إلا أن
يجيز الوارث) بلا خلاف معتد به أجده في شئ من ذلك، بل الاجماع بقسميه عليه،
والنصوص مستفيضة فيه أو متواترة.
فما عن علي بن بابويه - من عدم تقديرها بذلك، بل لو أوصى بماله كله نفذ،
تمسكا بالرضوي (1) " فإن أوصى بماله كله فهو أعلم بما فعله، ويلزم الوصي انفاذ وصيته
على ما أوصى به " والخبر " الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح إن أوصى به كله فهو

(1) المستدرك ج 2 ص 523 مع اختلاف يسير.
281

جائز " وفي آخر (1) " رجل أوصى بتركته متاع وغير ذلك لأبي محمد (عليه السلام) فكتب إليه جعلت
فداك رجل أوصى إلي بجميع ما خلف لك، وخلف ابنتي أخت له، فرأيك في ذلك فكتب
إلي بع ما خلف وابعث به، فبعت وبعثت به إليه فكتب إلي قد وصل " ونحوه غيره مؤيدا كله
ذلك بالاطلاقات.
واضح الضعف لقصور ذلك كله عن مقاومة ما عرفت، من وجوه عديدة، بل احتمل
كون المراد من عبارة المخالف ومستنده أنه يجب صرف المال الموصى به بجميعه على
حسب ما أوصى، من حيث وجوب العمل بالوصية وحرمة تبديلها، بنص الكتاب والسنة
حتى يعلم فسادها وبطلانها، ولو بالجور فيها على الوارث، وإرادة حرمانه عن التركة،
ومجرد احتمال ذلك غير كاف، فإذا وقع من الموصي الوصية بأزيد من الثلث ولم يعلم
الوجه في ذلك، ولعله كان لحق له عليه أو غيره وجب انفاذها، وحرم تبديلها حملا
لها على الوصية النافذة، وعملا بتلك الاطلاقات، ولأنه أعلم بما فعل، هذا غير جواز
الوصية بالزيادة على الثلث تبرعا، الذي هو محل البحث، فيكون الحاصل وجوب انفاذ
الوصية، وإن زادت حتى يعلم أنها وقعت تبرعا، فتتوقف حينئذ على الإجازة، وفي
الرياض أن هذا التوجيه وإن لم يكن ظاهرا من عبارته فلا أقل من مساواة احتماله،
لما فهموه منهما، فنسبتهم الخلاف إليه ليس في محله، وعليه نبه في التذكرة فلا خلاف
من أحد حينئذ في المسألة.
قلت: لكن قد يقال أولا بمنع المحمول عليه، لعدم مشروعية صورة تصح فيها
الوصية التي هي بمعنى التمليك بعد الموت بأزيد من الثلث، من دون إجازة الوارث
حتى في صورة النذر وأخويه، لظهور الأدلة في اشتراط صحة الوصية بعدم الزيادة على
الثلث إلا مع امكان إجازة الوارث، فلا ينعقد النذر على غير المشروع، واحتمال اشتغال
ذمة الموصي بمال للموصى له، لا يجدي في صحة الوصية بالمعنى المزبور، ضرورة عدم
كون ذلك وفاء له، بعد فرض كون المراد تمليكه إياه بالوصية دون الوفاء، كما أن احتمال
فرض غير ذلك يقتضي خروج المسألة عن الفرض الذي هو تمليك الزائد على الثلث

(1) الوسائل الباب - 11 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 16.
282

بالوصية من دون إجازة، ومن ذلك يظهر لك أنه لا وجه لتقسيم الوصية إلى التبرعية و
غيرها، فتعتبر إجازة الوارث في الأولى، دون الثانية، وبعد التسليم - لظهور النصوص
كما لا يخفى على من لاحظها في الحكم بالوقوف على إجازة الورثة، بمجرد اشتمال الوصية
على الأزيد من الثلث، فيكون الأمر على العكس فيما ذكره الموجه، ضرورة كون مدار الحكم
بذلك، حتى يعلم أن صدورها منه لسبب من الأسباب التي توجب الاخراج من الأصل
عملا بظاهر ما دل على تعلق حق الوارث بالزائد عن الثلث، حتى يعلم خلافه، وأصالة
النفوذ في الوصية بعد تسليمهما إنما هي حيث لا تعارض حق الغير، ومن هنا قد اشتملت
جملة من النصوص قولا وفعلا على رد الوصية الزائدة عن الثلث إليه بمجرد صدورها من
الموصي كذلك، ما لم يعلم سبب من أسباب التعلق بالأصل، ولو من إقراره، ولعل ذلك
هو الأقوى ترجيحا لهذه الأدلة على تلك الأدلة، وإن سلم كون التعارض بينهما من
وجه، كما لا يخفى على من لاحظ نصوص المقام متدبرا فيها، والله العالم.
كما أنه منها يعلم أيضا عدم اعتبار قصد الموصي الثلث في تنزيل وصيته عليه، فلو
أوصى بشئ ينطبق عليه أو يقصر عنه صح، ونفذ منه وإن لم يكن قد قصد ذلك، بل و
إن قصد من الأصل.
نعم لو أوصى بشئ بعد أن أوصى بالثلث مثلا مصرحا بإرادة إخراجه من الأصل
كان ذلك موقوفا على الإجازة من الوارث، وإن وسعه الثلث، لأنه قد قصد إخراجه من
الأصل على وجه لا يعارض ما أوصى به أولا، إلا ما يخصه من التقسيط الذي هو في
الحقيقة رجوع به عن الوصية الأولى، كما لو صرح باخراجه من الوارث، وسلامة ثلثه منه،
فمحل التعلق بالثلث في الفرض الوصية المقصود خروجها منه، أو المجردة عن قصد ذلك
وقصد خلافه.
والوجه في الأول واضح، بل الثاني أيضا ضرورة التمكن من انفاذ الوصية فيه،
ولصدور السبب من الموصي وله محل قابل للتعلق به، فيعمل عمله، إذ الأصل في الأسباب
ترتب مسبباتها عليها ما لم يحصل لها معارض، واحتمال البطلان في الوصية في الفرض
مناف لاطلاق أدلتها المقتضي لصحتها، كما هو واضح وربما تسمع له زيادة تحقيق انشاء
283

الله، ولا فرق فيما ذكرنا بين الوصية بالحصة المشاعة كالربع والنصف وبين الوصية بشئ
معين كالفرس والعبد ونحوهما.
(و) كيف كان ف‍ (لو كانوا) أي الورثة (جماعة فأجاز بعضهم، نفذت الإجازة
في قدر حصته من الزائد) لحصول المقتضي بالنسبة إليه، وارتفاع المانع، ولا يقدح
هنا التبعيض، كما لا يقدح في غيرها من العقود، مثل بيع مال الغير إذا كان للمتعددين
فأجاز بعضهم، وامتنع الآخرون، وكذا لو أجاز الجميع البعض، أو البعض البعض،
لاتحاد الجميع في المدرك، كما هو واضح.
فلو فرض كون الوارث ابنا وبنتا وأوصى بنصف ماله، فإن أجازا معا فالمسألة من
ستة، لأن لهما نصف التركة أثلاثا، وإن ردا معا فالمسألة من تسعة، لأن لهم ثلثي
التركة أثلاثا، فأصلها ثلثه، ثم تنكسر عليها في مخرج الثلث ولا وفق، وإن أجاز أحدهما
ضربت وفق إحدى المسألتين، وهو الثلث في الأخرى، تبلغ ثمانية عشر للموصى له
الثلث، بغير إجازة ستة، ولهما الثلثان اثني عشر أثلاثا، فمن أجاز منهما دفع من نصيبه
ما وصل إليه من السدس الزائد، وهو سهم من البنت وسهمان عن الابن، إذ لو أجاز
الابن لكان له ستة من الثمانية عشر، ومعه من الاثني عشر ثمانية، فيدفع إلى الموصى
له سهمين، ولو أجازت البنت لكان لها ثلاثة من الثمانية عشر، ومعها أربعة فيندفع
سهما فيكمل للموصى له على تقدير إجازتهما تسعة هي النصف، وعلى تقدير إجازته
خاصة ثمانية، وعلى تقدير إجازتها خاصة سبعة، وقس عليه ما يرد عليك من نظائره.
(و) على كل حال ف‍ (إجازة الوارث تعتبر بعد الوفاة) إجماعا بقسميه، ونصوصا
(وهل تصح قبل الوفاة فيها قولان: أشهرهما أنها تلزم الوارث) بل هو
المشهور، بل عن الشيخ الاجماع عليه للصحيحين (1) " رجل أوصى بوصية وورثته شهود
فأجازوا ذلك، فلما مات الرجل نقضوا الوصية، هل لهم أن يردوا ما أقروا به؟ قال:
ليس لهم ذلك، الوصية جائزة عليهم " ونحوهما غيرهما، كما هو مؤيد بعموم الأدلة الدالة
على وجوب امضاء الوصية، وكون الإرث بعدها، خرج منها ما إذا لم يجز الوارث مطلقا

(1) الوسائل الباب - 13 - من بواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
284

فيبقى الباقي، وبأن المنع من نفوذ الزائد عن الثلث إنما هو لحق الورثة، وهو متحقق
في حال الحياة، فإذا أجازوا فقد أسقطوا حقهم، وبأن المال الموصى به لا يخرج عن
ملك الموصي والورثة لأنه إن برئ كان المال له، وإن مات كان للورثة، فإن كان
للموصي فقد أوصى به، وإن كان للورثة فقد أجازوه، ولأن التعليق الذي في الوصية
ليس للانشاء فيها، كيلا يقبل القبول والإجازة، بل هو لحصول الأثر فيها، وإلا
فالانشاء حاصل الآن فعلا، نحو الأوامر المعلقة والنذور كذلك، فإن المعنى الانشائي
فيها حاصل عند حصولها، ولذا لم يحتج المأمور بأمر معلق على شئ، إلى أمر جديد
عند حصول المعلق عليه، ولم يجز اتلاف المنذور قبل حصول المعلق عليه، وكذلك
ما نحن فيه، فإن المراد من قولنا " هذا لزيد بعد وفاتي " إنشاء هذا التمليك المعلق
فيقبل القبول والإجازة وغيرهما، لا أن المراد تعليقه على وجه لا يقبل القبول والإجازة
إلا بعد الموت.
ودعوى - تسليم ذلك وأن الامتناع في إجازة الوارث باعتبار عدم حق له
الآن، فلا تؤثر أثرا، لا من حيث تعليق الوصية - يدفعها أنه لا اشكال في استحقاق
الوارث من حيث الإرث بل ينبغي القطع به حال المرض نحو استحقاق صاحب الدين
في مال المفلس ونحوه، كما أنه لا اشكال في كون الوصية تصرفا يظهر أثره مقارنا
لاستحقاقه، ولذا لاحظه الشارع بالنسبة إلى الثلث والثلثين، ومرجع إجازته رضاؤه
بكونه غير وارث بالنسبة إلى ما تعلق به الوصية، وهذا شئ قابل للوقوع منه حال
حياة الموصي، وستعرف أن إجازة الوارث تنفيذ، لا ابتداء هبة والمراد به ما عرفت
وحينئذ فيتضح وجه ما سمعته من النص والفتوى من تحقق الإجازة حال الحياة، و
ترتب أثرها عليه.
نعم مقتضى ما ذكرناه قابلية الوصية للرد من الموصى له كالقبول، لاشتراكهما
في المعنى المزبور، إلا إنه للدليل لم يكن أثر للرد في الحياة، وأن القبول بعده و
بعد الموت مجد كما عرفته في محله، وأما هنا فقد صرح غير واحد أيضا بأن عدم الإجازة
من الوارث حال الحياة لا ينافي ترتب أثرها عليها بعد الوفاة لو تحققت بعد الرد
285

المزبور، لاندراجها في اطلاق الوصية، ولأن حاصل الرد المزبور أنه لم يرض بخروجه
عن الإرث بالنسبة إلى ما أوصى به الموصي، فإذا رضي بعد ذلك لم يكن منافيا للسابق
في ذلك الزمان الذي في الحقيقة حاله كحال الزمان الذي لم يعلم الوارث بالوصية
به، أو علم ولم يتعرض للإجازة وردها، وليس هو كإجازة الفضولي في عقد البيع الذي
مرجعها إلى قبول العقد وعدمه، فإذا رده لم يجد قبوله بعد ذلك، كما أنه إذا قبله
لم يجد رده بعد ذلك لتحقق الانفساخ فيه، بخلاف الإجازة في المقام التي مبناها
رضا الوارث بعدم كونه وارثا، أو رضاه بكونه وارثا، وأما قبول العقد ورده فهو للموصى
له لا له، مضافا إلى ما سمعته سابقا من عدم كون الوصية عقدا حقيقة، وإنما هي كالعقد
في بعض الأحكام.
ومن ذلك كله يظهر لك إن ما عن المقنعة والمراسم والسرائر والوسيلة والجامع
والإيضاح وشرح الإرشاد من عدم نفوذها حال الحياة، فلو أجازوا حالها كان لهم
الرجوع بعد موت الموصي - ضعيف، إذ لو سلم أن ذلك مقتضى القواعد لكنه لا يعارض
ما عرفت من الأدلة المعتبرة المعمول بها بين الأصحاب.
نعم ربما خص بعضهم نفوذ الإجازة حال مرض الموصي، لا حال صحته، مع
أنه مناف لما عرفته من اطلاق النص والفتوى أيضا، وكذا ما عن بعضهم من الجمع بين
القولين بالتفصيل بين غناء الوارث وفقره، فإن كان الوارث غنيا وقد أجاز بلا استدعاء
من الموصى لم يكن له الرجوع، وإن كان فقيرا أو غنيا ودعاه الموصي إلى الإجازة
فأجاز حياء كان له الرجوع، فإنه كما ترى واضح الفساد، بل لا يوافق أصول الإمامية
وقواعدهم، فضلا عن اطلاق النص والفتوى هنا، الذين مقتضى الثاني منهما، بل و
بعض الأول أنه ليس للوارث الرجوع عن إجازته حال حياة الموصي، فضلا عن الرجوع
بعد وفاته، وفي محكي الإيضاح الاعتراف بأن ظاهر الفتوى ذلك، وأنه قد يفهم
من الرواية ما يدل عليه.
ثم إن الظاهر عدم الفرق بين الإجازة بعد الوصية، وبين الإذن فيها سابقا
كما لا فرق في ذلك أيضا بين الوصية التمليكية والعهدية كالوصية بالوقف والعتق
286

ونحوهما، والله هو العالم.
(و) كيف كان ف‍ (إذا وقعت) الإجازة (بعد الوفاة كان ذلك إجازة
لفعل الموصي) وتنفيذا له، بلا خلاف أجده بيننا، بل ربما ظهر عن بعضهم
الاجماع عليه، بل هو من المقطوع به لو وقعت حال الحياة، بناء على اعتبارها، بل
وكذا الحال في إجازة المنجز، بناء على كونه كالوصية في خروج الزائد من الثلث
بالإجازة (وليس) ذلك (بابتداء هبة) من الوراث كما عن بعض العامة و
حينئذ (فلا تفتقر صحتها إلى قبض) ولا يجري عليها أحكام الهبة التي أطنبوا هنا
في ذكرها تفريعا على القولين، ضرورة كون مفادها الرضا بما فعله الموصي، من كون
ما أوصى به لمن أوصى له، وأنه خارج عن إرث ورثته، كما لا يخفى على من له أدنى
نظر.
وأولى من ذلك العتق ونحوه، فإن الوصية بالمعنى الأعم التي هي موضوع
البحث هنا، لا تختص بالتمليكية، كما يظهر ذلك مما ذكروه من الفروع في المقام، كما
أنه يظهر منهم عدم الفرق بينها، وبين المنجز، بناء على توقف الزائد على الثلث
فيه على الإجازة، ومن المعلوم عدم كونها صيغة عتق مثلا.
نعم لو كان التردد بين ذلك، وبين احتمال كون الإجازة من الوراث بعد
ملكه للموصى به بموت الموصي، وأنها من إجازة مالك، نحو إجازة الفضولي وغيرها
كما هو مقتضى ما دل على ملك الوارث بموت مورثه ما تركه له، ويلتزم حينئذ للجمع
بين الأدلة، بترتب ملك الموصى له على ملك الوارث ترتبا ذاتيا لا زمانيا، فلا ينافي
ذلك حينئذ إرادة الموصي ملك الموصى له بالموت، نحو ملك الولد الوالد الذي
ينعتق عليه، لكان له وجه في الجملة، وإن كان الأقوى خلافه أيضا، لظهور أدلة
بعض أفراد الوصية فيما يراد منها من خروج الوارث عن إرث ما أوصى به، فهي حينئذ
كالمقيدة لأدلة الإرث خصوصا بعد ظهور الأدلة أيضا في كون الموصى له يتلقى من
الموصي، لا الوارث.
نعم هو كذلك في البعض الأخير منها، وما لا ينافي ملكية الوارث، وإن كان
287

بقدر الثلث، كما في الوصية العهدية أو التمليكية التي يجب على الوراث تنفيذها، و
كان مالكا كما يجب عليه وفاء الدين كذلك، إذا كانت بقدر الثلث أو أزيد مع
الإجازة، ولا ريب في كون الإجازة حينئذ نحو إجازة الفضولي، وليست تنفيذا بالمعنى
الذي ذكره الأصحاب الذي فرعوا عليه إجازة المفلس والسفيه ونحوهما، كما أنه لا ريب
في عدم كون المراد من القول المقابل للتنفيذ أن الإجازة نفسها هبة أو عتق أو نحو
ذلك، ضرورة أن الرضا بما فعله الموصي من الايصاء الشامل للعهد وغيره، ليس
عقد هبة أو عقد بيع مثلا، وايقاع عتق، ولذا لم يذكر أحد مثل ذلك في الفضولي، لا
على القول بالكشف، ولا على القول بالنقل، فلا بد من حمله على ما ذكرناه، وإلا كان
واضح البطلان، كما أنه لا بد من تنقيح المسألة على الوجه الذي قلنا، وبه يظهر
لك ما في كثير من الكلمات فلاحظ وتأمل، حتى ما ذكروه في التنجيز، وأنه في الزائد
على الثلث كالوصية في البحث المزبور، والله أعلم.
ثم لا يخفى عليك أن الإجازة لا تصح من المجنون والصبي، وتصح من المفلس
حال حياة الموصي، وفي الروضة في صحتها بعد موته وجهان: مبناهما على أن التركة
هل تنتقل إلى الوارث؟ وبالإجازة تنقل عنه إلى الموصى له، أم تكون الإجازة كاشفة
عن سبق ملكه من حين الموت، وعلى الأول لا تنفذ لتعلق حق الغرماء بالتركة قبل
الإجازة، وعلى الثاني يحتمل الأمرين، وإن كان النفوذ أوجه.
لكنك خبير بأن المعروف بين الأصحاب كون الإجازة تنفيذا والمراد به الرضا
بالخروج عن كونه وارثا بالنسبة إلى الموصى به، وأن مقابله ما يحكى عن العامة من
كونه ابتداء هبة ومن هنا بنى المسألة في محكي التذكرة عليهما فقال: إن قلنا:
إنها هبة لم تصح، لأنه ليس له هبة ماله، وأما السفيه ففي القواعد ومحكي غيرها
اطلاق المنع من إجازته، لكن قد يقال: إنه كالمفلس بالنسبة إلى ذلك، لعدم كونه
مالكا في حال الحياة بل لم يتصرف في المال بعد الوفاة، وإنما رضي بعدم كونه وارثا
وهو ليس تصرفا ماليا حتى يمنع منه، اللهم إلا أن يقال: إنه ممنوع مما يشمل مثل هذا
التصرف لكن يأتي احتمال مثله في المفلس، ولعل ذلك هو الوجه في الأمرين
288

اللذين في الروضة.
(و) على كل حال فلا خلاف ولا اشكال في أنه (يجب) على الوصي أو الوارث
أو الحاكم أو عدول المؤمنين أو كافة الناس لكن على الكفاية (العمل بما رسمه الموصي)
مما أوصى به (إذا لم يكن منافيا للشرع) وإن كان إنما يعتبر ذلك إذا كان بقدر
الثلث أو أزيد إذا أجاز الوارث.
(ويعتبر الثلث وقت الوفاة) أي (لا وقت الوصاية) الذي هو ليس زمان
الملك بلا خلاف أجده فيه، بل الاجماع محكي عن الخلاف وإن لم يكن محصلا عليه
(فلو أوصى بشئ وكان موسرا في حال الوصية، ثم افتقر عند الوفاة، لم يكن بايساره
اعتبار، وكذلك لو كان في حال الوصية فقيرا ثم أيسر وقت الوفاة، كان الاعتبار بحال
يساره) والمخالف في ذلك بعض الشافعية.
نعم قال ثاني المحققين والشهيدين: هذا إنما يتم بغير اشكال لو كانت الوصية
بمقدار معين كمائة دينار، أو بشئ معين كدار معينة أو شقص منها، أو كانت بجزء مشاع
كالثلث وكانت التركة حين الوصية أزيد منها حال الوفاة، أما لو انعكس أشكل اعتبارها
عند الوفاة، مع عدم العلم بإرادة الموصي للزيادة المتجددة، لأصالة عدم التعلق،
وشهادة الحال بأن الموصي لا يريد ثلث المتجدد حيث لا يكون تجدده متوقعا
غالبا، خصوصا مع زيادته كثيرا، وزاد أولهما أنه قد تقدم الاشكال فيما لو أوصى
لأقرب الناس إليه، وله ابن وابن ابن، فمات الابن، فإن استحقاق ابن الابن لا يخلو
من تردد، بل قال: إنه قد يتوقف في دية العمد، من حيث تجدد ثبوتها بعد الموت.
كما أنه أورد أيضا على العبارة وما شابهها بأنه ربما تلف بعض التركة بعد الموت،
وقبل قبض الوارث إياها، فلا يحسب ذلك على الوارث، ويصير الثلث أقل، وربما
تجدد بعد الموت دية نفس أو طرف بصلح ونحوه، فيصير أكثر، فلا يستقيم التقييد بقوله
عند الموت، بل يقيد بوقت قبض الوارث التركة، وأخذ دية النفس والطرف، وقبول
الوصية لمورثه إذا كان بعد موت الموصي الأول، بناء على أن القبول كاشف.
قلت: قد يدفع الأخير بالتنزيل على الغالب، حتى ما وقع في الدروس " والمعتبر
289

الثلث حين الوفاة لا حين الوصية، ولا ما بينهما ولا ما بعد الوفاة، لأنه الوقت الذي
تنتقل فيه التركة إلى الوارث " أو بما سمعت من أن المقصود من التقييد في نحو المتن
الرد على بعض الشافعية القائل بكون العبرة وقت الوصية، ضرورة تنزيل الموصى له
مع الوارث منزلة الشريك، في أن ما يبقى لهما، وما يتلف عليهما، كما هو واضح فيما لو
كان الموصى به الثلث، أو حصة مشاعة منه، بل لو كان الموصى به شيئا معينا كان مرجعه
الوصية بمقدار ما يساوي قيمتها من الثلث، فهو أيضا كالشريك، وكذا لو أوصى بمقدار
كلي كالمأة دينار، وكانت بعض الثلث.
إنما الاشكال في أن هذا ونحوه هل يرجع إلى الوصية بحصة مشاعة من الثلث
حتى أن التالف منه ينقص من الموصى به على حسب النسبة، لأنه كالوصية بربع الثلث
مثلا، أو أنه لا يرجع إلى ذلك، بل هو كلي مضمون في الثلث، حتى لو لم يبق منه إلا
مقدار ما يساوي ذلك نفذت الوصية، وجهان: منشؤهما أن الكلي يملك في الخارج لا
على جهة الإشاعة على وجه تشمله عمومات الوصية مثلا، أو أنه لا يملك إلا على جهة
الإشاعة إلا ما خرج بالدليل، كبيع الصاع من الصبرة، بناء عليه لخبر الأطنان وربما
يؤيد الثاني تنزيلهم الأرطال المستثناة في بيع الثمار على الإشاعة، وكذا الشاة مثلا
في الزكاة.
لكن الأمر في الوصية واسع فلا يبعد قابليتها للتمليك على هذا الوجه، وقد تقدم
تحرير هذه المسألة في باب الزكاة والبيع، فلاحظ، على أن دعوى عدم ملكية الكلي
في الخارج إلا على جهة الإشاعة خالية عن الدليل، بل ملك أحد السيوف في
الحياة مثلا والوصية ونحوهما قاض بخلافه، والتحقيق في المسألة ما أشرنا إليه من
أن الإشاعة تارة تكون من نفس الوصية، بأن يوصى به على وجه الإشاعة، وأخرى
تكون من حكم الشارع بأن للميت الثلث ولا ريب في اقتضاء الأولى قواعد الشركة، كما
أنه لا ريب في اقتضاء الثانية النقصان بنقصان الثلث، وإلا وجب الأداء ما دام ممكنا
وإن نقص من أصل التركة ما نقص، ولا يتدارك الموصى به بكسر من الكسور، على وجه
ينقص منه بالنسبة، ضرورة عدم دليل عليه، ومنافاته لما دل على وجوب العمل
290

بالوصية.
ودعوى - أن المراد قدر الثلث حتى لو أوصى بالثلث، ولذا تكون التركة للوارث
بالموت - لا دليل عليها، بل ظاهر الأدلة خلافها.
نعم قد يكون كذلك، لا أن كل وصية كذلك بل لعل لفظ الوصية بالثلث مثلا
خلافه، كما تقدم نظير ذلك في تعلق الخمس والزكاة بالعين، لا أن المراد مقدار ذلك
في الذمة كما توهمه بعض فتأمل جيد والله العالم.
وأما ذكراه من الزيادة المتجددة، فيدفعه أن المفهوم عرفا من الوصية بالثلث
مثلا إرادة مصداقه عند الموت الذي هو محل الانتقال واتفاق مصداقه قبله لا يقتضي
تقييد ذلك به، وفرض قيام القرائن على ذلك خروج عن محل البحث، كما لو صرح
بذلك.
بل قد يشهد لما قلناه ما تطابق عليه النص (و) الفتوى من أنه (لو أوصى ثم
قتله قاتل أو جرحه) جارح (كانت وصيته ماضية، من ثلث تركته وديته وأرش جراحته)
إذا كان ذلك خطأ، بل الاجماع محكي إن لم يكن محصلا عليه.
وفي خبر محمد بن قيس (1) " قلت لأبي جعفر (عليه السلام): رجل أوصى لرجل بوصية من
ماله ثلث أو ربع فقتل الرجل خطأ، يعني الموصي فقال: تجاز لهذه الوصية من ماله
وديته ".
وفي المرسل (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " أنه سئل عن رجل أوصى بثلث ماله، ثم
قتل خطأ فقال: ثلث ديته داخل في وصيته ".
وفي خبر محمد بن قيس (3) عن أبي جعفر (عليه السلام) " أيضا أنه قال: قضى أمير المؤمنين
(عليه السلام) في رجل أوصى لرجل بوصية مقطوعة غير مسماة من ماله ثلثا أو ربعا، أو أقل من
ذلك أو أكثر، ثم قتل بعد ذلك الموصي فودى فقضى في وصيته أنها تنفذ من ماله و

(1) الوسائل الباب - 14 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(2) الفقيه ج 4 ص 169.
(3) الوسائل الباب - 14 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث 3 - 2.
291

ديته كما أوصى ".
وفي خبر السكوني (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) من أوصى
بثلثه ثم قتل خطأ فإن ثلث ديته داخل في وصيته ".
ضرورة تجدد استحقاق الدية من بعد الوصية التي قد صرحت النصوص باخراجها
من ثلثها أيضا بل ربما أشكل بذلك ما سمعته من اطلاق الأصحاب كون العبرة بالثلث
عند الوفاة باعتبار تأخر استحقاقها عن الموت.
لكن قد عرفت أن اطلاقهم ذلك إنما هو بالنسبة إلى وقت الوصية بمعنى عدم
العبرة بالثلث حاله، على أنه لما كان استحقاق الدية المزبورة مقارنا للموت صدق
عليه أن من الثلث وقت الوفاة.
نعم ذلك كله في دية الخطأ التي قد صرح فيها نصا وفتوى بل قد شهد لها
الاعتبار مضافا إلى ذلك، ضرورة كونها عوضا عن نفسه، كالقيمة للتالف، فتعلقه بها أشد
من تعلق وارثه، ولذا أدخلها الشارع في أمواله وعلق بها ديونه ووصاياه، بل ربما كان
ذلك هو الوجه في دية العمد أيضا، وإن قلنا أن الواجب به أولا القصاص الذي هو
غير قابل لتعلق الدين والوصية به.
لكن لما لم يستوفه الوارث وأراد الصلح بالدية تعلقت بها الوصايا والديون،
لأنها في الحقيقة أيضا عوض عن نفس المجني عليه، وقيمة له فتتعلق بها الوصايا و
الديون.
مضافا إلى ترك الاستفصال في خبر عبد الحميد (2) " سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام)
عن رجل قتل وعليه دين، وأخذ أهله الدية من قاتله، أعليهم أن يقضوا الدين قال:
نعم، قلت: وهو لم يترك شيئا قال: أما إذا أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا الدين ".
وفي خبر يحيى الأزرق (3) عن أبي الحسن (عليه السلام) في رجل قتل وعليه دين ولم

(1) الوسائل الباب - 14 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث 3 - 2.
(2) الوسائل الباب - 24 - من أبواب أحكام الديون الحديث 1 - 2.
(3) الوسائل الباب - 24 - من أبواب أحكام الديون الحديث 1 - 2.
292

يترك مالا وأخذ أهله الدية من قاتله أعليهم أن يقضوا دينه؟ قال: نعم قلت: هو لم يترك
شيئا قال إنما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه ".
بل هو صريح خبر أبي بصير (1) عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: قلت:
فإن هو قتل عمدا، وصالح أولياؤه قاتله على الدية، فعلى من الدين على أوليائه من الدية
أو على إمام المسلمين؟ فقال: بل يؤدوا دينه من ديته التي صالح عليها أولياؤه فإنه
أحق بديته من غيره، وهو مع صراحته بوفاء الدين من ديته في العمد، فيه رمز إلى ما
ذكرناه من الوجه في ذلك.
ومن هنا لم يفرق المشهور بين الديتين بالنسبة إلى تعلق الديون والوصايا،
بل قيل: إنه قد حكى اجماعات على ذلك، وإنه لم يخالف فيه إلا ما يوهمه كلام ابن
إدريس في باب قضاء الدين عن الميت، وهو اجتهاد في مقابلة النص نحو ما وقع من
بعضهم في المقام من الاشكال في ذلك، بناء على ما هو المشهور من أن الواجب
في العمد القصاص، لا أحد الأمرين ذلك، أو الدية، كما عن أبي على والشافعي.
ضرورة أن ذلك كله كالاجتهاد في مقابلة النص الذي قد عرفت اتفاق الأصحاب
إلا النادر على - العمل به، بل تسمع انشاء الله في باب الديات أن ما يجني على الميت
بعد موته كما إذا قطع رأسه وهو ميت، فإنه فيه مأة دينار - في حكم ماله، وأنه لا
تعلق للوارث به، بل يخرج عنه في وجوه البر ونحوها، مما يصل إليه وأنه وإن كان
عليه دين فهو أولى به.
ومن ذلك كله يعلم أن جميع ما يؤخذ عوضا عن نفس الميت أو بدنه في حكم ماله،
وكذا ما يقع في شبكته بعد موته، لمكان وجود سببه قبل الوفاة، وقد ظهر بذلك كله
الحال في المناقشات المزبورة، التي مرجعها المؤاخذة على اطلاق مساق لبيان أمر
آخر ونحوه، خصوصا المناقشة بالنسبة إلى النقيصة المتجددة بعد الموت قبل قبض
الوارث، فإن من المعلوم دخول النقص المزبور على الموصى له والوارث بذلك من غير
فرق حينئذ بين كون الموصى به عينا أو جزء مشاعا، إذا فرض نقصان الثلث بالتلف المزبور

(1) الفقيه ج 4 ص 83 الرقم 264 والخبر عن علي بن أبي حمزة.
293

عن خروج العين الموصى بها، وليس المراد من وقت الوفاة في المتن ونحوه الإشارة
إلى ذلك، بل هو مبني على ما هو الغالب من اتحاد وقت الوفاة والقسمة، وبقاء تركة
الميت على حالها.
وأما ما ذكره من الوصية لأقرب الناس، فقد قيل: إن النظر فيه في غير محله، وأنه
يدفع المال إلى ابن الابن، وإن كان الموجود وقت الوصية الابن بل قيل: إنه لم يتوقف
فيه أحد غيره، بل هو نفسه قد اعترف بعد ذلك بأن استحقاق ابن الابن لا يخلو من قوة
فلاحظ وتأمل والله العالم.
(ولو أوصى إلى انسان بالمضاربة بتركته أو ببعضها على أن الربح بينه وبين
الورثة نصفان صح وربما يشترط كونه قدر الثلث أو أقل والأول مروي) عن الصادق في
الموثق (1) أو الخبر أنه " سئل عن رجل أوصى إلى رجل بولده وبمال لهم، وأذن له
عند الوصية أن يعمل بالمال، وأن يكون الربح بينه وبينهم؟ فقال: لا بأس به، من
أجل أن أباه قد أذن له في ذلك، وهو حي ".
وفي خبر خالد بن بكر الطويل (2) قال: " دعاني أبي حين حضرته الوفاة، فقال: يا بني
اقبض مال إخوتك الصغار واعمل به، وخذ نصف الربح وأعطهم النصف، وليس عليك
ضمان، فقدمتني أم ولد أبي إلى ابن أبي ليلى، فقالت: إن هذا يأكل أموال ولدي،
قال: فاقتصصت عليه ما أمرني به أبي، فقال لي ابن أبي ليلى: إن كان أبوك أمرك
بالباطل لم اجزه، ثم اشهد على ابن أبي ليلى إن أنا حركته فأنا له ضامن، فدخلت
على أبي عبد الله (عليه السلام) فقصصت عليه قصتي، ثم قلت له: ما ترى فقال: أما قول ابن أبي
ليلى فلا أستطيع رده، وأما فيما بينك وبين الله عز وجل فليس عليك ضمان ".
والمناقشة في الأولى بأنها بعد التسليم من قسم الموثق الذي لا يجوز العمل
به، وفي الثانية بالجهالة كما أن جبر الضعف بالشهرة مشهور لا أصل له - مفروغ
من فسادها في الأصول، على أنه في سند الثاني ابن أبي عمير والسند إليه صحيح، وهو
ممن أجمع على تصحيح ما يصح عنه، فلا يضر جهالة من بعده، في وجه.

(1) الوسائل الباب - 92 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 - 1.
(2) الوسائل الباب - 92 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 - 1.
294

وكيف كان فصريح الثاني - لظاهر الوصية بالولد، في الأول - كون الورثة
صغارا والموصى ولي لهم، ومن هنا قال في الدروس مشيرا إلى الأول: " روى محمد
بن مسلم جواز تفويض المضاربة إلى الوصي على نصف الربح مع صغر الأولاد وبها قال
الجماعة، ونحوه ما عن المهذب البارع، قال هذه المسألة يوردها المصنفون في المضاربة
والوصية وموضوعها في كتب الفقه والنص هو أن ينصب الانسان على أطفاله وصيا، ويأذن
له في الاتجار بما لهم إلى آخره، ثم قال إن ألفاظ الفقهاء تختلف في التعبير عنها،
وحكى بعض عباراتهم في المضاربة وبعضا في الباب وفي النافع تصح الوصية بالمضاربة
بمال ولده الصغار.
لكن في المسالك " إن المصنف وأكثر الجماعة أطلقوا الصحة في الورثة الشامل
للمكلفين، وشمل اطلاقهم واطلاق الروايتين ما إذا كان الربح بقدر أجرة المثل، وما
كان زائدا عليها بقدر الثلث أو أكثر، وفي محكي الكفاية إن المشهور لم يعتبروا كون
الأولاد صغارا، ولعل وجهه اطلاق ما دل على تنفيذ الوصية المقيد بالثلث إذا كانت
الوصية مفوتة للمال على الورث، أو بالأعم من ذلك ومما فيه ضرر عليه، أما إذا لم يكن
كذلك بل كانت الوصية تصرفا في المال على وجه لا تفويت فيه للمال على الوارث ولا ضرر
فيه عليه، فليس في الأدلة ما يدل على تخصيص العمومات المزبورة المعتضدة بظاهر
قوله " فمن بدله " وعموم " تسلط الناس " ومعلومية كون الوصية بعد الموت كالتنجيز في
حال المرض بالنسبة إلى الممنوع منها والجائز، بل الدليل فيهما متحد كما اعترف به في
جامع المقاصد.
ولا ريب في صحة المضاربة بأزيد من الثلث في حال المرض، ولو بحصة قليلة من
الربح، كما أنه لا ريب في صحة بيع التركة كلها بثمن الثمل حال المرض، فينبغي أن
يجوز الوصية به لاتحاد الدليل فيهما كما مال إليه في جامع المقاصد، بل حكي فيه عن
الفاضل في التذكرة أنه قواه، وفي القواعد الاشكال فيه، وإلى نحو ذلك أشار في جامع
المقاصد، والمسالك حيث وجهه بأن المقيد بالثلث هو تفويت بعض التركة وليس حاصلا
هنا، لأن الربح مما تجدد بفعل العامل وسعيه، وليس ما يتجدد منه كالمتجدد من حمل
295

الدابة والشجرة ونحوهما، حيث كان معتبرا من الثلث، لظهور الفرق، بأن ذلك نماء
الملك ووجوده متوقع، بخلاف الربح فإنه أثر سعى العامل مع أنه إنما يحدث على ملك
العامل فما يملكه العامل ليس للوارث ولا للموصى منه حق، ولا يقدح في ذلك شراؤه،
بمال الوارث، فيكون محسوبا منه، ويكون نماؤه تابعا، لأنه إنما يدخل في ملك الوارث
على تقدير صحة المضاربة، وإلا لم يكن الشراء نافذا، ومتى صحت المضاربة كانت
الحصة من الربح ملكا للعامل، فلولا صحة المضاربة لأدى فسادها إلى عدم الفساد،
لأنه على تقدير الفساد إنما يكون لتفويت ما زاد على الثلث من التركة تبرعا، وذلك إنما
يكون على تقدير زيادة الحصة من أجرة المثل، وزيادتها عن الثلث، وكونه من نماء
التركة، وإنما يكون كذلك مع صحة المضاربة، ليكون الشراء نافذا، فلو فسدت المضاربة
لم ينفذ الشراء، فلم يتحقق الربح فانتفى التصرف في الزائد على الثلث، فانتفى
المقتضي للفساد، فوجب الحكم بالصحة، لأنه قد أدى فرض الفساد إلى عدمه.
لكن في المسالك بعد ذلك كله قال: " فيه نظر، لأن المضاربة وإن لم تقتض
تفويت شئ من التركة على تقدير تسليمه، مشتملة على وضع اليد على مال الغير بغير
إذنه، خصوصا إذا كان مكلفا، وتعريضه بالضرب في الأرض إلى التلف المؤدي إلى عدم
الضمان مع عدم التفريط، مضافا إلى ما لو وقعت بحصة قليلة للمالك في مدة طويلة،
كخمسين سنة، وذلك في حكم منع الوارث من التركة أصلا وهو باطل، وأما القول بأن
النماء إنما يملكه العامل على تقدير صحة المعاملة، وحينئذ فلا تفويت في مال الوارث،
وإن لم يصح لا يصح البيع، ففيه امكان جبره بإجازة المالك الشراء لنفسه، ليكون
جميع الربح له، فيحصل التفويت على تقدير صحة البيع، وحصول الربح للعامل ومن
ثم ذهب ابن إدريس إلى أن الصحة مشروطة بكون المال قدر الثلث فما دون اطراحا
للأخبار وردا إلى الأصول المعلومة في هذا الباب، وبعض المتأخرين إلى أن المحاباة
في الحصة من الربح بالنسبة إلى أجرة المثل محسوبة من الثلث أيضا، ولكل منهما
وجه.
قلت: أما ابن إدريس فالمحكي من عبارته ما نصه " قد روى أنه إذا أمر الموصي الوصي
296

أن يتصرف في تركته لورثته، ويتجر لهم بها، ويأخذ نصف الربح كان ذلك جائزا وحلالا
له نصف الربح، أورد ذلك شيخنا في نهايته، إلا أن الوصية لا تنفذ إلا في ثلث ما كان يملكه
الميت قبل موته، والربح متجدد بعد موته، فكيف تنفذ وصيته وقوله فيه، وفي الرواية نظر "
وظاهره بطلان هذه الوصية من رأسها كابن أبي ليلى، باعتبار كون متعلقها الربح الذي
ليس من أمواله، ووصيته إنما تنفذ في الثلث، وهذا ليس منه، لا أنها صحيحة في الفرض
بمقدار الثلث، وكيف مع أنه لم يوص بالثلث، بل هو فيه كالثلثين للوارث.
نعم لو كان قد أوصى به وأخرجه عن الوارث، ثم أوصى بالمضاربة به فلعل لازم
كلام ابن إدريس الفساد، وإن كان لم يتعرض لذلك، ولا ريب في صحته، لعموم أدلة
الوصية، فيصح تعلقها بمثل ذلك، لكونه من التوابع، فتأمل جيدا.
ومن ذلك ينقدح الوجه في تعرض الأصحاب لهذه المسألة، وكون الغرض منها
الرد على ابن إدريس وابن أبي ليلى، حيث أنهما أبطلا هذه الوصية، وجعلاها من قسم
الوصية بالباطل، والتحقيق صحتها مطلقا سواء كان الوراث صغيرا مولى عليه أو كبيرا،
وإن توقفت في الثاني على الإجازة سواء كان متعلق الوصية مقدار الثلث أو لا، وسواء
كانت الحصة من الربح زائدة على أجرة المثل أو لا، وسواء كانت بمقدار الثلث أو لا، وسواء
كانت متعلقة بالثلث الذي أخرجه عن ملك الوارث أو لا، كل ذلك لعموم أدلة الوصية
وللخبرين السابقين، بل يمكن جوازها في مال الأطفال مع عدم المفسدة، وإن لم يكن لهم
مصلحة، بناء على جواز ذلك للولي الاجباري والفرض أنه قد أذن للوصي في ذلك. وبه
يفرق بين ما إذا لم يوص بذلك، بل اقتصر على جعل وصي عليهم، فإنه يجوز له المضاربة
بمالهم بنفسه أو لغيره، لكن مع المصلحة، بخلاف ما إذا نصف الولي على ذلك، فإنه يكفي
فيه حينئذ عدم المفسدة، فلا بأس بكثرة الحصة أو قلتها، واطلاق الأصحاب في المقام و
المضاربة إنما هو لبيان صحة الوصية على الوجه الذي عرفت، ردا على ابن أبي ليلى وابن إدريس، القائلين ببطلانها، سواء كان الوارث صغيرا أو كبيرا، أجاز أو لم يجز، كما يومئ
إلى ذلك اختلاف تعبيرهم عن ذلك، كما اعترف به ابن فهد في مهذبه على حسبما عرفته،
والمقصود ما عرفت، فما توهمه بعض الناس - من هذه العبارات المختلفة أشد اختلاف حتى
أثبت منها حكما جديدا مخالفا للأصول والضوابط وصحح المضاربة من الموصي بالتركة،
297

وإن لم يجز الوارث، وجعلها لازمة عليه في غير محله، كما أنه لا دليل عليه، إذ ليس
إلا الخبران السابقان ومضمونهما ما عرفت مما هو غير مخالف لشئ من الأصول، ضرورة جواز
مضاربة الوصي بمال الطفل مع المصلحة وإن لم يوص إليه بذلك، فكيف إذا أوصى له.
نعم قد تزيد صورة الوصية باعتبار عدم المفسدة، لا المصلحة، وهو شئ خارج عما
نحن فيه فتأمل جيدا، فإنه به يظهر لك ما في كلام جماعة، كما أنه يظهر لك عدم تحرير
هذه المسألة في شئ من كلماتهم، بل ولا مسألة الوصية بما لا يقتضي نقص القيمة في
التركة.
ففي القواعد ولو أوصى ببيع تركته بثمن المثل ففي اشتراط الإجازة اشكال، وفيها
أيضا - قبل ذلك - " ولو خصص كل واحد بعين هي قدر نصيبه فالأقرب الافتقار إلى
الإجازة، لظهور الغرض في أعيان الأموال، وكذا لو أوصى أن يباع غير ماله من انسان
بنقد ثمن المثل، ولو باع عين ماله من وارثه بثمن المثل نفذ " وظاهره الاشكال بعد الجزم
وللمسألة فروع كثيرة ومنشأ الإشكال فيها من عموم أدلة الوصية المقتضي لوجوب العمل
بما يرسمه الموصي ما لم يكن منافيا للشرع، كما سمعته من المصنف أو غيره، بل قد يشير به في
الجملة خبر عباس بن معروف (1) المشتملة على وصية ميمون ببيع جميع تركته وايصالها
إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) ففعل الوصي فأخذ أبو جعفر (عليه السلام) الثلث منها وأمر برد
الباقي إلى الوصي ليرده على الورثة " الظاهر في الاقرار على البيع.
وغير ذلك مما يدل على وجوب انفاذ الوصية، ومن كون ذلك نوع ضرر على الوارث
لتعلق الغرض في الأعيان، ولعل الأول لا يخلو من قوة، ما لم يكن اضرارا بالوارث لاطلاق
النهي عنه.
بقي شئ: وهو أن الظاهر كون المضاربة واقعة من الوصي بإذن من الموصي لا
أن ايجابها قد وقع من الموصي، ضرورة عدم ثبوت الوصية العقدية في غير التمليك
على حسبما عرفته في تعريفها، فما عساه يتوهم - أن اللفظ الموجود في الخبر نفسه
مضاربة - في غير محله، خصوصا ولم يكن مال للطفل في ذلك الحال، ضرورة أن المراد

(1) الوسائل الباب - 11 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 7.
298

المال الذي يكون لهم بالإرث منه، ومن هنا قال (عليه السلام) " من أجل أن أباه قد أذن له
في ذلك وهو حي " وهو كالصريح في عدم كون ما وقع منه مضاربة، وإنما هو أذن فيها، و
دعوى مشروعية الوصية بها على نحو الوصية التمليكية واضحة الفساد، لعدم الدليل
عليها، وربما يشهد لما قلناه قول المصنف وغيره " ولو أوصى بالمضاربة " الظاهر في إرادة
العهد بها، لا انشاؤها على الوجه السابق كما هو واضح، والله العالم.
(ولو أوصى بواجب) مالي (وغيره) أخرج الأول من الأصل، لأنه كالدين
نصا وفتوى، بل الاجماع بقسميه عليه، وعلى أن من ذلك الحج الواجب، للنصوص (1)
الدالة عليه بالخصوص، وأما الثاني فيخرج من الثلث، حتى لو كان واجبا بدنيا، على ما
صرح به في جامع المقاصد والمسالك، ومحكي الكفاية، بل في الروضة أنه لا خلاف فيه،
مرسلين له ارسال المسلمات، لعدم كونه من الدين الذي يخرج من الأصل، وعدم دليل
على تنزيله منزلته، فيبقى على الأصل.
نعم إذا أوصى به شمله أدلة الوصية التي تخرج من الثلث.
لكن في الذكرى والدروس وفي جامع المقاصد عن بعضهم أن الواجب البدني يخرج
من الأصل أيضا، كالمالي، وإن لم يوص به، بل لعله ظاهر المصنف هنا والنافع والغنية
والسرائر وغيرها - مما أطلق فيها الواجب الخارج من الأصل، وهي عشرة كتب أو
أكثر على ما قيل، بل نفى عنه البأس في الدروس، بل قد يؤيد اطلاق الدين على الصلاة
في غير واحد من الأخبار، منضما إلى ما ورد في الحج (2) أن دين الله أحق أن يقضى، و
شمول الدين للنقد وغيره مما هو عمل، ضرورة اندراج من كان مشغول الذمة بصلاة أو
غيرها من الأعمال بإجارة ونحوها فيه، واحتمال - اختصاصه بما إذا كان شغل الذمة
بمثل ذلك لغير الله، أما له فلا - واضح الضعف خصوصا بعد ما سمعت من أن دين
الله أحق أن يقضى، ومعلومية وجوب المال لو توقف عليه حصول الواجب المطلق،
فالمتجه إن لم ينعقد اجماع على خلافه، إلحاق الواجب البدني بالمالي في الاخراج
من صلب المال إذا لم يكن له ولي يخاطب بما يفوت المولى عليه، من صوم أو صلاة، و

(1) الوسائل الباب - 28 - من أبواب وجوب الحج وشرائطه.
(2) المستدرك ج 2 ص 6.
299

إلا خوطب هو به، ما لم يوص الميت باخراجه من ثلثه، من غير فرق في ذلك كله بين ما فاته
بتقصير وعدمه، وبين ما تمكن من قضائه وعدمه، بعد فرض حصول شغل الذمة به، على
وجه لو تبرع به متبرع أو استؤجر أحد عنه برأت ذمته، ولا مدخلية للحكم التكليفي في
الوضعي، فقد ينتفى الأول ويثبت الثاني.
نعم لو كان على وجه لا تشتغل ذمته به أصلا، لم يصح تأدية الولي ولا المتبرع
له عنه، فضلا عن الاخراج من صلب المال أو ثلثه.
كل ذلك بناء على عدم اشتراط المباشرة في الواجب البدني وأنه يصح وقوعه
في الجملة منه أو من الولي والمتبرع فضلا عن الأجير، أما بناء على اشتراطها وأنه لا يصح
إلا من المولى عليه والولي، اتجه حينئذ عدم الاخراج من المال، ضرورة حصول الفرق
حينئذ بذلك بينه، وبين الأعمال التي اشتغلت الذمة بها بإجارة ونحوها كما هو
واضح.
والظاهر تصديق الولي فيما فات منه كما صرح به في جامع المقاصد، ولعله لأنه لا
يعلم منه إلا من قبله، بل هو المنساق منه ومن نظائره، مضافا إلى كونه من الاقرار.
وعلى كل حال فبناء على عدم خروجه من صلب المال يجب على المولى عليه
الوصية بما فاته من صوم أو صلاة، أو اعلام الولي بذلك إن كان، أو لا يجب عليه شئ
من ذلك؟ وجهان: أقواهما الأول، ضرورة تمكنه من تأدية الحق وابراء ذمته، ودفع
الضرر الأخروي عنه وربما استدل بقوله (1) (عليه السلام) " الوصية حق على كل مسلم " ولكن لا يخفى
ما فيه من التجشم المعلوم عدم إرادته ولو بملاحظة ما سيق الخبر له.
وكيف كان فقول المصنف وغيره جوابا للشرط السابق في المتن (فإن وسع
الثلث عمل بالجميع، وإن قصر ولم تجز الورثة بدء بالواجب من الأصل، وكان الباقي
من الثلث) غير مناف لما ذكرناه، ضرورة إرادته ما لو أوصى بالواجب وغيره من غير
تعرض للاخراج من الثلث وعدمه، فإن وسع الثلث عمل بالجميع، ضرورة عدم الفرق
حينئذ بين الواجب وغيره في الاخراج بعد فرض سعته، لأنه مع عدم الوصية بالاخراج

(1) الوسائل الباب - 1 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
300

منه يكون كأصل المال بالنسبة إلى الواجب وغيره، وأما إذا قصر عنها فلا ريب في
اختصاصه حينئذ بالتبرعات التي لا تمضي إلا منه.
كما لا ريب في خروج الواجب من الأصل، لأن الفرض عدم ايصائه باخراج الجميع
من الثلث كي يزاحم الواجب غيره فيه كما هو واضح، بل منه يعلم الحكم فيما لو أوصى في
الفرض باخراج الجميع من الثلث وكان قاصرا، فإن الذي صرح به غير واحد اخراج
الواجب أولا منه وإن كان هو متأخرا في الوصية ثم يخرج غيره من بعده الأول فالأول
إن كان.
بل صرح غير واحد بمساواة الواجب البدني له في ذلك أيضا بمعنى أن لو أوصى
بالواجب البدني وغيره من الثلث أخرج أولا الواجب، وإن كان متأخرا ثم غيره الأول
فالأول إن كان، بل ربما ظهر من بعضهم نفي الخلاف فيه فضلا عن الأول، لكن في جامع
المقاصد أنه لا فرق بينه وبين سائر الوصايا التي ليست بواجبة في أنه يبدء بالأول
فالأول، إن كان قد أوصى بها مرتبة إلى آخره.
قلت: يمكن أن يكون دليلهم على ذلك مضافا إلى أهمية الواجب من غيره صحيح
معاوية بن عمار (1) قال: " إن امرأة من أهلي ماتت وأوصت إلي بثلث مالها، وأمرت أن
يعتق عنها ويتصدق ويحج عنها فنظرت فيه فلم يبلغ فقال: ابدء بالحج فإنه فريضة
من فرائض الله سبحانه وتجعل ما بقي طائفة في العتق وطائفة في الصدقة " فإنه و
إن كان مورده الحج، إلا أن التعليل فيه قاض بتقديم البدني وحينئذ يكون الصحيح
المزبور دليلا على القسمين.
والانصاف أنه إن تم الاجماع عليه كان هو الحجة، وإلا أشكل بما ستسمعه فيما
يأتي من الاستدلال على ما تطابق عليه النص والفتوى من تقديم الأول فالأول، بما
يقتضي عدم الفرق في ذلك بين الواجب وغيره، فيبطل المتأخر لعدم متعلق له، فإن
كان واجبا ماليا خرج من أصل المال، وإن كان بدنيا بطل، بناء على عدم خروجه إلا
من الثلث إذا كان قد أوصى باخراجه منه، واحتمال أن ذلك حكم شرعي وإن كان

(1) الوسائل الباب - 65 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
301

قصد الموصي على خلافه للصحيح المزبور المحتمل لكون الوصايا غير مرتبة، وأن المراد
منه الترجيح بذلك، بل لعل ظاهر التقسيط فيه الذي هو حكم غير المرتب يقتضي عدم
الترتيب فيه في غاية الصعوبة، ضرورة اقتضائه هدم قاعدة " تبعية الأعمال للنيات " و
" العقود للقصود " وغيرها من القواعد المحكمة في سائر المقامات.
وعلى كل حال يخرج غير الواجب من الثلث (ويبدء بالأول فالأول و) كذا
(لو كان الكل غير واجب، بدء بالأول فالأول حتى يستوفى الثلث) وتبطل المتأخرة
مع فرض عدم إجازة، لأن الوصية الصادرة أولا نافذة لوقوعها من أهلها في محلها وهكذا
ما بعدها إلى أن تبقى المتأخرة بلا موضوع تتعلق به، فتختص بالبطلان.
ولخبر حمران (1) عن أبي جعفر (عليه السلام) " في رجل أوصى عند موته وقال: أعتقوا فلانا و
فلانا حتى ذكر خمسة، فنظرت في ثلثه فلم يبلغ أثمان قيمة المماليك الخمسة الذين
أمر بعتقهم، قال: ينظر الذين سماهم وبدء بعتقهم فيقومون، وينظر إلى ثلثه فيعتق
منه أول شئ ذكر ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس، وإن عجز الثلث كان ذلك
في الذي سمى أخيرا، لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك فلا يجوز له ذلك ".
معتضدا ومنجبرا بعدم الخلاف المعتد به بين الأصحاب فيه كما أن اشتماله
على التعليل يدفع احتمال اختصاصه بما فيه، بل منه يعلم عدم الفرق بين الوصية
العهدية والتمليكية، ضرورة كون الموضوع فيه الأولى، ولعله كذلك سيما بناء على ما
تقدم منا سابقا من عدم كون الوصية من العقود، وإن اعتبر رضا الموصى له في حصول
الملك، لأن كلا منهما سبب في حصول أثر الايصاء فكل متقدم يترتب عليه أثره فيختص
البطلان بالأخير الذي لم يصادف موضوعا، كما صرح به في الصحيح المزبور، ومنه يعلم
كون المدار على ذلك من غير مدخلية لقصد الموصي، بل قد يعلم خلوه عن قصد الترتيب.
نعم لو صرح بعدم إرادة الترتيب اتبع، وإن رتب في اللفظ بأدائه من الفاء و
ثم ونحوهما.
وبما ذكرنا ظهر وجه الفرق بين الوصية وإن كانت عهدية وبين أمر السيد عبده

(1) الوسائل الباب - 66 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
302

مثلا باعطاء زيد درهما من مال مخصوص وعمروا كذلك وخالدا أيضا الذي لم يرد منه إلا
الامتثال، فلا فرق بين الأول والأخير في صدقه، فيقع العول على الجميع، كما في صورة
عدم الترتيب في المسألة بخلاف الفرض الذي فيه ترتب آثار للسبب وإن لم يتم، إلا
بالموت والقبول، بل يستفاد من التعليل كون الحكم كذلك، في الوصية بالزائد عن الثلث
مع الإجازة وقصور المال، فإنه يبدء بالأول فالأول، ضرورة كون الأخير هي التي لم
تصادف محلا فتختص بالبطلان.
وعلى كل حال فالحكم حينئذ لا اشكال فيه من غير فرق بين العتق وغيره، ولا يبن
وقوع الترتيب في زمان واحد عرفي، وزمانين متباعدين كغدوة وعشية.
خلافا للشيخ والإسكافي - حيث قدما العتق وإن تأخير للموثق (1) عن أبي عبد الله
(عليه السلام) " سألته عن رجل حضره الموت فأعتق غلامه وأوصى بوصية، وكان أكثر من
الثلث قال: يمضي عتق الغلام، ويكون النقصان فيما بقي " وغيره مما هو ظاهر في التنجيز
المقدم على الوصية بلا خلاف ولا اشكال، لا الوصية التي هي محل البحث - ولابن حمزة
حيث جعل الوصية المتأخرة المتباعد زمانها عن الأولى ناسخة لها، ومقتضية للرجوع
عنها.
للضعيف (2) " إن ابن أخي أوصى بثلاث وصايا، فبأيهن آخذ؟ فقال: خذ بأخريهن
قلت: فإنها أقل قال: وإن قلت " وهو مع خلوه عن تفصيله ضعيف فاقد لشرائط
الحجية فضلا عن أن يصلح معارضا لما عرفت فلا بأس حينئذ بحمله على إرادة الوصايا
التي بالتضاد ونحوه يعلم عدم قصد الموصي إرادتها جميعها، بل يعلم كون المراد
واحدة منها ولا ريب حينئذ في أن الحكم للمتأخرة كما هو واضح.
(و) على كل حال فمن ذلك ما (لو أوصى لشخص بثلث) أولا (ولآخر
بربع) ثانيا (ولآخر بسدس) ثالثا (ولم تجز الورثة أعطى الأول) لمصادفة
الوصية ثلث الموصى فهي ممكنة النفوذ (وبطلت الوصية لمن عداه) بعدم إجازة

(1) الوسائل الباب - 11 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 4.
(2) الوسائل الباب - 18 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 7 وفيه أن أبي إلى آخره
303

الوارث المتوقفة صحة الوصية في الفرض عليها إذ ليس للموصي إلا الثلث الذي قد
تعلقت به الوصية الأولى التي لم يعلم رجوعه عنها فيستصحب حكمها وما وقع من
الوصية بالربع والسدس بعدها أعم من ذلك قطعا، وكذا لو أوصى بنصف ولآخر
بخمس ولثالث بربع، أو للأول بجميع المال ولآخر بثلث ولثالث بسدس، فإن الأول،
يعطى في الجميع الثلث ويبطل الزائد مع عدم الإجازة لما عرفت من البدء في مثل
ذلك بالأول فالأول، لكن فيما حضرني من المسالك في نسختين ابدال السدس
في المثال الثاني بالنصف، وذلك يقتضي بقاء سدس للأول لا ثلث.
وعلى كل حال فما عن بعضهم - من أن الوصية بالربع والسدس في نحو مفروض
المتن رجوع عن الأول - واضح الضعف بعد الإحاطة بما قدمناه بل قيل: إنه غير
معروف القائل بل عن التحرير (و) غيره نسبة أصل الحكم إلى علمائنا.
نعم (لو أوصى بثلثه) الراجع إليه (لواحد، وبثلثه) كذلك (لآخر كان
ذلك رجوعا عن الأول إلى الثاني) للتضاد في متعلق الوصية الذي قد فرض اتحاده
واختلاف الموصى له فليس إلا الرجوع نحو الوصية بعين مخصوصة لزيد، ثم الوصية
بها نفسها لعمرو. ونحوه ما كان بمعناه مما يحصل به التضاد صريحا أو ظاهرا، أما لو قال:
ثلث مالي لزيد، ثم قال: ثلث مالي لعمرو لم يكن رجوعا لعدم العلم والظن بالاتحاد
اللهم إلا أن يكون عرف أو قرينة تدل على إرادة الثلث الراجع إليه من ذلك، فإنه
يكون رجوعا أيضا، كما أنه لو كان عرف أو قرينة تقضي بأن المراد من " ثلثي " لو فرض الاقتصار
عليه في الوصية ثلث المال، لا الراجع إليه خاصة، لم يكن رجوعا لعدم التضاد حينئذ
بل يعطى الأول ثلثه الراجع إليه الذي صادفته الوصية الأولى، ويتوقف في الثانية
على الإجازة.
لكن المعروف بين الأصحاب أنه بإضافة الثلث إلى نفسه يكون رجوعا، بل عن
خلاف الشيخ أن اجماع الفرقة وأخبارهم على الرجوع في ثلث ماله الذي لا ريب في
أولوية المفروض منه كما عن التحرير نسبته إلى علمائنا، بل اعترف به أيضا في جامع
المقاصد.
304

فما عن المهذب والمختلف والإيضاح - من أنه ليس رجوعا لعدم الصراحة في
إرادة ثلثه الراجع إليه، إذ هو ما دام حيا جميع المال في قبضته ومنسوب إليه، ولعله
لذا توقف فيه في القواعد، بل ومحكي التحرير، وإن نسبه إلى علمائنا - ضعيف،
ضرورة كفاية الظهور في الرجوع كالتصريح، لصلاحية كل منهما لقطع الاستصحاب و
دعوى عدم الظهور أيضا كما ترى ضعيفة، ومع تسليمها فالأمر سهل، ضرورة رجوع
النزاع إلى مفهوم عرفي يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.
وقد ظهر لك من ذلك أن موضوع المسألة الأولى التي قلنا يبدء بالأول فالأول
فيها، تعدد الوصايا مع عدم التضاد بينها، وإن امتنع العمل بها جميعها، لقصور
الثلث أو المال، بخلاف الثانية التي قلنا أن الثانية تكون رجوعا عن الأولى، فإن
موضوعها المتضادان اللذان لا يمكن جمعهما في الخارج في حد ذاتهما، لا
للقصور كما هو واضح.
من غير فرق بين كون الوصية بمقدار أو عين أو كسر، فإن المدار على ما ذكرنا من
الحكم بالرجوع مع التضاد صريحا أو ظاهرا وعدمه مع عدمه.
ولعل هذا أولى مما في السرائر من تنقيح ذلك فإنه بعد أن ذكر أن للموصي
الرجوع في وصيته ما دام حيا عاقلا قال متصلا بذلك - " وإذا أوصى الانسان بثلث
ماله لشخص ثم بعد ذلك أوصى بثلث ماله لغير ذلك الشخص كان الثلث لمن أوصى
له أخيرا، وكانت الوصية الأخيرة ناسخة للأولى ورافعة لحكمها، لأن الانسان لا يستحق
من ماله بعد وفاته إلا ثلث ماله، فإذا أوصى به لانسان ثم أوصى به بعد ذلك لانسان
آخر فقد نقل الثلث الذي يستحقه من الأول إلى الثاني، لأنه يعلم أنه لا يستحق إلا
الثلث، فإذا أوصى به بعده فقد رجع عن الوصية الأولى، وللانسان أن يرجع عن وصيته
ويبدلها ويغير أحكامها ما دام حيا ثابت العقل فليلحظ ذلك، فهذا قول أصحابنا،
وما يوجد في الكتب أنه إذا أوصى للانسان بوصية ثم أوصى بأخرى فإن أمكن العمل
بهما جميعا وجب العمل بهما، وإلا كان العمل على الأخيرة، دون الأولى، وأما إذا
أوصى بشئ ولم يذكر الثلث، ثم أوصى بشئ آخر ولم يذكر الثلث، فإن مذهب أصحابنا
305

أن يبدء بالأول فالأول، ويكون النقصان إن لم يف الثلث داخلا على من ذكر أخيرا،
لأنه لما أوصى للأول ما قال: أوصيت له بثلثي، وكذلك الثاني والثالث فظن أن ثلثه
يبلغ مقدار جميع ما ذكره ولم ينقل عن الأول ما أوصى له به وكذلك الثاني، فلو علم
أنه قد استوفى ثلث ماله لمن أوصى له به، لم يوص بعده بشئ آخر، فإذا استوفاه يكون
النقصان على من ذكره أخيرا، فهذا الفرق بين المسألتين فلا يظن ظان أن المسألتين
واحدة، وأن بينهما تناقضا، وأن مذهب أصحابنا أن الوصية الثانية ناسخة للأولى في
جميع المواضع، ولا أن الواجب بالأولى في الجميع، إلى أن قال: ويدل على ما قلناه
قول الشيخ في المبسوط، ونقل ما تسمعه عنه من العبارة المشتملة على ما تعرف من
الغرائب على ما حكاها في المختلف، وأغرب من ذلك ما حكاها هو عنه، ولعل نسخ
المبسوط مختلفة، فلاحظ وتأمل.
لكن لا يخفى عليك أن ما ذكرناه أجود منه، ضرورة امكان وصيته بثلث آخر اعتمادا
على إجازة الوارث، فلا يكون علمه بأنه ليس له إلا ثلث قرينة على اتحاد الموصى به،
لكل من الشخصين بثلث ماله، بل ما ذكره أيضا - من أن الموصى لم يرد إلا الوصية
بمقدار ثلثه، وإن اشتبه في سعته - واضح المنع، كما ستعرفه انشاء الله تعالى.
وعلى كل حال فلا يتوهم هنا أعمال قاعدة الاطلاق والتقييد والتعميم و
التخصيص في المقام، حتى يتجه أنه لو أوصى بثلث المال ثم بجميعه أو بالعكس -
تخصيص الجميع بما عدا الثلث، فيعطى ذو الجميع مع الإجازة الثلثان لو كان متأخرا، أما
لو كان هو المتقدم نفذ له الثلث، وتوقف الثلث الثاني والثلث الموصى به للمتأخر على
الإجازة، ولو قال: ثلثي لزيد، ثم قال: جميع المال لعمرو، توقف الوصية الثانية على
الإجازة، وكذا لو عكس، ولا يكون رجوعا عن مقدار الثلث، لأنه بما عرفت يكون المراد من
جميع المال ما عدا ثلثه، إلى غير ذلك مما يتفرع على هذا التقدير.
لكن الذي يظهر عدم مراعاته، ولعله لأن المفهوم عرفا في أمثال المقام عدم
التقييد والتخصيص، وأنه كالخاص أو المقيد بعد حضور وقت العمل بالعام والمطلق، أو
كالاخبارات التي لا يجوز نحو ذلك فيها بعد الفراغ من التشاغل بها، لأن وقت
306

حاجتها حال وقوعها، أو لأن المراد بها انشاء تمليك، ومثله لا يجري فيه الاطلاق و
التقييد، أو لغير ذلك، وأما احتمال التزام الأصحاب ذلك كله فيما سمعت وغيره، فإنه
يأباه ملاحظة كلماتهم.
ومن الغريب بعد ذلك كله ما وقع للكركي في المقام من أن الأصل في الوصية أن
تكون نافذة، فيجب حملها على ما يقتضي النفوذ بحسب الامكان، وإنما تكون الثانية
نافذة إذا كان متعلقها الثلث الذي يجوز للمريض الوصية به، فيجب حملها عليه، كما
يجب حمل اطلاق بيع الشريك النصف على استحقاقه، حملا للبيع على معناه الحقيقي
وحينئذ فيتحقق التضاد في مثل ما لو قال: أوصيت بثلث لزيد، وبثلث لعمرو، فيكون
الثاني ناسخا للأول، فيقدم وأولى منه ما لو قال: ثلث مالي، ثم فرع عليه: أنه لو أوصى
لزيد بثلث، ولعمرو بربع، ولخالد بسدس وانتفت القرائن، أن يكون الوصية الأخيرة
رافعة للأول، مع اعترافه بأنه مخالف لما صرح به جميع الأصحاب، والحامل له على
ذلك ما فهمه من أن اطلاق الوصية محمول على النافذة.
وأنت قد عرفت مما حققناه سابقا أن الاطلاق في الوصية وغيرها من العقود إنما
يقتضي إرادة معنى ما تعلق به العقد لكن إذا صادف ذلك ما يمكن نفوذه فيه نفذ،
لوجود المقتضي وارتفاع المانع، وإن لم يصادف ذلك كان عقدا موصوفا بالصحة القابلة
للنفوذ وعدمه بسبب رفع المانع، أو تحقق الشرط الشرعي وعدمهما، ففي البيع إذا
علقه على النصف من غير تعرض لكون المستحق له، أو المشاع بينه وبين شريكه اقتضى
نقل النصف في نفسه، وله محل ينفذ فيه، باعتبار استحقاق العاقد المخاطب بالوفاء
بعقده نصفا، فينفذ وينزل عليه تنزيلا شرعيا لا قصديا، بمعنى كون العاقد قد قصد ذلك
وكذا ما نحن فيه، فإن الموصي إذا أوصى لزيد بثلث لم يقصد إلا تمليك الثلث في نفسه،
إلا أنه لما كان يمكن تنفيذه باعتبار استحقاق الموصي ثلثا، نفذت الوصية به، فإذا أوصى
بعد ذلك بثلث أيضا لم يصادف ذلك محلا ينفذ فيه، لسبق السبب الأول، وإنما
صادف محلا ينفذ فيه مع الإجازة، فيتعلق حينئذ كذلك، على حسب ما صادف كما هو
واضح، ولا يسمى مثله باطلا، بل هو صحيح خصوصا بعد بناء الأصحاب في المقام من
307

كون الإجازة تنفيذا، لا ابتداء عطية، كما عرفت، فتصرف الموصي حينئذ يقع في ماله،
إلا أنه كان متوقفا على إجازة الوارث، وبها يتم تصرفه في ماله، لا أنه يكون التصرف من
الوارث، فلا دلالة في الوصية الثانية على الرجوع عن الأولى لعدم التضاد بينهما بخلاف
ما لو علقها بما علق الأولى، فإنه يحصل التضاد فليس إلا الفسخ والرجوع ويكون الثاني
كالوارد على الأول فينسخه، ضرورة كونه حينئذ كالدليل الوارد على الأصل، إذ لا معارض
للثانية إلا استصحاب صحة الأولى المعارض بما وقع من نفس الوصية الثانية، ومن هنا
حكمنا بنسخ الأولى للثانية، دون العكس، وكذا لو قال ثلث لزيد ثم قال ثلثي لعمرو،
فإنه رجوع بخلاف العكس.
وبما ذكرنا يظهر لك الحال فيما ذكره جملة من الأصحاب في المقام، فإنه كما
في المسالك قد اختلف اختلافا كثيرا حتى من الرجل الواحد في الكتب المتعددة بل
الكتاب الواحد، بل فيها أنه اتفق لشيخ الطائفة غرائب في المسألة حيث قال في
الخلاف: " إذا أوصى بثلث ماله لانسان، ثم أوصى بثلث ماله لغيره ولم يجز الورثة
كانت الوصية الثانية رافعة للأولى، وناسخة لها، ثم استدل عليه باجماع الفرقة و
أخبارهم، وبأنه لو قال: العبد الذي أوصيت به لفلان، قد أوصيت به لفلان، فإنه
يكون رجوعا عن الأولى، فكذا إذا أطلق، وادعى عدم الفرق بين المقيد والمطلق، ثم
قال فيه أيضا لو أوصى لشخص بماله، ولآخر بثلثه، وأجاز وأبطل الأخير، ولو بدء بالثلث
وأجازوا أعطى الأول الثلث والأخير الثلثين " وهذا ظاهر المنافاة للسابق الذي
ادعى عليه الاجماع، لأن الثلث في المسألة الثانية مضاف إليه، فهو أقوى في إرادة
ثلثه الخاص به، من ثلث ماله في السابق الذي جعله رجوعا، وكون السابق في
الثانية جميع ماله، لا يؤثر في دفع المنافاة، لأن جميع ماله متضمن للثلث الذي أوصى
به ثانيا، وما احتج من الأخبار لم نقف عليه أصلا، إلا من حيث عموم ما دل منها على
جواز الرجوع عن الوصية، وذلك لا يفيده، لمنع تناوله للمتنازع، وأما عدم فرقه بين
المطلق والمقيد فغني عن الجواب.
قلت: ومضافا إلى ذلك أنه إذا حمل المطلق على إرادة ثلثه، لم يتجه اشتراط
308

عدم إجازة الوارث في الفسخ والرجوع، ضرورة عدم مدخلية ذلك فيه والمتجه فيما
ذكره من المثال الثاني بناء على المختار الرجوع في مقدار ثلثه، للتضاد فيه، فمع
الإجازة يعطى ذو الوصية بجميع المال الثلثين، ويختص الآخر بثلث الميت، من غير
حاجة إلى إجازة، ومع عدمها يختص البطلان بالوصية الأولى التي قد رجع عن الوصية
بثلثه فيها، وأما صورة العكس فالمتجه فيها مع الإجازة اختصاص الثاني بالمال كله،
لأنها مضادة للأولى في ثلث الميت، فتكون رجوعا، فتتوقف في الباقي على الإجازة، و
مع عدمها يختص بالثلث، وتبطل في الثلثين.
وعلى كل حال تبطل الأولى، وكأنه رحمه الله قد استعمل هنا قاعدة الاطلاق و
التقييد التي قد عرفت الحال فيها، فقال في المحكي من مبسوطه بعد أن ذكر ما سمعته
من الخلاف: رجل أوصى بثلث ماله لأجنبي وبثلث ماله للوارث، قد بينا مذهبنا فيه، و
هو أن يمضي الأول، فإن اشتبه استعمل القرعة فجزم في هذه بتقديم الأولى ناسبا
له إلى مذهبنا، ثم قال بعد ذلك: إذا أوصى رجل لرجل بثلث ماله، ثم أوصى لآخر
بثلث ماله فهاتان وصيتان بثلثي ماله، وكذا إذا أوصى بعبد بعينه لرجل، ثم أوصى
لرجل آخر بذلك العبد بعينه، فهما وصيتان وتكون الثانية رجوعا عن الأولى، ومنهم
من قال: لا يكون رجوعا فمن قال: إنه ليس برجوع لها إن أجاز الورثة يكون لكل واحد
منهما ثلث ماله، وكذا يقول من قال هو رجوع، ولو رد أحدهما فعلى ما قلناه من أن
الثاني رجوع عن الأولى ينظر فإن رجع الأول فلا تأثير لرجوعه، لأن الوصية له قد
بطلت بالوصية للثاني، فإن رجع الثاني ولم يقبلها رجع المال للورثة، لأن الوصية
للأول كان قد بطلت بالوصية للثاني، وهذا ظاهر التنافي، إذ لا فرق بينهما إلا بالوارث
والأجنبي اللذين لا مدخلية لهما في ذلك عندنا، خلافا للعامة، مضافا إلى ما سمعته
من الخلاف من الاجماع على النسخ في نحو الفرض الذي قد جزم فيه بتقديم الأولى، و
إلى ما في قوله فهاتان وصيتان بثلثي ماله من الاشكال، ضرورة كونه على تقدير الرجوع
ليس إلا وصية بثلث واحد، كالعبد الذي فرضه مثالا، بل وإلى ما في قوله بعد ذلك
" وكذا يقول من قال هو رجوع " من الاشكال أيضا، ضرورة أن القائل بالرجوع يقول
309

ليس إلا الثلث للثاني، كما هو واضح.
وقد حكاها فيما حضرنا من السرائر عن المبسوط بطريق آخر أشكل من ذلك، ولعل
نسخ المبسوط مختلفة فلاحظ وتأمل، والضابط في المسألة ما عرفت، وبمراعاته تعرف
كثيرا من نحو ذلك في كلامهم، والظاهر عدم الفرق في تحقق الرجوع بالتضاد بين كون
متعلق الوصية ثلث الميت، وكون متعلقها ثلثي الوارث وفائدة الرجوع فيهما عدم الصحة
المنسوخة حتى لو أجاز الوارث، لبطلانها بالرجوع، فلا تنفع الإجازة.
ولا يتوهم أن تعدد الوصايا فيهما لتعدد العقد من الفضولي الذي يخير المالك
في إجازة ما شاء من العقدين، أو العقود، ضرورة وضوح الفرق بين المقامين بما عرفت
من أن الإجازة هنا تنفيذ لا هبة بمعنى رضى الوارث أن لا يكون وارثا، فيكون التصرف
من الموصي، بخلاف الفضولي في البيع مثلا كما هو واضح بأدنى تأمل.
(و) على كل حال ف‍ (لو اشتبه الأول) الذي يستحق الوصية، أو رجع
عنه (استخرج بالقرعة) التي هي لكل أمر مشكل، باعتبار عدم اندراجه في قاعدة
من قواعد الشرع، فيكتب حينئذ اسم أحدهما وأنه السابق، أو المتأخر في رقعة، وفي
أخرى كذلك ثم يخفيان ثم يخرج أحدهما، ويعمل عليها، وهكذا مع التعدد كما
أنه يرجع إليها أيضا لو اشتبه الحال في وجود الأول وعدمه، ثم على تقديره ففي
تعيينه، وإن كان كيفيتها حينئذ باستخراج وجود أول وعدمه أولا، فإن خرج أن
فيها أول، استعلمت في اخراجه حينئذ بالكيفية السابقة.
ولو أوصى بوصايا تزيد على الثلث، فلم يجز الوارث شيئا معينا منها، ولكن لم يعلم
أنها على الترتيب على الوجه يكون المعين الذي لم يجزه الوارث هو الزائد على الثلث
أو كانت الوصايا دفعة، أقرع أولا لبيان أنها دفعة أو مرتبة، فإن كان الأول، أقرع
أيضا لاخراج ما يختص بعدم الإجازة منها، فإن الظاهر عدم الخيار للوارث في ذلك
لأن أقصى ماله عدم إجازة الزائد، وأما تعيينه بعد فرض تعلق حق الوصية في الجميع
فبالقرعة، وإن كان الثاني، جعل جميع المحتملات سهاما متعددة، واستخرج أحدها
وعمل عليه، وبالتأمل في نحو ذلك يظهر لك الحال في فروع متعددة، والله العالم.
310

(ولو أوصى بعتق مماليكه، دخل في ذلك من يملكه منفردا، ومن يملك بعضه)
بناء على صدق اسم المملوك على الكل والبعض، وإن كان لا يخلو من شئ في عرف
هذا العصر وعمومية الجمع المضاف، إنما هي فيما يصدق عليه مفرده، لكن ليس محل
البحث هنا من هذه الجهة، إذ يمكن فرضه بحيث يتناول ذلك (و) لو بالقرينة.
إنما الكلام في أنه إذا فعل ذلك (أعتق نصيبه حسب) كما هو المعروف بين
الأصحاب بل ربما ظهر من بعضهم الاجماع عليه، لأصالة عدم السراية، ولأن العتق
إنما حصل بعد الموت، ولا مال بعده للموصي كي يقوم عليه، أ (و) كما (قيل:)
والقائل الشيخ في نهايته وتبعه الفاضل في المحكي من مختلفه (يقوم عليه حصة
شريكه، إن احتمل ثلاثة ذلك، وإلا أعتق منهم ما يحتمله الثلث) خاصة (وبه رواية فيها
ضعف) كما في المسالك، لكن في الفقيه روايته عن البزنطي عن أحمد بن زياد المزبور،
وهو من أصحاب الاجماع، بل قيل: إنه لا يروى إلا عن ثقة (1).
قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل تحضره الوفاة، وله مماليك لخاصة نفسه
وله مماليك في شركة آخر فيوصي في وصيته مماليكي أحرار، ما حال مماليكه الذين في
الشركة؟ فقال يقومون إن كان ماله يحتمل ثم هم أحرار " إلا أنه - مع عدم جمعه شرائط
الحجية على ما في المسالك وغيرها واعراض المعظم عنه، بل فيما حضرني من نسخة
الفقيه ما خلا مماليكي الذين في الشركة، وحينئذ يخرج عما نحن فيه، ويراد بالتقويم منه
بالنسبة إلى الثلث - محتمل أو ظاهر في التنجيز الذي يطلق على نحوه أنه وصية، إذا
كان في مرض الموت وحينئذ سراية العتق مع احتمال الثلث متجهة، لحصول الشرط،
أو يحمل على الوصية، لكن يفرض أن الميت له مال بقطع رأسه بعد موته، فإن الدية له
دون الوارث، أو أنه قد أوصى بثلثه على وجه يكون له، فإنه يصح، ويصرف في مصالحه
فإنه قد يقال بالسراية حينئذ، باعتبار كون الميت له مال فيحصل الشرط، بخلاف ما
إذا لم يوص، فإنه لا ثلث له حينئذ، فلا يكون له مال، فلم يوجد سبب السراية.

(1) الوسائل الباب - 74 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 الفقيه ج 4 ص 158 وفيه
فكتب (عليه السلام) (بدل فقال).
311

ودعوى كون الوصية التي هي سبب السبب قد وقعت في حال الحياة وله مال
يدفعها أن السبب العتق لا الوصية، والفرض وقوعه في حال لا مال له فيه فلا يترتب
عليه مسببه الذي هو السراية، ضرورة تخلف المسبب عن السب إذا لم يحصل الشرط
كما هو واضح.
(ولو أوصى بشئ واحد لاثنين) على وجه لا ترتيب بينهما، بأن كان بلفظ
واحد مثلا، كما لو قال: لزيد وعمرو مائة، أو قال: لزيد وعمرو الدار الفلانية، لكل واحد
نصفها، بل وكذا لو قال: لهما الدار لزيد البيت الفلاني منها، والباقي لعمرو، لأن
تفصيله وقع بيانا لما أجمله أولا، وقد أوصى به دفعة.
نعم لو اقتصر على التفصيل كان وصيتين.
وعلى كل حال فإذا أوصى لهما بوصية واحدة على التخصيص أو الإشاعة (وهو)
أي الموصى به (يزيد عن الثلث ولم يجز الورثة كان لهما ما يحتمله الثلث) ويبطل
الباقي، لأنها وصية واحدة (و) أما (لو جعل لكل واحد منهما شيئا) مرتبا في وصيته
لكل واد منهما بوصية مستقلة، كما لو قال: لزيد مائة، ولعمرو خمسون (بدو بعطية
الأول وكان النقص على الثاني منهما) بلا اشكال في شئ من ذلك، ولا خلاف، ضرورة
كونها في الثاني وصيتين متعاقبتين، وقد عرفت سابقا حكم الوصايا المتعددة المتعاقبة
(ولو أوصى بنصف ماله مثلا، فأجاز الورثة، ثم قالوا: ظننا أنه قليل، قضى عليهم بما ظنوه، وأحلفوا على الزائد) فلو قالوا ظننا أنه ألف درهم فظهر ألف دينار قضى عليهم بصحة
الإجازة في خمسمأة درهم، وأحلفوا على نفي ظن الزيادة، أو عدم إجازتها، لموافقة
دعواهم لأصل عدم الإجازة، ولأصل عدم العلم بالزائد، المستند إلى أصل عدم الزيادة
مضافا إلى أن المال مما يخفى، وإلى أن دعويهم يمكن أن تكون صادقة، ولا يمكن الاطلاع
عليها إلا من قبلهم، لأن الظن من الأمور النفسانية، فلو لم يكتف باليمين لزم الضرر، لتعذر
إقامة البينة على دعواهم.
وهذا الحكم وإن ذكره غير واحد من الأصحاب، بل لا أجد فيه، خلافا صريحا، (و)
إن قال المنصف هنا (فيه تردد) لكنه محتاج إلى تفصيل، ضرورة كون الظن المزبور
312

تارة يكون. من المقارنات، بحيث لا يكون مقيدا للإجازة، وأخرى يكون كذلك بأن يرجع
إلى إجازة ما ظنوه أنه نصف ماله.
أما الأول فلا ريب في تأثير الإجازة فيما تعلقت به، سواء كان المجيز ظانا لمصداق
خاص أو قاطعا به، أو مجردا عن ذلك، ضرورة عدم مدخلية الحال المزبور في ذلك.
وأما الثانية فلا ريب في تقييد الإجازة بذلك، إنما الكلام في قبول دعوى ذلك منهم
بعد فرض تعلق ما صدر منهم من الإجازة باللفظ الذي له معنى في الواقع، ويجب الأخذ به
في الاقرارات، والنذور، والوصايا، والعقود، وغيرها، والأصل عدم ظنه قلة المال، و
عدم ظن كثرته، ولو سلم فالأصل عدم تقييد الإجازة بذلك، ومجرد وجود الظن أعم من
ذلك كما عرفت، فقبول الدعوى في أصل الظن وفي تقييد الإجازة بالمظنون مع ظهور ما
أفادها في خلافه مخالف للضوابط الشرعية، كما هو واضح.
ولعل تردد المصنف فيه من ذلك، وإليه أو بعضه يرجع ما وجهه به في المسالك
فإنه جعله مما سمعته أو لا، ومن تناول اللفظ للقليل والكثير، والاقدام على ذلك مع
كون المال مما يخفى، فالرجوع إلى قولهم رجوع عن لفظ متيقن الدلالة على معنى يعم
الجميع، إلى دعوى ظن يجوز كذبه ولكن مع ذلك قال " الأقوى القبول ".
وكيف كان فحيث تنزل الإجازة على المظنون ولو للقرائن يدفع للموصى له نصف
ما ظنوه وثلث باقي التركة، لنفوذ الوصية في ثلثه، وعدم الإجازة إنما أبطل الوصية في
الزائد عليه، بالنسبة إليه خاصة بخلاف ما ظنوه، فإن الوصية نفذت في ثلثه، والزائد
عليه للإجازة كما هو واضح.
هذا كله إذا أوصى بجزء مشاع (أما لو أوصى بعبد أو دار فأجازوا الوصية ثم
ادعوا أنهم ظنوا أن ذلك بقدر الثلث، أو أزيد بيسير، لم يلتفت إلى دعويهم لأن الإجازة
هنا تضمنت معلوما) لا مجهولا كالنصف والثلث فلا تسمع دعواهم التي هي مخالفة
للبناء على أصل قلة المال، وعدم كثرته، فهي كأنها مخالفة للأصل، وبذلك فرقوا بين
المسألتين.
لكن مال في الدروس إلى التسوية بينهما في القبول وجعله في محكي التحرير وجها
313

وفي القواعد احتمالا، ووجهه أن الإجازة وإن وقعت على معلوم، إلا أن كونه بمقدار الثلث
أو ما قاربه مما يتسامح فيه، إنما يعلم بعد العلم بمقدار التركة، والأصل عدم علمهم
بمقدارها، وبناؤهم على الظن فكما احتمل ظنهم قلة النصف في نفسه يحتمل ظنهم قلة
المعين بالإضافة إلى المجموع، وإن لم يكن قليلا في نفسه، ومخالفة الأصل هنا بظنهم
كثرة المال مع أن الأصل عدمه، لا يؤثر في دفع الظن عنه، واعتقاد كثرته، بل يمكن عدم
ظهور خلاف ما اعتقدوه من الكثرة، ولكن ظهر عليه دين قدم على الوصية، فقل المال
الفاضل عنهما، وهذا موافق للأصل كالأول، وأيضا عمدة المقتضي للقبول في الأول،
امكان صدقهم في الدعوى، وتعذر إقامة البينة بما يعتقدونه، وهو متحقق هنا، لأن
الأصل عدم العلم بمقدار التركة، وذلك يقتضي جهالة القدر المعين من التركة
كالمشاع، ومن ذلك قال في المسالك " لعل القبول أوجه " لكنك خبير بعد الإحاطة بما
ذكرناه في السابقة أن عدم القبول هنا أوجه وأولى، بل لو سلم لهم ظن ذلك لم تتقيد به
الإجازة، وهو واضح، والله العالم.
(وإذا أوصى بثلث ماله مشاعا كان للموصى له من كل شئ ثلثه) على حسب
ما أوصى به الموصي، فيكون شريكا للوارث بالمقدار المعلوم (وإن أوصى بشئ معين
وكان بقدر الثلث فقد ملكه الموصى له بالموت) والقبول لما عرفته سابقا من أن له حصر
ثلثه في عين معينة، لعموم أدلة الوصية السالم عن المعارض (و) حينئذ ف‍ (لا
اعتراض فيه للورثة و) لا حاجة إلى إجازتهم ذلك.
نعم (لو كان له مال غائب أخذ له من تلك العين ما يحتمله الثلث من المال
الحاضر) إن كانت قابلة للقسمة، وإلا ملك المقدار المزبور من غير اعتراض للوارث
عليه.
(و) على كل حال (يقف الباقي حتى يحصل من) المال (الغائب) ما
يحتمله (لأن الغائب معرض للتلف) فلو دفع جميع العين للموصى له، ثم تلف المال
دخل الضرر على الوارث، بخلاف ما قابل المال الحاضر، فإنه لا ضرر عليه أصلا، ومن هنا
يتجه جواز التصرف للموصى له فيما أخذه من العين في مقابلة ثلث المال
314

الحاضر، لعموم (1) " تسلط الناس على أموالهم " ولا ضرر على الوارث، وإن اختلف تصرفه في
ذلك بالنسبة إلى ما انتقل إليه من العين من حيث الإشاعة وعدمها، فإنه يتصرف
على حسب المال المنتقل إليه.
واحتمال أن تسلطه على ذلك مشروط بتسلط الوارث على ما قابل الباقي من المال
الغائب لا دليل عليه، فما وقع من الاشكال فيه من بعضهم في غير محله، ولقد أجاد في
المسالك في رده " بأن مجرد الاحتمال لا يقوم دليلا على منع المالك المستقر ملكه على
الثلث، مع كون الباقي غير خارج عن ملكه، بل استقرار ملكه له موقوف على حصول الغائب
وإلا فأصل الملك حاصل بالوصية والقبول، والخروج عن الثلث في الجملة، ومن ثم لو
حفر الغائب كان نماء العين أجمع للموصى له، ومراعاة حق الوارث باحتمال تلف المال
تحصل بايقاف ما زاد على الثلث إلى أن يظهر الحال " قلت: بل إن لم يقم اجماع أمكن
أن يقال: للموصى له التصرف في تمام العين الموصى بها بمجرد سعة ثلث المال لها، وإن
كان غائبا، لاطلاق أدلة الوصية، وإن كان للوارث الرجوع عليه لو تلف المال قبل قبضه
فإنه ينكشف حينئذ عدم ملك الموصى له تمامها، أو ينفسخ ملكه به، ولعل المتجه بناء
على ما سمعته من المسالك ذلك، لأن عدم الاستقرار لا ينافي تصرف المالك في ملكه
للعمومات.
لكن لما كان مرجع ذلك إلى الحكم بملكية الموصى له إلى أن يحصل التلف،
لاطلاق أدلة الوصية، فيكون هو كالمانع عن بقاء الملك ليحصل الفسخ به، المعارض
باحتمال أن المال على ملك الوارث إلى أن يحصل ما يقابل الموصى به، لعدم ملك
الموصى غير الثلث المشاع مع الوارث، فلا يملك الموصى له العين إلا مع حصول ضعفه
من ثلثه للوارث، ولعله لعدم ظهور الأدلة في شئ من ذلك حكم المصنف وغيره
بالايقاف في يد مؤتمن إلى أن يظهر الحال، كما يوقف نصيب الحمل والمال الذي باعه
مالكه لآخر فضولا إلى حصول الولادة والإجازة، ولأن أصالة عدم التلف معارض بأصالة
عدم القبض والله العالم.

(1) البحار ج 2 ص 272.
315

(فرع)
(لو أوصى بثلث عبده) المملوك له في ظاهر الحال (فخرج ثلثاه مستحقا،
انصرف الوصية إلى الثلث الباقي، تحصيلا لامكان العمل بالوصية) الذي يجب
مراعاته ما دام ممكنا، ولا ينزل ذلك على الإشاعة حتى يصح في ثلث الثلث خاصة كالاقرار
كما عن بعض العامة لما عرفته سابقا من أن الوصية متى صادفت محلا قابلا للنفوذ نفذت
وهو في الفرض متحقق، وكذا البيع على الأصح وجواز الفضولي فيه أو فيها، أيضا لا ينافي
ذلك، فما في المسالك من بناء هذه المسألة على ذلك في غير محله فحينئذ إن وسع
المال أعطى الموصى له تماما الثلث، وإن لم يكن له مال سواء نفذت الوصية في ثلث الثلث
أو وقف في الباقي على الإجازة كما هو واضح.
(ولو أوصى بما يقع اسمه على المحلل والمحرم) للاشتراك لفظا أو معنى (انصرف
إلى المحلل، تحصينا لقصد المسلم عن المحرم) ولكلامه عن اللغو أو المنهي عنه شرعا،
ولوجوب تنفيذ الوصية فلذلك وجب صرفه إلى المحلل، وذلك (كما لو أوصى) بطبل
من طبوله كان منها المحلل والمحرم بل أو (بعود من عيدانه) بناء على عدم انصرافه
إلى اللهو، وإلا بطلت الوصية فيه، كما في كل لفظ ظاهر في المحرم، ولو للقرينة، لأن
أصالة الصحة لا تعارض ظاهر اللفظ، وإنما أقصاها تعيين ما لا ظهور فيه من الألفاظ
بخلافها، وإلا كان مقدما عليها، لعموم ما دل على العمل بظاهره، وترتيب الأحكام
عليه، كما هو مبين في محله.
(ولو لم يكن له عود إلا عود اللهو) وأمكن تحويله إلى الصفة المحللة مع بقاء
اسم العود عليه (قيل: تبطل) الوصية، لأنها بغير المشروع (وقيل تصح ويزال عنه
الصفة المحرمة) وهو الأقوى، لاطلاق أدلة الوصية، وكونه على صفة محرمة لا يخرجه
عن الملكية، والفرض عدم الوصية به مقيدا ببقائه على تلك الصفة، كي يكون الوصية به
من غير المشروع.
نعم لو توقف زوالها على كسره المخرج له عن اسم العود، اتجه البطلان حينئذ،
لعدم التمكن من انفادها على وجهها، إذ شراء عود له ذي صفة محللة خروج عنها، و
316

الفرض عدم غيره عنده، وإن إزالة الصفة المحرمة متوقفة على اخراج اسمه القاضي
ببطلان الوصية به.
ودعوى أنه إذا انتقل إلى الموصى له، فله أن يفعل به ما شاء، ومن جملته كسره
بل هو واجب حيث يتوقف زوال الصفة المحرمة عليه، فلا يقدح ذلك في جواز الوصية
يدفعها أن صحتها موقوفة على كسره فيدور، ولو قيل: إنه يمكن كسره من غير الموصى
له قبل دفعه إليه ليندفع الدور، جاء فيه ما تقدم من زوال اسم العود الذي هو
متعلق الوصية، فلا يكون بعد كسره موصى به، فلا يحصل بدفعه إلى الموصى له
الامتثال.
وإلى ما ذكرنا يرجع قول المصنف (أما لو لم يكن فيه منفعة إلا) المنفعة
(المحرمة بطلت الوصية) وإن قال في المسالك: اطلاق العبارة يقتضي أن زوال
الصفة المحرمة مع بقاء المنفعة لو تحقق بكسره الانتفاع بخشبه في بعض المنافع
المحللة كفى في الصحة على هذا القول، ثم أشكله بما عرفت.
لكن قد يقال: إن مراد القائل الإزالة التي لا تخرجه عن اسم الموصى به، والأمر
سهل والله العالم.
(وتصح الوصية بالكلاب المملوكة ككلب الصيد، والماشية، والحائط، والزرع)
وبالجر والقابل للتعليم، لما عرفته مفصلا في كتاب البيع، بل لعل الأقوى جواز الوصية
بها، وإن لم نقل بملكها، وجواز بيعها لثبوت الاختصاص الكافي في صحة الوصية بها.
نعم لا تصح الوصية بالكلب الذي لا يجوز اقتناؤه، لعدم ثبوت يد اختصاص
عليه، بخلاف ما تثبت يد الاختصاص فيه، بل يقوى جواز الوصية به وإن لم يكن في التركة
لوجوب تنزيلها على تحصيله بمعاوضة الصلح من التركة ونحوه، وتعذر البيع خاصة
لا يبطلها، فما في المسالك من أن الأقوى البطلان واضح الضعف والله العالم.
317

(الطرف الثاني: في الوصية المبهمة)
لغة وعرفا (من أوصى بجزء من ماله ففيه روايتان أشهرهما) رواية (العشر)
وفتوى السبع (وفي رواية) ثالثة لم نجد العامل بها (سبع الثلث) ولعل الأقوى
الأول.
لقول أبي جعفر (عليه السلام) في حسن أبان بن تغلب (1) " الجزء واحد من عشرة، لأن
الجبال عشرة والطيور أربعة ".
وصحيح عبد الله بن سنان (2) على ما في الاستبصار والمختلف والدروس " أن امرأة
أوصت إلي وقالت: ثلثي تقضي منه ديني، وجزء منه لفلانة فسألت عن ذلك ابن أبي
ليلى؟ فقال: ما أرى لها شيئا ما أدري ما الجزء فسألت عنه أبا عبد الله (عليه السلام) بعد ذلك،
وخبرته كيف قالت المرأة وما قال ابن أبي ليلى، فقال: كذب ابن أبي ليلى، لها عشر
الثلث، إن الله عز وجل أمر إبراهيم (عليه السلام) فقال: " اجعل على كل جبل منهن جزأ " و
كانت الجبال يومئذ عشرة، فالجزء هو العشر من الشئ ".
ورواه في التهذيب عن عبد الله سنان عن عبد الرحمان بن سيابة، وحينئذ لا
تكون الرواية صحيحة كما أطنب به في المسالك، لأن ابن سيابة مجهول، وفيه منع
اتحاد الرواية، إذ يمكن رواية ابن سنان تارة بواسطة، وأخرى بدونها، على أن ابن
سيابة يمكن استفادة عدالته من توكيل الصادق (عليه السلام) إياه قسمة الألف دينار على
عيال من قتل مع عمه زيد وغير ذلك.
وخبر معاوية بن عمار (3) " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أوصى بجزء من ماله؟
قال: جزء من عشرة، قال الله عز وجل " ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا " إلى آخره.
وخبر عبد الصمد بن بشير (4) المروي عن تفسير العياشي عن جعفر بن محمد (عليه السلام)
في حديث أنه سئل عن رجل أوصى بجزء ماله؟ فقال: هذا في كتاب الله، إن الله يقول
اجعل " إلى آخره.

(1) الوسائل الباب - 54 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(2) الوسائل الباب - 54 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 و 3 و 8 و 9.
(3) الوسائل الباب - 54 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 و 3 و 8 و 9.
(4) الوسائل الباب - 54 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 و 3 و 8 و 9.
318

ومرسل أبي جعفر بن سليمان (1) المروي فيه أيضا في حديث إن رجلا مات وأوصى
إليه بماءة ألف درهم وأمره أن يعطى أبا حنيفة منها جزءا فسأل عنها جعفر بن محمد
(عليه السلام) وأبو حنيفة حاضر فقال له جعفر بن محمد (عليه السلام) ما تقول فيها يا أبا حنيفة، فقال:
الربع، فقال: لابن أبي ليلى فقال: الربع، فقال جعفر بن محمد (عليه السلام) من أين قلتم: الربع
فقالوا: لقول الله تعالى فخذ أربعة من الطير إلى آخره فقال أبو عبد الله (عليه السلام) من هذا
قد علمت الطير أربعة، فكم كانت الجبال إنما الأجزاء للجبال ليس للطير. قالوا ظننا أنها
أربعة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا ولكن الجبال عشرة " إلى غير ذلك من النصوص المروية
في الكتب الأربعة وغيرها المشتملة على ما هو كالمعجز عن الاستدلال الذي مرجعه
أنه لما أوصى بالجزء وقد علم عدم إرادة الموصي العمل بمطلق مسماه الذي يرجع إلى
السفه في الوصية به، كما أنه لا حد معلوم في العرف لأقل ما يصدق به في امتثال الوصية
فكشفه (عليه السلام) كما كشف أقل مسمى الركوع، وأقل المسافة وغير ذلك، أو أنه حدده بذلك
حكما منه (عليه السلام) كما هو الأقوى، ضرورة صدق الجزء على الأقل من ذلك عرفا، بخلاف
الركوع ونحوه، فليس حينئذ إلا التحديد منه، ولو بقطع النزاع.
ولعل اخباره لذلك دون غيره باعتبار اطلاق لفظ الجزء على العشر في كتاب
الله، وليس فيه ولا في السنة استعمال مطلقه في أقل من ذلك، فلا ينافيه حينئذ استعماله
في الأكثر، ضرورة كون المراد التحديد بأقل مصداق استعمل فيه مطلقه، فيجزي فيه
حينئذ كما يجزي الأكثر منه، وحينئذ فاستعماله في السبع في قوله تعالى (7) " لها سبعة أبواب
لكل باب منهم جزء مقسوم " لا يقتضي التحديد به، لكون العشر أقل منه، ومن ذلك
ترجح هذه النصوص التي تضمنت التحديد به.
لصحيح البزنطي (3) " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أوصى بجزء من ماله فقال:
واحد من سبعة، إن الله يقول لها سبعة أبواب " إلى آخره.
وخبر إسماعيل بن همام الكندي (4) عن الرضا (عليه السلام) " في الرجل أوصى بجزء من ماله
فقال الجزء من سبعة، إن الله يقول: لها " إلى آخره.
والمرسل في المحكي عن إرشاد المفيد (5) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) " في رجل أوصى

(1) المصدر نفسه الحديث 9. (2) سورة الحجر الآية 44.
(3) الوسائل الباب - 4 د - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 14 و 13 و 7.
(4) الوسائل الباب - 4 د - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 14 و 13 و 7.
(5) الوسائل الباب - 4 د - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 14 و 13 و 7.
319

بجزء من ماله ولم يعينه، فاختلف الوارث بعده في ذلك، فقضى عليهم باخراج السبع
من ماله، وتلي قوله: لها " إلى آخره مضافا إلى قصورها عنها عددا، بل ودلالة.
فمن هنا حملها الشيخ على استحباب اعطاء السبع للوارث، ولا بأس به بعد
رجحان الأولى عليها، لما عرفت، وباتفاقها جميعا على عشر المال بخلاف روايات السبع
فإن ما سمعته منها يدل على سبع الأصل.
وخبر الحسين بن خالد (1) يدل على سبع الثلث قال " سألته عن رجل أوصى بجزء
من ماله قال: سبع ثلثه " ويمكن حمله على معلومية إرادة السائل ثلثه من ماله، لا جميع
المال.
وعلى كل حال فالقول بالعشر هو الأقوى، وقد عرفت أنه تحديد شرعي لما لم يقصد
الموصي خلافه، أما لو علم قصده، اتبع حتى لو علم منه إرادة المطلق الشامل للعشر و
غيره، الذي هو بمنزلة التصريح بذلك، بل التحديد لمن أوصى بالجزء علم منه عدم
إرادة مطلق مسماه، وعدم ما ينافي التحديد بالعشر، والظاهر اختصاص هذا التحديد
بالوصية، ولا يسري منها إلى غيرها، وإن كان قد يتوهم من النصوص السابقة المشتملة
على الاستدلال التقريبي لا التحقيقي، بل لو أوصى بجزء الجزء احتمل عدم التعدية، و
الرجوع إلى مطلق المسمى، ومع فرض العلم بعدم إرادة يقتصر على ما علم إرادته، و
تمثيل بغيره، أو ينحصر الامتثال بمظنون الإرادة، ويحتمل التعدي، فيحمل حينئذ على
عشر العشر عندنا، أو على سبع السبع على القول الآخر.
وكيف كان فمن الغريب ما عن الصدوق من الجمع بين النصوص بأنه قد جرت
العادة في السابق لأصحاب الأموال بتجزية المال تارة عشرة، وأخرى سبعة فينصرف
الجزء حينئذ على حسبما وقع من التجزية، وقال أيضا: إن حمل الجزء على العشر و
السبع إنما يصح إذا كانت الوصية من العارف باللغة دون غيره من جمهور الناس،
فإنه لا تصح الوصية منه بذلك، حتى يبينه.

(1) الوسائل الباب - 54 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 14 و 13 و 7.
320

وهو كما ترى فيه نظر من وجوه تظهر بأدنى، تأمل مما قدمناه، وما ذكره من العادة
لم نعرف أحدا غيره حكاه، كما أن من الواضح كون محل البحث حال عدم القرينة
لا معها، ولا وجه للبطلان مع عدمها وقطع النظر عن النصوص بل يرجع إلى مسماه أو
إلى أقل ما يصدق عليه مما يتمول، بعد العلم بانتفاء إرادة مطلق المسمى كغيره من
الألفاظ والله العالم.
(ولو كان أوصى بسهم كان ثمنا) عند الأكثر، بل المشهور، بل ظاهر إيضاح
النافع الاجماع عليه، كما عن السرائر أنه المعمول عليه.
لصحيح البزنطي (1) " سأل أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل أوصى بسهم من ماله فقال: السهم
واحد من ثمانية، ثم قرأ إنما الصدقات " وكذا حسن صفوان (2) عن الرضا (عليه السلام) وموثق السكوني (3)
عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعن إرشاد المفيد نسبة ذلك إلى قضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) (4)
" في رجل أوصى عند موته بسهم، ولم يبينه فاختلف الورثة في معناه، فقضى عليهم بذلك
وتلي الآية " وحينئذ فما في خبر طلحة بن يزيد (5) عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام) قال: " من
أوصى بسهم من ماله فهو سهم من عشرة " من الشواذ التي لا تعارض ما سمعت، وربما
حمل على وهم الراوي أو ظنه أن الجزء والسهم واحد، فرواه فيه وكذا ما أرسله الصدوق (6)
من أن السهم واحد من ستة، ثم قال: " متى أوصى بسهم من سهام المواريث كان واحدا
من ستة، ومتى أوصى بسهم من سهام الزكاة كان واحدا من ثمانية، وتمضي الوصية
على ما يظهر من مراد الموصي ".
وفيه أن محل البحث إذا لم يظهر، وحمله على السدس حينئذ - كما عن الصدوقين
والشيخ وابن زهرة، للمرسل المزبور، وما عن ابن مسعود (7) من أن رجلا أوصى لرجل
بسهم من المال، فأعطاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) السدس، وما قيل أن السهم في لغة العرب
السدس، واجماعي الخلاف والغنية كما ترى خصوصا دعوى الاجماع التي هي مظنة
العكس كما هو (و) اضح.

(1) الوسائل الباب - 55 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 و 2 و 3 و 7 و 4 و 5.
(2) الوسائل الباب - 55 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 و 2 و 3 و 7 و 4 و 5.
(3) الوسائل الباب - 55 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 و 2 و 3 و 7 و 4 و 5.
(4) الوسائل الباب - 55 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 و 2 و 3 و 7 و 4 و 5.
(5) الوسائل الباب - 55 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 و 2 و 3 و 7 و 4 و 5.
(6) الوسائل الباب - 55 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 و 2 و 3 و 7 و 4 و 5.
(7) المغني لابن قدامة ج 6 ص 446.
321

نعم (لو كان قد أوصى بشئ كان سدسا) بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل
الظاهر أنه اتفاقي، كما في المسالك، بل ظاهر التذكرة وإيضاح النافع الاجماع عليه،
بل عن الخلاف والغنية دعواه صريحا لخبر أبان (1) عن علي بن الحسين (عليه السلام) " أنه سئل
عن رجل أوصى بشئ من ماله فقال: الشئ في كتاب على (عليه السلام) واحد من ستة " وما عن
المقنع من " أنه واحد من عشرة نادر. هذا ولا يخفى عليك أن محل البحث في السهم
والشئ كما عرفته في الجزء، ولو أوصى بسهم من الجزء أو شئ منه أو السهم ففي جريان
الحكم وجهان.
(ولو أوصى بوجوه فنسي الوصي وجها) منها (جعله في وجوه البر) وفاقا
للأكثر بل المشهور نقلا وتحصيلا، بل في محكي التنقيح أن عليه الفتوى، بل عن غيره
نفي الخلاف فيه، إلا من الحلي تبعا للشيخ في بعض فتاواه لخبر محمد بن الريان (2) قال:
" كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن إنسان أوصى بوصية فلم يحفظ الوصي إلا بابا
واحدا منها كيف يصنع بالباقي؟ فوقع (عليه السلام) الأبواب الباقية اجعلها في البر " المعتضد
بما عرفت المؤيد بما ورد في المنذور للكعبة والوصية لها أنه يصرف (3) إلى زوارها وفيمن أوصى
أن يحج عنه بمال لا يفي به، أنه يصرف في البر ويتصدق به (4) وكذا في الوقف، إذا
جهل الموقوف عليه وبأنه شبه المال المجهول المالك، بسبب اشتباه مصرفه ومستحقه،
فلا طريق إلا صرفه في وجوه القرب، بناء على عدم اختصاص مصرفه بالصدقة به، أو
ينقدح جواز صرف مجهول المالك في ذلك، وربما يؤيد شمول الرواية المزبورة له في
الجملة، إذ من أفراده الوصية به لشخص مخصوص قد قبله ثم نساه، وقد سمعت الأمر
فيها بالصرف في وجوه البر من غير فرق بين الأفراد جميعها.
وبأن هذا المال بتعذر وجهه الذي قد أوصى به، واخراجه عن الوارث بالوصية

(1) الوسائل الباب - 56 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1
(2) الوسائل الباب - 14 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(3) التهذيب ج 9 ص 223 (4) التهذيب ج 9 ص 228.
322

صار في حكم مال الميت، ولا ايصال إليه إلا في صرفه في وجوه البر.
وبأنه إذا فرض الوصية به في جهات القربة إلا أنه نسي خصوصها يناسب الانتقال
إلى نوع القربة، وبغير ذلك.
(و) حينئذ فما (قيل:) والقائل ابن إدريس والشيخ في المحكي من حائرياته
والآبي في المحكي عن كشفه من أنه (يرجع ميراثا) لبطلان الوصية لتعذر القيام بها
واضح الضعف، ضرورة منافاته لاستصحاب الصحة، فضلا عن الخبر المزبور المعتضد
بما عرفت، السالم عن معارضة ما يعتد به، إذ ليس كل تعذر ولو كان كالفرض مبطلا للوصية
ومعيدا للمال إلى الإرث الذي قد فرض الخروج منه بالوصية فعوده يحتاج إلى دليل.
نعم الظاهر اختصاص الحكم بما إذا كان النسيان مطلقا، أي لا على وجه
الانحصار في فردين مثلا أو ثلاثة، وإلا اتجهت القرعة، أو التوزيع، أو الصلح، لو كان بين
الشخصين مثلا، كما أن المتجه التروي والتربص في الصرف في وجوه البر حتى ييأس من
معرفة الوجه الذي قد أوصى به، بمراجعة دفتر أو شاهد ونحو ذلك، فإذا أيس من ذلك
صرفه في وجوه البر، ولا عبرة باحتمال التذكر فيما يأتي من الزمان، لصدق النسيان
الذي قد علق عليه الحكم في النص والفتوى.
ثم إن الظاهر من المتن وغيره إرادة المثال من نسيان الوجه، وإلا فلا فرق بين
نسيان الوجه والوجوه، لاتحاد المدرك، بل ظاهر الخبر ذلك، بل لا يبعد كون الحكم
كذلك في غير صورة النسيان، كما إذا لم يعثر على ما رسمه الموصي في وصيته، وإن علم
أنه قد رسم وجوها مثلا، أو نحو ذلك، واحتمال ايقاف المال في ذلك ونحوه اقتصارا فيما
خالف وجوب حفظ مال الغير على المتيقن ضعيف جدا، كما هو واضح، والله العالم.
(ولو أوصى بسيف معين وهو في جفن) بفتح الجيم (دخل الجفن والحلية
في الوصية) وفاقا للمشهور، بل في ظاهر المحكي عن السرائر والمقتصر وإيضاح النافع
الاجماع عليه، بل عن كشف الرموز ما رأيت أحدا أقدم على منع الرواية الواردة في السيف
وعن المهذب البارع كل الأصحاب مطبقون على العمل بها، أي رواية أبي جميلة
المفضل بن صالح (1) " كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن رجل أوصى لرجل بسيف فقال

(1) الوسائل الباب - 57 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث 2 - 1.
323

الورثة: إنما لك الحديد، وليس لك الحلية، فكتب إلي: السيف له وحليته ".
وخبره الآخر " سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل أوصى لرجل بسيف وكان في جفن
وعليه حلية، فقال الورثة: إنما لك النصل وليس لك المال فقال: لا بل السيف بما فيه له
قال: فقلت: رجل أوصى بصندوق وكان فيه مال، فقال الورثة إنما لك الصندوق وليس
لك المال، فقال الصندوق بما فيه له " فهما مضافا إلى ما عرفت، وإلى العرف الشاهد
على ذلك الحجة في المقام، ولا يقدح فيه عدم دخول شئ منهما في مسماه لغة، ضرورة
كفاية العرف وتقدمه على اللغة، على أنه قد يقال، إن ذلك من توابع الوصية بالسيف
لا للدخول في المسمى كثياب العبد ورحل الدابة ومفتاح الدار، ونحو ذلك من التوابع
التي يشهد العرف بتبعيتها في الايصاء تبعا لتبعيتها في الاستعمال.
نعم لو لم يكن له جفن ولا حلية لم تكن الوصية به، وصية بهما، فلا يخرجان من
التركة.
فما عن المختلف وولده وأبي العباس - من عدم دخول شئ منهما في الوصية -
واضح الضعف، بل لا يبعد الوصية بالجفن لو كان قد أوصى به مطلقا، وإن كان ظاهر
العبارة وغيرها مما قيد فيها بالمعين خلافه، إلا أنه يمكن تنزيله على عدم الوصية
بالحلية التي لم يقيد بتعينها بالنسبة إليه فإنه لا عرف ولا غيره يشهد على الوصية بها
بالوصية به، مع فرض كونه مطلقا بخلاف الغمد، فإن العرف قد يشهد بالوصية به أيضا
وإن كان هو ليس كالظهور في المعين خصوصا إذا كان قد اشترى سيفا لا غمد له.
وعلى كل حال فالظاهر عدم اعتبار وصف خاص في الجفن، بل يكفي فيه كونه
جفنا لذلك السيف كائنا ما كان، فإن الظاهر تبعية نحو ذلك، كثياب العبد ورسن
الدابة، فإن التابع منهما ما كان تابعا لهما في الاستعمال كما هو واضح بأدنى تأمل.
ومنه يعلم عدم الفرق بين السيف والخنجر والسكين ذات القراب وغير ذلك مما
لها توابع في الاستعمال فإن العرف يقضي بتبعيتها في الوصية ونحوها.
(وكذا لو أوصى بصندوق وفيه ثياب، أو سفينة وفيها متاع أو جراب وفيه قماش،

(1) الوسائل الباب - 57 - من أبواب أحكام الوصايا - الحديث - 1 - 2.
324

فإن الوعاء وما فيه داخل في الوصية) وفاقا للمشهور بل عن التذكرة نسبته إلى علمائنا،
كما عن التبصرة (المقتصر - نسخة) أن عمل الأصحاب على رواية أبي جميلة، ونحوه عن
التنقيح، وقد عرفت اشتمالها على الصندوق كخبر عقبة (1) " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل
أوصى لرجل بصندوق وكان في الصندوق مال، فقال الورثة: إنما لك الصندوق، وليس
لك ما فيه فقال: الصندوق بما فيه له " وخبره الآخر (2) عنه أيضا قال: " سألته عن رجل قال:
هذه السفينة لفلان، ولم يسم ما فيها، وفيها طعام، أيعطيها الرجل وما فيها؟ قال:
هي للذي أوصى له بها، إلا أن يكون صاحبها متهما، وليس للورثة شئ ".
لكن ربما نوقش في الأخير بأن غايتها الدلالة على أنها للموصى له، ومرجع الضمير
السفينة، دون ما فيها، والرواية المنجبرة إنما تكون حجة حيث تكون دلالتها واضحة،
لا مطلقا.
نعم لها دلالة ضعيفة بحسب الفحوى لوقوع قوله (عليه السلام) " هي له " جوابا عن جواز
اعطاء ما فيها أم لا، فلو لم يجعل المرجع السفينة بما فيها لم يكن الجواب للسؤال
مطابقا، مع احتمال أن يكون المراد بالجواب الظاهر في رجوع الضمير إلى السفينة
خاصة التنبيه على انحصار الموصى به فيها، دون ما فيها، وبه تحصل المطابقة،
فالأصح عدم الدخول للأصل إلا مع وجود قرينة من عرف أو عادة، وتحتمل الرواية
على تقدير الدلالة الحمل على ذلك.
وقد يدفع أولا: بأن المحكي عن نسخ الفقيه روايته " إلا أن يكون صاحبها
استثنى مما فيها " وحينئذ تكون صريحة في ذلك.
وثانيا: بأن الشهرة كما تجبر السند تجبر الدلالة، على أنه لا ينكر ظهورها كما
اعترف به الخصم، ومثله لا ريب في حجيته، بعد فرض اعتبار السند، ضرورة كونه حينئذ
كالصحيح حجة في مطلق ما يظهر منه منطوقا أو مفهوما.
نعم قد يناقش بعدم صراحة سؤال الخبر في الوصية، بل يحتمل الاقرار، بل

(1) الوسائل الباب - 58 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(2) الوسائل الباب - 58 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
325

هو الظاهر أيضا بقرينة التفصيل بين المتهم وغيره، ولا ينافيه اطلاق الوصية في جواب
الإمام (عليه السلام) لمعروفية اطلاقه على الاقرار الواقع في مرض الموت، وكأنه أومأ إليه في
الدروس، فإنه بعد أن حكى عن القاضي أنه قال: لو أوصى له بسلة زعفران دخل، و
يدخل الشرب بالوصية بالضيعة وما شابهه إذا كان عدلا، فإن كان متهما لم تنفذ
الوصية في أكثر من ثلثه، وعن الشيخ في النهاية أنه قيد بهذا القيد " قال: وكأنهما
يريانه اقرارا ".
قلت: لكن المعروف نقل ذلك عن الشيخ قولا في المسألة، بل لعله إليه أشار
المصنف بقوله (وفيه قول آخر بعيد) بل هو واضح الفساد، ضرورة عدم مدخلية التهمة
وعدمها فيما نحن فيه من الوصية.
ولكن الأمر في ذلك سهل بعد كون الظاهر أن بناء هذا الخبر على تقدير دلالته
وغيره من أخبار المقام على كشف العرف، وأن الحكم بذلك لأنه في العرف كذلك،
لا أنه يحكم به وإن لم يفهم منه في العرف، كما توهمه في الرياض حيث حكم في الصندوق
بما عرفت للرواية المجبورة بما سمعت، ثم قال: إلا أن العرف لا يساعده، فيشكل من
هذه الجهة، ولكن لا مندوحة عن العمل بها، إلا أن توجد قرينة على عدم الدخول
فتتبع، ومقتضاه الحكم بدخول ما فيه وإن لم يفهم من العرف ذلك، وهو شئ عجيب
باعتبار اقتضائه اخراج المال عن صاحبه من دون قصد، وبلا سبب ناقل منه، ومثله كيف
يندرج في الوصية، ويلحقه أحكامها، فلا مناص حينئذ عن تنزيل هذه الأخبار على ما
يقتضيه العرف، وهو في السيف واضح، بل والصندوق إذا كان معدا للظرفية، والمقصود
منه ما فيه، نحو ما يستعمله التجار في صناديق النيل والقماش، والكافور ونحوها، فإنه
لا يشك أحد في وصية أحدهم بصندوق خاص منها في إرادة ما فيها، بل والسفينة و
المركب إذا كانت أيضا كذلك، بخلاف الصندوق الذي يستعمله كثير من الناس للوضع
عليه غالبا، وللوضع فيه اتفاقا والسفينة التي هي كذلك، بحيث يكون المقصود منها
الظرف لا المظروف، ومع الشك فلا ريب في وجوب الاقتصار على ما علمت الوصية به، ولو
من ظهور لفظ، ولعله بذلك تتفق كلمة القائل بالدخول في جميع ما عرفت وهو المشهور
326

والقائل بالعدم مطلقا كالفاضل وولده، والمقتصر والروضة والتنقيح، وفي السفينة خاصة
كالدروس، وجامع المقاصد والكفاية وظاهر النافع وتنقيحه وايضاحه، بل لعل إليه يومئ
اعتبار المفيد وأبي الصلاح فيما حكي عنهما القفل للصندوق، والشد للجراب، والختم
للوعاء والكيس في الدخول، بدعوى أن ذلك ونحوه قرينة عرفية على إرادة ما فيه معه
من الوصية به.
وإن أبيت فتحقيق الحال ما عرفت من غير فرق بين كون الوصي عدلا مأمونا وبين
كونه متهما على الورثة في ذلك، وما عن الشيخ والقاضي من اعتبار ذلك في الدخول
من الأصل والثلث قد عرفت تنزيله على الاقرار، وإلا كان واضح الفاسد، ضرورة عدم
مدخلية ذلك في الوصية التي لا اشكال في خروجها من الثلث على كل حال كما عرفت.
بل فيما حضرني من نسخة النهاية كالصريح في إرادة الاقرار قال: " إذا أوصى
الانسان لغيره بسيف وكان في جفن وعليه حلية، كان السيف له بما عليه وفيه، وإذا
أوصى بصندوق لغيره وكان فيه مال، كان الصندوق بما فيه للذي أوصى به له، وكذا
لو أوصى له بسفينة وكان فيها متاع كانت السفينة بما فيها للموصى له، وكذلك، إن أوصى له
بجراب وكان فيه متاع كان الجراب وما فيه للموصي، إلا أن يستثنى ما فيه، هذا إذا كان
الموصي عدلا مأمونا، فإن لم يكن عدلا وكان متهما لم تنفذ الوصية بأكثر من الثلث في
الصندوق والسفينة والسيف والجراب وما فيها والله العالم.
(ولو أوصى باخراج بعض ولده من تركته لم يصح) وفاقا للمشهور بين الأصحاب
شهرة عظيمة كادت تكون اجماعا، بل هي كذلك في ظاهر محكي المقتصر، لأنها
مخالفة للكتاب والسنة، ولأنه من الحيف في الوصية الذي ورد فيه إنه من الكبائر (1)، و
لقوله (عليه السلام) (2) " ما أبالي أضررت بورثتي أو سرقتهم ذلك المال " وقوله (3) (عليه السلام) " من عدل في
وصيته كان بمنزلة من تصدق بها في حياته، ومن جار في وصيته لقي الله يوم القيمة

(1) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3.
(2) الوسائل الباب - 5 - من أبواب الوصايا الحديث - 1.
(3) الوسائل الباب - 8 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
327

وهو عنه معرض " والصحيح (1) " عن رجل كان له ولد يدعيه، ثم أخرجه عن الميراث وأنا
وصيه فكيف أصنع؟ فقال (عليه السلام): لزم الولد لاقراره بالمشهد، ولا يدفعه الوصي عن شئ
قد علمه ".
(و) إنما الكلام في أنه (هل يلغو اللفظ) على وجه يكون كعدمه (فيه
تردد) بل وخلاف ف‍ (بين) قائل ب‍ (البطلان) لذلك، وهو الأكثر كما في الرياض
(وبين) قائل ب‍ (اجرائه مجرى من أوصى بجميع ماله، لمن عدا الولد، فيمضي في
الثلث) خاصة إن لم يجز الولد، (ويكون للمخرج نصيبه من الباقي بموجب الفريضة)
وهو خيرة الفاضل في المختلف، وعن الخراساني أنه استظهره.
(والوجه) عند المصنف وثاني المحققين والشهيدين وفخر المحققين وغيرهم
(الأول) لأن اخراجه من الإرث أعم من الوصية بالمال لباقي الورثة، وإن لزم
رجوع الحصة إليهم، إلا أن ذلك ليس بالوصية، بل لاستحقاقهم التركة حيث لا توارث
وربما لم يكن حال الوصية عالما بالوارث، كما لو لم يكن له إلا ذلك الولد ولا يعلم من يرثه،
ولم يخطر على باله، فلا دلالة في اللفظ مطابقة ولا تضمنا، بل ولا التزاما، لانتفاء -
شرطها بانتفاء الانتقال إلى اللازم بتصور الملزوم خاصة أو مع الوسط.
لكن قد يقال له إن الوصية بالاخراج وإن لم تكن وصية بالباقي للباقي لكنها
نفسها وصية، ضرورة عدم الفرق فيها بين الأمر والنهي والاعطاء وعدمه، في نفوذ
جميع ما أوصى به من الثلث، فهو كما لو صرح باخراجه من الثلث، فإنه لا اشكال في
اختصاص غيره من الورثة به، لا الوصية به لهم، بل لاخراج الولد مثلا منه، فيبقى إرثا
لغيره، ولا يعتبر في الوصية قصد الوصية، كما لا يعتبر فيها سوى العهد بما أراده والشارع
لم يقطع سلطنته عن الثلث، بل أبقاها، فهو مسلط عليه دفعا ومنعا، فإذا أخرج
بعض الورثة عن المال كله نفذ في مقدار الثلث الذي له تسلط عليه، ولم ينفذ في غيره،
كما لو أعطى المال كله لبعضهم، فإنه ينفذ بمقدار الثلث دون غيره كما هو واضح.
ومن هنا يقوى ما سمعته من الفاضل، وإن لم يكن لما ذكره من الحكم بالوصية

(1) الوسائل الباب - 90 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
328

بالباقي للباقي كي يرد عليه ما عرفت، بل لأن الاخراج نفسه وصية يمكن امتثالها، فيستحق
غير المخرج الثلث بالإرث.
هذا كله بناء على البطلان في أصل الاخراج لما تقدم، (و) لكن (فيه رواية
بوجه آخر مهجورة) العمل وهي رواية علي بن السري (1) قال: " قلت: لأبي الحسن موسى
(عليه السلام) إن علي بن السري توفي فأوصى إلي وأن ابنه جعفرا وقع على أم ولد له فأمرني
بأن أخرجه عن الميراث، قال: فقال: أخرجه، وإن كنت صادقا فيصيبه خبل، قال:
فرجعت فقدمني إلى أبي يوسف القاضي، فقال له أصلحك الله أنا جعفر بن علي بن
السري وهذا وصي أبي فمره فليدفع إلي ميراثي من أبي، فقال أبو يوسف القاضي لي
ما تقول: فقلت: نعم هذا جعفر بن علي السري، وأنا وصي علي بن السري قال: فادفع
إليه ماله، فقلت: أريد أن أكلمك، فأذن لي فدنوت حيث لا يسمع أحد كلامي، فقلت هذا
وقع على أم ولد لأبيه، فأمرني أبوه وأوصى إلي أن أخرجه من الميراث، ولا أورثه شيئا،
فأتيت موسى بن جعفر (عليه السلام) بالمدينة فأخبرته وسألته، فأمرني أن أخرجه من الميراث
ولا أورثه شيئا، فقال: الله إن أبا الحسن أمرك قلت: نعم فاستحلفني ثلاثا، ثم قال لي
أنفذ ما أمرك أبو الحسن (عليه السلام) به، فالقول قوله " بل عن الصدوقين والشيخ العمل بها
في موردها، وإن كنا لم نتحقق ذلك عن الأخير منهم، لأنه جعلها قضية في واقعة.
نعم ظاهر الأولين ذلك، لكن في الولد الذي قد أحدث الحدث المزبور، دون
غيره، وحينئذ يكون عدم النفوذ فيما عداه مجمعا عليه، بل لعله كذلك، فيه أيضا، لعدم قدح
خلاف مثلهما فيه
(ولو أوصى بلفظ مجمل) أي مطلق (لم يفسره الشرع) بشئ خاص
(رجع في تفسيره إلى الوارث) بلا خلاف أجده بين من تعرض له، (كقوله: أعطوه
حظا من مالي، أو قسطا أو نصيبا أو قليلا أو يسيرا أو جليلا أو جزيلا) أو نحو ذلك من الألفاظ
التي يكون مرجعها ما يعينه الوارث من مصاديقها المندرجة فيما أراده الموصي بحسب
ظاهر اللفظ.
نعم في المسالك وغيرها " لو تعذر الرجوع إلى الوارث لغيبة أو امتناع أو صغر

(1) الوسائل الباب - 90 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
329

أعطى أقل ما يصدق عليه الاسم، لأنه المتيقن ".
قلت: لم لا يكون التخيير للحاكم أو عدول المسلمين في المصاديق كالوارث اللهم
إلا أن يقال: إن المخاطب بالتنفيذ أولا وبالذات الوارث، فالخطاب في الحقيقة له،
ولكن ناب غيره، للتعذر، فيقتصر على المتيقن مما يعينه المنوب عنه، لو كان قد باشر
التعيين.
نعم قد يقال: إن ذلك هو المتجه فيما لو أوصى الموصي إلى غير الوارث بتنفيذ وصيته
المزبورة، فإنه يكون حينئذ هو المخاطب، فله التعيين بأي مصداق ما لم يتجاوز الثلث
وإن كنت لم أجد مصرحا به.
ثم إن الظاهر اعتبار التمول في المصداق، وإن سلم صدق المطلق على غيره، إلا
أنه قد يقطع بعدم إرادة الموصي إياه، بل قد يقال: باعتبار الأزيد من التمول في الجليل
والجزيل والعظيم ونحو ذلك من الألفاظ، لشهادة العرف الذي هو المرجع فيها، خصوصا لو
جمعها فقال: أعطوا زيدا مالا جزيلا، أو قسطا عظيما، وعمروا مالا يسيرا أو قسطا يسيرا
أو قال: عظيما جدا، أو قليلا كذلك، فلا بد حينئذ من التميز بين الشخصين بذلك.
وما في المسالك هنا - من احتمال إرادة الأقل نظرا إلى أن جميع المال متصف
بذلك في نظر الشرع، ومن ثم حكم بكفر مستحل قليله وكثيره، كما نبهوا عليه في الاقرار
بمثل ذلك متفقين على الحكم في الموضعين، ولا ينافيه مع ذلك وصفه بالقلة ونحوها
لاختلاف الحيثية بقلته من حيث المقدار، وجلالته من حيث الاعتبار.
وعلى هذا فلو قال: أعطوا زيدا قسطا عظيما، وعمروا قسطا يسيرا، لم يشترط
تمييز الوارث بينهما بزيادة الأول عن الثاني، كما ذكرناه كما ترى، مجرد دعوى، يشهد
العرف الذي قد أمرنا باتباعه على خلافها.
(ولو قال: أعطوه كثيرا قيل:) والقائل الشيخ والصدوق وجماعة على ما قيل:
(يعطي ثمانين درهما كما في النذر) للرواية التي وردت فيه (1) مستدلا بها على ذلك بقوله
تعالى " ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة " (و) قد كانت ثمانين، بل عن الشيخ تعديتها

(1) الوسائل الباب - 3 - من أبواب النذر الحديث - 1 و 2 و 3 و 4.
330

إلى الاقرار أيضا نظرا إلى أن ذلك تقدير شرعي لكثير من غير فرق بين الموارد جميعها.
(قيل:) والقائل المشهور يختص هذا التفسير بالنذر كما اختص تفسير بعض
الألفاظ مثل الجزء والسهم والشئ في الوصية، بما عرفت (اقتصارا) فيما خالف
الأصل والعرف واللغة (على موضع النقل) مضافا إلى أن رواية الكثير مرسلة لا جابر
لها في المقام، بل الموهن لها متحقق، ومشتملة على الاستدلال المعلوم إرادة القريب
منه، ضرورة أن استعماله في ذلك لا يقتضي الانحصار فيه، مع أنه قد ورد كثيرا في القرآن
في أمكنة متعددة غير مراد منه ذلك، فلا ريب أن الأقوى مساواته لغيره من الألفاظ السابقة
كلفظ العظيم، والله العالم.
(والوصية بما دون الثلث أفضل من الثلث، وبالخمس أفضل من الربع) وهكذا
للمروي في محكي الحواشي للشهيد عن سعد (1) " مرضت مرضا شديدا فعادني رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لي أوصيت قلت: نعم أوصيت بمالي كله للفقراء وفي سبيل الله، فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أوص بالعشر فقلت: يا رسول الله إن مالي كثير وذريتي أغنياء فلم يزل رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يناقصني وأناقصه حتى قال: أوص بالثلث، والثلث كثير ".
ولقول الباقر (عليه السلام) (2) " كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لئن أوصي بخمس مالي أحب
إلي من أن أوصي بالربع، وإن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى
بالثلث فلم يترك، وقد بالغ " وفي خبر آخر (3) " من أوصى بالثلث فقد أضر بالورثة " وفي القوي (4)
إن الثلث حيف، وفي القوي أيضا (5) " ما أبالي أضررت بولدي أو سرقتهم ذلك المال " إلى
غير ذلك من الروايات التي يستفاد منها أفضلية الوصية بالربع والخمس من الثلث.
بل عن المقنعة أنه كذلك عند آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين، كما أنه
يستفاد منها أيضا استحباب مطلق الأقلية منه الذي قد أفتى به جماعة، وإن أنكر في
جامع المقاصد دلالة النصوص عليه، لكن لا يخفى على من لاحظها وضوح دلالتها على

(1) المستدرك ج 2 ص 519.
(2) الوسائل الباب - 9 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 - 2 - 3.
(3) الوسائل الباب - 9 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 - 2 - 3.
(4) الوسائل الباب - 9 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 - 2 - 3.
(5) الوسائل الباب - 5 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
331

ذلك، بل يستفاد منها كراهية الوصية بالثلث.
نعم قد يشكل ذلك بما دل على الأمر بالوصية به، وبالمحكي من فعل الصادق
(عليه السلام) من الوصية به (1) ومن ذلك قال في المحكي عن المبسوط: إنه إن كان الورثة أغنياء
استحب له أن يوصي بالثلث، وإن كانوا فقراء فالأفضل أن تكون وصيته فيما هو أقل
من الثلث، وفي محكي الوسيلة إن كانوا أغنياء أوصى بالثلث، وإن كانوا فقراء فبالخمس
وإن كانوا متوسطين فبالربع، وفي محكي التذكرة لا يبعد عندي التقدير، بأنه متى كان
المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لا يستحب الوصية، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علل المنع بقوله
لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة، ولأن اعطاء القريب المحتاج خير من
اعطاء الأجنبي، إلى أن قال: فحينئذ يختلف الحال باختلاف الورثة في كثرتهم، و
قلتهم، وغناهم وحاجتهم، فلا يقدر بقدر من المال.
قلت: لعل ذلك كله منهم جمعا بين النصوص، لكن قد عرفت خبر سعد، ولذلك
صرح بعضهم، وأطلق الباقون استحباب التقليل، وإن كان الورثة أغنياء، ولعل
الأولى له الوصية بالثلث وقسمته على الورثة على مقدار سهامهم مع فقرهم والأمر
سهل.
(تفريع)
على المسألة السابقة، وهو أنه (إذا عين الموصى له شيئا) من مصاديق
اللفظ المطلق (وادعى) أن الموصي (قصده من هذه الألفاظ، وأنكر الوارث، كان
القول قول الوارث مع يمينه) بلا خلاف ولا اشكال، بل ظاهر المتن وغيره أن اليمين
تتوجه عليه (إن ادعى) الموصى له (عليه) أي الورثة (العلم) بما ادعاه على
الموصي (وإلا فلا يمين) وفيه بحث، إذ الظاهر بمقتضى اطلاق الأدلة استحقاق
اليمين بمجرد الدعوى على الموصي، وإن كان يمينه التي يكلف بها على نفي العلم فلا
يعتبر حينئذ في استحقاق ذلك دعوى العلم عليه إذ لعله لا يدعيه عليه، لعدم علمه
بعلمه، فإذا كلف باليمين نكل لكونه عالما بالواقع، ولم يعلم به الموصى له، كما هو

(1) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3.
332

واضح. والله العالم.
(الطرف الثالث: في أحكام الوصية)
التي قد تقدم منها
ما (إذا أوصى بوصية، ثم أوصى بأخرى مضادة للأولى) كما
إذا أوصى بعين لزيد، ثم أوصى بها لعمرو، أو أوصى بربع ماله لشخص، ثم أوصى به
لآخر، (عمل بالأخيرة) بلا خلاف ولا اشكال، لكونه ناسخة للأولى، ورجوعا عنها
عرفا، بل الظاهر ذلك حتى لو كان ناسيا للأولى وذاهلا كما عرفته فيما تقدم، بخلاف ما
إذا لم تكن مضادة، فإنه يعمل بهما معا مع الامكان، وإلا بدء بالأول فالأول على
حسب ما عرفته، بل قد عرفت الحال أيضا فيما لو أوصى بثلث ماله مثلا لزيد، ثم أوصى بثلث
ماله لعمرو، إنه من المتضادين أو لا، فلاحظ وتأمل.
(ولو أوصى بحمل) دابة مثلا (فجاءت به لأقل من ستة أشهر) الذي هو
أقل الحمل شرعا (صحت الوصية به) لظهور وجوده حال الوصية، وإن لم يكن
ذلك معتبرا فيه، لصحة الوصية بما تحمله الأمة، لكن المفروض في الوصية المزبورة إرادة
الحمل الموجود فعلا (و) قد انكشف بولادته لدون الستة أنه كذلك، فتصح بخلاف
ما (لو كان) قد جاءت به (لعشرة أشهر من حين الوصية) أي بعدها، بناء على
أنها هي أقصى الحمل، فإنه يعلم بذلك عدم وجوده حال الوصية التي قد عرفت
فرض بطلانها بذلك، ف‍ (لم تصح و) أما (إن جاءت) به (لمدة بين الستة والعشرة
وكانت خالية من مولى وزوج) بأن فارقها من يباح له وطؤها (حكم به للموصى له)
لمعلومية سبق وجوده على الوصية، إذ احتمال تجدده منتف بفرض المفارقة وأصالة
عدم وطئ غير الوطئ السابق، وظهور حال المسلمة في عدم الزنا وغيره.
(و) من هنا (لو كان لها زوج أو مولى، لم يحكم به للموصى له، لاحتمال توهم
الحمل في حال الوصية وتجدده بعدها) فلم يعمل حينئذ بوجوده قبلها، والشك
في ذلك شك في صحتها، فتبقى أصالة بقاء المال بحالها، هذا.
ولكن قد يناقش هنا بأن الأصل عدم وطي آخر تجدد منه الحمل، ووجود الفراش
أعم من ذلك، مضافا إلى أن الظاهر بملاحظة الغلبة العادية التولد من الوطي الأول
333

فيما بين الأقصى والأقل، بل هي المرجع في الحيوان غير الانسان الذي لم يقدر الشارع
لأقل الحمل منه، وأقصاه مدة معلومة، وإن اختلف باختلاف أجناسه، فإن للغنم مقدارا
معلوما عادة، وللبقر مقدارا زايدا، وهكذا، ولا فرق بين الانسان والحيوان في ذلك قال
في المسالك هنا: " إن المسألة من باب تعارض الأصل والظاهر، فلو رجح مرجح الظاهر
عليه، في بعض مواردها كما يتفق في نظائره، لم يكن بعيدا إن لم ينعقد الاجماع على
خلافه، وكيف كان فلا خروج عما عليه الجماعة ".
وإن كان هو كما ترى، ضرورة عدم صلاحية معارضة الظاهر للأصل، إذا لم يقم
دليل على اعتباره شرعا، ولا كان بوجه يندرج في العلم عادة، باعتبار أنه الطمأنينة
الحاصلة فيها، والفرق بين الخالية وغيرها مع اشتراكهما في الأصل المزبور لا يخلو من
نظر، واحتمال أنه لظهور حال المسألة في عدم الزنا يدفعه فرض المسألة في الأعم من
المسلمة، مع أن سبب التجدد غير منحصر في الزنا، إذ قد يكون من شبهة أو من رائحة أو
غير ذلك من الأسباب التي لا يمكن حصرها، ولا ظهور لحال المسلمة في نفيها، فلو فرض
الايصاء بحمل جارية لا زوج لها ولا مولى يطؤها كما لو كانت مملوكة لامرأة فاتفق أنه
جاءت به لدون الستة صحت الوصية، وبعد العشر لم تصح، وفيما بينهما البحث المفروض
ولا فرق بين الخالية وغيرها في ذلك، إذ خلوها من الزوج والمولى لا يقتضي عدم حملها،
كما أنه لا يعتبر في موضوع المسألة كونها ذات زوج، أو مولى قد وطأها، بل المراد الوصية
بحمل الأمة أو الدابة، على تقدير وجوده من أين ما كان، ولعل ذكر المولى في كلام
المصنف لبيان احتمال تجدد الحمل، لا لبيان أنه مملوك أيضا حتى يشكل ذلك بعدم
تصور حمل مملوك يوصي به من المولى، بناء على عدم ملك العبد كما هو واضح.
وكيف كان فالتحقيق في المسألة ملاحظة الأصول في جميع شقوقها، والعمل على
الحاصل منها بالنسبة إلى السبق على الوصية وعدمه حتى ملاحظة جهل التاريخ وعدمه
من غير فرق بين الانسان وغيره، والخالية وغيرها، ومعلومة الوطي قبل الوصية وغيرها
ومع فرض الشك وعدم تنقيح شئ منها بشئ منها يحكم ببطلان الوصية، ما لم يكن هناك
عادة يحصل منها الاطمينان المزبور على وجه يكون الاحتمال معه موهوما.
334

ولم أجد من استند إلى أصل الصحة في شئ من أفراد المسألة حتى في صورة
الوصية به بعد الاطمينان بحصوله للأمارات العادية، ثم حصل الشك بعد ذلك فيه
وقد كان بين الأقل والأقصى، مع وجود الزوج وعدمه مع احتماله، وإن كان الشك المفروض
في أصل وجود الموضوع فتأمل جيدا فيه، وفي نظائره مما يقع على حسب مجرى العقلاء
والمعتاد.
(ولو قال: إن كان في بطن هذه ذكر فله درهمان، وإن كان أنثى فلها درهم)
فإن خرج أحدهما فلا اشكال (وإن خرج ذكر وأنثى فكان لهما ثلاثة دراهم) أيضا
للصدق (أما لو قال: إن كان الذي في بطنها ذكرا ف‍) له (كذا وإن كان أنثى
فكذا، فخرج ذكر وأنثى، لم يكن لهما شئ) لعدم الاندراج في عبارة الموصي التي
قد فرض فيها الانحصار بمعنى كون المراد أن جميع ما في بطنها، وكذا لو قال ما في
بطنها أو حملها أو نحو ذلك مما هو ظاهر في كون الموصى له مجموع ما في البطن الذكر
أو الأنثى، فالفرض لم يذكره الموصي، ولم يتعرض له، بخلاف العبارة السابقة التي
قد عرفت الحال فيها من أنه يعطى كل منهما نصيبه، إلا إذا قامت قرينة على كون المراد
منها ما يراد بالثانية، فلا يعطيان حينئذ شيئا كما أنه لو قامت قرينة على كون المراد بالثانية
ما يراد بالأولى أعطى كل منهما نصيبه، ولو خرج في الصورة الأولى ذكران أو أنثيان أو -
هما معا، ففي تخيير الوارث اعطاء نصيب الذكر أو الأنثى لأيهما شاء، أو اشتراك الذكرين
في الدرهمين، والأنثيين في الدرهم، أو الايقاف حتى يصطلحا وجوه، وفي المسالك
الأول أجودهما، لأن المستحق للوصية هو ذكر في بطنها أو أنثى في بطنها وهو صادق
عليهما فيكون تعيينه للوارث، كما في كل لفظ متواط، ولا يتوجه هنا احتمال استحقاق
كل واحد من الذكرين مثلا ما عين له، لأن الموصى له مفرد نكرة فلا يتناول ما زاد على
واحد بل كان بالنسبة إليهما متواط كما لو أوصى لأحد الشخصين أو الفقير أو نحو ذلك.
قلت: المفرد النكرة الذي لا يتناول ما زاد على الواحد على وجه ينافيه التعدد
على حسب " لا رجل في الدار، بل رجلان " يتجه عدم اعطاء شئ لعدم اندراج الواقع
فيما صدر من الموصي، كما هو كذلك في الصورة الثانية، لو جاءت بذكرين أو أنثيين وإن
335

كان المراد ما شمل ذلك باعتبار إرادة الجنس بقرينة المقابلة بالأنثى، فيكون المتجه
الاشتراك حينئذ في الموصى به، وإن كان قد يحتمل غيره، إلا أن ذلك هو الظاهر،
كما أن الظاهر ما ذكره من التخيير مع إرادة الواحد الذي لا ينافيه التعدد، فإنه
ينحل في الفرض إلى أن الوصية لأحدهما الذي لو فرض التصريح به في الوصية اتجه
التخيير حينئذ فتأمل.
ولو ولدت خنثى مشكلا في الفرض أعطيت الأقل، بناء على أنه ليس طبيعة ثالثة
لأنه المتيقن هنا، وأما احتمال عدم استحقاق شئ لأنه ليس أحد الأمرين، فواضح
الضعف.
نعم لعله كذلك، إذا لم يكن في الموصى به متيقن، مع أن المتجه فيه الصلح أو
القرعة لعدم تعيين المملوك له، بل قد يحتمل ذلك أيضا فيما إذا كان في الموصى به
متيقن، ثم لا يخفى عليك أن الوصية بالحمل المعين كالوصية له فيجري فيه البحث
السابق.
نعم لو سقط الأول بجناية جان ضمنه للموصى له، بخلافه في الثاني، الذي
تبطل الوصية له بسقوطه ميتا وإن كان بجناية جان، ضرورة مراعاة ملكه بخروجه
حيا ولو سقط ميتا لنفسه تبطل فيهما كما هو واضح.
(و) على كل حال فقد ظهر لك أنه لا اشكال ولا خلاف في أنه (تصح الوصية
بالحمل) المتحقق حال الوصية، بل ولا اشكال أيضا (و) لا خلاف في الصحة (بما
تحمله المملوكة) دابة أو أمة (والشجرة) لا طلاق أدلة الوصية، فلا يقدح كونه
معدوما حالها، لأنه يكفي فيها احتمال الوجود فيما يأتي، وإن لم يكن عن شأنه الوجود
كالوصية بما يشتريه أو يتهبه في مستقبل الأزمنة، كما صرح به في جامع المقاصد بل هو
مقتضى ما في القواعد من أن المراد بالوجود المعتبر في الوصية امكان وجوده احترازا
عما يمتنع وجوده، ومرجعه في الحقيقة إلى عدم اشتراط الوجود.
ومن هنا ترك اشتراط فيها بعضهم، بل صرح آخر بعدم اشتراطه حال الوصية
والأمر سهل بعد وضوح المراد بل ظاهرهم عدم الفرق في الوصية المزبورة بين العهدية
336

والتمليكية، وإن كان قد يشكل الثاني بعدم قابلية المعدوم الذي لم ينزله الشارع منزلة
الوجود للتمليك، وقد يدفع بأن الشارع قد نزله فيها أيضا منزلة الموجود، مضافا إلى بناء
الوصية على تعليق الملك، وتأخره عن حال وقوعها إلى ما بعد الموت، فلا يقدح تعليقها
بما يوجد قبل الموت إن وجد، بل وبعد الموت، لعدم اعتبار مقارنة التمليك لوقوعها، و
العمدة في ذلك اطلاق الأدلة الذي مقتضاه أنه تصح الوصية بذلك.
(كما تصح الوصية بسكنى الدار) مثلا (مدة مستقبلة) مثلا، إذ لا فرق في
المنفعة المتجددة بين أن تكون عينا كحمل الشجرة والدابة وغيرها كركوب الدابة،
كما لا فرق بين المضبوط بمدة كالمتجدد في هذه السنة أو عشر سنين، وبين المطلق و
بين العام المتناول لجميع ما يتجدد منها ما دامت موجودة، ولا في المضبوط بمدة بين
المتصل بالموت والمتأخر، كالسنة الفلانية من المتجددة، والمراد بالعام المتناول
لجميع المتجدد ما استفيد من لفظ يدل عليه، كقوله كل حمل تجدد، أو كل ثمرة يتجدد
أو نحو ذلك، ولو كانت بما في المتن.
ففي المسالك بنى على أن " ما " الموصولة للعموم أم لا؟ ومع الشك فالواحد معلوم،
والأصل عدم الوصية في غيره، وفيها أيضا أنه يبقى بحيث آخر، وهو أن الحمل المتجدد
يدخل في هذه العبارة قطعا لأنها بصيغة المضارع، وهل يدخل الموجود حال الوصية
يبنى على أن المضارع هل هو مشترك بين الحال والاستقبال أم يختص بأحدهما حقيقة
وهو في الآخر مجاز؟ فيه خلاف بين الأصوليين والنحويين، وعليه يتفرع الحكم والأقوى
عدم دخول الموجود للشك في تناوله للحال ورجحان الاشتراك الموجب لعدم حمله
على المعنيين على المختار عند الأصوليين، وبالجملة فالمسألة مشكلة المأخذ جدا.
قلت: قد يقال على الأول أنه يمكن إرادة العموم، وإن لم نقل بأن " ما " الموصولة
له، باعتبار اقتضاء تمليك الطبيعة، لا بشرط جميع أفرادها على ما هو مقرر في نحو " أحل
الله البيع " والكلب نجس، وغير ذلك من الأحكام المقتضية ذلك، بخلاف مثل الأمر المقتضي
تحقق الامتثال به بفرد واحد.
ومن هنا احتمل في جامع المقاصد إرادة العموم بالوصية المطلقة، وإن استضعفه
337

واكتفى بالفرد الواحد، لكنه لا يخلو من قوة، وعلى الثاني بأن مقتضى الاشتراك في
المضارع التوقف، أو الرجوع إلى القرعة، لا التخصيص بالمتجدد.
نعم قد يقال: إنه المنساق عرفا في مثل الفرض والله العالم.
(و) على كل حال فقد ظهر لك من ذلك أنه (لو أوصى بخدمة عبد، أو ثمرة
بستان، أو سكنى دار، أو غير ذلك من المنافع) سواء كانت أعيانا أو غير أعيان (على
التأبيد، أو مدة معينة) صح من غير خلاف فيه عندنا، ولا اشكال، ولا يشكل ذلك
بأنها ونحوها ليست من تركة الميت، ولا من أملاكه، بل هي نماء التركة التي يملكها
الوارث بالموت، ولذا لم تقض ديونه منها، لأنه يدفعه بأنها تكون للوارث، إذا لم يوص
بها الميت، وإلا خرجت، ضرورة أنه للمالك الموصي التسليط عليها، باعتبار ملكه العين
وقد استفاضت النصوص (1) أنه أحق بماله ما دامت الروح فيه، فيصنع به ما شاء ولذلك كان
له إجارة الأعيان، وبيع نمائها مدة تزيد على عمره، على أنه لو سلم عدم كونها من أعيان
التركة، ولا من توابعها، إلا أن لها كمال المدخلية في قيمتها، بل هي في الحقيقة عبارة
عنها، فإذا فرض أنه أوصى بالمنافع المتجددة، فقد نقص الأعيان على الوراث فيضمنه
في ثلثه، لأن كل نقص يدخل على الورث بسبب وصية الموصي يدخل على الثلث.
إنما الكلام في طريق معرفة ذلك، وهو في المدة المنقطعة واضح، ضرورة تقويم -
العين مسلوبة المنفعة تلك المدة وغير مسلوبتها، وينظر التفاوت، ويخرج من الثلث.
أما المؤبدة فللأصحاب طرق ثلاثة في ذلك، أحدها تقويم العين بتمامها على
الموصى له، واحتساب ذلك من الثلث، لعدم قيمة لها مسلوبة المنفعة، ولتعذر معرفة
المؤبدة بغير ذلك، ولدوام الحيلولة بين الوارث والعين، وهو بمنزلة الاتلاف، ولذا
ضمن به الغاصب جميع القيمة، فليس إلا الطريق المزبور، وإن كانت العين على ملك
الوارث، ويضعف بأن ذلك لا يخرج العين عن التقويم أصلا، فإنه لا بد أن تبقى لها
منفعة تعود إلى الوراث كالعتق في العبد، وأكل اللحم في الشاة لو أشرفت على الموت
فذبحت ونحو ذلك، وفرق واضح بين الموصى له الذي هو كالمستأجر، والغاصب الآخذ

(1) الوسائل الباب - 17 - من أبواب أحكام الوصايا
338

باليد العادية مع امكان الالتزام به أيضا مدة معينة.
نعم لو فرض أن لا نفع في العين أصلا على وجه لا قيمة لها مسلوبة المنافع اتجه
ذلك، لكنه فرض نادر، بل ليس مفروض البحث، ومن ذلك يظهر أن المتجه القول الثاني
الذي هو تقويم العين مسلوبة المنافع الموصى بها، وإن قلت القيمة وتقويمها غير
مسلوبة، وينظر التفاوت، ويخرج من الثلث، لكون العين للوارث وله بعض المنافع
فيها من حيث الملك، وبذلك تكون ذات قيمة، فلا معنى لاحتسابها من الثلث والفرض
أنها لم تفت على الوارث، كما أنه لا معنى لعدم احتسابها على واحد منهما، وهو القول
الثالث، وإن وجه بعدم كونها للموصى له كي تحتسب عليه، وعدم قيمة لها كي تحتسب
على الوارث، لكن لا يخفى عليك ما فيه، بعد ما عرفت، كما أنه لا يخفى عليك ما يتفرع على
ذلك من الوصية لرجل بالرقبة، ولآخر بالمنفعة مؤبدا، ومن الوصية بالعين وابقاء
المنفعة للورثة وغير ذلك في الاحتساب وعدمه والله العالم.
وكيف كان فما في المتن من أنه لو أوصى بخدمة عبد إلى آخر ما سمعت (قومت
المنفعة فإن خرجت من الثلث، وإلا كان للموصى له ما يحتمله الثلث) لا بد من تنزيله
على إرادة تقويم المنفعة بأحد الطرق السابقة لا أن المراد تقويم نفس المنفعة من دون
ملاحظة العين مسلوبة وغير مسلوبة، لما عرفت من أن المضمون عليه في الثلث النقص
الذي أدخله على العين بسبب الوصية بالمنفعة لا المنفعة نفسها، فإنها ليست من
التركة، فلا يعد الوصية بها اتلافا لبعض التركة، كي يحتسب عليه من الثلث.
ومن هنا قد كانت الوجوه السابقة على ما سمعت، بل لا فرق في ذلك بين الوصية
لتمام المنفعة أو بشئ منها وبين المؤبدة وغير المؤبدة، فما عساه يظهر من قواعد الفاضل
من الفرق حيث جعل التقويم في الوصية باللبن له دون العين في غير محله وإن علله
في جامع المقاصد بأن اللبن نفسه عين، وإن عد منفعة عرفا.
لكن قد عرفت أن المدار التجدد لا ذلك، ولذا لم يفرق المصنف بين خدمة العبد
وثمرة البستان وغيرها في ذلك، كما هو واضح، ولو لم يكن له غير العبد الذي أوصى
بخدمته مؤبدا مضت وصيته في ثلثه خاصة، لكن هل يعطى من المنفعة مدة تقابل
339

مقدار الثلث، ثم يرد إلى الورثة، أو يكون له منها ما يقابل الثلث مؤبدا ولو عشر المنفعة
أو أقل؟ وجهان: أقواهما الثاني: والله العالم.
(و) على كل حال ف‍ (إذا أوصى بخدمة عبده) أو دابته (مدة معينة
فنفقته على الورثة) بلا خلاف ولا اشكال (لأنها) في النص والفتوى (تابعة
للملك) المفروض كونه للوارث، بل الظاهر كونها كذلك في المؤبدة، وإن توقف فيه
الفاضل في القواعد مما عرفت، ومن كون الموصى له قد ملك المنفعة فكان كالزوج بل هي
المقابلة للمنفعة، إذ من كان النفع له، كان الغرم عليه، وإلا لاقتضى الاضرار بالوارث
كل ذلك مضافا إلى أصالة البراءة المقتصر في الخروج منها على المتيقن، وهو المملوك
ملكا تاما، بل لعل الفرض لا يندرج في المنساق من المملوك.
ومن هنا قيل بكون النفقة على الموصى له، لكن فيه أن بعض ما ذكره وارد في
الموقتة أيضا مشترك الالزام، ضرورة عدم اندراج الموصى له في المنساق أيضا، مع أن
الأصل براءة ذمته، وفرق بينه وبين الزوج الواجب عليه النفقة مع الدليل عوض التمكين
من الاستمتاع خاصة، بل هو أشبه شئ بالعين المستأجرة.
ومن هنا أحتمل أو قيل بكون النفقة من بيت المال مطلقا أو إذا عجز كسبه عنه
إلا أن الجميع كما ترى اجتهاد في مقابلة اطلاق ما دل على وجوب الانفاق على المالك
الذي هو الوراث قطعا، ولا ينافيه عدم التسلط على المنفعة، وليس ذلك من الضرر
المنفي في الشريعة، بل هو كنفقة الحيوان الذي بطل الانتفاع به، مع أنه متمكن من إزالته
بالعتق مثلا، والقياس على الزوج ليس من مذهبنا، مع أنه مع الفارق، وبيت المال معد
لغير ذلك، والحكم بأخذ النفقة منه متوقف على الحكم بعدم كونها على أحد، وهو محل
البحث.
نعم قد يتجه أخذها منه لو أعتق، وفرض عدم حدوث مال له باتهاب ونحوه فإنه
حينئذ عاجز لمملوكية منافعه، وعدم المالك له، أما لو كان له مال أنفق عليه منه لأن الحر
القادر نفقته عليه، إلا في الزوجة، هذا.
وفي القواعد لو أسقط الموصى له الخدمة أي الموصى بها مطلقة أو موقتة فللوارث.
340

قلت: لعل وجهه إن ذلك من الحقوق التي تسقط بالاسقاط، ولما في جامع
المقاصد من أن مناط المنافع المذكورة الذمة، وإن تعلقت بالرقبة كما لو استأجره على
وجه خاص، ثم أبرء ذمته أو أسلفه في حنطة وشرط كونها من حنطة بلد، ثم أبرء ذمته
حينئذ، فيكون حقا للوارث، لأن ما يوهب للعبد فهو لسيده.
لكن فيه إمكان منع ذلك، بل هو تمليك لمنفعة البعد بالوصية نحو تمليك منفعة الدابة
بها وبالإجارة مثلا، فليس موردها الذمة، والعبد لا ذمة له يتحقق فيه مثل ذلك نحو
الحر، مع أنه يكمن فرض المقام في عبد لا ذمة لصغر، أو جنون أو غيرهما، والعبد غير
قابل للهبة كالدابة، والمنافع غير قابلة لتعلق الهبة بها، نعم يتجه بقاؤه بعد الاسقاط
عبدا مملوك المنافع بالملك الأول فتأمل.
ولو أسقطها بعد طرو العتق ففي جامع المقاصد " احتمل أيضا كونه للوارث، لأن
العتق لم يؤثر في المنافع وإنما أثر في الرقبة، وبقيت المنافع مستثناة مملوكة، فإذا
أسقط حقه منها رجعت إلى الوارث، لكونها متلقاة عن مورثه للموصى له، فإذا بطل
حقه منها عادت إلى الوارث، لقيامه مقامه ".
وفيه أن المتجه على ما ذكره أو لا كونها للعبد، لأنه إذا جعل محلها الذمة -
ولذا أسقطها بالاسقاط - اتجه حينئذ عدم ملك أحد غيره لمنافعه، بل على ما ذكره
أخيرا أيضا فإنه هنا حر قابل للتمليك، هذا كله في العبد أو الدابة الموصى بمنفعتها
أما لو كان الموصى بمنفعته نخلا مثلا أو دارا فاحتاجا إلى السقي والتعمير لم يجبر أحدهما لو
امتنع، لأن المالك لا يجبر على المصلحة، ولا على مصلحة غيره.
نعم لو أراده أحدهما على وجه لا يضر بالآخر، لم يكن له المنع على الظاهر، فما
في المسالك من احتمال طرد الخلاف في نفقة الحيوان بناء على وجوب ذلك على
المالك حفظا للمال، لا يخلو من نظر، إذ المسلم حرمة اتلافه سرفا وتبذيرا، لا وجوب
حفظه بالمعنى المفروض، بل الظاهر عدم الفرق في ذلك بين المنفعة المؤبدة وغيرها
كما هو واضح والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (للموصى له التصرف في المنفعة) على وجه لا ضرر في
341

العين، بل على حسب التصرفات في المنافع (وللورثة التصرف في الرقبة بيع وعتق و
غيره) مما هو غير مناف للمنفعة (ولا يبطل حق الموصى له بذلك) بلا خلاف معتد
به، ولا اشكال أجده في شئ من ذلك لتسلط كل مالك على ملكه، وليسا كالشريكين
اللذين لا يجوز لأحدهما التصرف في العين المشتركة إلا بإذن الآخر، لعدم التميز
بخلافه هنا، فإن ملك كل منهما مميز عن الآخر على وجه يمكن التصرف فيه من دون
منافاة، ولا ضرر على الآخر، وأما تسليم الموصى له العين من غيره فالبحث فيه ما
سمعته في الإجارة، ولا فرق في استيفاء منفعته منه بين السفر والحضر بعد فرض شمول
اللفظ لذلك، ولو بالتعميم والاطلاق الذي بمنزلته.
نعم في قواعد الفاضل " لا يملك الوارث بيعه أي الموصى بمنفعته إن كانت المدة
مؤبدة، أو مجهولة لجهالة وقت الانتفاع المقتضي لتجهل المبيع في المجهولة ولسلب
المنافع في المؤبدة، فتكون كالحشرات ".
وفيه أن المشتري بالبيع يكون كالبايع، وجهل المدة التي ينتفع بها الموصى له
إذا فرض الوصية له بمنفعة سنة مثلا والخيار بيده لا تجهل المبيع، كما أن الوصية
بالمنافع كلا في مثل العبد لا يصيره كالحشرات، ضرورة بقاء الانتفاع بعتقه مثلا، ولو
فرض عين سلب عنها المنافع جميعا بالوصية على وجه يكون شراؤها ونحوه من معاوضات
الأموال سفها، اتجه المنع حينئذ، ولعل ذلك هو المدار من غير فرق بين بيعه على
الموصى له وغيره، فما في القواعد " من أنه لا يملك الوارث بيعه، أي العبد الوصي بمنفعته،
مؤبدة، إلى أن قال: وهل يجوز بيعه من الموصى له، فيه نظر " لا يخلو من بحث، بل
لا يخلو ما فيها من الاشكال في الاجتزاء بعتقه عن الكفارة، وفي صحة مكاتبته من البحث
أيضا، ضرورة اطلاق أدلة الكفارة، الكتابة، وامتناع الاكتساب عليه لا ينافي الثانية،
لامكان أخذ مالها من الصدقات مثلا.
وعلى كل حال فالوصية بذلك تمليك عندنا لا عارية، فلو مات الموصى له ورث عنه
وتصح إجارته وإعارته، ولا يضمن العبد إذا تلف في يده بغير تفريط، ويدخل اكتساب
العبد من الاصطياد والاحتطاب في منافعه، فيملكه الموصى له حينئذ، بل الظاهر ذلك
342

حتى لو أعتق وإن استشكل فيه في القواعد.
نعم الظاهر عدم ملكه ولد الجارية بذلك، لأنه لا يعد من منافعها بخلاف
عقرها وإن دخل في نماء الوقف على وجه يملكه الموقوف عليه باعتبار ملكه ذي النماء
وهو المراد بتسبيل المنفعة لا أنه يندرج في اطلاق المنفعة الذي هو موضوع المسألة
ولذا قلنا بخروج الولد دون العقر، وكذا في الإجارة فتأمل.
لكن في القواعد " وفي تمليك ولد الجارية وعقرها اشكال ينشأ من بطلان الوصية
بمنفعة البضع، وكون الولد جزء من الأم يتبعها في الأحكام، ومن كون ذلك كله من
المنافع ".
وفيه منع بطلان الوصية بمنفعة البضع، وإن كان لا يجوز له الوطئ بذلك، إذ لا
تلازم بينهما بعد توقف الأخير على أسباب خاصة، ولا يملك الموصى له الوطء لأن له
أسبابا خاصة ليست الوصية منها، بل في القواعد ويمنع الوارث أيضا منه، وإن كان لا يخلو
من بحث، لأنه من الاستمتاع الذي يتبع ملك العين كالتقبيل والتلذذ بالنظر واللمس
فإذا فرض وقوعه على وجه لا ينافي ملكية المنفعة اتجه الجواز، واحتمال الحبل المنقص
للمنفعة يدفعه - مع أن الأصل عدمه - إمكان فرضه في جارية آيسة منه.
نعم قد يتجه المنع بناء على ما قلناه من اندراج منفعة البضع في ملك المنفعة
للموصى له، والأولى بناء المسألة على ذلك ويفرق بينه وبين النظر واللمس، بعدم
عوض لهما شرعا بخلافه، وحينئذ يتجه وجوب العقر عليه للموصى له، مضافا إلى الإثم، و
الله العالم.
وعلى كل حال فإن وطئ أحدهما فهو شبهة لا حد عليه، مع احتماله في الموصى
له، بل قوته مع فرض علمه بعدم جواز الوطء له، ضرورة كونه وطء أجنبية كوطئ المستأجر
وتصير أم ولد لو حملت من الوارث، لا منه، ولو وطأت للشبهة، فعلى الواطئ العقر
للموصى له، وفي القواعد على اشكال، وإذا أتت بولد فهو حر وعلى الواطئ قيمته
للوارث على ما قلناه، وفي القواعد فإن قلنا الموصى له يملك الولد فالقيمة له، وإلا فللوارث
ولو ولدت من الموصى له فهو حر بناء على أن وطيه شبهة، وعليه القيمة للوارث على
343

ما قلناه.
وللموصى له المسافرة بالعبد الموصى بخدمته، وليس للعبد التزويج إلا برضا
الوارث، وفي اعتبار رضى الموصى له مع ذلك اشكال، وفي القواعد اعتباره أيضا، بل هو
الأقوى بناء على اندراج منفعة البضع في المنفعة الموصى بها.
وإذا قتل الموصى بخدمته أبدا ووجب القصاص، بطلت الوصية، وكان المطالب
به الوارث، ولو كان القتل موجبا للقيمة صرفت إلى الوارث على الأقوى، لانتهاء الوصية
بانتهاء العمر، كالإجارة، ويحتمل شراء عبد حكمه ذلك، وتقسيطها بينهما، بأن تقوم
المنفعة المؤبدة، والعين المسلوبة المنفعة، ويقسط عليهما.
ولو قطع طرفه اختص الوارث بأرشه على الأقوى، ويحتمل التقسيط أيضا، ولو لم
تنقص به المنفعة كالأنملة فهو للوارث قطعا، ولو جنى العبد قدم حق المجني عليه على
الموصى له، فإن بيع بطل حقه، وإن فداه الوارث استمر حقه، وكذا إن فداه الموصى
له، وهل يجبر المجني عليه على قبول فداء الموصى له؟ اشكال من تعلق حقه بالعين
ومن كونه أجنبيا عن الرقبة التي هي متعلق الجناية، وكذا الكلام في المرتهن.
ومن ذلك كله ظهر لك أن للمالك نفعا في العين الموصى بمنفعتها بحيث يجوز
له بيعها، لا أنها صارت بالنسبة إليه كالحشرات، والله العالم.
(ولو أوصى له بقوس انصرف إلى قوس النشاب) وهي الفارسية التي يرمى بها (و) قوس
(النبل) وهي العربية التي يرمى بها السهام العربية (و) قوس (الحسبان)
وهي التي لها مجرى ينفذ فيها السهام الصغار، فيتخير حينئذ في دفع أحدها
بناء على القاعدة التي ستعرفها انشاء الله تعالى، دون القوس المسمى بالجلاهق،
وهي التي يرمى بها البندق، ودون قوس الندف، خلافا لابن إدريس، فخير بين الخمسة
ولعله لا نزاع، ضرورة كون المدار على العرف الذي تحمل عليه الوصية، وربما تكون
الخمسة بالنسبة إليه سواء.
وربما يختص بواحد، كما اعترف به ثاني الشهيدين، حيث قال: " لا ريب في أن
المتبادر في زماننا هو القوس العربية خاصة، بل قوس الحسبان لا يكاد يعرفه أكثر الناس
344

ولا ينصرف إليه فهم أحد من أهل العرف ".
فالتحقيق جعل المدار على العرف الذي تحمل عليه الوصية، دون غيره ولو كان
لغة (إلا مع قرينة تدل على) إرادة (غيرها) أي القوس المتعارفة، فإنها
المتبعة حينئذ كما هو واضح.
والظاهر عدم دخول الوتر فيه لتحقق اسمه بدونه، وإن توقف نفعه عليه، فإنه
المدار لا الثاني.
نعم لو كان هناك عرف يقتضي أو قرينة اتبعا، وإلا فلا (و) كذا (كل لفظ
وقع) معناه (على أشياء وقوعا متساويا) لكونه متواطأ (فللورثة الخيار في تعيين
ما شاؤوا منها) لصدق تنفيذ الوصية بذلك، والأصل عدم وجوب غيره كما أن الأصل
عدم ثبوت حق الخيار لغير الوارث مع فرض عدم ايصاء الموصى به لغيره كما سمعته
فيما تقدم هذا.
ولكن في المسالك ادراج المشترك لفظا في كلية المتن، ولعله لأعمية وقوع
اللفظ من المشترك والمتواطي، بل لعل الظاهر منه الأول، قال: وهو أعم فائدة، وفي
عبارة العلامة تصريح بإرادته إلى أن قال: " وربما قيل في المشترك بالقرعة، وهو
بعيد ".
قلت: بل هو قريب كما عن التذكرة وغيرها ما لم يقم دليل معتبر على خلافه، لكن
ظاهر ارسال غير واحد من الأصحاب لذلك هنا ارسال المسلمات - مع معلومية إرادة
المتكلم بالمشترك واحدا معينا عند المتكلم، بل هو معنى المشترك - إن العرف في
الوصية يقتضي إرادة المسمى بهذا الاسم، وهو المسمى بعموم الاشتراك، ولعله
كذلك عند التأمل والله العالم.
وفي القواعد " والضابط أن كل لفظ يقع على الأشياء وقوعا متساويا، إما لكونه
مشتركا أو لكونه متواطيا، فإن للورثة الخيار في تعيين ما شاؤوا، ويحتمل في المشترك
القرعة، ويحتمل الحمل على الظاهر بالحقيقة دون المجاز ".
قلت: قد يقال: إن الأخير مناف لما ذكره من الضابط، ضرورة كون الحقيقة في
345

المشترك إرادة المعين، لا عموم الاشتراك الذي صرح به سابقا، بل يمكن دعوى ظهور
عبارة المتن فيه أيضا كما سمعته سابقا.
هذا كله إذا أوصى بالقوس ونحوه من دون قرينة.
(أما لو قال: أعطوه قوسي، ولا قوس له إلا واحدة، انصرفت الوصية إليها من أي
الأجناس كانت) بلا خلاف ولا اشكال، ولو فرض أن له قسيا متعددة ولا واحدة تنصرف
إليه الإضافة، تخير بينها كالسابق.
وفي المسالك " لكن نزيد هنا أن الحكم يختص بما لو كان له من كل نوع، فلو كان
له من نوعين خاصة، أو ثلاثة، فإن كان أحدهما خاصة من الغالب حمل عليه، وإن
اشترك الغلبة تخير الوارث، وإن تعدد الغالب مع وجود غيره كما لو كان قوس ندف،
وقوس نبل وقوس حسبان تخير في الأخيرين، ولو لم يكن له إلا قوس ندف وجلاهق خاصة
ففي التخيير بينهما أو الانصراف إلى الجلاهق لأنه أغلب، وجهان: وعلى ما اخترناه
من مراعاة العرف يرجع إليه هنا فتأمل.
(و) على كل حال ف‍ (لو أوصى برأس من مماليكه، كان الخيار في التعيين
إلى الورثة) لما سمعته من الضابط الذي هذا أحد أفراده (و) حينئذ ف‍ (يجوز
أن يعطوا صغيرا أو كبيرا، صحيحا أو معيبا) ذكرا أو أنثى أو خنثى لصدق اللفظ
وعدم الانصراف إلى الصحيح هنا، بخلاف التوكيل في الابتياع ونحوه، لكونها من
التبرعات المحضة بخلاف عقود المعاوضة المبنية على حفظ المال، والمماكسة، و
المغابنة.
وإنما يتخير الوارث مع وجود المتعدد في التركة، وإلا تعين الموجود، ولو لم
يكن له مملوك بطلت، وهل المعتبر الموجود عند الوصية أو الموت أجودهما الثاني لأنه
وقت الحكم بالانتقال وعدمه، كما اعتبر المال حينئذ، ووجه الأول إضافة المماليك -
إليه المقتضية لوجود المضاف.
(ولو هلك مماليكه) بالموت (بعد وفاته) أي الموصى أو قبلها (إلا واحدا
تعين للعطية) كما في كل مخير انحصر في فرد (فإن ماتوا) أجمع كذلك (بطلت
346

الوصية) بمعنى انتفاء موضوعها (فإن قتلوا) على وجه يوجب القيمة (لم تبطل)
الوصية (وكان للورثة أن يعينوا له من شاؤوا ويدفعوا قيمته إن صارت إليهم، وإلا
أخذها من الجاني) لانتقال حق الوصية إلى البدل القائم مقام المبدل عنه في
ذلك وفي التخيير، من غير فرق بين الكل والبعض، ولو قتلوا في حياة الموصي ففي -
المسالك بعد أن حكى الخلاف في ذلك قال: إن الأصح عدم بطلان الوصية وانتقال
حكمها إلى البدل.
قلت: لكن الانصاف عدم خلو الأول عن قوة، كالعين الموهوبة قبل القبض والله
العالم.
(وتثبت الوصية:) بمال أو ولاية (بشاهدين مسلمين عدلين) بلا خلاف
(و) لا اشكال، بل الاجماع بقسميه عليه، لعموم ما دل على حجيتهما كما لا خلاف
في أنه (مع الضرورة وعدم عدول المسلمين، تقبل شهادة أهل الذمة خاصة) في
الأولى منها، بل عن فخر الدين وظاهر الغنية وصريح الصيمري الاجماع عليه، وهو
الحجة بعد الكتاب (1) والمعتبر المستفيضة التي من كثير منها يعلم اشتراط قبول شهادتهم
بالضرورة، واختصاص هذا الحكم بأهل الذمة خاصة فيقيد به حينئذ، وبالاجماع اطلاق
الكتاب وما شابهه من السنة.
نعم في خبر يحيى بن محمد (2) عن الصادق (عليه السلام) " فإن لم تجدوا من أهل الكتاب
فمن المجوس، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سن فيهم سنة أهل الكتاب في الجزية " ونحوه المضمر (3)
قال: " اللذان منكم مسلمان، واللذان من غيركم من أهل الكتاب، فإن لم تجدوا من
أهل الكتاب فمن المجوس، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب،
وذلك إذا مات الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلمين يشهدهما، فرجلان من أهل
الكتاب " إلا أني لم أجد عاملا به من الأصحاب، فلا يصلح للخروج عما دل على اعتبار
العدالة بالمعنى الأخص في الشاهد.

(1) سورة المائدة الآية - 106.
(2) الوسائل الباب - 20 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 6 وذيله.
(3) الوسائل الباب - 20 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 6 وذيله.
347

اللهم إلا أن يدعى اندراجهم في اطلاق الأصحاب، أهل الذمة وأهل
الكتاب، بناء على أنهم منهم، لكن الظاهر المنساق خلافه، فالمتجه عدم قبول
شهادتهم، كما أن المتجه قصر الحكم في خصوص المقام، اقتصارا فيما خالف المعلوم
من قوانين الشرع وقواعده على المتيقن، فما عساه يظهر من تعليل قبول شهادتهم
في غير واحد من نصوص المقام (1) بأنه لا يصلح ذهاب حق أحد من التعميم لا محيص من
الخروج عنه، لما عرفت، بل قد يقال: بعدم قبول شهادة أهل الذمة حال عدم العلم
بتحقق الضرورة التي هي شرط ذلك، لظاهر جملة من النصوص والفتاوى واقتصارا على
المتيقن فيما خالف الأصل، والشك في الشرط شك في المشروط.
اللهم إلا أن يقال: إن المراد مما في النص والفتوى بيان المانعية، وإن برز
بصورة الشرط، وإلا بطلت فائدة مشروعية هذا الحكم غالبا المستفادة من النصوص أيضا
ضرورة ندرة معرفة الاضطرار للموصي على وجه يعلم به ذلك شرعا فيتجه حينئذ القول
بقبول شهادتهم ما لم يعلم التمكن من غيرهم، بل لعله هو مقتضى اطلاق الآية (2) وبعض النصوص
أيضا، وهو قوي متين.
وعلى كل حال، فالظاهر أن التمكن من المسلمين الفاسقين ولو بغير الجناية و
الكذب كعدمه، لعدم قبول شهادتهم، ولو في حال الاضطرار، والقياس على ما ثبت من
قبول أهل الذمة محرم، لعدم إحاطة العقل بمصالح ذلك ومفاسده، بل ولا المجهولين
أيضا بل ولا العدل الواحد وإن أمكن التوصل به إلى اثبات الحق مع اليمين من الموصى
له إلا أنه لم يعلم امكانها منه، لاحتمال عدم علمه، بل ومع علمه، لامكان تحاشيه بل
وإن لم يتحاش.
لكن ظاهر النصوص تحقق الضرورة بفقد العدلين، بل الظاهر تحققها وإن تمكن
من النساء الثلاثة التي يثبت بها ثلاثة أرباع الموصى به، فضلا على الاثنتين والواحدة
لظهور النصوص في أن المدار في قبولها على عدم التمكن مما يثبت به تمام المطلوب

(1) الوسائل الباب - 20 - من أبواب أحكام الوصايا
(2) سورة المائدة الآية - 106.
348

من المسلمين، وهو متحقق في الفرض فلا يقال: إنه مضطر في مقدار الربع خاصة، كما أنه
لا يقال: إنه متمكن بالمرأة الواحدة، باعتبار تمكنه من اشهادها على ما يزيد على مطلوبه
بثلاثة أرباع، وهكذا في الاثنتين، فإن مثله لا يعد تمكنا كما لا يخفى على من تأمل النصوص
والظاهر أنه لا يجوز للمرأة العالمة بقدر الموصى به، وأنه لا شريك لها في الشهادة
تضعيف المشهود به على وجه يصلح للموصى له، مقدار ما أوصى به له، للكذب المحرم
الذي مثل ذلك لا يعد مصلحة لتسويغه، لعدم الظلم بمنع ما لم يثبت شرعا كونه له، وإن
كان في الواقع أنه له.
ثم إن الظاهر اعتبار العدالة في أهل الذمة في دينهم، وفاقا لصريح جماعة
وظاهر آخرين، اقتصارا على المتيقن وللتصريح به في خبر حمزة بن حمران (1) عن أبي -
عبد الله (عليه السلام) قال: " سألته عن قول الله عز وجل " ذوا عدل " إلى آخر الآية قال: اللذان
منكم مسلمان، واللذان من غيركم من أهل الكتاب، فقال: إنما ذلك، إذا مات الرجل
المسلم بأرض غربة وطلب رجلين مسلمين ليشهدهما على وصيته فلم يجد مسلمين،
فليشهد على وصيته رجلين ذميين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما " بل هو
ظاهر غيره أيضا بل لعله الظاهر من قوله تعالى: " أو آخران من غيركم " بعد تقدم
اعتبارها في الشاهدين منا، فيكون المراد ثبوتها بالعدلين منا أو من غيرنا، وأما
اعتبار حلفهما مطلقا، أو بعد صلاة العصر بالكيفية الموجودة في الآية مطلقا، أو مع
الريبة فيهم كما في الآية أيضا فهو محتمل، بل حكى عن العلامة بل ظاهر الكركي وغيره
القول به، في صورة الريبة للآية وبعض النصوص المفسرة لها الظاهر في كون الحكم ما
فيها، قال الصادق (عليه السلام) في خبر يحيى بن محمد (2) متصلا بما سمعته سابقا من صدره، و
ذلك " إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب
يحبسان بعد العصر فيقسمان بالله تعالى " لا نشتري " إلى آخر الآية قال: وذلك إن
ارتاب ولى الميت في شهادتهما، فإن عثر على أنهما شهدا بالباطل، فليس له أن

(1) الوسائل الباب - 20 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 7.
(2) الوسائل الباب - 20 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 6
349

ينقض شهادتهما حتى يجئ شاهدان يقومان مقام الشاهدين الأولين، فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وما اعتدينا إنا إذا لمن الآثمين، فإذا فعل ذلك
نقض شهادة الأولين وجازت شهادة الآخرين بقول الله تعالى (1) " ذلك أدنى " إلى
آخر الآية، لكن قد يقوى في النظر خلافه لاطلاق جملة من النصوص معتضدا بخلو فتوى
المعظم عن ذلك على وجه يعلم منه عدم اعتباره، فلا بد من ارتكاب النسخ الذي لا وجه
للقول بعدم صلاحية مثل ذلك له، ضرورة كونه كالتخصيص أو الندب احتياطا في الأمر
واستظهارا، وإن كان لم يذكره المعظم أيضا، ومنه يعلم قوة احتمال الأول.
ولكن الاحتياط مع امكانه لا ينبغي تركه، بل ينبغي أن يكون حلفهما بما في
الآية، وبعد صلاة العصر الذي هو محل اجتماع الناس، كما فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
ما في الخبر (2) ويقوى أيضا عدم اعتبار السفر في قبولها أيضا، وفاقا للأكثر، بل في ظاهر
المتن في باب الشهادة الاجماع عليه، بل في الرياض لم أجد فيه مخالفا إلا نادرا، و
إن تضمنته الآية، إلا أنه خارج مخرج الغالب، فلا يصلح لتقييد ما دل على قبولها، في
السفر والحضر من النصوص حينئذ كما هو واضح.
وعلى كل حال فقد ظهر لك عن ذلك كله قبول شهادة أهل الذمة في الجملة
لكن قوله تعالى (3) " فإن عثر " إلى آخر الآية قد تضمن حكما لم يتعرض له أكثر الأصحاب
ولا تصدوا له، ولم ينصوا على النسخ، ولا على عدمه، مع أن النصوص قد تعرضت له أيضا
فإن في خبر يحيى بن محمد (4) عن الصادق (عليه السلام) بعد أن ذكر شهادة الذميين وحلفهما
قال (عليه السلام): فإن عثر على أنهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما حتى يجئ
شاهدان يقومان مقام الشاهدين فيقسمان بالله لشهادتنا أحق إلى آخر الآية فإذا
فعل ذلك نقض شهادة الأولين وجازت شهادة الآخرين يقول الله عز وجل " ذلك

(1) سورة المائدة الآية 107.
(2) الوسائل الباب - 21 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(3) سورة المائدة الآية - 108.
(4) الوسائل الباب - 20 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 6.
350

أدنى أن يأتوا بالشهادة " إلى آخره.
وفي مرسل علي بن إبراهيم (1) قال: خرج تميم الداري وابن بندي وابن أبي مارية
في سفر وكان تميم الداري مسلما وابن بندي وابن أبي مارية نصرانيين، وكان مع تميم
الداري خرج له فيه متاع وآنية منقوشة بالذهب وقلادة وأخرجها إلى بعض أسواق
العرب للبيع فاعتل تميم الداري علة شديدة فلما حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن
بندي وابن أبي مارية أن يوصلاه إلى ورثته فقدما إلى المدينة وقد أخذا من المتاع
الآنية والقلادة وأوصلا سائر ذلك إلى الورثة فافتقد القوم الآنية والقلادة فقالوا
لهما هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة؟ قالا: لا ما مرض إلا أياما قلايل،
قالوا: فهل سرق منه في سفره هذا؟ قالا: لا قالوا: فهل أتجر تجارة خسر فيها؟
قالا: لا، قالوا: فقد افتقدنا أفضل شئ كان معه: آنية منقوشة بالذهب مكللة بالجوهر،
وقلادة فقالا: ما دفع إلينا فقد أديناه إليكم فقد موهما إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأوجب عليهما
اليمين، فحلفا فخلا عنهما، ثم ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما، فجاء أولياء تميم
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: قد ظهر على ابن بندي وابن أبي مارية ما ادعيناه فانتظر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحكم من الله في ذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى " يا أيها الذين
آمنوا " إلى آخر الآية، فهذه الشهادة الأولى التي جعلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " فإن
عثر على أنهما استحقا إثما " أي أنهما حلفا على كذب " فآخران يقومان مقامهما " يعني
من أولياء المدعي من الذين استحق عليهم، فيقسمان بالله، أي يحلفان بالله أنهما
أحق بهذه الدعوى منهما فإنهما قد كذبا فيما حلفا بالله لشهادتنا أحق إلى آخره
فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولياء تميم الداري أن يحلفوا بالله على أمرهم، فحلفوا فأخذ
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القلادة والآنية من ابن بندي وابن أبي مارية وردهما على أولياء
تميم الداري، وهو وإن كان مضمونه غير الأول، ضرورة صراحته في حلف أولياء تميم
بمجرد دعواهم، إلا أنه على كل حال مخالف للضوابط والقواعد.
نعم في غير هذا الخبر أن النصرانيين قد ادعا شراءه عن تميم، وأنكرهما

(1) الوسائل الباب - 21 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
351

الورثة، ولعل هذا الوجه في تحليف الوليين، ويمكن أن يكون الإرث منحصرا فيهما،
ولذلك حلفا إلا أن ذلك كله أجنبي عن ظاهر الآية، كما أن هذا الخبر الذي هو السبب
في نزول الآية أجنبي عما عند الأصحاب من قبول شهادة أهل الذمة في الوصية لعدم
تضمنه شيئا من ذلك.
وعلى كل حال فالعمل على ظاهر الآية ما لم يثبت نسخها، وقد أطنب في مجمع
البيان في تفسيرها واعرابها وقرائتها حتى حكى عن الزجاج من ثم " فإن عثر " إلى آخر
الآية أصعب آية في القرآن اعرابا خصوصا على قراءة فاستحق بالبناء للفاعل، وليس
المقام مقام تحرير ذلك فراجع وتأمل، وإن كان الأظهر جعل الأوليان خبر مبتدأ محذوف أي
هما الأوليان، بمعنى هما اللذان يقومان ويحلفان من بين الذين استحق عليهم أي
الورثة أو استحق الموصى له عليهم على قراءة النباء للفاعل.
ولو شهد عدل وذمي فالأقرب وجوب اليمين حينئذ كما في القواعد ولعله لعدم
تمام الحجة بهما، وإن كان العدل أولى من الذمي، لكنه خارج من مفروض المشروعية
ولا عبرة بمثل الأولوية المزبورة بل هي في الحقيقة قسم من الاستحسان، والله العالم.
(و) كيف كان فلا خلاف في أنه (تقبل في الوصية بالمال شهادة) العدل
ال‍ (واحد مع اليمين) بل ولا اشكال لاطلاق دليله، بل يمكن تحصيل الاجماع من الخاصة
عليه فما في نافع المصنف من التردد في ذلك في غير محله (أو شاهد) عدل ذكر و
امرأتين) ثقتين، بلا خلاف ولا اشكال، لاطلاق ما دل على ذلك الشامل لما نحن
فيه بل هو أخف (و) لذلك اختص بأنه (تقبل) فيه (شهادة) الامرأة
(الواحدة) العادلة لكن (في ربع ما شهدت به، وشهادة اثنتين في النصف و)
(شهادة الثلاث في ثلاثة الأرباع و) أما (شهادة الأربع في الجميع) فهو مشترك
بين المقام وغيره، من الأموال من غير خلاف في شئ من ذلك أجده، بل يمكن
تحصيل الاجماع عليه، فضلا عن محكيه والأصل فيه المعتبرة المستفيضة منها قول
الصادق (عليه السلام) في خبر ربعي (1) في شهادة امرأة حضرت رجلا يوصي ليس معها رجل

(1) الوسائل الباب - 22 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1
352

فقال: يجاز ربع ما أوصى بحسب شهادتها " ومنها قول أبي جعفر (عليه السلام) (1) " قضى أمير
المؤمنين (عليه السلام) في وصية لم يشهدها إلا امرأة أن تجوز شهادتها في ربع الوصية إذا
كانت مسلمة غير مريبة في دينها " ولا يعارضها خبر عبد الرحمان (2) سألت أبا عبد الله (ع)
عن المرأة يحضرها الموت وليس عندها إلا امرأة تجوز شهادتها قال تجوز شهادة
النساء في العذرة والمنفوس، وقال: تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجل " و
مضمر عبد الله (3) " سألته عن امرأة حضرها الموت وليس عندها إلا امرأة أتجوز شهادتها؟
فقال: لا تجوز شهادتها إلا في المنفوس والعذرة " ومكاتبة أحمد بن هلال إلى أبي
الحسن (عليه السلام) " امرأة شهدت على وصية رجل لم يشهدها غيرها وفي الورثة من
يصدقها، ومنهم من يتهمها فكتب: لا، إلا أن يكون رجل وامرأتان، وليس بواجب أن
تنفذ شهادتها " لقصورها عن المقاومة من وجوه، فلا بأس بطرحها، أو حملها على إرادة
عدم نفوذها في الجميع، والأول منها على إرادة قبولها فيما هو أعظم من الوصية، والثاني
على الاستفهام الانكاري ونحو ذلك.
نعم الأظهر قصر الحكم على مورد النص فلا يتعدى منه إلى غيره، كقبول شهادة
الرجل الواحد في النصف باعتبار كونه بمنزلة شهادة امرأتين وإن احتمل، لكنه في غير
محله، بل قد يقال: بعدم ثبوت الربع به فضلا عن النصف، وإن اختاره الفاضل وثاني
الشهيدين وغيرهما، لابتناء الحكم على مصالح يقصر العقل عن ادراكها.
ومن ذلك يعلم أن الخنثى المشكل لا يثبت بشهادتها وحدها شئ لعدم العلم
بكونه امرأة، وأما الخنثيان فيثبت الربع فقط، والثلاثة ثلاثة أرباع، والأربعة تمام المشهود
عليه كما هو واضح بأدنى تأمل.
ثم إن مقتضى اطلاق النص والفتوى عدم توقف قبول شهادتهن فيما عرفت على
اليمين خلافا للمحكي عن التذكرة فقال: بتوقفه عليه كذلك، كما في شهادة الرجل
الواحد، وفيه أنه لا دليل هنا على اعتبار اليمين، بل ظاهر الأدلة خلافه، كما عرفت،
على أن اليمين مع شهادة الواحد توجب ثبوت الجميع، فلا يلزم مثله في البعض، و
التزامه فيما إذا انضم إلى شهادة الاثنين أو الثلاثة باعتبار قيامهما مقام الرجل

(1) الوسائل الباب - 22 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 و 3 و 6 و 7 و 8.
(2) الوسائل الباب - 22 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 و 3 و 6 و 7 و 8.
(3) الوسائل الباب - 22 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 و 3 و 6 و 7 و 8.
(4) الوسائل الباب - 22 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 و 3 و 6 و 7 و 8.
353

بخلاف الواحدة، يدفعه أن مقتضى النصوص النصف في الأول، وثلاثة الأرباع في
الثاني، بمجرد الشهادة، ووجود اليمين مع عدم اعتبار الشارع لها بمنزلة العدم وقيام
الاثنين مقام الرجل في بعض الموارد، لا يستلزم قياس ما نحن فيه عليه، حتى أنه
يخرج عن مقتضى ظواهر النصوص بذلك، وكذا لا يشترط في قبول شهادتهن هنا فقد
الرجال للاطلاق خلافا للمحكي عن الإسكافي والطوسي فاشترطاه، ولا ريب في ضعفه.
نعم لا يعبر في شهادتهن غير العدالة، فلا تجزي شهادة الفاسقة ولا الذمية،
ولو في مقام تقبل فيه شهادة ذكورهم، إذا فرض عدمهم، اقتصارا فيما خالف الضوابط
على المتيقن، وهو ذكور أهل الذمة دون نسائهم، ولو مع فقد ذكورهم، وذكور المسلمين
ونسائهم كما هو واضح، والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (لا تثبت الوصية بالولاية إلا بشاهدين) مسلمين عادلين
للأصل السالم عما يقتضي قطعه بغير ذلك لعدم ثبوت حجيته، (و) حينئذ ف‍ (لا
تقبل شهادة النساء في ذلك) منفردا بل في المسالك ومحكي غيرها نفي الخلاف
فيه، لأنها ليست وصية بمال، بل هي تسلط على تصرف فيه وليس مما يخفى على الرجال
غالبا، وذلك ضابط محل قبول شهادتهن منفردات نصا وفتوى.
قلت: كما أن ضابط قبولهن منضمات كون المشهود عليه مالا لا ولاية.
لكن قد يناقش بأنها قد تتضمن المال، كما إذا أراد الوصي أخذ الأجرة والأكل
بالمعروف بشرطه، وبأن الولاية وإن لم تكن مالا لكنها متعلقة به، كبيعه وإجارته و
إعارته، ونحو ذلك، ومن ذلك يتجه القول بالقبول، لعموم ما دل على قبول خبر العدل
الشامل للذكر والأنثى، ولو بقاعدة الاشتراك.
اللهم إلا أن يقوم اجماع هنا بالخصوص على عدم ثبوت ذلك بشهادتهن منفردات
ومنضمات، كما هي عساه يشعر به في الجملة نفي الخلاف المزبور مؤيدا بعدم العثور
على ما ينافيه، وبتقرير من تأخر عنه عليه على وجه يظهر منه الاعتراف به.
(و) على كل حال ف‍ (هل تقبل) فيها (شهادة) العدل (الواحد
مع اليمين؟ فيه تردد) (أظهره المنع) عند المصنف خاصة في الكتاب خاصة ينشأ
354

مما عرفت لكن في المسالك قد قطع الأصحاب بالمنع من غير نقل خلاف في المسألة ولا
تردد، ولذا وافقهم المصنف في مختصر الكتاب على القطع، بل في الرياض أن النصوص
كالاتفاق المحكي في المسالك وغيرها متفقة الدلالة على انحصار قبولهما في الحقوق
المالية.
قلت: بل لعل الأصل أيضا يقتضي عدم ثبوتها بعد قيام الأدلة على اعتبار التعدد
في الشهادة، وقيام اليمين مقام الواحد غير ثابت في المقام فتأمل جيدا.
فإنه قد أشبعنا الكلام في المسألة في كتاب القضاء والشهادات، ومنه يعلم قوة
القول بالاكتفاء به بل والمرأتين واليمين فضلا عنهما مع الرجل فلاحظ وتأمل.
وأما شهادة أهل الذمة فقد يقال: إن مقتضى اطلاق الآية والرواية قبولها فيها
أيضا بالشرط المزبور، ولعله لذا ولأصالة عدم القبول نظر الفاضل فيها في القواعد لكن
قال: أقربه العدم، ولعله كذلك اقتصارا فيما خالف الضوابط الشرعية على المتيقن ولا
اطلاق في الأدلة بحيث تطمئن به النفس على قبولها في ذلك بعد اقتصار المعظم على
المال فلاحظ وتأمل، والله العالم.
(ولو أشهد انسان عبدين له، على حمل أمته أنه منه، ثم مات فأعتقا وشهدا
بذلك) بعد العتق (قبلت شهادتهما) وإن لم نقل بقبول شهادة العبد.
للصحيح (1) " في رجل مات وترك جارية ومملوكين فورثهما أخ له فأعتق العبدين، و
ولدت الجارية غلاما فشهدا بعد العتق أن مولاهما كان أشهدهما أنه كان يقع على
الجارية، وأن الحبل منه، قال: تجوز شهادتهما ويردان عبدين كما كانا ".
والموثق (2) " عن رجل كان في سفر ومعه جارية له، وغلامان مملوكان فقال: لهما أنتما
حران لوجه الله، وأشهد أن ما في بطن جاريتي هذه مني، فولدت غلاما، فلما قدموا
على الورثة أنكروا ذلك، واسترقوهم، ثم إن الغلامين أعتقا بعد ذلك، فشهدا بعد
ما أعتقا أن مولاهما الأول أشهدهما على أن ما في بطن جاريته منه قال: يجوز
شهادتهما للغلام، ولا يسترقهما الغلام الذي شهدا له لأنهما أثبتا نسبه ".

(1) الوسائل الباب - 71 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 - 1.
(2) الوسائل الباب - 71 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 - 1.
355

مضافا إلى نفي الخلاف فيه، في الرياض مع الايصاء بالشهادة، بل في المسالك
أن عليه أصحابنا، بل ومع عدم الايصاء خلافا للطوسي فخصها بالأول، ولا وجه له
سوى دعوى أن أمر الوصية أخف من غيره، ولذا قبلت فيه شهادة أهل الذمة، وهو
كما ترى، وإلى ما تعرفه في محله من قبول شهادة العبد مطلقا.
وعلى كل حال اتفاقهم ظاهرا على الحكم هنا، وخلافهم في قبول شهادة
العبد على أقوال متعددة، إما أن يكون للخبرين المزبورين المعتضدين بما عرفت،
أو لأنهما حران في ظاهر الشرع، وفي حق الورثة الذين شهدوا عليهم، وإن استلزم
ذلك رقيتهما لغيرهم أخذا باقرارهما، أو لعدم بينة على دعويهما العتق من سيدهما
الأصلي، ولا تنافي بين الأمرين، بعد أن كانا من الأحكام الظاهرية التي يمكن العمل
بكل منهما نحو الصيد الواقع في الماء، فإنه يحكم بميتته وطهارة الماء، عملا بكلا الأصلين
وليس ما نحن فيه مما يستلزم من وجوده عدمه، لأن ذلك إنما هو في الأحكام الواقعية
دون الظاهرية، فإن الأصحاب في غير مقام يجرون كلا من الأصلين على مقتضى سببه
الظاهر، وإن تنافيا في الواقع من غير فرق بين اتحاد الموضوع وتعدده.
ومن ذلك يظهر لك ما في المسالك حيث أنه بعد أن ذكر الصحيح المزبور قال:
وهو مبني إما على قبول شهادة العبد مطلقا أو على مولاه، لأنهما بشهادتهما
للولد صارا رقا له، لتبين أن معتقهما لم يكن وارثا أو على أن المعتبر حريتهما حال
الشهادة وإن ظهر خلافها بعد ذلك أو على أن الشهادة للمولى لا عليه، فتقبل كما
هو أحد الأقوال في المسألة.
(و) كيف كان فقد قيل: إنه (لا يسترقهما المولود) بمعنى أنه يحرم عليه
ذلك عملا بظاهر النهي في الموثق (وقيل: يكره، وهو أشبه) بأصول المذهب و
قواعده المؤيدة بظاهر الصحيح الأول، وإن كان يمكن أن يقال: إنه لا تعارض بينهما
باعتبار ظهور الأول في رجوعهما مملوكين، والثاني في أنه يحرم عليه استرقاقهما وهما
غير متنافيين.
لكن الانصاف أن الأول ظاهر في جواز ابقائهما فينا في الحرمة في الثاني ومن
356

هنا حمل النهي على الكراهة، خصوصا بعد التعليل المزبور المشعر بها بل الظاهر،
فلا ريب أن القول بها هو الأقوى، والله هو العالم.
(ولا تقبل شهادة الوصي فيما هو وصي فيه، ولا ما يجربه نفعا، أو يستفيد منه
ولاية) على المشهور بين الأصحاب بل الظاهر عدم الخلاف كما اعترف به غير واحد
إلا من الإسكافي فجوز شهادة الوصي لليتيم في حجره، وإن كان هو المخاصم
للطفل، ولم يكن بينه وبين المشهود عليه ما يفسد شهادته من عداوة ونحوها، ومال
إليه المقداد، بل وكذا ثاني الشهيدين، لكن قال: إن العمل على المشهور، بل في
الرياض بعد أن نقل ذلك قال: وهو حسن، إن بلغ الشهرة الاجماع كما هو الظاهر منه
وإلا فمختار الإسكافي لعله أجود، لبعد التهمة من العدل، حيث أنه ليس بما لك،
ولم يكن أجرة على علمه في كثير من الموارد.
ومضافا إلى المكاتبة الصحيحة الصريحة المروية في الفقيه (1) في باب شهادة الوصي
للميت، وعليه دين، وفيها وكتب إليه أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميت صغيرا أو
كبيرا بحق له عليه الميت، أو على غيره وهو القابض للوارث الصغير، وليس للكبير
بقابض؟ فوقع (عليه السلام): نعم، وينبغي للوصي أن شهد بالحق، ولا يكتم شهادته " وظاهر
الصدوق العمل بها.
وفيه: أن المانع فيه وفي نظائره أنه يرجع إلى كونه مدعيا باعتبار ثبوت حق له
فيما شهد به، فهو كشهادة المرتهن على المال المرهون أنه ملك للراهن مثلا، و
كشهادة الشريك لشريكه وغرماء المفلس بمال له، بل لعل منه غرماء الميت أيضا مع
قصور التركة بل ومع عدمه في وجه، ونحو ذلك مما يرجع إلى تعلق حق للمدعي، فعدم
قبول شهادته حينئذ لذلك، وحينئذ فلا مدخلية لبعده عن التهمة بالعدالة، كما
أن ما ذكرناه حاصل، وإن لم يكن له أجرة، وأما المكاتبة فمع اعراض المعظم عنها، و
امكان حملها على شهادته على ما لا حق له فيه من مال الكبير ونحوه، قاصرة عن
معارضة ما يقتضي خلافها، على أنها مشتملة على كتابته إليه أيضا أنه هل تقبل شهادة

(1) الفقيه ج 3 ص 43 الرقم 147.
357

الوصي للميت بدين له على رجل آخر مع شاهد آخر عدل فوقع (عليه السلام) " إذا شهد معه
آخر عدل فعلى المدعي يمين " إذ لا يخفى أن يمين المدعي مع العدل الواحد
كاف في مثله، فلا يحتاج حينئذ إلى شهادته، فاعتبار اليمين معها كناية عن عدم -
قبولها.
نعم لا خلاف كما اعترف به غير واحد، بل ولا اشكال في قبول شهادة الوصي فيما
لم يكن وصيا فيه، لعموم ما دل على قبول شهادة العدل، ومن ذلك شهادته على
الميت بدين، ولا ينافي ذلك ما في المكاتبة المزبورة، من أنه كتب إليه أيضا أو تقبل
شهادة الوصي على الميت بدين مع شاهد آخر عدل؟ فوقع (عليه السلام): " نعم من بعد يمين "
فإن اعتبار اليمين هنا لا ينافي قبول شهادته، لكون الدعوى على الميت، فاعتبارها
للاستظهار، كما لو كان الشاهد غيره، وهو واضح، وقد ظهر لك من ذلك كله أن الشهادة
متى ما جرت نفعا لم تقبل، لكن على معنى رجوع الشاهد إلى كونه مدعيا، ولو باعتبار
تعلق حق له فيما شهد عليه، فإن هذا القدر هو المسلم من هذه الكلية، وإن كان في
كلمات الأصحاب أمثلة لها تقتضي الزيادة على ذلك، إلا أن إقامة الدليل بحيث
يصلح للخروج عما دل على قبول شهادة العدل صعب، كما لا يخفى على من لاحظ
كلامهم في هذا المقام، وإن كان ربما ذكر لذلك بعض التعليلات الاعتبارية التي لا
تصلح مدركا للأحكام الشرعية، والرجاء من الله تعالى أن يأتي زيادة تحقيق لذلك
في محله فإنه قد أشبعنا الكلام فيها في كتاب الشهادات فلاحظ وتأمل فإنه ربما كان
بعض الاختلاف بين المقامين.
(و) على كل حال فمقتضى ما ذكرنا أنه (لو كان وصيا في اخراج مال معين
فشهد للميت بما يخرج به ذلك المال من الثلث لم تقبل) لما فيها من اثبات حق
له، اللهم إلا أن يفرض على وجه لا يكون له حق أصلا، فإنه يتجه القبول حينئذ، وقد
يقال: إن مجرد وصايته على اخراج المال المعين لغيره ليس حقا يمنع من قبول
شهادته.
نعم لو كان المال عايدا له، اتجه عدم القبول حينئذ لما ذكرناه فتأمل جيدا.
358

(مسائل أربع)
(الأولى: إذا) أعتق في مرض الموت أو (أوصى بعتق عبيده وليس له
سواهم) ولم يجز الورثة (أعتق ثلثهم) بناء على الأصح، من كون المنجزات من
الثلث (بالقرعة) بتعديلهم أثلاثا بالقيمة وعتق ما أخرجته القرعة بلا خلاف أجده
للمرسل (1) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " في ستة عبيد أعتقهم مولاهم عند موته ولم يكن غيرهم فجزاهم
أثلاثا ثم أقرع بينهم " والصحيح (2) عن أبي جعفر (عليه السلام) في الرجل يكون له المملوكون
فيوصي بعتق ثلثهم، فقال: " كان علي (عليه السلام) يسهم بينهم " والخبر الذي رواه المشايخ
الثلاثة (3) عن موسى بن جعفر (عليه السلام) " قال: إن أبي ترك ستين مملوكا وعتق ثلثهم
فأقرعت بينهم وأخرجت عشرين فأعتقتهم " ولو استلزم التعديل التجزية في العبد
أعتق ذلك الجزء والسعي في الباقي، وإنما لا يعتق ثلث كل واحد منهم مع أن كل
واحد منهم بمنزلة الموصى له، وقد عرفت أيضا فيما تقدم أن الوصايا إذا وقعت
دفعة قسط عليها الثلث بالنسبة، لما سمعته من فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، وغيره، و
إن كان هو في المنجز إلا أن الاجماع بحسب الظاهر على عدم الفرق بينه وبين الوصية
هنا مضافا إلى الصحيح عن علي (عليه السلام)، بل يمكن أن يكون منها خبر موسى بن جعفر
(عليه السلام)، سيما بعد قوله فأعتقتهم، ولاستلزام عتق الكل الاضرار بالورثة، (ولو
رتبهم) في الاعتاق أو الوصية به (أعتق الأول فالأول حتى يستوفى الثلث، و
تبطل الوصية) أو التنجيز (فيمن بقي) إذا لم يجز الوارث بلا خلاف أجده، كما
اعترف به في الرياض للأصل المتقدم، وخصوص النص (4) " في رجل أوصى عند موته أعتق
فلانا وفلانا وفلانا وفلانا وفلانا فنظرت في ثلثه فلم يبلغ أثمان قيمة المماليك الخمسة
الذين أمر بعتقهم قال: ينظر إلى الذين سماهم وبدء بعتقهم، فيقومون، وينظرون
إلى ثلثه فيعتق معه أول شئ ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس، فإن عجز
الثلث كان في الذي سمى أخيرا، لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك، فلا يجوز
له ذلك.

(1) المستدرك ج 2 ص 521.
(2) الوسائل الباب - 65 - من أبواب العتق الحديث - 1 - 2.
(3) الوسائل الباب - 65 - من أبواب العتق الحديث - 1 - 2.
(4) الوسائل الباب - 66 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
359

(ولو أوصى بعتق عدد مخصوص من عبيده، أستخرج ذلك العدد بالقرعة)
لأنها العدل بين العبيد الذين قد تعلق لكل منهم حق بالوصية، ولا طريق لتمييزه
إلا القرعة (وقيل: يجوز للورثة أن يتخيروا بقدر ذلك العدد، والقرعة على
الاستحباب) حينئذ (وهو حسن) بل في المسالك أنه أقوى لأنها لكل أمر
مشكل، ولا اشكال بعد فرض كون الموصى به من المتواطي الذي قد عرفت الخيار فيه
للوارث.
(الثانية: لو أعتق مملوكه عند الوفاة منجزا وليس له سواه) ولم يجز الوارث
(قيل: عتق كله) بناء على أن المنجز من الأصل (وقيل: ينعتق ثلثه و) حينئذ
ف‍ (يسعى للورثة في ال‍ (باقي) من (قيمته وهو أشهر) وأقوى كما عرفته في
الحجر، وتعرفه هنا في محله انشاء الله تعالى (ولو أعتق ثلثه) عند الوفاة
(يسعى في باقيه) فيدفع جميع ما يكتسبه فاضلا عن مؤنته بعد ذلك في فك باقيه،
لا بنصيب الحرية خاصة، لكونه حينئذ كالمكاتب الذي تحرر بعضه (ولو كان له)
أي المعتق (مال غيره) أي العبد (أعتق الباقي من ثلث تركته) للسراية التي
هو سببها، وبذلك كان كالمنجز، الذي قد عرفت أن الأصح خروجه من الثلث، مع
احتمال كون ذلك من الأصل، وإن قلنا: بكون المنجز منه، لا من الأصل باعتبار أن
العتق بالسراية قهري، فيكون من الأصل إذ ليس هو من التبرعات وإن كان الأول
أقوى.
(الثالثة: لو أوصى بعتق رقبة) وأطلق ولم يكن، ثمة قرينة أجزء الصغير و
الكبير، والذكر والأنثى والخنثى للاطلاق، وفي خبر الحضرمي (1) قلت له أي لأبي عبد -
الله (عليه السلام) " إن علقمة بن محمد وصاني أن أعتق عنه رقبة، فأعتقت عنه امرأة فيجزيه، أم أعتق
عنه من مالي؟ قال: تجزيه، ثم قال لي: إن فاطمة أم ابني أوصت أن أعتق عنها رقبة
فأعتقت عنها امرأة ".
ولو قال: (مؤمنة وجب) امتثال ما أوصى به بلا خلاف ولا اشكال، للنهي عن

(1) الوسائل الباب - 74 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
360

تبديلها الذي يكون ترك امتثال ما أوصى به منه، أو أولى بالنهي، والمراد بالايمان
عرفا الاعتقاد بإمامة الاثني عشر، وقد يطلق على غير ذلك، إلا أن المنساق عرفا الآن
ذلك خصوصا إذا كانت الوصية من أحدهم.
نعم الظاهر الحاق مستضعف هذه الفرقة بهم في الأحكام، (فإن لم يجد
أعتق من لا يعرف بنصب) كما عن الشيخ بل في الرياض عن ظاهر التنقيح وصريح
غيره عدم الخلاف فيه، لخبر علي بن أبي حمزة (1) المنجبر ضعفه بالشهرة المحكية في
الروضة، وعن غيرها قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل أوصى بثلاثين دينارا
يعتق بها رجل من أصحابنا، فلم يوجد بذلك قال: يشتري من الناس فيعتق " وهو
وإن كان خاليا من التقييد بعدم النصب إلا أنه معلوم من الخارج كفر الناصب، و
عدم جواز عتقه.
ومنه يعلم عدم الفرق بين النصب وغيره مما يوجب الكفر في فرق المسلمين، و
لعل التقييد به لكثرته في المخالفين، والتصريح به في خبره الآخر (2) " سألت عبدا صالحا
عن رجل هلك، فأوصى بعتق نسمة مسلمة بثلاثين دينارا فلم يوجد الذي سمى قال:
ما أرى لهم أن يزيدوا على الذي سمى، قلت: فإن لم يجدوا قال: فليشتروا من عرض
الناس ما لم يكن ناصبا " وهما وإن كانا فيمن لم يجد بما أوصى به الموصي، وهو غير
مفروض المتن إلا أن الظاهر عدم الفرق، بل ما في المتن أولى بهذا الحكم من ذلك
والمناقشة بضعف السند بعد التسليم مدفوعة بما عرفت من الانجبار بما سمعت.
فما عن ابن إدريس - من عدم الاجتزاء بذلك، وعن ابن البراج - أنه احتاط
به، بل اختاره ثاني المحققين والشهيدين لعموم " من بدله " ونحوه فيتوقع المكنة
حينئذ، فمع اليأس يكون حكمه حكم ما لو تعذر صرف الموصى به فيما أوصى به.
واضح الضعف بل هو من الاجتهاد في مقابلة النص، وقد عرفت المراد بالناصب
في كتاب الطهارة.
(و) كيف كان ف‍ (لو ظنها مؤمنة) لاخبارها، أو لاخبار من يعتد به، أو

(1) الوسائل الباب - 73 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 - 1.
(2) الوسائل الباب - 73 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 - 1.
361

لاظهارها الايمان أو نحو ذلك من الطرق الشرعية (فأعتقها ثم بانت بخلاف ذلك
أجزأت عن الموصي) بلا خلاف أجده كما في الرياض لقاعدة الاجزاء في نحوه، مما
كان المرء متعبدا فيه بظنه.
وللصحيح (1) عن رجل أوصى بنسمة مؤمنة عارفة، فلما أعتقناها بان أنها بغير رشدة
فقال: قد أجزأت عنه، إنما مثل ذلك مثل رجل اشترى أضحية على أنها سمينة فوجدها
مهزولة ".
(الرابعة: لو أوصى بعتق رقبة بثمن معين فلم يجد به، لم يجب شراؤها)
بالزائد، لعدم المقتضي، حتى لو بذل له الوارث أو غيره، بل لو تمكن منه من ثلث
الميت لم يجب أيضا، بل قد يشكل جواز ذلك له فضلا عن وجوبه، بعد كونه الموصى به.
نعم لو بذل صاحب الرقبة بأن رضي بالقدر المزبور عوضا لها، أمكن الوجوب
حينئذ وهو خارج عن المفروض الذي قد عرفت أن حكمه ترك الشراء (وتوقع وجودها
بما عين له) فإن آيس منه صرفه في وجوه البر التي هي طريق ايصال مال الميت
إليه، إذ لا معنى لارجاعه إلى الوارث بعد خروجه عنه بالوصية، وتعذر انفاذها بعد
فرض كونها ممكنة في حد ذاتها حال الوصية لا يبطلها بحيث يرجع المال إلى الوارث
ولعل الأولى اختيار شراء شقص له وعقته عنه من وجوه البر، لكونه أقرب إلى الموصى
به، وإن كان الأقوى عدم وجوب مراعاة مثل ذلك، (ولو) توقع فلم يجدها ذلك
ولكن (وجدها بأقل) من الثمن الذي أوصى به (اشتراها وأعتقها) بلا خلاف
أجده فيه، لقاعدة عدم سقوط الميسور بالمعسور، ولامكان دعوى كونه مرادا للموصي
في هذا الحال، وللخبر الآتي.
(و) إنما الكلام في قول المصنف وغيره بل قيل: إنه لا خلاف فيه (دفع
إليها ما بقي) الظاهر في وجوب ذلك عليه، وأنه لا يجوز صرفه في غيره من وجوه البر
ولعله لأنه أقرب إلى الموصى به ولموثق سماعة (2) " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أوصى

(1) الوسائل الباب - 95 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 4.
(2) الوسائل الباب - 77 - من بواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
362

أن يعتق عنه نسمة من ثلثه بخمسمائة درهم، فاشترى الوصي بأقل من خمسمأة درهم
وفضلت فضلة فما ترى في الفضلة؟ قال تدفع إلى النسمة من قبل أن تعتق، ثم تعتق
عن الميت، المحمول على صورة تعذر الموصى به، ولو بقرينة حمل فعل المسلم على
الوجه الصحيح، فلا يكون ترك الاستفصال فيه دليلا على العموم، ومع التسليم يخص
بظاهر اتفاق الأصحاب على عدم الجواز إلا مع التعذر ترجيحا لعموم " من بدله "
عليه، وسماعة وإن كان واقفيا إلا أنه ثقة، فيكون الخبر من الموثق الذي قد فرغنا
من اثبات حجيته في الأصول، على أنه منجبر بالشهرة، أو عدم الخلاف، ولعل في
قوله (عليه السلام) " قبل أن تعتق " إشارة إلى ما ذكرناه من قرب ذلك إلى الموصى به، باعتبار
صيرورة دفع بقية المال إليها بمنزلة شرائها بالثمن المعين، فتأمل جيدا.
الفصل (الرابع في الموصى له)
(ويشترط فيه الوجود) حال الوصية (فلو كان معدوما لم تصح الوصية له
كما لو أوصى لميت، أو لمن ظن وجوده، فبان ميتا عند الوصية، وكذا لو أوصى لما تحمله
المرأة) في الزمان المستقبل (أو لمن يوجد من أولاد فلان) بلا خلاف أجده في
شئ من ذلك بل عن نهج الحق والتذكرة الاجماع عليه، للأصل المقتصر في تقييده
بالمنساق من اطلاقات الوصية في الكتاب والسنة على الوصية للموجود على أن المراد
هنا الوصية التي قد عرفت كونها تمليك عين أو منفعة، والمعدوم ليس له أهلية التملك
ولا قابليته ضرورة كون الملك من الصفات الوجودية التي لا تقوم بالمعدوم، بل لا
يتصور قيامها فيه، بل مرجع ملك المعدوم إلى الملك بلا مالك، وما ثبت في الوقف
من صحته على المعدوم تبعا للموجود، إنما هو بمعنى جعل الشارع عقد الوقف
سببا لملك المعدوم بعد وجوده، فالوجود حينئذ كالقبض أحد أجزاء العلة التامة في
ثبوت الملك له، لا أنه مالك حال عدمه، وإلا كان وجوده كاشفا عن تحقق شركته مع
الموجود من أول الأمر، وهو معلوم البطلان، وهذا شئ لا مانع عقلا ولا نقلا من شرع
الشارع له، كما أنه شرعه لاثبات الملك للموجود ما دام موجودا على وجه ينتقل عنه
الملك بموته، ويتلقاه الآخر من الواقف، لا من الموقوف عليه، على خلاف قياس باقي
363

أسباب الملك، ولو أن الشارع شرع الوصية التمليكية على هذا الوجه لم يكن بأس في
تمليك المعدوم لها على الوجه المزبور، إلا أنه لم يثبت من الشارع ذلك فيها، بل
الثابت خلافه، وأنها على قياس باقي أسباب الملك نحو الهبة والبيع والصلح ونحوها
كما لا يخفى من أدلتها، ولو سلم قابلية تحميل اطلاقاتها، ذلك، إلا أن الاجماع
بقسميه على كون المراد منها الموجود، فما في جامع المقاصد - من اشكال ما سمعته من
الأصحاب بما مر في الوقف من صلاحية المعدوم للملك تبعا للموجود مع أن الوصية
أخف منه كما هو واضح لمن لاحظ أحكامهما - في غير محله، لما سمعته من وضوح الفرق
بين المقامين، ولا حاجة إلى ما تكلفه ثاني الشهيدين في الفرق بينهما، وأطنب به
مما لا يرجع إلى محصل فلاحظ وتأمل والتحقيق ما عرفت.
ولا يرد عليه أن المعدوم لو كان غير قابل للتمليك، والملك لم يكن قابلا للتملك
مع أن الاجماع بقسميه على صحة الوصية بالمعدوم عينا ومنفعة وعلى جواز بيع الثمار
ونحو ذلك مما هو من تملك المعدوم.
لأنا نقول - بعد الفرق بينهما بالاجماع ونحوه - أنه يمكن منع تحقق الملك
في ذلك كله حقيقة، بل أقصاه التأهل للملك، والاستعداد له على حسب ملك النماء
لمالك الأصل، وملك المنفعة لمالك العين، فهو من ملك أن يملك، لا أنه ملك حقيقة،
بل بالأسباب المزبورة استحق أن يملك المعدوم بعد وجوده، لا أنه مالك للمعدوم
حقيقة، ولو أنه ثبت في الوصية صلاحيتها لنحو ذلك في الموصى له، كما ثبت
صلاحيتها له في الموصى به، لقلنا به، لكنه لم يثبت، بل الثابت خلافه، كما عرفت
بل الظاهر ذلك وإن اتفق وجوده حال موت الموصي، ولذا قيدنا الوجود في المتن
بحال الوصية.
نعم هذا كله في الوصية التمليكية، أما الوصية العهدية التي لم يقصد الموصي
انشاء تمليك فيها، فلا أجد مانعا من صحتها للمعدوم، بمعنى أن يعهد الميت في
اعطاء شئ أو وقفه أو نحو ذلك لمن يتولد من زيد مثلا، واطلاق اشتراط الأصحاب
الموجود في الموصى له منزل بقرينة تعليلهم وغيره على التمليكية التي هي أحد
364

العقود، كما سمعته سابقا والله العالم.
(و) على كل حال فلا خلاف بيننا في أنه (تصح الوصية للأجنبي والوارث)
بل الاجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر، مضافا إلى اطلاق الوصية
في الكتاب والسنة وخصوصا آية " كتب " (1) إلى آخره والمعتبر المستفيضة على جواز الوصية
للوارث.
منها قول أبي جعفر (عليه السلام) في الصحيح (2) " الوصية للوارث لا بأس بها ".
وفي آخر (3) " سأله محمد بن مسلم عن الوصية للوارث فقال: يجوز ".
وفي ثالث (4) " فقال: يجوز، ثم تلا هذه " إن ترك خيرا " إلى آخره إلى غير ذلك.
فما عن العامة من منع جوازها للوارث مطلقا، أو إذا لم يجز غيره من الورثة
- واضح الفساد، كوضوح حمل ما ورد في أخبارنا مما يوافق ذلك على التقية منهم.
نحو ما عن تفسير العياشي من خبر أبي بصير (5) " عن أحدهما (عليه السلام) في قوله تعالى
" كتب " إلى آخرة قال: هي منسوخة، نسختها آية الفرائض التي هي المواريث " أو على
إرادة نسخ الوجوب دون الاستحباب أو الجواز.
وخبر القاسم بن سليمان (6) " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اعترف لوارث بدين
في مرضه؟ فقال: لا تجوز وصيته لوارث، ولا اعتراف له بدين " المحتمل أيضا إرادة نفي
الوصية بالزايد على الثلث.
كما في النبوي (7) المروي عن تحف العقول أنه قال (عليه السلام)؟ في خطبة الوداع:
" أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز وصية لوارث،
بأكثر من الثلث ".
ومن الغريب ما في دعائم الاسلام (8)، عن علي وأبي جعفر وأبي عبد الله صلوات -
الله عليهم " أنهم قالوا لا وصية لوارث " وهذا اجماع فيما علمناه، ولو جازت الوصية

(1) سورة البقرة الآية 180.
(2) الوسائل الباب - 15 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث 4 و 5 و 2 و 15 و 12 و 14
(3) الوسائل الباب - 15 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث 4 و 5 و 2 و 15 و 12 و 14
(4) الوسائل الباب - 15 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث 4 و 5 و 2 و 15 و 12 و 14
(5) الوسائل الباب - 15 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث 4 و 5 و 2 و 15 و 12 و 14
(6) الوسائل الباب - 15 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث 4 و 5 و 2 و 15 و 12 و 14
(7) الوسائل الباب - 15 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث 4 و 5 و 2 و 15 و 12 و 14
(8) المستدرك ج 2 ص 521.
365

للوارث لكان يعطى من الميراث أكثر مما سماه الله عز وجل له، ومن أوصى لوارث فإنما
استقل حق الله الذي جعل له، وخالف كتابه ومن خالف كتابه عز وجل لم يجز فعله،
وقد جاءت رواية عن جعفر بن محمد (عليه السلام) دخلت من أجلها الشبهة على بعض من
انتحل قوله، وهي أنه سئل عن رجل أوصى لقرابته، فقال: يجوز ذلك لقول الله عزو
جل " إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين " والذي ذكرناه عنه وعن آبائه الطاهرين
هو أثبت وهو اجماع المسلمين " إلى آخره.
ولكن لا غرو فإن الرجل المزبور جديد التشيع على ما ذكر في ترجمته والله العالم.
(و) كذا (تصح الوصية للذمي، ولو كان أجنبيا، وقيل: لا يجوز مطلقا،)
ولكن لم نعرف القائل (ومنهم من خص الجواز بذوي الأرحام والأول أشبهه) باطلاق
الأدلة وعمومها بل عن الخلاف نفى الخلاف فيه (وفي الوصية للحربي تردد) و
خلاف (أظهره المنع) فكان حاصل مختاره التفصيل بين الذمي والحربي فالأول
تجوز له الوصية مطلقا والثاني لا تجوز مطلقا وهو قول الشيخ في الخلاف وابن إدريس
في السرائر وهو أحد الأقوال في المسألة ويدل عليه في الأول مضافا إلى نفي الخلاف
المزبور قوله تعالى (1) " لا ينهيكم إلى قوله أن تبروهم " بناء على أنها من البر، أو أولى
بالجواز منه، وعموم الوصية واطلاقها، وما دل على وجوب انفاذها وحرمة تبديلها،
وأنها على حسب ما أوصى به الموصي، والنصوص المستفيضة (2) المشتملة على انفاذ الوصية
ولو كان الموصى له يهوديا أو نصرانيا، وغير ذلك - وفي الثاني: أنها مودة، وقد
نهى الله عنها بقوله (3) " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يؤادون من حاد الله و
رسوله، ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم " ومنها يعلم عدم الفرق بين الأرحام وغيرهم
إذا كانوا حربيين، وقوله تعالى (4) " إنما ينهيكم الله عن الذين قاتلوكم إلى قوله أن

(1) سورة الممتحنة الآية 8.
(2) الوسائل الباب - 32 و 35 من أبواب أحكام الوصايا.
(3) سورة المجادلة الآية - 22.
(4) سورة الممتحنة الآية - 9.
366

تتولوهم " مضافا إلى مفهوم الآية السابقة، وما عساه يشعر به الوصل في تلك النصوص،
باعتبار ظهوره في أن أقصى أفراد الجواز اليهودي والنصراني، ولو كان الحربي
جايزا لكان أولى بالذكر، ولأن الحربي غير قابل للملك، لأنه وما معه ملك للمسلم،
ولأنه لو صحت لوجب تنفيذها وهو مناف لما دل على أخذ المال من الحربي.
لكن قد يناقش بمنع كون الوصية التي هي عطية بعد الموت مقابلة للهبة التي
هي عطية حال الحياة مودة وتولية وبرا لأن الأغراض الداعية إلى ذلك كثيرة، فإنه
يمكن أن يكون مكافاة وتأليفا لهم، وغير ذلك مما لا يندرج سببه في الآيتين اللتين
يمكن دعوى كون المنساق منهما المنع من ذلك، من حيث المحادة لله، والقتال
للمسلمين، وعدم الرغبة في الدين، لا من غير هذه الحيثية، وإلا لمنعت الهبة لهم،
ولغيرهم، كل ذلك مع أنه يمكن منع اقتضاء ذلك عدم الفساد للعقد، وإن أثم بالمودة
التي تترتب عليها الوصية والهبة وليس ذلك من الوصية بالمحرم حتى لو قلنا بحرمة
الايصاء عليه والوصل مثلا والوصل المزبور إنما تضمن اليهود والنصراني، وهو أعم من
الذمي والحربي، ودعوى انسياق الأول منهما - ولذا يقابل بالحربي - محل منع،
فإن غالب أهل الحرب سابقا ولاحقا النصارى والمقابلة إنما هي بين الذمي والحربي
لا بين النصراني مثلا والحربي، بل لا يبعد دعوى ظهور العبارة في إرادة بيان عدم
فرد آخر أشر من ذلك، نحو قوله (1) فيمن ترك الحج " إن شاء يموت يهوديا أو نصرانيا "
فهو حينئذ دل على التعميم لا على خلافه، مؤيدا ذلك بما دل على صحة وصية
المجوسي للفقراء، وأنها تنصرف إلى فقراء نحلته، مع أنه مكلف بالفروع، ودعوى عدم
قابلية الحربي للملك واضحة المنع، وإن ورد أنهم ومالهم فئ للمسلمين، بمعنى إباحة
ذلك للمسلمين، لا أنهم تجري أحكام المماليك حقيقة عليهم.
والمراد بتنفيذ الوصية الحكم بكونها للموصى له فلا ينافي ثبوت استحقاق على
الموصى له بمقاصة ونحوها، ومنه ما نحن فيه، إذ لا منافاة بين صيرورة المال له بحسب
الوصية وبين جواز أخذ المسلم له بعد ذلك.

(1) الوسائل الباب - 7 - من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث - 1
367

وخبر إبراهيم بن محمد (1) " قال: كتب أحمد بن هلال إلى أبي الحسن (عليه السلام)
يسأله عن يهودي مات، وأوصى لديانه بشئ فكتب (عليه السلام) أوصله إلي وعرفني لأنفذه
فيما ينبغي انشاء الله " كخبر محمد بن عيسى (2) قال: " كتب علي بن بلال إلى أبي الحسن
علي بن محمد (عليهما السلام) يهودي مات وأوصى لديانه بشئ أقدر على أخذه هل يجوز أن
آخذه فأدفعه إلى مواليك؟ أو أنفذه فيما أوصى اليهودي فيكتب (عليه السلام) أوصله إلي و
عرفنيه لأنفذه فيما ينبغي انشاء الله ".
لا صراحة فيهما بالبطلان، بل ولا ظهور بناء على أن المراد من الديان أهل
دينه وملته، وعن الشيخ حملها على انفاذه في الدين، لأنه أعلم بكيفية القسمة -
بينهم ووضعه مواضعه، وحينئذ يكون خارجا عما نحن فيه.
ومما عرفت يظهر لك قوة القول بالجواز مطلقا من غير فرق بين الحربي وغيره
والقريب وغيره، وإن دل على الجواز في الأول زيادة على ما عرفت عموم ما دل على
صلة الأرحام، وبرهم واعطائهم، والوصية لهم من الكتاب والسنة، حتى قوله تعالى (3):
" كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الوصية للوالدين " إلى آخر الآية لكن ذلك لا
يقتضي اختصاصهم بالجواز كما هو واضح.
ومن الغريب اعتماد بعض الأساطين على المنع في الحربي على ما حكي عن
الشيخ في بعض كتبه من قوله " لا تجوز الوصية للحربي عندنا " باعتبار اشعاره
بالاجماع وفيه مع أن الشيخ هو الذي حكى الخلاف ومنه يعلم عدم ظهور عندنا في
ذلك، إن اثبات الأحكام الشرعية بأمثال ذلك من مفاسد الفقه، مضافا لي ما عن مجمع
البيان من الاجماع على جواز أن يبر الرجل من يشاء من أهل الحرب قرابة كان أو
غير قرابة، وقال: وإنما الخلاف في اعطائهم مال الزكاة والفطرة والكفارات، فلم يجوزه
أصحابنا وفيه خلاف بين الفقهاء. والله العالم.
(ولا تصح الوصية لمملوك الأجنبي) أي غير الموصي ولا المطلق (ولا لمدبرة

(1) الوسائل الباب - 35 - من أبواب أحكام الوصايا.
(2) الوسائل الباب - 35 - من أبواب أحكام الوصايا.
(3) سورة البقرة الآية 180.
368

الأجنبي (ولا لأم ولده، ولا لمكاتبه المشروط أو الذي لم يؤد شيئا من مكاتبته، ولو
أجاز مولاه) اجماعا محكيا عن ظاهر المهذب وصريح التذكرة بل والتنقيح، لكن
خصه بالقن وأم الولد، وحكى الخلاف في المدبر والمكاتب عن المفيد والديلمي،
حيث جوزا الوصية له، خلافا للمبسوط وابني حمزة وإدريس، حيث منعوا فيهما و
جعله في الأول أشبه كما هو المشهور بين المتأخرين وقوى الجواز في الثاني، وفاقا
للشهيدين وفي الرياض لم أقف في شئ من كتب الأصحاب على من نقل الخلاف
عنهما في ذلك.
نعم عن المختلف والمهذب حكاية الخلاف عن المبسوط وابن حمزة في الوصية
لعبد الوارث، حيث جوزاه، وهذا الخلاف كسابقه لو صح النقل شاذ، بل على فساد
الأول ادعى الاجماع في التذكرة.
قلت: لا ينبغي التأمل في بطلان القول بصحة الوصية للمدبر وعبد الوارث،
بناء على عدم ملك العبد مطلقا، كما عرفت تحقيقه في كتاب البيع، أو غير ما يملكه
مولاه أو فاضل الضريبة أو أرش الجناية، ضرورة عدم كون ما نحن فيه من ذلك، بل هو
كذلك، في المدبر فضلا عن القن، وإن تحرر عند استحقاق الوصية بعد أن كان مملوكا
حالها، كما في القواعد ضرورة كونه حينئذ كالوصية للمعدوم حالها إذا وجد حال
الاستحقاق، فإن المنساق من أدلة مشروعية الوصية خلاف ذلك، وأنه بالموت يتحقق
ملك الموصى له، من غير توقف على شئ آخر، فالمتجه حينئذ البطلان في الفرض حتى
لو صرح باشتراط حريته عند استحقاق الوصية.
إنما الاشكال إن كان ففي المكاتب، لانقطاع سلطنة المولى عنه، ولذا يصح
بيعه واكتسابه، بل الوصية له نوع من الاكتساب، ومن هنا مال من عرفت وغيره كالكركي
إلى صحة الوصية له، لكن فيه أولا ما سمعت من دعوى الاجماع على عدم صحة الوصية
له، مضافا إلى ما تقدم في محله من عدم قابلية المملوك للملك، وأنه كل على مولاه لا
يقدر على شئ، كالبهائم، من غير فرق في ذلك بين جميع أفراده والكتابة لا تقتضي
قابليته للملك، وإن شرعت على وجه تتعقبها الحرية، إذا حصل الوفاء بما ضرب عليه
369

وإن كان هو مال السيد.
لا يقال: أن المراد من صحة الوصية له معاملة الموصى به معاملة ما يستفيده
بكسبه.
لأنا نقول إنه لم يثبت اقتضاء عقد الكتابة ذلك في غير كسبه، ودعوى أن قبول
الوصية والهبة له من كسبه يمكن منعها، ولو سلم اقتضاء اطلاقها ذلك، لكن يجب
الخروج عنه هنا بالاجماع المزبور.
وصحيح محمد بن قيس (1) عن أبي جعفر (عليه السلام) " في مكاتب كانت تحته امرأة حرة
فأوصت له عند موتها بوصية، فقال أهل الميراث لا تجوز وصيتها، أنه مكاتب لم يعتق
ولا يرث، فقضى أنه يرث بحساب ما أعتق منه، ويجوز له من الوصية بحساب ما أعتق
منه، وقضى في مكاتب أوصى له بوصية وقد قضى نصف ما عليه فأجاز نصف الوصية، و
قضى في مكاتب قضى ربع ما عليه فأوصى له بوصية فأجاز له ربع الوصية وقال في رجل
أوصى لمكاتبته وقد قضت سدس ما كان عليها فأجاز لها بحساب ما أعتق منها " ورواه
في الفقيه (2) عن أبي جعفر (عليه السلام) لكن فيه قال: " قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في مكاتب
إلى آخره، وكذا رواه في التهذيب (3) لكن بدون حديث النصف وزاد في آخره " وقضى
في وصية مكاتب قد قضى بعض ما كوتب عليه أن يجاز من وصيته بحساب ما أعتق منه، و
الظاهر إرادته وصية نفسه، كما هو مضمون غير واحد من النصوص، لا الوصية له الذي
هو مفروض المسألة.
والمناقشة في السند باشتراك محمد بن قيس بين الثقة وغيره يدفعها منع
الاشتراك في الراوي للقضايا، مع أن الراوي عنه هنا عاصم بن حميد، وهو قرينة -
واضحة على كونه البجلي الثقة، وأما إبراهيم بن هاشم فهو أجل من أن يوصف
بالوثاقة.

(1) الوسائل الباب - 80 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(2) الفقيه ج 4 ص 140 الرقم 558.
(3) التهذيب ج 8 ص 275 الحديث - 33 وإيضاح ج 9 ص 223 وفيه حديث النصف.
370

وكذا المناقشة في جامع المقاصد في الدلالة بأنها واقعة عين، لا عموم فيها -
بأنها واضحة الفساد لظهور دلالتها في المطلوب، بل صراحتها خصوصا مع ملاحظة
تقرير الورثة فيها على دعويهم، بل هي من النصوص المشتملة على سؤال وجواب قد
ترك الاستفصال عنه كما هو محرر في محله، كل ذلك مع تأيدها بما في خبر ابن
الحجاج (1) عن أحدهما (عليه السلام) " لا وصية لمملوك " الذي يظهر كون المراد منه ما نحن فيه
بملاحظة الخبر الآتي في المسألة الثانية باعتبار وقوع نحو ذلك فيه، ومفروض السؤال
أنه قد أوصى له بوصية فلا مجال حينئذ عن القول ببطلان الوصية له.
نعم لو كان قد تحرر بعضه صحت الوصية له بالنسبة.
ولو أوصى للجزء الحر منه كان فيه اشكال، أقواه عدم الصحة، لأن المالك من
تحرر بعضه، لا البعض المحرر، وبذلك وردت الأخبار وجرى عليه كلام الفقهاء الأخيار
مع أنه قد يقال: إن المالكية من الأعراض النفسانية، والمملوكية من الأعراض الجسمانية
وحصول الأولى للنفس الانسانية كاملا مشروط بانتقال الثانية عن البدن فإذا انتفت
عن بعضه ثبت الملك بالنسبة، وزوال الملك بالموت إنما هو لمدخلية اتصالها بالبدن
فيه.
ثم إن الظاهر من قول المصنف " ولو أجاز مولاه " راجع إلى الجميع، ويحتمل
الأخير، ويستفاد حكم غيره بطريق أولى، والغرض منه الرد به على بعض العامة القائلين
بذلك إذا استمر رقه.
وفيه: أن ملك المولى له مع عدم قصد الناقل وعدم معارضته بعين مملوكة له كي
يدخل معوضها في ملكه قهرا، وإن قصد الناقل خلافه - مخالف للضوابط الشرعية
التي منها أن العقود تابعة للقصود، والله العالم.
(و) كيف كان فلا خلاف في الظاهر كما اعترف به غير واحد في أنه (تصح)
الوصية (لعبد الموصي، ولمدبره، ومكاتبه، وأم ولده) في الجملة بل في جامع المقاصد
وعن المهذب الاجماع عليه في الجميع، وعن فخر الدين والصيمري الاجماع في الأول

(1) الوسائل الباب - 78 - الحديث - 2.
371

والتذكرة في الأخيرة، وهو الحجة بعد النصوص التي منها كما قيل الصحيحان:
في أحدهما (1): رجل أوصى بثلث ماله لمواليه ولمولياته الذكر والأنثى فيه سواء
أو للذكر مثل حظ الأنثيين من الوصية فوقع (عليه السلام) جائز للميت ما أوصى به على ما أوصى
به انشاء الله.
وفي الثاني (2) " رجل أوصى لمواليه وموالي أبيه بثلث ماله، فلم يبلغ ذلك، قال:
المال لمواليه وسقط موالي أبيه ".
وإن ناقش في الاستدلال بهما في الرياض باشتراك لفظ المولى بين العبد و
غيره، فلعله المراد دون الأول، ولا قرينة ترجح إرادته، بل لعل القرينة على خلافه
واضحة لظهورها في اعطاء الثلث للموصى له، بأن يسلم إليه دون أن يعتق منه بحسابه
وقد تدفع بظهور المولى في العبد وخصوصا في المقام، ولذا أسقط الوصية في الثاني
" موالي أبيه ".
وأما الاعطاء له فهو وإن كان ظاهر الخبرين ذلك، إلا أنه فسره غيرهما
بالعتق منه بحسابه، كما ستعرف، فلا بأس حينئذ بحمل ما فيهما عليه، والأمر في ذلك
سهل بعد عدم انحصار الدليل فيهما.
(و) المراد بصحة الوصية له أنه (يعتبر ما أوصى به لمملوكه بعد خروجه من
الثلث، فإن كان بقدر قيمته أعتق، وكان الموصى به للورثة، وإن كانت قيمته أقل
أعطى الفاضل، وإن كانت أكثر سعى للورثة فيما بقي) لكن قيده المفيد والشيخ في
النهاية بل والقاضي والديلمي على ما حكى عنهما ب‍ (ما لم تبلغ قيمته ضعف ما
أوصى له به، فإن بلغت ذلك) كما لو كانت قيمته مائتين والموصى بها له مائة (بطلت
الوصية) أما لو كانت قيمته مائتين مثلا، والموصى به ماءة وخمسين، ولكن الثلث ليس
إلا ماءة، سعى عندهم في قيمة نصفه، وهو ماءة كما صرح به في المسالك نافيا عنه
الخلاف، لعدم كون قيمته ضعف ما أوصى به، وإن لم يصل ذلك إليه لقصور الثلث.

(1) الوسائل الباب - 62 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1
(2) الوسائل الباب - 69 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3.
372

لكنه قد يناقش بأن المفروض في المقنعة والنهاية الوصية للعبد بالثلث، بل في
السرائر نسبة عبارة النهاية إلى الرواية بل لعل وجه اعتبار زيادة الحرية على
النصف بالوصية ولو يسيرا، كي يرجح ما فيه من الحرية على الآخر، فيستسعى بخلاف
ما إذا كانت قيمته ضعف ما أوصى له فما زاد، فإنه لا يتقضى الوصية حينئذ إلا النصف
فما دون، فلا ترجيح، فيبقى على أصالة عدم صحة الوصية للعبد، والأصل فيه الرواية
التي سمعتها عن السرائر، بل لعل ذلك ظاهر المقنعة أيضا، لأنه ذكر المسألة و
غيرها، ثم قال: بهذا جاء الأثر عن آل محمد (عليهم السلام).
(وقيل:) والقائل والد الصدوق والشيخ في الخلاف والحلبي والحلي
(تصح) الوصية مطلقا (ويسعى في الباقي كيف كان) ففي الفرض يسعى في
قيمة نصفه أي ماءة ويتحرى (وهو حسن) بل الأقوى وفاقا لمن عرفت، بل المشهور
بل عن الخلاف الاجماع عليه.
مضافا إلى اطلاق ما عن فقه الرضا (1) (عليه السلام) بناء على حجيته " فإن أوصى لمملوكه
بثلث ماله، قوم المملوك قيمة عادلة، فإن كانت قيمته أكثر من الثلث استسعى في
الفضيلة ".
وخبر الحسن بن صالح (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل أوصى لمملوك له بثلث
ماله قال: فقال: يقوم المملوك بقيمة عادلة، ثم ينظر ما ثلث الميت، فإن كان الثلث أقل
من قيمة العبد بقدر ربع القيمة، استسعى العبد في ربع القيمة، وإن كان الثلث أكثر
من قيمة العبد أعتق العبد، ودفع إليه ما فضل من الثلث بعد القيمة " بناء على أن
المراد بقوله " بقدر " إلى آخره المثال لغيره، لا خصوصه فما دون للاجماع على مساواة
الثلث ونحوه ما لم يبلغ النصف في هذا الحكم.
ومن ذلك يظهر وجه الاستدلال بالخبر المزبور لكل من القولين، فإن المفيد
وأصحابه يجعلونه مثالا لما لم يبلغ النصف من الأقل مما لا تزيد فيه الحرية على النصف

(1) المستدرك ج 2 ص 520.
(2) الوسائل الباب - 79 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
373

لأصالة بطلان الوصية للعبد.
والمشهور يجعلونه مثالا لجميع أفراد الأقل، ويشهد له الاجماع المحكي
المعتضد بالشهرة، واطلاق الرضوي وغير ذلك، كما يشهد للأول ما سمعته من المرسلة
في السرائر، وظاهر المقنعة.
ومن الغريب تقريب الكركي وثاني الشهيدين وغيرهما الاستدلال للمفيد بالخبر
المزبور بدلالة المفهوم، على معنى أنه لو لم يكن أقل بقدر الربع، لا يستسعى، و
إنما يتحقق عدم الاستسعاء من البطلان، ثم اعترضوا عليه بأن المفهوم إن لم يكن
الثلث أقل من قيمة العبد بقدر الربع، لا يستسعى في ربع القيمة، لا أنه لا يستسعى
مطلقا، وهذا مفهوم صحيح لا يفيد مطلوبهم، فلا ينافي القول بأنه يستسعى بحسبه
فإن كان أقل بقدر الثلث، يستسعى في الثلث، أو بقدر النصف يستسعى في النصف
وهكذا، وأيضا لو كان المفهوم الذي ذكروه صحيحا لزم منه أنه متى لم يكن الثلث أقل
من قيمته بقدر الربع لا يستسعى، بل تبطل الوصية، وهذا شامل لما لو كانت القيمة قدر
الضعف، أو أقل من ذلك إلى أن يبلغ النقصان قدر الربع، فمن أين خصوا البطلان
بما لو كانت القيمة قدر الضعف، بل قال في المسالك: " ما هذا الأعجب عن مثل هذين
الشيخين الجليلين ".
ولا يخفى عليك أن مبنى استدلال المفيد إن كان، هو ما عرفت من أن الأصل
بطلان الوصية للعبد، والمتيقن مما في الرواية كونه مثالا للأقل من النصف ولو بقرينة
ما عرفت، لا المفهوم المزبور الذي لا يكاد يخفى فساده على أصاغر الطلبة، وأما
المناقشة في سند الخبر، فيدفعها اتفاق الجميع على العمل به.
بقي الكلام في شئ وهو إن الفاضل في المختلف وافق المشهور فيما إذا كانت
الوصية بجزء مشاع من التركة كالثلث والربع والخمس ونحو ذلك، فإن العبد حينئذ
يكون من جملته، فكأنه قد أوصى بعتق جزء منه، فيعتق ويسري في الباقي، ويدفع
عنه من الوصية، لأنه في قوة الوصية بعتقه، بخلاف ما لو كانت بجزء معين،
كدار أو بستان، أو جزء مشاع منه كنصفهما، فإنه تبطل الوصية، لعموم (1) " لا وصية

(1) الوسائل الباب - 78 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
374

لمملوك " ولعدم ما سمعته في المشاع، ولأن تنفيذ الوصية بالمعين محال، لامتناع
ملك العبد، والتخطي إلى رقبته يقتضي تبديل الوصية.
وفيه - مع منافاته لاطلاق الأصحاب كما اعترف به في محكي التذكرة، بل فيها
أن كلمة الأصحاب متفقة على عدم الفرق وكذا عن المهذب بل واطلاق الخبر المزبور
فإن الثلث فيه أعم من المشاع والمعين، بل لو سلم إرادة الأول كان أعم أيضا مما
يشمل ثلث العبد وغيره، بل قد يدعى أن المنساق من مثله الثاني - أنه ليس ذلك
مبني الصحة حتى يختص بالمشاع، ضرورة عدم صحة الوصية أيضا للعبد بثلثه، فإنه
غير قابل لأن يملك غيره، فضلا عن أن يملك نفسه، وتنزيله على إرادة عتقه وفكه
للسراية بما أوصى له غير ظاهر من الوصية، ولو كان عدم قابلية العبد للملك سببا
لتنزيل الوصية على ذلك، لاتجه ذلك في عبد الغير أيضا، فضلا عن الوصية لعبده
المعين.
ومن هنا كان الظاهر أن الحكم المزبور مستفاد من الشارع، لا أنه مستفاد من
الموصي، بل لا يبعد تنزيله على ذلك حتى لو علم قصد الموصي غيره، بل لعله هو
الظاهر، ضرورة ظهور عبارته في إرادة تمليكه ما أوصى له به، لا فكه به وعتقه منه، ومن
ذلك قلنا أن الموافق للضوابط بطلان الوصية لولا الأدلة الشرعية التي عرفتها وقد
سمعت أن مقتضاها عدم الفرق بين الجزء المشاع والمعين، ومن الغريب: قول
بعضهم أنه ما أمتن تحقيق المختلف، وأغرب منه عدم عضه في المسالك على ذلك
بضرس قاطع، بل هو ظاهر في التردد والوسوسة، وإن كان قد عد ذلك تحقيقا فلاحظ
وتأمل.
وعلى كل حال فهل يحتاج إلى صيغة عتق في صورة زيادة الثلث على
القيمة كما عساه يشعر به قوله " أعتق "، أولا، كما عساه يشعر به قوله في صورة القصور
" استسعى العبد في ربع القيمة " بناء على عدم الفرق بينهما بالنسبة إلى ذلك فيكون
المراد حينئذ من قوله " أعتق " الانعتاق شرعا، وجهان: أحوطهما الأول والله هو
العالم.
375

ثم إن ظاهر عبارة المصنف وغيرها عدم الفرق فيما ذكره من التقويم بين القن و
غيره، اللهم إلا أن يكون ما ذكره بقوله " ويعتبر ما أوصى به لمملوكه " إلى آخر راجعا
إلى الأول، ولعل ذلك متعين، ضرورة أنه لا وجه لاجراء ما ذكره على المدبر والمكاتب
وأم الولد، خصوصا بعد ذكره الأخير مستقلا، والمدبر غير محتاج إلى اعتاق، بل ولا
إلى ملاحظة مساواة الموصى به لقيمته، وزيادته وقلته بحيث يبلغ قيمته الضعف على
القول به، بل هو بمجرد موت السيد يتحرر، فإن كان له مال أخذ ما يقابل الثلثين عن
ثلثه، وإلا سعى في ذلك.
ومن هنا يظهر أنه غير مندرج في الخبر المزبور الذي هو العمدة في اثبات
صحة الوصية للعبد بعد الاجماع كما اعترف به في المسالك.
نعم قد يقال: إنه أولى من القن الذي هو موضوع خبر الحسن بن صالح (1) على
الظاهر، مضافا إلى ما سمعته من الاجماع المحكي، فتصح الوصية حينئذ له، وتصرف
في فكه أو تعطى له مع فكه من غيرها كما سمعته في القن، بل لعل ذلك أولى ضرورة
كونهما وصيتين له، فيعتق حينئذ من الثلث، وتدفع الوصية له كما في صورة زيادة الموصى
به على قيمته، فإنه لا اشكال ولا خلاف في دفع الزيادة له.
ولا ينافي ذلك أن المراد بصحة الوصية له صرفها في فكه من الرق، لامكان
كون ذلك حيث لا يكون سبب غيرها لحريته كالتدبير الذي هو مع الوصية له بمنزلة
الوصية بعتقه، ودفع الموصى به له من غير فرق بين تقدمها على التدبير وتأخرها
عنه، وبين كون الوصية بالجزء المشاع والمعين، واحتمال بطلان التدبير فيما لو فرض
تأخر الوصية عنه وكانت بالجزء المشاع باعتبار أنها بمنزلة الوصية بعتقه الظاهرة في
العدول عن التدبير، وكذا احتمال بطلان الوصية له لو فرض تأخر التدبير عنها لنحو
ذلك أيضا - واضح الضعف بل الفساد، ضرورة عدم انحلال ذلك إلى ما سمعت بل
لا يبعد تأكد الوصية بتدبيره بالوصية له بالجزء المشاع.
ولذا قال في القواعد: " لو أوصى لعبده برقبته احتمل ضعيفا البطلان، لعدم

(1) الوسائل الباب - 79 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
376

قابلية العبد ملك غيره، فضلا عن نفسه، والتدبير حملا للوصية على ذلك بتعذر -
الحمل على الحقيقة، وفي جامع المقاصد أن عليه: أي الثاني الفتوى، وإن قد
يناقش إرادة التدبير الذي هو انشاء عتق معلق على الموت من ذلك، اللهم إلا
أن يكون حكم التدبير على معنى حصول الحرية بالموت بعد فرض قيام الثلث بقيمته
كما في المدبر والله العالم.
وأما مكاتب السيد فلا ريب في عدم شمول الخبر المزبور له ولعله، ولما عساه
يشعر من النصوص السابقة من اعتبار صحة الوصية للمكاتب بتحرير بعضه، حتى في
مكاتب الانسان نفسه، قد يحتمل بطلان الوصية له، كمكاتب الغير، لكن لا ريب في
ضعفه، خصوصا بعد ما سمعته من الاجماع المحكي، إذ لو سلم عدم شمول الخبر له، فلا
ريب في أولويته من القن بذلك، بل قد عرفت أن جماعة جوزوا الوصية له إذا كان
للغير، وإن كان قد عرفت ما فيه.
إنما الكلام في أن إعتاقه كالقن باعتبار قيمته، وقيمة ما أوصى له به، من غير
ملاحظة لما وقعت الكتابة عليه، زاد على ذلك أو نقص، أو باعتبار ما وقعت الكتابة عليه
من غير ملاحظة لقيمته، ويعطى حينئذ الوصية، ويؤدي منه ما عليه من مال الكتابة
على ما حسب ما لو اكتسب، أو باعتبار أقل الأمرين منهما وجوه ثلاثة، قد اختار الأخير
منها الفاضل في قواعده والمحقق الثاني عملا بكل من الدليلين، فلا يلزم إلا بالأقل
للاجماع على عدم وجوبهما معا، كالاجماع على عدم التوزيع، ولكن يقوى في النظر الثاني
منهما لما عرفت من عدم شمول خبر المقام له، وإنما صححنا الوصية له بالأولوية والكتابة
من العقود اللازمة التي لا تنفسخ بالموت، وحينئذ ما لها كالدين في ذمته يجب عليه
أداؤها، ولا يقوم مقامها أداء قيمته مما أوصى له بعد فرض عدم شمول الدليل له على
أن احتمال الالزام بالأكثر مراعاة لحق الورثة، مقابل لاحتمال الأقل كما هو واضح
والله العالم.
بل قد يقال: إن فحوى ما سمعته في القن يقتضي صرف ما أوصى له في فلك رقبته
لو كان مشروطا ولو بعضها، كما أنه يقتضي صرف ما قابل الجزء المملوك من المطلق،
377

الذي تحرر بعضه في فكه أيضا، وإن أعطى ما قابل الجزء الحر من الوصية، ضرورة
اندراجه في المملوك الشامل للكل والبعض وحينئذ فمع فرض تحرره بذلك يخرج عن
موضوع الكتابة كما لو أعتقه فتأمل جيدا والله العالم.
(وإذا أوصى بعتق مملوكه) ولم يكن عنده سواه، (و) كان (عليه دين)
يحيط بقيمته بطلت وصيته، وبيع المملوك في الدين، وإن لم يكن محيطا به (ف‍) عند
جماعة أنه (إن كانت قيمة العبد بقدر الدين مرتين أعتق المملوك) لنفوذ وصيته في
ثلثه وهو هنا سدس العبد فإن نصفه للدين، وثلثا من النصف الثاني للوارث فيبقى
السدس ثلث الموصي، فإذا انعتق السدس سرى في الجميع (ويسعى) العبد
حينئذ (في خمسة أسداس قيمته) ثلثه منها للدين، وسدسان منها للورثة، وكذلك
لو كان أزيد من المرتين، وإن نقص مقدار ما سعى به، (وإن كانت قيمته أقل) من
الدين مرتين أحاط بها أو لا (بطلت الوصية بعتقه) عند الشيخين وابن البراج و
غيرهم لما تسمعه من النصوص الواردة في التنجيز الذي هو كالوصية في الحكم، وغير
ذلك، ولكن مع هذا، (والوجه) عند المصنف وجماعة (أن الدين يقدم على الوصية
فيبدء به) إن كان له تركة غير العبد وإلا كان في مقابلة بعض العبد (ويعتق منه
الثلث مما فضل عن الدين) وإن قل ثم يسعى للدين والورثة.
قال الحلبي (1) قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل قال: إن مت فعبدي حر، وعلى
الرجل دين، فقال: إن توفي وعليه دين قد أحاط بثمن الغلام بيع العبد، وإن لم
يكن قد أحاط بثمن العبد استسعى في قضاء دين مولاه وهو حر إذا أوفى " وعدم
ذكر الورثة فيه للوضوح، وإلا فالمراد سعيه في قضاء دين مولاه أو لا، ثم في حق
الورثة، وما يقال: من أن الصحيح المزبور في التدبير، وهو كالعتق المنجز فلا يستفاد
منه حكم الوصية، يدفعه ما دل عليه أن التدبير كالوصية بالعتق، ولا يتوهم من عبارة
المتن أنه لا ينعتق من العبد ما قابل الدين، بل الذي يعتق منه الثلث مما فضل عن
الدين لا غير، ضرورة منافاته لما دل على سراية العتق، ومن هنا صرح به في القواعد

(1) الوسائل الباب - 39 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3
378

وغيرها، بل لا أجد فيه خلافا بين القائلين بذلك، قال فيها: " ولو أوصى بعتق مملوكه
وعليه دين قدم الدين، فإن فضل من التركة ما يسعه ثلث قيمة العبد عتق، وإلا
عتق ما يحتمله، ويسعى في الباقي، ولو لم يبق شئ بطلت، وقيل: إن كانت قيمته
ضعف الدين عتق، وسعى في خمسة أسداس قيمته، ثلثه للديان، وسهمان للورثة
وإن كانت أقل بطلت " وحينئذ فالخلاف في الصورة الثانية لا الأولى، هذا كله في
الوصية.
(أما لو نجز عتقه عند موته كان الأمر كما ذكرناه أولا) من السعي في الخمسة
أسداس، لو كانت القيمة بقدر الدين مرتين، والبطلان إذا كانت أقل من ذلك (عملا
براوية عبد الرحمن) بن الحجاج (1) (عن أبي عبد الله عليه السلام) " قال: سألني أبو عبد
الله (عليه السلام) هل يختلف ابن أبي ليلى وابن شبرمة؟ فقلت: بلغني أنه مات مولى
لعيسى بن موسى وترك عليه دينا كثيرا، وترك مماليك يحيط دينه بأثمانهم فأعتقهم
عند الموت، فسألهما عيسى بن موسى عن ذلك، فقال ابن شبرمة: أرى أن تستسعيهم
في قيمتهم فتدفعها إلى الغرماء فإنه قد أعتقهم عند موته، وقال ابن أبي ليلى: أرى
أن أبيعهم وأدفع أثمانهم إلى الغرماء، فإنه ليس له أن يعتقهم عند موته، وعليه
دين يحيط بهم، وهذا أهل الحجاز اليوم يعتق الرجل عبده وعليه دين كثير،
فلا يجيزون عتقه إذا كان عليه دين كثير، فرفع ابن شبرمة يده إلى السماء فقال:
سبحان الله يا بن أبي ليلى متى قلت هذا القول؟ والله ما قلت إلا طلب خلافي،
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): وعن رأي أيهما صدر؟ قال: قلت: بلغني أنه أخذ برأي
ابن أبي ليلى، وكان له في ذلك هو، فباعهم وقضى دينه، قال: فمع أيهما من
قبلكم؟ قلت له: مع ابن شبرمة، وقد رجع ابن أبي ليلى إلى رأي ابن شبرمة بعد
ذلك، فقال: أما والله إن الحق لفي الذي قال ابن أبي ليلى، وإن كان قد رجع
عنه، فقلت له: هذا منكسر عندهم في القياس، فقال: هات قايسني، فقلت: أنا
أقايسك؟ فقال: لتقولن بأشد ما يدخل فيه من القياس، فقلت له: رجل ترك عبدا
لم يترك مالا غيره، وقيمة العبد ستمأة درهم، ودينه خمسمائة درهم، فأعتقه عند

(1) الوسائل الباب - 39 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 5.
379

الموت كيف يصنع؟ قال: يباع العبد فيأخذ الغرماء خمسمائة درهم، ويأخذ الورثة ماءة
درهم، فقلت: أليس قد بقي من قيمة العبد ماءة درهم من دينه، فقال: بلى، قلت:
أليس للرجل ثلثه يصنع به ما شاء؟ قال: بلى، قلت: أليس قد أوصى للعبد بالثلث من
الماءة حين أعتقه؟ فقال: إن العبد لا وصية له، إنما أمواله لمواليه، فقلت له: فإن
كان قيمة العبد ستماءة درهم، ودينه أربعماءة فقال: كذلك يباع العبد فيأخذ -
الغرماء أربعماءة درهم، يأخذ الورثة مأتين ولا يكون للعبد شئ، قلت له: فإن
كان قيمة العبد ستماءة درهم ودينه ثلثماءة درهم، فضحك؟ وقال: من هيهنا أتى
أصحابك جعلوا الأشياء شيئا واحدا، ولم يعلموا السنة، إذا استوى مال الغرماء
ومال الورثة، أو كان ما الورثة أكثر من مال الغرماء ولم يتهم الرجل على وصيته،
وأجيزت وصيته على وجهها، فالآن بوقف هذا فيكون نصفه للغرماء، ويكون ثلثه
للورثة، يكون له السدس ".
وصحيح زرارة (1) عن أحدهما (عليه السلام) " في رجل أعتق مملوكه عند موته وعليه دين
فقال: إن كان قيمته مثل الذي عليه ومثله جاز عتقه، وإلا لم يجز " وفي صحيح آخر (2)
" إذا ملك المملوك سدسه استسعى " إلى غير ذلك من النصوص التي لا محيص عن
العمل بها، بعد جمعها لشرائط الحجية من حيث السند والدلالة والعمل، فلا بأس
حينئذ بتخصيص العمومات بها، ولو كانت قطعية، ودعوى اعراض المشهور عنها ممنوعة
على مدعيها، فما وقع من الفاضل - وغيره من طرحها والرجوع إلى ما تقتضيه القواعد
العامة من نفوذ العتق في ثلث الزائد عن الدين مطلقا - واضح الضعف وأضعف
منه ما عن الحلي من نفوذ العتق من الأصل، وسقوط الدين من رأس، ولعله مبني
على كون المنجز من الأصل الذي قد عرفت ضعفه في كتاب الحجر، إنما الكلام هنا
في الحاق الوصية بالعتق المنجز في الحكم المزبور، وقد عرفت من جماعة إلحاقه،
بل حكى عن جميع العاملين بالنصوص المزبورة في العتق عدا المصنف، ولعله
لاطلاق الصحيح الأخير، ومعلومية اتحاد المنجز مع الوصية، بناء على خروجهما من

(1) الوسائل الباب - 39 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 6 - 1
(2) الوسائل الباب - 39 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 6 - 1
380

الثلث - في أكثر الأحكام، بل ربما احتمل عموم " أعتقهم " لهما معا، أو اختصاصها
بالوصية خصوصا بعد قوله في الذيل ولم يتهم الرجل على وصيته وأجيزت وصيته
على وجهها " ومع الاغضاء عن ذلك، فلا ريب في ظهور سياقها فيه، مضافا إلى
أولويتها من المنجز بالحكم المزبور، ضرورة كونه أقوى منها، حتى قيل: إنه من الأصل
بخلافها، ومع ذلك بطل إذا نقص عن مقابلة الدين مرتين، فهي أولى منه قطعا ومن
ذلك وغيره يتجه تخصيص العمومات، وصحيح التدبير السابق بذلك، على
أنه قد احتمل حمله على التقية، لأنه مذهب العامة في تلك الأزمنة، كما يستفاد من سياق
تلك الصحيحة والله العالم.
(ولو أوصى لمكاتب غيره المطلق و) كان (قد أدى بعض مكاتبته كان له
من الوصية بمقدار ما أداه) لأنها تصح له على قدر ما تحرر منه، إن نصفا فنصف، و
إن ثلثا فثلث، كما عرفت الكلام فيه سابقا، وفيما لو أوصى للجزء الحر منه أيضا فلاحظ
وتأمل.
لكن لو قلنا بصحة الوصية للجزء الحر فهل تكون أيضا على نسبته أو يملك الكل
به؟ وجهان، أقواهما الثاني، والله العالم.
(ولو أوصى الانسان لأم ولده، صحت الوصية من الثلث) بلا خلاف، كما
اعترف به غير واحد، ولا اشكال (و) إنما الكلام في أنها (هل تعتق من الوصية)
إذ أوفت بقيمتها (أو من نصيب ولدها) أو على التخيير بينهما، أو من ثلث الميت
غير ما أوصى به.
(قيل:) والقائل جماعة منهم الكركي في جامعه (تعتق من نصيب ولدها
وتكون لها الوصية، قيل:) والقائل أيضا جماعة منهم المصنف في باب الاستيلاد
(بل تعتق من الوصية) بل عن المهذب نسبته للشهرة (لأنه لا ميراث إلا بعد
الوصية) وفي الرياض أنه وسابقه قولان مشهوران، وفي غيره متكافئان، وقيل: و
القائل الصدوق فيما حكى عنه، تعتق من ثلث الميت وتعطى ما أوصى لها به،
وقيل: والقائل الإسكافي تخير في عتقها بينهما، عملا بكل من الدليلين، بعد
381

الاجماع على عدم التوزيع بينهما، والأقوى في النظر منها الثاني، لعموم ما دل عليه
من النص وغيره، مضافا إلى قاعدة انعتاق الأبوين بحصول سبب ملك الولد لهما،
ولا ريب في تحققه هنا باعتبار ملك الوارث للتركة بموت الموروث، وهي من التركة
قطعا، حتى لو قلنا بكون الثلث الموصى به على حكم مال الميت، ولا يدخل في
ملك الوارث إلا الثلثان، ضرورة كونها منهما دونه، ومجرد الوصية لها لا يخرجها
عن ذلك.
واحتمال تنزيلها منزلة ما أوصى بعتقها فتكون منه دونهما.
يدفعه منع ذلك أولا.
وثانيا: أنه لا يجدي فيما لو فرض زيادة قيمتها على ما أوصى به لها، فإنه لا
اشكال حينئذ في كون الزايد تركة للورثة، فيدخل جزء منها في ملك الولد، و
ينعتق عليه، ويسري في الغير، ويتم ذلك بعدم القول بالفصل، مضافا إلى اطلاق
النصوص جعلها في نصيب ولدها.
واحتمال دفع قيمتها مما أوصى به لها وإن انعتقت على الولد بملك جزء
منها وجعل الباقي في نصيبه.
يدفعه أيضا معلومية اقتضاء جعلها في نصيب ولدها الانعتاق على الولد،
وأن الغرامة عليه.
وبذلك كله يظهر لك ضعف الأقوال جميعها، وإن شهد للثالث منها المرسل عن
أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (1) " في أم الولد إذا مات عنها مولاها، وقد أوصى لها، قال:
تعتق من الثلث ولها الوصية ".
وصحيح أبي عبيدة (2) المروي في الكافي وغيره قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
رجل كانت له أم ولد وله منها غلام فلما حضرته الوفاة أوصى لها بألفي درهم أو أكثر،
للورثة أن يسترقوها؟ قال: فقال: لا، بل تعتق من ثلث الميت وتعطى من ثلثه ما أوصى
لها به، وفي كتاب العباس تعتق من نصيب ابنها، وتعطى من ثلثه ما أوصى لها به ".

(1) الوسائل الباب - 82 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3 - 4.
(2) الوسائل الباب - 82 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3 - 4.
382

وكان المراد أنه قد روي الخبر المزبور في كتاب العباس على هذا النحو، و
حينئذ يكون نصا في المختار، بخلافه على النحو الأول، فإنه يكون مهجورا معرضا
عنه بين الأصحاب، بل لم أجد عاملا به عدا ما يحكى عن الصدوق، بل عن التنقيح
الاجماع على عدم العمل به؟ مع أنه محتمل لأم الولد التي قد مات ولدها، كما في
خبر أحمد بن محمد بن أبي نصر (1) عن أبي الحسن (عليه السلام) " قال: نسخت من كتاب بخط
أبي الحسن (عليه السلام): فلان مولاك توفي ابن أخ له، وترك أم ولد له ليس لها ولد،
فأوصى لها بألف درهم هل تجوز الوصية؟ وهل يقع عليها عتق، وما حالها؟ رأيك
فدتك نفسي، فكتب (عليه السلام) تعتق من الثلث، ولها الوصية " وإن كان هو على هذا
التقدير محتاجا إلى التأويل، لما عرفته من حكم الوصية للمملوك الذي منه أم الولد،
مع فرض موت ولدها، في حياة سيدها قطعا، فلا بد من تأويله بإرادة العتق من
الوصية بالعتق من الثلث، وتعطى ما فضل منها على تقدير الزيادة، أو بإرادة عتقها
في مرض الموت، ثم أوصى لها، أو بغير ذلك هذا.
وفي الرياض بعد أن ذكر الرواية مستدلا بها للقول الثالث ثم حكى الاجماع على
الاعراض عنها، وأنه لا بد من تأويلها بأحد الأمرين، قال: لكن يرجح حملها على الأول،
دلالة مقابلتها برواية العباس التي هي في آخرها مذكورة، على كون موردهما
واحدا، لا ريب في أنه في الثانية هو أم الولد التي لم تعتق بالكلية، فلتكن مورد
الأولى أيضا تلك الجارية، مضافا إلى شيوع اطلاق الثلث على الوصية، مع احتمال
أن يكون المراد منه تأكيد الحكم الأول من انعتاقها من الثلث، وهذا إن لم نقل
بكونه ظاهرا من الرواية ليس ببعيد، كبعد الحمل الآخر بلا شبهة، فيمكن بملاحظة
الاجماع وقرينة المقابلة أخذها للقول بالانعتاق من الوصية حجة، كما هو ظاهر
التنقيح وصريح الكفاية، فإذا هو في غاية القوة ".
قلت: قد عرفت أنه في غاية الضعف، والخبر بعد تسليم ما ذكره فيه من المأول
الذي لا يكون حجة، والمقابلة التي ذكرها هي ليست في الخبر، حتى تصلح لأن

(1) الوسائل الباب - 82 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
383

تكون قرينة، بل هي من الكافي، لا أنها كذلك في الخبر نفسه، كما هو واضح.
نعم ما في كتاب العباس على ما عرفت دليل تام على المطلوب، وأما التخيير
ففيه أنه لا وجه له فيما كان من القهريات، فإن الانعتاق القهري الذي يكون على
الولد لا وجه للتخير فيه، بل وكذا على تقدير الانعتاق من الوصية، بناء على أنه
مثل الانعتاق من الولد، بمعنى ينعتق منها ما قابل الموصى به بموت الموصي من
غير حاجة إلى صيغة، وإن كان هو مشكلا لعدم دليل يصلح لذلك، والله العالم.
(واطلاق الوصية) لجماعة محصورة (يقتضي التسوية) ما بينهم من غير
فرق بين الغريب والبعيد، والذكر والأنثى، والفاضل في الإرث وغيره، بلا خلاف ولا
اشكال للتساوي في سبب الملك، فهم كالمشتركين في الحيازة مثلا، بل الظاهر عدم
اعتبار قصد الموصي في ذلك.
نعم يعتبر فيه عدم قصد الخلاف فالتسوية المزبورة حينئذ شرعية، واحتمال
بطلان الوصية - لعدم قصد الموصي تشخيص الملك للموصى له، يدفعه أنه خلاف
مقتضى عموم الكتاب والسنة، ومعقد الاجماع مضافا إلى خصوص الفتوى به هنا على وجه
لم يظهر فيه خلاف.
نعم لو لم تكن الجماعة محصورة كان المراد من الوصية الصرف فيهم، كما في كل
موصى له غير محصور، بل لو كان بلفظ الجمع لم يجب ملاحظة أقل مصداقه في
الامتثال، وإن كان هو الأحوط.
(و) كيف كان (فإذا أوصى لأولاده وهم ذكور وإناث، فهم فيه سواء، و
كذا لأخواله وخالاته، أو لأعمامه وعماته، وكذا لو أوصى لأخواله وأعمامه، كانوا سواء
على الأصح) لما عرفت، خلافا للمحكي عن الشيخ وجماعة، وإن لم أتحقق ذلك
فكالإرث، ولا ريب في ضعفه، بل عن ظاهر التذكرة الاجماع على خلافه، (و) إن
كان (فيه رواية) صحيحة لكنها (مهجورة) وهي صحيحة زرارة (1) عن الباقر (عليه السلام)
" في رجل أوصى بثلث ماله في أعمامه وأخواله فقال: لأعمامه الثلثان، ولأخواله الثلث "

(1) الوسائل الباب - 62 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
384

وقد حملت أيضا على ما لو أوصى بذلك على كتاب الله، وكذا الخبر الآخر (1) الضعيف
المقتضي لقسمة الوصية للأولاد بين الذكور والإناث على كتاب الله " وفي المسالك لم
يعمل به أحد، هذا كله إذا أطلق في الوصية. (أما إذا نص على التفضيل اتبع) لعموم من بدله، وما دل على انفاذ الوصية
على حسب ما أوصى به الموصي (وإذا أوصى لذوي قرابته كان للمعروفين بنسبه
مصيرا إلى العرف) كما هو الضابط في كل لفظ:
قال محمد بن أبي نصر (2): " نسخت من كتاب بخط أبي الحسن (عليه السلام) رجل أوصى
لقرابته بألف درهم، وله قرابة من قبل أبيه وأمه، ما حد القرابة يعطي من كان بينه و
بينه قرابة، أو لها حد ينتهى إليه؟ فرأيك فدتك نفسي، فكتب (عليه السلام) إن لم يسم
أعطاها قرابته " وكذا عن الحميري إلا أنه " قال: أعطى أهل بيت قرابته " من غير فرق
بين الوارث وغيره، والمسلم والكافر، والذكر والأنثى، والفقير والغني، كما أنه لا فرق،
في انصراف الوصية إلى الموجود منهم، سواء اتحد أو تعدد، وسواء ذكرهم في الوصية
بصيغة الجمع أو الأفراد.
(وقيل:) والقائل الشيخ على ما حكي عنه (كان) أي الموصى به (لمن
يتقرب إليه إلى آخر أب وأم له في الاسلام) بمعنى الارتقاء بالقرابة من الأدنى
إليه إلى ما قبله، وهكذا إلى أبعد جد في الاسلام وفروعه، ويحكم للجميع بالقرابة، ولا
يرتقى إلى آباء الشرك، وإن عرفوا بقرابة عرفا، وهو عجيب.
وأعجب منه الاستدلال له بقوله (عليه السلام) (3) " قطع الاسلام أرحام الجاهلية " وقوله
تعالى (4) لنوح عن ابنه " إنه ليس من أهلك ".
وهما كما ترى لا يدلان على تمام المطلوب، بل ولا على شئ منه، ضرورة كون

(1) الوسائل الباب - 64 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
(2) الوسائل الباب - 68 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(3) ما عثرنا على هذه الرواية بعد الفحص في مظانها من كتب الخاصة والعامة.
(4) سورة هود الآية 46.
385

المدار هنا على صدق اللفظ، ولا ريب فيه لغة وعرفا على المعروفين بنسبه، وإن
كانوا كفارا، إلا أن تكون هناك قرينة على إرادة المسلم نحو ما ذكروه في الفقراء، كما
أنه لا ريب في عدم صدقه على البعيد، بحيث لا يعرف بنسبه وإن كان مسلما ومن هنا
قال المصنف: (وهو غير مستند إلى شاهد).
وأما ما يحكى عن الإسكافي من أني لا أختار أن يتجاوز بالتفرقة ولد الأب
الرابع، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتجاوزه في تفرقة سهم ذوي القربى من الخمس.
فقد يدفعه العرف أيضا وفعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يدل على نفي القرابة مطلقا عما
عداه، فإن ذلك معنى آخر للقرابة، وأضعف منه القول باختصاص القرابة بالوارث،
دون غيره، والقول باختصاصها بالمحرم من ذوي الأرحام دون غيرهم، كبني الأعمام
والأخوال، مع أنهما مجهولا القائلين والله العالم.
(ولو أوصى لقومه قيل:) والقائل الشيخان وأكثر الأصحاب في المسالك و
المشهور في غيرها (هو ل‍) لذكور من (أهل لغته) أو مطلقا ذكورا، وإناثا، و
هو كما ترى يشهد العرف بخلافه، ولعله لذلك نسبه المصنف إلى القيل، بل عن
ابن إدريس أنهم الرجال من قبيلته ممن ينطق العرف بأنهم أهله وعشيرته دون
من سواهم، وعليه قول الشاعر:
قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي
ولا بأس به وإن سلمنا كونه في اللغة كما ذكروه والله العالم.
(ولو قال: لأهل بيته، دخل فيهم الآباء والأولاد) وإن نزلوا (والأجداد)
وإن علوا قطعا، بل الظاهر دخول الأعمام وأولادهم، بل عن تذكرة الفاضل تفسيره
بالقرابة التي يدخل فيها الأخوال وفروعهم، وحكى عن ثعلب أنه قال: أهل البيت
عند العرب آباء الرجال وأولادهم، كالأجداد والأعمام وأولادهم ويستوي فيه الذكور،
والإناث، وفي المسالك " ما اختاره العلامة من مساواة أهل البيت للقرابة هو الظاهر
في الاستعمال، يقال: الفلانيون أهل البيت في النسب معروفون، وعليه جرى قوله (1)

(1) الوسائل الباب - 29 - من أبواب المستحقين للزكاة الحديث - 6.
386

(صلى الله عليه وآله وسلم) إنا أهل البيت لا تحل لنا الصدقة، قلت: هو جيد، لكن قد يمنع شموله للأخوال
والخالات وفروعهم، ونعم ما سمعته من ثعلب، كما أنه لا اشكال في عدم كونه ما في
المتن خاصة، وإلا لخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو باطل
اجماعا، كما في المسالك.
وعلى كل حال فالأقوى الرجوع إلى عرف بلد الموصى، ومع انتفائه يدخل كل
قريب، وأما أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) * فإنهم أخص من ذلك، بالرواية (1) الواردة عنه في
حصرهم في أهل الكساء، والله العالم.
(ولو قال لعشيرته، كان لأقرب الناس إليه في نسبه) عند جماعة من الأصحاب
ففي محكي القاموس: عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون، وعن الفاضل أن العشيرة
هي القرابة مطلقا وفي المسالك " الأجود الرجوع إلى العرف، ومع انتقاله فالعموم
حسن " قلت: لكن الظاهر تحقق العرف في القبيلة، لا خصوص الأقرب، ولا مطلق
القرابة، والله العالم.
(ولو قال لجيرانه) كان للقريبين منه، وفي المتن (قيل: كان لمن بلى دراه
إلى أربعين ذراعا من كل جانب، وفيه قول آخر مستبعد) وهو من يلي داره إلى
أربعين دارا، وإن كان فيه روايات من الطريقين (2) إلا أنه مخالف للعرف، كما أن
التحديد بالأربعين ذراعا لم نقف له على شاهد، فالأولى جعل المدار على العرف
والمشكوك فيه خارج، وتمام البحث في ذلك مر في باب الوقف.
(وتصح الوصية للحمل الموجود) حال الوصية، وإن لم يكن قد حلته الحياة
بلا خلاف أجده فيه، لعموم ما دل على جوازها (و) لكن لا (تستقر) إلا
(بانفصاله حيا) كالإرث (و) حينئذ ف‍ (لو وضعته ميتا بطلت الوصية) بمعنى
ظهور بطلانها، وإن كان قد حلته الحياة في بطن أمة، كظهور الصحة لو انفصل
حيا، فالنماء المتخلل يتبع العين في ذلك.

(1) تفسير برهان ج 3. ص 319.
(2) الوسائل الباب - 90 - من أبواب أحكام العشرة، المغني لابن قدامة ج 6 ص 556.
387

(ولو وقع حيا ثم مات) استقرت و (كانت الوصية لورثته) لكن في المسالك
يعتبر هنا قبول الوارث، لامكانه في حقه، وإنما أسقطنا اعتباره عن الحمل لتعذره، كما
سقط اعتباره في الوصية للجهات العامة، إلى أن قال: والمتجه اعتبار القبول في
الوصية للحمل مطلقا، فيقبله وليه ابتداء، ووارثه هنا، وتظهر الفائدة، فيما لو ردها
الوارث قبل قبوله، فإن اعتبرناه بطلت، وإلا فلا أثر للرد ".
والذي يقوى في النظر عدم الاحتياج إلى القبول في الوصية للحمل، بل الظاهر
عدم الولي له وهو حمل، بحيث يقبل عنه الهبة والبيع وغيرهما، خصوصا قبل ولوج
الروح، واحتمال كون المراد قبول وليه بعد الولادة، يدفعه أنه خلاف ظاهر الفتاوى
المتضمنة استقرار الوصية بانفصاله حيا، وحينئذ فلا يحتاج وارثه إلى قبول، ضرورة
كون ملكه بالإرث للحمل لا بالوصية والله العالم.
(ولو أوصى المسلم للفقراء) مثلا (كان لفقراء ملته) عرفا في الوصية ونحوها
وإن كان اللفظ للأعم من ذلك لغة وعرفا في غيرها (ولو كان) الموصي (كافرا
انصرفت إلى فقراء نحلته) لذلك أيضا.
قال أبو طالب عبد الله بن الصلت (1): " كتب الخليل بن هاشم إلى ذي الرياستين
وهو وإلى نيسابور أن رجلا من المجوس مات، وأوصى للفقراء بشئ من ماله، فأخذه
قاضي نيسابور فجعله في فقراء المسلمين، فكتب الخليل إلى ذي الرياستين بذلك
فسأل المأمون عن ذلك فقال: ليس عندي في هذا شئ، فسأل أبا الحسن (عليه السلام) فقال
أبو الحسن (عليه السلام): إن المجوسي لم يوص لفقراء المسلمين، ولكن ينبغي أن يؤخذ مقدار
ذلك المال من مال الصدقة، فيرد على فقراء المجوس " ونحوه غيره، بل لا يبعد تنزيل
اللفظ على خصوص المذهب، فالإمامي من المسلمين لفقراء الإمامية، وهكذا.
بقي شئ ينبغي التنبيه عليه، وهو أنه قد عرفت عدم صحة الوصية للمعدوم، و
المنساق منه معدوم الذات، وهل مثله معدوم الوصف؟ بمعنى عدم تلبسه بالوصف حال
الوصف، ثم تجدد له ذلك في حياة الموصي أو بعده، يحتمل ذلك، فلا يعطى الفقير

(1) الوسائل الباب - 34 - من أبواب أحكام الوصايا
388

بعد الوصية ولا الجار كذلك ولا غيرهم؟ وجهان: أقواهما الصحة، مع إرادة العنوان
لعموم " من بدله (1) " وغيره، والله العالم.
(ولو أوصى لانسان، فمات قبل الموصي، قيل بطلت الوصية، وقيل: إن رجع
الموصي بطلت الوصية، سواء رجع قبل موت الموصى له أو بعده، وإن لم يرجع
كانت الوصية لورثة الموصى له، وهو أشهر الروايتين) بل هو المختار كما عرفته
سابقا.
نعم في المسالك " والفرق بين هذه وبين السابقة، أن السابقة تضمنت كون
وارث الموصى له يرث القبول، لو مات الموصى له قبله، وليس فيها تعرض لملك الموصى
به، وعدمه، والغرض من هذه بيان أن الموصى به ينتقل بموت الموصى له إلى وارثه،
إن لم يرجع الموصي عن الوصية، على خلاف فيه، سواء كان مورثه قد قبل الوصية
قبل موت الموصي أم لا؟ فلو فرض أنه قبل الوصية في حياة الموصي، ثم مات في حياته
واكتفينا بالقبول الواقع في حياة الموصي، لم يفتقر وارثه إلى القبول، ولكن يبقى الخلاف
في بطلان الوصية وعدمه، وهو المقصود بالبحث هنا. وإن لم يكن قد قبل، انتقل
إلى الوارث حق القبول، وهو المستفاد من السابقة، ومعه يملك الموصى به على
الخلاف، وهو المذكور هنا " لكن قد عرفت هناك ما يعرف منه التحقيق فيما هنا أيضا
فلاحظ وتأمل.
(ولو لم يخلف الموصي له أحدا رجعت) الوصية (إلى ورثة الموصي) عند
جماعة من الأصحاب، كما تقدم أيضا تحقيق ذلك كله، حتى في قيام الوارث العام
كالوارث الخاص وعدمه، سيما إذا مات الموصى له بعد القبول قبل الموصي، وقلنا
باعتبار قبوله حال الحياة، فإن المتجه انتقال الموصى به إليه، فلاحظ وتأمل.
(ولو لم يخلف الموصى له أحدا رجعت) الوصية (إلى ورثة الموصي) عند
جماعة من الأصحاب، كما تقدم أيضا تحقيق ذلك كله، حتى في قيام الوارث العام
كالوارث الخاص وعدمه، سيما إذا مات الموصى له بعد القبول قبل الموصي، وقلنا

(1) الوسائل الباب - 32 - من أبواب أحكام الوصايا.
389

باعتبار قبوله حال الحياة، فإن المتجه انتقال الموصى به إليه، فلاحظ وتأمل.
(ولو قال: أعطوا فلانا كذا ولم يبين الوجه، وجب صرفه إليه يصنع به ما شاء)
لأن الوصية تقتضي تسليط الموصى له على المال تسليط غيره من الملاك على أملاكهم
كما أنه لو عين الصرف في جهة خاصة، فقال: أعطوه كذا لبناء مسجد مثلا، تعين
عليه صرفه فيها، للنهي عن تبديل الوصية، فلو صرفه في غيرها ضمن، ولزمه اعطاء
عوضه وصرفه في الوجه المعين.
(ولو أوصى في سبيل الله، صرف إلى ما فيه أجر، وقيل: يختص بالغزاة، و
الأول أشبه) وإن كان الثاني أحوط كما بينا ذلك في باب الزكاة، ولو أوصى بثلثه
ولم يبين الوجه صرف في وجوه البر.
(وتستحب الوصية لذوي القرابة وارثا كان أو غيره) بلا خلاف فيه عندنا نصا
وفتوى بل في خبر السكوني (1) عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) " من لم يوص عند موته
لذوي قرابته ممن لا يرثه فقد ختم عمله بمعصية " وقالت: سالمة مولاة أبي عبد الله
(عليه السلام) (2) " كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) حين حضرته الوفاة فأغمي عليه، فلما أفاق قال أعطوا
الحسن بن علي بن الحسين وهو الأفطس سبعين دينارا، وأعطوا فلانا كذا وكذا،
وفلانا كذا وكذا، فقلت: أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك، فقال:
تريدين أن لا أكون من الذين قال الله عز وجل: " الذين يصلون ما أمر الله به
أن يوصل " الآية. نعم يا سالمة إن الله تبارك وتعالى خلق الجنة، وطيبها وطيب
ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم "
إلى غير ذلك من النصوص.
(وإذا أوصى للأقرب نزل على مراتب الإرث) بالنسب بمعنى تقديم المرتبة
الأولى على الثانية، وتقديمها على الثالثة (و) حينئذ ف‍ (لا يعطى الأبعد مع
وجود الأقرب) لا أن المراد التنزيل في كيفية الاستحقاق، لما عرفت من أن الوصية
يتساوى فيها الذكر والأنثى، والمتقرب بالأبوين والمتقرب بالأم، والظاهر أن من

(1) الوسائل الباب - 83 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3 - 1.
(2) الوسائل الباب - 83 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3 - 1.
390

الأبعد هنا ابن العم ولو للأب والأم فلا يعطى مع وجود العم ولو لأب، وإن قدم
عليه في الإرث لدليل خاص، أما الأخ من الأب ففي المسالك أن الأقوى تقديم الأخ
من الأبوين عليه كما في الإرث.
قلت: قد يحتمل تساويهما، وخروج الإرث بالدليل، ولو كان التقرب بالسببين
محققا للأقربية عرفا لاقتضاها بالنسبة إلى المتقرب بالأم خاصة.
الفصل (الخامس: في الأوصياء)
جمع وصي من الوصاية بكسر الواو وفتحها، وهي الولاية على اخراج حق أو
استيفائه أو على طفل أو مجنون، يملك الوصي الولاية عليه بالأصالة كالأب والجد،
أو بالعرض كالوصي المأذون له في الايصاء، وهو معنى ما في القواعد من أن الوصية
بالولاية استنابة بعد الموت في التصرف فيما كان له التصرف فيه من قضاء ديونه،
واستيفائها، ورد الودايع واسترجاعها، والولاية على أولاده الذين له الولاية عليهم
من الصبيان والمجانين، والنظر في أموالهم، والتصرف فيها بما لهم الحظ فيه، و
تفريق الحقوق الواجبة، والمتبرع بها، بل لعل تعريفها بالولاية أولى من الاستنابة
باعتبار كونها كذلك بعد الموت، لا أنها نيابة عن الميت الذي بموته تنقطع ولايته، و
إن كان هو قد نصبه وليا.
وعلى كل حال ففي القواعد وجامع المقاصد والمسالك، وغيرها - بل في الحدائق
الظاهر اتفاقهم عليه - أنها عقد، وفيه: أن العقد كما عرفته في محله ما اعتبر فيه
الايجاب والقبول، والمشهور كما تعرفه أن المعتبر في لزوم الوصية، عدم الرد الذي
يبلغ الموصي، وهو أعم من القبول، بل يتحقق بالرد وعدم القبول إذا لم يبلغ ذلك
الموصي، وهو مناف لدعوى العقدية المزبورة.
نعم قد تكون بصورة العقد، كما لو أوصى الموصي، فقال الوصي قبلت: وليس
ذلك كافيا في العقد، ضرورة كونه اسما لما اعتبر فيه القبول على جهة الجزئية، ولقد
أجاد في الدروس حيث أنه بعد أن ذكر جواز تأخر قبولها عن ايجابها كفاية الفعل
فيه، قال: وعلى ما قلناه من اللزوم بالموت وعدم الرد، فلا عبرة بقبول الوصي وعدمه
391

بل العبرة بعدم الرد الذي يبلغ الموصي، فإن حصل وإلا التزم، وبذلك ظهر
لك الفرق بين الوصية والوصاية، فإن الأولى وإن لم تحتج إلى قبول في بعض
أفرادها كالوصية للجهات العامة بناء على عدم احتياج القبول فيها، لكن حيث
يحتاج إلى القبول فيها كالوصية للمخصوص يكون معتبرا فيها بحيث إذا لم يحصل
يقع باطلا، بخلاف الوصاية، فإن عدم القبول لا يبطلها، إلا إذا كان برد لها على
وجه يبلغ الموصي، كما هو واضح.
ثم إن صيغة الوصاية أوصيت إليك، أو فوضت أو جعلتك وصيا، أو أقمتك مقامي
في أمر أولادي، أو حفظ مالهم والتصرف فيه، أو كذا وكذا، أو وليتك كذا بعد موتي، أو
جعلتك وليا بعد الموت، أو نحو ذلك من الألفاظ التي تفيد توليته على ما يريدها
عليه عموما أو خصوصا.
أما لو قال أنت وصيي مثلا واقتصر، وقع لغوا لعدم ظهور المتعلق منه، وعمومه
كخصوصه بالنسبة إلى التقدير، ومطلق طبيعة الوصايا لا تجدي من دون ذكر المتعلق
بخلاف الأوامر، بل وبخلاف نحو " أحل الله البيع " ونحوه ضرورة كون المقام كالاخبار
وكما لو قال: وكلتك، وعن التذكرة التصريح به، بل عن فخر المتحققين عدم الخلاف
في ذلك.
والتحقيق ما في الدروس من أنه إن كان هناك قرينه حال حمل عليه، وإلا
أمكن البطلان، ويحتمل التصرف فيما لا بد منه كحفظ المال، ومؤنة اليتيم " قلت،: لا
بأس بالاحتمال المزبور مع فرض تيقن إرادته من اللفظ المزبور أو ظهوره مع الشك في
في غيره، وإلا فالأبدية أعم من الوصاية به، ولو قال: أوصيت إليك أو أقمتك مقامي
في أمر أولادي، ولم يذكر التصرف، فالظاهر تنزيله على التصرف، لأنه المفهوم
عرفا خصوصا عند من يرى أن المفرد المضاف يفيد العموم، لكن عن التذكرة أن فيه
احتمالين، هذا أحدهما، والثاني عدم التصرف إلا في الحفظ، لأنه المتيقن دون
غيره، وهو كما ترى، ضرورة إرادة التصرف منه عرفا.
(و) كيف كان ف‍ (يعتبر في الوصي العقل والاسلام) فلا يصح الايصاء
392

إلى مجنون مطبقا أو أدوارا، لعدم صحة تصرفاته وعدم صلوحه للوكالة، فضلا عن
الوصاية التي هي أعظم منها، لأنها احداث ولاية ومنصب يقصر المجنون عنها
قطعا، لكونه مولى عليه، بل لو طرء الجنون على الوصي بطلت وصيته في وجه، وإن
كان تسمع في المسائل انشاء الله تعالى أن الأقوى خلافه، وفي دعائم الاسلام (1) عن
علي (عليه السلام) " لا يزيل الوصي عن الوصية ذهاب عقل أو ارتداد أو تبذير أو خيانة أو ترك
سنة، والسلطان وصي من لا وصي له والناظر لمن لا ناظر له " بل الظاهر عدم عودها
لو عاد العقل، إن كان على وجه الفسخ كما في العقد الجائز - وفاقا للفاضل للأصل،
وعدم مقتض لعودها، وإن تردد فيه في الدروس، وتسمع انشاء الله تعالى -
تحقيق الحال في ذلك، في المسائل.
نعم لو صرح الموصي بذلك أمكن القول بالصحة لعموم أدلة الوصية ووجوب
انفاذها على حسب ما أوصى، ومن هنا قال في الدروس: الأقرب صحة الايصاء
لمن يعتوره الجنون أدوارا، ويحمل على أوقات الإفاقة، ثم قال: والفرق بينه و
بين الأول: أي من طرء له الجنون، انصراف الوصية في ابتدائها: أي في الأدواري
إلى أوقات إفاقته، وفي غيرها إلى دوام عقله الذي لم يدم، ولو قلنا بعود ولاية
الأول فلا اشكال ".
قلت: قد يقال بصحة الايصاء إلى المجنون حال جنونه، معلقا ذلك على
حصول الإفاقة له إن حصلت، منضما إلى الوصاية إلى بالغ مستقل في التصرف،
أو غير منضم، على اشكال ينشأ من عموم الأدلة، ومن كون المتيقن منها الإذن في
نصب غير ذلك، على أن تعليق تأثير السبب على غير الشرط الشرعي مخالف،
للضوابط الشرعية، والظاهر ما دل على التسبيب، وسيأتي لذلك نظائر انشاء الله
تعالى كما أنه يأتي البحث على ما يتفرع على الشرط الثاني عند تعرض المنصف له.
(و) إنما الكلام هنا في أنه (هل يعتبر العدالة) في الوصي (قيل:)
والقائل جماعة، بل هو المشهور (نعم) بل في الغنية الاجماع عليه (لأن

(1) الدعائم ج 2 ص 363.
393

الفاسق لا أمانة له) لوجوب التثبت عند خبره (1)، وظالم لا يركن إليه (2)، ولأولويتها من
وكيل الوكيل المجبور بنظر الموكلين، الذي قد اعتبر فيه العدالة، وولايتها قد تكون
ولاية على طفل، أو على أداء حق واجب، أو نحو ذلك مما لا ينبغي فيه ايتمان غير
العدل، ولأن الوصاية اثبات الولاية بعد الموت الذي به ترتفع ولاية الموصى ويصير
التصرف متعلقا بحق غير المستنيب من طفل أو مجنون أو فقير وغيرهم، فيكون أولى
باعتبار العدالة من وكيل الوكيل، ووكيل الحاكم على مثل هذه المصالح، ومن هنا
كان رضى الموصي بالفاسق غير معتد به، كما أن منه يعلم الفرق بين الوصاية و
الوكالة، والاستيداع المتعلقين بحق الموكل والمودع المسلطين شرعا على اتلاف
مالهما، فضلا عن تسليط غير العدل عليه، والموصي إنما يسلط على حق الغير لخروجه
عن ملكه بالموت مطلقا، مع أنا نمنع عدم اشتراط العدالة في الودعي والوكيل إذا كانا
على مثل ذلك.
كل ذلك مضافا إلى التأيد بظواهر كثير من النصوص (3) الواردة بالنسبة إلى من
مات وله أموال، وورثته صغار ولا وصي له، حيث اشترطت عدالة المتولي لذلك، وهي
وإن كانت خارجة عما نحن فيه إلا أن فيها اشعارا بأن المتولي لأمر الوصاية كذلك
بل لا فرق بينهما، إلا كون الأول منصوبا من قبل الشارع، والثاني من قبل الميت،
وإلا فهما بالنسبة إلى ما يتصرفان فيه واحد، فكما يراعى العدالة فيه من حيث أن
الناصب له الشرع، يراعى كذلك فيه من حيث أن الناصب للوصي، فلا ينصب لذلك
إلا عدلا.
والفرق - بأن للموصي التسلط على ماله يدفعه إلى من شاء، ويسلط عليه
من يختاره، لتسلط الناس على أموالهم، بخلاف الحاكم الشرعي المنوط تصرفه
بالمصلحة، دون ما فيه مفسدة، - يظهر ضعفه مما مر، فإن الموصي بعد الموت و

(1) سورة الحجرات الآية - 6
(2) سورة هود الآية - 113.
(3) الوسائل الباب - 88 - من أبواب أحكام الوصايا.
394

انتقال التركة إلى الورثة وفيهم الصغير، وفيها وصايا إلى الجهات العامة ونحو
ذلك من التصرفات المحتاجة إلى الوثوق والايتمان، لا تعلق له بذلك فتصرفه فيما
ذكر، إنما هو تصرف في مال الغير، لا مال نفسه.
(وقيل:) والقائل جماعة منهم الفاضل في المختلف وابن إدريس فيما حكي
عنه وغيرهما (لا) تعتبر العدالة في الوصي (لأن المسلم محل للأمانة، كما في
الوكالة والاستيداع، ولأنها ولاية تابعة لاختيار الموصي فيتحقق بتعيينه).
وقيل كما في المسالك: المعتبر عدم ظهور الفسق، لا ظهور العدالة، قال:
لأنه لا يلزم من عدم أهلية الفاسق للاستيمان وقبول الخبر، اشتراط العدالة هنا
لوجود الواسطة بينهما، وهو المستور والمجهول الحال، فإنه لا يصح وصفه بالفسق
بل يعزر واصفه به، فلا يدخل في المدلول.
واشتراط عدالة وكيل الوكيل إن أرادوا به اشتراط ظهور عدالته، كما هو
المشهور، فهو عين المتنازع فيه، وإن أرادوا به عدم ظهور الفسق، سلمناه، لكن لا
يفيد الاشتراط، وبالجملة لا ريب في اشتراط عدم ظهور فسقه، أما اشتراط ظهور
عدالته ففيه بحث، والاستدلال عليه - بأن الفسق لما كان مانعا، فلا بد من العلم
بانتفائه، وذلك هو اشتراط العدالة - واضح المنع، لأن المانع لا يشترط العلم
بعدمه في التأثير، بل عدم العلم بوجوده كاف، كما في كل مانع.
وحينئذ فالأقوال في المسألة ثلاثة، وقد اتفقت جميعا على عدم الفرق بين
متعلق الوصاية في ذلك من ولاية على قاصر، أو على أداء حق لازم، أو على صرف
ثلث في وجوه بر أو نحو ذلك، ولعل خيرها أوسطها ما لم يكن فيه مفسدة على
القاصرة، لعموم الأدلة واطلاقها، خصوصا ما ورد منها في وصاية الامرأة (1) التي من
الغالب عدم عدالتها، وفي وصاية ولده وفيهم الصغار والكبار، وإن الصبي يكون
وصيا بذلك عند بلوغه أو قبله، والتصرف عند البلوغ، وغير ذلك من النصوص التي لا
ينكر ظهور سياقها في عدم اعتبار العدالة، سيما ما ورد من وصية الكاظم (عليه السلام) جميع

(1) الوسائل الباب - 50 و 53 - من أبواب أحكام الوصايا.
395

ولده (1)، ومنهم غير العدل، وجعل الولاية بيد على (عليه السلام) منهم لا يجدي، بناء على عدم
صلاحية الفاسق للوصاية، ولو مع انضمامه إلى غيره ممن له الولاية عليه.
ودعوى عدم صحة ايتمان الفاسق والركون إليه واضحة المنع، فإن الفسق قد
يكون بما لا مدخلية له في حفظ المال، والوصاية ليست ركونا، ومع التسليم فالممنوع
من الركون إلى الظالم من الفاسق، لا مطلقا ودعوى كونه ظالما لنفسه، كما ترى لا
تستأهل جوابا.
وكذا ما ذكر من القياس على وكيل الوكيل الممنوع اعتبار العدالة فيه أيضا،
فإن الأمر يتبع إذن الموكل أو مصلحته، ولا ريب في أن الوصاية فرع ولاية الموصي،
وإن لم تكن هي استنابة بمعنى ثبوت الولاية له بعد الموت، وإن الوصي نائب عنه
ضرورة انقطاعها بعد الموت، ولكن لولايته الثابتة حال الحياة قد جوز له الشارع
جعل ولي بعد موته فيما له الولاية عليه، وأدلة جواز ذلك عامة أو مطلقة.
نعم هي مخصصة، أو مقيدة في بعض أفرادها، كالولاية على القاصر ونحوها،
بما إذا لم يكن في ذلك مفسدة، أو بما فيه مصلحة من غير فرق في ذلك بين العدل
والفاسق وكذا الوكالة والوديعة من الحي للطفل، ودعوى خروج المال منه كله
بالموت، مدفوعة بأن الثلث باق على حكم ماله، فله الولاية عليه على أي نحو شاء،
كما أن له الولاية لمن يشاء على قضاء ديونه، ونحوها، وبراءة ذمته مراعاة بحصول
ذلك من الولي، من غير فرق بين العدل والفاسق، كحال الحياة وقبول خبرهما
في ذلك باعتبار كونهما مسلمين مصدقين فيما يسندانه إليهما خصوصا مع تكليفهما
بذلك، فلا فرق من هذه الجهة، والتأييد بالنصوص المزبورة يدفعه أن موضوعها
تولي عدول المسلمين الذين هم أحد الأولياء، مع فقد الحكم لا من حيث الوكالة عنه
وإلا فالحاكم قد يجوز له، أو يجب عليه توكيل الفاسق إذا اقتضته المصلحة.
نعم قد يفرق بين العدل والفاسق فيما يلزم الموكل والولي فيه مراعاة المصلحة
أو عدم المفسدة عند اشتباه الحال لديه، فإنه حينئذ بتوكيل العدل وتوليته معذور،

(1) الوسائل الباب - 10 - من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث - 5.
396

بخلاف الفاسق الذي هو مظنة الفساد، لا أنه لا يجوز تولية الفاسق الذي يعلم
الصلاح في توليته، لكون فسقه بما لا يضر المولى عليه كما هو واضح، بل لو وقع ذلك
من الموكل والموصي، ولم يعلم الحال لا بد لنا من حمل فعلهما على الوجه الصحيح
وهو الذي يعلم الولي عدم مفسدته أو صلاحه، لا أنه يحمل على معلوم الفساد، كي
يحكم ببطلان وصايته.
ومن الغريب أن بعض من اشترط عدالة الوصي قال: واعلم أن هذا الشرط
إنما اعتبر ليحصل الوثوق بفعل الوصي، ويقبل خبره كما يستفاد ذلك من دليله لا
في الفعل في نفسه، فلو أوصى إلى من ظاهره العدالة، وهو فاسق في نفسه،
ففعل مقتضى الوصية، فالظاهر نفوذ فعله وخروجه عن العهدة، ويمكن كون ظاهر
الفسق كذلك لو أوصى إليه فيما بينه وبينه وفعل مقتضاها، بل لو فعله ظاهرا كذلك
لم يبعد الصحة وإن حكم ظاهرا بعدم وقوعه، وضمان ما ادعى فعله، وتظهر الفائدة
لو فعل مقتضى الوصية باطلاع عدلين، أو باطلاع الحاكم، نبه على ذلك في التذكرة
والروضة، وهو حسن.
قلت: وقريب منه ما صرح في جامع المقاصد، ولا يخفى عليك منافاة ذلك لاشتراط
العدالة في الوصي، في سياق اشتراط العقل، ونحوه مما يقضي بانعدام المشروط
بعدمه، وأقصى ما يقال في دفعه أنه يمكن تنزيله على أن المراد أنها شرط في صحة
الاستنابة، لا في صحة النيابة، وأنت إذا تأملت لم تجد لهذا الكلام حاصلا ينطبق
عليه ظاهرا من ذكر ذلك شرطا على حسب اشتراط العقل ونحوه.
وأغرب من هذا ما عساه يظهر من بعضهم من الاستدلال على اشتراط العدالة
بأن الفاسق لا يصلح للولاية على الطفل، وفيه أنه لا خلاف ظاهرا في ثبوت ولاية
الأب والجد على الطفل، وإن كانا فاسقين، بل في جامع المقاصد الاعتراف بأن ذلك
مقتضى النص والاجماع وأنه لا دليل على اشتراط العدالة.
نعم قال: فيدفع محذور الفسق بأن الحاكم متى ظهر عنده بقرائن الأحوال،
اختلال حال الطفل إذا كان للأب عليه ولاية، عزله ومنعه من التصرف في ماله، و
397

اثبات اليد عليه، وإن ظهر خلافه فولايته ثابتة، وإن لم يعلم استعلم بالاجتهاد
وتتبع سلوكه وشواهد أحواله، وفيه أنه لم لا يكون كذلك في الوصي، مع وجوب الاستعلام
بالاجتهاد وتتبع الأحوال لوجوب حسن الظن بالمسلم، وحمل فعله على الوجه
الصحيح، وأنه لا يقصر فيما وجب عليه، كما هو مقرر في محله، هذا كله في الوصية إلى
الفاسق ابتداء.
(أما لو أوصى إلى العدل) من حيث كونه عدلا (ففسق بعد موت الموصي
أمكن القول ببطلان وصيته) بل ينبغي الجزم به، وإن لم نقل باشتراط العدالة
في الوصي بلا خلاف أجده فيه، بل عن المهذب وشرح الصيمري الاجماع عليه
إلا من الحلي، وفي جامع المقاصد كأنه لا خلاف فيه لعدم مقتضيها، ضرورة كون فرض
عبارة النصب له من حيث العدالة، فمع فسقه لم تشمله عبارة النصب، فلا يكون وصيا،
ودعوى - أن العدالة من الأوصاف التي لا يتغير الموضوع بفقدها - يدفعها وضوح
فسادها، إذ الموضوع إن كان الذات مع الوصف فلا ريب في تغير الموضوع بعدمها.
كوضوح فساد دعوى الاكتفاء بالعدالة في ابتداء النصب دون استمراره، (لأن الوثوق
ربما كان باعتبار صلاحه، فلم يتحقق) الوثوق (عند زواله).
نعم لو أوصى إلى العدل لا من حيث العدالة، بل من حيث ذاته، ففسق فإن
وصيته ثابته، بناء على صحة وصاية الفاسق، بل لعله كذلك أيضا إذا كانت العدالة
داعيا وباعثا للوصاية، لكن لم تتعلق الوصاية عليها، لما تقرر غير مرة من أن الدواعي
لا تقيد أمثال هذه الأسباب، بل قد يقال: إنها كذلك، إذا أوصى إلى العدل ولم
يعلم منه ملاحظة الوصف على الوجه الأول أو غيره، فإن استصحابها كاف في الحكم
ببقائها، بل لو علم ملاحظة الوصف لكن لا على جهة دورانها معه وجودا وعدما، بل
لاحظه غير خاطر في باله العاري عنه، فإن الاستصحاب أيضا يمكن جريانه ضرورة
عدم معلومية علية الوصف، ومحال الاستصحاب غالبا تقرن معها الأوصاف التي لم
يفهم عليتها، ومنها المقام الذي كان الوصف فيه شبه مفهوم اللقب، ولا يقال: إنه
لا يجري باعتبار تغير الموضوع في الفرض، لما عرفت من أن الموضوع لا يتغير بتغير
398

مثل هذا الوصف، بل التغير يحصل بتغير الذات أو الوصف الذي يجعل مدارا
للحكم.
وقد ظهر لك مما ذكرنا أن الصور في المقام خمسة والمتجه البطلان في الأولى
التي نزلنا عليها عبارة المصنف وإن كان فيه صعوبة، فرارا مما عساه يظهر منها من
مساواتها لغيرها التي قد عرفت كون المتجه منه الصحة.
وكيف كان فلا تعود الوصاية بعود الوصف إلا إذا صرح بذلك الموصي، أو
ظهر من عبارته، فإن الأقوى جواز مثل هذا النصب لاطلاق الأدلة، ومثل هذه
الصورة تأتي أيضا فيما لو فسق حال حياة الموصي أيضا، ضرورة عدم الفرق فيما
ذكرناه من مدارك الصور بين حالي الموت والحياة.
وعلى كل حال فالمتجه في الصورة الأولى انعزاله من غير حاجة إلى عزل
الحاكم، ضرورة تقييد وصايته من الموصي بحال العدالة التي تنتفي بانتفائها،
فقول المصنف والفاضل في القواعد (فحينئذ يعزله الحاكم ويستنيب مكانه) في
غير محله، اللهم إلا أن يكون المراد، بالعزل قطعه عن التصرفات بعد أن تحقق
العزل الشرعي، والأمر سهل بعد وضوح المقصود، والله العالم.
(ولا تجوز الوصية إلى المملوك) بلا خلاف فيه في الجملة، بل عليه مطلقا
عن صريح محكي الغنية، وظاهر التذكرة الاجماع، وهو الحجة مضافا إلى أدلة
الحجر عليه، واستلزام ذلك التصرف فيه والانتفاع به بغير إذن مولاه، لاحتياج
تنفيذ الوصاية إلى أفعال وأقوال، وهو ممنوع منها، (إلا) أن يكون ذلك (بإذن
مولاه) فتصح الوصاية إليه حينئذ بلا خلاف كما اعترف به في الرياض، لزوال المانع و
حينئذ فليس للمولى الرجوع في الإذن بعد موت الموصي، بل ولا قبله إذا كان بحيث
لم يبلغه الرد، وبالجملة هو كالحر بالنسبة إلى ذلك، هذا وفي الرياض ولا فرق
في محل المنع بين كون العبد قنا، أو مدبرا، أو مكاتبا مبعضا للموصي أو غيره عند
الشيخ وابن حمزة والحلي والمختلف، خلافا للمفيد والديلمي فجوزا الوصية إلى من
عدا القن، إما مطلقا كما يظهر من المختلف والدروس، أو إذا كان عبد نفسه كما
399

يستفاد من التنقيح، ومال إليه الصدوق لحرية المدبر حال المباشرة، ولزوم الكتابة
وتصرف المكاتب من غير حجر، ولا يخلو عن قوة، لعمومات الكتاب والسنة، الناهية
عن تغيير الوصية، وسلامتها في المفروض عما مر من الأدلة المانعة لما ذكر.
قلت: قال في الدروس: " خامسها إذن المولى، لو أوصى إلى عبد الغير
أو مكاتبه أو مدبره أو أم ولده. ولو أوصى إلى عبد نفسه أو مدبره أو مكاتبه أو أم ولده
لم يصح عند الشيخ، وجوز المفيد وسلار الوصية إلى المدبر والمكاتب مطلقا، ولعله
ليست كما حكى عنهما في الجملة، والموجود في المقنعة: ولا يوصي إلى العبد، لأنه
لا يملك مع سيده أمرا، ولا بأس بالوصية إلى المدبر والمكاتب، وفي المراسم: ولا
يوصي إلى العبد إلا من كان منهم مكاتبا أو مدبرا فتأمل.
وكيف كان فقد أطلق المصنف وغيره أيضا عدم جواز وصية المملوك الشامل
لذلك كله وغيره، بل الظاهر عدم الفرق فيه بين مملوك نفسه ومملوك غيره، وقوله
" إلا بإذن مولاه " لا يقضي باختصاص المستثنى منه في الثاني لغة ولا عرفا، وإن
كان لا يتصور اخراجه منه باعتبار اقتضاء الوصية إليه الإذن في قبولها، لكن قد
يقال: إن إذنه لا تجدي، لأن أثر الوصاية بعد الموت الذي ينقطع به ملكه، أو
ينتقل إلى غيره.
ودعوى - أن ذلك من الوصية بمنافعه فليس للوارث الاعتراض - واضحة الفساد
ضرورة عدم كون ذلك منها بعد عدم قصدها.
ومن هنا كان مقتضى ما حكاه المفروغية من عدم جواز وصية القن ولو كان عبد
نفسه، وأن الخلاف في غيره، وكأنه قدس سره مال إلى الجواز، بناء منه على أن
مدرك المنع ما سمعت من الحجر عليه، واقتضاء الوصاية التصرف فيه، وهما مفقودان
في الفرض، فتبقى العمومات سالمة عن المعارض.
وفيه: أنه يمكن أن يكون الدليل الاجماع المحكي المعتضد بظاهره وباطلاق
الأكثر وباطلاق قوله (عليه السلام) " لا وصية لمملوك " (1) في خبر ابن الحجاج الذي لا قرينة

(1) الوسائل الباب 78 من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
400

على اختصاصه بالوصية التمليكية، بل هو شامل لذلك ولجعل الولاية له، وبمعلومية
قصور العبد عن هذا المنصب الذي من الواضح الفرق بينه وبين الوكالة، بل لولا
الاجماع على الصحة بإذن السيد، لأمكن القول بالمنع معها أيضا، كما عن الشافعي
وجمع من العامة، سيما الولاية على الطفل مثلا، لقصوره عنه كالملك الذي لا يجدي
فيه إذن السيد، بل لعل الولاية أعظم منه من غير فرق بين مملوك السيد بأقسامه
وغيره، ووجود القابلية له في المدبر مثلا بعد الموت لا يجدي مع فقدها حال الوصية
كما أنه لا يجدي التبعيض أيضا، وإن أجدى في الملك، لعدم قابلية الولاية التوزيع
كالملك، فتأمل.
نعم لو أوصى إليه معلقا ذلك على حريته، أمكن الجواز، بناء على قبول
الوصاية مثل هذا التعليق كما عرفته فيما تقدم، والله العالم.
(و) مما يعتبر في الوصي البلوغ بلا خلاف أجده فيه ف‍ (لا تصح الوصية إلى
الصبي منفردا) لقصوره بالصبا السالب لأقواله وأفعاله عن منصب الوكالة، فضلا
عن الوصاية التي قد عرفت أنها أعظم منها باعتبار كونها ولاية بخلافها، بل لا
يتعقل ثبوت السلطنة لغير المميز من الصبيان على المميز منهم.
(و) لكن قد ورد في خبرين معتبرين بفتوى الأصحاب على وجه لا يعرف
فيه خلاف بينهم، أنه (تصح) وصايته (منضما إلى البالغ) الكامل و (لكن لا
يتصرف) الصبي (إلا بعد بلوغه) وإنما فائدة نصبه جواز تصرفه بعد البلوغ
على وجه يكون شريكا للبالغ.
قال علي بن يقطين (1): " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل أوصى إلى امرأة و
شرك في الوصية معها صبيا؟ فقال: يجوز ذلك، وتمضي المرأة الوصية، ولا تنتظر
بلوغ الصبي، فإذا بلغ الصبي فليس له إلا الرضا، إلا ما كان من تبديل أو تغيير،
فإن له أن يرده إلى ما أوصى به الميت ".
وقال الصفار (2) كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام): " رجل أوصى إلى ولده وفيهم

(1) الوسائل الباب 50 من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 - 1.
(2) الوسائل الباب 50 من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2 - 1.
401

كبار قد أدركوا، وفيهم صغار، أيجوز للكبار أن ينفذوا وصيته، ويقضوا دينه إن صح
على الميت شهود عدول قبل أن يدرك الأوصياء الصغار؟ فوقع (عليه السلام): نعم على الأكابر
من الولد أن يقضوا دين أبيهم، ولا يحبسوه بذلك ".
ومنهما يعلم الحكم فيما ذكره المصنف (و) غيره من أنه (لو أوصى إلى
اثنين) مثلا (أحدهما صغير) والآخر كبير (تصرف الكبير منفردا حتى يبلغ
الصغير) ولأنه وصى في الحال منفردا إذ الشريك معه بعد البلوغ، كما لو قال:
أنت وصيي فإذا حضر فلان فهو شريكك، ومن ثم لم يكن للحاكم أن يداخله (و) لا
أن يضم إليه آخر، ليكون نائبا عن الصغير.
نعم (عند بلوغه لا يجوز للبالغ التفرد) لحصول الشريك له حينئذ، كما لو
أوصى إلى اثنين كاملين ابتداء على ما ستعرف، هذا.
وفي المسالك وغيرها أن صحه الوصية إلى الصبي منضما على خلاف الأصل،
لأنه ليس من أهل الولاية، ولكن جاز ذلك للنص، فلا يلزم مثله في الوصية إليه مستقلا
وإن شرط في تصرفه البلوغ، وكان ذلك في معنى الضم، وقوفا فيما خالف الأصل
على مورده، ولأنه يغتفر في حال التبعية ما لا يغتفر استقلالا.
قلت: قد عرفت سابقا ما يقتضي أن الأصل جواز نصب الصبي وصيا إذا علق
ذلك على بلوغه رشيدا، ضرورة كونه الموافق للعمومات وأن الوصاية كالإمارة لا يقدح
فيها التعليق ونحوه، ولذا جاز الوصية إلى المجنون الأدواري، وجاز الايصاء إلى
زيد فإن مات فإلى عمرو، وإلى ولده وإن بلغ رشيدا، كما نص عليه في الدروس، و
كذا في القواعد، وحينئذ فالمتجه كون المنضم على الوجه المزبور على وفق الأصل لا
على خلافه، بل المتجه جواز الانضمام كذلك والاستقلال إن لم يقم اجماع على
خلافه، ودونه خرط القتاد.
ودعوى أن محل البحث الوصاية فعلا، لا المعلقة على البلوغ، وقد ثبت في
المنضم للخبرين السابقين، دون المستقل الذي لا ريب في مخالفة وصايته الفعلية
للأصل، لعدم قابليته للولاية، وبذلك صح للمصنف وغيره الفرق بين وصاية المنضم
402

والمستقل -
واضحة الفساد، ضرورة عدم صحة الوصاية فعلا للمنضم أيضا، ولا صراحة في
الخبرين بذلك بل ولا ظهور، بل لعل ظاهرهما خلافه، وإلا كان شريكا فعلا، و
توقف التصرف في المال إلى بلوغه، أو يقوم وليه مقامه، أو يضم الحاكم نائبا عنه والجميع
مخالف لما عرفت من النص والفتوى، بل قد يقال ببطلان وصاية الموصي إن صرح
بوصاية الصبي فعلا، لعدم مشروعيتها، وهو معنى اشتراطهم البلوغ في الوصي الذي
مقتضاه انعدام المشروط بانعدامه.
نعم لو صرح بعدم تصرف الكبير حتى يبلغ الصغير صح، لعموم " المؤمنون
عند شروطهم " بل الظاهر الصحة أيضا مع التصريح بانعزال الكبير عند بلوغ الصغير
لذلك، كما هو صريح القواعد والدروس وجامع المقاصد، بل يصح غير ذلك من الشرائط
التي لم تحلل حراما، ولا تحرم حلالا، ولا تخالف كتابا ولا سنة، كالترتيب في الوصية
بأن يقول: أوصيت إلى زيد، فإن مات فإلى عمرو، ونحو ذلك، وعن فاطمة (ع) (1) " أنها
أوصت في وقفها إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فإن حدث به حدث فإلى ولديها " وقد تقدم
سابقا أن الوصاية قريبة من التأمير، كما اعترف به في جامع المقاصد.
وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2) قال: " الأمير زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد -
الله بن رواحة ".
وبذلك كله يعلم أن موضوع المسألة في المتن وغيره ما لو أطلق الوصاية إلى
الصغير والكبير، فإنه الذي حكمه تصرف الكبير حتى يبلغ الصغير، فيشاركه، وأنه
ليس للصغير الاعتراض عليه فيما تصرف فيه الكبير سابقا على بلوغه كما عرفته وتعرفه
فيما يأتي انشاء الله تعالى فتأمل جيدا.
فإنه قد ظهر لك عدم الفرق بين المميز وغيره في المسألة، ولا بين البالغ

(1) الوسائل الباب 10 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات الحديث - 1.
(2) المغازي للواقدي ج 2 ص 756.
403

خمس سنين وغيره، وإن كان ظاهر خبر زياد بن أبي الحلال (1) الثاني، قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هل أوصى إلى الحسن والحسين (عليهما السلام): مع
أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ قال: نعم قلت: وهما في ذلك السن؟ قال: نعم ولا يكون لغيرهما
في أقل من خمس سنين ". لكن لم أجد عاملا به، بل ظاهر غيره من النصوص والفتاوى
خلافه، والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (لو مات الصغير، أو بلغ فاسد العقل، كان للعاقل
الانفراد بالوصية، ولم يداخله الحاكم لأن للميت وصيا) مستقلا، لعدم شريك له
لكون الفرض موت الصبي قبل البلوغ الذي هو شرط صحة نصبه وصيا، وكذا الكمال
فلم يشاركه أحد في وصايته، ولا وجد ما يزيلها فيه مستصحبة على الحال الأول، لكن
ومع ذلك تردد فيه في الدروس من ذلك، ومن دلالة لفظ الوصي على الضم في وقت
امكانه عادة، بل في الرياض أنه الأظهر لقوة دليله، قال: " وينبغي القطع به فيما
إذا بلغ الصبي رشيدا ثم مات بعده ولو بلحظة، لانقطاع الاستصحاب الأول حينئذ
بلا خلاف، وتبدله باستصحاب عدم الاستقلال، فيتبع ".
قلت: كيف ينبغي القطع به مع أن أقصاه صيرورته كالوصية إلى اثنين كاملين
ثم مات أحدهما، وستعرف أن المشهور بين الأصحاب استقلال الباقي، وأنه لا
يضم إليه الحاكم.
ومنه يعلم ضعف القول به في الفرض الذي هو مرجوح بالنسبة إلى ذلك قطعا
ضرورة عدم حصول الشريك للوصي أصلا، بل يمكن القطع بكون مراد الموصي الشركة
له إذا بقي وبلغ قابلا للشركة، ومن هنا جزم المصنف وغيره باستقلال الكبير في الفرض
والله العالم.
وقد ظهر لك من ذلك الحكم في جميع أطراف المسألة حتى ما ذكره المصنف
وغيره (و) نص عليه في الخبرين السابقين، بل لا أجد فيه خلافا من أنه (لو
تصرف البالغ ثم بلغ الصبي لم يكن له نقض شئ مما أبرمه) في الزمن السابق

(1) الوسائل الباب - 50 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3.
404

الذي لا شركة له فيه؟ إذ لا ريب في ظهور عبارة الموصي في إرادة الوصاية
للكبير وأنه إذا بلغ الصبي شاركه، فليس له نقض شئ من ذلك (إلا أن يكون
مخالفا لمقتضى الوصية) بل مثله منقوض لنفسه، لا يحتاج إلى نقض كما هو واضح.
ومن الغريب ما في القواعد، فإنه بعد؟ ن ذكر ما هنا بتمامه، قال: " وهل
يقتصر البالغ من التصرف على ما لا بد منه؟ نظر " وهو مناف لاطلاق النص والفتوى،
بل ولما هو كالصريح من خبر علي بن يقطين (1) فلاحظ وتأمل.
بقي الكلام في شئ لم أجد تصريحا به من أحد، وهو لو مات الكبير مثلا قبل بلوغ الصبي
والمتجه على ما قلناه صحتها لو بلغ، وإن رجع الأمر إلى الحاكم قبل البلوغ
فإذا بلغ استقل في وجه، وداخله الحاكم في آخر، وأما احتمال بطلان وصاية
الصبي - ولو بعد البلوغ، باعتبار اشتراط صحتها ابتداء، واستدامة بالانضمام
المفروض انعدامه قبل البلوغ - فهو واضح الضعف لمنافاته الاستصحاب وغيره.
نعم قد يشكل تولي الحاكم الأمر قبل البلوغ - بناء على ما عساه يظهر من
بعضهم من ثبوت الوصاية للصبي حال الانضمام وإن لم يجز له التصرف، - بأنه
لا ولاية له مع وجود الوصي، فالمتجه له حينئذ الانتظار إلى البلوغ، إلا فيما لا بد
منه، إلا أن ذلك كما ترى، ضرورة عدم تعقل ثبوت ولاية وسلطنة للطفل على غيره،
سيما إذا كان مميزا وهو غير مميز، كما هو مقتضى اطلاق كلامهم هذا.
(و) قد عرفت سابقا أن من شرائط الوصي الاسلام ف‍ (لا تجوز) حينئذ
(الوصية) من المسلم (إلى الكافر ولو كان رحما) بلا خلاف كما في الرياض لقصوره
عن منصب الولاية عن المسلم وعليه (2)، إذ (2) " المؤمنون بعضهم أولياء بعض " بل قال الله
تعالى (3): " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس
من الله في شئ " إلى آخر الآية وقال جل شأنه: أيضا (4) " ولن يجعل الله للكافرين

(1) الوسائل الباب - 50 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3.
(2) سورة التوبة الآية - 71.
(3) سورة آل عمران الآية - 28. (4) سورة النساء الآية - 141.
405

على المؤمنين سبيلا " ومن هنا أطلق المصنف - وغيره عدم وصايته عن المسلم من غير
فرق بين تعلقها بالمسلمين وما في حكمهم أو غيرهم.
(نعم يجوز أن يوصي إليه) أي الكافر (مثله) في الكفر كما صرح به
غير واحد، بناء على عدم اشتراط العدالة، بل وعلى اشتراطها، بناء على إرادة
الوقوف من اشتراطها، ويكفي حينئذ عدالته في دينه، إذ الغرض صيانة مال
الطفل، وأداء الأمانة، وهو يحصل بالعدل منهم، فما في الروضة " من أن
الأقوى المنع، بالنظر إلى مذهبنا، ولو أريد صحتها عندهم وعدمه، فلا غرض لنا
في ذلك، ولو ترافعوا إلينا فإن رددناهم إلى مذهبهم وإلا فاللازم الحكم ببطلانها
بناء على اشتراط العدالة في الوصي، إذ لا وثوق بعدالته في دينه، ولا ركون إلى
أفعاله، لمخالفتها لكثير من أحكام الاسلام " لا يخلو من نظر، لحصول الوثوق وجدانا
بل ربما يحصل الوثوق ببعض عدولهم أكثر مما يحصل لبعض عدول المسلمين سيما
المخالفين منهم، ومخالفة أفعالهم لكثير من أحكام الاسلام لا تنافي عدالته في
دينه.
ولعله لذا قال في المسالك: " ويحتمل قويا الحكم بصحتها مطلقا مع عدالته
في دينه، لأن الغرض منها صيانة مال الطفل وحفظ ماله وأداء الأمانة، وإذا كان
الكافر في دينه مجانبا للمحرمات، قائما بالأمانات حصل الغرض المطلوب منه، بخلاف
فاسق المسلمين، وإن كان فيه أيضا أنه يمكن فرض الوثوق بفاسق المسلمين، كما
عرفته سابقا هذا.
وقد يقال في أصل المسألة بمنع اشتراك الكفار مع المسلمين في هذا الحكم
وإن قلنا به في غير المقام، لاختصاص الدليل بالنهي عن اتخاذ المؤمنين الكافرين
أولياء، دون الكافرين بعضهم مع بعض، بل مقتضى الآية الأخرى (1) كونهم كذلك، و
حينئذ فحمل عبارة المصنف وغيره - " صحة وصية الكافر إلى الكافر " - على إرادة الالزام
بما في مذهبه وإن كان فاسدا عندنا - خلاف الظاهر.
نعم ينبغي تقييد ذلك كما عن جماعة بما إذا لم يستلزم ذلك ولاية على مسلم

(1) سورة الأنفال الآية - 73.
406

لما عرفت، ولو أوصى الكافر إلى المسلم صح، وتصرف فيما يجوز للمسلم التصرف فيه
من تركته دون غيره، كالخمر. والله العالم.
ولا يعتبر في الوصي الذكورة، ولا البصر، (و) لا كونه غير وارث بلا خلاف
فيه بيننا ف‍ (تجوز الوصية) حينئذ (إلى المرأة إذا جمعت الشرايط) وكذا الأعمى
والوارث، لاطلاق الأدلة وعمومها، والاجماع بقسميه، وخصوص خبر علي بن يقطين (1)
السابق في الوصية إلى المرأة والطفل، فما عن بعض العامة - من الخلاف في ذلك
لبعض الوجوه الاعتبارية التي لا تصلح مدركا للأحكام الشرعية عندنا - واضح الفساد
وعليه يحمل مرسل السكوني (2) عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين
(عليهم السلام) " المرأة لا يوصى إليها، لأن الله تعالى يقول " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم "
أو على فقد شرط من الشرائط السابقة، أو غير ذلك والله العالم.
(ولو أوصى إلى اثنين) فصاعدا جاز اجماعا بقسميه، وسنة عموما وخصوصا،
(فإن أطلق أو شرط اجتماعهما، لم يجز لأحدهما أن ينفرد عن صاحبه بشئ من
التصرف) بلا خلاف أجده في الثاني سواء ذكر الاجتماع شرطا في التصرف، أو جعل
الولاية لهما مجتمعين، فإن الظاهر جوازه أيضا، لاطلاق الأدلة السالم عما يقتضي
الاتحاد في الوصي، بل لعل ذلك هو المراد من شرط الاجتماع في العبارة و
غيرها، بل ستعرف فيما يأتي التصريح من ثاني الشهيدين وغيره بأن كلا منهما
في صورة الاجتماع جزء ولي، وعليه يبنى ما قيل: من بطلان الوصية برد أحدهما،
وإن قبل الآخر.
وعلى كل حال فلا اشكال كما لا خلاف في عدم جواز تفرد أحدهما في هذه
الصورة، إنما الكلام فيما إذا أطلق، ولم يكن في اللفظ ما يدل على الاستقلال، ولا
على الاجتماع، والمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة مساواتهما، في الحكم لصورة

(1) الوسائل الباب - 50 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث 2.
(2) الوسائل الباب - 53 - من أبواب: حكام الوصايا الحديث - 1.
407

الاجتماع، لكونه المتيقن، بناء على دوران الأمر بينه وبين الانفراد الترخيصي لا
العزيمي، ولتساويهما في استحقاق الولاية، فهي شبه العين الموصى بها لاثنين -
مثلا، المحكوم باشتراكها بينهما، فكذا الولاية المجعولة لهما، ضرورة تصور الاشتراك
فيها على وجه يكون مجموعهما الولي.
ولظاهر الصحيح (1) " في رجل مات وأوصى إلى رجلين، أيجوز لأحدهما أن ينفرد
بنصف التركة، والآخر بالنصف؟ فوقع (عليه السلام) لا ينبغي لهما أن يخالفا الميت ويعملان
على حسب ما أمرهما انشاء الله ".
المؤيد بالرضوي بناء على كونه رواية (2) " وإذا أوصى رجل إلى رجلين، فليس
لهما أن ينفرد كل واحد منهما بنصف التركة، وعليهما إنفاذ الوصية على ما أوصى
الميت ".
بل وبخبر صفوان بن يحيى (3) " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل كان لرجل عليه
مال، فهلك وله وصيان فهل يجوز أن يدفع المال إلى أحد الوصيين؟ فقال: لا يستقيم،
إلا أن يكون السلطان قد قسم المال، فوضع على يد هذا النصف، وعلى يد هذا النصف
أو يجتمعان بأمر السلطان " بناء على أن المراد سلطان العدل.
والمناقشة في الأول - باشتماله على لفظ لا ينبغي، الذي هو غير صريح في
الحرمة - يدفعها أنه لا بد من إرادة ذلك منه هنا، وإن قلنا بعدم صراحته في غير
المقام، باعتبار جعل الانفراد فيه مخالفة للميت، والاجتماع عملا بأمره، ومن المعلوم
حرمة المخالفة المزبورة، ووجوب العمل بأمره، وإلا كان تبديلا للوصية المعلوم عدم
جوازه كتابا، وسنة، واجماعا، على أن قوله " ويعملان " معطوف على جملة لا ينبغي،
لا على متعلقها، فيكون أمرا بالعمل بمقتضى أمره المكنى به عن الاجتماع، وإلا لم يكن
الجواب مطابقا للسؤال.

(1) الوسائل الباب - 51 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(2) المستدرك ج 2 ص 526.
(3) الوسائل الباب - 51 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
408

نعم فيما حضرني من نسخة الكافي " وأن يعملا " إلى آخره، وحينئذ يكون
معطوفا على سابقه، إلا أن المقدر حينئذ من العامل فيه - لو سلم أنه - ينبغي،
وجب إرادة الوجوب منه، لما عرفت، كل ذلك مضافا إلى الانجبار بفهم المعظم والاعتضاد
بما عرفت.
ولا ينافيه الموثق (1) " أن رجلا مات وأوصى إلى رجلين فقال أحدهما لصاحبه خذ
نصف ما ترك، وأعطني نصف ما ترك، فأبى عليه الآخر، فسألوا أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك
فقال ذلك له لاجماله وبناء المنافاة فيه على رجوع الإشارة إلى القسمة، والضمير المجرور إلى
الطالب، مع أنه يحتمل رجوع الإشارة إلى الآباء، والضمير إلى المطلوب، بل لعل هذا
أولى، كما عن المختلف وغيره، لقرب مرجع الإشارة، موافقته لما عرفت.
ودعوى أولوية العكس لوضع ذلك للإشارة إلى البعيد - يدفعها معلومية
عدم ملاحظة ذلك في استعمالها في أمثال هذه الخطابات التي يراد منها محض
التفهيم، بل في الرياض أنه يدفعها توقف ذلك على وجود اللام، وهي في نسخة
الكافي والفقيه مفقودة.
نعم في نسخة الشيخ موجودة، لكنها مرجوحة بالنسبة إلى تلك النسخة سيما
مع وحدتها وتعدد تلك، مع كون الأصل لها، وهي منها مأخوذة، وعلى تقدير تكافؤ
النسختين يبقى الاجمال بحاله، لعدم المرجح لأحدهما في البين، والأمر سهل بعد
وضوح الحال لديك.
ومنه يعلم ضعف المحكي عن ظاهر النهاية التي ليست كتاب فتوى، والقاضي
من جواز الانفراد في صورة الاطلاق، ولعلهما يريدان ما لو قال: " لكل منهما " بعبارة
مستقلة أنت وصيي على كذا، فإنه ظاهر حينئذ في جواز الانفراد، كما في الوكالة، وإن
كان هو خارجا عن محل النزاع، بل قد يقال بعدم ظهوره في ذلك، كما هو مقتضى
اطلاق العبارة وغيرها.

(1) الوسائل الباب - 51 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 3 الفقيه ج 4 ص 101
الكافي ج 2 ص 247 الطبعة الأولى.
409

بل في القواعد والدروس وغيرهما ما هو كالصريح في ذلك، في مسألة ما لو
أوصى إلى زيد ثم إلى عمرو، قال في القواعد " ولو أوصى إلى زيد ثم إلى عمرو لم يكن
رجوعا، ولو لم يقبل عمرو انفرد زيد، ولو قبلا لم ينفرد أحدهما بالتصرف إلا مع قرينة
دالة على الرجوع أو التفرد " وقال في الدروس: " ولو أوصى إلى زيد ثم إلى عمرو اشتركا
ولا انفراد، ولا يعزل الأول بالوصية إلى الثاني، ولو قبل أحدهما دون الآخر قيل:
يتصرف وحده، بخلاف ما لو أوصى إليهما معا، فإنه ينعزل القابل برد صاحبه، وفي
الفرق نظر، لأن الضم قد حصل في الموضعين، فإن كان شرطا ثبت فيهما وإلا انتفا
فيهما " وتبعه على ذلك المحقق الثاني، بعد أن حكى القيل المزبور عن التذكرة.
قلت: قد يفرق بينهما بظهور المعية في وصاية المجتمعين وكونهما معا الوصي
بخلاف غيره، فإنه ظاهر في الاستقلال، حتى لو قبلا معا، فإن تعدد الأولياء كما هو
ظاهر العبارة غير عزيز، وكذا الكلام في الوكالة ولو سلم فالمراد شركته على تقدير
قبوله، نحو ما لو قال لزيد أوصيت إليك، ثم قال ضممت إليك عمروا، فإنه كما في القواعد
أن قبل عمرو شارك، وإلا استقل زيد، ولو قبل عمرو خاصة لم يكن له الانفراد لو جعله
مضموما، وهل ينعزل أو يضم إليه الحاكم؟ فيه نظر، كما في الدروس، وجزم الفاضل
بالثاني.
وعلى كل حال فالانصاف اختلاف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال،
التي ليس من وظائف الفقيه تنقيحها، والتحقيق ما عرفت، ومنه يعلم أن الناظر المستعمل
في زماننا ليس وصيا مستقلا، بل ولا شريكا في الوصاية لعدم ظهور عبارة الموصى فيه
بل لعلها ظاهرة في إرادة الصرف باطلاعه، وقد تعرض له بعض الأصحاب كالمحقق
الثاني حيث قال:
" ويجوز أن يوصي إلى واحد، ويجعل آخر مشرفا عليه، ولا يكون للمشرف شئ من
التصرفات لكن يشترط صدورها عن إذنه، ولو امتنع، فهل يستقل الوصي؟ فيه وجهان
أقربهما لا، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ".
قلت: التحقيق فيه كونه أيضا مختلفا باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة و
410

الأحوال، ومن هنا لم يكن ضبطه بحال، فإنه قد يراد اطلاعه فقط، لئلا يخون الوصي،
وقد يراد نظره في الصرف والمصرف، وقد يراد غير ذلك، والحكم يختلف باختلافه، وحتى
مدخلية الحاكم فيما لو مات أو جن مثلا، وعدمها، ثم المراد باجتماعهما اتفاقهما على
الرأي على وجه يحكمان بكونه مصلحة، وايقاع العقد لو احتيج إليه عن رأيهما بمباشرة
أحدهما، وإذن الآخر، أو غيرهما بإذنهما.
(و) على كل حال ف‍ (لو تشاحا) على وجه لا ينافي عدالتهما، بناء على
اعتبارها، لتخيل كل منهما الصلاح في ضد ما يقوله الآخر (لم يمض ما ينفرد به كل
واحد منهما عن صاحبه، إلا ما لا بد منه، مثل كسوة اليتيم ومأكوله) والرقيق والدواب و
اصلاح العقار، وشراء كفن الميت، ونحو ذلك مما لا يمكن تأخيره إلى وقت الاتفاق،
بل عن بعضهم زيادة قضاء ديونه، وانفاذ الوصية المعنية، وقبول الهبة عن الصغير
مع خوف فوات النفع، والخصومة عن الميت، وله عن الطفل، وله مع الحاجة، ورد الوديعة
المعينة والعين المغصوبة.
وفي القواعد الفرق بين صورتي الاطلاق، والنهي عن الانفراد، فيجوز ذلك،
في الأول، ولا يجوز في الثاني، وفيه أنه لا فرق بينهما بعد تنزيل الاطلاق على عدم
جواز الانفراد إلا بالظهور والصراحة، وذلك لا يصلح فارقا، كما أنه قد يناقش فيما قبله
بأن ذلك لا ضرورة تقتضي فعله قبل الرجوع إلى الحاكم، أو عدول المؤمنين، بل الأول
أيضا كذلك، فالمتجه ما عن المبسوط والحلبي من عدم جواز الانفراد مطلقا حتى في
كسوة اليتيم ومأكوله امتثالا لنهي الموصى عنه.
نعم قد يتجه ذلك فيما تشتد الضرورة إليه، على وجه لا يمكن الوصول إلى الحاكم
أو من يقوم مقامه، فيتولاه حينئذ أحدهما أو غيرهما من العدول من باب الحسبة لا من
حيث الوصاية، ولعل الضابط ذلك، وهو خارج عما نحن فيه من انفراد أحدهما من
حيث الوصاية.
(و) كيف كان فلا ريب في أن (للحاكم) الشرعي المعد لحسم أمثال
411

ذلك (جبرهما على الاجتماع) مع الامكان من غير استبدال، لعدم ولاية له فيما
فيه للميت وصي، وعن الحلبي أنه يرد الحاكم إلى أعلمهما وأقومهما، ويجعل الثاني تبعا له.
وأشكل بأن فيه تخصيصا لأحدهما بالنظر، وقد منعه الموصي، وقد يدفع بأن
المراد الاجبار على الاجتماع الذي منه رد غير الأعلم إلى الأعلم، ونحو ذلك مما مرجعه إلى رد
المرجوح في نظر الحاكم إلى الراجح، ولعله بذلك لا يكون منافاة بين القولين.
(فإن تعاسرا) على وجه يتعذر جمعهما (جاز له الاستبدال بهما)
حذرا من الترجيح بلا مرجح، وصونا لوصايا الميت عن التعطيل، وحفظا للمال عن
التلف، ولبقاء المال بلا ولي بعد فرض تعذر الاجتماع الذي هو شرط ولايتهما،
فينتفي المشروط بانتفائه، ويكون حينئذ وجودهما بمنزلة عدمهما.
وفي الدروس " وله عزل أحدهما والضم إليه، وليس له جعله منفردا " وقال
الحلبي " له جعله منفردا إذا كان أعلم وأقوى، فيتبعه الباقون من الأوصياء " هذا
ولكن في الروضة " كذا أطلق الأصحاب، وهو يتم مع عدم اشتراط عدالة الوصي، أما
معه فلا، لأنهما بتعاسرهما يفسقان، لوجوب المبادرة إلى انفاذ الوصية مع الامكان،
فيخرجان بالفسق عن الوصاية، ويستبدل بهما الحاكم، فلا يتصور اجبارهما على هذا
التقدير، وكذا لو لم نشترطها، وكانا عدلين، لبطلانها بالفسق حينئذ على المشهور
نعم لو لم نشترطها، ولا كانا عدلين أمكن اجبارهما مع التشاح ".
وفيه أن تشاحهما إذا كان مستندا إلى اعتقاد رجحان ما رأياه بحسب المصلحة
لا التشهي والمعاندة لا يقتضي الفسق، لكن يرد حينئذ أن جواز جبر الحاكم لهما على
الاجتماع محل نظر، فاشتراط العدالة لا يتم مع التعاسر الذي كان للحكام معه
اجبارهما، وقد يدفع كما في بعض حواشي الروضة بأنه لا مانع من التزام جواز جبر
الحاكم لهما بما هو الأصلح عنده في نظره، ومع التساوي يتخير، وهذا لا ينافي عدالتهما
وفيه أن جبر الحاكم لا يكون إلا مع امتناع المخالف على ما يجب عليه، ومع فرض عدالتهما
وكون تكليفهما الرجوع إلى الأصلح في نظر الحاكم لا امتناع منهما، فلا جبر، فالأولى -
412

إبدال الجبر بأمر الحاكم لهما بما هو تكليفهما في التعاسر المفروض، كما أن الأولى
التصريح بالتفصيل على القول باشتراط العدالة، بأن التشاح إن كان لاختلاف
النظر لم يلزم فسقهما، وإن كان يوجب الاختلال بالواجب مع امكان الاجتماع يلزم
فسقهما إن أصرا على ذلك، إذا لم يثبت كونه من الكبائر، ولعله مراد من أطلق ممن
اشترطها من الأصحاب.
(و) على كل حال ف‍ (لو أراد قسمة المال بينهما) حيث يجب عليهما
الاجتماع (لم يجز) بلا خلاف ولا اشكال، لأنه خلاف مقتضى الوصية من الاجتماع
في التصرف (ولو مرض أحدهما) أو عجز على وجه لا يقوى على القيام بتمام ما أوصى
إليه، ولو بالتوكيل والاستيجار (ضم إليه الحاكم من يقويه) ويعينه على ما كلف به
على حسب ما تسمعه في شرح قوله " ولو ظهر من الوصي عجز " إلى آخره.
وفي الدروس: اطلاق كون الضم إلى الآخر بالعجز، لا إلى العاجز، بل عن
الكفاية أن ذلك هو الأشهر، وتظهر الثمرة في وجوب قيام ثلاثة على التصرف في
الوصية على الأول، واثنين على الثاني، وفي المسالك " امكان حمل كلامه على العجز
بالكلية لا في الجملة، وهو جيد، وإلا لأشكل بأن العجز في الجملة لا يخرج الوصي
عن الوصاية، لجواز الوصية إلى العاجز كذلك ابتداء.
بل عن التذكرة وجامع المقاصد الاجماع عليه، فكذا في الاستدامة بل أولى من
الابتداء بذلك كما هو واضح.
(أما لو مات أو فسخ) مثلا على وجه ينعزل عن الوصاية (لم يضم الحاكم
إلى الآخر، وجاز له الانفراد) كما عن الأكثر على ما في محكي الشرايع للصيمري و
الكفاية (لأنه لا ولاية للحاكم مع وجود وصي) وشرطية الشركة - التي مقتضاها
انتفاء المشروط بانتفائها، فتنتقل الولاية إلى الحاكم - مقيدة بحسب العرف و
العادة ببقاء كل منهما على قابلية الوصاية، فكأنه قال: كل وصي على الاشتراك بشرط
بقاء كل منهما على قابلية الوصاية، (و) لكن مع ذلك (فيه تردد) مما سمعت ومن
أن ظاهر الشرطية عدم رضى الموصي برأي أحدهما منفردا، والوصي إنما هما معا، لا
413

أحدهما مفردا، فلا بد أن ينضم إليه أمين، ومن هنا كان ذلك خيرة الفاضل في قواعده
ومحكي إرشاده وتحريره والشهيدين، وفاضل الرياض، بل هو المحكي عن فخر الدين
وجماعة.
إلا أنه لا يخفى عليك ما فيه، بعد ما عرفت من تقييد الاشتراط بذلك، وإلا كان
مقتضى ما ذكروه انتفاء وصاية الآخر أيضا، ضرورة كونها مشروطة بشرط، والفرض
انتفاؤه، فيستقل الحاكم بالوصاية، وبقاء أحدهما كعدمه حينئذ لعدم الإذن له في
هذا الحال كما لو تشاحا.
ومن ذلك يعلم الحال فيما فرعه في الرياض على الثاني بعد أن اختاره " من
أنه هل للحاكم أن يفوض جميع الولاية إلى الثاني منهما بدلا عن الضميمة، تنزيلا له
مقامها، وجهان: من أن النظر قد صار للحاكم، فيولي من اختاره، ومن أن الموصي لم
يرض برأي الآخر على الانفراد، فليس للحاكم تفويض جميع الأمر إليه، وإلا لزم التبديل
المنهي عنه في الشريعة، وهذا أجود، بخلاف ما لو حصل لهما معا العجز أصلا، فإن
للحاكم أن ينصب ولو واحدا، للفرق بين المقامين، بأن الثاني من الوصيين في المقام
الأول منصوب من قبل الموصي، ولم يرض برأيه منفردا كما مضى، وهنا قد انقطع نظره
لعجزهما وصار النظر إليه، كملا، فله نصب من شاء ولو واحدا - إذ لا يخفى عليك
أن الموصي لم يرض برأي أحدهما إلا مجتمعا مع خصوص الآخر، فإذا تعذر انتفت
الوصاية من رأس، واستقل الحاكم، لا أنه يريد انضمامه إلى شخص آخر، أي شخص
يكون، كي يقوم أمين الحاكم مقامه، وهو واضح بأدنى تأمل.
ومنه يعلم قوة ما عن الأكثر على ما عرفت، من تقييد الشرطية بحال الامكان، و
إلا انفرد الآخر، ولكن مع ذلك فالاحتياط لا ينبغي تركه، والله هو العالم.
(و) على كل حال ف‍ (لو شرط لهما الاجتماع والانفراد) بمعنى أنه قد
أذن له في كل منهما (كان تصرف كل واحد منهما ماضيا ولو انفرد) للإذن (و)
كذا (يجوز أن يقتسما المال ويتصرف كل واحد منهما فيما يصيبه) وفيما في يد
صاحبه (كما يجوز انفراده قبل القسمة) بلا خلاف ولا اشكال في شئ من ذلك،
414

لكون الفرض شمول الإذن، أما لو شرط لهما الانفراد ففي جواز الاجتماع حينئذ نظر،
من مخالفة الشرط، فلا يصح، ومن اقتضاء الاتفاق على الاجتماع صدوره عن رأي كل
منهما، وشرط الانفراد اقتضى الرضا برأي كل منهما، وهو حاصل إن لم يكن هنا آكد،
فيكون شرط الانفراد رخصة لا تضييق.
وفي الرياض " وهذا ظاهر العبارة " والروضة " وهو حسن حيث تقوم قرينة على
كون اشتراط الانفراد رخصة لا عزيمة، ومع هذا لو حصل لهما حال الاجتماع نظر
مخالف له حالة الانفراد، ينبغي القطع بالمنع، لجواز كون المصيب حالة الانفراد، ولم
يرض الموصي إلا به ".
قلت: كما أنه ينبغي القطع بمراعاة الانفراد، وعدم التردد في الرأي مجتمعين
مع اشتراط الانفراد الذي لم تقم قرينة على إرادة الرخصة منه، فإن ذلك بمنزلة ما -
لو نهاهما عن الاجتماع، فإنه لا إشكال في اتباعه عملا بمقتضى الوصية المنهي عن
تبديلها، والله هو العالم.
(و) كيف كان ف‍ (للموصى إليه أن يرد الوصية) وإن كان قد قبلها (ما دام
الموصي حيا، بشرط أن يبلغه الرد) كما أن للموصي عزل الوصي بلا خلاف أجده في
الثاني، للأصل والمعتبرة المستفيضة (1) في جواز الرجوع في الوصية، الشاملة اطلاقا في
بعض وفحوى في آخر لمفروض المسألة.
بل وفي الأول من غير الصدوق في خصوص ما إذا كان الموصي أبا، أو كان
الأمر منحصرا فيه، أي الموصى إليه، فلم يجز الرد فيهما لمكاتبة علي بن الريان (2) إلى
أبي الحسن (عليه السلام) " رجل دعاه والده إلى قبول وصيته، هل له أن يمتنع من قبول
وصيته؟ فوقع (عليه السلام) ليس له أن يمتنع ".
ومفهوم صحيح ابن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في رجل يوصي إليه، فقال:

(1) الوسائل الباب - 18 - من أبواب أحكام الوصايا.
(2) الوسائل الباب - 24 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
415

إذا بعث بها إليه من بلد، فليس له ردها، وإن كان في مصر يوجد فيه غيره فذاك
إليه (3).
ونحوه غيره، وعن المختلف الميل إليه، مؤيدا للأول بأن امتناع الولد نوع عقوق
والثاني بأن من لا يوجد غيره يتعين عليه، لأنه فرض كفاية إلى أن قال: وبالجملة
أصحابنا لم ينصوا على ذلك فلا بأس بقوله.
وفي الرياض " وهو كذلك إن لم ينعقد الاجماع على خلافه، ولا يمكن دعواه
باطلاق عبائر الأصحاب بجواز الرد مطلقا، لعدم تبادر المقامين منه جدا، ومنه
يظهر الجواب عن اطلاقات النصوص بذلك أيضا.
مضافا إلى وجوب حمل المطلق على المقيد، حيث تضمن شرائط الحجية
كما هنا.
قلت: لكن يعتبر فيه المقاومة، ولا ريب في عدمها هنا لتعدد نصوص الاطلاق و
اتحاد خبر التقييد، واعتضاد الأول باطلاق الفتاوى الذي لا وجه لدعوى عدم شموله
لذلك، خصوصا بعد معلومية خلاف الصدوق عندهم، فيمكن حينئذ دعوى كون الاطلاق
كالصريح فيما يخالفه، والعقوق مبني على أمر الوالد بذلك على وجه يؤذيه عدم القبول
وعلى وجوب طاعة الولد في مثل ذلك، وإن كان هو الظاهر، لاطلاق ما دل على
وجوبها من الكتاب والسنة، لكن محل البحث عدم قبول الوصية من حيث كونها
كذلك لا ما إذا اشتملت مع ذلك على أمر بالقبول، ويمكن حمل المكاتبة المزبورة على
ذلك، بل لعله الظاهر منها، فتخرج حينئذ عن محل البحث.
ودعوى أن مجرد ايجاب الوصية طلب للقبول على وجه الحتم ممنوعة، على أن
مقتضى ذلك تعميم الحكم للآباء وإن علوا، والأمهات وإن نزلن، وهو خلاف ظاهر
القائل.
ثم إن الولد لو رد حيث يأمره الوالد بالقبول يأثم، ولا يكون وصيا؟ أو أن رده
كلا رد وجهان: أقواهما الأول، ودعوى كون قبول الوصاية من فروض الكفاية كي

(1) الوسائل الباب - 23 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
416

يتعين مع الانحصار واضحة المنع، خصوصا بعد قيام الحاكم بأمثال هذه الأمور،
فالمتجه حينئذ جواز الرد مطلقا مع الشرط المزبور.
قال الصادق (عليه السلام) في خبر محمد بن مسلم (1): " إن أوصى رجل إلى رجل وهو
غائب، فليس له أن يرد وصيته، وإن أوصى إليه وهو بالبلد، فهو بالخيار، إن شاء
قبل وإن شاء لم يقبل ".
وفي خبر منصور بن حازم (2) " إذا أوصى الرجل إلى أخيه وهو غائب، فليس له أن
يرد عليه وصيته، لأنه لو كان شاهدا فأبى أن يقبلها طلب غيره " إلى غير ذلك مما
هو دال منطوقا أو مفهوما على جواز الرد.
نعم الظاهر أن المراد بالغيبة والحضور في النصوص المزبورة الكناية عن
بلوغ الرد إليه وهو حي، للاجماع على مدخلية ذلك، وللتعليل في خبر منصور
مؤيدا ذلك كله بفتاوى الأصحاب.
وبالرضوي (3) " إذا أوصى رجل إلى رجل وهو شاهد، فله أن يمتنع من قبول
الوصية وإن كان الموصى إليه غائبا ومات الموصي من قبل أن يلتقي مع الموصى
إليه، فإن الوصية لازمة له ".
نعم في المسالك، وكذا الرياض: هل يشترط مع بلوغ الموصي الرد، إمكان
إقامته وصيا غيره، أم يكفي مطلق بلوغه حيا؟ ظاهر الفتاوى الثاني، ومقتضى
التعليل الأول، لأنه إذا لم يمكنه نصب وصي آخر يكون بمنزلة ما لو لم يعلم
بالرد، والأجود اعتبار الامكان، كما يرشد إليه قوله (عليه السلام) " لو كان شاهدا " إلى
آخره، فإن العلة المنصوصة تتعدى على الأقوى ولانتفاء الفائدة بدونه، فعلى
هذا لو كان حيا ولا يمكنه نصب أحد ولو بالإشارة لم يصح الرد، ولو أمكن ولكن كان
المنصوب غائبا بحيث يتوقف ثبوت وصايته على البينة، ولم يحضر الموصي من يثبت
به الوصاة، ففي تنزيله منزلة عدم التمكن من الوصاة وجهان: من حصول أصل

(1) الوسائل الباب - 23 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 - 3.
(2) الوسائل الباب - 23 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1 - 3.
(3) المستدرك ج 2 ص 523.
417

القدرة وتحقق الشرط، ومن انتفاء فائدته باعتبار عدم ثبوته.
قلت: لكن قد يناقش بكون المنساق من التعليل إرادة بيان واقع، فهو شبه
الحكمة، لا أن المراد من التعليل قصد دوران الحكم مداره، ضرورة عدم لزوم
طلب غيره، إذ قد لا يريد وصية غير هذا الذي ردها، فاستصحاب بقاء الرد
بحاله حينئذ، من غير فرق بين المتمكن وغيره من حيث البينة وغيرها، والله العالم.
(و) على كل حال ف‍ (لو مات) الموصي (قبل الرد أو بعده ولم يبلغه
لم يكن للرد أثر، وكانت الوصية لازمة للموصي) بلا خلاف أجده فيه فيما لو كان قد -
قبلها قبل الرد، بل في المسالك ومحكي المبسوط والخلاف والتذكرة الاجماع عليه
بل وإن لم يكن قد قبلها على المشهور بين الأصحاب، بل عن صريح الغنية
وظاهر الدروس الاجماع عليه لما سمعته من النصوص السابقة.
وخبر هشام بن سالم (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في الرجل يوصي إلى رجل
بوصية، فيكره أن يقبلها، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا يخذله على هذا الحال ".
وخبر الفضيل (2) عنه (عليه السلام) أيضا " في الرجل يوصي إليه قال: إذا بعث بها إليه
من بلد فليس له ردها " إلى غير ذلك من النصوص المحمولة على التفصيل المزبور لما
عرفت، خلافا للفاضل في المختلف والتحرير فجوز الرد أيضا بعد أن اعترف بنسبة
عدم الجواز إلى الأصحاب كافة، ومال إليه في المسالك، للأصل المانع من اثبات
حق على الموصى إليه على وجه قهري، وتسليط الموصي على إثبات وصيته على
من شاء، ولاستلزام ذلك الحرج العظيم، والضرر الكثير في أكثر مواردها، وهما
منفيان بالآية (3) والرواية (4)، ولعدم صراحة النصوص في الدلالة على المطلوب، لاحتمال
حملها على الاستصحاب: أو سبق القبول، أو نحو ذلك مما لا بأس بحملها عليه،
بخلاف إثبات مثل هذا الحكم العظيم المخالف للأصول العقلية والشرعية بمثل ذلك.

(1) الوسائل الباب - 23 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 5 - 4.
(2) الوسائل الباب - 23 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 5 - 4.
(3) سورة الحج الآية - 78.
(4) الوسائل الباب - 17 - من أبواب الخيار.
418

وفيه أن ذلك كله كالاجتهاد في مقابلة النص، ضرورة الخروج عن الأصل
المزبور بالدليل من النص والاجماع وغيرهما، والحرج والضرر مع فرض عدم إمكان
تحملهما يسقط التكليف معهما، كما عن التنقيح التصريح به، وهو غير ما نحن
فيه، وإلا لم يكن بهما بأس بعد قيام الدليل، وعدم الصراحة لو سلم لا ينفي
أصل الاستدلال، إذ أكثر الفقه مبني على الظواهر، والمحملان لو سلم إمكان
الجميع لهما، إنما يرتكبان بعد قوة المعارض وليست، بل الأمر بالعكس كما عرفت.
ومما ذكرنا في الحرج والضرر، يعلم ما في المسالك حيث أنه بعد أن مال إلى
قول الفاضل قال: " ولو حصل للوصي ضرر ديني، أو دنيوي، أو مشقة لا يحتمل
مثلها عادة، أو لزم من تحملها ما لا يليق بحاله من شتم ونحوه، قوى جواز
الرجوع " وظاهره أنه كذلك على القولين، إلا أن المتجه بناء على عدم جواز الرجوع
الاقتصار في الضرورة على قدرها، لا رد الوصية وفسخها كما ستعرفه في مسألة
العجز وغيره من نظائر المسألة، بل في خبر إسماعيل قال (1): " سألت الرضا (عليه السلام)
عن رجل حضره الموت فأوصى إلى ابنه وأخويه شهد الابن وصيته، وغاب الاخوان
فلما كان بعد أيام أبيا أن يقبلا الوصية، مخافة أن يثوثب عليهما ابنه، ولم يقدرا
أن يعملا بما ينبغي، فضمن لهما ابن عم لهما، وهو مطاع فيهم أن يكفيهما ابنه
فدخلا بهذا الشرط فلم يكفهما ابنه، وقد اشترطا عليه ابنه، فقالا نحن براء من
الوصية، ونحن في حل من ترك جميع الأشياء والخروج منه، أيستقيم أن يخليا عما
في أيديهما ويخرجا منه، فقال: هو لازم لك، فارفق على أي الوجه كان، فإنك
مأجور " ولعل ذلك يحل بابنه إيماء إليه، بناء على أن الخطاب فيه لأحد الوصيين.
ثم إن الظاهر اعتبار اللفظ أو ما يقوم مقامه في إفادة إنشاء الرد، فلا
يكفي فيه مجرد عدم الرضا الباطني، نحو ما سمعته في إجازة الفضولي ونحوها
مع احتماله، إلا أن الأول هو الأقوى، للأصل المقتصر في انقطاعه على المتيقن.
ومنه يعلم صحة الوصية لمن يعلم عدم رضاه بقبولها لو علم، مع اخفائها

(1) الوسائل الباب - 23 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 6.
419

إلى أن مات الموصي، بل لو ردها على وجه يعلم منه استمراره على معنى الرد،
ثم أوجب الموصي بعد الايجاب المردود، ثم أخفاه إلى أن مات اتجه لزومها له،
لعدم العبرة بما في نفسه، بل يمكن ذلك لو صدر منه ما يقتضي الرد مع عدم
علمه بالايجاب، لكن يقوى في النظر خلافه، والله العالم. فتأمل جيدا، فإني لم
أجد تحريرا لذلك في كلماتهم.
(ولو ظهر من الوصي عجز) عن الاستقلال بانفاذ الوصية لكبر أو هرم أو غير ذلك
من موانع الاستقلال، ولو على جهة التوكيل والاستيجار (ضم إليه مساعد)، ولا
ينعزل بذلك، بلا خلاف أجده فيه بل عن التذكرة وجامع المقاصد الاجماع عليه،
بل الظاهر جواز الوصاية للعاجز ابتداء كما عن التذكرة نسبته إلى أصحابنا، وفي
القواعد وإن ذكر كفاية الوصي واهتدائه إلى ما فوض إليه في شرائطه، لكنه صرح
بإرادة شرطية ذلك في الاستقلال دون أصل الوصية، وكذا شارحه الكركي.
نعم في الدروس سابعها: أي الشرائط كفاية الوصي، فلو أوصى إلى هرم
يعجز عن التصرف أو إلى مريض مدنف أو إلى سفيه، ففي بطلانها من رأس، أو صحتها
ويضم إليه الحاكم مقوما نظر، ينشأ من وجوب العمل بقوله ما أمكن، ومن عدم الفائدة
المقصودة بالوصية - لكن قال: ولو عرض العجز في الأثناء ضم الحاكم إليه
قطعا، ولا ينعزل ".
وفيه أن عدم انعزاله بالتجدد، يقتضي عدم ما نعيته في الابتداء، وأنه يمكن
أن يكون العاجز ذا رأي وتدبير، ولكنه عاجز عن الاستقلال، فيفوض إليه الموصي
أمره لذلك، ويعتمد في تمام الفعل على نصب الحاكم له معينا لتحصل الفائدة
المطلوبة من الوصية، ويسلم من تبديلها المنهي عنه، بل قد يفرض غير ذلك من
الأغراض والفوائد على وصايته - وإن كان عاجزا - نظرا وتدبيرا فضلا عن عجز
المباشرة بنفسه أو بغيره، وبالجملة عمومات الوصاية واطلاقاتها تقتضي جواز
الوصاية لمثل ذلك، والأغراض الباعثة عليه كثيرة، ولا يحتاج إلى تقسيم العجز إلى
أقسام، وكثرة الكلام في تشقيقه على وجه لا فائدة فيه.
420

إنما البحث في أن هذا الضم باعتبار قصور ولايته، فتكون الولاية التامة
مشتركة بينه وبين الحاكم الذي تكون له الولاية خاصة، بعد فقد الوصي، أو أن
الولاية بتمامها للوصي، ولكن يضم إليه مساعدا على ما كلف به، وجهان: بل قد يقوى
في النظر الثاني لعدم معهودية شركة الحاكم وغيره في الولاية، بل حال الوصي
حال الأب العاجز مثلا، فإن الظاهر عدم شركة الحاكم له، وإن ضم إليه مساعد
أيضا، بل إن لم يقم اجماع على اعتبار الضم من الحاكم، أمكن القول بوجوبه كفاية -
على الناس، للأمر بالمعاونة على البر والتقوى وغيره مما دل على ذلك، ويكون
ذلك هو النكتة في بناء الضم للمجهول في المتن لا ما في المسالك من أنه اتكالا
على المعلوم من قيام الحاكم بهذه الوظائف، ولبيان أنه مع التمكن من الحاكم
يقوم عدول المؤمنين مقامه في هذا الضم، كما يقومون مقامه في غيره من ولآياته.
ومما ذكرنا يعلم أن الوجه مع زوال العجز يستقل الوصي، وليس للمساعد
مشاركته قهرا، وإن قال في جامع المقاصد: " إن في ذلك وجهين " كما أنه علم مما
ذكرنا حال العجز ابتداء، وفي الأثناء، بل لعل قول المصنف " ولو ظهر " ظاهر
في الأول ويمكن شموله لهما معا، وكذا علم حال العجز عن النظر والتدبير، أو عن
المباشرة وعن التوكيل والاستيجار وعدمه، فتأمل جيدا، فإن ذلك كله غير محرر في
كلماتهم والله العالم (و) كيف كان ف‍ (إن ظهر منه): أي الوصي (خيانة)
في وصيته (وجب على الحاكم عزله، ويقيم مكانه أمينا) بل في المسالك " إنما يتوقف
على عزل الحاكم لو لم نشترط عدالته، فللحاكم حينئذ أن يعزل الخائن، مراعاة
لحق الأطفال وأموال الصدقات ونحوهما، أما إذا اشترطنا عدالته، فإنه ينعزل
بنفس الفسق، وإن لم يعزله الحاكم، وقد تقدم مثله، ولعل المصنف يريد بعزل
الحاكم منعه من التصرف، أو ما هو أعم منه، ومن مباشرة عزله، فيجري على المذهبين
إذ لم يتقدم منه ترجيح لأحد المذهبين " انتهى، وظاهره أن الخيانة في الوصية
غير باقي أسباب الفسق فإن الحاكم يعزله، وإن لم يشترط العدالة في الوصي ولعل
وجهه ما سمعته سابقا في أول الشرائط من خبر الدعائم (1)، وأن ظاهر حال الموصي

(1) المستدرك ج 2 ص 528.
421

ملاحظة أمانته في تنفيذ وصاياه، فمع فرض خيانته في ذلك لا ولاية له من الموصي "
فهو كما لو أوصى إلى عدل من حيث عدالته ففسق، فإنه لا وصاية له، وإن لم نقل
باشتراط العدالة، لكن قد يشكل ذلك فيما إذا علم الموصي بحاله، ومع
ذلك قد أوصاه فيما له الوصاية عليه وإن كان خائنا، ويشكل أيضا في اقتضاء
ذلك انعزاله حتى فيما لم يخن فيه، فيضمن حينئذ كل وصية أنفذها على وجهها،
بعد الخيانة، بل قد يشكل أصل عزله بذلك، بل أقصاه منع الحاكم له في استقلاله
بالتصرف، بل يجعل عليه ناظرا منفذا للوصايا معه على وجهها، اللهم إلا أن يفهم
من الموصي اشتراط وصايته بأمانته، وأنه متى خان لم يكن وصيا، وحينئذ يتجه
منع الحاكم له، ولا يحتاج إلى عزل، وكذا الوكيل، ولعل التمسك بأصالة بقاء -
حكم الوصي عليه هو المتجه، فإنه كالوكيل في المعنى، بل هو أقوى ولاية، ولم يثبت
ما يقتضي انعزال الوكيل بمجرد خيانته حتى لو جاء بباقي ما وكل فيه على وجهه،
فضلا عن الوصي وخبر الدعائم يمكن إرادة زوال الاستقرار بالتصرف فيه بالنسبة إلى
الخيانة فالمتجه حينئذ عدم بطلان وصايته، وأولى منه بذلك المجتهد والأب والجد
الذين ولايتهم من الشارع، فلا ترتفع بذلك ونحوه، وإن منعوا من التصرف مستقلين
حتى يتوبوا، فإن تابوا رجعوا إلى حالهم الأول، ولعل الوصي كذلك أيضا.
نعم لو قلنا بانفساخ ايجاب الوصية بذلك، كان المتجه عدم عودها، لعدم
المقتضي، إلا أن يفهم من الموصي ذلك، وهو خارج عما نحن فيه فتأمل جيدا،
والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (الوصي أمين) بلا خلاف أجده فيه، بل في جامع المقاصد
نفيه بين أهل الاسلام ولا اشكال، ضرورة كون استيلاء يده على ما أوصى عليه بإذن
مالكية وشرعية، فلا يكون إلا أمينا (و) حينئذ ف‍ (لا يضمن ما يتلف في يده إلا ما
كان عن مخالفته لشرط الوصية أو تفريط) كما هو الحال في كل أمين، واطلاق
بعض النصوص بضمانه محمول على ذلك، ومنه ما استفاضت النصوص بتبديله الوصية،

(1) المستدرك ج 2 ص 528.
422

كالصحيح (1) " عن رجل أوصى إلى رجل وأمر أن يعتق عنه نسمة بستماءة درهم من
ثلثه، فانطلق الوصي وأعطى الستماءة درهم رجلا يحج بها عنه؟ فقال (عليه السلام): أرى
أن يغرم الوصي من ماله ستماءة درهم فيما أوصى به الموصي "
وربما كان فيه ايماء إلى عدم انعزال الوصي بالخيانة، اللهم إلا أنه يكون ذلك ليس منها،
بل هو شئ قد فعله الوصي بجهله، بتخيل أنه أنفع للميت، ولكن حيث كان تبديلا
للوصية لم يمض، ووجب عليه الضمان، وكأن المصنف أراد بمخالفة شرط الوصية
ما يشمل التعدي كما اعترف به في المسالك قال: " فإنه إذا لبس الثوب مثلا فقد
خالف شرط الوصية، لأن مقتضاها حفظ مال الطفل، أو بيعه وصرفه في الجهة المأمور
بها ونحو ذلك، فاستعماله لا يدخل في شرط الوصية، ومثل ذلك ركوب الدابة وغير
ذلك، هذا إذا لم يتعلق به غرض يعود على ماله من الولاية، بحيث لا يتم بدونه
كما لو ركب الدابة لقضاء حوائج الطفل واستيفاء دينه حيث يتوقف على الركوب، أو دخل داره
لاصلاح أمره، أو لبس الثوب ليدفع عنه الدود، ونحو ذلك " انتهى، والظاهر أنه
من التفريط، التكاسل في أمر الوصية والتهاون. والله العالم.
(ولو كان للوصي) على وفاء الديون أو على ما يشمله على وجه له التخيير في
جهات القضاء (دين على الميت) الذي هو وصيه على الوجه المزبور (جاز أن
يستوفي دينه مما في يده من غير إذن الحاكم، إذا لم يكن له حجة) على إثبات حقه
(و) دينه، بل الأقوى ما (قيل:) من أنه (يجوز مطلقا) أي سواء كان له
حجة أو لا، وعن الشهيدين اختياره، لأن فائدتها احتمال كذب المدعي، والمفروض
عدمه، كما أن المفروض وصايته على وجه له التخيير في جهات القضاء، فلم يكن اشكال
في استيفائه، ضرورة أولويته مما حكى الاتفاق عليه من جواز ايفائه ما يعلمه من دين
الأجنبي كذلك، ولا يشكل ذلك بالأصل، وموثقة يزيد بن معاوية (2) عن أبي عبد الله
(عليه السلام): " قلت له: إن رجلا أوصى إلي فسألته أن يشرك معي ذا قرابة له ففعل وذكر

(1) الوسائل الباب - 37 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(2) الوسائل الباب - 93 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
423

الذي أوصى أن له قبل الذي أشركه في الوصية خمسين وماءة درهم وعنده رهن بها
جام فضة، فلما هلك الرجل أنشأ الوصي يدعي أن له قبله أكرار حنطة قال: إن
أقام البينة، وإلا فلا شئ له، قال: قلت له: أيحل له أن يأخذ مما في يده شيئا قال: لا يحل
له، قلت: أرأيت لو أن رجلا عدا عليه فأخذ ماله فقدر على أن يأخذ من ماله ما أخذ
أكان ذلك له، قال: " إن هذا ليس مثل هذا " لانقطاع الأصل بما عرفت، وخروج الموثق
عن الفرض باعتبار الاشتراك في الوصية على وجه ليس لأحدهما الاستقلال بالتصرف
من دون إذن الآخر، الذي ليس له إجازة هذا الأخذ من دون اثبات، مع أنه لم
يعلم الوصاية فيه على وفاء الدين، والمقاصة مع عدم علم المقتص منه، وكون امتناعه
على الشرع غير مشروعة، وأنها موضوعها نحو ما في الخبر " الأخذ من مال من عدا عليك "، " وأخذ مالك "
المندرج في قوله تعالى (1) " من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ومن
هنا قال: إن هذا ليس مثل ذاك.
ومن ذلك يعلم أيضا الفرق بين موضوع الفرض وبين الأجنبي الذي له دين
ضرورة كون الفرض أن الديان الوصي الذي له الولاية على وفاء الدين، بأي فرد شاء
من أفراد التركة، بخلاف الأجنبي، فإنه لا ولاية له على ذلك، ولذا جعل الأصحاب
موضوع المسألة الوصي.
نعم قد استدل بعض الناس له بالمقاصة، وبأنه محسن في استيفاء الدين " وما
على المحسنين من سبيل (2) " ومقتضاهما عدم الفرق بين الأجنبي والوصي في ذلك، و
يتأتى البحث حينئذ في اشتراط المقاصة بإذن الحاكم وعدمه، مع اختلاف الجنس
أو مطلقا، وبعدم التمكن من قيام البينة وامكانه، وإن كان قد يقوى في النظر عدم اشتراط
شئ من ذلك في الممتنع، عملا باطلاق أدلة المقاصة من غير فرق بين المديون نفسه ووارثه لاطلاق
أدلة المقاصة (3)، وكذا من تعذر له الوصول إلى حقه، لعدم البينة المثبتة مثلا، وإن لم يكن امتناع

(1) سورة البقرة الآية 194.
(2) سورة التوبة الآية - 91.
(3) الوسائل الباب - 83 - من أبواب ما يكتسب به.
424

فإنه يرجح حقه على غيره بقاعدة نفي الضرر والعسر والحرج ونحوها أما غير الممتنع الذي
يتمكن صاحب الحق من إثبات حقه عليه، فقد يشكل مقاصته من غير إذنه، باعتبار
اقتضائها اسقاط حقه من تخيير الوفاء بأي جنس شاء، من غير فرق أيضا بين المديون ووارثه.
ولعله لذا فصل المصنف هنا والحلي والفاضل فيما حكي عنهما بين صورتي العجز
عن الاثبات وعدمه، فيقتص في الأول، دون الثاني، وهو جيد، لكنك قد عرفت أن موضوع
المسألة هنا الوصي الذي قد عرفت عدم جريان هذا التفصيل فيه باعتبار ولايته على
استيفاء الدين على وجه له التخيير، اللهم إلا أن يكونوا جعلوا موضوعها الوصي المساوي
للأجنبي، وهو الذي لم يجعل وصيا على وفاء الدين، فيتجه حينئذ لهم هذا التفصيل
بل لعل منه أيضا الوصي على وفاء الدين الذي لم يجعل التخيير في الوفاء إليه، فإنه
حينئذ كالأجنبي، بل لعل من أطلقت وصايته على وفاء الدين كذلك، فإن الاطلاق لا
يقتضي تخييره في الأفراد من غير إذن الوارث، فيبقى حقه في التخيير.
ومن ذلك كله يعلم لك الحال في جميع شقوق المسألة، كما أنه يعلم لك الحال
فيما أطنب فيه في الرياض، مع أنه لم يأت بشئ كما لا يخفى على من لاحظه. والله العالم
والموفق.
(و) كيف كان ف‍ (في شرائه) أي الوصي (لنفسه من نفسه) باعتبار ولايته
على المال الذي يريد شراءه بالوصاية من غير فرق بين كونه مال طفل أو غيره (تردد)
وخلاف، فالمشهور على الأول لوجود المقتضي الذي هو صدور العقد من أهله في محله،
فتشمله العمومات والاطلاقات، وانتفاء المانع، إذ لم يثبت اشتراط التغاير الحقيقي
بين الموجب والقابل، بل مقتضى العمومات نفيه، ولذا جاز شراء الأب من مال ولده،
وجاز في النكاح الذي هو أعظم من هذا المقام، مع أنه يمكن فرضه في التوكيل عن نفسه،
أو عن من هو ولي عنه، اللهم إلا أن يلتزم الخصم بجواز مثل ذلك، أو بمنع كونه تعددا
حقيقيا، ضرورة كون لفظ الوكيل لفظ الموكل، فالعمدة في الدليل الأول، مضافا إلى
الخبر (1) المنجبر قصوره بعمل الأكثر، وفيه " هل للوصي أن يشتري من مال الميت إذا

(1) الوسائل الباب - 89 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
425

بيع فيمن زاد يزيد، ويأخذ لنفسه، فقال: يجوز إذا اشترى صحيحا ".
وقيل كما عن الخلاف والحلي لا يجوز، لوجوب التغاير بين الموجب والقابل، وهو
مفقود، وقياسه على شراء الأب من مال ولده قياس، ولما عن ابن مسعود (1) " من أن رجلا
أوصى إلى رجل ببيع فرس له، فاشتراه الوصي لنفسه، واستفتى عبد الله بن مسعود
فقال: ليس له ذلك " وفي محكي الخلاف بعد أن حكى ذلك عن ابن مسعود قال: و
لا يعرف له مخالف، وللأخبار (2) المانعة عن شراء الوكيل لنفسه الذي هو بمنزلة الوصي.
وفيه منع اعتبار التغاير حقيقة كما هو مقتضى الاطلاقات والعمومات، فيكفي حينئذ
التغاير الاعتباري نحو ما في شراء الأب من مال ولده الصغير الثابت بالاجماع حتى من
الخصم، وكذا النكاح بل عن الطوسي دعوى الاجماع على الاكتفاء به فيه، والاستدلال
بهما على المطلوب ليس من القياس، بل من اتحاد طريق المسألتين، بل لعل المقام
أولى من النكاح في الجواز، ولا أقل من أن يكون ذلك عاضدا للاطلاقات والعمومات
وكاشفا عن إرادة العموم منها على وجه يشمل ذلك، وخبر ابن مسعود بعد أن لم يكن
مسندا إلى من يجب اتباعه لا حجة فيه، وعدم وجدان المخالف له لا يصيره اجماعا،
وأخبار الوكيل بعد فرض القول بها فيه يمكن الفرق بينه وبين الوصي بثبوت الولاية للثاني
بخلاف (و) قد ظهر من ذلك كله أن (الأشبه) بأصول ذلك المذهب وقواعده
(الجواز) لكن (إذا أخذ) أي الوصي (بالقيمة العدل) ولم يكن ثمة من
يزيد عليه لوجوب مراعاة المصلحة في ذلك خصوصا بعد قوله تعالى (3) " ولا تقربوا مال
اليتيم إلا بالتي هي أحسن " وقد تقدم تمام الكلام في باب البيع والرهن والحجر و
غيرها في هذه المسائل وفي جواز اقتراض الولي المال مع الملاءة والرهن وعدمهما
فلاحظ وتأمل والله هو العالم.
(وإذا أذن) الموصي (للوصي أن يوصي) على ما أوصاه به من أطفال

(1) المغني لابن قدامة ج 5 ص 238.
(2) الوسائل الباب - 6 - من أبواب آداب التجارة.
(3) سورة الإسراء الآية - 34.
426

أو حقوق أو غير ذلك (جاز اجماعا) بقسميه لعموم " من بدله " وغيره، فيكون حينئذ وصيا عن
الوصي لا عن الموصي، فيجوز له الرجوع عنه ما دام حيا، وهل يجوز نصب وصي عن الموصي
مع التصريح من الموصي بذلك وجهان: لا يخلو أولهما من قوة.
وعلى كل حال لا إشكال في الجواز في الجملة مع الإذن، كما أنه لا يجوز له ذلك
إذا نهاه لذلك أيضا (و) إنما الخلاف فيما (إذا لم يأذن له، ولكن لم يمنعه)
أيضا (فهل له أن يوصي) على ما بقي من وصايا الميت أو جميعها إن لم يكن قد أنفذ
منها شيئا (فيه خلاف) بين الأصحاب (أظهره المنع) وفاقا للأكثر، لعدم ثبوت
ولاية له بعد الموت على ذلك، إذ الفرض عدم ظهور عبارة الموصي في ذلك، بل قيل
إن المتبادر من استدامة مباشرته بنفسه أو بوكيله الذي هو بمنزلته ومجبور عمله بنظره
ومندرج في وصايته، دون الايصاء إلى الغير المشتمل على الولاية بعد موته، الذي
يكفي في عدم جوازه عدم ثبوت الإذن من الموصي الأول فيه، فضلا عما يقتضي عدمها،
خلافا للشيخ وابني الجنيد والبراج فجوزوا الايصاء له، لأن الاستنابة من جملة
التصرفات التي يملكها حيا بالعموم كما يملكها بالخصوص، ولأن الموصي أقامه مقام
نفسه، فيثبت له من الولاية ما يثبت له، ومن ذلك الاستنابة بعد الموت.
ومكاتبة الصفار (1) في الصحيح إلى أبي محمد الحسن (عليه السلام) " رجل كان وصي رجل
فمات وأوصى إلى رجل، هل يلزم الوصي وصية الرجل الذي كان هذا وصيه، فكتب
يلزمه بحقه إن كان له قبله حق انشاء الله ".
بناء على أن المراد حق الايمان على معنى أنه يلزمه الوفاء بحقه إن كان
مؤمنا، فإن الله قد عقد الأخوة بين المؤمنين، وهو مقتضى إعانة المؤمن وقضاء حوائجه
فضلا عن انفاذ وصيته التي هي أهم من ذلك، أو أن المراد يلزم الوصي الثاني أن
ينفذ وصية الموصي الأول بسبب حقه الذي على الوصي الثاني، لأنه كان له، أي
للأول عليه حق من حيث الوصية، فيجب على الثاني إنفاذ كل حق على الأول،

(1) الوسائل الباب - 70 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
427

فينبغي قرائتها أن بفتح الهمزة حتى يكون منصوبا بنزع الخافض على الوجه الذي
ذكرناه.
وفيه أن الأول مصادرة بل والثاني، والصحيح محتمل لذلك، ولإرادة الوصية
إليه بأن يوصي من حقه، على أن يكون ضمير حقه راجعا إلى الموصي الأول، فيكون
الحاصل أن الوصية تلزم الوصي الثاني بحق الأول إن كان له، أي للأول، قبله،
أي الوصي، حق بأن يكون قد أوصى إليه بأن يوصي له، إذا حضرته الوفاة، فإنه
حينئذ يكون له حق الايصاء عليه، فإذا أوصى بها لزمت الوصي الثاني، ومع تطرق
الاحتمال يبطل الاستدلال.
بل في الرياض " إن الذي يظهر منها بعد تعمق النظر فيها كون المراد
بالسؤال أن الوصي أوصى إلى الغير فيما يتعلق به وجعله وصيا لنفسه، فهل تدخل
في هذه الوصية، وصية الموصي الأول، فيلزم الوصي الثاني العمل بها أيضا، أم لا؟
فكتب الجواب بما مضى، فلا وجه للاستدلال بها لكونها على هذا التقدير مجملة، و
مقتضاها حينئذ أنه إن كان للموصي الأول قبله أي الموصي الثاني حق من جهة
وصيته إليه بالايصاء، لزمه الوفاء به، وإلا فلا، ويكون المراد بالحق حق التوصية إلى
الوصي الثاني، بأن صرح بالوصية، فيرجع حاصل الجواب إلى أن وصية الأول لا تدخل
في اطلاق وصية الموصي الثاني، إلا أن يصرح به، وهو كما ترى غير مورد النزاع، و
اطلاقها وإن شمله، إلا أنه لا عبرة به، بناء على ظهور وروده لبيان حكم غيره، فيكون
الخبر بالنسبة إلى مورد النزاع من جواز وصية الوصي إلى الغير فيما أوصى به إليه
الموصي وعدمه مجملا محتملا، لاختصاص الحكم فيه بالجواز مع الشرط بالموضع
المتيقن المجمع عليه، وهو صورة الإذن فيها لا مطلقا، وإن كان هو كما ترى، من صعوبة
تطبيق الجواب حينئذ على السؤال.
وقد يحتمل قراءة قبل ظرفا على أن يكون الحاصل أن الوصي الثاني يلزمه
القيام بحق الموصي الأول إن كان له قبل الايصاء إلى الثاني حق على وصيته
الأول، بأن أوصى إليه بالايصاء إذا حضرته الوفاة، أما إذا لم يكن كذلك فإنه لا
428

يلزمه، لعدم الحق له حينئذ على الوصي الأول، بل قد يحتمل غير ذلك مما لا يفيد
الخصم، ولو سلم عدم رجحان شئ مما ذكرناه من الاحتمال بالشهرة ونحوها، فلا أقل
من المساواة المقتضية للاجمال، المسقط للخبر عن الحجية، فلا دليل يعتد به للخصم
واحتمال الاستدلال له بأنه يكفي في الجواز عموم الوصية الذي يكفي في تناولها عدم
النهي عن الموصي عن الايصاء بعد أن أثبت له حق الوصية الذي لم يعلم ثبوته
له على وجه يصح له الايصاء به وعدمه، فإذا أوصى شملته العمومات كما في الشك
في كل مورد من موارد العقود، يدفعه عدم العموم الصالح لمشروعية نحو ذلك مما
هو تصرف في مال الغير الموقوف على إذنه، فهو شبه توكيل الوكيل عن نفسه من غير
نص من الموكل على ذلك، تمسكا بعمومات الوكالة الذي قد علم فساده في محله،
باعتبار معلومية توقف مثل هذا التصرف على الإذن من المالك فلا يشمله العمومات
وبعينه آت في المقام، كما أن به يفرق بينه وبين موارد العقود المشكوك في تناول
العقد لها، وأنه لا يكفي عدم النهي في جواز الايصاء، بل لا بد من الإذن، كما
هو واضح بأدنى تأمل في الولي الذي ولايته بحسب تولية غيره إياها، والفرض عدم
خطاب منه يقتضي العموم، وإلا كان خروجا عن البحث، فدعوى اقتضاء عموم (1) " من
بدله " تناول ذلك ما ترى، على أن المنساق من الوصية عهد الانسان فيما يتعلق
به، لا ما يشمل الغير الذي لم تثبت ولايته عليه في هذا الحال، وبذلك يفرق بين وصاية
الأب والجد وبين وصاية الوصي، مضافا إلى ما دل على صحة الوصاية منهما على
الطفل مثلا بخلافه.
بقي شئ تقدمت الإشارة إليه في الجملة، وهو أنه هل يكفي في صحة وصية
الوصي بما أوصى إليه وقوع ذلك منه، حملا لفعل المسلم على الوجه الصحيح الذي
هو الإذن له في ذلك، أو لا بد من ثبوت الايصاء بذلك بطريق شرعي، فلا يكفي دعواه،
فضلا عن مجرد فعله، لأن الشك في الشرط شك في المشروط، وأصالة الصحة لا
تجدي في اثبات شغل ذمة الغير، وجهان، بل مقتضى التفصيل في الصحيح

(1) سورة البقرة الآية 181.
429

المزبور بناء على ما قلناه في مقابلة القائل بالجواز، الثاني والله العالم.
(و) على كل حال فقد ظهر لك بطلان إيصاء الوصي من دون إذن، فإذا
مات الوصي (يكون النظر بعده إلى الحاكم) الذي هو ولي من لا ولي له، ونائبه
الخاص أو العام.
(وكذا لو مات إنسان ولا وصي له) ولا ولي إجباري وله أطفال ووصايا وغير
ذلك مما يحتاج إلى الولي (كان للحاكم النظر في تركته) بالوجوه الشرعية، بل
لعله المراد من الجواز في مثل المقام (ولو لم يكن هناك حاكم جاز أن يتولاه من
المؤمنين من يوثق به) على ما هو المشهور بين الأصحاب من ثبوت الولاية لهم على
مثل ذلك، للمعتبرة المستفيضة (1) المؤيدة بما دل على الحسبة وحسن الاحسان (2)، و
ولاية المؤمنين بعضهم على بعض (3) وغير ذلك.
ولكن مع ذلك قال المصنف وغيره (وفي هذا تردد) بل عن ابن إدريس
التصريح بعدم الولاية لهم على ذلك للأصل، وفيه أنه مقطوع بما عرفت، بل لا يبعد
ثبوت ولاية الفاسق مع عدم العدل، وإن كان الظاهر تقييدها بما إذا كان المقام مقام
الحسبة لا مطلقا، بل ربما احتمل ذلك في العدل، وظني أنه لا يخالف فيه ابن إدريس
وإن نفى الولاية عنهم، لكن مراده نفيها على حسب ولاية الأب والجد والحاكم، لا
مطلقا، وحينئذ يرتفع النزاع على هذا التقدير اللهم إلا أن يمنع تقييد ولاية العدل
بالحسبة، وهو قوي أيضا عملا باطلاق النصوص الظاهرة في الولاية والنصب التي لا
وجه لاحتمال كون ذلك فيها إذنا من الحاكم في بعض الخصوصيات، ضرورة أنه لا
يخفى على من تأملها ظهورها في الإذن العام الذي هو من قبيل الأحكام الشرعية
بل من قبيل نصب الفقيه الجامع للشرائط.

(1) الوسائل الباب - 88 - من أبواب أحكام الوصايا - الحديث - 1 - 2.
(2) سورة التوبة الآية 91.
(3) سورة التوبة الآية 71.
430

ففي خبر إسماعيل بن سعد الأشعري (1) قال: " سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل مات
بغير وصية وترك أولادا ذكرانا وغلمانا صغارا وترك جواري ومماليك هل يستقيم أن
تباع الجواري؟ قال: نعم، وعن الرجل يموت بغير وصية، وله ولد صغار وكبار أيحل شراء
شئ من خدمه ومتاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك؟ فإن تولاه قاض قد تراضوا به
ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه
في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع، وقام عدل في ذلك ".
وخبر محمد بن إسماعيل (2) " قال: مات رجل من أصحابنا ولم يوص فرفع أمره إلى
قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله، وكان الرجل خلف ورثة صغارا ومتاعا و
جواري فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن، إذ لم
يكن الميت صير إليه وصيته، وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنهن فروج، قال: فذكرت
ذلك لأبي جعفر (عليه السلام)، وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا، ولا يوصي إلى أحد
ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منا فيبيعهن، أو قال: يقوم بذلك رجل منا فيضعف
قلبه لأنهن فروج، فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيم به مثلك، أو مثل
عبد الحميد فلا بأس ".
وخبر زرعة (3) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل مات - وله بنون وبنات صغار
وكبار - من غير وصية، وله خدم ومماليك وعقد كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟
قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس " إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة في
الإذن لخصوص العدل في تولي ذلك، ضرورة عدم الفرق بينه وبين غيره من الناس في
الحسبة والمعاونة على البر والتقوى.
وعلى كل حال فمحل التردد أو المنع غير ما يضطر إليه الأطفال والدواب وحفظ
المال المشرف على التلف ونحو ذلك مما هو واجب على الناس كفاية والله العالم.
(ولو أوصى بالنظر في مال ولده إلى أجنبي وله أب، لم يصح وكانت الولاية إلى

(1) الوسائل الباب - 16 - من أبواب عقد البيع وشروطه.
(2) الوسائل الباب - 16 - من أبواب عقد البيع وشروطه.
(3) الوسائل الباب - 88 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 2.
431

جد اليتيم) الصالح للولاية (دون الوصي) بلا خلاف أجده فيه في الجملة، بل
الظاهر الاجماع عليه، لما عرفت من ترتب ولاية الوصي على ولاية الأب الصادق على الجد،
واشتراكهما في الولاية حال حياتهما - ولو مر تبين كما في جامع المقاصد والمسالك
وإن كان الأصح خلافه، سيما في النكاح - لا يقتضي جواز تولية أحدهما على وجه
يشارك الآخر بعد موته، بل الأصل يقتضي عدم ذلك، مضافا إلى ما دل على ولاية
الجد والأب (1) مما هو ظاهر في انحصار أمر الطفل فيهما مع وجودهما أو أحدهما على
وجه ينافيه ولاية أحدهما مع وصي الآخر، وإلى ظهور اتفاق كلمة الأصحاب عليه.
إنما الكلام في بطلان الوصية على الوجه المزبور من رأس كما هو أحد الأقوال
في المسألة، أو بطلانها في زمان حياة الجد، فإذا مات ثبتت وصاية الوصي لعدم
المعارض لها حينئذ، أو بطلانها فيما عدا الثلث، كما أشار إليه المصنف بقوله (و
قيل: يصح ذلك في قدر الثلث مما تركه) لأن له اخراجه عن الطفل، فله التولية
عليه بالأولى، (وفي أداء الحقوق) كوفاء الدين ونحوه مما لا مدخلية له في ولاية
الطفل، والأقوى الأول لما سمعت من عدم ولاية للأب مع وجود الجد، وبالعكس
فلو صرح أحدهما بوصاية الوصي بعد موت الآخر لم يكن صحيحا لعدم الولاية له
في هذا الحال، ولو بالنسبة إلى الزمان المتأخر، فضلا عن محل الفرض، وإن
جوزنا التعليق في الوصية والتأخير في زمانها، لكن فيما للموصي الولاية عليه، ولا
فرق بين الثلث وغيره بعد أن لم يخرجه عن ملك الطفل، ضرورة صيرورته كباقي أموال
الطفل التي ولايتها بيد الولي الاجباري، وولايته على إخراجه عنه لا تقتضي جواز
التولية عليه - وهو للطفل المنافي لما دل على أن ولاية ماله لجده.
وهل تصح وصيته في أداء الحقوق التي عليه من ديون ونحوها كما جزم به في
المسالك، بل حكى الاجماع عليه لعدم معارضته للجد في ذلك، وإن كان لو لم يوص
تولي الجد ذلك كما عن التذكرة التصريح به، لكن ذلك لا يقتضي عدم صحة الوصية
بذلك فإن الحاكم تكون الولاية إذا لم ينصب وصيا، وإن نصب لم يكن له الولاية

(1) الوسائل الباب - 11 - من أبواب عقد النكاح وباب - 88 - من أبواب أحكام الوصايا.
432

والورثة الكبار - إذا لم يجعل وصيا لوفاء ديونه تولى الورثة ذلك، وإلا تولاه الوصي
عليه هذا.
ولكن في الدروس في المقام " ولو أوصى باخراج حقوق أو استيفائها كان جايزا
ويشكل بأن الاستيفاء ولاية على مال الطفل فلا يملكها الأجنبي، نعم لو عين
المستوفي لتلك الحقوق جاز " وفيه - بعد الاغضاء عن مراده في قوله " نعم " إلى
آخره - إن الاستيفاء - وإن كان الظاهر إرادة المال المستوفى - ليس ولاية على
مال الطفل، وإن كان الكلي له، ضرورة أنه لا يتشخص ولا يصير مالا للطفل إلا بقبض
المستحق أو وليه فتوليته على أن يشخص الكلي للطفل، والظاهر أن له الولاية على
ذلك مع وجود الجد، كما أن له ذلك في الورثة الكبار، فإن له أن ينصب وصيا على
تشخيص ماله من الديون، ثم دفعه للوارث على وجه لا ضرر فيه عليهم، بل ومعه
إذا لم يزد على مقدار الثلث، وكذا تشخيص ما عليه من الحقوق بأن ينصب وصيا على
دفع ذلك عنه، على أن ولاية التشخيص بيده على وجه لا ضرر فيه عليهم، ضرورة كونه
أولى من تشخيص مال مخصوص لوفاء دينه، الذي اعترف هو بجوازه، مما يشمله عمومات
الوصية، وتسلطه على ماله (1) وغير ذلك مما لا معارض له من النصوص المشتملة على منعه
من التصرف في الزائد على الثلث فتأمل جيدا.
بقي شئ وهو أن ظاهر المتن اندراج الوصية في أداء الحقوق تحت القيل
ومقتضاه أن هذا تفصيل في موضوع المسألة، وقد عرفت أنه فرض في الوصية بالنظر
في مال ولده، وهو لا يشمل مثل ذلك، اللهم إلا أن يقال: إن ذلك من النظر في
مال الولد أيضا، بناء على انتقال التركة جميعا للوارث، وإن تعلق بها حق الدين
فهو من النظر في مال الولد حينئذ ولكن المتجه بناء على ذلك صحة الوصاية على مثل ذلك، و
ليس معارضا لولاية الجد التي لم يعلم شمولها لمثل ذلك، بحيث لا يجوز له أن
يجعل وصيا له عليه، مع أن المطابق للحق من التركة، كالخارج عن مال الطفل،
ولعل هذا لا يخلو من قوه، وإن كان الأول لا يخلو من وجه والله العالم.

(1) الوسائل الباب - 1 إلى 10 - من أبواب أحكام الوصايا.
433

(و) على كل حال فقد ظهر لك من مطاوي البحث أن الوصاية كالوكالة، بل قد
تزيد عليها بأشياء فحينئذ (إذا أوصى بالنظر في شئ معين، اختصت ولايته به
ولا يجوز له) أي الوصي (التصرف في غيره، وجرى مجرى الوكيل في الاقتصار على
ما يوكل فيه) وكذا لو خصها بزمان دون زمان، أو حال دون حال، إذ هي كما عرفت
شبيهة بنصب الأمراء، كل ذلك لعموم " فمن بدله (1) " وغيره كما هو واضح. والله العالم.
(مسائل ثلاث)
(الأولى: الصفات المراعاة في الوصي) من التكليف والاسلام والحرية ونحوها
(تعتبر حالة الوصية، وقيل: حين الوفاة، فلو أوصى إلى صبي) مثلا (فبلغ ثم
مات الموصي صحت الوصية، وكذا الكلام في الحرية والعقل) وقيل: من حين الوصية
إلى حين الوفاة، وقيل: إلى حين نفوذ الوصية وانتهائها، وقيل: من حين الوفاة
إلى حين الانتهاء.
(والأول أشبه) عند المصنف والأكثر كما في المسالك قضاء للشرط المعتبر تقدمه
على المشروط، أو مقارنته، فإذا كانت هذه شرائط لصحة الوصية، ولم تكن موجودة حال
إنشائها لم يكن العقد صحيحا، لانتفاء الشرط المقتضي لانتفاء المشروط، بل هو
منهي وقت الوصية عن التفويض إلى من ليس بالصفات، والنهي المتوجه إلى ركن
المعاملة يقتضي فسادها كما هو مقرر في محله، ولأنه يجب في الوصي أن يكون بحيث
لو مات الموصي كان نافذ التصرف، مشتملا على صفات الوصاية، وهو هنا منتف، لأن
الموصي لو مات في هذه الحالة لم يكن الوصي أهلا له.
والجميع كما ترى مشترك في كونه مصادرة على المطلوب، ضرورة أن كون هذه
الشروط شروطا للنصب حال انشائه أول البحث، وكذا كونه منهيا وقت ذلك عن
النصب، بل وكذا الأخير، مع أنه نظر فيه في المسالك بأنه من يكتفي بوجودها حالة
الموت يحصل على مذهبه المطلوب، فإن الموصي إذا فرض موته بعد الوصاة بلا فصل
قبل أن يتصف الوصي بالصفات لا يكون نافذ التصرف، من حيث أن الموصي قد مات و

(1) سورة البقرة الآية 181.
434

هو غير جامع لها، وذلك كاف في البطلان وإن كان قد يدفع بأن مراد المستدل
اعتبار كون الوصي جامعا لها حال الوصية بحيث لو مات الموصي حالها كان نافذ
التصرف، فالشرط أهليته لذلك حال النصب.
وعلى كل حال فمن ذلك يظهر لك قوة القول الثاني الموافق لمقتضى عمومات الوصية
المقتصر في تخصيصها على ما تيقن من شرطية هذه الأشياء في الوصي، بمعنى
المتلبس بالولاية، وأول آنات تلبسه بذلك مع الاطلاق من حين الوفاة، فتعتبر الشرائط
ذلك الوقت، إذ هو قبل ذلك ليس بوصي بمعنى تحقق الولاية، بل أقصاه وقوع
العبارة التي تقتضي نصبه حين الوفاة إذا جمع غيرها من الشرائط ذلك الوقت،
ففقدها قبل تلبسه بالولاية غير ضائر، بعد شمول عموم " فمن بدله " (1) ونحوه له، وليس
في أدلة الشرايط كما عرفته سابقا ما يقتضي اشتراطها حال إيجاد عبارة النصب، بل
ربما كان فيها ما يقتضي خلاف ذلك، كنصب الصبي وصيا بعد بلوغه منضما أو مطلقا،
على البحث السابق، بل هو ظاهر فيما ذكرناه، من كون المدار على وجود الصفات
حال الوفاة، فإن الصبي مثلا قد يبلغ بعد الوفاة، وكذا المجنون لو أوصى إليه مريدا
حال إفاقته كما سمعته سابقا.
لا يقال: إن العمومات تقتضي أيضا صحة وصية الجامع لها حال الوصية، وإن
فقدها قبل الوفاة، ثم تجددت بعدها، فيتجه حينئذ كون الشرط أحد الأمرين،
حال الوصية، أو حال الموت، لأنا نقول - مع كون ذلك خرقا للاجماع على الظاهر -
مناف لما دل على اعتبار الصفات في الوصي المقتضي لعدم قابلية المجنون والكافر
والمملوك، للولاية، فإن دليل شرطيتها يقتضي ذلك، فينافي العمومات المزبورة،
بخلاف الفاقد لها حال النصب الجامع حال الوفاة، فإن دليل الشرطية لا ينافي
شمول العمومات له لعدم كونه وليا حينئذ، ودعوى تحقق ولاية الوصي حال نصبه -
وإن تأخر تصرفه إلى ما بعد الموت، فهو كالوكيل فعلا المشروط عليه تأخر التصرف
وإلا لزم التعليق المبطل، وحينئذ فلو قال: أنت وصيي بعد موتي، على معنى كونك

(1) سورة البقرة الآية 181.
435

وليا بعد الموت بطل - واضحة الفساد، ضرورة عدم شركة أحد الأبوين الكاملين حال
حياتهما في الولاية، على أن معنى الوصاية نقل الولاية بعد الموت، وهو الذي أراده
الموصي، بل لو صرح بإرادة غيره مما يقتضي تحققها قبل الموت، بطل على الظاهر،
والتعليق فيها غير مناف، لأن بناءها عليه، وقد شرعت على الوجه المزبور، كما لا ينافيه
في تعليق الوصية التمليكية، بل هما عند التأمل من واد واحد، وإن اختلفا
في بعض الأحكام لكنهما متحدان في أن الوصاية نقل الولاية، والوصية نقل الملك
مثلا، والتزام حصول الملك المتزلزل للموصى له حال الوصية، مما لا يجوز نسبته للمتفقه
فضلا عن الفقيه، خصوصا بعد أن كان المعلوم من حال كل موص أن قصده حصول
الأثر بعد الوفاة، سواء كان ملكا أو ولاية، وبذلك كله يظهر ضعف بقية الأقوال المشتركة
في اعتبار الشرائط من حين الوصية، الذي قد عرفت عدم الدليل عليه.
نعم يبقى الكلام في اعتبار استمرار الشرائط من حين الوفاة إلى حين الانتهاء
في استمرار الوصاية وعدمه، أما احتمال اشتراط الاستمرار في أصل الوصاية - على
معنى انكشاف فسادها بالعروض في الأثناء، كما هو مقتضى اطلاق بعضهم شرطيته
- فواضح الفساد، وإلا لاقتضى فساد تصرفاته جميعها قبل العروض، ومن المعلوم
ضرورة بطلانها، كما أن من المعلوم عدم كونه وليا متصرفا حال عروضها.
إنما البحث في انفساخ الوصية بعروض ذلك بعد الوفاة - فلا تعود حينئذ،
وعدمه - وإن كان لا تصرف له حينئذ، بل أقصاه قيام الحاكم مثلا مقامه، فإذا زال
العارض عادت ولايته، كالأب الذي اعتراه الجنون ثم زال، فإنه لا تنقطع بذلك ولايته
على ولده الصغير - احتمالان: بل الثاني منهما لا يخلو من قوة، وإن ظهر من
بعضهم المفروغية من بطلان الوصاية بذلك، حتى أنه حمل قول القائل باشتراطها
حال الوفاة، ومن حين الوصية إليها - على ذلك، تجنبا عن التزام عدم بطلانها
بذلك، والظاهر أنه اشتباه، فإن أقصى ما يمكن القطع به، عدم صحة تصرفاته مع
عروض العارض، لعدم العقل ونحوه، لا بطلان الوصاية من رأس، بل يمكن دعوى
عدم القطع ببطلانها كذلك بعروض العارض قبل الوفاة بعد الوصية وإن استمر إليها
436

عند القائل باعتبار الصفات حال الوصية، وإن ادعاه القائل المزبور أيضا محتجا بمعلومية
كون الوصاية لها حكم العقد الجائز إن لم تكن منه، ولا ريب بانفساخه بعروض الجنون
ونحوه، مع أنه خلاف ظاهر كل من تعرض لذكر الأقوال، حيث أنهم يجعلونه، والقول
باعتبارها حال الوفاة مقابلا للقول بالاستمرار من حين الوصية إلى حين الوفاة، كما
في الدروس ويمكن القول بعدم جريان حكم الجائز عليه بالنسبة إلى ذلك، كما لو اعترى الموصي
الاغماء والجنون، على أن الشرائط غير منحصرة في العقل ونحوه مما ينفسخ العقد
بفقده، كما أنه يمكن القول بأن الانفساخ بعروض العارض لا يقتضي القول باشتراط
الاستمرار في أصل الصحة، بل أقصاه اشتراط استمرار الصحة باستمرار ذلك، لأن أصل الصحة
مشروطة بالاستمرار، بحيث لو زال انكشف الفساد، ولعله يلتزمه القائل باعتبار الصفات من
حين الوصية إلى حين الوفاة، بل ولا الفسخ بحيث لو عاد لم يعد حكم السبب السابق
الذي اقتضى ولايته حتى لو قلنا بانقطاعها، باعتبار عدم قابليته، ضرورة عدم اقتضاء
ذلك الفسخ، نحو العقد الجائز، وإلا لاقتضاه بالاغماء ونحوه، فالتحقيق رجوعه إلى
ولايته نحو الأب والمجتهد، وإن ولايتهما من الشرع، إلا أن المفروض بعد مشروعيته
صار النصب منه كالنصب من الشارع بل العبارة عنهما واحدة، وكون ولايته من حيث
الأبوة المحققة بعد زوال العارض لا يصلح فارقا بينهما، ضرورة امكان دعوى أن وصاية
الوصي من حيث كونه زيدا أو ابنا مثلا وهو متحقق، وإن انقطعت ولايته بالعارض
لكن قد عرفت أن ذلك لا يقتضي انفساخ سبب الوصاية الذي لا مانع من دعوى تأثيره
على هذا الوجه، ولا يقدح فيه حصول المانع، فتأمل جيدا، فإنه دقيق نافع في المقام
وغيره، وبذلك ظهر لك الحال في المقام، بل وما في كلام غير واحد من الأصحاب حتى
ثاني الشهيدين منهم في المسالك وإن كان لم يأل جهدا في تحقيق المسألة، و
أرجع الأقوال الأربعة أو الخمسة إلى قولين، أحدهما: الاعتبار من حين الوصية إلى
حين الانتهاء، والثاني من حين الوفاة إلى حين الانتهاء، واختار هو الأول منها، لكن
من تأمل كلامه، يجده أيضا غير محرر وغير منقح باعتبار عدم اشتماله على الفرق بين
اشتراط أصل الصحة بالاستمرار، وبين اشتراط الاستمرار بالاستمرار، وعدم الدليل
437

على ما ادعاه من معلومية الانفساخ بمجرد عروض فقدها، وغير ذلك، مما لا يخفى على
المتأمل، والتحقيق ما عرفت، وبناؤه على عدم تحقق الولاية قبل الوفاة، وعلى
تنقيح ما تقتضيه أدلة الشرايط، وعلى مراعاة مقتضى العمومات، فإن ملاحظة جميع
ذلك تقتضي ما ذكرنا.
وأما بناء بعض أفراد المسألة ولو بالنسبة إلى بعض الأقوال على مسألة ما لو أوصى إلى
عدل ففسق، التي قد عرفت الاتفاق فيها الانفساخ من القائلين باشتراط العدالة وعدمه
ففيه أن ذلك مبني على تعرف حال الموصي وقصده، وإرادة تقييده الولاية وعدمها
ومحل البحث الآن في كيفية اشتراط الشرائط شرعا، وذلك لا دخل له في قصد
الموصي، ومنه ينقدح خروج تصريح الموصي بالايصاء إلى مجنون بعد عقله، وإلى
صبي بعد بلوغه ونحو ذلك عن محل النزاع في المقام بما عرفته، من أن الوصاية
أشبه شئ بنصب الأمارة، فلا يقدح فيها تعليق ولا غيره لعموم " من بدله " (1) وغيره
مضافا إلى ظهور الاتفاق عليه، والتصريح به من بعض على وجه المفروغية منه،
فمحله حينئذ ما لو أوصى مطلقا للوصية، فهل يكفي جمع الوصي الشرائط حال
الايصاء أو لا بد من الجميع حال الوفاة؟ أو من حين الايصاء إلى حين الوفاة على
حسب ما عرفت، فتأمل جيدا، والله العالم.
المسألة (الثانية) قد عرفت فيما تقدم أنه (تصح الوصية على كل من
للموصي عليه ولاية شرعية) بحيث يصح الايصاء بها (كالولد وإن نزلوا بشرط
الصغر) أو البلوغ مع عدم الكمال، وعدم ولي إجباري، فلا يندرج في ذلك، - و
لو بملاحظة ما تقدم سابقا - أحد الأبوين، مع وجود الآخر، والوصي الغير
المأذون والحاكم، لما تقدم من عدم ولاية لهم على التولية بعد الوفاة.
وعلى كل حال (فلو أوصى) بالولاية (على أولاده الكبار العقلاء، أو على أبيه
أو على أقاربه لم تمض الوصية عليهم) لعدم الولاية له على ذلك (ولو أوصى
بالنظر في المال الذي تركه لهم لم يصح له التصرف) في شئ منه، لأنه من الولاية

(1) سورة البقرة الآية 181.
438

عليهم أيضا بل و (لا في ثلثه) منه لأنه لا ولاية له عليه مع عدم الوصية به، وعدم
اخراجه عن إرث الوارث، فلا تصح الولاية عليه مع كونه ملكا للوارث كما في نظائره.
نعم لو أوصى به (و) أخرجه عن أرث الوارث جاز له نصب ولي عليه، لكن
حينئذ يكون شريكا للوارث، فليس له الاستقلال بتمييزه إلا إذا نص الموصي على
ذلك، فإن الظاهر الصحة، لأن له مثل هذه الولاية التي هي أولى من
حصره ثلثه في عين معينة، فإنه مع عدم ضرر على الوارث ينقص في ماله لم يكن له
معارضة، بل قد تقدم سابقا عند البحث في صحة الوصية بالمضاربة في التركة ما
يقتضي جوازها بالنظر في المال مع عدم الضرر على الوارث في ذلك، مثل الوصية
ببيع التركة مثلا بثمن المثل وغيره مما تقدم، وحينئذ يشكل ما سمعته من المصنف.
(و) على كل حال من ذلك وغيره يعلم أيضا أنه (تصح الوصية في اخراج
الحقوق عن الموصي كالديون والصدقات) الواجبة، ولو بأن يعين أشياء مخصوصة
لذلك ويجعل لها وصيا، وليس حينئذ للوارث معارضة الوصي، وإن قلنا بكونها
ملكا له بالموت ويستحق نماؤها، إلا أنها انتقلت إليه على هذا الوجه الذي تقتضي
عمومات أولويته بماله جواز هذه الوصية، لأنها ليس مما خرج عن الموصي بالدليل
الشرعي، وهو النقص في الثلثين قهرا على الوارث، وأحقيته بأعيان التركة من الديان وغيره
إنما هو إذا لم يوص الموصي، وإذا تبرع ووفى دين الديان بالرضا منه كانت
الأعيان له، وليس له إلزام الوصي بأخذها، وإن بذل مقدار الدين مع فرض
وصاية الموصي بالوفاء كما هو واضح.
بل لو أوصى وصيا على وفاء دينه مصرحا بأن له ولاية التشخيص بما شاءه من
الأعيان لم يكن للوارث معارضته أيضا على الظاهر، لعموم " فمن بدله " (1) وغيره مما
لا معارض له في مثل ذلك.
نعم لو أوصى وصيا على قضاء دينه وأطلق لم يكن له معارضة الوارث لو أراد
بذل الدين من نفسه، أو من بعض أعيان التركة، لأحقيته بأعيانها من غيره، أما

(1) سورة البقرة الآية 181.
439

لو امتنع عن الوفاء أجبره الحاكم، أو يأذن للوصي في البيع عليه، ودعوى كون
الاطلاق في الوصاية يقتضي الوصية بالتخيير له في الأعيان فلا يعارضه الوراث،
وكذا الوصي على الثلث، يمكن منعها ضرورة أعمية الايصاء بذلك من ذلك -. والله
العالم.
المسألة (الثالثة: يجوز لمن يتولى أموال اليتيم) بوصاية ونحوها (أن -
يأخذ أجرة المثل من نظره في ماله) كما عن الإسكافي والشيخ في آخر باب التصرف
في أموال اليتامى، بل هو خيرة جماعة من المتأخرين كالفاضل في القواعد والمحقق
وغيره، بل عن مجمع البيان أنه الظاهر من روايات أصحابنا.
(وقيل:) والقائل الشيخ في المحكي عن نهايته وابن إدريس (يأخذ قدر
كفايته، وقيل:) والقائل الشيخ أيضا في المحكي من خلافه وتبيانه يأخذ (أقل
الأمرين) إن كانت كفايته أقل من أجرة المثل، فله قدر الكفاية دون أجرة المثل
وإن كانت أجرة المثل أقل من الكفاية فله الأجرة دون الكفاية، ونحوه عن المبسوط،
لكن قيد ذلك بالفقر، فقال: " الولي إن كان فقيرا جاز له أن يأكل من مال اليتيم
أقل الأمرين، كفايته أو أجرة مثله " ومع ملاحظة الاطلاق السابق، وتقييده يكون
الأقوال أربعة بل خمسة مع زيادة القول بأخذ أجرة المثل إن كان فقيرا وإلا لم يجز له أخذ
شئ منه، كما هو خيرة ثاني الشهيدين في المسالك.
(و) على كل حال ف‍ (الأول أظهر) من غير فرق بين الغني والفقير، وبين
الوصي والحاكم وأمينه وعدول المؤمنين وغيرهم ما لم يوجد المتبرع الجامع للشرائط
فلا يجوز للحاكم مثلا أن يجعل النظر إلى غيره ممن يريد الأجرة، بلا مصلحة لليتيم
وبين العمل الواجب على الأمين فعله من حيث الأمانة، وبين غيره مما لم يجب
عليه، كالتنمية، بناء على عدم وجوبها، لأصالة احترام فعل المسلم كماله، ووجوبه
عليه - كوجوب بذل المال في المخمصة بالقيمة - لا ينافي أخذ العوض عليه، مع
إمكان منع وجوب المباشرة بنفسه، فله حينئذ استيجار من يحفظه مثلا بشئ منه
ولو نفسه.
440

ولعله إلى ذلك أومى صحيح هشام بن الحكم (1) الذي هو دليل آخر للمسألة
أيضا قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عمن تولى مال اليتيم ماله أن يأكل منه، فقال:
ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم، فليأكل بقدر ذلك ".
بل لعله المراد بالمعروف في الآية الشريفة (2) بل وفيما جاء من تفسيرها
في موثق سماعة (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) فيها " من كان يلي شيئا لليتامى، وهو
يحتاج ليس له ما يقيمه، فهو يتقاضى أموالهم، ويقيم في ضيعتهم، فليأكل بقدر و
لا يسرف، وإن كان ضيعتهم لا تشغله عما يعالج نفسه، فلا يبرز أن من أموالهم
شيئا ".
وصحيح عبد الله بن سنان (4) عنه (عليه السلام) أيضا أنه سئل وأنا حاضر عن القيم لليتامى
والشراء لهم والبيع فيما يصلحهم أله أن يأكل من أموالهم، فقال لا بأس أن يأكل
من أموالهم بالمعروف كما قال الله عز وجل " فليأكل بالمعروف " وهو القوت وصحيحه
الآخر (5) عنه أيضا " المعروف هو القوت " وإنما عنى الوصي والقيم في أموالهم ما يصلحهم -
وخبر أبي الصباح (6) عنه (عليه السلام) أيضا فيها " فقال: ذاك لرجل يحبس نفسه
عن المعيشة، فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم أموالهم، فإن كان
المال قليلا فلا يأكل منه شيئا ".
ونحوه خبرا سماعة وأبي أسامة (7) المرويان عن تفسير العياشي عنه أيضا فيها
وكذا خبر أبي بصير (8) المروي في التفسير المزبور عنه أيضا فيها " قال: هذا رجل يحبس
نفسه لليتيم على حرث أو ماشية، ويشغل فيها نفسه فليأكل منه بالمعروف وليس له
ذلك في الدنانير والدراهم التي عنده موضوعة ".

(1) الوسائل الباب - 72 - من أبواب ما يكتسب به الحديث - 5.
(2) سورة النساء الآية - 6.
(3) الوسائل الباب - 72 - من أبواب ما يكتسب به الحديث - 4 - 1 - 3 - 8 - 9 - 10 - 6.
(4) الوسائل الباب - 72 - من أبواب ما يكتسب به الحديث - 4 - 1 - 3 - 8 - 9 - 10 - 6.
(5) الوسائل الباب - 72 - من أبواب ما يكتسب به الحديث - 4 - 1 - 3 - 8 - 9 - 10 - 6.
(6) الوسائل الباب - 72 - من أبواب ما يكتسب به الحديث - 4 - 1 - 3 - 8 - 9 - 10 - 6.
(8) الوسائل الباب - 72 - من أبواب ما يكتسب به الحديث - 4 - 1 - 3 - 8 - 9 - 10 - 6.
(7) المستدرك ج 2 ص 454.
441

وخبر زرارة (1) المروي فيه أيضا عن أبي جعفر (عليه السلام) فيها " سأله عنها فقال:
ذلك إذا حبس نفسه في أموالهم فلا يحترف لنفسه، فليأكل بالمعروف من مالهم "
بناء على أن ذلك أجرة مثله لغلبة عدم زيادة احتراف الناس على ما يحتاجونه
في أقواتهم.
بل لعل ذلك هو المراد أيضا من مضمر محمد بن مسلم (2) المروي عن تفسير
العياشي " سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخ يتيم في حجره أيخلط أمرها بأمر
ماشيته؟ فقال: إن كان يليط حياضها ويقوم على مهنتها ويرد شاردها فليشرب من
ألبانها غير مجهد ولا مضر بالولد ثم قال: وإن كان غنيا " إلى آخره.
وموثق حنان (3) " قال أبو عبد الله (عليه السلام): سألني عيسى بن موسى عن القيم
للأيتام في الإبل ما يحل له فيها؟ فقلت له: إذا لاط حوضها وطلب ضالتها، وهنا
جربانها، فله أن يصيب من لبنها من غير نهك لضرع، ولا فساد لنسل " بناء على
أن ذلك أجرة مثله عرفا أو أقل، فإنه من المعروف أيضا، ضرورة كون المراد أن
الأكل من مال اليتيم لا يكون إلا في مقابلة عمله له فيما له، وإلا كان من الذين يأكلون
أموال اليتامى ظلما.
نعم أعلى أفراد الأكل بالمعروف شرعا وعرفا أجرة المثل، فإن نقص عنها
زاد في المعروف وقد أحسن إلى اليتيم، بل إن لم يأخذ شيئا، فقد زاد في الاحسان
ولم يكن من الأكل بالمعروف الذي قد رخص فيه في مقابلة العمل للفقير، دون الغني
الذي أريد منه الاستعفاف عن ذلك، مع علمه لليتيم في ماله، فالمراد حينئذ أن
الفقير إن أراد الأكل، فلا يأكل إلا بالمعروف، وهو أن يكون في مقابلة عمل له
في مال اليتيم وأن لا يزيد على أجرة المثل، وكلما نقص عن ذلك فهو من المعروف.
بل لعل ذلك هو المراد من النصوص سيما المرسل في كنز العرفان (4) قال:

(1) الوسائل الباب - 72 - من أبواب ما يكتسب به الحديث 4 - 1 - 3 - 8 - 9 - 10 - 6.
(2) الوسائل الباب - 72 - من أبواب ما يكتسب به الحديث 4 - 1 - 3 - 8 - 9 - 10 - 6.
(3) الوسائل الباب - 72 - من أبواب ما يكتسب به الحديث 2.
(4) المستدرك ج 2 ص 454.
442

إن رجلا قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف
غير متأثل مالا ولا واق " أي غير مستأصل للمال، ولا واق بماله مالك.
نعم لو لم يكن لفعله أجرة في العادة كوضع الدارهم والدنانير عنده، أو كان
المال قليلا غير محتاج إلى عمل له أجرة يعتد بها عرفا لم يأخذ شيئا، على ما أومأ
إليه في بعض النصوص السابقة، كما أنه ينبغي له التعفف لو كان غنيا غير محتاج
كي يمنعه اشتغاله بمال اليتيم عن قوته وقوت الواجبي النفقة، فإن الآية وإن
اشتملت على الأمر الظاهر في الوجوب خصوصا في أوامر الكتاب، لكن المادة تشعر
بالندب، فيضعف الظن بإرادته منه على وجه يعارض ما سمعته من القاعدة والصحيح
وغيرهما، سيما في الأعمال التي لا يجب عليه مباشرتها، كالتنمية ونحوها، فدعوى
أن له بذل الأجرة للغير دون نفسه واضحة الفساد، بل هي كذلك في كل عمل
كان له ذلك فيه، ضرورة عدم الفرق بينه وبين غيره في ذلك، بل لعله أولى
باعتبار بقاء نظره على مال الطفل واحتياطه عليه.
ومن ذلك يظهر لك ضعف التفصيل بين الفقير والغني في الاستحقاق وعدمه
كما أن منه يظهر لك ضعف مستند الأقوال البقية التي وجهها الأخذ بالآية، وما ورد
في تفسيرها في خصوص الفقير، أو الجمع بينها وبين ما دل على وجوب الأجرة
بأخذ الأقل منهما الذي هو الأحسن في مال الطفل المنهي عن القرب إلى ماله
إلا بالتي هي أحسن (1)، ولأن الكفاية إن كانت أقل من الأجرة فمع حصولها يكون
غنيا يجب عليه الاستعفاف، وإن كانت الأجرة أقل فهو لا يستحق الأزيد في
البالغ، فضلا عن اليتيم، واستجوده في المسالك لو تحقق للكفاية معنى مضبوط،
قال: " لأنه إن أريد بالأكل بالمعروف المتعارف كما يظهر من الآية
والرواية وجعل مختصا بالولي لا يتعدى إلى عياله، فلا منافاة بين الفقر وحصول
الكفاية منه بهذا الاعتبار حينئذ، لأن حصول القوت محتاج إلى مؤنة السنة من
نفقة وكسوة ومسكن وغيرها حتى يتحقق ارتفاع الفقر، إذ لم يشترط حصول ذلك في

(1) سورة الأنعام الآية 152.
443

بقية عياله الواجبي النفقة وحينئذ فقولهم في الاستدلال مع حصول الكفاية يكون
غنيا غير صحيح، وإن أريد به مطلق السرف كما هو المراد من قوله تعالى (1) " ولا -
تأكلوها اسرافا " إلى آخره وقوله تعالى (2) " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " وقوله
تعالى (3) " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " إلى آخر الآية وغير ذلك، فقيد
المعروف في " غير ذلك " غير واضح المراد يعتبر معه أقل الأمرين، لأن التصرف على هذا
الوجه مختلف باختلاف الأشخاص والحاجة، وربما أدى ذلك إلى الاضرار بمال
اليتيم، وقوله في الرواية هو القوت تخصيص لمعنى الأكل إلا أنه ليس بصريح في
اختصاصه بأكله بنفسه لما عرفت من أن الأكل مستعمل لغة فيما هو أعم من ذلك ".
وعلى كل معنى من الأكل لا يتم الحكم فيه على اطلاقه، لأن العمل ربما
كان قليلا والقوت كثيرة فيؤدي إلى الاضرار باليتيم زيادة على المكلف وفيه أنه لا
اجمال في الأكل بالمعروف عرفا خصوصا بعد توضيح النصوص له، وأنه القوت
المراد به ما يحتاج إليه عرفا، بل يمكن إرادة الضرورية من الكسوة وغيرها له ولمن
يعول به، لكن بشرط اشتغاله بمال الطفل على وجه يمنع من تحصيل ذلك وأنه
لولا عمله به لأمكنه الاشتغال بما يحصل ذلك له منه، وهو أمر مضبوط في العرف
ولذا أطلق الأمر به في الكتاب والسنة في مقام البيان خصوصا مع ملاحظة ما سمعته
في مرسل كنز العرفان مع ذلك.
نعم يقوى الظن بما سمعته من انطباق ذلك على أجرة المثل التي مقتضى
القاعدة، والصحيح وغيرهما. ولذا كان الأقوى ذلك، لا للاجمال في الآية والرواية
كما هو واضح.
هذا كله إذا لم يتبرع الولي، وإلا لم يستحق شيئا، أما لو لم يقصد الرجوع
ولا عدمه فالظاهر الاستحقاق أيضا لقاعدة الاحترام التي لا ينافيها عدم الأمر

(1) سورة النساء الآية 6.
(2) سورة البقرة الآية - 188.
(3) سورة النساء الآية - 10.
444

من المالك الصوري بعد الإذن بالعمل من المالك الحقيقي، بل مقتضى اطلاق الآية
التي عرفت تنزيلها على ما قلناه ذلك أيضا، هذا.
ولكن الاحتياط لا ينبغي تركه فيه وفي المسألة السابقة أيضا لشدة التأكيد
كتابا وسنة في التجنب عن أموال اليتامى، وخصوصا بعد خبر رفاعة (1) المروي عن
تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى " فليأكل بالمعروف " قال: كان
أبي يقول: إنها منسوخة " بل عن مجمع البيان (2) عن جماعة من العامة تفسيرها بأخذ
قدر الحاجة من مال اليتيم على جهة القرض، ثم يرد عليه ما أخذ إذا وجد، قال:
وهو مروي عن الباقر (عليه السلام)، وإن كان الثابت عندنا خلافهما، وهو ما عرفته من
النصوص المعتضدة بالفتاوى، وخصوصا في الأعمال الواجبة على الوصي كحفظ
المال في حرزه ونحوه من الأعمال التي لا يتجدد لها مال للطفل.
هذا كله إذا لم يوص إليه بجعل يكون أجرة لمثله عن عمله وإلا وجب بلا خلاف،
كما عن التنقيح، بل ولا اشكال، فإن زاد عليها توقف على سعة الثلث أو إجازة
الوارث كما صرح به غير واحد، ضرورة كونه حينئذ من الوصية التي قد عرفت أن حكمها
ذلك، والله العالم.
الفصل (السادس في اللواحق)
(وفيه قسمان: القسم الأول وفيه مسائل،
الأولى: إذا أوصى لأجنبي
بمثل نصيب ابنه، وليس له إلا واحد، فقد شرك بينهما في تركته) لأنه أضاف إلى
الوارث واحدا آخر بالوصية وحينئذ (فللموصى له النصف) من التركة، إلا أنه لما
كان أزيد من الثلث، (فإن) أجاز الولد قسم المال بينهما نصفين وإن (لم
يجز الوارث فله) أي الموصى له (الثلث) والباقي للولد (و) كذا (لو كان له
ابنان) وقد أوصى لأجنبي بمثل نصيب أحدهما (كانت الوصية بالثلث) لأنه
قد أضاف إليهما ثالثا (ولو كان له ثلاثة كان له الربع) وهكذا (والضابط أنه

(1) الوسائل الباب - 72 - من أبواب ما يكتسب به الحديث - 11 - 7.
(2) الوسائل الباب - 72 - من أبواب ما يكتسب به الحديث - 11 - 7.
445

يضاف إلى الوارث، ويجعل كأحدهم إن كانوا متساوين وإن اختلفت سهامهم جعل
مثل أضعفهم سهما) لأنه المتيقن (إلا أن يقول مثل أعظمهم) سهما (فيعمل)
حينئذ (بمقتضى وصيته) إن لم تزد على الثلث، وإلا وقف على الإجازة بلا خلاف
أجده في شئ من ذلك بيننا، بل قد يشعر نسبته في جامع المقاصد إلى علمائنا
بالاجماع عليه.
نعم عن جمع من العامة أنه يعطى الموصى له مثل نصيب أحدهم إذا كانوا
متساوين من أصل المال، ويقسم الباقي بين الورثة، لأن نصيب الوارث قبل الوصية
من أصل المال، وحينئذ فإذا أوصى له بمثل نصيب ابنه وليس له إلا واحد فالوصية
بجميع المال الذي هو نصيب الابن قبل الوصية، وإن كان له اثنان فالوصية بنصف
المال الذي هو نصيب أحدهما قبل الوصية، ويبقى النصف الآخر لهما - وهكذا
بل في محكي التحرير أنه قريب من الصواب، وفيه أن ظاهر عبارة الموصي أو صريحها
في المثال الأول التشريك بينهما، لا حرمان الوارث، فيكون المراد حينئذ منها
أن له نصيبا مثل نصيب ابني بعد الوصية، فإن التماثل يقتضي شيئين، كما أن
الوارث لا يستحق شيئا إلا بعد الوصية النافذة، فالوارث الموصي بمثل نصيبه لا -
نصيب له إلا بعد الوصية، وحينئذ فيكون ما للموصى له، مماثلا لنصيبه بعد الوصية
وعلى ما ذكروه لا يكون للوارث نصيب مماثل لنصيب الموصى له، فإنه في الأول لا نصيب له
أصلا، وفي الثاني لكل واحد من الولدين الربع، وفي الثالث لكل واحد من الأولاد
الثلاثة ثلث من الثلثين، وهو لا يماثل ثلث الأصل، كما أن الربع لا يماثل النصف،
وهو حينئذ خلاف مدلول الوصية، وتبديل له " فإنما إثمه على الذين يبدلونه " (1).
وعلى كل حال، فهذه المسألة وأشباهها من المسائل الدورية، لأن معرفة
نصيب الوارث متوقفة على اخراج الوصية، ومعرفة نصيب الموصى له إنما يكون إذا عرف
نصيب الوارث، إلا أنه لما كان الأمر فيها ظاهرا - ضرورة انتقال الذهن إلى المراد
بأدنى التفات - لم يذكروا في معرفتها طريق الجبر والمقابلة، بل اكتفوا بما عرفت

(1) سورة البقرة الآية 181.
446

من تصحيح الفريضة على الورثة، ثم زيادة واحدة يساوي أحدهم، أو الأقل منهم
على حسب ما سمعت.
بل لا فرق في ذلك بين الوصية بنصيب واحد منهم غير معين، وبين الوصية
بمثل نصيب واحد معين، فإن له أيضا مثل نصيبه مزادا على الفريضة، فإن زاد
على الثلث توقف على الإجازة، وإلا نفذت الوصية، بل لا فرق أيضا بين الوصية
لأجنبي أو أحد الورثة بناء على ما عندنا من جواز الوصية للوارث، خلافا لبعض
العامة، فإذا أوصى لوارث بمثل نصيب أحد وراثه، فكالوصية للأجنبي التي قد عرفت
الحال في أمثلتها التي منها أيضا لو كان له ابن وبنت، وأوصى بمثل نصيب الابن
فإن له سهمين من خمسة إن أجازا ولو قال: مثل نصيب البنت فله الربع ولو كان له
ثلاثة بنين وثلاث بنات، وأوصى له بمثل سهم بنت أو أحد وراثه فله العشر ولو
قال: مثل نصيب ابنه فله سهمان من أحد عشر، وهكذا كما هو واضح بعد كما عرفت
(ولو قال:) في وصيته (له مثل نصيب بنتي فعندنا يكون له النصف إذا
لم يكن له وارث سواها، لأن المال لها فرضا وردا، فهي كالولد حينئذ في ذلك
(و) في أنه (يرد إلى الثلث إذا لم تجز و) كذا (ولو كان له بنتان كان له
الثلث لأن المال عندنا للبنتين) فرضا وردا (دون العصبة، فيكون الموصى له
كثالثة) كالولدين وقد أوصى للثالث أن له مثل نصيب أحدهما الذي قد سمعت
الكلام فيه.
نعم عند العامة الوصية في الأول بالثلث، لأن المسألة عندهم من اثنين
واحد للبنت، وواحد للعصبة، فيزيد بالوصية على الاثنين سهما، فيعطى واحدا
من ثلاثة، وفي الثاني بالربع، لأن المسألة عندهم من ثلاث، اثنان وهما الثلثان
للبنتين، وواحد للعصبة فيزيد عليها للموصى له بالوصية سهما، فتكون أربعة له
الربع منها.
(ولو كان له ثلاث أخوات من أم وثلاثة إخوة من أب، فأوصى لأجنبي بمثل
نصيب أحد ورثته، كان كواحدة من الأخوات) لما عرفت من تنزيل الوصية في مثله
447

على الأقل الذي هو المتيقن فأصل الفريضة حينئذ ثلاثة، للأخوات من الأم الثلث،
وللأخوة من الأب الثلثان، ثم تنكسر على الفريضة، والفرض أن عددهما متماثل،
فيضرب عدد أحدهما في أصل الفريضة تبلغ تسعة للأخوات الثلاث ثلاثة، لكل
واحدة سهم وللأخوة ستة لكل واحد اثنان، فإذا أوصى بمثل نصيب أحدهم، وحمل على
الأقل الذي هو نصيب إحدى الأخوات ازدادت الفريضة واحدا، لما عرفت من أن الضابطة
تصحيح الفريضة بين الورثة ثم زيادة نصيب الموصى له عليها، فالوصية حينئذ بعشر التركة
(فيكون له سهم من عشرة، وللأخوات) من الأم (ثلاثة وللأخوة ستة).
نعم ينبغي أن يعلم أن كون الموصى له كواحد من الأخوات، مبني على فرض
كون الإخوة للأب ثلاثة مثلا، وإلا فلو فرض كونهم سبعة مثلا لم يتم المثال، ضرورة كون
الأقل حينئذ واحدا منهم لا منهن، إلا أن الأمر سهل بعد معرفة الضابط، وإن
أطلق المصنف الإخوة، مع احتمال إرادته أقل الجمع، والله العالم.
(ولو كان له زوجة وبنت، وقال: له مثل نصيب بنتي) التي هي أعظم
نصيبا (وأجاز الورثة) قال الشيخ (كان له سبعة أسهم، وللبنت مثلها وللزوجة
سهمان) وفيه أن الوصية حينئذ من نصيب البنت خاصة لأن الاثنين ثمن الفريضة
التي هي ستة عشر، فيكون، سهم الزوجة تاما، والواجب أن تكون الوصية مع الإجازة
من أصل التركة، ويدخل النقص بها على جميع الورثة، كل على حسب استحقاقه.
ومن هنا قال المصنف (لو قيل: لها) أي الزوجة (سهم من خمسة عشر
كان أولى) بل لعله يتعين كما في القواعد وجامع المقاصد والمسالك، ضرورة أنه
مقتضى الضابط السابق الذي هو تصحيح الفريضة أولا، وهي هنا ثمانية، للزوجة
الثمن سهم، وللبنت الباقي، وهو سبعة أسهم، ويزاد عليها مثل نصيب البنت
بالوصية: أي سبعة، فيكون مجموع التركة خمسة عشر، هذا كله مع الإجازة.
أما إذا لم يجز الوارث، فالمسألة من اثني عشر له الثلث أربعة، والثمانية
بين الزوجة والبنت، على أصل الفريضة الشرعية، للزوجة الثمن سهم وللبنت الباقي
فرضا وردا، ولو أجازت إحداهما خاصة، ففي المسالك ضربت إحدى الفريضتين في
448

وفق الأخرى تبلغ ستين، لأن بين الاثني عشر، والخمسة عشر توافقا بالثلث فضرب
ثلث أحديهما في الأخرى، فمن أجاز ضربت نصيبه من مسألة الإجازة في وفق
مسألة الرد، ومن رد ضربت نصيبه من مسألة الرد في وفق مسألة الإجازة، فذلك
نصيبه، والباقي للموصى له.
وهذا ضابط في كل ما يرد عليك في إجازة البعض ورد الآخرين فلو فرض
كون الفريضتين متباينتين ضربت إحداهما ونصيب من أجاز من مسألة الإجازة في
مسألة الرد، ونصيب من رد مسألة الرد في مسألة الإجازة، فلو كان المجيز البنت فنصيبها
من مسألة الإجازة سبعة من خمسة عشر تضربها في أربعة وفق مسألة الرد: تبلغ
ثمانية وعشرين، فهو نصيبها من الستين، وللزوجة واحد من اثني عشر في مسألة
الرد تضربه في وفق مسألة الإجازة، وهو خمسة من خمسة عشر، تبلغ خمسة، فهي
نصيبها من الستين، والباقي وهو سبعة وعشرون للموصى له، ولو كان المجيز هو
الزوجة ضربت نصيبها من مسألة الإجازة، وهو واحد في أربعة وفق مسألة الرد،
فلها أربعة، ونصيب البنت من مسألة الرد وهو سبعة من اثني عشر في وفق
مسألة الإجازة وهو خمسة تبلغ خمسة وثلاثين، والباقي هو أحد وعشرون للموصى
له، فله مع إجازتها ثمانية وعشرون، وللبنت كذلك، وللزوجة أربعة، ومع ردهما
عشرون وللبنت خمسة وثلاثون، وللزوجة خمسة، ومع إجازة إحديهما يأخذ الموصى
له التفاوت، ولو انعكس الفرض: بأن أوصى له بمثل نصيب الزوجة وأجاز فللموصى
له التسع، لأنك تزيد نصيب الزوجة وهو واحد على الفريضة، وفي جامع المقاصد
والمسالك أنه وهم الشيخ هنا أيضا، فجعل للزوجة سهما من ثمانية، وللموصى له
سهما، وللبنت ستة، فأخرج الوصية من نصيب البنت خاصة، والصواب إدخال
نصيبه عليهما، فيكون من تسعة.
(ولو كان له أربع زوجات وبنت فأوصى بمثل نصيب إحداهن) قال الشيخ:
(كانت الفريضة من اثنين وثلاثين، فيكون للزوجات الثمن أربعة بينهن بالسوية
وله سهم كواحدة، ويبقى سبعة وعشرون للبنت) وفيه ما عرفت من اختصاص النقص
449

بالبنت أيضا ومقتضى الضابط المزبور أن يفرض له واحد كإحدى الزوجات ويزاد
على الفريضة ليدخل النقص على الجميع، فأصل الفريضة ثمانية نصيب الزوجات
الأربع منها واحد، وينكسر عليهن، فيضرب عددهن في الفريضة تبلغ اثنين و
ثلاثين، ويزاد عليها واحد بالوصية فتكون ثلاثة وثلاثين.
(و) من هنا قال المصنف (لو قيل:) له واحد (من ثلاثة وثلاثين كان
أشبه) بل هو متعين، ولذا جزم غير واحد بأنه سهو من قلمه الشريف كالسابق
ولو كانت الوصية في الفرض بمثل نصيب البنت ألحقت ثمانية وعشرين مقدار نصيبها
بأصل الفريضة تبلغ ستين إن أجازوا الوصية، وإن ردوا ألحقت نصف الفريضة بها
ليصير للموصى له ثلث المجموع، ويكون الثلثان قائمين بالفريضة، فيكون من ثمانية
وأربعين: للموصى له ثلثها ستة عشر وللزوجات أربعة، وللبنت ثمانية وعشرون، و
لو أجازت إحداهن ضربت وفق مسألة الإجازة وهو هنا جزء من اثني عشر، هو
نصف السدس في مسألة الرد أو بالعكس، فتضرب خمسة في ثمانية وأربعين، أو
أربعة في ستين تبلغ ماءتين وأربعين، فمن أجاز أخذ نصيبه من مسألة الإجازة
مضروبا في وفق مسألة الرد، ومن رد أخذ نصيبه من مسألة الرد مضروبا في وفق
مسألة الإجازة، فمع إجازة البنت يكون لها ماءة واثني عشر هو الحاصل في ضرب
ثمانية وعشرين في أربعة، وللزوجات عشرون هي الحاصلة من ضرب أربعة في خمسة،
والباقي وهو ماءة وثمانية للموصى له ولو أجاز بعض الزوجات، فله نصيبها من المجاز
وهو سهم واحد يضاف إلى ما يصيبه ثلث التركة، وهو ثمانون، وهو خلاصة ما في
الدروس المفروض فيها المسألة بالابن وأربع زوجات، الذي لا فرق بينه وبين البنت
في ذلك، ثم قال: وإن شئت مع إجازة البعض أن تدفع الثلث إلى الموصى له،
ويقسم الباقي بين الوارث فريضة على تقديري الإجازة وعدمها، فيأخذ الموصى له
التفاوت، فتدفع هنا إلى الموصى له ثمانين، ثم تقسم الباقي، وهو ماءة وستون
فريضة، للزوجات عشرون وللابن ماءة وأربعون، هذا على تقدير الرد، وفي تقدير
الإجازة للابن ماءة واثني عشر، وللزوجات الأربع ستة عشر، ويظهر من ذلك بأن
450

الزائد على الثلث في مسألة الإجازة، وهي ستون ثمانية أسهم، وقد صارت مضروبة
في أربعة فيكون اثنين وثلاثين سهما، فيقسمها فريضة، فيكون للزوجات: أربعة
وللابن ثمانية وعشرون، فالتفاوت بين نصيبي الابن ثمانية وعشرون وبين نصيب
كل واحدة من الزوجات سهم، فبالإجازة من البعض تدفع ذلك التفاوت، ولك
طريق ثالث، وهو أن تضرب ما زاد على الثلث في مسألة الإجازة فتقسم بين الورثة
فريضة، فإن انقسم صحت المسألتان من مسألة الإجازة وإن انكسرت ضربت مسألة
الإجازة في مخرج الكسر، وقد عرفت أن الزائد على الثلث هنا ثمانية فتقسمها على
الورثة ينكسر في مخرج الربع، فتضرب أربعة في ستين تبلغ ماءتين وأربعين ويبقى
الزائد على الثلث اثنان وثلاثون فتقسم بين الورثة كما مر، فلو أجاز الزوجات
دون الابن صحت المسألة من ستين لابن الموصى له يأخذ نصيبهن من الزائد،
وهو سهم، وتبقى للابن سبعة إلى غير ذلك مما هو واضح عند من له معرفة
بالحساب، بل ربما كان غير الفقيه أعرف منه في ذلك، والله العالم.
المسألة (الثانية: لو أوصى لأجنبي بنصيب ولده قيل:) والقائل الشيخ
في المحكي من خلافه ومبسوطه وتبعه عليه الفاضل في المختلف (تبطل الوصية،
لأنها وصية بمستحقه) التي مرجعها إلى العزل عن الميراث أو إلى الوصية بمال
الغير، وهي فيهما معا باطلة، ولأن صحتها موقوفة على بطلانها، فيستلزم وجودها
عدمها، إذ لا تكون صحيحة، إلا أن يكون للابن نصيب، ولا يكون له نصيب حتى
تبطل هذه الوصية، لأنه لا يملك الموصى به لقوله تعالى (1) " من بعد وصية يوصي بها
أو دين " ولأن بطلانها لازم لكل من النقيضين، فإنه إن ثبت للابن نصيب، امتنعت
صحتها، وإن لم يكن له نصيب انتفى متعلقها.
(وقيل) والقائل بعض علمائنا كما في المختلف (يصح، ويكون كما لو أوصى
بمثل نصيبه وهو أشبه) عند المصنف بقاعدة وجوب الحمل على المجاز عند تعذر الحقيقة
التي لها صحت الوصية بمثل نصيب الابن، مع أنه لا نصيب له فعلا، ولكن فيه أن
البطلان على تقدير الحقيقة، ليس من تعذر الحقيقة، ضرورة أنه لا بأس بالتزامه،

(1) سورة النساء الآية - 12.
451

وصحة الوصية بمثل نصيب الابن، للظهور في إرادة المعنى المزبور الممنوع دعواه
هنا، واحتمال كون المراد الوصية بجميع المال - باعتبار أن الولد لما لم يكن له
نصيب الآن، وإنما يكون نصيبه بعد الموت كان إضافة النصيب إليه مجازا في جميع
التركة، فكأنه قال: جميع التركة لفلان التي نصيب ابني لو فرض كونه وارثا لها وحده
من غير مزاحم له من وصية ولا غيرها، وهذا وإن كان مجازا، إلا أنه ليس هنا معنى
حقيقي يمكن حمله عليه، حتى يقال: تقدم الحقيقة على المجاز - يدفعه عدم القرينة
الدالة عليه، بل حمله على إرادة حرمان الوارث، ووضع الموصى له موضعه أظهر
من ذلك.
نعم قد يناقش في البطلان على هذا التقدير أيضا لعموم أدلة الوصية فالمتجه
حينئذ نفوذها مع إجازة الوارث، ومع عدمها تبطل منها ما زاحم الوارث وتصح في
غير ذلك، وهو الثلث، وتكون حينئذ كالوصية بجميع المال.
اللهم إلا أن يقال: إنها ظاهرة في إرادة الوصية بنصيب الوارث من حيث
كونه نصيبا، وهو لا تصح الوصية به، ضرورة عدم اجتماع كونه نصيبا وكونه موصى به،
ولعله لذا قال في الدروس: " ولو أوصى بنصيب وارث فإن قصد عزله من الإرث فالأقرب
البطلان، وإلا حمل على المثل، وفيه معلومية إرادة كونه نصيبا لولا الوصية به
لا كونه نصيبا مع كونه موصى به، فالمتجه حينئذ الصحة مع الإجازة، وعدمها مع عدمها، وليست
هي كالوصية بمال الغير الذي لا تعلق للموصى فيه، ولا مما يستلزم وجودها عدمها
ولا بطلانها لازم للنقيضين على التقدير الذي سمعت، بل منه يعلم ما في اطلاق
الشيخ بطلانها، واطلاق غيره الصحة، ولحمل على المثل أو على الجميع الذي
أطنب فيه في المسالك تبعا لجامع المقاصد، مدعيا أنه المتبادر عند الاطلاق، و
أنه لا يفهم من اللفظ إلا ذلك، بل معظم القائلين بالصحة لا يريدون إلا ذلك، و
إن ذكر بعضهم لفظ المثل، لكن مرادهم من الوصية بجميع المال، على معنى أنه
مثل ابني لو لم تكن وصية ولا وارث، لا أن المراد له نصيب ابني فيكون شريكا له في
452

النصف إذا لم يكن سواهما على حسب ما سمعته في المسألة السابقة - قال " نعم
في عبارة الشيخ فخر الدين ما يؤذن بفهمه إرادة النصف من القائل بالصحة، لأنه
قال في شرحه بعد تقرير القولين: فعلى الصحة، لا فرق بين زيادة لفظ المثل و
حذفها، فقوله أوصيت بنصيبه مثل أوصيت بمثل نصيبه، وإنما فرق القائل بالبطلان
وهي كالصريحة في المشاركة، كما لو كان المثل مذكورا وقد شدد النكير على المحقق
الثاني في دعواه اختصاصه باحتمال الصحة على معنى إرادة الجميع، وأن المعروف
بين الفقهاء قولان: أحدهما البطلان، والثاني الصحة على إرادة المثل على وجه
المشاركة ثم حكى عبارة المختلف والتذكرة وبعض عبارات العامة، والحاصل أن حمله
على الوصية بالجميع في عبارة أصحابنا أكثر مع وجود الآخر، وحمله على النصف في
كلام العامة أكثر مع وجود الآخر ".
قلت: ولكن قد عرفت أن المفهوم من العبارة غير ذلك كله، وهو ما عرفته إلا مع
قرينة خارجة تدل على ما يقتضي البطلان، أو الجميع، أو المشاركة، وحينئذ يكون
خارجا عن محل النزاع الذي من المعلوم كون هذا اللفظ مجردا عن القرائن الخارجية
فتأمل جيدا والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (لو كان له ابن قاتل) أو كافر أو عبد، (فأوصى) بنصيبه
حمل على مثله كما في الدروس لدلالته على إرادة ذلك.
نعم لو أوصى (بمثل نصيبه قيل: صحت الوصية) على معنى نصيبه لو لم يكن
قاتلا) صونا للكلام عن الهذرية، وفي المختلف صحت إن كان الموصي جاهلا بأن
الابن قاتل، أو بأن القاتل لا يرث، وتبطل إن كان عارفا بهما، واستحسنه في
المسالك (وقيل) والقائل الشيخ في مبسوطه (لا تصح، لأنه لا نصيب له وهو أشبه)
عند المصنف بل عن المبسوط القطع بذلك ولم يذكره غيره إلا أن الأقوى في النظر
الصحة مطلقا لظهور كون المفهوم منه عرفا أن له نصيبا مثل نصيبه لو لم يكن مانع
الإرث، ولو كان جاهلا، إذ جهله لا ينافي صحة الوصية المعلوم عدم اشتراطها بفعلية
نصيبه، كمعلومية عدم توقف المعنى على ذلك كما هو واضح.
453

المسألة (الثالثة: إذا أوصى بضعف نصيب ولده) مثلا (كان له مثلاه)
لأن ضعف الشئ مثلاه كما هو الأشهر بين الفقهاء على ما في المسالك، بل عن
الخلاف حكايته عن عامة الفقهاء والعلماء وإن كان فيه أنه خلاف ما في الصحاح، و
عن الجمهرة وأبي عبيد القاسم بن سلام من أن الضعف المثل.
نعم عن الأزهري الضعف المثل فما فوقه، وليس بمقصور على مثليه فأقل الضعف
محصور في الواحد، وأكثره غير محصور، وعن الخليل الضعف أن يزاد على أصل
الشئ فيجعل مثلين أو أكثر، وعن نهاية ابن الأثير الضعف مثلان، ويمكن أن يريد
الأزهري والخليل بيان الضعف بالمعنى المصدري الذي لا ينحصر في المثل أي
المضاعفة، فلا ينافي حينئذ معناه الذي هو المثل في غيره، بل لعل عرفنا اليوم
شاهد على ذلك، وحينئذ فالمتجه في محل البحث أن يكون له مثله، اللهم إلا أن
يكون المراد مثله مضاعفا، وحينئذ يكون له مثلاه، كما ذكره المصنف وغيره بل قيل:
أنه المشهور، وأنه يشهد له قوله تعالى (1) " إذا لأذقناه ضعف الحياة وضعف المماة "
أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة مضاعفا وقوله (2) " أولئك لهم جزاء الضعف " وقوله (3)
" أولئك هم المضعفون ".
(و) لكن المتجه على ذلك أنه (لو قال: ضعفاه كان له أربعة) أمثاله كما
عن المبسوط (و) مع ذلك (قيل: ثلاثة) أمثاله، بل في المتن (و) غيره
(هو أشبه أخذا بالمتيقن) وفيه أن المتيقن المثلان لما عرفت من تفسير الضعف
بالمثل ممن سمعت، كما أن المتيقن هو الوصية بالضعف التي حكم فيها بالمثلين،
وما في المسالك من أنه لم يعتد بالقولين لضعفهما وشذوذهما بخلاف القول
بالثلاثة المحكي عن بعض أهل اللغة التصريح بأن ضعفي الشئ هو ومثلاه، فيكون
ثلاثة أمثاله، - يدفعه ما عرفت من تصريح من سمعت به لأنها عبارة، والتصريح

(1) سورة الإسراء الآية - 75.
(2) سورة السبأ الآية - 37.
(3) سورة الروم الآية - 39.
454

الذي ذكره هو المحكي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال: ضعف الشئ هو ومثله
وضعفاه هو ومثلاه.
قلت وعليه تكون الوصية بضعف النصيب، وصية بالنصيب ومثله، وبضعفيه به و
مثليه وليس هو المراد قطعا، ويمكن أن يكون المراد مقدار النصيب، ومثله الضعف
فيكون مثلين، ومقدار النصيب، ومثلاه الضعفان، فيكون ثلاثة أمثاله.
وفي الدروس ولو أوصى له بضعف نصيب ولده أعطى مثليه، وبضعفيه ثلاثة
أمثاله - وفي المبسوط أربعة أمثاله - وبثلاثة أضعافه أربعة أمثاله، والأصل فيه
أن ضعف الشئ هو ومثله، وضعفاه هو ومثلاه، وهكذا، وعلى قول المبسوط كل
ضعف مثلان.
وعلى كل حال، فلا ريب في أن المتجه ما في المبسوط، بناء على أن المراد من
الضعف المثلان، والأخذ بالمتيقن لا يعارض ظاهر اللفظ، ومنه يعلم أن ما في قوله
أيضا (وكذا لو قال: ضعف ضعف نصيبه) أي كالضعفين في القولين، وإن الأشبه
ثلاثة أمثاله، وذلك لأن من قال إن الضعف المثلان فتضعيفه قدره مرتين، وهو
أربعة أمثال، فيكون الموصى به ضعف ضعف النصيب، ومن قال: بأنه ضم مثل الشئ
إليه فيضعف هذا الضم زيادته مرة أخرى، فيكون ثلاثة وضعفه، وقد اعترف في
المسالك هنا بضعفه، فقال: إنه مخالف للتفسيرين السابقين للضعف لأن من جعله
المثل فالتضعيف مثلان، ومن جعله مثلين لزم أن يكون تضعيفه أربعة، وأما اعتبار
المنضم خاصة، ففيه أن الضعف عند هذا القائل هو المجموع من المماثل والزائد
لا نفس الزائد، وإلا لكان هو القول بالمثل، وبالجملة، فالقول بأن ضعف الضعف
ثلاثة أمثاله ضعيف جدا، وقد وافقه عليه العلامة في التذكرة والإرشاد.
وفي المسألة وجه ثالث، أن ضعف الضعف ستة أمثال، بأن يكون الضعف
ومثله معا هو الموصى به، ويضعف بأن الوصية بالمضاف خاصة.
ورابع أنه مثل واحد، بناء على أن الضعف هو المثل، فضعف الضعف مثل
المثل، والمثل واحد، فمثله كذلك، وقد عرفت ضعف المبني عليه، وقد ظهر أن
455

أرجح الأقوال كون ضعف أربعة أمثال.
قلت: لكنه ينافي ظاهرا موافقته للمصنف في المسألة السابقة من الأخذ بالمتيقن
نعم هو متجه على ما قلناه، فتأمل جيدا، فإن ما في المسالك هنا لا يخلو من المناقشة
من وجوه أخر. والله العالم.
المسألة (الرابعة: إذا أوصى بثلثه للفقراء، وله أموال متفرقة، جاز صرف
كل ما في بلد إلى فقرائه) قطعا للصدق الذي لا ينافيه احتمال إرادة فقراء بلده
بعد عدم الدليل عليه، فالأخذ بظاهر اللفظ حينئذ الشامل لهذا الفرد متجه.
(و) كذا (لو صرف الجميع في فقراء بلد الموصي جاز أيضا) لذلك.
نعم في المسالك إن لم يستلزم تغريرا بالمال بسبب نقله، ولا تأخيرا لاخراج
الوصية مع امكان التعجيل، وإلا أشكل الجواز لذلك، وفيه أنه لا اشكال أيضا وإن
أثم أو ضمن، إذ الكلام في أصل جواز صرفه فيهم، على أنه يمكن فرض غرض صحيح
لجواز النقل كأولوية المستحق، ووجود الحاكم وغير ذلك مما سمعته في الزكاة، أما
لو فرض عدم المستحق في بلد المال، وعدم الخطر في نقله فلا اشكال أصلا، كما
أنه لا اشكال في جواز اخراج قدر الثلث من المال الذي في بلد الموصي، وترك
الأموال المتفرقة للورثة، مع رضاهم بذلك، لأن المعتبر اخراج ثلث المال بالقيمة،
لا الاخراج من كل شئ ثلثه، وإن كان اطلاق الثلث يقتضي الإشاعة إلا أن يتعلق
غرض للموصي بشئ من الأعيان أو الجميع فيتبع مراده حينئذ ".
(و) كيف كان ف‍ (يدفع إلى الموجودين في البلد، ولا يجب) عليه
(تتبع من غاب) لأن الفقراء غير منحصرين، فلا يجب الاستيعاب، ولا تتبع من
ليس في البلد لذلك.
وفي المسالك، ويفهم منه وجوب استيعاب من في البلد منهم، ووجهه أن
الموصي لهم مستحقون على جهة الاشتراك، لا على جهة بيان المصرف كالزكاة، و
بهذا يظهر أن عدم وجوب التتبع رخصة، وأنه لو صرفه إلى غير الموجودين أو إليهم
مع غيرهم جاز ".
456

قلت فيه أولا: منع عدم إرادة المصرف من مثل هذا اللفظ الذي لا فرق بين تعلق
خطاب الزكاة وغيره في فهم أهل العرف منه ذلك، ولو بقرينة عدم حصر الفقراء و
نحوه.
وثانيا: أن استحقاق الموصي لهم على جهة الاشتراك لا على المصرف لا
يقتضي ما ذكره من الرخصة، ومن جواز الصرف إلى غير الموجودين أو إليهم وإلى
غيرهم كما هو واضح، خصوصا بعد أن ذكر ذلك وجها لوجوب استيعاب من في
البلد المنافي لذلك والله العالم.
(و) على كل حال ف‍ (هل يجب أن يعطى ثلاثة فصاعدا؟ قيل: نعم، و
هو الأشبه) عند المصنف (عملا بمقتضى اللفظ) الذي هو جمع، وأقله ثلاثة على
المختار، وحينئذ لا يجوز أن يقصر عن ثلاثة، فإن لم يوجد في البلد وجب الاكمال
من غيره مراعاة للفظ الجمع، وأن الحكم ليس لبيان المصرف عنده، وإلا لاكتفى بالواحد
وأشكله في المسالك " بأنه إن كان للاشتراك وجب تتبع الممكن، وإن كان لبيان
المصرف لزمه الاكتفاء بواحد، فالجمع بين وجوب استيعاب من في البلد وعدم وجوب
صرف إلى غيرهم، مع وجوب الدفع إلى ثلاثة لا يخلو من اشكال " ثم قال: ولعل الوجه فيه
أن مراعاة الجمع يوجب الثلاثة فصاعدا، واستيعاب من حضر لاشتراكهم في الاستحقاق
وعدم وجوب الدفع إلى من سواهم رخصة وتخفيف.
قلت: لم لا يكون هذا منه قرينة على عدم إرادته استيعاب من في البلد، من
قوله " ولا يجب تتبع من غاب " فيكون حاصله عدم وجوب تتبع من غاب، وعدم وجوب
استيعاب من في البلد، ولكن يجب اعطاء الثلاثة فصاعدا مراعاة للفظ الجمع المراد
من تعريفه الجنس لا الاستغراق، فهو للمصرف عنده، إلا أنه يراعى في المصرف أقل
الجمع فصاعدا.
بل قوله (وكذا لو قال: أعتقوا رقابا، وجب أن يعتق ثلاثة فما زاد، إلا أن
يقصر ثلث مال الموصي) شاهد لذلك، ضرورة كون المراد منه عدم الفرق بين الجمع
المنكر والمعرف الذي لا يراد الاستغراق بتعريفه، وإنما المراد منه العهد الذهني
457

على حسب الإرادة في المفرد، في نحو أدخل السوق واشتر اللحم ونحو ذلك.
نعم قد يشكل بظهور إرادة الجنس الذي يلغي فيه مراعاة أقل الجمع، كما
يلغى مراعاته مع إرادة الاستغراق من مثل هذا اللفظ الذي علم عدم إرادة الاستغراق
منه، ولذا لم يراع في مصرف الزكاة والخمس أقل الجمع فصاعدا، ولكن لا ريب في أن
الأحوط ما ذكره، كما أنه لا ريب في عتق الممكن من الأقل مع عدم سعة الثلث، لعدم
سقوط الميسور بالمعسور ولأن دلالة الجمع على أفاده كدلالة اسم كل واحد منها
عليه، فلا يسقط التكليف بالممكن منها بتعذر الآخر، فلا يرد أن الموصى به مسمى
الجمع فينبغي بطلان الوصية أو توقع تنفيذها مع رجائه.
إنما الكلام فيما لو قصر حتى عن الواحد، فهل يجب إعتاق شقص مع الامكان
قولان: مع أنه في المسالك استقرب الوجوب، لثبوت عتق الجزء كالكل، ولعموم " لا
يسقط " (1) و " ما استطعتم " ونحوهما، لكن قد يناقش فيه بأن لفظ الرقبة لا يدل على
البعض إلا تضمنا، والدلالة التضمنية تابعة للمطابقية، فإذا فات المتبوع انتفى التابع
ودعوى - أن عتق الرقبة لما لم يتحقق إلا بعتق جميع أجزائها، فكل جزء مقصود
عتقه، ومأمور به بالذات لا بالتبعية، فيجب حيث يمكن - واضحة المنع، ضرورة أن
المقدمة وجوبها تبعي لا ذاتي كما حقق في محله.
نعم قد يقال: إن صرفه في ذلك أولى لأنه أقرب إلى مراد الموصي، ولأنه
بعض أنواع البر الذي هو مصرف الوصية المتعذرة على الأصح كما تقدم، من غير فرق
بين ما تجدد تعذرها وبين المتعذرة ابتداء فتأمل جيدا والله العالم.
المسألة (الخامسة: إذا أوصى الانسان بعبد، ولآخر بتمام الثلث) باعتبار
قيمة العبد (صحت الوصيتان) لوجود المقتضي وانتفاء المانع، فيقوم العبد يوم موت
الموصي الذي هو حال نفوذ الوصية، وينظر إلى بقية التركة، فإن خرج العبد من الثلث
صحت وصيته، وينظر بعد ذلك فإن بقي من الثلث بقية فهي للموصى له الثاني وإلا
بطلت الوصية لفوات متعلقها وهذا واضح.

(1) عن غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
458

إنما الكلام فيما لو تغيرت قيمة العبد أو بقية التركة، وقد عرفت فيما تقدم أن المعتبر
في قيمة التركة حال الوفاة بالنسبة إلى الزيادة والنقصان، وحينئذ فإذا فرض
حدوث نقص في التركة قبل قبض الوارث، فالنقص على الموصى له الثاني لأن الوصية بتكملة
الثلث بعد الوصية الأولى، فلا بد من اعتبار خروج الأولى أولا ثم الثانية إن بقي لها من
الثلث شئ.
(ولو حدث في العبد عيب قبل تسليمه إلى الموصى له، كان للموصى له الآخر
تكملة الثلث بعد وضع قيمة العبد صحيحا لأنه قصد عطية التكملة والعبد صحيح)
فلا بد من ملاحظة قيمته صحيحا في الاخراج من الثلث، فلو فرض أن قيمة العبد
صحيحا ماءة، والباقي من التركة خمسماءة، فأصل الثلث ماءتان، والوصية للثاني
بماءة، فإذا تجدد نقص العبد خمسون مثلا رجعت التركة إلى خمسماءة وخمسين
وثلثها ماءة و - ثلاثة وثمانون وثلثا، فإذا وضعت منه قيمة العبد صحيحا بقي ثلاثة
وثمانون وثلث للموصى له.
لكن في المسالك " ويشكل بأن مقتضى الوصية أن يكون بيد الورثة ضعف ما
بيد الموصى له الثاني بعد اسقاط الأولى، وهنا ليس كذلك، لأن الباقي من المال
بعد قيمة العبد خمسماءة، فيجب أن يكون نقص العبد محسوبا من التركة بالنسبة
إلى الأول، فهو كالباقي، فالمتجه أن يكون للثاني ماءة، والواصل إلى الورثة
الثلثان وزيادة ".
وفيه أنه مناف لغرض قصد الموصي الوصية للثاني بما زاد عن قيمة العبد صحيحا
ولو باعتبار ظهور الوصية كذلك، ثم الوصية بالتتمة للثاني، واعتبار كون ما بيد الورثة
ضعف ما بيد الموصى له مسلم مع عدم صدور النقص بالعين الموصى بها، الذي هو
كتلف بعض العين الموصى بها، ضرورة اقتضائه زيادة الورثة حينئذ، واحتساب نفس
النقص من التركة مناف للواقع، ومضر للوارث كما هو واضح.
وعلى كل حال فالزيادة للوارث، ضرورة عدم استحقاق الموصى له بالعبد إياها
لأنها ليست مما أوصى بها له، ولا الثاني لأنها ليست من التتمة، ففي الفرض يأخذ
459

الموصى له الثاني ما زاد عن قيمة العبد صحيحا، من الماءة والثلاثة وثمانين وثلث،
وهو ما عدا الماءة، فتكون الخمسون للورثة، وعلى ما ذكره هو يكون للوارث ثلاثة و
ثلاثون وثلث، هذا كله في النقص للعيب.
أما لو كان باعتبار السوق وكان خمسين مثلا اعتبر قيمة التركة عند الوفاة، ولا
ينقص بسببه شئ على الثاني، بل يعطى تمام الثلث حينئذ، وهو ماءة وثلاثون وثلث،
والفرق أن العين هنا قائمة بحالها، والثلث إنما يعتبر عند انتقال التركة عن الموصي
وهو حال الوفاة، بخلاف نقص المعيب، فإنه نقص محسوس له حصة من الثمن، ولهذا
ضمنه الغاصب ويثبت أرشه للمشتري، دون رخص السوق، مع احتمال أن يقال أيضا
أن الموصي قصد التتمة مع مساواة العبد القيمة العليا فتأمل.
(و) كذا (لو مات العبد قبل موت الموصي بطلت الوصية) به بفوات متعلقها
(وأعطى الآخر ما زاد عن قيمة العبد الصحيح) لأن له تكملة الثلث، فلا يسقط
بموته شئ، فيعتبر قيمته عند وفاة الموصي لو كان حيا، ويحط قيمته من الثلث، ويدفع
الباقي إلى الموصى له الثاني.
نعم لو فرض نقص المال غير العبد كأن ينقص ماءة مثلا فالنقص على الثاني فيكون
له ستة وستون وثلثان، ولا يجري مجرى موت العبد، لأن الفائت هنا على الورثة وهناك
على الموصى له الأول، وجانب الورثة موفر، كما أنه لو كان تلف المال بعد قبض الوارث
الواقع بعد الوفاة كان محسوبا عليهم، فيكون للثاني تمام الماءة هذا.
ولكن في الدروس، ولو أوصى له بعبد، ولآخر بتمام الثلث صح، فإن مات العبد
قبل الموصي بطلت الوصية به ويعطى الآخر التتمة، فلو كان قيمته ماءة وباقي المال
خمسماءة، أعطى الثاني ماءة، ويشكل بأن الثلث الآن أنقص من الأول، وكذا لو عاب أو
رخص، ومقتضاه حينئذ اعطاء تتمة الثلث الآن لا غير بعد إسقاط قيمة العبد صحيحا،
لأن الموصي قصد ذلك، وفيه أن الموصي قصد ذلك بعد ملاحظة العبد من التركة
لا أنه يخرج من ثلث ما عداه، فلا فرق حينئذ بين موته قبل الموصي وبعده، كما أنه
لا فرق في أصل المسألة بين تسليم العبد إلى الموصى له وعدمه، بعد فرض
460

كون التعيب في حياة الموصي، كما عساه يومي إليه الحكم ببطلان الوصية بموته،
ضرورة أن تسلمه قبل موت الموصي كعدم تسلمه فالتقييد حينئذ في المتن وغيره
بذلك غير واضح، ودعوى - إمكان إرادته الأعم من حياة الموصي وموته - يدفعها عدم
تمامية الحكم حينئذ فيما بعد الموت، بناء على أن القبول كاشف عن الملك حين الموت،
فالنقص بالعيب حينئذ داخل في ملك الموصى له الأول، فلا يحتسب على غيره.
وبذلك كله وما تقدم في المباحث السابقة ظهر لك الحال في أقسام المسألة
وإن كثرها في المسالك فقال: إنما الكلام فيما لو تغيرت قيمة العبد أو بقية التركة بزيادة
أو نقصان قبل موت الموصي أو بعده، وقبل تسلم الموصى له العبد أو بعده، وقبل وصول
الثلثين إلى الورثة أو بعده، لكن عند التأمل لا محصل لها فتأمل جيدا هذا.
(و) قد ظهر مما قدمناه سابقا أنه (لو كانت قيمة العبد بقدر الثلث بطلت
الوصية للآخر) لانتفاء موضوعها.
المسألة (السادسة: إذا أوصى له بأبيه فقبل الوصية، وهو مريض، عتق
عليه من أصل المال اجماعا) منا سواء قلنا: بأن المنجزات منه أو من الثلث (لأنه)
على الثاني (إنما يعتبر من الثلث ما يخرجه عن ملكه) مما فيه ضرر بالوارث (و
هنا) مع أنه (لم يخرجه) عن ملكه حتى يكون من التنجيز، (بل بالقبول
ملكه و) لكن (انعتق عليه قهرا تبعا لملكه) لم يكن فيه ضرر على الوارث.
وما عن بعض العامة - أن خروجه من الثلث كالعتق اختيارا، بل عن العلامة
أنه قواه في التحرير، لأن اختيار السبب كاختيار المسبب، فمتى كان الأول مقدورا
فالثاني كذلك، وقهرية العتق لا يقتضي الخروج من الأصل، مع استنادها إلى اختيار
المريض في التملك - واضح الضعف بعد ما عرفت، ومثل ما لو وهب فقبل الهبة و
هو مريض، وكذا لو كان قد ملكه بغير اختيار كالإرث، بل هو أولى بالحكم من الأول.
نعم لو ملكه مختارا بعوض موروث كما لو اشتراه مثلا بثمن المثل اتجه القول
بخروجه من الثلث، لأن تملكه له باختياره سبب عتقه، فجرى مجرى المباشرة المفوتة
للمال على الوارث، ولو باعتبار بذل الثمن في مقابلة ما يعلم فواته، وزوال ماليته، مع
461

أن المحكي عن أحد قولي الفاضل في القواعد نفوذه من الأصل أيضا، لأنه إنما
يحجر عليه في التبرعات، والشراء ليس بتبرع فلا يكون محجورا عليه، والعتق حصل بغير
اختياره، فلا يعتبر فيه الثلث، وإن كان فيه ما لا يخفى بعد ما ذكرناه.
أما لو اشتراه بما يزيد عن ثمن المثل، فلا ريب في كون الزائد محاباة يخرج
من الثلث، بناء على القول بكون التبرعات منه كما أن الظاهر خروجه من الأصل على
القولين لو ملكه بعوض موروث، ولكنه بغير اختياره، بمعنى استناده إلى أمر الشارع
له به، مثل ما لو نذر في حال المرض إن جوزنا كونه من الأصل - أنه إذا وجد
قريبه يباع بعوض هو قادر عليه اشتراه، فوجده وهو مريض فاشتراه، وقد يحتمل ضعيفا كونه من
الثلث لحصول السبب المقتضي للتصرف في المرض.
وفيه أنه بعد أن كان لك سبب ايجاب الشارع صار بمنزلة الدين، وكذا لو
ملكه بعوض غير موروث باختياره، كما لو آجر نفسه للخدمة به، فيعتق من الأصل على
القولين، لعدم تفويته شيئا على الورثة، وأولى أن يملكه كذلك غير اختياره، بل بالزام
الشارع، كما لو كان قد نذر تملكه بالإجارة كذلك.
ولو اشترى أباه بدون ثمن المثل بأن حاباه البايع بالنصف مثلا، فباعه إياه
بخمسماءة، وهو يسوى ألفا صح حينئذ في سبعة أعشاره عند الشيخ ومن وافقه، لأن
نصفه بمنزلة الهبة الذي تخرج من الأصل، وعشران منه ينفذ فيهما البيع، بناء على
أن التركة ستماءة فثلثها منها ماءتان، فينفذ فيهما البيع، ويبطل في الباقي، ويرد
من الثمن ثلاثماءة، فهي مع الماءة الباقية أربعة ثلثان للورثة.
وفيه: أن بطلان البيع في جزء من أحد العوضين يقتضي بطلانه في مقابله من العوض
الآخر لأن المجموع في مقابل المجموع، وليست المحاباة هبة حقيقة، وإنما هي في معنى الهبة
فتمتنع الصحة في مجموع أحد العوضين، والبطلان في البعض الآخر، فالمتجه حينئذ
بطلان البيع في ثلاثة أخماس العبد، في مقابلة ما زاد على ثلث التركة، أعني ثلاثة
أخماس الثمن، وهو ثلاثماءة، ويصح في خمسيه بماءتين فينعتق فيه الخمسان، ويكون
التصرف في ثلث التركة أعني الماءتين - والله العالم.
462

المسألة (السابعة: لو أوصى له بدار) مثلا (فانهدمت) لا بفعل الموصي
(وصارت براحا، ثم مات الموصي، بطلت الوصية، لأنها خرجت عن اسم الدار)
الذي هو للمركب الفائت بفوات أحد أجزائه، وخصوصا ما تفوت به حقيقته.
(و) لكن مع ذلك (فيه تردد) ينشأ مما سمعت، ومن بقاء بعض متعلق
الوصية الذي لا يفوت بفوات البعض الآخر، بعد أن كانت الوصية بكل جزء جزء، وإن
أداها بالوصية باسم المجموع، لكنه كما ترى، ضرورة ظهور اللفظ في الوصية بالبعض
من حيث كونه جزء من المركب، لا أنه وصية به لنفسه مستقلا، كما أوضحنا ذلك في
باب البيع عند البحث على مسألة جواز بيع الوقف عند خرابه، وربما فصل بعضهم بأنه
إن كان الموصى به دارا معينة، فانهدمت فالوصية باقية، لانتفاء الدليل الصالح
للبطلان، وتغير الاسم لم يثبت كونه قادحا، والباقي منها بعض ما أوصى به، وإن
كان قد أوصى له بدار من دوره، فانهدمت جميع دوره قبل موته بطلت، لانتفاء المسمى
واستحسنه في المسالك.
وفيه ما لا يخفى بعد ما سمعت، ضرورة الاكتفاء في البطلان بانتفاء الموصى
به، باعتبار جعل عنوان الوصية الاسم المخصوص المفروض انتفاء مسماه بالانهدام و
كفى بذلك مبطلا من غير فرق بين كونها معينة أو لا، هذا.
وفي المسالك " وموضع الخلاف ما إذا كان الانهدام لا بفعل الموصي، وإلا كان
رجوعا " قلت: هو ليس إلا لما ذكرناه مما لا فرق فيه بين فعل الموصي وغيره فتأمل
جيدا كي تعرف الحكم في نظائر المسألة، بل وفي غير الوصية.
المسألة (الثامنة: إذا قال: أعطوا زيدا والفقراء كذا، كان لزيد النصف من
الوصية) كما لو أوصى لقبيلتين مختلفي العدد (وقيل: الربع) لأن أقل الفقراء
ثلاثة، وقد شرك بينهم، وبين زيد بالعطف، فيكون كأحدهم، وفيه أن التشريك بين
زيد والفقراء لا بينه وبين آحاد الجمع، فهو حينئذ فريق والجمع فريق آخر، وإلا لم يكن الربع،
ضرورة عدم انحصار آحاد الجمع في الثلاثة، وكونها أقل لا يوجب المصير إليها مع
وجود اللفظ الشامل له ولغيره.
463

ومن هنا يحكى عن بعض العامة وجه ثالث في المسألة: وهو أن يكون زيد
كأحد الفقراء، فإن قسم المال على أربعة من الفقراء أعطى زيد الخمس، وهكذا.
ورابع: أنه يعطى زيد أقل ما يتمول ولا يجوز حرمانه، وإن كان غنيا.
وخامس: أنه إن كان فقيرا فهو كأحدهم، وتخصيصه للاهتمام به، وإن كان غنيا
فله النصف.
وسادس: إن كان غنيا فله الربع، وإلا فالثلث، لدخوله فيهم.
وسابع: إن الوصية في حق زيد باطلة لجهالة من أضيف إليه، وإن كان
الجميع كما ترى، ولذا انحصر أقوال أصحابنا في الأولين (و) قد عرفت أن -
(الأول) منهما (أشبه) بل لعله كذلك إذا وصف زيدا بوصف الجمع، فقال:
لزيد الفقير والفقراء، وأولى منه لو وصفه بغير وصفهم، كما لو قال: لزيد الكاتب والفقراء.
وعلى كل حال فلا بد من الصرف إلى ثلاثة من الفقراء مراعاة لصيغة الجمع إذا
لم يفهم منه إرادة الجنس على جهة مصرف الزكاة كما عرفته سابقا والله العالم.
(القسم الثاني في تصرفات المريض)
(وهي نوعان مؤجلة) بما بعد الموت (ومنجزة) أي حاضرة معجلة لم
تؤجل بالموت (والمؤجلة) وصية كتمليك عين أو منفعة مثلا وغير وصية كالتدبير والنذر
المؤجل بالموت.
وعلى كل حال ف‍ (حكمها حكم الوصية) في الخروج من الثلث (اجماعا وقد
سلفت وكذا) لك (تصرفات الصحيح إذا قرنت بما بعد الموت) بناء على أنه ليس
من الوصية بل هو عتق، وقد تبعه على هذا التعبير الفاضل في القواعد والانصاف
عدم خلوه عن سماجة.
ولعل الأولى منه جعل تصرفاته قسمين: وصية أي معلقة بما بعد الموت، و
منجزة، والأولى من الثلث والثانية، ففيها البحث المعروف، ولا يرد التدبير والنذر
المقيد بالموت بناء على أنهما من الوصية بل وعلى تقدير أنهما ليسا منها فحكمهما
في محلهما، ولم يثبت صحة تصرف مؤجل بما بعد الموت غير وصية غيرهما، على أن
464

إلحاق النذر المزبور بالوصية في الحكم المذكور أحد القولين في المسألة، والآخر
أنه من الأصل، فلا يناسب دعوى الاجماع عليه بل في دعوى الاجماع على خروج الوصية
من الثلث فضلا عنه مناقشة، لمعروفية خلاف الصدوق في ذلك اللهم إلا أن لا يعتد
بخلافه، وأيضا فمحل البحث هنا تصرفات المريض التي معظمها الوصية ولم يفده
إلا بالتشبيه، مع أن الحكم المزبور غير خاص بالمريض اعترف هو به.
وما في المسالك - من أنه بناء على ما استفيد من تعريف المصنف الوصية بأنها
تمليك عين أو منفعة إلى آخره يتحقق أفراد كثيرة يطلق عليها اسم التصرف المؤجل
دون الوصية، كالوصية بالعتق والوقف على جهة عامة، والوصية بابراء المديون، وغير
ذلك، - فيه ما لا يخفى، ضرورة أنه لا وجه لانكار اطلاق اسم الوصية العهدية
على ذلك، وإن انتفى عنها اسم الوصية التمليكية، كما كشفنا عن ذلك في أول
الكتاب، والأمر في ذلك سهل بعد وضوح المراد.
(أما منجزات المريض إذا كانت تبرعا) محضا (كالمحاباة في المعاوضات،
والهبة، والعتق والوقف، فقد قيل: إنها من أصل المال، وقيل: من الثلث، و
اتفق القائلان: على أنه لو برء) المريض (لزمت من جهته وجهة الوارث أيضا)
أي من حيث كونها تبرع مريض (والخلاف فيما لو مات في ذلك المرض).
وقد أشبعنا الكلام في جميع أطراف المسألة في كتاب الحجر حتى فيما ذكره
المصنف هنا أيضا من قوله (ولا بد من الإشارة إلى) ذلك (المرض الذي معه
يتحقق وقوف التصرف على الثلث) بناء عليه (فنقول:) إن المحكي عن الشيخ و
من تبعه أن عنوان الحكم في ذلك المرض المخوف.
وحينئذ ف‍ (كل مرض لا يؤمن معه من الموت غالبا فهو مخوف، كحمى الدق
والسل، وقذف الدم، والأورام السودائية والدموية والاسهال المنتن، والذي يمازجه
دهنية، أو براز أسود يغلي على الأرض، وما شاكله) مما يرجع فيه إلى أهل الخبرة
والتجربة من الأطباء، فإن الأمراض يحصل بها تفاوت، وله طرفان وواسطة، أما أحد
الطرفين فهو الذي يقارن الموت، كحال من قطع حلقومه ومريه، وشق جوفه وأخرج
465

حشوه، بل قيل إن في اعتبار نطق مثل هذا اشكال، ينشأ من عدم استقرار حياته،
فلا يجب بقتله دية كاملة، ولا قصاص في النفس بل حكمه حكم الميت، ولذا لا يصح اسلام
الكافر في هذا الحال، ولا توبة الفاسق، فلا يعد حينئذ بيعه بيعا، ولا إقراره إقرارا، ومن
صدق كونه عاقلا رشيدا، فالعمومات متناولة ولا يلزم من إلحاقه بالأموات في بعض
الأحوال لدليل خاص، إلحاقه بهم في جميعها، وإن كان الأقوى الأخير.
(وأما) الثاني وهي (الأمراض التي) لا يقارنها الموت عادة بل (الغالب
فيها السلامة ف‍) إن هذه (حكمها حكم الصحة، كحمى يوم وكالصداع عن مادة أو
غير مادة، والرمد والدمل والسلاق) الذي هو غلظ في الأجفان عن مادة ردية
غليظة، يحمر لها الجفنان، وينتثر الهدب بل ربما أدى إلى قلع الجفن، وفساد
العين، ونحو ذلك من الأمراض التي ليست بمخوفة، بل قيل: منها الفالج، والسل
المستمر لتطاول أزمانهما، وذلك لأن الفالج استرخاء لأحد شقي البدن لانصباب
خلط بلغمي يفسد منه مسالك الروح، والسل داء يصيب الرية، ويأخذ البدن منه في
النقصان والاصفرار، فليسا بمخوفين، لا في الأول ولا في الثاني، إذ الثاني منهما
وإن كان لم يسلم منه صاحبه غالبا، لكن لا يخشى من الموت عاجلا فهو منزلة الشيخوخة
والهرم، وقيل: إن انتهاءه مخوف، وابتداءه غير مخوف، لأن مدته تتطاول، فلا يخاف
من الموت عاجلا، فإذا انتهى خيف منه، وربما قيل إن ابتداءه مخوف، فإذا استمر لم
يكن مخوفا.
ولكنك خبير أنه لا وجه لهذا الخلاف بين الفقهاء، فإن الفقه لا مدخل له في
ذلك، وإنما المرجع فيه قوانين الطب، والتجربة، خصوصا مع عدم معرفة زمان الانتهاء
فإنه غير مضبوط كالابتداء.
وأما الواسطة فهي ما أشار إليها المصنف بقوله (وكذا ما يحتمل الأمرين حكمي
العفن) المتعلقة بالأخلاط الأربعة مع تعفنها، وفي المسالك أن الحمى العفنية
أنواع منها الورد، وهي التي تأتي كل يوم، والغب وهي التي تأتي يوما وتترك يوما
والثلث تأتي يومين وتترك يوما وتعود في الرابع، والأخوين وهي التي تأتي يومين
466

وتترك يومين وقد أطلق المصنف أنها ليست مخوفة، بل محتملة لأمرين، وذكر جماعة
منهم العلامة أن ما عدا الغب والربع مخوف ".
قلت: لكن في القواعد تمثيل المحتمل بحمى المطبقة قال: لا كحمى الربع والغب
إلا أن ينضم إليها برسام أو رعاف دائم أو ذات جنب أو وجع صدر أو رية أو قولنج، والأمر
في ذلك سهل بعد أن المرجع في ذلك أهل الطب والتجربة.
(و) كذا الكلام في (الزحير) الذي هو حركة منكرة تدعو إلى البراز بسبب
ورم أو خلط لاذع أو برد نال الموضع أو غيره (والأورام البلغمية) والطاعون وغيرها
وإن ذكروا في الأول منهما يكون مخوفا مع اقترانه باسهال ونحوه، بل قيل: إن
الاسهال إذا تواتر ولم يمكن منعه فهو مخوف، لأن من لحقه ذلك أسرع في موته
لتجفيفه رطوبات البدن.
نعم إن لم يكن متواترا، فإن كان يوما أو يومين ولم يدم فليس بمخوف لأنه قد
يكون من فعل الطعام، إلا أن يقترن به زحير، وهو أن يخرج بشدة أو بوجع أو
تقطيع بمعنى خروجه مقطعا، وقد يتوهم انفصال شئ كثير، فإذا نظر كان قليلا، فإنه
حينئذ يكون مخوفا لاضعافه القوة، وكذا لو كان معه دم، لأنه يسقط القوة وكذا
الاسهال المنتن إذ الذي يمازجه دهنية أو براز أسود يغلي على الأرض، وفي الأخير
أنه يكون من هيجان الدم على جميع البدن فينتفخ به البدن مع الحمى أو على بعض
البدن فينتفخ به ذلك العضو، إلى غير ذلك من كلماتهم المتكثرة في هذا المقام.
والمهم بيان أصل الحكم فإنه لم نعثر فيما وصل إلينا من النصوص على جعل
المخوف عنوانا للحكم كي يتجه المباحث المزبورة وغيرها، وإنما الموجود فيها " حضرته
الوفاة، أو عند وفاته، والمريض، وغير الصحيح " ونحو ذلك، ودعوى كون المتيقن فيها المرض
المخوف، فيبقى غيره على الأصول والعمومات كما ترى، أو عدم صدق المريض على غير
المخوف عرفا، بل هو خاص بالخوف والحقيقة العرفية مقدمة على غيرها، وكذا دعوى
كون المراد من قوله " عند موته " ظهور أماراته لا نزول الموت قطعا، على أنه أقرب منه
والمراد ظهور أماراته بالمرض لاشعار قوله (عليه السلام) " المريض محجور عليه إلا في ثلث ماله "
467

بذلك، وللاجماع على عدم الحجر بغير المرض.
ومن هنا قال المصنف: (ولو قيل: بتعلق الحكم بالمرض الذي يتفق به الموت
سواء كان مخوفا في العادة أو لم يكن لكان حسنا) لاطلاق الأدلة، بل في القواعد
أنه الأقرب، وحينئذ يراد بحضور الوفاة وعند الموت المرض الذي يموت به، لكن قد
يناقش بمنع صدق اسم المرض بوجع السن ونحوه، وإن اتفق الموت بل لا يكاد
يتفق العلم بحصول الموت به عادة، واحتمال الاكتفاء له - بمقارنة الموت له وإن لم
يعلم كون الموت به - مخالف لظاهر العبارة.
نعم ربما كان ذلك ظاهر ما في القواعد " الأقرب عندي أن كان تصرف وقع في
مرض اتفق الموت معه سواء كان مخوفا أم لا، فإنه يخرج من الثلث " بل في جامع
المقاصد " أنه يعم ما حصل الموت بسببه أو غيره حتى لو قتله قاتل، أو أكله سبع أو
نحو ذلك " وإن كان الانصاف معلومية عدم إرادته ذلك، كما أن الانصاف عدم ظهر
الأدلة فيما يشمل ذلك، وإن لم يعلم استناد الموت إليه، وقد ذكرنا تمام الكلام في
كتاب الحجر.
لكن قد يقال: هنا أن مقتضى الأدلة الخروج عن الثلث بأحد أمرين.
أحدهما: المرض الذي يموت به سواء كان مخوفا أم لا.
وثانيهما: حال حضور الوفاة، وإن لم يكن بمرض سابق بل كان تنجيزه في حال
نزعه، وتشاغله بخروج روحه، إن لم يكن اجماع على خروج ذلك من الأصل، كما عساه
يظهر مما سمعته سابقا من جامع المقاصد، وإلا كان المتجه تقييد اطلاقات المريض
به، فيختص الخروج من الثلث بما إذا كان عند حضور الوفاة عرفا، ولعله شمل ما عدا
الأمراض المزمنة التي تستمر سنين، فإن الخروج من الثلث فيهما مختص بما إذا قرب
موته بها عرفا، خصوصا بعد مخالفة المسألة للقواعد والمتجه الحكم بمحل الشك بما
تقتضيه، وهو الخروج من الأصل لا الثلث، ومنه يعلم الوجه فيما ذكره المصنف بقوله
(أما وقت المراماة في الحرب) وامتزاج الطائفتين للقتال، مع تساويهما أو
تقاربهما في التكافؤ، بل الظاهر عدم اعتبار الامتزاج كما هو ظاهر المتن خصوصا
468

في المراماة بالرصاص ونحوه.
نعم في المسالك لو كانت إحداهما قاهرة لكثرتها أو قوتها، والأخرى منهزمة
مع أنه قد يقال: يتحقق الخوف أيضا في بعض أفراد ما فرض سيما مع الثبات.
(والطلق للمرأة، وتزاحم الأمواج في البحر، فلا أرى الحكم يتعلق بها
لتجردها عن اطلاق اسم المرض) وفاقا للمشهور بين أصحابنا، بل في المسالك
لم ينقل المصنف ولا غيره خلافا فيه، بل في جامع المقاصد ما سمعته من الاجماع
المزبور، لكن عن ابن الجنيد إلحاقها بالمرض المخوف، بل عنه أنه زاد ما إذا قدم
لاستيفاء قود أو ليقتل رجما في الزنا، أو قطع الطريق، أو كان أسيرا في يد عدو
من عادته قتل الأسير، وغير ذلك مما كان في حالة الأغلب فيها التلف، وهو كما ترى
لا دليل عليه بعد كون المراد من قوله " حضرته الوفاة، وعند وفاته " حالة مرض، ولو
فرض نزع روحه بقرينة غيرها من النصوص التي تكشف بعضها عن بعض خصوصا ما
صرح فيها بأن تصرف الصحيح الصادق على مثل الفرض قطعا من الأصل كما هو
واضح.
فلا اشكال في المسألة حينئذ بناء على عدم حجية العلة المستنبطة التي
هي رأي المخالفين، وربما كان ذلك هو الداعي إلى ابن الجنيد في اختيار ذلك
قبل رجوعه عن القول بالقياس، وأما ما يحكى عن الشيخ من أن للحامل ثلاثة أحوال
قبل الطلق، ومعه، وبعده، فما قبله ليس مخوفا، وما معه مخوف، وما بعده إن لم
يكن معه دم وألم فليس مخوفا وإلا فهو مخوف، بل ربما لاح من الفاضل في القواعد موافقته، بل
في جامع المقاصد أنه لا يخلو من وجه، فليس خلافا في المسألة في الحقيقة وإنما
هو في خصوص ذلك، بل لعل القول به في بعض الأحوال غير بعيد والله العالم.
(وها هنا مسائل) كثيرة في المقام كما لا يخفى على من لاحظ الكتب المطولة
إلا أن المصنف اقتصر على ستة:
(الأولى: إذا) تبرع بتنجيز أمور متعددة في مرض موته كما لو (وهب)
وباع (وحابى) أي باع بدون ثمن المثل (فإن وسعهما الثلث فلا كلام) في
469

نفوذهما معا منه (وإن قصر بدء بالأول فالأول حتى يستوفى الثلث وكان النقص
على الأخير) بلا خلاف في شئ من ذلك عندنا ولا اشكال، لأن الأول قد وقع عن
حال نفوذ تصرفه في ثلثه من غير حاجة إلى إذن الوارث، فإذا استوفى الثلث وقع
التصرف حينئذ في حق الوارث المحتاج إلى الإجازة، من غير فرق في ذلك بين
العتق وغيره، خلافا لبعض العامة، فقدمه مطلقا، وآخر منهم فساوى بينه وبين
المحاباة على تقدير تأخيرها عنه، ولا ريب في ضعف الجميع.
وكذا الكلام على الأصح فيما لو أوصى بوصايا متعددة ما لم تقم قرينة على إرادة
العدول، من غير فرق بين أن يكون في اللفظ ما يقتضي الترتيب وعدمه لأن السابق
قد حكم بصحته، فلا يبطل إلا بدليل، ولخبر حمران (1) عن الباقر (عليه السلام) المتضمن لعتق
من ابتدء بالوصية بعتقه ثم من بعده وهكذا، وقد تقدم البحث في ذلك والله العالم.
المسألة (الثانية: إذا جمع بين عطية منجزة و) عطية (مؤخرة) بعد
الموت (قدمت المنجزة) وإن كانت متأخرة لاقتضائها الملك فعلا (فإن اتسع
الثلث للباقي نفذ) أيضا (وإلا صح فيما يحتمله الثلث وبطل فيما قصر عنه)
إلا إذا أجاز الوارث بلا خلاف ولا اشكال.
ومن ذلك كله ظهر لك أن المنجزات تشارك الوصية في توقف نفوذها على
سعة الثلث أو إجازة الوارث، وفي البدءة بالأول فالأول، من غير فرق بين العتق
وغيره، وفي أنها تصح عندنا للوارث وغيره، خلافا للعامة، وفي أن المدار على الثلث
فيهما حال الموت لا قبله ولا بعده، أو قبله.
قيل: وفي أنه يزاحم بها الوصايا في الثلث، فيدخل النقص على الوصايا بسببها
كما يدخل النقص على وصيته بسبب أخرى، وفيه نظر.
وفي أن فضيلتها ناقصة عن فضيلة الصدقة في الصحة، وفيه نظر، لأن النبي
(صلى الله عليه وآله) (2) " سئل عن أفضل الصدقة فقال: إن تتصدق وأنت صحيح شحيح

(1) الوسائل الباب - 66 - من أبواب أحكام الوصايا الحديث - 1.
(2) المستدرك ج 1 ص 535 لكن الرواية عن الصادق (عليه السلام) وعن النبي (ص) مع تفاوت.
470

تأمل الغنى وتخشى الفقر - ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا،
ولفلان كذا، وقد كان لفلان، وقد كان لفلان ".
وتفارقها في أن قبول المنجزة على الفور بخلاف الوصية التي يقع قبولها بعد
الموت، وفي أنها مشروط بالشروط المعتبرة إذا صدرت في حال الصحة، كالعلم
النافي للغرر في المحاباة، والتنجيز المعتبر في البيع وغيره من العقود، بخلاف
الوصية فإنها معلقة بالموت وعدم الغرر غير شرط في صحتها.
وفي أنها لازمة في حق المعطي، ليس له الرجوع فيها وإن كثرت، لأن المنع من
الزيادة على الثلث إنما كان لحق الورثة، فلم يملك إجازتها ولا ردها، وإنما كان له
الرجوع في الوصية، لأن التبرع بها مشروط بالموت، وقبولها المعتبر إنما هو بعده،
فقبل حصوله لم يوجد التبرع، فكان للموصي الرجوع، بخلاف العطية المفروض حصول
الايجاب والقبول، والقبض على الوجه المثمر للزوم، للاقتران بنية القربة ونحوه
ضرورة كونها حينئذ كالوصية إذا قبلت بعد الموت قيل: وفي أنها مقدمة على
الوصية بالتنفيذ، وإن تأخرت من غير فرق بين العتق وغيره على ما عرفت، وفيه نظر
وفي أنها لازمة في حق المعطي والوارث معا على تقدير البرء فإنه ليس لواحد
منهما حينئذ إبطالها بخلاف الوصية، وفي أن اللزوم في حق المتبرع عليه حيث يكون
التصرف لازما من طرفه بخلاف الوصية، والأمر في ذلك كله سهل، والله العالم.
المسألة (الثالثة: إذا باع كرا من طعام) أو غيره مما هو ربوي (قيمته
ستة دنانير) مثلا (وليس له سواه بكر ردئ) مجانس له (قيمته ثلاثة دنانير)
مثلا (فالمحاباة هنا بنصف تركته) ولم يجز الوارث، فلا اشكال في البطلان في
الزائد على الثلث كما لا اشكال (ف‍) ى أنه (يمضي في قدر الثلث) وحينئذ
فالذي بطل فيه المحاباة في الفرض السدس، ضرورة أن له من الستة ثلثها، وهو اثنان
والفرض أنه قد حابى بنصف التركة، وهو ثلاثة (ف‍) يزيد على الثلث واحد، هو
سدس التركة.
لكن (لو رددنا السدس على الورثة لكان رباء) لمعلومية اقتضاء البطلان
471

في المبيع ولو جزء منه البطلان فيما قابله من الثمن، كمعلومية عدم اقتضاء ذلك
بطلان البيع من أصله هنا، لأنه عقد صدر من أصله في محله فيندرج تحت اطلاق
الأدلة وعموماتها (و) من هنا لم أجد خلافا في ذلك هنا، بل ربما ظهر من
بعضهم الاجماع عليه.
نعم (الوجه في تصحيحه) بحيث يسلم منه من الربا ومن مخالفته قاعدة
مقابلة الثمن للمثمن (أن يرد على الورثة ثلث كرهم، ويرد على المشتري ثلث كره)
وحينئذ (فيبقى مع الورثة ثلثا كر قيمتهما ديناران، ومع المشتري ثلثا كر) من
الجيد (قيمتهما أربعة) دنانير مضافا إلى ثلث الكر المردود إليه الذي قيمته
دينار، فيكون المجتمع عنده خمسة دنانير، كما أن المجتمع عند الورثة أربعة دنانير
لكن منها دينار قيمته ثلث كره الذي يرجع إليه، وأما الباقي عنده من كرهم أربعة دنانير
اثنان منها قد استحقهما في مقابلة ثلثي كره الردي (فيفضل معه) أي المشتري
(ديناران و) هذه الفضلة (هي قدر الثلث من الستة) الذي نفذت فيه
المحاباة، وبذلك يحصل الجمع بين حقي الوارث والمشتري، ومراعاة القاعدة التي
سمعتها وحينئذ يبطل البيع في ثلث الكر وما قابله من الثمن، ويصح في ثلثيه، وما
قابلهما من الثمن.
والضابط أنه يجب أن يبقى مع الورثة ضعف ما صحت فيه المحاباة من غير لزوم
الربا، وطريقه أن يسقط قيمة كر المشتريين من قيمة كر الورثة، وينسب ثلث المبيع إلى
الباقي، فيصح البيع في تلك النسبة، ففي الفرض مثلا إذا سقط ثلاثة دنانير من ستة
بقي ثلاثة، فإذا نسب إليها ديناران كانا ثلثيهما، فيصح البيع في ثلثي كر بثلثي
الآخر، ويتردان الثلث، ولو فرض أن قيمة كر المريض تسعة، وكر المشتري بحاله كانت
المحاباة بثلثي التركة. وتصحيحه إنما يكون بتراد النصف من كل منهم، فيكون
المجتمع عند الورثة ستة دنانير، أربعة ونصف قيمة كرهم الذي رجع إليهم، ودينار و
نصف قيمة الكر الذي هو الثمن، وعند المشتري أيضا ستة، لكن منها دينار ونصف
قيمة كره الذي رجع إليه، وأما الباقي عنده من كرهم نصف قيمته، أربعة دنانير ونصف
472

منها دينار ونصف في مقابلة نصف كره الذي عند الورثة، وثلاث دنانير بالمحاباة
النافذة فيها، لأنها قدر الثلث الذي يفرض أنه في يد الورثة ضعفاه، أي ستة.
وطريقه على ما سبق أن تسقط ثلاثة قيمة كره الردي من التسعة قيمة الكر
الجيد، يبقى حينئذ ستة، فإذا نسب الثلث إليها كان نصفا منها، فيعلم حينئذ
صحة البيع في نصف أحدهما بنصف الآخر.
وهكذا القياس في جميع ما يرد عليك من الأمثلة في هذه المسألة الدورية،
لتوقف معرفة قدر المبيع فيها على معرفة قدر التركة، لاشتمالها على المحاباة التي
لا تخرج إلا من الثلث التي تجب معرفة قدره، ومعرفته متوقفة على معرفة قدر مجموع
التركة، ومعرفة قدر مجموع التركة متوقفة على معرفة قدر الثمن، لأنه من جملتها، ومعرفة
قدر الثمن متوقفة على معرفة قدر المبيع، فيدور، ولكنه دور معية، وهو الذي يتوقف
كل منهما على مصاحبه الآخر كالمتضائفين، لا الدور المحال، وهو الذي يتوقف وجود
كل منهما على وجود صاحبه، بمعنى أنه لا يوجد إلا بعد وجوده.
وللعلماء في التخلص من هذا الدور وبيان المطلوب طرائق منها طريق الجبر
والمقابلة، ومنها طريق الخطائين كما أطنب بهما في المسالك وإن كان في غير محله
ضرورة عدم كونه وظيفة الفقيه، وستسمع كيفية الأول منها - انشاء الله تعالى - في
المسألة الآتية التي يقاس عليها غيرها من المسائل الدورية التي أطنب فيها في
القواعد والأمر سهل.
المسألة (الرابعة: لو باع عبدا قيمته ماءتان. بماءة وبرء) من المرض ولم
يكن له سواه (لزم العقد) كما في غيره مما ينجزه، بلا خلاف ولا اشكال لاطلاق الأدلة
(و) كذا لو مات وأجاز الوارث.
نعم (إن مات ولم تجز الورثة صح البيع) في الجملة بلا خلاف للاطلاق كما
لا خلاف على القول بأن المنجزات من الثلث في عدم النفوذ في الجميع.
إنما الكلام (في) تعين قدر المبيع، وحيث أن المقام لا ربا فيه، فالمصنف
والمحكي عن الشيخ ومن تبعه بل نسبه بعضهم إلى المشهور على أنه (النصف في
473

مقابلة ما دفع) من الثمن المفروض مساواته للنصف (وهي ثلاثة أسهم من ستة،
وفي السدسين بالمحاباة، وهي سهمان هما الثلث من ستة) الذي نفذت فيه
المحاباة، (فيكون ذلك خمسة أسداس العبد، وبطل) أي المحاباة (في
الزائد) عن الثلث (وهو سدس) العبد (فيرجع على الورثة و) لكن (المشتري)
مع جهله بالحال (بالخيار إن شاء فسخ، لتبعض الصفقة، وإن شاء أجاز) و
كانت الخمسة أسداس في مقابلة مجموع الثمن (و) رجع السدس على الورثة من غير رد شئ
من الثمن بل (لو بذل العوض عن السدس كان الورثة بالخيار بين الامتناع والإجابة
لأن حقهم منحصر في الغين) فلا يلزمون بالعوض قهرا، كل ذلك لأصالة لزوم
العقد من الجانبين إلا في قدر الضرورة، ولأن هذا العقد في قوة بيع وهبة صحت
فيما له، وبطلت فيما ليس له ولا ربا في المقام.
ولكن فيه أنه مناف لقاعدة اقتضاء بطلان البيع في المبيع، البطلان أيضا فيما
قابله من الثمن، كما في غيره من أفراد البيع الذي يصح في بعض، ويبطل في آخر،
ومن هنا قال الفاضل في القواعد بل قيل: في أكثر كتبه: " الحق عندي هنا مقابلة
أجزاء الثمن بأجزاء المبيع، كما في الربوي، ولأن فسخ البيع في البعض يقتضي
فسخه في قدره من الثمن، وكما لا يصح فسخ البيع في الجميع مع بقاء بعض الثمن
كذا لا يصح في البعض مع بقاء جميع الثمن ".
وتبعه على ذلك الكركي محتجا بما أومى إليه من أن البيع يقتضي مقابلة جميع
أجزاء المبيع، بجميع أجزاء الثمن، لأن ذلك معنى المعاوضة، فإذا بطل البيع في
شئ من المبيع، وجب أن يبطل في مقابلته من الثمن، وإلا لبقي ذلك البعض من
غير مقابل، فينتفي فيه معنى المعاوضة، وبذلك يبطل استدلالهم بالأصل المزبور،
والعقد المذكور لم يشمل على بيع وهبة بالاستقلال، وإنما هو بيع يلزمه ما هو كالهبة
وليس للهبة فيه ذكر، إذ ليس هناك إلا الايجاب والقبول، اللذان هما عقد البيع
ولا يلزم من لزوم ما هو كالهبة أن يتخلف عن البيع مقتضاه، وهو المقابلة المزبورة ولا
أقل من أن يكون هذا التحابي مثل من حابا بماله ومال غيره فلم يجز، فإنه يبطل
474

من الثمن بمقدار ما قابله، ومثله المحاباة.
قلت: قد يفرق بين المقام وغيره من المقامات باعتبار كون المال أجمعه ملكا
للمريض، ليس لأحد فيه شئ حال بيعه، وليس بطلان البيع فيه انكشاف بطلان، بل
حدوث ملك للوارث بموت المورث، مكان البيع حال وقوعه وقع على المحاباة بما زاد
على ما قابل الثمن من المبيع، إلا أن في الزائد على الثلث منه تعلق حق للوارث
وإن انتقل إليه قبل الموت انتقالا متزلزلا، فإن لم يجز الوارث تبطل المحاباة فيه
فمع فرض تناول ما دل على خروج التبرعات من الثلث للمحاباة، لا شك في إرادة
ما يقوله المشهور من خروجها، ضرورة أن المعنى وقوع المحاباة في الثلث خاصة،
وفي غيره على الإجازة، وكون الثمن مقابل ما يساويه من المبيع، إلا أنه لما منع
الربا من اجراء ذلك في الربوي احتيج إلى ما عرفت، بخلاف المقام الذي لا ربا فيه
وظاهر دليله المذكور اختصاص مقابلة الثمن بما يساويه، وأن التحابي وقع في الثلث
وغيره، ولا أقل من أن يكون ذلك مخصصا لتلك القاعدة بعد تسليم شمولها للمقام
ومن ذلك يظهر قوة قول المشهور.
وعلى كل حال، فقد بان لك الحال في القسمين الربوي وغيره، ففي المقام لو
باع عبدا - لا يملك سواه وقيمته ثلاثون بعشرة فقد حابا بثلثي ماله فعلى المشهور
يأخذ ثلثي العبد بجميع الثمن لاستحقاق أحدهما بالمحاباة، والآخر بالثمن، و
على قول الفاضل يأخذ نصف المبيع بنصف الثمن، وينفسخ البيع في الباقي، لأن فيه
مقابلة بعض المبيع بقسطه من الثمن عند تعذر جميعه، كما سمعته في الربوي الذي
يشبه نظر الفرض فيه، كما لو اشترى قفيزا يساوي تسعة، بقفيز يساوي ثلاثة، ولو باع
العبد بخمسة عشر كانت محاباته بالنصف، فعلى المشهور صح البيع في خمسة أسداسه
بجميع الثمن، وذلك لأن الضابط فيه نسبة الثمن وثلث التركة إلى قيمته، فيصح البيع
في مقدار تلك النسبة، وفي الفرض خمسة أسداس.
وعلى قول الفاضل صح في ثلثيه بثلثي الثمن نحو ما سمعته في القفيز الذي قيمته
ستة مثلا، ثم بيع بثلثيه الذي قد عرفت الضابط فيه إسقاط الثمن من قيمة المبيع،
475

ونسبة الثلث إلى الباقي، فيصح البيع من قدر تلك النسبة، وينسب الثلث إلى
المحاباة فيصح البيع في قدر تلك النسبة، وعلى التقديرين في الفرض يصح البيع
في ثلثي العبد بثلثي الثمن، ويبطل في الزائد ثمنا ومثمنا وقيمة كما في الربوي.
ولو فرض أنه خلف عشرة أخرى مع العبد المذكور، فعلى قول الفاضل يصح
البيع في ثمانية أتساع العبد، وهي ستة وعشرون وثلثان، بثمانية أتساع الثمن، و
هي ثلاثة عشر وثلث، وذلك لأنه قد حابا في الفرض بثلث تركته وثمن ثلثها فإذا
أسقطنا الخمسة عشر من ثلثين، ونسبنا الثلث، وهو ثلاثة عشر وثلث إلى الباقي
من القيمة، وهو خمسة عشر يكون ثمانية أتساعها، أو نسبنا الثلث المزبور إلى
المحاباة، وهو ثلث التركة وثمن ثلثها، أي خمسة عشر يكون ثمانية أتساعه أيضا
ويبقى من العبد ستة، وهو ثلاثة وثلث، فإذا ضمت إلى العشرة، وضم المجموع
إلى الثمن، كان مقدار المحاباة مرتين، وهو الميزان في المقام.
وعلى المشهور يصح في نصف العبد وأربعة أتساعه بجميع الثمن، لأنك إذا
نسبت الثمن وثلث التركة إلى قيمة العبد يكون المجموع نصفها وأربعة أتساعها
فيصح حينئذ في ذلك، ويبطل في نصف تسعه فيكون نصفه في مقابل الثمن، و
أربعة أتساعه بالمحاباة، وذلك ثلث التركة، ويبقى في يد الورثة خمسة عشر هي
الثمن، ونصف تسعه، واحد وثلثان مع عشرة وذلك ضعف المحاباة.
ويمكن على قول الفاضل استخراج ذلك بطريق الجبر والمقابلة في المسائل
الثلاث بأن ينسب الثمن إلى المثمن، ويستخرج قدر المحاباة، فللورثة ضعفها من
العبد والثمن، فيقال: في الأولى صح البيع في شئ من العبد، بثلث شئ من
الثمن، فالمحاباة بثلثي شئ، فللورثة شئ وثلث شئ والشئ من العبد، فيبطل من
الثمن ثلث شئ، فالثمن في تقدير ثلثي شئ، والعبد في تقدير شيئين، فالشئ
خمسة عشر فللمشتري خمسة عشر هي نصفه، ويرجع إليه من الثمن خمسة وكذا للورثة.
وفي الثانية يصح البيع بنصف شئ من الثمن، فالمحاباة بنصف شئ، فللورثة
شئ، وقد حصل لهم من الثمن نصف شئ، يبقى لهم نصف شئ من العبد، فيبطل البيع
476

في مقابله، وهو ربع شئ من الثمن، فالعبد في تقدير شئ ونصف، والثمن في تقدير
نصف شئ وربع فالشئ إذا عشرون.
وفي الثالثة يصح البيع في شئ من العبد بنصف شئ من الثمن، فللورثة مقابل
المحاباة شئ من التركة والثمن، وقد حصل لهم نصف شئ من الثمن، فالعبد والعشرة
الزائدة في تقدير شئ ونصف، فالشئ إذا ستة وعشرون وثلثان، إلى غير ذلك مما
ليس هو وظيفة الفقيه، وإن أطنب فيه جماعة من العلماء، خصوصا ثاني الشهيدين
في المسالك، فإنه ذكر استخراج ذلك بهذا الطريق، وطريق الخطائين أيضا في
الربوي، والأمر سهل على العارف بطريقة الحساب، والأسهل لغيره ما ذكرناه
بالطريق الأول. والله العالم.
المسألة (الخامسة: إذا أعتق أمة في مرض الموت وتزوج) بها جاعلا مهرها
عتقها (ودخل بها صح العتق والعقد وورثته) بالزوجية (إن أخرجت من
الثلث) خلافا للمحكي عن الشافعي، فإنه قال: لا ترث (وإن لم تخرج فعلى ما
مر من الخلاف في المنجزات) في الخروج من الأصل والثلث، فعلى الأول أيضا
يصح العتق والعقد وترث، وعلى الثاني يعتق منها قدر الثلث، وربما احتمل
بطلان العتق أيضا، لأنه لم يعتقها إلا على تقدير التزويج بها، ولا ريب في
ضعفه.
نعم لا ترث لبطلان النكاح بتبعض البضع، وهل لها عوض البضع شئ وجهان:
كما عن شرح الإرشاد للشهيد، من أنه لم يجعل لها عوضا سوى عتق رقبتها، و
قد بطل في الزائد على الثلث، وصار حقا للوارث، فلم يستحق غيره، وكأنه
ظاهر الفاضل في القواعد، ومن إلحاقها بمن أمهرها قدر قيمتها، فإن المسمى
يبطل، ويستحق من مهر المثل بالنسبة، ويدخلها الدور حينئذ كما سيأتي بيانه
انشاء الله تعالى.
وفيه لقاعدة عدم خلو الوطي المحترم عن عوض، فلو كان مهر مثلها بقدر قيمتها
في الفرض المذكور، ولم يخلف سواها عتق نصفها، وتستحق من مهر المثل مثله
477

ولا يحسب من الثلث لأنه كعوض الجناية، فيكون للورثة شيئان، مقابلة ما عتق منها
وحينئذ فيكون في تقدير أربعة أشياء، وربع منها بالعتق وربع بالوطي، فيكون
نصفا، ويبقى للوارث نصف، هذا. ولم يصرح المصنف بجعل مهرها صداقها
لكن في قوله " إن خرجت " تنبيه على ذلك، إذ لو كان قد سمى لها مهرا، لوجب
اعتباره من الثلث أيضا، وكانت كالمسألة الآتية التي فيها الدور، ولو كانت مفوضة
البضع أو المهر لوجب بالدخول بها مهر المثل أو ما يفرضه المفوض إليه، فيعتبر
خروجه من الثلث أيضا، فلا يتم اطلاق أنها مع خروجها من الثلث يصح العقد
والعتق، وأما التقييد بالدخول فلمعلومية اشتراط نكاح المريض به، وإلا بطل
العقد، وترتب عليه عدم الإرث والمهر.
ولو أعتق أمة وتزوجها بمهر ودخل صح الجميع، إن خرجت هي وما زاد عن
مهر مثلها من الثلث، وورثت، وإن لم تخرج هي من الثلث بطل العتق في
الزائد، وما قابله من المهر، وإن خرجت هي من الثلث دون مهرها المسمى،
بطل المسمى خاصة، وصح العتق والنكاح، ووجب لها مهر المثل بالدخول
وإن زاد على المسمى لأنه كالأرش.
وحينئذ فالمسألة دورية أيضا، لأن معرفة ما انعتق منها إنما يكون إذا عرف
مقدار ما يبقى من التركة بعد ما تستحقه من المهر، وبالعكس فنقول: عتق منها
شئ، ولها من مهر المثل شئ، وللورثة شيئان ضعف ما عتق منها، فيكون ذلك
بتقدير أربعة أشياء مع فرض بقاء ذلك من التركة، بأن يكون قد خلف مثلها معها
فالشئ حينئذ نصفها.
ومن ذلك يعرف الوجه في المسألة (السادسة:) وهي (لو أعتق أمة و
قيمتها ثلث تركته، ثم أصدقها الثلث الآخر) مثلا (ودخل ثم مات ف‍) إنه لا -
اشكال في أن (النكاح صحيح و) في أنه ي‍ (بطل المسمى) مع عدم إجازة
الوارث على المختار (لأنه زائد على الثلث)، ولأنه لو صح لزم الدور لتوقف
صحته على ثبوت النكاح المتوقف على العتق، المتوقف على بطلان المهر، لقصور
478

الثلث عن قيمتها مع صحته، وهذا هو الدور المحال، لا الدور الجائز في نظائر
المسألة، ضرورة أنه على ما عرفت مما يستلزم ثبوته نفيه، وهو محال، ومن هنا
لم يعرف مخالف في المسألة، وإن حكى عن التذكرة أنه حكى قولا لم يعين قائله
أن المعتقة تتخير، فإن عفت عن مهرها عتقت وصح النكاح، وإن لم تعف كان لها
من مهر المثل بقدر ما عتق منها، (و) في جامع المقاصد أنه لا بعد فيه، لكن
لا ريب أن الأقوى ما سمعت وكيف كان فهي (ترثه) بل (وفي ثبوت مهر المثل) لها
(تردد) من استلزام ثبوته الدور المزبور، ومن جريانه مجرى أرش الجناية التي
هي من الأصل، ومع منع اقتضائه الدور باعتبار عدم ترتبه على صحة النكاح، بل
على مجرد الوطي، والطريق حينئذ إلى تحصيل مقدار العتق ونصيبها من مهر
المثل أن يقال: إنه إما أن يساوي قيمتها أو ينقص عنها أو يزيد: ففي الأول يقال:
عتق منها بشئ، ولها من مهر المثل شئ، وللورثة شيئان في مقابلة ما عتق منها
لا في مقابلة المهر الذي هو من الأصل، فالتركة إذا في تقدير أربعة أشياء، فلو
فرض قيمتها ماءة ومهر المثل ماءة، وبقي من التركة - غير رقبتها - ماءتان، فالشئ
خمسة وسبعون فيعتق منها ثلاثة أرباعها، ولها ثلاثة أرباع مهر المثل، وللورثة
ماءة وخمسون ضعف ما عتق منها، ولو فرض زيادة قيمتها عن مهر المثل، بأن كان
بقدر نصف قيمتها وهي مستوعبة للتركة فالدور أيضا لازم بسبب الدخول بها،
لاستحقاقها به من مهر المثل قدر ما أعتق منها، ونفوذ العتق في ثلث الباقي منها
بعد القدر الذي تستحقه من مهر المثل، وبزيادته تقل التركة، فيقل المنعتق منها
وبنقصانه يزيد فيقال: عتق منها شئ ولها من مهر المثل نصف شئ، وللورثة
شيئان في مقابلة ما عتق منها مرتين، فالتركة في تقدير ثلاثة أشياء ونصف فإذا
بسطت من جنس الكسر تكون سبعة، لها منها ثلاثة، اثنان من نفسها بالعتق،
وواحد بالمهر، وللورثة أربعة فينعتق مقدار سبعي التركة من الجارية، ولها من
مهر المثل سبع آخر وللورثة في مقابلة ما انعتق منها أربعة أسباع، فيحرر ثلاثة
أسباعها، لأن ما استحقته من نفسها مهرا يجب انعتاقه أيضا.
479

بل في القواعد أنه لو أراد الورثة أن يدفعوا حصتها من مهرها وهو سبعها،
وينعتق منها سبعاها، ويسترقوا خمسة أسباعها فليس لهم ذلك، وإن كان هو خلاف
المحكي عنه في التحرير من أن لهم ذلك وفي محكي التذكرة ثم السبع المصروف إن رضيت
به بدلا عمالها من المهر، فذلك ويعتق عليها حين ملكته، لا بالاعتاق الأول، وإن
امتنعت بيع سبعها في مهرها.
ولعل المحصل من ذلك أن في المسألة قولين: أحدهما أن الورثة يجيزون
في دفع دينها الذي استحقته مهرا لما عتق منها، فإن دفعوه من عينها ورضيت
به عتق بملكها إياه، وإن أرادوا دفعه من محل آخر ويبقى سبع الجارية ملكا لهم
كان لهم ذلك، لأنه مخيرون في جهات الأداء.
الثاني أنه لا خيار للورثة، لأن السعي في باقي القيمة لتعتق ثابت، فإذا
ثبت لها في التركة دين كان انعتاقها منه بطريق أولى، ولا يكون للورثة خيار، و
هو واضح بناء على السعي، من غير فرق في هذه المسألة ونظائرها، وهل لها
أن تمتنع من قبول بعضها مهرا عوض المهر صريح كلام التذكرة توقف الأمر على رضاها
وهو متجه بناء على أن السعي وعدمه منوط، وفي جامع المقاصد هو محتمل، و
لتمام الكلام في ذلك محل آخر، ولو فرض زيادة مهر المثل عن قيمتها وفرض كونه
بقدرها مرتين، قلنا: عتق منها شئ، ولها مهر المثل شيئان، وللورثة
شيئان في مقابلة ما عتق منها مرتين، فالتركة حينئذ في تقدير خمسة أشيا ومقتضى
ذلك انعتاقها حينئذ أجمع، لعدم مزاحمة حق الورثة لمهر المثل الذي هو
من الديون.
نعم يأتي فيه البحث السابق، من أن للورثة الدفع من غير عنيها.
ولقد ظهر لك من ذلك كله أن اطلاق المصنف صحة النكاح مبني على عدم
وجوب المثل، ليتم العتق حينئذ في جميعها، أما إذا حكمنا فيه بشئ بطل العتق
بسببه فيبطل النكاح للتبعيض، كالمسألة السابقة، ويمكن أن يريد المصنف بصحة
النكاح ثبوته فعلا على وجه يترتب عليه استباحة وطئها بذلك العقد، لأنه محكوم
480

بصحته إلى الموت، ووجه الصحة وجود المقتضي، وصدور العقد من أهله في محله
وانتفاء المانع إذ لا حق لغيره الآتي في رقبتها، وإنما ينكشف ذلك عند الموت كما
عن التحرير التصريح به، هذا كله على المختار من الوقوف على الثلث.
(وعلى القول الآخر) أي النفوذ من الأصل (يصح الجميع) كما هو واضح.
وهذا آخر الكلام في هذه المسائل، وإن أطنب الفاضل في القواعد فيها وفي
نظائرها، لكن من أحاط بما ذكرنا علم الحال فيها أجمع. ويتلوه الكلام في كتاب
النكاح، والله الموفق والمؤيد والمسدد. والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
إلى هنا تم الجزء الثامن والعشرون من كتاب جواهر الكلام حسب تجزءتنا
بحمد الله ومنه، وقد بذلنا الجهد غايته في تصحيحه ومقابلته بالنسختين
المصححتين على النسخة المصححة بقلم المصنف طاب ثراه وقد خرج
بعون الله تبارك وتعالى خاليا من الأغلاط، إلا نزرا زهيدا زاغ عنه
البصر والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين
الطاهرين.
علي الآخوندي
481