الكتاب: تقريرات آية الله المجدد الشيرازي
المؤلف: المولى علي الروزدري
الجزء: ٤
الوفاة: ١٣١٢
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ذو الحجة ١٤١٥
المطبعة: ستاره - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث - قم
ردمك: ٩٦٤-٣١٠-٠٠٣-x
ملاحظات: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث - قم - دور شهر - خيابان شهيد فاطمي - كوچه ٩ - بلاك ٥ ص . ب ٩٩٦ / ٣٧١٨٥ - هاتف ٢ - ٧٣٠٠٠١ / (vols١-٤) ٩٦٤-٥٥٠٣-٥١-٥

78
تقريرات
آية الله المجدد الشيرازي
للعلامة المحقق
المولى علي الروزدري
المتوفى حدود سنة 1290 ه‍
الجزء الرابع
تحقيق
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث
1

BP المجدد الشيرازي، محمد حسن بن محمود، 1230 - 1312 ق.
159 تقريرات آية الله المجدد الشيرازي / لعلي الروزدري؛ تحقيق
8 / مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث. - قم: مؤسسة آل البيت عليهم السلام
9 م / لاحياء التراث، 1409 - 1415 ق = 1367 - 1373 ش.
7 ت 4 ج.
1415 ق الجزء الرابع.
1. أصول الفقه الشيعي. ألف. الروزدري، علي، المؤلف. ب.
مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث. ج. العنوان.
شابك (ردمك) 5 - 51 - 5503 - 694 دورة 1 - 4
ISBN 5 - 51 - 5503 - 964 / 4 VOLS.
شابك (ردمك) × - 003 - 319 - 694 / ج 4
ISBN X - 003 - 319 - 964 / VOL 4.
الكتاب: تقريرات آية الله المجدد الشيرازي - الجزء الرابع
المؤلف: المولى علي الروزدري
تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث - قم
الطبعة: الأولى - ذو الحجة 1415 ه‍
ليتوگرافي:
المطبعة: ستاره - قم
التجليد: صحافي صنعتي - قم
الكمية: 2000 نسخة
السعر: 4000 ريال
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

ملاحظة:
ابتداءا من بحث القطع إلى آخر التعادل
والتراجيح يعد تعليقة من المصنف (قدس سره) على
كتاب فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (قدس سره).
جميع الحقوق محفوظة ومسجلة
لمؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
مؤسسة آل البيت - عليهم السلام - لاحياء التراث
قم - دور شهر (خيابان شهيد فاطمي) كوچه 9 - پلاك 5
ص. ب. 996 / 37158 - هاتف 2 - 730001
4

بسم الله الرحمن الرحيم
[وبه ثقتي]
والحمد لله رب العالمين، [وأفضل صلواته وأكمل تسليماته على أكرم أنبيائه محمد وآله الطيبين الطاهرين] (1).
[في البراءة]
قوله - قدس سره -: (المكلف الملتفت.). (2)
هذا القيد ليس احترازيا، بل توضيحي محقق لموضوع القاطع والظان والشاك، فإن القاطع من حيث هو قاطع لا يكون إلا بوصف كونه ملتفتا، وهكذا الكلام في الظان والشاك فالالتفات مأخوذ في هذه العناوين.
قوله - قدس سره -: (لم يكن فيه كشف.). (3)
فإن صفة الطريقية ليست ثابتة للشك أصلا: لأنه مجرد التردد والتحير، فالتردد مأخوذ في حقيقته، فكيف يمكن معه كونه مرآة لشيء وكاشفا عنه وليس له إلا جهة الموضوعية، ومن تلك الجهة له أحكام في الشريعة؟
قوله - قدس سره -: (لأنه حكم واقعي للواقعة المشكوك... إلخ» (4)
فإن الواقعة المشكوك في حكمها - من حيث كونها مشكوكة - موضوع
5

من الموضوعات الواقعية، وله حكم واقعي بهذه الحيثية، فهذا الحكم بالنسبة إلى هذا الموضوع من تلك الجهة يسمى واقعيا، ومن جهة حكمه الأولي - بلحاظ نفس الأمر مع قطع النظر عن هذا العنوان - يكون هذا الحكم المفروض كونه ظاهريا في مرحلة الظاهر بالنسبة إلى الحكم الأولي ثانويا، فإباحة شرب التتن - مثلا - من حيث كونه مجهول الحكم حكم واقعي ثانوي بالنسبة إلى حكمه الأولي الواقعي، وهو الحكم الكلي الإلهي المشكوك فيه الثابت لشرب التتن باعتبار المصلحة والمفسدة الواقعيتين لذات التتن.
قوله - قدس سره -: (متأخرا طبعا.). (1)
ضرورة تأخر الحكم عن الموضوع بوصف كونه موضوعا بالطبع.
قوله - قدس سره -: (لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد.). (2)
فإن الفقه قد أخذ العلم في تعريفه، حيث عرف: بأنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية (3)، ولا ريب أنه لا علم للفقيه إلا في مرحلة الظاهر في مجاري الأصول فلذا تقيد هذه الأصول [بالفقاهتية] (4).
وأما الاجتهاد فنظرا (5) إلى تعريفه باستفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي الفرعي بحسب الجهد والطاقة من ألفاظ الكتاب والسنة

(1) لا يخفى أن هذا ناظر إلى ظاهر تعريف الفقه، وإلا فلو جعل العلم فيه بمعنى الظن أو مطلق الاعتقاد الراجح أو الملكة فتنتفي (1) المناسبة جدا. لمحرره عفا الله عنه.
6

وغيرها من الأدلة الظنية، فتسمى الأدلة المستنبطة منها تلك الأحكام الظنية بالأدلة الاجتهادية.
قوله - قدس سره -: (حكمه حكم الشك.). (1)
فمجاري هذه الأصول حال كونها مظنونة بالظن الغير المعتبر كمجاريها حال كونها مشكوكة من غير فرق بينهما أصلا.
في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي
قوله - قدس سره -: (فلا معارضة بينهما.). (2)
أقول: لا شبهة في وجود أحكام واقعية مشتركة بين العالم والجاهل غير متغيرة بالعلم والجهل وغير مقيدة بشيء منها، وإلا لاستلزم الدور، مضافا إلى استلزامه للتصويب - أيضا - كما لا يخفى، إذ على هذا التقدير يكون العلم والجهل من قبيل القدرة والعجز والسفر والحضر من حيث تبدل الأحكام الواقعية بتبدلهما كما فيها.
نعم، تنجزها على المكلف مشروط بالعلم، فنقول:
إن الشاك كما يتوجه إليه الأحكام الظاهرية المجعولة حال الشك، فكذا يتوجه إليه تلك الأحكام الواقعية الغير المقيدة بالعلم والجهل أيضا في تلك الحال، وربما تكون هي منافية لتلك الأحكام الظاهرية ومناقضة لها، فيؤدي ذلك إلى اجتماع حكمين متناقضين في حق المكلف - بالفتح - في حالة واحدة في واقعة واحدة كشرب التتن - مثلا - يكون منهيا عن شربه في الواقع حال الشك ومرخصا فيه في تلك الحال في مرحلة الظاهر، وتعدد الجهة هنا غير مجد بالضرورة، لأنه لا يجعله شخصين، بل كيف كان فهو شخص واحد قد يوجه نحوه خطابان متناقضان في آن واحد.
7

هذا، ويمكن حل الإشكال: باختلاف تعلق الحكمين به من حيث القوة والفعل، فإن الحكم الواقعي إنما يتعلق به شأنا، والظاهري متعلق به فعلا، ويشترط في التناقض الوحدات الثمانية التي منها القوة والفعل.
وأما بالنسبة إلى المكلف - بالكسر - وهو الآمر، فينهض إشكال آخر:
فإنه وإن لم يكن ما بين خطابي الأمر والنهي - أو النهي والرخصة بالذات - تناقض، لكنه يلزم بالنسبة إلى نفس المكلف - بالكسر - فإنه في حالة واحدة مريد للفعل جزما، وغير مريد له كذلك، أو مبغض له وغير مبغض له، كما إذا كان الحكم الواقعي الوجوب والظاهري الإباحة، أو كان الحكم الواقعي الحرمة، والظاهري الرخصة، أو كان الأمر بالعكس فيهما، بأن يكون الحكم الواقعي الإباحة والرخصة، والظاهري الوجوب أو الحرمة، فالمكلف - في جميع تلك الصور - نفسه كارهة للفعل ومبغضة له وراضية به، أو مريدة له جزما وراضية بتركه، بل قد يؤدي إلى كونه كارها للفعل ومبغضا له ومريدا له، كما إذا كان أحد الحكمين الوجوب، والآخر الحرمة.
وهذا الإشكال أعظم من ذاك كما لا يخفى، وتعدد الجهة هنا غير مجد أيضا بالضرورة لأنه لا يجعل المكلف - بالكسر - شخصين يكون أحدهما كارها والآخر راضيا.
ويمكن حل ذلك أيضا:
تارة: بأن الموجود في نفس الآمر من جهة الحكم الواقعي بالنسبة إلى الشيء المشكوك حكمه عند المكلف - بالفتح - ليس إلا مجرد العلم بالمصلحة والمفسدة الكامنتين في ذات ذلك الشيء القابلتين للتدارك من الآمر، بحيث يتمكن هو من جبران فوت الأولى على المكلف أو الوقوع في الثانية إذا كان الفوت أو الوقوع من جهة قصور المكلف، أو لإذن الآمر في الترك في مورد الأولى، أو في الفعل في مورد الثانية في مرحلة الظاهر لمصلحة من المصالح راجحة
8

على الفوت أو الوقوع في تلك الواقعة الشخصية مع تمكن المكلف من تحصيل العلم بحكم الواقعة أو من الاحتياط فيه ولو كانت تلك المصلحة تسهيل الأمر عليه، لئلا يشق عليه امتثال سائر الأوامر والنواهي المعلومتين له.
وأما بالنسبة إلى الحكم الظاهري فالموجود في نفسه هو الإرادة أو الرضا بالترك من جهة تلك المصلحة الموجبة لرخصة المكلف في مخالفة الواقع، فإذن لا منافاة بين الحكم الظاهري والواقعي بالنسبة إلى نفس الآمر لعدم المنافاة بين العلم بالمصلحة والمفسدة الواقعيتين وبين الرضا بالفعل في مورد الأولى أو بالترك في مورد الثانية.
وأخرى: بأنا لو سلمنا أن الموجود في نفسه بالنسبة إلى الحكم الواقعي ليس هو مجرد العلم بالمفسدة أو المصلحة نقول: إنه ليس بحيث يبلغ إلى حد الكراهة والإرادة الفعليتين، بل إنما هو مجرد حب أو بغض نفس (1) ذلك الشيء المشكوك حكمه عند المكلف، بمعنى أنه يحب أو يبغض وجود ذلك الشيء في الخارج، لكن المصلحة الخارجية دعته إلى الرضا فعلا - حال كون المكلف شاكا - بفوت محبوبه أو وجود مبغوضه، بل قد تدعوه إلى إرادة ترك الأول أو فعل الثاني فعلا في تلك الحال، وتلك الإرادة وإن كانت ملزومة للحب أو البغض أيضا، إلا أنهما متعلقان بصدور ذلك الشيء من المكلف حال الشك أو تركه منه في تلك الحال، وذلك الحب والبغض متعلقان بوجود ذلك الشيء في نفسه أو عدمه كذلك، مع قطع النظر عن ملاحظة المكلف، فلا منافاة بين ذينك وبين هذين، لانتفاء الوحدة - من جهة الإضافة - بينهما (2).
9

وثالثة: بأن الخطابات الظاهرية لا يجب أن تكون مضامينها مقصودة في نفس الآمر، بل لا يجوز لاستلزامه للتناقض كما مر، فالترخيص الظاهري للمكلف الشاك في حكم الواقعة الخاصة الواقعي فيما إذا كان حكم الواقعة الخاصة في الواقع الحرمة أو الوجوب ليس ملزوما للرضا النفساني بارتكاب المكلف الفعل أو تركه في تلك الواقعة، وكذا النهي الظاهري فيما إذا كان حكم الواقعة الواقعي الوجوب، أو الأمر الظاهري فيما إذا كان حكمها الواقعي الحرمة، ليس شيء منهما ملزوما للحب والإرادة أو البغض والكراهة في نفس الآمر والناهي بالنسبة إلى فعل الشيء المشكوك في تلك الواقعة أو إلى تركه، وإنما تلك الخطابات أحكام صورية - خالية عن الرضا النفساني أو الحب والبغض أو الكراهة والإرادة - دعت مصلحة خارجية إلى توجيهها على هذا النحو نحو المكلف، فالحب والبغض والإرادة والكراهة الواقعيات ثابتات في نفس الآمر بالنسبة إلى المصلحة والمفسدة الواقعيتين في تلك الوقائع، وليس في نفسه حب وبغض [بالنسبة] إلى طرف نقيض متعلق الحب والبغض من حيث المصلحة والمفسدة الواقعيتين، وكذا ليس في نفسه إرادة أو كراهة غير اللتين في نفسه بالنسبة إلى المصلحة والمفسدة الواقعيتين.
نعم الإرادة والكراهة الواقعيتان ليستا بحيث توجبان استحقاق العقاب على مخالفة الأمر والنهي الواقعيتين الناشئين منهما، وإنما [توجبانه] (1) إذا علم المكلف بالأمر والنهي الواقعيتين، أو قام عنده طريق ظني معتبر عليهما.
وبالجملة: المتحقق في نفس المكلف - بالكسر - في تلك الوقائع - زائدا على الإرادة والكراهة بالنسبة إلى الفعل من جهة المفسدة أو المصلحة الواقعيتين - إنما هو الإرادة [بالنسبة] إلى مجرد توجيه نفس الخطابات الظاهرية
10

دون مضامينها، والمنشأ للتناقض هي الثانية، لا الأولى.
وهذا الذي ذكرنا في دفع التناقض مما يجده المتأمل المصنف من نفسه في خطاباته العرفية بالبديهة، وذلك كما إذا ورد أحد تبغضه على مائدتك، فيأخذك الحياء من أن لا تأذن [له] (1) في الأكل منها، فيدعوك ذلك إلى ترخيصه في الأكل، مع أنك في نفسك تكره وتبغض أن يأكل من مائدتك، بل قد يدعو الحياء إلى إلزامك إياه بالأكل، فهل تجد من نفسك - حينئذ - إرادة وكراهة وحبا وبغضا؟ حاشاك ثم حاشاك، بل لم تجد فيها إلا الكراهة وحدها والبغض وحده.
وكيف كان، فاجتماع الأحكام الظاهرية مع الواقعية بالنظر إلى ملزوماتها من قبل المكلف - بالكسر - مما يشهد به وجدان كل أحد، وإنما أردنا بذلك بيان السر فيه تفصيلا، لئلا يبقى مجال لبعض المغالطات المتوهمة في المقام.
ومن ذلك الذي ذكرنا في الوجه الأخير ظهر: أن المعتمد في دفع التناقض هو دون الأولين، فخذه وكن من الشاكرين، وقل الحمد لله رب العالمين.
ثم إن تقديم الأدلة الظنية على الأصول العملية بناء على اعتبار تلك الأصول من باب العقل إنما هو من باب الورود، فإن العقل على تقدير حكمه باعتبارها فإنما يحكم به على تقدير عدم قيام حجة شرعية في مواردها، فبوجود الحجة يرتفع موضوع حكمه، ولا ريب أن الأدلة الظنية حجة شرعية، فيرتفع بقيامها في مورد موضوع دليل اعتبار تلك الأصول، وهو حكم العقل.
وأما بناء على اعتبارها من باب الأخبار فهو من باب الحكومة: لأن الأخبار ظاهرة في كون الموضوع فيها صفة الشك، ولا ريب أنها لا ترتفع بقيام الأدلة الظنية على مواردها، بل المرتفع بها - حينئذ - إنما هو حكمها بمقتضى أدلة اعتبار تلك الأدلة الظنية، ويمكن أن يقال: إن التقديم المذكور من باب
11

تخصيص أدلة اعتبار الأصول بأدلة اعتبار تلك الطرق الظنية، بتقريب ما ذكره - قدس سره -، فراجع (1)
قوله - قدس سره -: (وكون دليل تلك الأمارة أعم من وجه.). إلى قوله: (لا ينفع بعد قيام الإجماع على عدم الفرق في اعتبار تلك الأمارة حينئذ بين مواردها) (2)
توضيح ذلك: أنه إذا وقع التعارض بين العامين من وجه: فإما أن يمكن إخراج مورد التعارض عن كل واحد منهما وإدخاله في الآخر، أو لا:
فعلى الأول: لا يجوز جعل أحدهما مخصصا للآخر ومخرجا لمورد التعارض عن تحت الآخر ومدخلا إياه تحت نفسه إلا إذا كان له مرجح على الآخر من المرجحات المعمول بها في تعارض العامين من وجه، ومرجعها إلى ما يوجب كون مورده من العامين أظهر دلالة على مورد التعارض من الآخر، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح.
وأما على الثاني: فيتعين كون العام الذي لا يمكن إخراج مورد التعارض عنه مخصصا للعام الآخر الذي يمكن إخراجه عنه بالبديهة، فنقول - حينئذ -: إن النسبة بين دليل اعتبار الأمارات الظنية وبين دليل اعتبار الأصول العملية وان كانت هي العموم من وجه، إلا أنه لا يمكن إخراج مورد التعارض عن الأول، لقيام الإجماع على عدم الفرق بين موارده، فيدور الأمر بين طرح الأول رأسا حتى في غير مورد التعارض وهو مورد الافتراق من جهته وبين تخصيص الثاني، لكن الأول باطل جدا، ضرورة أنه لا يعارض الثاني الأول في مورد افتراق الأول عنه، فحينئذ يثبت به اعتبار الأمارة في مورد الافتراق،
12

فإذا ثبت اعتبارها فيه بذلك الدليل ثبت اعتبارها في مورد التعارض بالإجماع المركب، فيجب إخراجه عن تحت الثاني، وتخصيصه بغير مورد التعارض، فافهم.
قوله - قدس سره -: (توضيح ذلك.). (1)
المشار إليه إنما هو أصل المدعى، وهو تصوير كون تقديم الأدلة على الأصول من باب التخصيص الحقيقي، لكن العبارة موهمة في بادئ النظر أن المشار إليه هو ما ذكر من عدم نفع كون دليل اعتبار الأمارة أعم من وجه.
قوله - قدس سره -: (وهو الشك.). (2)
يعني غير العلم الشامل للظن أيضا.
الفرق بين التخصيص والحكومة
قوله - قدس سره -: (لا مخصص.). (3)
الفرق بين التخصيص والحكومة: أن الحاكم متعرض لحال المحكوم عليه ومفسر له، فلذا لا يفهم التعارض بينهما من أول الأمر، هذا بخلاف المخصص، فإنه معارض للمخصص - بالفتح - من أول الأمر ومناف له، ولذا يعمل بالعلاج بينهما.
قوله - قدس سره -: (وأما الأصول المشخصة لحكم الشبهة في الموضوع.). إلى قوله: (إلا لمناسبة يقتضيها المقام.). (4)
وذلك لأن التعرض لحكم الشبهات في الموضوعات الخارجية - كاستصحاب الطهارة مع الشك في الحدث أو العكس وكذا سائر الموارد - من وظيفة الفقيه، فمورده الكتب الفقهية.
وأما الأصولي فليس شأنه إلا التعرض للقواعد الكلية التي يستنبط منها
13

الأحكام الفرعية الكلية الإلهية.
صور الاشتباه في الشبهة الحكمية
قوله - قدس سره -: (ثم إن انحصار موارد الاشتباه في الأصول الأربعة عقلي.). (1)
يعني أن انحصار موارد الاشتباه في الموارد الأربعة - التي هي مجار للأصول الأربعة - عقلي.
لكن لا يخفى أن العبارة ليس لها تمام الانطباق على المقصود.
ثم إنه - قدس سره - إنما ادعى انحصار موارد الاشتباه عقلا في الأربعة، ولم يدع انحصار الأصول في الأربعة كذلك، لأن انحصار الأصول في الأربعة في الموارد الأربعة ليس عقليا كما لا يخفى، لأنه يمكن أن يجعل الشارع في كل مورد من الموارد الأربعة أزيد من أصل واحد، بأن يحكم في موارد الاستصحاب - مثلا - في بعض المقامات بالأخذ على طبق الحالة السابقة، فيكون الأصل في ذلك المقام الاستصحاب، وفي بعض المقامات من ذلك المورد بالأخذ على خلاف الحالة السابقة، فيكون هذا أصلا آخر وراء الأصول الأربعة ويترك الاستصحاب من حيث كون النظر فيها إلى الحالة السابقة، وهكذا الكلام في سائر الموارد الأربعة.
نعم الواقع في الشريعة ليس أزيد من الأصول الأربعة، فالحصر فيها اتفاقي لا عقلي.
قوله - قدس سره -: (لأن الشك إما في نفس التكليف... إلخ) (2)
أقول: الشبهة الحاصلة في مقام الشك والتحير: إما شبهة في الحكم، وإما شبهة في الموضوع.
14

والأولى تقع من وجوه (1).
الأول: من جهة الاشتباه في موضوع الحكم كالصلاة.
والثاني: من جهة الاشتباه الحاصل في محموله كالوجوب.
والثالث: من جهة الاشتباه الحاصل من الجهتين معا.
وكل هذه داخلة في الشبهة الحكمية، كما لا يخفى.
وقد يطلق على الشبهة في الحكم الشبهة في المراد، وعلى الشبهة في الموضوع الشبهة في المصداق.
ثم إن التكليف في كل من الشبهة في الحكم والشبهة في الموضوع: إما معلوم، أو لا. والمراد بالتكليف نوعه الخاص كالوجوب والحرمة والاستحباب - مثلا - لا جنسه، وهو القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب، أو بين أحدهما والحرمة، أو بين الثلاثة، وهو الطلب مثلا، فلو علم جنس التكليف وتردد بين الوجوب والاستحباب فهو شك في التكليف - لا المكلف به -، فتحصل من ملاحظة الشق الثاني مع القسمين المذكورين قسمان.
وأما الشق الأول: وهو الذي علم فيه التكليف - وإنما الاشتباه في تعيين المكلف به - فيدور الأمر فيه: إما بين المتباينين حقيقة أو حكما، والثاني كالمطلق والمقيد، والتعيين والتخيير الشرعي أو العقلي، وإما بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
وأما الاشتباه فيه مع تردده بين الاستقلاليين فهو داخل في الشك في أصل التكليف، وخارج عن الشك في المكلف به جدا، لانحلال العلم الإجمالي فيه إلى العلم التفصيلي والشك البدوي.
ويتلوه - في الخروج عن الشبهة في المكلف به والدخول في الشك في أصل
15

التكليف - الشبهة التحريمية في الارتباطيين لانحلالها إلى العلم التفصيلي، وهو حرمة الأكثر، وشك بدوي، وهو حرمة الأقل، وذلك كالشك في حرمة قراءة سور العزائم (1) في الصلاة هل هو تمام السورة، أو بعضها المخصوص كآية السجدة أو المطلق؟ فحرمة المجموع متيقنة، وحرمة البعض - معينا أو مطلقا - مشكوكة كما لا يخفى، ويحصل من ملاحظة هذين القسمين في الشق الأول مع القسمين السابقين - أعني الشبهة في الموضوع والحكم - أربعة أقسام، ومع كل من ذلك:
إما الشك في جميع الأحكام الخمسة، أو بعضها مع بعض، ثنائيا، أو ثلاثيا، أو رباعيا، فيكثر صور الاشتباه، لكن نكتفي بذكر بعض من الثنائيات حتى يظهر منها أحكام سائر الأقسام فنقول: إن الشك: إما بين التحريم وغير الوجوب وإما بين الوجوب وغير التحريم، أو بين الوجوب والتحريم، ومع ملاحظة هذه الثلاثة مع الأقسام الأربعة للمكلف به يحصل اثنا عشر قسما، ومع القسمين في الشك في التكليف ستة أقسام.
ومنشأ الاشتباه في الشبهة الموضوعية هو وقوع الاشتباه في الأمور الخارجية، ورفع الاشتباه فيها ليس من وظيفة الشارع إلا بجعل طريق كلي يجعله ميزانا لرفع الاشتباه كالبينة واليد والقرعة ونحوها مما يرجع في الحقيقة إلى بيان الحكم الظاهري الكلي في الموضوع الكلي.
وأما منشأ الاشتباه في الشبهة الحكمية من هذه الأقسام إما عدم النص في المسألة أصلا، أو إجماله مع وجوده، أو تعارض النصين، وفقد النص أعم من عدمه مطلقا وبالمرة بحيث يشمل صورة [وجود] أمارة (2) ضعيفة كخبر ضعيف
16

أو فتوى فقيه أو نحو ذلك.
والأول خارج عن محل النزاع في الجملة، لكن قبل ورود الشرع، لعدم وجود احتمال الوجوب من أحد من المتنازعين، ولعل الوجه في ذلك كون المراد إثبات الإباحة بالمعنى الأعم الشامل للوجوب أيضا بإيكال رفع الوجوب إلى مسألة البراءة، لا أن عدم احتمال الوجوب مسلم منهم بحيث صار خارجا عن محل النزاع بينهم.
وكيف كان فالكلام يقع في أقسام الشك في التكليف لا غير، وأما الشك في المكلف به فسيجيء الكلام فيه بعد الفراغ عن حكم الشك في التكليف، كما قال - قدس سره -: (والموضوع الأول يقع الكلام فيه في مطالب... إلخ) (1).
الاستدلال بآية نفي التكليف عليها
قوله - قدس سره -: (منها: قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها (2)) (3)
تقريب الاستدلال بالآية: أن المراد بالموصولة هو التكليف، فهي مفعول مطلق لقوله عز اسمه -: لا يكلف، والمراد بالإيتاء هو الإعلام، فيكون المراد: لا يكلف الله نفسا إلا تكليفا أعلمها به، فيشمل الشبهة التحريمية المتنازع فيها، ويقتضي عدم وجوب الاحتياط لعدم العلم بالتكليف فيها بالفرض، وإلا لما كانت شبهة.
والجواب عنه: منع ظهور الآية في ذلك، بل الظاهر خلافه، فإن حقيقة الإيتاء الإعطاء، لا الاعلام، والظاهر من الموصولة: بقرينة اتحاد سياقها
17

[مع] (1) الموصولة الواردة في الآية السابقة على هذه الآية، وهي قوله تعالى:
ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله (2)، هو المال، لا الحكم والتكليف، فتكون الموصولة مفعولا به لقوله: لا يكلف، وإرادة ذلك وإن كانت مستلزمة لارتكاب مخالفة الظاهر في الجملة، نظرا إلى لزوم إضمار الإعطاء أو الإنفاق أو الدفع قبل الموصولة، ليكون هو المكلف به في الحقيقة، حيث إنه لا يصح تعلق التكليف بنفس الأعيان، بل لا بد من تعلقه بالأفعال لكن مخالفة الظاهر على هذا التقدير أقل منها على فرض المستدل، إذ عليه مخالفتان للظاهر:
إحداهما: حمل الإيتاء على الإعلام.
والأخرى: حمل الموصولة - الظاهرة في المال بقرينة اتحاد سياقها [مع] (3) ما قبلها - على الحكم والتكليف.
هذا مع عدم ملائمة إرادة الحكم منها لمورد الآية، فإن قوله تعالى:
لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها تعليل لما في الآية السابقة من وجوب الإنفاق مما آتاه من المال، ولا ريب أنه - على تقدير إرادة الحكم والتكليف من الموصولة فيه - مستلزم لكون التعليل أجنبيا عن مورده بالمرة، لعدم اندراجه تحت موضوع الحكم المعلل به، كما هو الشأن في مقام التعليل، فلا بد إذن من حمل الآية على ما ذكرنا مع التزام إضمار فيها بكون المضمر مضافا إلى الموصولة.
ويمكن أن لا يراد بالموصولة المال، بل يراد منها نفس الفعل من غير حاجة إلى إضمار شيء قبلها، فإن إرادة ذلك منها وإن كانت مخالفة لظاهرها بالنظر إلى اتحاد سياقها [مع] (4) الموصولة في الآية السابقة إلا أنه لا يبعد دعوى
18

ظهورها بقرينة إيقاع التكليف على نفسها (1)، فإنها ظاهرة في كون المكلف [به] (2) نفسها (3)، وهو لا يكون إلا بأن يراد منها ما هو من مقولة الأفعال لا الذوات، لما مر، فيكون المفعول به حينئذ هو نفس الموصولة حقيقة، ويكون المراد بالإيتاء هو الإقرار، ويكون التعليل على هذا التقدير - أيضا - في محله،
لدخول الإنفاق من الميسور فيما أقدر الله المكلف عليه من الأفعال.
وبالجملة: إيقاع التكليف على نفس الموصولة قرينة على إرادة الفعل منها، وعلى إرادة الإقرار من الإيتاء، فالمراد من الآية حينئذ نفي التكليف عن غير المقدور.
ولعل هذا المعنى أظهر مما ذكر وأشمل، لما مر من شموله لمورد الآية ولغيره.
لا يقال: إن هنا احتمالا آخر في الآية، وهو أن يراد بالموصولة الأعم من الفعل الشامل للحكم مع إبقاء الإيتاء على ظاهره، وهو الإعطاء، فإنه معنى يصح نسبته إلى الحكم وإلى الفعل على حد سواء، وإنما الاختلاف في مصاديقه، حيث إنه بالنسبة إلى الحكم إعلامه، وبالنسبة إلى الفعل الإقدار عليه، وهذا الاحتمال ليس أقل مما اخترتم، فإنه لا يلزم منه محذور إلا مخالفة ظاهر الموصولة من جهة اتحاد سياقها [مع] (4) ما قبلها، وقد التزمتموها أنتم، فلا يرد علينا شيء أزيد مما يرد عليكم، فإذا صح إرادة ذلك من الآية صح الاستدلال بها.
لأنا نقول: إن هذا الاحتمال ينفيه لزوم استعمال الموصولة في معنيين على تقديره، كما ذكره - قدس سره - بقوله: (وإرادة الأعم منه ومن المورد يستلزم
19

استعمال الموصول في معنيين، إذ لا جامع بين تعلق التكليف بنفس الحكم وبالفعل المحكوم عليه) (1).
وتوضيحه: أن تعلق التكليف بالحكم إنما يكون من باب تعلق الفعل بالمفعول المطلق - كما مرت الإشارة إليه - وتعلقه بالفعل المحكوم عليه إنما يكون من باب تعلق الفعل بالمفعول به - كما هو واضح، ومرت الإشارة إليه أيضا - ولا ريب أنه لا يمكن اجتماع هاتين الحيثيتين في معنى واحد، لعدم الجامع بينهما، فلا يعقل كون لفظ باعتبار معنى واحدا مفعولا مطلقا وبه لفعل واحد في استعمال واحد، فلا بد - حينئذ - من إرادة كل من الحكم والفعل من الموصول بطريق الاستقلال والانفراد، لا الجامع بينهما حتى يكون التكليف متعلقا بالموصول باعتبار الأول من الحيثية الأولى، وباعتبار الثاني في الحيثية الثانية، لكن اللازم باطل، فالملزوم مثله.
قوله - قدس سره -: (بغير المستقلات.). (2)
فإن المستقلات العقلية في مخالفتها استحقاق العقاب قطعا من غير توقف على ورود بيان نقلي فيها.
قوله - قدس سره -: (أو يلتزم بوجوب التأكيد.). (3)
على تسليم أنه لا عقاب فيها بمجرد حكم العقل، وإن كان فيها الذم، بل يتوقف العقاب على تأييد العقل بالنقل.
وكيف كان، فالكلام فيما نحن فيه في غير المستقلات، والآية (4) تدل على نفي العقاب عنها على كل تقدير سواء اختص البيان بالنقلي مع تعميم مورد
20

الآية بالنسبة إلى المستقلات، أو تخصيصه بغير المستقلات، أو عم البيان العقلي أيضا.
ثم إنه تمسك بعضهم بالآية على التفكيك بين حكم العقل والشرع، بتقريب:
أن المراد بالرسول هو البيان النقلي، ومورد الآية عام بالنسبة إلى المستقلات العقلية، فتدل على نفي العذاب عنها إلا بعد البيان [النقلي] (1)، مع أن العقل مستقل باستحقاق العقاب والعذاب عليها، فلزم التفكيك بين العقل والشرع.
فأجاب عنه بعض من استدل بها فيما نحن فيه على أصالة البراءة، بأن الآية إنما تدل على نفي فعلية العذاب، وهو أعم من نفي الاستحقاق، ولا دلالة للعام على الخاص، فيمكن معه ثبوت نفس الاستحقاق عند الله - أيضا - الذي يحكم به العقل، ويكون عدم فعلية العذاب من باب العفو، فلا ينافي ثبوت أصل الحكم المدعى، كما في الظهار على ما قيل، فلم تنف الآية حكم العقل حتى يلزم التفكيك. هذا.
أقول: ويرد عليه أيضا: أن الاستدلال بها على التفكيك مبني على اختصاص البيان بالنقلي، كما عرفت، مع عموم الآية للمستقلات العقلية، وفي كل واحدة من هاتين المقدمتين منع ظاهر، لعدم ما يدل على الاختصاص إن لم نقل بظهور البيان بالنسبة إلى العقلي، ومعه تدل الآية على التطبيق، لا التفكيك، نظرا إلى وجه التعلق بالغاية، فإنه غاية نفي العذاب أو استحقاقه حاصلة في المستقلات.
ولو سلمنا فغايته الإجمال، ومعه تسقط الآية عن الاستدلال بها على ما
21

صار إليه، ولبداهة ثبوت استحقاق العقاب في المستقلات العقلية أيضا.
ثم إنه قد أورد ثالث على هذا المجيب: بأن الاستدلال بالآية في المقام على أصالة البراءة يناقض رد ذلك المستدل، فإن المطلوب في مسألة البراءة إنما هو إثبات نفي استحقاق العقاب على ارتكاب المشتبه، لا نفي فعليته ولو بطريق العفو، فحينئذ إن لم تقتض الآية أزيد من نفي الفعلية الأعم من نفي الاستحقاق فلا وجه للاستدلال بها على أصالة البراءة، وإن اقتضت نفي الاستحقاق فلا وجه لرد ذلك المستدل، فإن نفي الاستحقاق ملازم لعدم الحكم الشرعي.
هذا، لكن الإنصاف اندفاعه بما ذكره - قدس سره - بقوله: (ويمكن دفعه: بأن عدم الفعلية... إلخ) (1).
وحاصله: أن الإجماع قائم على الملازمة بين نفي فعلية العذاب وبين نفي استحقاقه على ارتكاب الشبهات مما لا يستقل بها العقل التي هي المتنازع فيها في مسألة البراءة، فإن القائلين بالاحتياط فيها مسلمون بعدم الاستحقاق على تقدير عدم الفعلية، فحينئذ يكفي للمستدل على عدم الاستحقاق دلالة الآية على عدم الفعلية، فإنه بضميمة الإجماع المركب المذكور يتم مطلوبه.
وأما في المستقلات العقلية فلم [يقم] فيها إجماع على الملازمة بين نفي فعلية العذاب وبين نفي الاستحقاق الملازم لنفي الحكم الشرعي، بل يحتمل فيها التفكيك، فلا يلزم فيها من إثبات نفي الفعلية نفي الحكم، فيكون الرد في محله.
وبالجملة: الكلام فيما نحن فيه مع من يسلم الملازمة المذكورة، فيكفي في رده إثبات نفي الفعلية، وهناك مع من لا يسلمها فيه، فلا يكفي في رده ذلك، والمراد بفعلية العذاب إنما هو عدم العفو المحتمل، لا الوقوع كيف كان، فإن
22

ذلك غير متيقن في المحرمات المعلومة فكيف بمشتبهاتها؟ وعليه يحمل قوله - قدس سره - (والعقاب والهلاك فعلا) (1) فإن مراد الخصم أيضا ذلك، لا الوقوع كيف كان.
الاستدلال بآية نفي التعذيب عليها
ومما ذكرنا ظهر الجواب عما ربما يتوهم من الإيراد على الاستدلال بالآية على أصالة البراءة من أن غاية ما تدل عليه إنما هي نفي فعلية العذاب، دون استحقاقه كما هو المدعى.
لكن الإنصاف عدم نهوضها على المطلوب.
أما أولا - فلما ذكره - قدس سره - من كونها إخبارا عن وقوع التعذيب سابقا في الأمم السابقة بعد بعث الرسول إليهم، كما يدل عليه قوله: وما كنا... بصيغة الماضي، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع فيهم، لأن الأخروي لم يجئ وقته بعد لأحد.
أقول: لا يخفى كثرة إطلاق لفظ الماضي على المستقبل في القرآن، خصوصا فيما يتعلق بأحوال القيامة، ولا شبهة [في] (2) وقوع التعذيب سابقا إلا أنه لا يوجب ظهوره أيضا في أحوال القيامة، فتسقط الآية عن الاستدلال بها.
ويمكن أن يقال: - على فرض تسليم كون الآية في مقام الإخبار عن وقوع التعذيب في الأمم السابقة بعد البعث -: إن في العدول عن لفظ: وما عذبنا إلى قوله: وما كنا معذبين (3) إشعارا بأنه تعالى أراد: أنه لم يكن شأنه تعذيب أحد إلا بعد البيان، فيستفاد أن هذا شأنه تعالى في جميع الأمور وفي الدنيا والآخرة، فيتم به المطلوب، إلا أنه مجرد إشعار لا ينبغي الركون إليه.
وأما ثانيا - فبأن الظاهر من الرسول هو الشخص المبعوث من الله
23

- تعالى -، لا البيان - سواء خصوص النقلي أو الأعم - فظاهر الآية على هذا:
ما كنا معذبين أحدا في زمان الفترة من الرسل إلى أن نبعث إليهم رسولا، ولذا تمسك بالآية بعض الأخباريين - على ما حكي عنه - على ثبوت العقاب على ارتكاب ما لم يعلم الإذن فيه من الله تعالى في شريعتنا، سواء بينة النبي صلى الله عليه وآله أو أحد أوصيائه صلوات الله عليهم - ولم يصل البيان إلينا، أو لم يبينه أحد منهم عليهم السلام أصلا، فإن غاية نفي العذاب هو بعث شخص النبي صلى الله عليه وآله لا بيانه، وهي حاصلة، فالآية بمقتضى مفهوم الغاية تدل على ثبوت العذاب على ارتكاب ما لم يعلم الاذن فيه من الله في شريعتنا.
لا يقال: إن هذا مناف لحكم العقل بقبح العذاب من غير بيان، فهو قرينة على إرادة البيان من الرسول لا الشخص.
لأنا نقول: هذا يرجع بالأخرة إلى الاستدلال بالعقل، لا الآية، فلا معنى لعدها حينئذ من أحد أدلة البراءة.
قوله - قدس سره -: (والإنصاف: أن الآية لا دلالة لها على المطلب في المقامين.). (1)
يعني في مقامنا هذا وفي مقام التمسك بها على التفكيك، فإن الاستدلال بها فيهما مبني على دلالتها على نفي فعلية العذاب لا محالة، مضافا إلى ابتنائه على الإجماع على الملازمة بينه وبين الاستحقاق في الثاني لو سلم تحققه في الأول، وقد مر منع دلالتها على نفي فعلية العذاب أيضا، بل إنما تدل على نفي العذاب الدنيوي في الأمم السابقة كما مر.
24

قوله - قدس سره -: (وفيه ما تقدم في الآية السابقة.) (1).
من أنها تدل على وقوع العذاب بعد البيان، فيختص بالدنيوي.
أقول: ويمكن أن يقال فيها أيضا ما قلنا في الآية السابقة من أن العدول إلى لفظ (ما كنا) معشر بأن شأنه تعالى لم يكن إلا الخذلان والعذاب بعد البيان، فيكون هذا شأنه تعالى وهو ثابت له في الآخرة أيضا، فلا يعذب بعذاب الآخرة أيضا إلا بعد البيان، إلا أنه مجرد إشعار لا ينبغي الركون إليه، كما مر.
قوله - قدس سره -: (إلا بالفحوى.). (2)
بأن يقال: إنه إذا أوقف الله - سبحانه وتعالى - العذاب الدنيوي الذي هو أهون من الأخروي على البيان، فإيقافه الأخروي عليه أولى.
وفيه: أنا نقطع بانتفاء العذاب الدنيوي في أكثر المحرمات المعلومة، مع القطع بترتب العذاب الأخروي عليها، فلا ملازمة بين انتفاء الأول وبين انتفاء الثاني، فضلا عن كون الثاني أولى.
قوله - قدس سره -: (في دلالتها تأمل.). (3)
فإنها مذكورة في سورة الأنفال في مورد خاص، وهو غزوة بدر، فيحتمل ان يكون المراد بالهلاك هو القتل، وبالبينة البصيرة الحاصلة لكل أحد من ظهور معجزات النبي صلى الله عليه [وآله - الظاهرة في تلك الغزوة للكفار، فيكون المراد منها - والله أعلم - أنا فعلنا ما فعلنا (4) في تلك الواقعة من إظهار مقامات النبي صلى الله عليه [وآله - لهم ليقتل من يقتل عن بصيرة، فلا ربط لها - على
25

هذا - بالمدعى، ولو لم تكن هي ظاهرة في هذا المعنى لم تكن ظاهرة في المطلوب أيضا، فتسقط بالإجمال عن الاستدلال بها.
قوله - قدس سره -: (عدم المؤاخذة على مخالفة النهي المجهول.). (1)
فلا يصلح لرد الأخباريين، حيث إنهم مسلمون بذلك، وإنما يدعون ثبوت المؤاخذة على تكليف معلوم، وهو وجوب الاحتياط في موارد الشبهة التحريمية، فأدلة الاحتياط على تقدير تماميتها من قبيل الدليل، وتلك من قبيل الأصل، فيرتفع موضوعها بأخبار الاحتياط.
الاستدلال بآية قل لا أجد وغيرها
قوله - قدس سره -: (ومنها: قوله تعالى مخاطبا لنبيه) صلى الله عليه وآله إلى قوله: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما.) (2) (3).. الآية.
تقريب الاستدلال بهذه الآية: أنه تعالى لقن نبيه صلى الله عليه [وآله - طريق الرد على اليهود بقوله: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما، فيجعل طريق الرد عليهم عدم وجدانه ما التزموا بحرمته فيما أوحي إليه، مع أن رده صلى الله عليه [وآله - إياهم بنفي الحرمة صريحا - بأن يقول لهم: ليس ما التزمتم بحرمته حراما عند الله - كان كافيا في الرد، فإنه كما يكون إخباره عن عدم الحرمة دليلا قطعيا للغير على عدم الحرمة واقعا، فكذلك عدم وجدانه شيئا محرما فيما أوحي إليه دليل قطعي على عدم حرمة ذلك الشيء، فإن أفاد أحدهما الغير فائدة فيفيدها الآخر، وإن لم يفدها لم يفدها الآخر، ففي العدول عن
26

العبارة الثانية إلى الأولى - وهي قوله: لا أجد - دلالة على أن عدم الوجدان كاف في الحكم بعدم الحرمة وإن كان هو من النبي صلى الله عليه [وآله - يفيد القطع، لكن الحكم بعدم الحرمة يدور مدار الوصف، وهو عدم الوجدان، لا القطع.
هذا غاية ما يقال في توجيه الاستدلال.
لكن يتجه عليه وجوه:
الأول: ما ذكره - قدس سره - من أن غاية ما يستفاد منها الإشعار بما ذكر، وأما الدلالة فلا (1).
الثاني: ما أفاده - دام ظله - من منع إشعارها بذلك أيضا، إذ لعل النكتة في العدول إلى قول: لا أجد في مقام الرد على اليهود كون الرد بهذه العبارة لاشتمالها على نوع من التأدب (2) لعدم كونه تكذيبا لهم صريحا - كما في العبارة الثانية - مجادلة معهم بالأحسن، وقد امر صلى الله عليه وآله بها بقوله تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن (3)، واحتمال كون النكتة في العدول هذا ليس بأبعد من احتمال كونها ذاك إن لم نقل بكونه أظهر منه، كما هو ليس ببعيد.
الثالث: أنه على فرض التسليم والإغماض عن هذين الوجهين نقول:
إنه تعالى جعل المناط في الحكم بعدم الحرمة عدم وجدان النبي صلى الله

(1) وهذا كما يقال في العرف في نفي مدعى الخصم (1) إذا أريد نفي مدعاه بطريق التأدب -: إني لا أجد ما تقول في شيء من الكتب، ولا يقال: إنه باطل أو كذب، لكونه موجبا لا ستخفاف المدعي (ب) لمحرره عفا الله عنه.
27

عليه [وآله] -، كما يشهد به قوله: لا أجد، لا عدم الوجدان من كل أحد، كما هو مبنى الاستدلال.
الرابع: أنه - على تقدير الإغماض عن هذا أيضا، وتسليم إلغاء خصوصية الفاعل - نقول: إنه تعالى جعل المناط عدم الوجدان فيما أوحي إلى النبي صلى الله عليه [وآله - فخصوصية المفعول فيه معتبرة جدا، وظاهر الموصولة العموم، بل إرادة العموم منها متعينة جدا، وإلا لما كان وجه لتوبيخ اليهود على التزامهم بحرمة بعض الأشياء المحتمل للحرمة عند الله، فإن الاحتياط مما يستقل بحسنه العقل، فكيف يصح معه الذم والتوبيخ عليه؟ إلا أن يقال: إن الظاهر من الآية التوبيخ على الالتزام بالحرمة، والاحتياط هو الالتزام بترك محتمل التحريم، لا بحرمته، فإنه تشريع، فالتوبيخ في محله، مع عدم إرادة العموم أيضا.
وكيف كان، فظاهر الموصولة كاف في حملها على العموم، فيكون المناط في الحكم بعدم الحرمة هو عدم وجدان الشيء المشتبه في جميع ما أوحي إليه صلى الله عليه [وآله] - من المحرمات، فلا ينطبق على المدعى، وهو جعل عدم الوجدان فيما بأيدينا منها مناطا في الحكم بعدم الحرمة، ضرورة أنه ليس بتمام ما أوحي إليه صلى الله عليه [وآله - للقطع باختفاء كثير منها عنا.
اللهم إلا أن يقال: إنا نعلم أنه لا مدخلية لصفة عدم الوجدان في جميع ما أوحي إليه صلى الله عليه [وآله] - من حيث هي - في الحكم بعدم الحرمة، بل كونها مناط لذلك إنما هو من جهة كونها من مصاديق عدم البيان، فالمناط هو، وهو متحقق في عدم الوجدان فيما بأيدينا أيضا، لكنه مشكل غاية الإشكال جدا.
قوله - قدس سره -: (فالتوبيخ في محله.). (1)
28

إشارة إلى وجه تأييد إرادة العموم من الموصول، فإنه لو كان ما التزموا بترك أكله مما احتمل كونه من المحرمات الإلهية المفصلة مع عدم اطلاعهم على تفصيله - ولو لتقصير - لم يكن وجه لتوبيخهم على الالتزام بترك أكله، لكونه احتياطا، وهو مما يستقل العقل بحسنه ولو مع التمكن من السؤال، فالتوبيخ كاشف عن أن ما التزموا بترك أكله كان خارجا عن جميع ما فصل، فيخرج عنه ما نحن فيه - وهو الشبهة التحريمية - فإنها محتملة لكونها من المحرمات المفصلة بالفرض.
ولا يقال: إن التوبيخ لعله لأجل أن الالتزام المذكور كان تشريعا.
لأنا نقول: إن الالتزام بالترك - لاحتمال الحرمة - ليس تشريعا قطعا، بل التشريع هو الالتزام بحرمة ما لم تعلم حرمته.
قوله - قدس سره -: (لأن غاية مدلول الدال منها عدم التكليف فيما لم يعلم خصوصا أو عموما.). (1)
لا يخفى أن الآيتين الأخيرتين - على فرض تماميتهما - تدلان على عدم التكليف فيما لم يعلم حكمه بالخصوص - سواء علم حكمه العام، أو لا - نظير قوله صلى الله عليه [وآله] -: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (2)، فإن ظاهر الموصول فيهما هي المحرمات الواقعية، كما لا يخفى، إلا أن الظاهر أنه - قدس سره - جعلهما من الآيات الغير الدالة على المطلوب بوجه.
في الاستدلال بالسنة
الاستدلال بحديث الرفع
قوله - قدس سره -: (منها: المروي عن النبي صلى الله عليه [وآله) إلى قوله: «رفع عن أمتي تسعة (3)...» (4)
29

اعلم أن الحديث الشريف يدل بدلالة الاقتضاء على كون المرفوع شيئا آخر غير ذوات تلك الأمور التسعة مقدرا في طي الكلام، ويحتمل كونه أحد أمور ثلاثة:
الأول: جميع الآثار، فيكون المعنى: رفع عن أمتي جميع آثار التسعة.
الثاني: خصوص المؤاخذة، فيكون المعنى. رفع عنهم المؤاخذة عليها.
الثالث: الأمر المناسب، فيكون المعنى رفع عنهم ما هو المناسب لها من الآثار.
فتقريب الاستدلال به - حينئذ -: أن ظاهر الموصول في قوله صلى الله عليه [وآله] -: «ما لا يعلمون» العموم بالنسبة إلى الموضوعات والأحكام مطلقا حتى الحرمة، والحديث الشريف دال على عدم المؤاخذة على ما لم يعلم مطلقا وعلى كل تقدير: أما على الأولين فواضح، وأما على الثالث: فلأنها الأمر المناسب لما لا يعلم، ومما لا يعلم الحرمة المجهولة، فدل الحديث الشريف على نفي المؤاخذة على ارتكاب المشتبهات في الشبهات التحريمية الحكمية المتنازع فيها.
هذا غاية ما قيل أو يقال في توجيه الاستدلال به، وقد عرفت أنه مبني على مقدمتين:
إحداهما: عموم الموصول للحكم دون اختصاصه بالموضوع، وهو فعل المكلف.
وثانيتهما: كون المؤاخذة أمرا مناسبا لما لا يعلم.
ويتجه على أولاهما: على جميع التقادير ما ذكره - قدس سره - أولا من منافاته لسياق الرواية، فإن ظاهرها كون المراد من الموصول في جميع فقراتها واحدا، والظاهر أن المراد به في الفقرات السابقة هو الموضوع، فاتحاد سياقه في تلك الفقرة [مع] (1) سياقه في الفقرات السابقة يقضي بأن المراد منه فيها أيضا
30

هو الموضوع، فتختص الرواية بالشبهات الموضوعية.
وعلى تقدير كون المقدر هو خصوص المؤاخذة ما ذكره (1) - قدس سره - ثانيا من عدم ملائمته لعموم الموصول: إذ على هذا التقدير يكون معنى (رفع ما لا يعلم) رفع المؤاخذة عليه، ولا معنى لرفع المؤاخذة على التكليف المجهول، فإن المؤاخذة - على تقديرها - فهي على الفعل المكلف به، لا على التكليف الذي هو فعل الله تعالى نعم هي من آثاره.
وعلى ثانيتهما: منع كون المؤاخذة من آثار التكليف المجهول بأن يكون هو مقتضيا لها، فرفعها الشارع، فضلا عن كونها أمرا مناسبا له، فإن العقل مستقل بقبح العقاب على التكليف المجهول حتى مع إمكان الاحتياط (2)، كما لا يخفى على المتأمل.
وهذا مما اعترف به الأخباريون - أيضا - فإنهم يدعون ثبوت المؤاخذة والعقاب على تكليف معلوم، وهو التكليف بالاحتياط الثابت بالأخبار الدالة عليه، كما مرت الإشارة إليه فإذا قبح العقاب على التكليف المجهول: - ولو مع إمكان الاحتياط - فهو ليس مقتضيا للعقاب والمؤاخذة أصلا.
فظهر أنه لا يصح جعل المقدر فيما لا يعلمون المؤاخذة بعنوان كونها أمرا مناسبا، وكذا بعنوان كونها من جملة الآثار بناء على تقدير جميع الآثار - أيضا - لعدم اقتضاء التكليف المجهول لها حتى تكون من آثاره.
وأما تقديرها بعنوانها الخاص فإنه مناف لظاهر الرفع، فإنه يشترط في صدق الرفع حقيقة على نفي شيء عن شيء كون ذلك الشيء مقتضيا لثبوت هذا الشيء المنفي لا محالة، وقد عرفت عدم اقتضاء التكليف المجهول

(1) ومن هنا يظهر ضعف توجيهه - قدس سره - لتقدير المؤاخذة فيما يأتي من كلامه بأنه مقتض لها في صورة إمكان الاحتياط بعد التفاته إلى الإشكال لمحرره عفا الله عنه.
31

للمؤاخذة أصلا، فحينئذ لا بد إما من حمل الموصول فيما لا يعلمون على الموضوع، فتسقط الرواية عن الاستدلال بها على المدعى، وإما من دعوى أن المقدر خصوص المؤاخذة بعنوانها الخاص مع عموم الموصول
للحكم:
أما تقدير خصوص المؤاخذة، وإن كان يقتضيه اتحاد سياق تلك الفقرة [مع] ما قبلها (1)، حيث إن الظاهر أن المقدر فيما قبلها أيضا هي المؤاخذة، لكنه مناف لظاهر الرفع ولعموم الموصول - أيضا - كما عرفت.
وأما عموم الموصول فهو مع عدم ملائمته لتقدير المؤاخذة مناف لظاهر سياق الرواية - كما مر - فتعين اختيار الشق الأول من شقي الترديد. هذا.
قال دام ظله: إن المؤاخذة وإن لم تكن من آثار التكليف المجهول - كما مر - لكن إيجاب الشارع الاحتياط في مورد احتماله من آثاره، فإنه مقتض لذلك جدا، فحينئذ لو لا اتحاد سياق الموصولة فيما لا يعلمون [مع] ما قبلها (2) - الموجب لظهور إرادة الموضوع منها - لكان الاستدلال بالحديث الشريف جيدا جدا، فإنه إذا كان المراد بها الأعم من الموضوع - الشامل للحكم - فتقريب الاستدلال: بأن المقدر في كل واحد من التسعة إنما هو الأمر المناسب له، وهو في غير «ما لا يعلمون» المؤاخذة، وفيه إيجاب الشارع الاحتياط في مورده: إذ ليس له أثر مناسب غيره، بل لا أثر له سواه، فلا يصح نسبة الرفع إليه إلا باعتبار رفع إيجاب الاحتياط، فيدل الحديث الشريف على رفع الشارع وجوب الاحتياط عما لا يعلم، بمعنى عدم إيجابه مع قيام المقتضي له، فيكون هذا نظير الحديث الآتي - وهو قوله عليه السلام: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (3) - دالا على نفي التكليف بالاحتياط في الشبهات التحريمية المتنازع
32

فيها، فيكون حجة على نفي مدعى الأخباريين، وعلى نفي العقاب من جهة التكليف بالاحتياط.
أقول: وهذا الذي أفاده - دام ظله - في تقريب الاستدلال بما لا يعلمون - بعد عدم احتمال كون المقدر المرتفع المؤاخذة، لعدم كونها من آثاره مطلقا، حتى بالنسبة إلى الحكم المجهول هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه، لا الذي ذكره - قدس سره - فيما يأتي من كلامه. من أن المرتفع فيما لا يعلمون وأشباهه - مما لا يشملها أدلة التكليف - هو إيجاب الاحتياط والتحفظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعي، ويلزمه ارتفاع العقاب واستحقاقه.
فإنه - قدس سره - وإن أصاب في جعل الأثر لما لا يعلمون عدم إيجاب الاحتياط، لكن في جعله وجوب الاحتياط على تقدير ثبوته منجزا للواقع المجهول على المكلف - كما في الطرق والأمارات الشرعية، بحيث يكون العقاب حينئذ على مخالفة الواقع المجهول، كما ينادي به قوله قبل ذلك، حتى يلزمه ترتب العقاب إذا أفضى ترك التحفظ إلى الوقوع في الحرام الواقعي - ما لا يخفى على المتأمل، فإن وجوب الاحتياط والتحفظ على تقديره مستلزم للعقاب على مخالفة نفسه بعد العلم به، سواء كان في مورده تكليف واقعي، أو لا، كما يقول به الأخباريون أيضا، لا على مخالفة الواقع المجهول على تقديرها، فإنه ليس التكليف بالاحتياط كالتكليف بالطرق والأمارات الشرعية، فإنها بعد أمر الشارع بها يتم كونها طريقا وحجة على الواقع، لكونها في أنفسها كاشفة عنه ومرآة له ظنا، والأمر بالاحتياط لا يعقل كونه بيانا لذلك التكليف المجهول كما اعترف به - قدس سره - أيضا في نظيره، وهو قاعدة وجوب دفع الضرر في طي الاستدلال بالوجه الرابع من أدلة البراءة، وهو العقل (1)، فراجع.
33

بل إنما هو - على تقديره - علم مصحح للعقاب على مخالفة نفسه، لكونه حينئذ تكليفا معلوما مبينا.
هذا، ثم إن الإشكال المتقدم، الوارد على جعل المقدر - المرتفع فيما لا يعلمون هي المؤاخذة بناء على عموم الموصول للحكم، يرد عليه على تقدير تخصيص الموصول بالموضوع أيضا بناء على استقلال العقل بقبح العقاب على مخالفة التكليف المجهول، حتى فيما إذا كان الجهل ناشئا من الأمور الخارجية - كما هو الحال في الشبهات الموضوعية - وسيأتي اختياره - قدس سره - له أيضا، لكن لا حاجة في الاستدلال إلى جعله هي المؤاخذة - على هذا التقدير - لصحة الاستدلال بناء على جعله هو الأثر المناسب، وهو إيجاب الاحتياط بالتقريب المتقدم في الاستدلال عليه بالحديث على الشبهات الحكمية على تقدير عموم الموصول للحكم.
قوله - قدس سره -: (فلعل نفي جميع الآثار مختص بها، فتأمل.). (1)
أقول: الأمر بالتأمل لعله إشارة إلى أنه إذا كان المقدر في تلك الثلاثة جميع الآثار فيبعد كونه في غيرها من الستة الباقية خصوص المؤاخذة لاستلزام ذلك للتفكيك الذي يأباه ظاهر السياق، فإن ظاهره أن المقدر في الجميع على نسق واحد، فبعد كون المراد في تلك الثلاثة رفع جميع الآثار، فالظاهر ذلك أيضا في الستة الباقية التي منها ما لا يعلمون، فافهم.
قوله - قدس سره -: (رفع كل واحد من التسعة.). (2)
وهذا نظرا إلى أن إسناد فعل إلى العدد يقتضي إسناده إلى كل واحد من
34

الآحاد مستقلا، وهذا وجه فساد ما قيل من أن اختصاص الرفع باعتبار المجموع.
قوله - قدس سره -: (وأما في الآية فلا يبعد أن يراد به العذاب والعقوبة.). (1)
والقرينة على ذلك قوله تعالى بعد تلك الفقرة: وأعف عنا واغفر لنا (2)
قوله - قدس سره -: (وهو كما ترى.). (3)
فإن تقدير جميع الآثار مساو لتقدير بعضها، والتفاوت بينهما إنما هو لكون المقدر على الأول أكثر أفرادا منه على الثاني.
قوله - قدس سره -: (مبنيا لإجماله، فتأمل.). (4)
الأمر بالتأمل لعله إشارة إلى أن عموم العام لا يوجب ظهور المخصص المجمل بالظهور الذاتي، بل إنما هو ظهور خارجي، فهذا التوجيه لم يثبت ظهور الرواية في المدعى من حيث هو، كما هو المدعى.
قوله - قدس سره -: (وأما نفس المؤاخذة فليست من الآثار المجعولة الشرعية.). (5)
بل هي من مقولة الأفعال.
قوله - قدس سره -: (أن المراد برفع التكليف عدم توجيهه إلى المكلف مع قيام المقتضي له، سواء كان هنا دليل يثبته لو لا الرفع، أم لا...) (6).
35

لا يخفى أن الرفع حقيقة في رفع الأمر الثابت قبل الرفع حقيقة، فلذا يقال في النسخ: إنه رفع صوري بالنظر إلى ظاهر الدليل الدال على الاستمرار، ولو تنزلنا عن ذلك وسلمنا شموله لرفع الأمر الثابت - ولو بحسب ظاهر الدليل - فلا يشمل عدم توجيه التكليف مع قيام المقتضي له حقيقة إذا لم يكن هنا دليل يثبته، ولو أطلق عليه فهو مجاز جدا.
لكن الظاهر من الرواية إرادة ما يعم ذلك كما ذكره - قدس سره - والقرينة عليه أنه صلى الله عليه [وآله - ذكر هذا الحديث الشريف في مقام الامتنان على هذه الأمة، بأنه من الله عليهم برفع تلك الأمور التسعة عنهم، ولم يثبتها عليهم، كما أثبتنا على الأمم السابقة، فالرفع هنا مقابل لإثباتها على الأمم السابقة، فلم يكن معناه حينئذ إلا عدم جعلها في حقهم مع قيام المقتضي، فيكون معناه مساوقا لقوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج
(1).
هذا مضافا إلى أنه لا يعقل الرفع الحقيقي في الأحكام الشرعية، بمعنى رفعها حال ثبوتها واقعا لكونه مستلزما للبداء في حقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وأما رفعها بمعنى الإعلام بانقضاء مدة ثبوتها بعد اقتضاء الدليل لها مستمرا - كما هو معنى النسخ - فهو وإن كان ممكنا واقعا في الشريعة إلا أنه غير محتمل في الحديث الشريف جدا كما لا يخفى، فتعين أن يكون المراد به ما مر، فتدبر.
ثم إن حاصل الجواب عن الإيراد المذكور: أن الذي مر - من أن المراد رفع الآثار الشرعية المترتبة على نفس الفعل من حيث هو - نعني به رفع الآثار الشرعية التي يقتضي ذات الفعل ترتبها عليه، ولما كان التكليف المجهول بذاته مقتضيا لإيجاب الاحتياط فمعنى رفعه رفع إيجاب الاحتياط والتحفظ.
36

قوله - قدس سره -: (وكذلك [الكلام] في الجزء المنسي، فتأمل.). (1)
لعله إشارة إلى أنه قد مر أن المراد برفع تلك الأمور التسعة التي منها النسيان رفع الآثار الشرعية المترتبة على الفعل - من حيث هو - لو لا الرفع، مع قيام المقتضي لثبوتها حال الرفع، وهذا المعنى غير متعقل في جزئية شيء للمأمور به أو شرطيته له، فإنهما وإن كانتا من الآثار الشرعية المترتبة على ذات الفعل - من حيث هو - على تقدير ثبوتها، إلا أنه لا يمكن رفعهما مع قيام المقتضي لهما، وبدونه لا رفع أصلا، فهما يخرجان عن الرواية جدا، وذلك لأن المقتضي لجزئية شيء للمأمور به أو شرطيته له إنما هو الأمر بالفعل المأمور به مقيدا بهما، وهذا على تقدير ثبوته علة تامة للشرطية والجزئية، لا يعقل معه رفع الشرطية والجزئية - مضافا إلى ما قد يقال: من أن الأحكام الوضعية أمور انتزاعية من التكليفية ليس لها واقع سواها - وعلى تقدير عدمه لا رفع أصلا. هذا.
أقول: هب أنه لا يصح إدخال الشرطية والجزئية في الرواية فلا يصح التمسك بها على نفيهما حال النسيان إلا أن سببهما - وهو الأمر بالمشروط والكل مقيدا بالجزء والشرط - داخل فيها جدا، فإن ذات الفعل من حيث هو مقتض لتعلق الأمر به مقيدا بهما، فمعنى رفعه حال النسيان رفع هذا الأمر الذي يقتضيه فتدل الرواية على عدم الأمر حال النسيان بالجزء والشرط المنسيين.
الاستدلال بالحسد معصية وغيره
قوله - قدس سره -: (وفي الشرائع (2): أن الحسد معصية، وكذا الظن بالمؤمن، والتظاهر [بذلك] (3) قادح بالعدالة.). (4)
فإن هذا موافق لما في الدروس (5) فإن جعله التظاهر بالحسد قادحا
37

بالعدالة دون نفسه - مع أنه قال: إنه معصية - دال على أنه جعل نفس الحسد من المعاصي الصغيرة، والتظاهر به من الكبائر القادحة بالعدالة ولو مع عدم الإصرار عليها.
قوله عليه السلام: «وإنما يذهبه التوكل.. (1).» (2)
الضمير إما راجع إلى الطيرة، فالمعنى: يذهب الطيرة التوكل، وإما إلى الشرك المخصوص، فالمعنى: أنه إنما يذهب الشرك - وهو الطيرة - التوكل.
وكيف كان، الطيرة شرك إن اعتقد أنه المؤثر الحقيقي في الأمور، لا الواسطة، كالخواص المترتبة على الأشياء، كالحموضة، والحلاوة، والسمنية، والترياقية، وغير ذلك.
قوله - قدس سره -: (ومنها: قوله عليه السلام: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (3)) (4)
الاحتمالات السابقة في حديث الرفع - من حيث كون المقدر جميع الآثار أو الأثر المناسب أو خصوص المؤاخذة - جارية فيه أيضا، والكلام هنا الكلام فيه إلا أن بعض القرائن الموجودة هناك على حمل الموصول على الموضوع خاصة غير موجود هنا، بل الظاهر منه هنا الأعم.
قوله - قدس سره -: (لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط.). (5)
لا يخفى أن هذا الإيراد لا يختص بهذه الرواية، بل يعم سائر الروايات
38

المتقدمة، مع أنه لم يتعرض له فيها.
اللهم إلا أن يكون ذلك لأجل اختصاص هذه الرواية بهذا الإيراد وحده، وسلامته من سائر الإيرادات الواردة على غيرها.
قوله - قدس سره -: (وسياقه يأبى عن التخصيص.). (1)
فإن قوله: عليه السلام -: «أيما امرئ ارتكب أمرا بجهالة فلا شيء عليه» (2) باعتبار تعليق الحكم فيه على الوصف المناسب - وهو الجهل - يفيد عليته لرفع المؤاخذة، وكونه علة له مناف لتخصيصه بالشاك الغير المقصر، لوجوده في غيره أيضا بمثل وجوده فيه.
قوله - قدس سره -: (فتأمل) (3)
لعله إشارة إلى أن حمل الرواية على الغفلة أو اعتقاد الصواب أيضا يحوج الكلام إلى التخصيص بالجاهل الغير المقصر - أي الغافل أو المعتقد للصواب عن غير تقصير - مع أن السياق آب عن التخصيص لما مر.
الاستدلال بصحيحة عبد الرحمن
قوله - قدس سره -: (وقد يحتج بصحيحة (4) عبد الرحمن ابن الحجاج.). (5)
وجه الاستدلال: أنه عليه السلام حكم فيها بالمعذورية في التزويج على المرأة في العدة ورفع المؤاخذة عليه، وعلق المعذورية فيها على الوصف المناسب، وهو الجهل المفيد لعليته للمعذورية ورفع المؤاخذة، فيستفاد منها كون الجهل علة لرفع المؤاخذة مطلقا، سواء كان المجهول موضوعا أو حكما، وسواء
39

كان منشؤه في الثاني اشتباه الأمور الخارجية أو فقد النص أو إجماله أو تعارضه.
فتكون حجة على نفي المؤاخذة على ارتكاب الشبهة التحريمية فيما لا نص فيه التي هي المتنازع فيها.
أقول: ويؤكد عموم عليته للمعذورية ورفع المؤاخذة عدم استفصال الإمام عليه السلام من السائل عن تخصيصه الواقعة المسؤول عنها بأن الجهل فيها: أهو في أصل العدة، أو في انقضائها مع العلم بها، أو أنه في مقدارها.
أو أنه في كون العقد على المرأة محرما شرعا، وتعيينه سؤال السائل (1) ثانيا بقوله:
(بأي الجهالتين أعذر؟) ثم جوابه عليه السلام: «إحدى الجهالتين أهون، الجهالة بأن الله حرم عليه ذلك».
وكأن المصنف - قدس سره - منع من إطلاق الجهالة، وحملها على الجهالة المخصوصة بالواقعة المسؤول عنها، فلذا ردد في الجواب عن الاستدلال [بها]، وقد ظهر ما في منعه منه مما ذكرنا.
هذا، لكن الإنصاف عدم صحة الاستدلال بالصحيحة على المدعى، لظهور أن المراد من المعذورية فيها إنما هي المعذورية في التزويج على (2) المرأة مطلقا بعد انقضاء عدتها، ونفي التحريم الأبدي، لا المعذورية في
التزويج عليها (3) في عدتها مطلقا، كما هو مبنى الاستدلال [بها]، والقرينة على ذلك أمران:
أحدهما: قوله عليه السلام في الصحيحة: «أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها»، فإنه ظاهر في عدم كون التزويج عليها (4) في العدة حال الجهل موجبا للحرمة الأبدية، وقوله عليه السلام بعد ذلك: «فهو
40

معذور في أن يتزوجها»، فإنه صريح في ذلك.
وثانيهما: إطلاق الجهالة في قوله عليه السلام: «أما إذا كان بجهالة» بالنسبة إلى الصور الأربعة المذكورة في وجه تأييد إرادة العموم منها مطلقا، حتى إذا كانت الجهالة فيها بالشك، فإن الجهالة لها فردان: أحدهما ذلك، والآخر الغفلة، حيث إنها بمعنى عدم العلم المعبر عنه بالفارسية: ب‍ (ناداني) فيشملها عند الإطلاق.
وبالجملة: لما كان كل من الوجوه الأربعة - المذكورة في كيفية الواقعة المسؤول عنها - محتملا، مع احتمال كون الجهل في كل منها - على تقديره - بالشك أو بالغفلة، فالجهالة بإطلاقها شاملة لجميعها بأي الاحتمالين في مصداقي الجهالة، بل بعمومها، لما مر من وجه ترك الاستفصال، فإن حملها على إطلاقها أو على العموم لا يمكن إلا بحمل المعذورية في موردها على المعذورية في التزويج بعد انقضاء العدة، فإن الجاهل في تلك الصور إذا كان شاكا ملتفتا فليس معذورا في التزويج على (1) المرأة في العدة مطلقا:
أما إذا كانت شبهة موضوعية - كما في الصورة الأولى، وهي الشك في أصل العدة، والثانية، وهي الشك في انقضائها مع العلم بها - فلوجوب الفحص عليه في الأولى، مضافا إلى أصالة عدم تأثير العقد، ولاقتضاء الاستصحاب عدم انقضاء العدة في الثانية، فلا يجوز العقد فيها اتفاقا.
وأما إذا كانت شبهة حكمية - كما في الصورة الثالثة، وهي كون الشك في مقدار العدة شرعا مع العلم بها في الجملة، والصورة الرابعة، وهي الشك في حرمة التزويج على (2) المرأة في العدة - فلوجوب الفحص فيها عليه اتفاقا، مضافا إلى أصالة عدم تأثير العقد، مع أن الجهالة في الرابعة بمعنى الشك لا
41

يكون إلا عن تقصير، لوضوح الحكم فيها بين المسلمين بحيث يعرفه كل أحد الكاشف عن تقصير الجاهل، فالجاهل فيها ليس معذورا بالضرورة.
ولو سلمنا المعذورية في الصورة الأولى، نظرا إلى اقتضاء الاستصحاب عدم العدة وعدم وجوب الفحص فيها، فتكون الشبهة موضوعية لا يجب الفحص فيها إجماعا، كما ادعاه المصنف - قدس سره - في بعض كلماته أيضا، وإلى (1) حكومة هذا الاستصحاب على استصحاب عدم تأثير العقد كما هو كذلك، نظرا إلى كون الشك في التأثير مسببا عن الشك في أن عليها عدة.
فيكفي في منافاة الإطلاق، بل العموم - كما مر - عدم استقامة الكلام في سائر الصور.
فحينئذ يدور الأمر في الرواية بين: تخصيص الجهالة فيها وتقييدها بالغفلة في جميع تلك الصور، أو تخصيص الجهالة بالصورة الأولى وإخراج سائر الصور عنها على تقدير الشك فيها مع إطلاق الجهالة في الصورة الأولى بالنسبة إلى الشك.
وبين حمل المعذورية على المعذورية في التزويج بعد العدة، حيث إنها لم يقم دليل على نفيها عن واحدة من تلك الصور بأي قسم من قسمي الجهالة من الشك أو الغفلة، فلا يلزم تخصيص أو تقييد في الجهالة، مضافا إلى قيام الإجماع على ثبوتها في أكثرها - وهي غير الأخيرة -، فتكون الرواية حجة على ثبوتها فيها أيضا للتنصيص بها (2) فيها بالخصوص، مضافا إلى إطلاقها بالنسبة إليها.
لا سبيل إلى الأول، لوجوب الأخذ بأصالة الإطلاق والعموم ما لم يثبت الصارف عنهما، وليس في الرواية ما يوهم الصرف، فكيف بما يدل عليه؟ فتعين الثاني، وهو المطلوب.
لا يقال: إنه لو كان المراد بالمعذورية المعذورية في التزويج بعد العدة لما
42

استقام تعليله عليه السلام إياها في الصورة الأخيرة - المنصوصة في الرواية - بكون الجاهل فيها غير قادر على الاحتياط، فإنه إنما يستقيم كون عدم القدرة على الاحتياط علة على نفي المؤاخذة على التزويج. لأنا نقول: إن تجويز العقد بعد انقضاء العدة إنما هو من باب التخفيف وتسهيل الأمر على العباد مع قيام المقتضي لتحريمه، كما ينادي به قوله - عليه السلام -: «فهو معذور»، ولا ريب أن الغافل أولى بالتسهيل عليه من الشاك الملتفت، فاستقام التعليل.
ثم إنه ربما يتخيل: أن إطلاق الجهالة - في قوله عليه السلام: «الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه» - أيضا شاهد على حمل المعذورية على المعذورية في التزويج بعد العدة بتقريب:
أنها بإطلاقها شاملة لصورة التزويج على المرأة المعتدة قبل الفحص عن حكم المسألة، فلو كان المراد المعذورية في ذلك ورفع المؤاخذة عنه عليه دون المعذورية في التزويج بعد العدة، لكان مفاد تلك الفقرة مخالفا للإجماع بل الضرورة، فإن الجاهل بالأحكام الشرعية لا يصح ولا يجوز له الرجوع إلى أصالة البراءة قبل الفحص ضرورة، فلا يكون معذورا بالبديهة.
هذا بخلاف ما لو حملناها على المعذورية في التزويج بعد انقضاء العدة، لعدم قيام الإجماع - حينئذ - على خلافه، فتكون الفقرة المذكورة دليلا على جواز العقد بعد العدة في تلك الصورة كما مرت الإشارة إليه، فحينئذ لو بنينا على الثاني عملنا بإطلاقها، وإلا يلزم طرحه من غير صارف له، وهو باطل فتعين الأول.
هذا، لكن لا يخفى فساده على من له أدنى تأمل، فإن تعليله - عليه السلام - الأهونية في تلك الصورة بعدم القدرة فيها على الاحتياط قرينة على أن مورد تلك الفقرة هو الغافل لا غير، ولا ريب أنه يتعقل في حقه المعذورية في
43

التزويج على المرأة المعتدة، بمعنى رفع المؤاخذة عنه عليه، بل لا بد أن يكون كذلك، فإذا أمكن في حقه ذلك تحمل (1) المعذورية في تلك الفقرة على الأعم من المعذورية في التزويج بعد العدة لإطلاقها، فإذا فرض كون المراد منها هنا الأعم يكون (2) المراد منها ذلك أيضا، وإلا لزم التفكيك في المعذورية في الموارد في سائر الصور (3)، فيتم مطلوب المستدل.
اللهم إلا أن يلتجأ حينئذ - في حمل المعذورية على المعذورية في التزويج بعد العدة - إلى ما ذكرنا من الوجهين، فيرجع الأمر بالأخرة إليهما، فلم يبد [هنا] (4) وجه ثالث للدلالة على المطلوب.
قوله - قدس سره -: (لوجوب الفحص وأصالة عدم تأثير العقد.). (5)
قد مرت الإشارة إلى ضعف كل من هذين.
أما الأول: فلكون الشبهة - حينئذ - موضوعية لا يجب الفحص فيها إجماعا.
وأما الثاني: فلأن استصحاب عدم العدة حاكم على هذا الأصل جدا، كما مر.
هذا، لكن لا يبعد أن يكون مراده - قدس سره - من الجهالة بأصل العدة الجهالة بلزوم التربص، فتكون الشبهة حكمية قصر في السؤال عنها، ولا يجوز
44

له الرجوع إلى أصالة البراءة، لتوقفه في الشبهة الحكمية على الفحص، فيكون ما ذكره - قدس سره - من عدم معذوريته - حينئذ - معللا بوجوب الفحص وأصالة عدم تأثير العقد في محله، إذ لا أصل يعارض - حينئذ - أصالة عدم تأثير العقد، فضلا عن حكومته عليها، فتكون هي محكمة، والقرينة على إرادته - قدس سره - تلك الصورة تعليله بوجوب الفحص وأصالة عدم تأثير العقد، إذ لو كان المراد هو صورة الشبهة الموضوعية - وهي الجهالة بأن عليها عدة، أم لا، مع العلم بوجوب العدة - لم يستقم هذا التعليل، كما عرفت، ولا يقول هو بلزوم الفحص - حينئذ - ولا باعتبار هذا الأصل.
قوله - قدس سره -: (إلا أنه إشكال وارد على الرواية على كل تقدير.). (1)
يعني أن تخصيص الجاهل بالحكم بالتعليل المذكور إشكال وارد عليها مطلقا:
أما على تقدير كون المراد بالجهالة في جميع الفقرات متحدا - بأن يكون المراد منها في الجميع الغفلة - فلأنه مستلزم لكون تعليل أولوية الجاهل بالحكم بالعلة المذكورة تعليلا بالعلة المشتركة، وهو قبيح، كما لا يخفى، أو بأن يكون المراد منها في الجميع الشك، فإنه لا وجه للتعليل - حينئذ - أصلا، لكونه كذبا.
وأما على تقدير كون المراد منها في هذه الفقرة الغفلة، وفي سابقها الشك.
فيلزم التفكيك بين الجهالتين، وهو خلاف الظاهر، إلا أنه بعد دوران الأمر بينه وبين التقدير الأول بأحد احتماليه يجب الالتزام به، لبطلان الأول وفساده عند العقل مطلقا، بخلاف الثاني، فإن غايته كونه مخالفا للظاهر، لا قبيحا. والظاهر يخرج عن مقتضاه بعد قيام القرينة عليه بالضرورة، ولذا قال - قدس سره -
45

(ومحصله لزوم التفكيك بين الجهالتين) (1) بغير موجه (2) - بالفتح -.
قوله - قدس سره -: (فتدبر فيه وفي دفعه.). (3)
أما التدبر في أصل الإشكال فقد حصل.
وأما التدبر في دفعه: فبأن الجهالة معناها إنما هو عدم العلم المعبر عنه بالفارسية: ب‍ (ناداني) المتحقق تارة في ضمن الشك، وأخرى في ضمن الغفلة، كما مرت الإشارة إليه، وهي مستعملة في كلا الموضعين من الرواية في هذا المعنى العام، إلا أنه لما لم يكن لها مصداق في الثاني منهما - وهو الجهل بأن الله حرم عليه التزويج في العدة - إلا في ضمن الغفلة، لوضوح هذا الحكم بين المسلمين كالشمس في رابعة النهار، بحيث يعرفه كل أحد ممن قرعت سمعه كلمة الإسلام أو كان لها مصداق آخر أيضا، لكنه في غاية الندرة، بحيث كاد أن يلحق بالمعدوم، فعلل عليه السلام أولوية العذر - هنا - بعدم القدرة على الاحتياط، لانحصار مورد الجهالة هنا في الغفلة، لا لاستعماله إياها - هنا - في الغفلة، حتى يلزم التفكيك، مع أنه لا يعقل - مع إطلاق الجهالة في السؤال بكلا شقيه - وقوع الجواب بكونها أهون في الشق الثاني معللا بأني فرضت الجاهل فيه الغافل، وهو لا يقدر على الاحتياط، لكون ذلك بمكان لا يمكن نسبته إلى أحد منا، فكيف بالإمام عليه السلام؟
قوله - قدس سره -: (إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في (منه) إليهما... إلى آخر) (4)
46

نظرا إلى أن كلمة (من) ظاهرة في التبعيض، فمقتضاها هنا كون الحرام قسما من ذلك الشيء وفردا منه، وعلى تقدير جعل الشيء خصوص المشتبه لم يكن الحرام قسما منه، بل عينه، فإن الشيء الكلي المشتبه الحكم كشرب التتن - مثلا - عند الاطلاع بحرمته (1) يكون الحرام نفسه، لا فردا منه، إذ المفروض عدم وجود القسمين فيه: أحدهما حلال، والآخر حرام.
قوله - قدس سره -: (وكون الشيء مقسما لحكمين - كما ذكره المستدل - لم يعلم له معنى محصل) (2)
إذ المعتبر في المقسم صدقه على كل واحد من الأقسام، ولا يعقل كون الشيء المشتبه الحكم - الذي هو الموضوع - صادقا على شيء من الحكمين، فإنهما من عوارضه، لا من أفراده ومصاديقه.
هذا، لكن لا خفاء فيما أراده المستدل من تلك العبارة، فإنه أراد بها كون الشيء محتملا للحلية والحرمة، وإنما أدى مراده بما لا دخل له في إفادته، مع ظهورها فيما ينكره كل صبي.
قوله - قدس سره -: (لازم قهري لا جائز لنا.). (3)
فيه: أنه معلوم أن مراد المستدل بالجواز هو العقلي، وهو الإمكان، لا الشرعي، وهو الإباحة، حتى ينكر بما ذكره - قدس سره -.
قوله - قدس سره -: (وعلى الاستخدام... - إلى قوله -: فذلك الجزئي لك حلال.). (4)
إنما جعل المشار إليه على تقدير الاستخدام هو الجزئي المراد بلفظ.
47

الشيء، دون الكلي الذي يعود إليه الضمير في «فيه» و «منه»، لأنه لولاه لخلت الجملة الواقعة خبرا عن المبتدأ - الذي هو الشيء - عن الربط لها إلى ذلك المبتدأ، كما لا يخفى.
قوله - قدس سره -: (ولضمير «منه» ولو على الاستخدام.). (1)
إذ معنى الرواية على تقديره: أن كل جزئي مشتبه الحكم محتمل للحلية والحرمة، فذلك الجزئي لك حلال حتى تعرف الحرام من نوعه، فتدع ذلك الحرام، وظاهر كلمة (من) كما مر هو التبعيض، فمقتضاها كون ذلك الجزئي مما في نوعه قسمان فعلا - أحدهما حلال والآخر حرام - وهذا لا ينطبق على الشبهات الحكمية التي أراد المستدل الاحتجاج عليها، فإن الجزئي فيها ليس مما في نوعه قسمان فعلا، بل حال نوعها مردد بين الحلية والحرمة، لا أنه منقسم إليهما، فإن الشك في حرمة الجزئي فيها أو حلية ينشأ من الشك في حال نوعها.
قوله - قدس سره -: (الاشتباه الذي يعلم من قوله: «حتى تعرف...») (2)
فإن الحكم على شيء بالحلية أو الحرمة - أو غيرهما من الأحكام التكليفية أو الوضعية - مغيا بغاية العلم والمعرفة يفيد أن المراد بالشيء - الذي جعل موضوعا لذلك الحكم المغيا بتلك الغاية - هو المشتبه المتردد حكمه في الواقع بين كونه هذا الحكم أو نقيضه.
قوله - قدس سره -: (ليس منشأ لاشتباه لحم الحمير.). (3)
فإن منشأ الاشتباه فيه إنما هو فقد النص، كما في شرب التتن.
48

قوله - قدس سره -: (معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده.). (1)
فإن إعادة النكرة بالمعرفة يفيد أن المراد بها هي النكرة بخصوصها.
وقوله: (فرض وجوده) يعني فرض وجوده في الشيء الذي جعل موضوعا للحكم بالحلية، كما هو ظاهر قوله عليه السلام: «فيه حلال وحرام».
أقول: لا يخفى أن اتحاد الحرام - الذي جعل معرفته غاية للحكم بالحلية - مع الشيء المفروض الوجود الذي لا يقضي بخروج مثل مطلق اللحم عن موضوع الرواية، إذ ليس معنى «شيء فيه حلال وحرام» أزيد من كونه شيئا وجد فيه القسمان فعلا، وهو صادق على مطلق اللحم جدا، لوجودهما فيه كذلك، فيقال: إن حلية مطلق اللحم مغياة بمعرفة ذلك القسم الحرام منه، لا أن حلية قسم آخر منه مغياة بمعرفة ذلك القسم الحرام، حتى ينكر، فمعرفة لحم الخنزير ليست غاية لحلية لحم الحمار من حيث خصوصيته، بل إنما هي غاية لها
بعنوان كونه من مطلق اللحم.
فظهر أن مجرد اتحاد الحرام - الذي جعلت معرفته غاية للحلية - مع الحرام الموجود في نوعه لا يقضي بما ذكر إلا بضميمة ما مر من أن الظاهر من قوله عليه السلام: «فيه حلال وحرام» بيان منشأ الاشتباه في الحلية والحرمة، فيكون المراد بالحرام هو الذي صار وجوده منشأ لاحتمال الحرمة، فيكون المراد بالحرام - الذي جعلت معرفته غاية لحلية ذلك النوع - هو هذا الحرام، وهذا لا ينطبق على المثال المذكور، فإن وجود القسم الحرام فيه - وهو لحم الخنزير - لم يكن منشأ لاحتمال الحرمة في لحم الحمار، حتى يكون معرفته غاية للحلية، بل المنشأ له إنما هو فقد النص، كما مرت الإشارة إليه، ومع الحاجة إلى تلك الضميمة لم يحسن قوله - قدس سره - (هذا كله مضافا) إلى آخر ما ذكره، فإن الظاهر
49

منه جعل ذلك وجها آخر مستقلا لإثبات المرام، وقد عرفت ما فيه.
اللهم إلا أن يكون المراد جعل ذلك من القرائن المفيدة بمجموعها لما هو في صدده، ولا يبعد، وإن كانت العبارة قاصرة عنه.
ثم إن الرواية الشريفة شاملة لجميع الشبهات الموضوعية البدوية منها والثانوية التي علم بوجود حرام فيها، كالشبهة الغير المحصورة والمحصورة أيضا، ولقسم من الشبهات الحكمية، - وهو أن علم بحرمة صنف من نوع وبحلية صنف آخر منه إجمالا مع عدم العلم بأن الحرام أي الصنفين منه - فإنه يصدق على ذلك النوع أنه شيء فيه حلال وحرام فعلا، ويكون منشأ الاشتباه فيه هو وجود القسمين، لكن لا بد من تخصيصها بالشبهات البدوية وبالقسم الأول من الثانوية ولإخراج الأخيرين منها، كما سيأتي التنبيه عليه في محله إن شاء الله تعالى.
قوله - قدس سره -: (والإنصاف ظهور بعضها.). (1)
وهو قوله عليه السلام: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (2)
قوله - قدس سره -: (والظاهر من التعبير عن الدليل المخالف (للأصل) بالناقل إرادة الأصل) (3)،
فإن ذلك هو المعهود من الدليل المخالف للأصل العملي، بل المصطلح عليه بينهم، كما أن المعهود - بل المصطلح بينهم - في الدليل المخالف للأصل اللفظي - كأصالة الحقيقة وأصالة الإطلاق والعموم - هو لفظ الصارف
50

وهذا الذي ذكره - قدس سره - دفع لما ربما يتوهم من أنه لعل مراد المحقق - قدس سره - من الأصل الذي ادعي الاتفاق على العمل به إذا لم يكن دليل مخالف له هو اللفظي، بمعنى أنه - قدس سره - فهم أن السيد - قدس سره - حكم بجواز إزالة النجاسات بالمائعات المضافة متمسكا بإطلاق لفظ الغسل في الأوامر الشرعية الواردة في الغسل عن النجاسات، مع عدم ثبوت دليل على خلافه عنده، فنسب حكم المسألة إلى مذهبنا، لأن المذهب على جواز العمل بأصالة الإطلاق، وسائر الأصول اللفظية ما لم يثبت دليل على الخلاف.
فوجه كلامه بما فهمه منه.
في الاستدلال بالإجماع
قوله - قدس سره -: (وان طريقة الشارع كان تبليغ المحرمات.). (1)
قد بتوهم: أنه - قدس سره - جعل ذلك من كواشف الإجماع العملي المذكور، وأن قوله: (وأن طريقة الشارع) عطف على قوله: (فإن سيرة المسلمين).
لكن لا يخفى ما فيه من الضعف، فإن ذلك على تقدير ثبوته لا يصلح لكونه كاشفا عن الإجماع المذكور، بل إنما هو دليل آخر مستقل على إثبات أصالة البراءة، ويمكن أن يكون معطوفا على قوله: (الإجماع العملي)، بأن يكون الوجه الثالث من وجوه الكواشف عن الوجه الثاني من وجهي الإجماع مركبا من الإجماع العملي ومنه، لكن على هذا أيضا لا يسلم من الإشكال المذكور، مع أنه يبعده - أيضا - أنه - قدس سره - جعل كل واحد من وجوه الكشف عن الوجه الثاني من وجهي الإجماع بسيطا، لا مركبا من وجهين، فتدبر.
لكن الظاهر أنه عطف على الفحص في قوله: (بعد الفحص) يعني أن سيرة المسلمين على عدم الالتزام والإلزام بترك ما يحتمل ورود النهي عنه من
51

الشارع بعد الفحص وعدم الوجدان، وبعد ملاحظة أن طريقة الشارع كانت تبليغ المحرمات دون المباحات. هذا.
أقول: يتجه على ذلك - مضافا إلى ما ذكره (قدس سره) - بأن ملاحظة هاتين المقدمتين توجب القطع بانتفاء الحرمة في المشكوك، ويصير الشك في حرمته بدويا يزول بملاحظتهما، فيخرج عن الشهادة لما نحن فيه، فافهم.
في الاستدلال بالعقل
قوله - قدس سره -: (الرابع: حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف... إلى آخره) (1)
المراد بالبيان ليس خصوص العلم، وإلا لقبح العقاب على مخالفة التكاليف القائمة عليها الطرق الظنية المعتبرة، ضرورة أن قيام الأمارة الظنية على تكليف لا يوجب العلم به، فلا يعقل كونها بيانا علميا له، مع أنه لا شبهة في جواز العتاب وحسن العقاب عليها حكم العقل وشهادة العقلاء كافة، بل المراد به الحجة القاطعة للعذر بين الموالي والعبيد، وهي ما لو عمل به العبد واتفق مخالفته للواقع - بأن كان مؤديا إلى مبغوض المولى - لقبح على المولى عقاب العبد على ذلك، ولو لم يعمل به واتفق كون مؤداه مطلوبا للمولى لحسن له عقابه عليه (2)، فيعم الطرق الظنية المعتبرة، فإنها وإن لم تكن حججا في أنفسها كالعلم، إلا أنها منزلة منزلة العلم بجعل الشارع وأمره بالعمل بمؤداها وجعله [إياها] مرآة للواقع كالعلم.
لا يتوهم: أنه إذا لم يكن الطرق الظنية بأنفسها حججا - بل بجعل

(1) قبح العقاب في صورة مخالفة الطريق للواقع إنما هو لعدم بيان ذلك التكليف الذي اتفق مخالفته جهلا.
فإن مجرد نصب طريق من دون قيامه على تكليف لا يكون بيانا لذلك التكليف، وإنما يكون بيانا له إذا قام عليه، بأن يكون موصولا إليه، وحسنه في صورة مصادفته للواقع إنما هو لبيانه بقيام ذلك الطريق عليه بالفرض. لمحرره عفا الله عنه.
52

الشارع - فيكون مدار الحجية فيما لم يكن حجة بنفسه على جعل الشارع، فيكون الطرق الظنية والأمور الغير المفيدة للظن أصلا (1) سواء من حيث عدم حجيتهما في أنفسهما وحجيتهما بجعل الشارع، فما الوجه في جعل الشارع الأولى حججا دون الثانية؟ لأن اعتبار الشارع ما لم يكن حجة بنفسه وجعله حجة معناه - كما أشير إليه - إنما هو أمره بالعمل بمؤداه وجعله مرآة لتكليفه الواقعي، وذلك لا يعقل في الثانية، ضرورة أنه ليس لها مؤدى ليأمر الشارع بالعمل به، لعدم الكشف فيها أصلا، فيرجع جعلها طرقا إلى جعل الشك طريقا، وهو غير معقول.
وبالجملة: الطرق الظنية صفة الطريقية ثابتة لها في أنفسها كالعلم إلا أن الخاصية المترتبة على العلم - وهي السببية لقطع العذر - ليست لازمة لها كما في العلم، بل إنما هي بجعل الشارع، فجعل الشارع مكمل لطريقيتها لا محدث لصفة الطريقية فيها.
ومما ذكر إلى هنا ظهر: أنه لا يعقل أن يأمر الشارع بالاحتياط في مورد الشك في التكليف الواقعي لأجل دفع
ضرر ذلك التكليف الأخروي، سواء كان أمره ذلك إرشاديا، أو شرعيا يكون الحكمة فيه التحرز عن ذلك الضرر الأخروي، إذ بعد قبح العقاب على ذلك التكليف المشكوك لا ضرر حتى يجعل التحرز عنه منشأ للأمر بأحد الوجهين المذكورين، وأنه يقبح للشارع (2) إلزام المكلف - بخطاب آخر سوى الخطاب الواقعي المشكوك فيه - على امتثال (3) ذلك التكليف المشكوك فيه، بأن يقول له - مثلا -: يجب عليك امتثال التكاليف

(1) ككون طلوع الشمس أو غروبها - مثلا - حجة وطريقا مجعولا على وجوب امتثال التكاليف الواقعية المجهولة. لمحرره عفا الله عنه.
53

الواقعية المشكوك فيها عندك ضرورة أن هذا الخطاب لا يعقل كونه بيانا لذلك التكليف الواقعي المشكوك فيه وطريقا إليه، بل هو على جهالته بعده أيضا، فيكون هذا إلزاما بامتثال تكليف لا بيان له أصلا، وهو قبيح.
نعم يجوز له الأمر - في الصورة المفروضة - بالاحتياط، مع جعل موضوعه هو احتمال الخطاب الواقعي، لا الضرر الأخروي، بأن يأمر: بأنك إذا احتملت في مورد احتمال (1) كونه منهيا عنه في الواقع يجب عليك التحرز عنه، فإن المفروض احتمال الخطاب، وليس كالضرر الأخروي الذي يقطع بعدمه، فيصح جعل موضوع ذلك الأمر هو محتمل الخطاب، إلا أن هذا الأمر - أيضا - لا يعقل كونه بيانا للتكليف والخطاب المشكوك فيه، وإنما هو بيان لحكم هذا الموضوع الخاص، وهو المحتمل كونه منهيا عنه مثلا، فهو مصحح للعقاب على مخالفة نفسه ولو لم يكن في مورده تكليف واقعي أصلا، لا على الواقع.
هذا بناء على كون ذلك الأمر شرعيا.
وأما لو كان إرشاديا لأجل التحرز عن الضرر الدنيوي المترتب على الحرام الواقعي الغير المرتفع بالجهل، فحينئذ لا عقاب على نفسه أيضا.
قوله - قدس سره -: (ودعوى أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي... إلى آخره) (2)
طريق الإيراد بتلك القاعدة (3) أن يقال علي نحو الإجمال (4): إنه إذا بني على قبح العقاب عقلا على التكليف المجهول فهنا قاعدة عقلية أخرى - وهي وجوب دفع الضرر المحتمل - فما يصنع بتلك؟ وكيف التوفيق بينها وبين هذه،
54

وهي قبح العقاب من غير بيان؟ وطريق الجواب عنها: أن منافاة تلك القاعدة على تقدير ثبوتها لهذه إنما تتصور على وجهين:
أحدهما: أن تكون تلك رافعة لموضوع هذه، بكونها بيانا للتكليف المجهول.
وثانيهما: أن يكون ما نحن فيه - أعني الشبهة التحريمية - مصداقا لكليهما بحيث يشمله تلك وهذه.
وهي - بكلا وجهيها - مدفوعة:
أما على الأول: فبما ذكره - قدس سره - من أن الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول، بمعنى أنه لا يصلح لذلك، نظير عدم صلاحية الأمر بوجوب الإتيان بمشكوك الوجوب - مثلا - لكونه بيانا للتكليف الوجوبي الواقعي، بل هي قاعدة ظاهرية موضوعها محتمل الضرر، فلو تمت - بمعنى أنه ثبت كونها حكما شرعيا، لا إرشاديا - فالعقاب على مخالفة نفسها، لأنها - حينئذ - بيان لحكم موردها ولو لم يكن تكليف واقعي في موردها أصلا، لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده، فإذا كان المأخوذ في موضوعها احتمال الضرر فلا تصلح لورودها على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإن جريانها في مورد فرع احتمال الضرر، والقاعدة المذكورة تنفيه، فتكون هي واردة على تلك، لا العكس.
وأما على الثاني: فظهر وجهه - أيضا - مما ذكرنا، فإن ما نحن [فيه] ليس من أفراد تلك القاعدة أصلا، بل هو [فرد] لهذه القاعدة فقط، وهي مخرجة له عن كونه من أفراد تلك.
وشيخنا الأستاذ - قدس سره - إنما اقتصر على بيان الإشكال على الوجه
55

الأول ودفعه، ولعل وجه عدم تعرضه له [على] (1) الوجه الثاني: أنه بعد الجواب المذكور عن الأول لا يبقى مجال للثاني أصلا، فافهم
(2).
قوله - قدس سره -: (ذكر السيد أبو المكارم ابن زهرة (3) - قدس سره -: أن التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق.). (4)
المراد بالتكليف ليس مجرد الخطاب المتوجه إلى المكلف الموقوف تنجزه عليه على علمه به، فان ذلك مما لا شبهة في جوازه، فإنه لا يلزم منه محذور أصلا، فلا يجوز حمل كلام السيد عليه، مع أنه خلاف الظاهر من لفظ التكليف أيضا، بل مراده - كما هو الظاهر من لفظ التكليف أيضا، مضافا إلى شهادة قوله:
(تكليف بما لا يطاق) - هو الخطاب المتوجه إلى المكلف على سبيل التنجيز بحيث يؤاخذ الأمر على ترك العمل به.
ومراده بما لا طريق إلى العلم به ما لا طريق إلى العلم به من حيث كونه مكلفا به من قبل الآمر، ويكون عدم العلم حقيقة راجعا إلى التكليف.
ومراده بما لا يطاق بقرينة ما ذكره شيخنا الأستاذ - قدس سره - هو ما لا يطاق الامتثال به، فيكون حاصل كلامه: أن التكليف بالمعنى المذكور

(1) والتعليق على التمام: إشارة إلى عدم كونها حكما شرعيا، بل إنما هي إرشادي محض، لا يترتب عليها عدا ما يترتب على نفس الواقع، فإن كان في موردها ضرر فيترتب على الفعل، وإلا فلا. لمحرره عفا الله عنه.
56

- بأمر لا طريق للمكلف إلى العلم بتعلق التكليف به - تكليف بما لا يطاق الامتثال به، وهو قبيح، فيكون التكليف المذكور قبيحا، وإنما لم يحتج على بطلان ذلك (1) اتكالا على وضوحه.
ووجه استدلاله بذلك على مسألة البراءة: أنه لو كان التكليف المشكوك فيه في الواقع منجزا على المكلف - وموجبا للزوم الإتيان به بطريق الاحتياط - لكان ذلك التكليف تكليفا بما لا طريق إلى العلم به، وهو قبيح، لكونه. تكليفا بما لا يطاق الإتيان به، فيكون باطلا، فيكون المقدم مثله، فحينئذ لا شيء يقتضي وجوب الاحتياط في موارد الشك في التكليف.
لكن لا يخفى أن قبح التكليف بما لا طريق إلى العلم به من جهة كونه تكليفا بما لا يطاق الإتيان به، على ما ذكره المستدل لا يتم بمجرد صدق كونه تكليفا بما لا يطاق الإتيان به، فإن القبيح هو التكليف بما لا يطاق، وأما قبح التكليف بما لا يطاق الإتيان به، فهو مطلقا ممنوع، بل المسلم منه ما إذا كان الغرض من التكليف هو الامتثال الحقيقي، بمعنى الإتيان بخصوص المأمور به أو ترك خصوص المنهي عنه، لكونه مأمورا به أو منهيا عنه، والسر فيه رجوعه إلى التكليف بما لا يطاق. وأما لو كان الغرض منه الإتيان به على أي وجه كان فقبح ذلك التكليف - من جهة صدق التكليف بما لا يطاق الإتيان به - ممنوع.
والحاصل: أنا وإن كنا نقول بقبح التكليف بما [لا] طريق إلى العلم [به]، لكن [لا] لأجل ما ذكره المستدل، بل لأجل قبح ذلك في نفسه عند العقل من غير إرجاعه إلى أمر آخر وإدخاله فيه، والمستدل أراد إثبات قبحه من جهة

(1) أي بطلان التكليف بما لا يطاق الإتيان به. [منه قدس سره].
57

قبح التكليف بما لا يطاق امتثاله (1)، ولأجل إرجاعه إليه وإدخاله فيه، فحينئذ يتجه عليه:
أن قبح التكليف بما لا طريق إلى امتثاله (2) مطلقا ممنوع، بل إنما يكون قبيحا إذا لزم منه التكليف بما لا يطاق، وهو فيما إذا كان الغرض من التكليف الامتثال الحقيقي، فلا يستقيم - حينئذ - جعله دليلا على أصل البراءة، إذ للخصم أن يمنع كون الغرض من التكليف المشكوك فيه ذلك، بل لا بد له من منعه، فإنه لو سلم ذلك فلا ريب في عدم إمكان حصوله بالاحتياط أيضا، فلا وجه له (3) لإيجابه.
وبالجملة: لأحد أن يقول للمستدل: الغرض من التكليف الواقعي المشكوك لا ينحصر في الامتثال حتى يحكم ببطلانه، لكونه تكليفا بما لا يطاق، بل يمكن أن يكون الغرض منه مطلق صدور الفعل أو إتيانه لداعي حصول الانقياد، فعلى المستدل نفي هذين الاحتمالين أيضا، حتى يثبت خلو التكليف المذكور عن الغرض بالكلية، فيكون قبيحا وباطلا حينئذ.
وشيخنا الأستاذ - قدس سره - لما رأى عدم تمامية هذا المقدار الذي ذكره السيد - قدس سره - على إثبات أصالة البراءة، فأكمله بقوله: (واحتمال كون الغرض من التكليف.) (4). إلى آخر ما ذكره - قدس سره - فقوله ذلك إلى آخره تتميم لذلك الدليل.
وحاصل ما ذكره - قدس سره - من الدفع بتوضيح منا: أنه إن قام دليل على وجوب إتيان الشاك في التكليف بالفعل مطلقا أو لاحتمال المطلوبية فذلك
58

مغن عن التكليف بنفس الفعل، وإلا فلا يصلح التكليف المجهول، لكون الغرض منه أحد هذين الأمرين، فإنه على تقدير كون الغرض منه أحدهما، فهو إما غرض على سبيل الإطلاق، بمعنى أن المقصود به تحريك المكلف إلى تحصيله على أي تقدير، وإما غرض في الجملة، بمعنى أن المقصود به تحريكه إلى إيجاده أحيانا، ولا يعقل كون التكليف المجهول محركا أصلا لعدم قابليته لذلك، مع أن الغرض لو كان هو الثاني - أي إتيان المكلف بالفعل لداعي الانقياد - فهو حاصل بدون تكليف في الواقع أصلا، فإن مجرد احتماله يكفي في ذلك، ولا حاجة إلى وجوده الواقعي.
اللهم إلا أن يبدي وجه آخر: وهو أن الغرض لعله حصول الفعل من المكلف على سبيل الامتثال إذا صادق الواقع، إذ بدونه مجرد انقياد.
وبعبارة أخرى: أنه يكلف الله تعالى العبد في حال جهله به لغرض أنه إذا أتى بالمحتمل كونه مكلفا به بداعي احتمال التكليف يقع ذلك امتثالا، ويثيبه ثواب الامتثال إذا اتفق كونه هو المكلف به واقعا، إذ لو لم يكلف في الواقع، وأتى هو بالمحتمل كونه مكلفا بداعي احتمال التكليف به، فلا يقع ذلك امتثالا، إذ مجرد الإتيان به على هذا الوجه مع عدم تكليف في الواقع لا يجعله امتثالا، بل هو مجرد انقياد، ولو أعطي شيئا فهو لأجل الانقياد لا الامتثال، نظير ما إذا ارتكب أحد شيئا باعتقاد كونه محرما - أو بداعي احتمال كونه كذلك - لا يكون مخالفة إذا لم يصادف الواقع، بل إنما هو مجرد تجر، ولو عوقب لكان عقابه ذلك لأجل التجري لا غير.
لكنه مدفوع: بأن هذا الغرض ليس من الأغراض المتعارفة في التكاليف عند العقلاء، فلا يجوز احتماله في تكاليف الشارع.
وأيضا يتجه عليه: ما مر من أن التكليف لا بد أن يكون محركا للمكلف إلى ما هو المطلوب منه، ولا يعقل كون التكليف المجهول محركا أصلا.
59

هذا، مع أن حقيقة التكليف هو ما حمل المكلف على الفعل وبعثه إليه، والتكليف المجهول حال كونه كذلك لا يعقل كونه محركا كما عرفت، فلا يكون تكليفا حقيقة.
قوله - قدس سره -: (واعلم أن هذا الدليل العقلي) إلى قوله: (معلق على عدم تمامية أدلة الاحتياط) (1)
لا يخفى أنه قد توهم العبارة خلاف المقصود، وهو أن موضوع قاعدة - قبح العقاب على تكليف من دون بيان - مقيد بعدم وجوب الاحتياط، حتى بالنسبة إلى التكاليف الواقعية المجهولة، بحيث لو فرض وجوبه بفرض تمامية أدلته فلا يبقى لهذه القاعدة مطلقا موضوع، فيكون الاحتياط واردا على هذه القاعدة مطلقا، والموهم لذلك هو قوله - قدس سره -: (إنما هو إطلاق القول بكون تلك القاعدة معلقة على [عدم] (2) وجوب الاحتياط) فإنه ظاهر فيما ذكر، مع أنه خلاف المقصود، مضافا إلى فساده في نفسه، حيث إن وجوب الاحتياط كيف يعقل كونه بيانا للتكاليف الواقعية المجهولة؟ بل إنما هو بيان لحكم موضوع نفسه، وهو مشكوك الحكم - مثلا - فلا يعقل ارتفاع موضوع تلك القاعدة بالنسبة إلى التكاليف الواقعية المجهولة مع وجوبه، ولا يقول به الأخباريون أيضا، بل المقصود كونها معلقة بالنسبة إلى هذا التكليف الظاهري الخاص، وهو الاحتياط على عدم تمامية أدلة وجوبه، بحيث لو ثبت منها وجوبه لم يبق لتلك القاعدة موضوع بالنسبة إلى هذا الحكم الظاهري المشكوك فيه قبل، فإن القاعدة المذكورة جارية في مطلق التكليف المجهول - سواء كان واقعيا أو ظاهريا - وارتفاع موضوعها عن واحد منهما إنما هو ببيان نفس ذلك الواحد.
وبالجملة: لما كان النزاع في المقام - أعني الشبهة التحريمية - في وجوب
60

الاحتياط وعدمه فالقاعدة تنفي العقاب عن التكليف بالاحتياط مع احتماله، وتثبت البراءة ما لم يثبت وجوب الاحتياط بأدلته، فإذا وجب ارتفع موضوعها عن الاحتياط لمعلومية حكمه حينئذ، فتنتفى أصالة البراءة الثابتة بها.
الاستدلال بالاستصحاب
قوله - قدس سره -: (بل هو من المقارنات حيث إن عدم المنع... إلخ) (1).
قال - دام ظله -: نعم الإذن الشرعي ليس لازما شرعيا للمستصحبات المذكورة كلها حتى عدم المنع، إلا أنه يمكن استصحاب نفس عدم المنع السابق من غير حاجة إلى ثبوت أثر شرعي له، وهو الإذن، وذلك لأن عدم المنع السابق الأزلي وإن لم يكن من المجعولات الشرعية ومن أحكامه، إلا أن استمراره واقعا أو ظاهرا إنما هو بيد الشارع، لقدرته على قطعه.
وبالجملة: كل عدم يكون انقطاعه بيد الشارع بحيث لو شاء لقطعه بإثبات حكم وجودي في محله، فيكون استمراره - أيضا - كذلك واقعا أو ظاهرا، بمعنى أن له أن يحكم باستمراره واقعا، وأن يحكم به ظاهرا وإن كان المنع موجودا منه في الواقع، فعلى هذا فيمكن دخوله في أخبار الاستصحاب، ويكون الاستصحاب فيه نظير الاستصحاب في نفس الأحكام الشرعية الوجودية، كاستصحاب الوجوب والحرمة وغيرهما من حيث كون معنى الاستصحاب فيها هو الحكم باستمرار تلك الأحكام في مرحلة الظاهر، وإحداث خطاب مماثل للخطاب الواقعي، ولا حاجة فيها إلى إحراز أثر شرعي لها. نعم هو معتبر فيما إذا كان المستصحب من الموضوعات، لا الأحكام.
والحاصل: أن للشارع أن يحكم باستمرار عدم المنع واقعا، وأن يحكم به في مرحلة الظاهر، ويكون حكمه هذا خطابا مماثلا للخطاب الواقعي المبين.
61

لاستمرار عدم المنع واقعا، كيف ولو لم يبن علي هذا لوجب طرح جميع الاستصحابات العدمية الجارية في نفي
نفس الأحكام كاستصحاب عدم الحرمة وعدم الوجوب وغيرهما، إذ لا فرق بينها وبين عدم المنع من جهة أن الأولى منها - أيضا - ليس بيد الشارع حتى يحكم به، ويكون استمرارها بيده، وأن عدم الحرمة أو الوجوب مع الإذن في الفعل أو في الترك من قبيل الضدين، فلو لم ينفع هذا التوجيه في المقام لما تم ثمة أيضا، وبعده لا وجه للاستصحاب فيها، مع أن شيخنا الأستاذ - قدس سره - يقول بجريان الاستصحاب فيها، كما هو الحق عندنا بلا إشكال.
وخلاصة المرام: أن المصحح للاستصحاب لا ينحصر في ثبوت أثر شرعي للمستصحب، وإلا لم يجر في مجاري الشك في الأحكام الشرعية، لا من حيث الوجود، ولا من حيث العدم، بل المصحح أحد الأمرين على سبيل منع الخلو: أحدهما ما ذكر، وثانيهما كون نفس المستصحب من الأمور المنوط استمرارها بيد الشارع.
قوله - قدس سره -: (فتأمل) (1)
لعله إشارة إلى أن إحراز الموضوع في موارد الاستصحاب - بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الإخبار - إنما هو موكول إلى نظر العرف، وهم لا يجعلون مثل ذلك التغاير منشأ لتبدل الموضوع، بل مع ذلك يحكمون بأن هذا هو الذي كان قبل، ويتسامحون في ذلك التغاير، فلا يبنون على مغايرة المجنون - إذا أفاق - له حال الجنون، بل يقولون: إنه - حينئذ - هو، وكذا لا يبنون ولا يحكمون بمغايرة الصبي - إذا بلغ - له حال الصغر، بل يحكمون باتحاد الموضوع بالنسبة إلى تينك الحالتين، فافهم.
62

في الاحتياط
قوله - قدس سره -: (ومنها: أن الاحتياط عسر منفي) (1)
حاصل ما يتجه على هذا الوجه وما بعده: أن المطلوب في مسألة البراءة نفي الاحتياط كلية عن موارد الشبهة التحريمية، وهذا - كما بعده - لا ينهض لإثبات ذلك، وإنما يوجب - كما بعده - بطلان الاحتياط في بعض الموارد فقط، فيكون أخص من المدعى.
الاستدلال على الاحتياط بالكتاب والسنة والعقل
قوله - قدس سره -: (بالأدلة الثلاثة) (2)
المراد بها غير الإجماع من الأدلة الأربعة المعروفة.
قال دام ظله: ظاهر قوله - قدس سره -: (بالأدلة الثلاثة) أن الأدلة الثلاثة الآتية معهودة من هذا اللفظ، ككون الأربعة معهودة من لفظ الأدلة الأربعة، وليس كذلك، فكان الأولى التعبير عنها بقول: وجوه ثلاثة، أو بأسماء تلك الأدلة الآتية، ولو لا تفصيل الأدلة فيما بعد لم يفهم أن المراد بلفظ الثلاثة أي الثلاثة من الأدلة الأربعة المعروفة، فإنه يمكن تصوير الثلاثة منها على وجوه واعتبارات، كما لا يخفى.
ولو قيل: إنه لما كان الغرض الاستدلال بها في هذه المسألة الخلافية، فذلك قرينة على كون المراد بها غير الإجماع لاتجه عليه أنه كثيرا ما يستدل في المسائل الخلافية بالإجماع.
قوله - قدس سره -: (وهي قوله تعالى: اتقوا الله حق تقاته) (3) (4)
وجه الاستدلال به: أن حق التقاة أن يجتنب العبد عن جميع ما يحتمل
63

كونه حراما، فيثبت به المطلوب، فإنه لو لم يجتنب بعض ما يحتمل كونه كذلك لما كان متقيا حقيقة مع أنه تعالى أمر بالتقاة.
قوله - قدس سره -: (وقوله تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) (1) (2)
لا يخفى أن مساق هذه الآية مساوق لغيرها من الآيات الناهية عن القول بغير العلم، فإن ظاهر التنازع هو الاختلاف في حكم شيء المتنازع فيه، فيكون معنى الرد هو رد حكمه إلى الله والرسول، لا التوقف في العمل، فلا يدل على المطلوب.
قوله - قدس سره -: (مضافا إلى النقض بشبهة الوجوب والشبهة في الموضوع.). (3)
توضيح النقض: أنه لو دلت تلك الآيات على وجوب التوقف فهي عامة بالنسبة إلى الشبهة الوجوبية والشبهة الموضوعية التحريمية أو الوجوبية، مع أن المستدلين بها لا يقولون به فيهما، ولو ادعوا خروجهما بالإجماع فهو مدفوع بكونه مستلزما لتخصيص الأكثر، لكون الخارج أكثر من الداخل، فلا بد - حينئذ - [من] صرفها إلى معنى آخر غير ما زعموا.
قوله - قدس سره -: (وزاد فيها «إن على كل حق حقيقة، وكل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه» (4)... إلى آخره) (5).

(1) فرائد الأصول 1: 340 لكن فيه العبارة هكذا: ونحو صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام: «إن لكل حق حقيقة، وعلى كل صواب نورا..».
64

جعله عليه السلام ما ذكر تمهيدا لوجوب الأخذ بما وافق الكتاب تنبيه على أن ما وافق كتاب الله حق وصواب، وأن عليه حقيقة ونورا.
قوله - قدس سره -: (فمساقه مساق قول القائل: أترك الأكل يوما خير من أن أمنع منه سنة.). (1)
اعلم أنه ذهب بعض النحاة إلى أن لفظة (أفعل) في مثل هذه الموارد - مما لم يكن المفضل عليه متصفا بالمبدأ أصلا - وصفي، لا تفضيلي (2).
لكن لا يخفى فساده، نظرا إلى أنه إذا كان للوصف لا يجوز استعماله مع لفظة (من) باتفاق جميع أهل العربية - مع أنه مستعمل معها في تلك الموارد - فالحق أنه للتفضيل الفرضي، فإن التفضيل قد يكون حقيقيا، وهو فيما إذا كان المفضل عليه متصفا بالمبدأ، وقد يكون فرضيا (3)، وذلك فيما لم يكن هو متصفا به، لكن يفرض اتصافه به، فيفضل غيره عليه على تقدير الاتصاف، فيكون معنى هذا التفضيل أن هذا أفضل من ذاك على تقدير اتصاف ذلك بالمبدأ، فمعنى ترك الأكل يوما خير من أن أمنع سنة: أنه على تقدير كون المنع من الأكل سنة مشتملا على صلاح وخير يكون ترك الأكل يوما خيرا منه، ومعنى قوله - عليه السلام -: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (4) أن الاقتحام في الهلكة لو فرض كونه حسنا يكون الوقوف عند الشبهة خيرا منه.
بل قد يكون اتصاف المفضل بالمبدأ - أيضا - فرضيا، كما في قول القائل:
65

(الخضخضة (1) خير من الزنا) (2)، وكذا في المثال الأول المتقدم، وهو قول القائل:
أترك الأكل يوما خير من أن أمنع منه سنة، فإنه لا حسن في الخضخضة وترك الأكل يوما أصلا، كما لا حسن فيما فضلا عليه، ويكون الغرض في التعبير باسم التفضيل في تلك الموارد إفادة أن ارتكاب هذا أحسن وخير من ارتكاب ذلك على كل تقدير، يعني لا يختص رجحانه عليه بما إذا فرض خلوه عن الحسن بالمرة، بل راجح عليه لو فرض اتصافه به أو اتصاف كليهما به.
قوله - قدس سره -: (وفي كلا الجوابين (3) ما لا يخفى على من راجع تلك الأخبار) (4)
فإنها لكثرتها يحصل العلم منها بتواتر وجوب التوقف معنى، بل بتواتر لفظ بعضها إجمالا، فلا حاجة فيها إلى تصحيح السند بوجه، مع أنه يمكن ذلك في بعضها، فظهر فساد الجواب الأول (5).
وأما الثاني (6): ففساده يظهر بما ذكره - قدس سره - من أن المراد

(1) الخضخضة (أ): الجلق (ب). لمحرره عفا الله عنه.
66

بالتوقف في تلك الأخبار إنما هو التوقف في العمل في مقابل المضي فيه، كما يشهد به سياقها وموارد أكثرها، لا التوقف في الحكم والفتوى اعتمادا على القياس أو على كل ما لم يعلم وصوله من الشارع، كما هو مفاد الجواب الأول من تلك الأجوبة (1).
ولا يخفى أن هذا الجواب أفسد من الجواب الأول، فإنه على تقدير كون المراد بالتوقف هو التوقف في الحكم والفتوى، فسياق تلك الأخبار آب عن تخصيصها بخصوص القياس.
قوله - قدس سره -: (وهي جميع آيات الكتاب.). (2)
لا يخفى أن آيتين منها لا دلالة لهما على نفي استحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول، وهما قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي... إلخ (3)، وقوله تعالى وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه إلخ (4)، فالتعبير بلفظ الجمع غير جيد، اللهم [إلا] أن يكون مراده الآيات الدالة على المطلوب، فإن الآيتين المذكورتين - كما مر سابقا - ليستا من الآيات الدالة عليه، فتدبر.
قوله - قدس سره -: (على ما هو المفروض.). (5)
فإن المجيب رد الاستدلال بأخبار التوقف بمعارضتها لأخبار البراءة، ولا ريب أن المعارضة لا تكون إلا بعد استجماعها لشرائط الدليلية، بحيث لا يكون مانع عن وجوب العمل بها إلا معارضتها للأدلة الاخر الدالة على البراءة، فهو معترف بتمامية تلك الأخبار.
67

قوله - قدس سره - (فتلك الأدلة بالنسبة إلى هذه الأخبار من قبيل الأصل بالنسبة إلى الدليل.). (1)
لا يخفى أن هذا لا يتم في آيتين من الآيات المستدل بها على البراءة على تقدير تماميتهما، وهما قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما... (2) الآية، وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وقد فصل لكم ما حرم عليكم (3)، فإن الظاهر من الموصول - في قوله: ما أوحي وما حرم عليكم - هو الحكم الواقعي، فتدلان على عدم استحقاق العقاب على ما لم يعلم حكمه الواقعي - سواء لم يعلم حكمه الظاهري أيضا أو علم - فهما نظيرا قوله عليه السلام: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (4). اللهم. [إلا] أن يكون مراده - قدس سره - عدهما من الأدلة الغير الدالة على المطلوب أصلا.
قوله - قدس سره -: (فيوجد في أدلة التوقف ما لا يكون أعم منه... إلى آخره) (5)
مراده - قدس سره - مما لا يكون أعم منه هو الإجماع المركب على استلزام التوقف في صورة تعارض النصين - الدال أحدهما على الحرمة، والآخر على الإباحة - للتوقف في الشبهة التحريمية فيما لا نص فيه، فإنه بعد ثبوت وجوب التوقف في الشق الأول - بأخبار التوقف لدخوله فيها، مع سلامتها عن معارضة الخبر المذكور - فالإجماع المذكور دليل على وجوب التوقف فيما نحن فيه، فيكون من أدلة التوقف فيما نحن فيه، ولا يكون أعم من الخبر المذكور،
68

فإن ما يدل على وجوب التوقف فيه إنما هي الشبهة التحريمية فيما لا نص فيه التي هي موضوع الخبر المذكور فحسب، فإن وجوب التوقف في صورة تعارض النصين يثبت بأخبار التوقف، لا به.
قوله - قدس سره -: (فإن ما ورد فيه نهي معارض بما دل على الإباحة غير داخل في هذا الخبر.). (1)
هذا بناء على أن المراد بقوله عليه السلام: «حتى يرد فيه...» هو ورود ما دل على النهي، فمتى حصل تلك الغاية يرتفع الإباحة المستفادة من الرواية، بل تدل الرواية على نفي إباحته حينئذ، بناء على اعتبار مفهوم الغاية، فالصورة المذكورة وإن كانت من صور الشبهة الحكمية التحريمية إلا أنها ورد فيها ما دل على الحرمة والنهي، فتخرج عن مورد الخبر المذكور، وتشمله أخبار التوقف، فيثبت مطلوب الأخباريين بالتقريب الذي ذكره - قدس سره -.
قال - دام ظله -: على تقدير كون الغاية في الرواية هي مجرد ورود ما دل على النهي، فالرواية بنفسها نافية للإباحة والترخيص الظاهري في الصورة المذكورة بمقتضى مفهوم الغاية الذي ذهب - قدس سره - إلى اعتباره أيضا، فلا حاجة - حينئذ - إلى الالتجاء إلى أخبار التوقف، فكان عليه - قدس سره - أن يقول: إن الصورة المذكورة خارجة عما قبل الغاية في الرواية، وداخلة فيما بعدها، فتدل الرواية على نفي الرخصة فيها ووجوب الاحتياط، فيثبت فيما لا نص فيه بالإجماع المركب.
قوله - قدس سره -: (فتأمل) (2)
لعله إشارة إلى منع الإجماع المذكور لوجود المفصل بين المقامين بالتوقف ثمة والبراءة فيما نحن فيه، كما سيأتي في مسألة تعارض النصين، فانتظر.
69

ويمكن أن يكون وجهه أنه بعد ثبوت الإجماع المذكور فالخبر المزبور يعارض أخبار التوقف في صورة تعارض النصين أيضا، وينفيها بالالتزام، [فإنه] (1) بعد ثبوت التلازم - بين البراءة فيما نحن فيه وبينها ثمة - فهو يدل عليها فيما نحن فيه بالمطابقة، وفي ثمة بالالتزام، فحينئذ لا يسلم أخبار التوقف ثمة عن المعارض، حتى يثبت التوقف فيه، فيثبت فيما نحن [فيه] بالإجماع المذكور.
ويمكن ان يكون الغرض الإشارة إلى كلا هذين الوجهين.
هذا، لكن الظاهر أن وجهه منع كون الغاية في الرواية المذكورة هو مجرد ورود ما دل على النهي، بل المراد بورود النهي إنما هو ثبوت الحرمة، فالغاية هذا لا ذاك، ولا ريب أن هذا غير حاصل في الصورة المذكورة، فيدخل في مورد الرواية وما قبل الغاية، فتعارض هي أخبار التوقف في تلك الصورة أيضا، فلم يسلم تلك من المعارض، حتى يتم المطلوب بالإجماع المركب.
قوله - قدس سره -: (مع أن جميع موارد الشبهة... إلى آخره) (2)
يعني أن الخبر المذكور يشمل جميع موارد أخبار التوقف، إذ لا مورد منها لم يكن فيه شيء محتمل التحريم ولو كان حكما أو اعتقادا، فليس هو أخص من تلك، حتى يقدم عليها ويخصصها.
قوله - قدس سره -: (فتأمل) (3)
لعله إشارة إلى أن قوله عليه السلام «كل شيء مطلق» (4) ظاهر في العمل فقط، وليس جميع موارد الشبهة بحيث يشتمل على عمل محتمل الحرمة، فيكون هو أخص منها، فيخصصها.
70

قوله - قدس سره -: (والجواب: أما عن الصحيحة فبعدم الدلالة، لأن المشار إليه... إلى آخره) (1)
وحاصل الجواب: أن المشار إليه بقوله عليه السلام: «إذا أصبتم بمثل هذا» (2). إما نفس واقعة الصيد، فيكون المراد: إذا أصبتم بمثل واقعة الصيد فعليكم بالاحتياط، وإما السؤال عن حكم واقعة الصيد المفهوم من قول الراوي:
سألني عن ذلك، فلم أدر ما عليه، فيكون المراد إذا أصبتم بمثل السؤال عن واقعة الصيد فعليكم بالاحتياط، والمراد بالاحتياط على الأول هو الاحتياط في العمل، وعلى الثاني هو الاحتياط من حيث الفتوى: أما بكون
المراد لزوم الفتوى بالاحتياط في مثل هذا السؤال أو الاحتياط في الفتوى ولو بالاحتياط إلى أن يسأل من أهل الذكر عليهم السلام، وعلى التقديرين لا يدخل ما نحن [فيه] - وهي الشبهة التحريمية البدوية - في موضوع الرواية، لعدم كونه مثلا لواقعة الصيد أو للسؤال عن حكمها لما قرره - قدس سره - من أن واقعة الصيد: إما من قبيل الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين الذي يرجع فيه إلى البراءة بالاتفاق، لكون الشبهة وجوبية فيهما، أو من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين اللذين مرجعهما إلى المتباينين على مذاق بعض من أوجب الاحتياط فيهما، فأصل التكليف على التقديرين في الجملة محرز، وما نحن فيه لم يحرز فيه تكليف أصلا، مع أن الشبهة في واقعة الصيد وجوبية، وفيما نحن [فيه] تحريمية.
أقول: هذا مضافا إلى أنه لو كان المشار إليه هو السؤال عن حكم واقعة الصيد، فتصير (3) الرواية - حينئذ - أبعد عما نحن فيه منها على تقدير كون المشار إليه هو نفس واقعة الصيد، لأن الكلام فيما نحن [فيه] ليس في وجوب
71

الإفتاء بالاحتياط، أو في حرمة الإفتاء ولو بالاحتياط.
قوله - قدس سره -: (ومنه يظهر أنه لو كان المشار إليه بهذا هو السؤال عن حكم الواقعة.). (1)
يعني مما ذكره - من أن مورد الرواية: إما من قبيل الأقل والأكثر الاستقلاليين، وإما من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين - يظهر أنه على هذا التقدير أيضا لا يدخل ما نحن فيه في موضوع الرواية، لعدم كونه مثلا لمورد الرواية، كما ذكر في توضيح الجواب في كلامه - قدس سره - المتقدم.
قوله - قدس سره -: (والظاهر أن مراده الاحتياط من حيث الشبهة الموضوعية) (2)
قوله: (والظاهر) مقام قول: (والإنصاف) من جهة كون المراد به الإعراض عما تقدم وإبداء مطلب آخر، لأن مراده - قدس سره - إثبات وجوب الاحتياط من الجهة المذكورة، فيكون ذلك إعراضا عن قوله: (فبأن ظاهرها الاستحباب) (3).
قوله - قدس سره -: (وكون الحمرة غير الحمرة المشرقية.). (4)
حمل الحمرة على غير المشرقية - حينئذ - لأجل أنه لا يصلح الحمرة المشرقية - حينئذ - لكونها منشأ للشك في استتار القرص الذي هو محقق للمغرب على هذا القول، لأنها لا تشتبه بشعاع الشمس، بخلاف الحمرة الغير المشرقية، فإنها قد تشتبه بشعاعها.
ثم إنه قال سيدنا الأستاذ - دام ظله -: حمل الأمر بالاحتياط على هذا
72

التقدير على الوجوب مبني على عدم اعتبار الظن بدخول الوقت، وإلا فلا بد من حمله على الاستحباب، لأن المفروض في مورد الرواية الظن بدخول الوقت، فإن تواري القرص وإقبال الليل وزيادة الليل ارتفاعا واستتار الشمس عن النظر وارتفاع الحمرة فوق الجبل - المفروضة في السؤال - أمارات مفيدة للظن بالدخول. انتهى.
أقول: لا يتوهم: أنه إذا كان الظن بالدخول حجة، فيكون قائما مقام القطع، فلا وجه للاحتياط حينئذ، ولا فائدة فيه، فلا يجوز الأمر به استحبابا أيضا.
لأنه مدفوع: بأن غاية ما يترتب على حجية الظن جواز الإفطار إن كان صائما، وجواز الدخول في الصلاة إن أرادها، لكنه لا يترتب عليه سقوط القضاء والإعادة بعد انكشاف الخلاف على المختار من أن الأمر الظاهري لا يفيد الإجزاء، ففائدة الاحتياط - حينئذ - رفع كلفة القضاء والإعادة على تقدير انكشاف الخلاف فيما بعد، فيكون تلك الفائدة حكمة مقتضية لأمر الشارع به استحبابا.
ثم إنه لا يختص جواز الأمر بالاحتياط استحبابا بموارد الظنون المعتبرة، بل يجري في موارد القطع أيضا، فإن القاطع وإن لم يحتمل انكشاف الخلاف، لكن الشارع يحتمله، فيأمر بالاحتياط استحبابا لحكمة رفع كلفة الإعادة أو القضاء عن المكلف على تقدير انكشاف الخلاف، فإن القطع - كالظنون المعتبرة - لا يفيد الإجزاء.
فإن قيل: إن حكمة الاستحباب ثابتة في حق القاطع الذي قطع من أسباب لا ينبغي القطع بسببها، فإنه الذي يمكن في حقه انكشاف الخلاف فيما بعد بالتفاته إلى مستند قطعه، وهو تلك الأسباب، وأما القاطع بأسباب موجبة للقطع عادة فلا، فلا وجه للأمر بالاستحباب بالنسبة إلى عامة المكلفين،
73

لاختلاف أسباب قطعهم، حيث إن بعضهم من قبيل الأول، وبعضهم من قبيل الثاني.
قلنا: أولا - إن الأسباب العادية أيضا يمكن زوال القطع الحاصل منها وانكشاف خلافها، إلا أن انكشاف الخلاف فيها أقل من غيرها.
وثانيا - إن الحكمة لا يلزم ان تكون مطردة، بل يكفي ثبوتها لكثير من الناس في إثبات الحكم بالنسبة إلى نوع المكلفين.
قوله - قدس سره -: (ويحتمل بعيدا أن يراد من الحرمة الحمرة المشرقية.). (1)
هذا بناء على أن المغرب - شرعا - لا يدخل إلا بزوال الحمرة المشرقية عن سمت الرأس، وأن الإمام عليه السلام لم يبين للسائل الحكم الواقعي للواقعة المسؤول عنها بأن يقول له: إن مجرد ارتفاع الحمرة المشرقية لا يكفي في تحقق المغرب، بل لا بد من ارتفاع إلى حيث تزول عن سمت الرأس لأجل التقية، وإنما أمره بالانتظار جمعا بين الحقين.
أحدهما: أن يقع إفطاره وصلواته في وقت المغرب الشرعي.
وثانيهما: التقية حيث إن الأمر بالانتظار معللا بالاحتياط يوهم موافقته عليه السلام للمخالفين، فيتحقق به التقية.
ووجه إيهامه لذلك: أن تعليله بالاحتياط يشعر بأنه لأجل تحصيل الجزم باستتار القرص الذي هو كاف عند المخالفين.
وبالجملة على هذا التقدير يكون فرض سؤال السائل في الشبهة الحكمية، لكن الإمام عليه السلام أجابه بصورة الشبهة الموضوعية الموهمة لكفاية استتار القرص في المغرب، وأن التأخير في الإفطار والصلاة لأجل تحصيل الجزم باستتاره للتقية.
74

قوله - قدس سره -: (لا أن (1) المغرب لا يدخل مع تحقق الاستتار.). (2)
يعني لئلا يوهم هذا المعنى الذي هو حكمه الواقعي حتى يؤخذ برقبته.
قوله - قدس سره -: (كما أن قوله عليه السلام: «أرى لك» يستشم منه رائحة الاستحباب.). (3)
يعني أن الإمام عليه السلام أجاب بلفظ «أرى» المشعر بالاستحباب، وهذا يشهد بأنه عليه السلام كان في مقام التقية، نظرا إلى أنه لو أمر بالاحتياط على سبيل الوجوب لكان موهما لمخالفته للمخالفين، فعدل عنه إلى هذا التعبير الموهم لموافقته لهم.
قوله - قدس سره -: (فتحمل على الإرشاد.). (4)
[أي] على الطلب الإرشادي المشترك بين الإلزامي وغيره بقرينة قوله - قدس سره -: (لأن تأكد الطلب الإرشادي وعدمه بحسب المصلحة الموجودة في الفعل... إلخ) (5)، فإنه دفع لسؤال مقدر وارد على
تقدير حمله على الطلب الإرشادي، وتقريره:
أنه إذا حمل ذلك عليه فموارد الإرشاد أيضا مختلفة: بعضها يقتضي لزوم الاحتياط، وبعضها رجحانه، فأجاب عنه - قدس سره - بذلك، وحاصل مراده، أن المراد حينئذ الطلب الإرشادي المشترك بين الإلزامي وغيره إلى آخر ما ذكره، لا الإلزامي فقط، حتى يلزم إخراج موارد رجحانه الغير المانع من
75

الارتكاب، ولا الغير الإلزامي فقط، حتى يلزم خروج موارد لزومه.
هذا، لكن كان عليه - قدس سره - ذكر هذا التعليل بعد قوله: (فتحمل على الإرشاد)، ثم ذكر قوله: (أو على الطلب المشترك بين الوجوب والندب) (1)
قوله - قدس سره -: (ففي مقبولة عمر بن حنظلة (2) - إلى قوله: - وترك الشاذ النادر معللا بقوله (3): «فإن المجمع عليه لا ريب فيه» قال (4): «إنما الأمور ثلاثة...»). إلى قوله عليه السلام: «قال رسول الله...» (5) إلى آخر الحديث.
وجه الاستدلال: أنه أوجب طرح الشاذ [معللا] بأن المجمع عليه لا ريب فيه، والمراد بالمجمع عليه هو المشهور، ولا ريب أنه ليس الشهرة مما يجعل الشاذ مما لا ريب في بطلانه، ويجعل موردها مما لا ريب فيه حجيته، وإلا لم يكن معنى لتأخير الترجيح بها عن الترجيح بالأعدلية وأخواتها: إذ حينئذ يكون المشهور مقطوع الصدور، فلا يعقل طرحه والرجوع إلى غيره، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين، لامتناع صدور الخبرين المتنافيين من الأئمة - عليهم السلام - إلا على وجه التقية، وهو بعيد، ولتثليث (6) الأمور، إذ - حينئذ - يكون الأمور على قسمين: بين الرشد، وبين الغي من غير واسطة بينهما، ولا لاستشهاده عليه السلام بتثليث النبي صلى الله عليه وآله لما ذكر، فيعلم من ذلك كله أن الشاذ فيه ريب منفي عن المشهور، فيجب طرحه، ولا ريب أن الاستشهاد
76

لوجوب طرح الشاذ الذي فيه الريب بتثليث النبي صلى الله عليه وآله لا يستقيم إلا أن يكون لإفادة أنه داخل في الشبهات الواردة في كلام النبي - صلى الله عليه وآله وأنه يجب التحرز عنها والاحتياط فيها، لأن وجوب طرحه - حينئذ - لأجل دخوله في تلك الشبهات، وهو لا يكون إلا بوجوب الاحتياط فيها، فإذا ظهر من ذلك أن المراد وجوب ترك الشبهات بين الحلال والحرام والاحتياط فيها، فيثبت المطلوب، وهو وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية.
قوله - قدس سره -: (ودون هذا النبوي في الظهور النبوي المروي عن أبي عبد الله عليه السلام) (1)
وهو قوله صلى الله عليه وآله: «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة» إلى قوله: «فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (2).
وجه كون دلالة ذلك أدون من دلالة هذا: أن هذا مشتمل على بعض القرائن المنتفية في ذلك، وهي قوله صلى الله عليه وآله: «نجا من المحرمات»، وقوله: «وقع في المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم»، وهكذا الكلام في مرسلة الصدوق الآتية عن أمير المؤمنين عليه السلام وقد تقدم ذكرها (3) أيضا في الأخبار المتقدمة، لكن لا بعنوان كونها مرسلة الصدوق، بل بعنوان إسناده إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
قوله - قدس سره -: (فقد تكون المضرة عقابا) (4)،
كما في موارد الشك في المكلف به.
77

قوله [قدس سره]: (وقد تكون مضرة أخرى) (1)، كما في موارد الشك في التكليف.
وحاصل الجواب: أن الأمر بترك الشبهات في النبوي للطلب الإرشادي المشترك بين الإلزامي وغيره، فيعم جميع صور الشبهة، ويختلف بحسب اختلاف الموارد من جهة وجود المقتضي للتحرز حتما وعدمه.
قوله - قدس سره -: (من غير الطرق المنصوبة من الشارع، فتأمل) (2)
الأمر بالتأمل لعله إشارة إلى أن حاصل ما ذكر في توجيه مناسبة الاستشهاد أنه عليه السلام أمر بطرح الشاذ من باب الاحتياط، لاحتمال عدم كونه حجة شرعا، فيكون الآخذ به آخذا بغير الحجة، فلا يكون معذورا إذا أدى العمل به إلى مخالفة التكليف الواقعي، وهذا بعيد عن منصبه - عليه السلام -، فإن شأنه رفع الجهل عن الجاهل، لا تقريره عليه بأمره بالاحتياط، فاللازم عليه بيان أن الخبر الشاذ ليس بحجة، لا أنه يحتمل عدم كونه حجة، فيجب طرحه لذلك. هذا.
أقول: الذي يهون الأمر في النبوي، ويخرجه عن الدلالة على وجوب الاحتياط، ويوجب حمله على الإرشاد هو ما ذكره - قدس سره - من الوجوه الثلاثة الشاهدة على ذلك، ومعها فليس علينا معرفة وجه استشهاد الإمام - عليه السلام - به.
ومما يعين حمله على الإرشاد: أنه شامل لصور الشك في المكلف به بعد ثبوت التكليف، بل هي مرادة منه يقينا وباعتراف الأخباريين، ولا ريب أن الضرر المحتمل فيها هو العقاب على مخالفة التكليف المعلوم، وأن الأمر
78

بالاحتياط فيها إنما هو لأجل التحرز عن ذلك الضرر، وهذا لا يعقل أن يكون غير الإرشادي فإذا ثبت كونه فيها للإرشاد، فيكون له بالنسبة إلى غيرها أيضا وإلا يلزم استعمال اللفظ في معنيين، كما لا يخفى.
قوله - قدس سره -: (وهي أن الإشراف على الوقوع في الحرام.).
إلى قوله: (محرم من دون سبق علم به أصلا) (1)
يمكن الخدشة فيه: بأن الإشراف لا يصدق إلا على ما كان موردا لخوف الوقوع في مفسدة الحرام، فحينئذ وإن لم نقل بحرمة الإشراف نقول بوجوب تحصيل الأمن من تلك المفسدة عقلا، فيجب الاحتياط من تلك الجهة، ولا ريب أن وجوب الاحتياط في صور الشك في المكلف [به] أيضا انما هو لأجل ذلك، كما اعترف به هو - قدس سره - في غير واحد من كلماته.
اللهم إلا أن يقال: إن المفسدة التي يتوقع الابتلاء بها: إن كانت هي العقاب فالعقل مستقل بنفيه في صور الشك في التكليف التي منها الشبهات التحريمية التي هي محل النزاع، وإن كانت غيره فالعقل لا يستقل بلزوم التحرز عنه حتى يحكم بلزوم الاحتياط من جهته.
والحاصل: أن المفسدة غير العقاب إن كان هو الضرر البدني، فهو مع كونه مقطوع العدم في ارتكاب المحرمات - مضافا إلى وجود النفع البدني فيه، كما في شرب الخمر والزنا وغيرهما كما لا يخفى - لا يستقل العقل بدفعه على تقدير احتماله، لأنه ليس بحيث يترتب على الحرام كائنا ما كان كترتب المعلول على علته، بل ارتكاب الحرام مقتض له وإن كان غيره - مثل كون ارتكاب الحرام منشأ لقساوة القلب الموجبة للتجري على ترك الواجبات وارتكاب المحرمات - فنمنع أيضا استقلاله بلزوم دفعه لعدم كون ارتكاب الحرام علة تامة
79

له، بل هو مقتض له على تقديره.
نعم لأحد أن يقول: إنا سلمنا انتفاء احتمال العقاب على ارتكاب المحرمات الواقعية، كيف والأخباريون أيضا لا يقولون بالعقاب على مخالفة النواهي الواقعية المجهولة، بل يقولون به على مخالفة التكليف الاحتياطي الذي هو
التكليف الظاهري، لكن بعد تسليم احتمال مفسدة أخرى غير العقاب نقول: إنه وإن لم يستقل العقل بلزوم التخلص عنه في مورد الشك، نظرا إلى عدم كون ارتكاب الحرام علة تامة له، أو نظرا إلى عدم كون ذلك علة تامة لترك الواجبات أو ارتكاب المحرمات إذا كان هو من قبيل قساوة القلب، لكن لا نمنع أن يكون علة لوجوب الاحتياط شرعا، بأن يكون تلك المفسدة حكمة في إيجاب الشارع الاحتياط في موارد احتمال الحرمة، فإن المفسدة التي لا يستقل العقل بلزوم دفعها قد تكون علة تامة للنهي بمقتضى قاعدة اللطف، فنقول - حينئذ -:
إن أخبار الاحتياط ظاهرها وجوب الاحتياط شرعا عن محتمل الحرمة، ومع إمكان ما ذكر فيمكن إرادة هذا الظاهر، منها ولا صارف عن ظاهرها، فيجب الأخذ بمقتضاها، فيثبت مطلوب الأخباريين.
هذا، لكنه مردود بما ورد على أخبار الاحتياط بالنسبة إلى كل طائفة منها، ومعه ليس لها هذا الظهور، حتى يقال بما ذكره.
قوله - قدس سره -: (يجب - بمقتضى قوله تعالى: وما نهاكم عنه فانتهوا (1) ونحوه - الخروج عن عهدة تركها) (2)
قال - دام ظله -: إن الآية لا تنهض لإفادة وجوب الخروج عن عهدة ترك تلك المحرمات المعلومة إجمالا إلا على بعض الوجوه، فإن قوله تعالى:
80

(انتهوا) يحتمل وجوها:
أحدها: - ولعله الظاهر - أن يكون الأمر بالانتهاء عما نهى الرسول صلى الله عليه وآله من باب الإرشاد، نظرا إلى أن نواهي الرسول صلى الله عليه وآله نواهي الله تعالى، فيكون مساوقا لقوله تعالى: أطيعوا الله، فعلى هذا لا دلالة للآية على وجوب الخروج عما ذكر.
وثانيها: أن يكون للأمر الطريقي، بمعنى أن غرضه - سبحانه [و] تعالى - من ذلك جعل قول الرسول صلى الله عليه وآله طريقا إلى نواهيه تعالى حتى يكون نهيه صلى الله عليه وآله لكونه طريقا إلى نهي الله تعالى منجزا لنهي الله تعالى وموجبا لاستحقاق العقاب على ارتكابه لصيرورته معلوما بنهي النبي صلى الله عليه وآله، وعلى هذا أيضا لا تزيد الآية على نفس النواهي الواقعية المعلومة إجمالا، فإنها بعد العلم بها منجزة على المكلف ولو لم تكن هذه الآية.
وثالثها: أن يكون المراد به الوجوب النفسي الشرعي بمعنى أنه تعالى جعل بذلك اتباع قول النبي صلى الله عليه وآله واجبا نفسيا، فكل ما أخبر بحرمته فالاجتناب عنه لازم من جهة اتباعه ولو لم يحصل لأحد القطع بوجود النهي في الواقع مثلا، وعلى هذا فالآية تدل على وجوب امتثال تلك النواهي من باب العلم بأن النبي صلى الله عليه وآله أخبر بها.
لكن لا يخفى أنه لا حاجة إلى الآية على هذا التقدير أيضا، فإن العلم بوجود المحرمات من الله سبحانه منجز لها على المكلف، ويحكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة تركها.
اللهم إلا أن يكون ذكر الآية والاعتماد عليها من باب التأييد لحكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة تركها بعد العلم الإجمالي بها.
قوله - قدس سره -: (وبعبارة أخرى: العلم الإجمالي قبل الرجوع
81

إلى الأدلة، وأما بعده فليس هنا علم إجمالي) (1)
الشبهة المحصورة وأحكام أقسامها
لما آل الكلام هنا إلى الشبهة المحصورة فلا بأس بالتعرض لها بأقسامها، مع بيان حكم كل منها على نحو الإجمال وإن كان يأتي تحقيقها في محله عن قريب - إن شاء الله تعالى - فنقول:
إن العلم الإجمالي بوجود الحرام بين أمرين أو أمور: إما أن يحصل بعد خروج بعض أطرافه عن مورد الابتلاء بتلف ونحوه، أو بعد العلم التفصيلي بحرمة بعض أطرافه (2) أو بعد قيام الطريق الظني الشرعي على حرمة بعضها، وإما أن يحصل قبل تحقق تلك الأمور الثلاثة:
فعلى الأول: فالظاهر جواز تناول غير الطرف الخارج أو المعلوم حرمته تفصيلا أو القائم على حرمته الطريق الظني المعتبر، إذ قبل حصوله كان الشك في حرمة غير الطرف المذكور بدويا مجرى للأصل السليم عن المعارض، فهو مخرج لمورده عن موضوع الحرمة المحتملة، فيكون تناول مورده جائزا بحكم الشارع، فإذا حصل العلم الإجمالي بعد ذلك فهو لا ينافي ذلك الأصل الجاري في بعض الأطراف (3)، وإنما ينافي إجراء الأصل في جميع الأطراف، لاستلزام ذلك طرحه ومخالفته القطعية، ونحن لا نريد إجراءه في جميع الأطراف، بل لا يجري

(1) وهذا كما إذا علم تفصيلا بكون أحد الإناءين خمرا، ثم وقع قطرة من الخمر من الخارج أو من غيرها من سائر النجاسات أو المحرمات، ولم يعلم أن تلك القطرة وقعت في هذا الإناء أو في الطاهر الذي كان قريبا منه، وهكذا لو علم بكون أحد الإناءين بالخصوص خمرا، ثم علم إجمالا بحرمة أحدهما مع احتمال كون المعلوم بالإجمال هو هذا المعلوم تفصيلا. لمحرره عفا الله عنه.
(2) وذلك لأن العلم الإجمالي إنما يقتضي عدم ارتكاب ذلك المعلوم بالإجمال الواقعي، والعمل بالأصل في بعض الأطراف لا يستلزم ارتكابه، حتى ينافيه العلم الإجمالي. نعم ينافي العمل به في جميع الأطراف، لكون ذلك مستلزما لارتكاب الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال. لمحرره عفا الله عنه.
82

في الطرف المذكور، فإنه إنما يجري في الطرف المشكوك مع ابتلاء المكلف به مع عدم قيام طريق معتبر على حرمته، وأما إذا علم حكم المورد أو خرج عن محل الابتلاء، أو قام عليه طريق معتبر فلا، لانتفاء موضوعه في الأول، وعدم شمول أدلة اعتباره للثاني، وحكومة أدلة اعتبار الطرق الظنية عليه في الثالث.
نعم لو فرض جريانه في جميع الأطراف لاتجه أن يقال: إن إجراءه في جميع الأطراف مناف للعلم الإجمالي، ومستلزم لمخالفة المعلوم إجمالا، وإجراؤه في بعض دون بعض ترجيح بلا مرجح، فيجب الاجتناب عن جميع الأطراف، لكن ما نحن فيه - كما عرفت - ليس من هذا القبيل، فإن جريان الأصل فيه مختص ببعض الأطراف فلا يرد أن الأخذ به في بعض الأطراف ترجيح بلا مرجح، فمع سلامته في غير الطرف المذكور يقتضي جواز تناول مورده بحكم الشارع، ولا ريب أنه بعد إذن الشارع في تناول مورده لا يقتضي العلم الإجمالي أزيد من عدم جواز مخالفته القطعية (1)، وهي مرتفعة بالاجتناب عن الطرف المذكور الواجب الاجتناب، مع عدم هذا العلم الإجمالي أيضا، فما زاد هذا العلم. الإجمالي على صورة فقده شيئا (2).

(1) فإن معنى اعتبار الشارع الأصل - حينئذ - في مورده مع كونه من أطراف الحرام المعلوم إجمالا: أنه لا يريد امتثال ذلك الحرام على سبيل القطع، وإنما الواجب عدم مخالفته القطعية. لمحرره عفا الله عنه.
(2) وإن شئت قلت - في وجه عدم لزوم الاجتناب عن غير الطرف المذكور في الشق الأول في المورد الثاني والثالث -: إنه (أ) قبل حصول العلم الإجمالي كان الطرف المذكور مكلفا بالاجتناب عنه، وبعد حصوله لما احتمل كون ذلك المعلوم الإجمالي متحدا مع الطرف المذكور المكلف بالاجتناب عنه قبله، فالمكلف لا يعلم - حينئذ - بأزيد من المكلف به الواحد، وهو هذا الطرف المذكور، وليس وراء ذلك مكلف به مردد بين ذلك الطرف وبين الأطراف الاخر، حتى يجب الاجتناب عن سائر الأطراف، لكونها من محتملاته التي يتوقف امتثال ذلك المكلف به على تركها، فيكون الشك في سائر الأطراف بدويا حقيقة
كما في المورد الثاني، أو حكميا كما في الثالث.
وأما المورد الأول فيقال: إن المعلوم الإجمالي مردد فيه بين ما لا تعلق له بالمكلف أصلا وهو الطرف التالف، إذ على تقدير كونه هو فلا يتوجه التكليف بالاجتناب عنه إلى المكلف، وبين ما له تعلق به، وما يكون حاله ذلك فلم يعلم فعلا تعلقه بالمكلف وتوجهه إليه، فلا يكون منجزا عليه، حتى يجب الاجتناب عن سائر أطراف مقدمة لامتثاله. لمحرره عفا الله عنه.
83

والحاصل: أنه قبل حصول (1) العلم الإجمالي في الصور الثلاث المذكورة لم يكن تكليف بحرام مردد بين الأطراف، حتى يكون منجزا للأطراف على المكلف لتوقف امتثاله على الاجتناب عنها، وبعد حصوله - والمفروض جريان الأصل في بعض الأطراف، مع سلامته عن المعارض الموجب لجواز تناول مورده - فلا يقتضي أزيد من عدم جواز المخالفة القطعية، وهي مرتفعة بالاجتناب عن الطرف المعلوم بالتفصيل، أو الخارج عن مورد الابتلاء أو القائم على حرمته الطريق الشرعي (2)، فلم يزد هو على صورة فقده شيئا.
واما على الثاني فالحق فيه: التفصيل بين موارده الثلاثة المتقدمة: بلزوم الاجتناب عن غير التالف من الأطراف في الأول، وبعدم لزوم الاجتناب عن غير المعلوم بالتفصيل في الثاني، سواء علم كون المعلوم بالتفصيل عين ذلك المعلوم الإجمالي، أو لا، بل يحتمل كونه غيره.
وأما الثالث: فسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
والوجه في لزوم الاجتناب عن غير التالف في الأول: أن المفروض ابتلاء المكلف بجميع الأطراف قبل حصول العلم الإجمالي وبعده قبل تلف بعضها، فيكون العلم الإجمالي منجزا للتكليف المعلوم إجمالا على المكلف،
فيجب عليه

(1) وبالجملة: مدار وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة على وجود معلوم إجمالي فعلا مردد بين الأطراف مع تعارض الأصول فيها، فإذا انتفى أحد الأمرين انتفى وجوب الاجتناب عنها من حيث كونها من أطراف إجمال المحرم الواقعي. لمحرره عفا الله عنه.
84

الخروج عن عهدته، وهو لا يحصل إلا بالاجتناب عن جميع الأطراف، إلا أن تلف بعضها يكون - حينئذ - بمنزلة امتثاله، وأما الأطراف الاخر فلما كان المفروض عدم امتثالها فيجب الاجتناب عنها، واحتمال ذهاب موضوع التكليف المعلوم بالإجمال بذهاب الطرف التالف، لاحتمال كونه هو المكلف به، غير مجد، فإن غايته الشك بعد التلف في بقاء التكليف الواقعي على حاله، وهذا غير كاف، لأنه بعد القطع يتنجزه لا بد من القطع بسقوطه، ولا يجوز الاكتفاء باحتمال سقوطه.
وبالجملة: كل طرف من أطراف المعلوم بالإجمال مهما لم يخرج عن كونه من أطرافه يجب الاجتناب عنه بحكم العقل، وخروجه من أطرافه إنما يكون [فيما] (1) إذا فرض اجتماع جميع الأطراف [و] (2) لم يكن هناك تكليف معلوم إجمالا مردد بينها. هذا.
وإن شئت قلت: إن العلم الإجمالي متى تحقق بين أمور مع تعارض الأصل في تلك الأمور - بأن لم يكن في بعضها أصل سليم عن المعارض - فهو منجز للمعلوم الإجمالي على المكلف بحيث يوجب الاجتناب عن جميع الأطراف، ولا ريب أن العلم الإجمالي بهذا النحو قد تحقق فيما نحن فيه قبل تلف بعض الأطراف: أما حصوله فبالفرض، وأما تعارض الأصول في الأطراف قبل تلف بعضها فواضح، فيكون منجزا لجميع الأطراف على المكلف فيجب الخروج عن عهدة الجميع.
لا يقال: إنه بعد تلف بعض الأطراف يكون الأصل في الباقي سليما عن المعارض، فيخرج مورده عن تحت الحرام الواقعي.
لأنا نقول: إن الأصل في الباقي قد سقط بالتعارض قبل التلف، والتلف
85

لا يوجب عود ذلك الأصل في الباقي، فافهم.
وأما وجه لزوم الاجتناب عن غير المعلوم تفصيلا في المورد الثاني: فهو أنه إن علم بحرمة ذلك الطرف تفصيلا - مع العلم باتحاده مع المعلوم الإجمالي، بأن علم أنه هو - فلا إشكال - حينئذ - في تبدل ذلك المعلوم بالإجمال إلى المعلوم بالتفصيل، ويكون الشك في الطرف الآخر بدويا، لا شيء يوجب الاحتياط فيه، بل يرجع فيه إلى الأصل السليم عن المعارض، فإنه لا يجري الأصل - حينئذ - في الطرف المعلوم تفصيلا، حتى يعارضه في هذا الطرف.
وإن علم بحرمته تفصيلا - مع الشك في اتحاده مع المعلوم الإجمالي، بأن احتمل كون غيره - فعدم لزوم الاجتناب عن غيره - حينئذ - وإن لم يكن في الوضوح مثله في الفرض الأول، لكن لا ينبغي الإشكال فيه هنا أيضا فإن العلم هنا وإن كان متعددا، إلا أن العبرة - في مقام لزوم الامتثال - على تعدد (1) المعلوم لا تعدد العلم، ولا ريب أن المكلف في تلك الحال لا يعلم بحرمة أزيد من ذلك المعلوم بالتفصيل، وليس عنده - حينئذ - معلوم آخر مردد بينه وبين الأطراف الاخر، حتى يجب الاجتناب عنها من باب المقدمة، فالعلم التفصيلي - أيضا حينئذ - موجب لتبدل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي في سائر الأطراف، فيرجع فيها إلى الأصل السليم عن المعارض.
لا يقال: إن المفروض - في هذا الفرض - وجود معلوم إجمالي مردد بين الأطراف قبل حصول العلم التفصيلي بحرمة بعضها، وهو بعد وجوده وقبل حصوله صار منجزا على المكلف، فيجب عليه الخروج عن عهدته على سبيل الجزم، والاجتناب عن المعلوم التفصيلي لا يوجب الجزم بالخروج عن عهدته بل يتوقف على الاجتناب عن سائر الأطراف أيضا.
وبالجملة: الحال هنا نظير الحال في الموارد الأول، وهو تلف بعض
86

الأطراف بعد حصول العلم الإجمالي من جهة أنه بتلف بعضها لا يقطع بذهاب التكليف الواقعي، بل يحتمل، ومعه قلتم بلزوم الاجتناب عن سائر الأطراف، نظرا إلى تنجز المعلوم الإجمالي على المكلف ولزوم الخروج عن عهدته على سبيل الجزم، فما هو المناط في لزوم الاجتناب عن سائر الأطراف ثمة موجود بعينه فيما نحن فيه.
لأنا نقول: حصول العلم التفصيلي فيما نحن فيه قد يكون موجبا لسريان الشك إلى العلم الإجمالي السابق، بمعنى أنه إذا علم المكلف بحرمة بعض الأطراف تفصيلا أو بنجاسته كذلك، فيحتمل حدوث الحرمة أو النجاسة فيه من الآن، مع احتمال عدم حرام أو نجس دون هذا من قبل، فيشك أنه هل في زمن حصول العلم الإجمالي كان محرم في الواقع بين الأطراف، أو لا؟ فحينئذ فلا إشكال في عدم لزوم الاجتناب عن سائر الأطراف، فإن غاية ما هنا أنه اعتقد بوجود محرم مردد بين الأطراف، والآن زال هذا الاعتقاد، فهو كان معتقدا لتنجز تكليف عليه في السابق، لكن الآن زال ذلك الاعتقاد، فالآن ليس له علم بتكليف منجز عليه في السابق حتى يجب الخروج من عهدته، وقياس ذلك بما ذكر واضح الفساد كما لا يخفى.
وقد لا يكون [موجبا لسريان الشك إلى العلم الإجمالي بالمعنى المذكور، بل الآن - أيضا - قاطع بوجود محرم مردد بين الأطراف في السابق، لكن يحتمل كونه هو هذا المعلوم بالتفصيل، فنقول - حينئذ -: إن لزوم الاجتناب عن أطراف المعلوم الإجمالي عند العقل إنما هو من آثار إجمال ذلك المعلوم، فإن التكليف المتوجه من الشارع إنما هو بأحد تلك الأطراف في الواقع، وهو - أولا وبالذات - لا يقتضي أزيد من ترك ذلك الحرام الواقعي، إلا أنه إذا طرأ عليه الإجمال مع فرض تنجزه على المكلف فالعقل يحكم بلزوم الاجتناب عن جميع محتملاته مقدمة لتحصيل العلم بامتثاله، فلزوم الاجتناب عن جميع الأطراف
87

يدور مدار وجود معلوم مجمل مردد بينها على تقدير اجتماع تلك الأطراف بمعنى فرض وجود جميعها وإن لم يكن بعضها موجودا فعلا، فإذا حصل العلم الإجمالي على هذا النحو - مع بقائه على تلك الحال - فهو موجب للزوم الاجتناب عن جميع محتملاته إلى الأبد ولو فرض تلف بعضها بعده مع وجوده على الكيفية المذكورة على فرض وجوده الآن وانضمامه إلى سائر الأطراف، كما هو الحال في المورد الأول الذي قاس المورد ما نحن فيه عليه.
وأما إذا لم يبق على تلك الحال - بمعنى أنه لم يكن للمكلف فعلا معلوم إجمالي مردد بين الأطراف على تقدير اجتماعها - فلا شيء يوجب لزوم الاجتناب عن محتملاته، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنه بعد العلم التفصيلي بحرمة بعض الأطراف مع احتمال كونه هو المعلوم الإجمالي السابق لم يبق له معلوم آخر مجمل مردد بين هذا المعلوم بالتفصيل وبين سائر الأطراف فلا شيء يوجب لزوم الاجتناب عن غير ذلك المعلوم بالتفصيل، فانقلب المعلوم الإجمالي - حينئذ أيضا - إلى المعلوم بالتفصيل والشك البدوي بالنسبة إلى سائر الأطراف، فيكون موردا للأصل، فظهر الفرق بين المقيس والمقيس عليه، فبطل القياس المذكور.
وبالجملة: بعد حصول العلم التفصيلي ببعض الأطراف مع احتمال كونه هو المعلوم الإجمالي يكون ذلك نظير الشك الساري من حيث عدم إحراز معلوم إجمالي مردد بين الأطراف.
والحاصل: أن المعلوم الإجمالي إنما يكون منجزا على المكلف، وموجبا للزوم تحصيل القطع بامتثاله إذا بقي على ما كان عليه على تقدير اجتماع أطرافه، وأما بدونه فلا، والعلم التفصيلي ببعض الأطراف - أيضا - لا يقتضي لزوم الاجتناب عن سائر الأطراف، فلا شيء حينئذ يوجب لزوم الاجتناب عنها، وإنما قيدنا العلم التفصيلي ببعض الأطراف بكونه بحيث يحتمل كون متعلقه
88

متحدا مع متعلق العلم الإجمالي السابق احترازا عن صورة اجتماع السببين للاجتناب في بعض أطراف المعلوم الإجمالي، بأن يحدث فيه بعد العلم الإجمالي ما يقتضي لزوم الاجتناب، فيجتمع فيه سببان: أحدهما كونه من أطراف المعلوم الإجمالي اللازم الاجتناب، وثانيهما ذلك الأمر الحادث، وهذا كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين إجمالا، ثم وقع بعد ذلك نجاسة أخرى في أحدهما بالخصوص، فإنه وإن كان يعلم بذلك نجاسة ذلك الإناء بالخصوص وبالتفصيل، نظرا إلى أنه إما النجس الواقعي، أو هو الإناء الآخر، فإن كان الأول فهو نجس يقينا، وان كان الثاني فهو وإن لم يكن نجسا قبل وقوع هذه النجاسة عليه، إلا أنه تنجس بعده يقينا، فهو نجس على كل حال.
ووجه الاحتراز عن تلك الصورة: أن العلم التفصيلي فيه بلزوم الاجتناب عن الطرف المذكور لا يوجب انقلاب العلم الإجمالي السابق إلى العلم التفصيلي والشك البدوي، بل يكون حدوث ذلك السبب كعدمه، إذ معه أيضا يعلم بوجود النجس المعلوم سابقا بين الإناءين، وإنما الشك في إحداث ذلك تكليفا آخر بلزوم الاجتناب وراء التكليف بالواقع المردد بينهما، لاحتمال وروده على غير ما يكون نجسا في الواقع.
وبعبارة أخرى: إنا نعلم الآن - أيضا - بوجود النجس بالنجاسة السابقة بين الإناءين، والأصل في كل منهما - بالنسبة إلى تلك النجاسة السابقة - معارض بمثله في الآخر الآن - أيضا - وقد مر أن العلم الإجمالي مع تعارض الأصول في أطرافه موجب لوجوب الموافقة القطعية المتوقفة على الاجتناب عن جميع الأطراف.
لا يتوهم: أن الأصل بالنسبة إلى تلك النجاسة السابقة معارض لأصالة عدم تأثر محل هذه النجاسة الحادثة منها، للعلم بنجاسة ذلك المحل بإحدى النجاستين، فإذا وقع التعارض فيسقطان عن الاعتبار، فيبقى الأصل بالنسبة
89

إلى النجاسة السابقة - في غير مورد النجاسة الحادثة - سليمان عن المعارض، فيقتضي جواز ارتكابه، فلا يقتضي العلم الإجمالي المذكور وجوب الموافقة القطعية.
لأنه مدفوع: بأن الأصل بالنسبة إلى النجاسة السابقة في مورد حدوث النجاسة اللاحقة كان معارضا بمثله في الطرف الآخر قبل حدوث تلك النجاسة الحادثة، ولا ريب أن الأصل المبتلى بالمعارض لا يصلح للتعارض بالنسبة إلى السليم منه، وهو الأصل بالنسبة إلى النجاسة اللاحقة في مورد حدوثها، وإن كان لا بد فليقل بسلامة ذلك الأصل عن المعارض، إلا أنه لا يترتب عليه فائدة، فإنه لا يلزم منه في المقام جواز ارتكاب مورده فإن الاجتناب عنه لازم على كل حال.
وبالجملة: حدوث سبب آخر في أحد طرفي المعلوم الإجمالي لا يوجب إحياء الأصل الميت بالتعارض في الطرف الآخر، بل هو - حينئذ أيضا - ميت لبقاء التعارض، فلا يترتب عليه شيء.
هذا، وكيف كان، فجواز ارتكاب الطرف الآخر بعد حدوث السبب في غيره مما يأباه وجدان كل أحد، فلا يليق صدور القول به من أحد، وإنما أردنا بما سمعت بيان وجه الامتناع تفصيلا.
هذا تمام الكلام في المورد الأول والثاني.
وأما الثالث: - وهو ما قام فيه الطريق المعتبر الظني على بعض أطراف المعلوم الإجمالي -: فربما يتخيل أنه من قبيل اجتماع السببين للاجتناب في بعض أطراف الشبهة، لكنه فاسد، للفرق بين حدوث سبب آخر في بعض أطراف الشبهة وبين قيام طريق عليه، إذ قد عرفت أن الأول لا يقتضي سلامة الأصل في الطرف الآخر، والطريق القائم عليه يقتضيه، وذلك لأنه إذا قام الطريق الشرعي الظني على حرمة بعض الأطراف أو نجاسته فهو حاكم على أصالة عدم
90

الحرمة أو النجاسة الجاريتين في مورده، فلا مجرى للأصل في مورده، فحينئذ يبقى الأصل في الطرف الآخر سليمان عن المعارض، فلا أثر للعلم الإجمالي بالنسبة إلى ذلك الطرف، لعدم اقتضائه - حينئذ - وجوب الموافقة القطعية. فإن قلت: كما أنا لا نعلم فيما نحن فيه بأزيد من التكليف بالاجتناب عما قام عليه الطريق الشرعي المعتبر من الأطراف، فكذلك لا نعلم في صورة اجتماع السببين بأزيد من التكليف بالاجتناب عما ورد عليه السبب الثاني من الأطراف فلا معلوم إجماليا سوى المعلوم بالتفصيل في الموردين، فحينئذ إن كان العبرة - في وجوب الاجتناب عن سائر الأطراف في الأول - بوجود معلوم إجمالي مردد بينها قبل العلم التفصيلي ولو لم يبق إلى حينه، فهذا موجود بعينه في الثاني أيضا، فلا وجه للتفصيل بينهما بوجه، وإن [كان] العبرة فيه بشيء آخر غير موجود في الثاني فبينه.
قلنا: مناط وجوب الاجتناب عن جميع الأطراف - كما عرفت سابقا - إنما هو وجود معلوم إجمالي مردد بينها - على تقدير اجتماعها - مع عدم الرخصة في ارتكاب بعضها، وإلا سقط الوجوب عن الطرف المأذون في ارتكابه ولا يقتضي - حينئذ - أزيد من وجوب الموافقة الاحتمالية المتحققة بالاجتناب عن سائر الأطراف، وعرفت أن عدم الرخصة في بعضها إنما هو في صورة تعارض الأصول في الأطراف، وأنه (1) مع سلامة الأصل في بعضها يكون ذلك البعض مرخصا فيه بمقتضاه، ويختص الوجوب بغيره، ولا ريب في أن المناط المذكور متحقق في الأول دون الثاني، إذ قد عرفت أن الأصل بالنسبة إلى السبب السابق المعلوم التأثير في أحد الأطراف إجمالا معارض في كل منها بمثله في الآخر، فالمعلوم المردد بينها من تلك الجهة مع تعارض الأصول في الأطراف متحقق فعلا
91

حين ورد السبب الثاني، وبعده فإنه لا يقتضي وروده سلامة الأصل بالنسبة إلى ذلك المعلوم الإجمالي عن المعارض بالنسبة إلى الأطراف الاخر، حتى يقتضي جواز ارتكابها، ويختص وجوب الاجتناب بمورده، فالسبب الأول بعد ورود الثاني أيضا تام الاقتضاء للاجتناب عن جميع الأطراف، هذا بخلاف الثاني، فإن الطريق الشرعي القائم على بعض الأطراف مانع عن جريان الأصل في مورده، فلا يصلح - حينئذ - هو لمعارضته للأصول في الأطراف الاخر، فإن الطرق والأمارات الشرعية ليست من قبيل الأسباب (1)، بأن يحدث - بسبب قيامها - تكليف واقعي، وإنما هو لمجرد الطريقية، ولازمها تنجز التكليف الموجود في محلها على المكلف على تقديره (2)، فالتكليف الواقعي في محلها مشكوك فيه بعد قيامها أيضا، وإنما المعلوم [من] التكليف - حينئذ - هو التكليف الظاهري.
فمن هنا ظاهر فساد ما قيل في العنوان: من كون الطرف القائم عليه الطريق الشرعي معلوما بالتفصيل. نعم هذا يتم في أسباب النجاسة، فإنها بعد ورودها على أطراف الشبهة يعلم تفصيلا بنجاسة ذلك الطرف فإنه - حينئذ - إما أن يكون هو النجس المعلوم إجمالا قبل ورودها، أو غيره، وعلى كل تقدير فهو نجس بعد ورودها عليه، لأنه على الثاني ينجس بها البتة. هذا.

(1) ومجمل الفرق بين الأمارات والأسباب فيما إذا حصل شيء منهما في بعض أطراف الشبهة: أن الأسباب محدثة - بمجرد ورودها في مورد - تكليفا آخر غير المعلوم الإجمالي، فمع ورودها يتحصل تكليفان منجزان فعلا لا بد من الخروج عن عهدتهما.
هذا بخلاف الأمارات، فإنها إذا قامت في بعض الأطراف فلا توجب تكليفا آخر غير المعلوم بالإجمال، فإنها طريق إلى التكليف الموجود في موردها، وموجبة لتنجزه على المكلف على تقديره. لمحرره عفا الله عنه.
(2) وبعبارة أخرى: إن وجوب العمل بالطرق الشرعية ليس من باب الموضوعية والسببية، وإنما هو من باب كونها طرفا إلى ما قامت عليه، ولازمها تنجز التكليف المجهول في موردها على المكلف، بحيث لا يعذر في مخالفته على تقديره. لمحرره عفا الله عنه.
92

وبالجملة: فقد ظهر أن ورود الأسباب على بعض أطراف الشبهة - مع كونها موجبة للعلم التفصيلي بذلك الطرف - لا تقتضي سلامة الأصل في الأطراف الاخر بالنسبة إلى المعلوم الإجمالي السابق، وأن الطرق الشرعية - مع عدم إيجابها لذلك - تقتضي سلامته في الأطراف الأخر.
ثم إنه يكشف عن فساد ما ربما يتخيل - من أن الأصل بالنسبة إلى المعلوم الإجمالي السابق في موارد الأسباب معارض بأصالة عدم تأثير. ذلك السبب في ذلك المحل - أن أصالة عدم التأثير المذكورة غير جارية في موارد أسباب النجاسة والحرمة، إذ بعد ورودها على مورد يقتضي وجوب الاجتناب عن ذلك المورد، بحيث يتم بها الحجة على وجوب الاجتناب فيه، بحيث لو لم يكن في محلها نجس أو حرام تكون هي محدثة لهما، وتكون منجزة للتكليف بالاجتناب عنهما على تقدير كونها محدثة لهما، فحينئذ لا مجرى للأصل المذكور في موردها.
والحاصل: أن التكليف الثاني من جهة ورودها على بعض الأطراف وإن كان مشكوكا فيه، إلا أنه محتمل، واحتماله كاف في لزوم الاجتناب عن مورده من جهتها، فإن التكليف المحتمل في موردها على تقديره منجز، فلا معنى لإجراء الأصل فيه.
وبالجملة: الأسباب الشرعية للنجاسة أو الحرمة أو الوجوب إذا ثبتت في مورد فهي متممة للحجة على مقتضاها في موردها، فتكون هي بالنسبة إلى مقتضاها كالطرق الشرعية بالنسبة إلى مؤداها في كونها حجة عليه بحيث لا يعذر الجاهل فيها على تقدير وجود تكليف في موردها، فلذا لا مجال للأصول النافية للتكليف موضوعية كانت أو حكمية فيها.
ثم إنه لا ينبغي التحاشي عن أن العلم الإجمالي كيف لا يقتضي الموافقة القطعية في بعض الصور؟ وما الفرق بينه وبين العلم التفصيلي؟ حيث إنه يقتضيها عقلا، ويكون علة تامة لها عنده، لأن العلم الإجمالي ليس كالتفصيلي،
93

فإن التفصيلي بحيث لو اذن فيه بترك الموافقة القطعية لكان ذلك مستلزما للتناقض، بخلاف العلم الإجمالي، فإن له جهة علمية وجهة شكية، وهو بالنسبة إلى الأولى كالعلم التفصيلي لا يعقل رفع مقتضاه، وبالنسبة إلى الثانية قابل لرفعه، ومقتضاه على الأولى هو عدم جواز المخالفة القطعية، وعلى الثانية (1) هي الموافقة القطعية.
والحاصل: إنه يمكن التفكيك بين عدم جواز المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية فيه، لما ذكر، بخلاف العلم التفصيلي.
ثم إنه لا بأس بإعادة الكلام فيما كنا بصدده من الجواب عن الدليل العقلي المذكور، فنقول:
توضيح الكلام فيه: إنه قد يجاب عنه: تارة بأن العلم الإجمالي إنما هو قبل المراجعة إلى الأدلة (2)، وأما بعده فينقلب هو إلى العلم التفصيلي والشك البدوي، لحصول العلم التفصيلي - حينئذ - بحرمة عدة أمور تساوي المعلوم الإجمالي، فيكون الشك في غيرها بدويا مرجعا للبراءة الأصلية.
والحق: أن ذلك على تقدير ثبوته كاف شاف في دفع الدليل المذكور، فإنه إذا علم إجمالا بوجود محرم أو نجس بين أمور - مثلا - ثم علم بنجاسة أحدها أو حرمته تفصيلا فهناك صور ثلاث:
أولاها: أن يعلم أن ذلك المعلوم بالتفصيل الآن هو المعلوم بالإجمال من قبل.
وثانيتها: أن لا يعلم الاتحاد، لكن يعلم أن ذلك المعلوم بالتفصيل كان حراما أو نجسا في زمان العلم الإجمالي.
94

وثالثتها: أن لا يعلم سبق حرمته أو نجاسته أيضا، وإنما المعلوم تفصيلا الآن إنما هو حرمته أو نجاسته الآن، مع احتمال عروض الحرمة أو النجاسة عليه بعد زمان العلم الإجمالي، لا إشكال في جواز الرجوع إلى البراءة الأصلية بالنسبة إلى غير ذلك المعلوم بالتفصيل بعد العلم التفصيلي في الصورتين الأوليين:
أما في أولاهما فواضح.
وأما في ثانيتهما فلأن المقتضي للاحتياط فيه إنما هو ثبوت التكليف بأمر مردد يكون ذلك من أطرافه، وهو منتف هنا: أما بالنسبة إلى الزمان الثاني فواضح، ضرورة أنه لا يعلم بالتكليف الآن بأزيد من ذلك المعلوم بالتفصيل، ولا يعلم الآن بتكليف آخر مردد بينه وبين ذلك الغير.
وأما بالنسبة إلى الزمان الأول - الذي هو زمان العلم الإجمالي السابق - فلأنه لا يعلم الآن بالتكليف فيه بأزيد منه مرددا بين الأطراف التي ذلك منها، بل الشك فيه - بالنسبة إلى ذلك الزمان بعد العلم التفصيلي بحرمة صاحبه فيه أو نجاسته - بدوي.
وأما الثالثة ففيها إشكال، نظرا إلى أنه وإن لا يعلم الآن بالتكليف الواقعي بأزيد من ذلك المعلوم بالتفصيل، إلا أنه يعلم بتكليف واقعي منجز عليه في السابق، فلا بد من الخروج عن عهدته كما يجب الخروج عن عهدة ذلك المعلوم بالتفصيل، لكن ما نحن فيه إنما هو من الصورة الثانية، فإنه إذا علم بحرمة أمور بعد الفحص فيعلم بثبوت الحرمة لها من قبل، فلا إشكال في الرجوع إلى البراءة الأصلية في غيرها.
قوله - قدس سره -: (وحكي عن المحدث الأسترآبادي في فوائده (1): أن تحقيق الكلام.) (2).
إلى آخر ما ذكره المحدث.
95

وكأن المحدث المذكور نشأ تخيله التفصيل من كلام المحقق من قول المحقق: (الثانية: أن يتبين (1) أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه إحدى تلك الدلائل) (2)، فتخيل أن تلك المقدمة لا تتم إلا فيما يعم البلوى به، مع غفلته عن تعليل المحقق - قدس سره - ذلك بقوله: (لأنه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلف إلى العلم به، وهو تكليف بما لا يطاق، فإن هذا التعليل صريح في أن مراده ليس نفي الحكم الواقعي، بل الفعلي، وهو المناط للتكليف، وهو الذي يتم فيه هذا التعليل، إذ لا تكليف بنفس الواقع من حيث هو، حتى يلزم من عدم الدلالة عليه التكليف بما لا يطاق، وهذا التعليل لا يختص جريانه بما يعم به البلوى، بل يعم غيره أيضا، فإن كل مورد - سواء كان مما يعم به البلوى أو لم يكن - إذا لم يكن على التكليف به دلالة واضحة لزم التكليف بما لا يطاق.
فظهر أن المحقق لم يفصل في اعتبار أصل البراءة بين ما تعم به البلوى وبين غيره، بل قال بها مطلقا بالنسبة إلى الحكم الفعلي، وأما الحكم الشأني فلا تجري فيه البراءة مطلقا، لعدم العقاب عليه على تقدير ثبوته، فما تخيله المحدث المذكور تحقيقا لكلام المحقق - مع فساده في نفسه، كما لا يخفى على المتأمل - لا ربط له بمقالة المحقق أصلا.
قوله - قدس سره -: (كما ذكره جماعة من الأصوليين) (3)
لا يذهب عليك: أن هذا لا ينافي ما اختاره - قدس سره - من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية، فإن ما اختاره هناك إنما هو بالنظر
96

إلى الاستصحاب الثابت اعتباره بالأخبار، والاستصحاب الذي هنا إنما هو عبارة عن أصالة البراءة العقلية (1).
قوله - قدس سره -: (منهم صاحب المعالم) (2).
97

يظهر ذلك من قوله: (وأما أصالة البراءة فهي لا تفيد إلا الظن) (1)
قوله - قدس سره -: (لا إشكال في رجحان الاحتياط) (2)
قال - دام ظله -: الظاهر من نسبة الرجحان إلى شيء كون ذلك الشيء حسنا في نفسه، لكنه - قدس سره - أراد الأعم من ذلك الشامل للحسن بواسطة الغير، وإلا لم يكن معنى لترديده في استحباب الاحتياط بعد الاعتراف بحسنه الذاتي، فإن التردد آئل إلى الترديد في أن الاحتياط بنفسه حسن حتى يكون مندوبا شرعا، أولا.
ثم إنه - دام ظله - قال: لا شبهة في أن تعليم الجاهل من الواجبات النفسية، ولا ريب أن كل واجب نفسي كالمندوب لا بد أن يكون حسنا في نفسه، وإلا يكون وجوبه غيريا أو إرشاديا.
والذي يتراءى - في بادئ النظر - أنه لا مصلحة في التعليم إلا تمكن الغير من امتثال ما يجب عليه، فلا يكون حسنا في نفسه على هذا.
ويمكن أن يقال: إن إرشاد الجاهل في نفسه حسن أوجب الأمر به، ويكون تركه وتقرير الجاهل على جهله قبيحا، فيحرم تركه.
فمن هنا يدفع ما ربما يتوهم أن يقال: إنه ما الفرق بين الاحتياط وبين تعليم الجاهل من جهة عدم الحسن في نفس كل منهما؟ فإن كان ذلك يقدح في استحباب الاحتياط نفسيا فليقدح (3) في وجوب التعليم نفسيا.
قوله - قدس سره -: (واقترانه مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا) (4)..
يعني (5) لما ذكرنا أيضا: أن الإمام عليه السلام أقرن
98

اجتناب الشبهة مع الاجتناب عن الحرام المعلوم في كونه ورعا بمعنى أنه علة جعله قرينا له في كونه ورعا، وقال: وكما أن الثاني ورع، فكذلك الأول، فيكون حال الشبهة في الأمر بالاجتناب عنها حال الأمر باجتناب الحرام المعلوم، فإن كان الأمر بالثاني، إرشاديا يكون الأمر بالأول - أيضا - كذلك، ومن المعلوم أن الأمر باجتناب المحرمات المعلومة ليس إلا للإرشاد، كما أشار إليه - قدس سره - بقوله: (ومن المعلوم... إلخ) (1)، والمشار إليه بقوله - قدس سره - (في تلك الأخبار) هي الأخبار الآمرة بالاجتناب عن الحرام المعلوم.
قوله - قدس سره -: (من حيث إنه إطاعة حكمية.). (2)
قال - دام ظله -: ترتب الثواب يتوقف على أن يكون الانقياد حسنا في نفسه وممدوحا كذلك، بحيث لا يرجع المدح فيه إلى المدح الفاعلي، وإلا فلا يكون فعله سببا للثواب، ولو التزم بحسنه الذاتي، بأن يقال: إن العمل إذا أتي به بعنوان إحراز مطلوب المولى يكون العمل في نفسه حسنا، كما هو ليس ببعيد كل البعد، فلا بد من القول: بأن الذم في التجري - أيضا - فعلي، لا فاعلي، فيكون حراما ذاتا.
أقول: لا يتوهم قضية ذلك - أي مقايسة التجري بالانقياد - هو أن يكون التجري مكروها.
لأنا نقول: إذا تحقق أن الذم في التجري على نفس الفعل المتجري به فيكشف عن حرمته شرعا، لأن كل مذموم عقلا حرام شرعا من غير فرق بين مراتب الذم، والمكروهات لا ذم فيها أصلا، هذا بخلاف المندوبات، فإنها ممدوحة بأقل درجة المدح.
99

وبالجملة: لا يتحقق الذم في المناهي إلا في المحرمات، وأما المدح في الأفعال المأمور بها فيتحقق في كل من واجبها ومندوبها، فحصول الذم في طرف المناهي موجب للحرمة بخلاف الفعل المأمور به، فإن مجرد المدح عليه لا يوجب وجوبه.
قوله - قدس سره -: (ولكن الظاهر من بعض الأخبار المتقدمة مثل قوله عليه السلام: «من ارتكب الشبهات نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرمات» (1)... إلى آخره) (2)
وجه استظهار الاستحباب مما ذكر أن معنى قوله عليه السلام:
«نازعته نفسه إلى أن يقع في المحرمات» أن من ارتكب الشبهة يحصل لنفسه حالة شقوة تحمله على ارتكاب المحرمات المعلومة، بحيث لا يبالي بها، فمن تركها يسلم من ذلك، وهذا مما يصلح أن يكون حكمة للاستحباب، فإنه أمر حسن ممدوح، ومعه يمكن حمل الطلب على الاستحباب، بل ظاهر فيه.
قوله - قدس سره -: (لأن معنى الإباحة الإذن والترخيص) (3)
هذا بناء على أن حقيقة الإباحة هو الإذن، والإذن ليس إلا الترخيص المعلوم، فإنه مأخوذ من الأذان بمعنى الإعلام، ومنه قوله تعالى: وأذان من الله... (4) وقوله تعالى: ثم أذن مؤذن أيتها العير... (5)، فالترخيص الواقعي [إذا] لم يحصل العلم به لا يكون إباحة، فلا يكون الشيء الغير المعلوم ترخيصه من الشارع مباحا في الواقع، فيكون حراما واقعا.
100

قوله [قدس سره]: (فتأمل) (1)
لعله إشارة إلى منع كون الإباحة هو الترخيص المعلوم، بل هي عبارة عن نفس الترخيص الواقعي، وهو قد يكون معلوما، وقد يكون مجهولا، كما فيما نحن فيه، وهذا هو الذي ارتضاه السيد الأستاذ - دام ظله - أيضا.
قوله - قدس سره -: (لأن من شرائطها قابلية المحل، وهي مشكوكة، فيحكم بعدمها) (2)
لأحد أن يقول: إن قابلية المحل ليست إلا حلية الحيوان ذاتا، فبأصالة الحل تحرز تلك الحلية، فيحرز بها مورد تأثير التذكية وشرطها، والمفروض إحراز نفس التذكية، فيكون الحيوان المذكى حلالا.
وبعبارة [أخرى]: إنا نعلم أن الشارع جعل التذكية سببا تاما للحلية فيما يكون حلالا ذاتا، فإذا ذكينا ما شككنا في حليته الذاتية فنحرز بأصالة الحل حليته الذاتية، فنحكم بحليته، إذ لا قصور في السبب أصلا، ولو كان فهو من جهة المحل، لاحتمال عدم كونه حلالا ذاتا، وقد أحرزنا تماميته أيضا، فعلى هذا لا حاجة لنا إلى عموم يدل على جواز تذكية كل حيوان.
والحاصل: أن المتصور في كل حيوان من جهة الحرمة حيثيتان، إحداهما حيثية ذات الشيء بما هو، وثانيتهما: حيثية كونه ميتة، والتذكية قد جعلها الشارع سببا تاما لرفع الحرمة من الحيثية الثانية، وإذا أحرزت الحلية من حيث الذات فأصل التذكية محرز بالحس، وشرطه - وهو كون المحل حلالا ذاتا - بأصالة الحل - كما مر - فالتذكية الشرعية - التي هي سبب (فعلي) لجواز أكل لحم الحيوان - محرزة، فلا معنى لأصالة عدمها، لعدم الشك فيها ولو بحكم الأصل المحرز
101

لشرطها، فأصالة الحل والإباحة مثبتة محرزة لشرط التذكية الشرعية الموجبة لجواز الأكل، لا أن أصالة عدم التذكية حاكمة عليها.
ونظير ذلك ما إذا شككنا في حلية وطئ امرأة قد عقدنا عليها من جهة الشك في حلية وطئها ذاتا بسبب الشك في أن النسب الفلاني أو الرضاع الفلاني المتحققين بين المرء وبينها موجبان للحرمة الدائمية، أو لا.
فنقول: قد جعل الشارع العقد سببا تاما لجواز الوطء في المحللات الذاتية، وهو محرز بالفرض، وأما الحلية الذاتية فبأصالة الحل والإباحة، وهذا يجري في الشبهات الموضوعية - أيضا - مثل ما إذا ذبحنا حيوانا في
الظلمة، وشككنا في أنه كلب أو شاة، أو عقدنا على امرأة، وشككنا في أنها من المحارم أو أجنبية، فشككنا في حلية الأكل وجواز الوطء لذلك، فعلى ما ذكره - قدس سره - لا يجوز الأكل والوطء لعدم إحراز شرط التذكية والعقد، وهو قابلية المحل، فيستصحب عدم التذكية وعدم تأثير العقد، وعلى ما ذكرنا يجوز كل منهما، لإحراز السبب التام في نفسه، وبأصالة الحلية الذاتية يحرز الشرط، فإن قوله عليه السلام: «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام» (1) يقضي بحلية المشتبه، فإذا حل أثر السبب أثره.
هذا، لكن يتجه عليه: أن أصالة الحل ليست من قبيل الاستصحاب تحرز بها الشروط، بل إنما هي حكم ظاهري لمشتبه الحلية الذاتية، بمعنى أنها حكم من الشارع على حلية ما شك في أنه حرام ذاتا أو حلال كذلك، وهذا الحكم ثابت للمشتبه بعنوان الاشتباه، ولا يصلح لإحراز الإباحة الذاتية فإن الشارع لم يحكم في مورد الاشتباه بالبناء على الحلية من حيث ذات الشيء، بل حكم به بعنوان [أنه مشتبه] (2).
102

هذا، بخلاف موارد الاستصحاب إذا كان مقتضاه الحلية - مثلا - فإنه حكم بها بعنوان كونه هو الواقع، فعلى هذا فالشروط مشكوك فيه، فيستصحب عدم التذكية وعدم تأثير العقد.
ويمكن أن يقال: إن قابلية المحل ليس معناها حلية الحيوان أو حلية وطئ المرأة بعد الذبح أو العقد، وهي محرزة بأصالة الحل والإباحة، ولا فرق بين الشك في حلية شرب التتن وبين حلية حيوان يشك في قبوله التذكية أو جواز وطئ امرأة يشك في تأثير العقد فيها، إلا من حيث إن الشك في الأول في الحلية مطلقا - وعلى جميع التقادير - وفي الأخيرين على تقدير وجود السبب المحل المؤثر فيه على تقدير قابلية المحل، فإن الحرمة فيهما ثابتة ومعلومة بالنسبة إلى سائر التقادير، وإنما الشك في الحلية مختص بذلك التقدير الخاص، وهذا لا يصلح لكونه فارقا للموردين، فإن مناط الحكم بالحلية في الأول هو الشك فيها، وهو موجود في الأخيرين على بعض التقادير.
لكن يدفع ذلك أيضا: أنه فرق بين الشك في حلية شيء عن سبب وبين الشك في حليته مطلقا، فإن المحلل على الأول هو السبب مع اجتماعه مع الشرائط الشرعية المعتبرة في تأثيره، فإذا شك في شرط من شروطه يكون (1) الأصل عدم تحقق السبب الشرعي، فيكون هذا حاكما على أصالة الحل.
قوله - قدس سره -: (كما ادعاه بعض) (2)
العموم المدعى الظاهر أنه ما يأتي من الآية والرواية:
أما الآية فهي قوله تعالى: قل لا أجد... (3) إلى آخره، وأما الرواية
103

فهي قوله عليه السلام: «ليس الحرام إلا ما حرم الله...» (1)، ومورد السؤال فيها إنما هو جواز أكل بعض أصناف السمك، والظاهر منها أنه ليس الحرام إلا ما حرم الله في الكتاب، فيكون مفادها مفاد الآية، فكل شيء لم يكن مما حرم الله في الكتاب يحكم بحليته واقعا بمقتضي العموم، فيحرز به الإباحة الواقعية التي هي شرط تأثير التذكية.
قوله - قدس سره -: (وحينئذ فيحكم الجاهل بما يحكم به عقله) (2)
أي حين لم يفت المجتهد بشيء من الاحتياط والبراءة - حتى يكون هو المستند للجاهل المقلد - فيكون حال الجاهل مثل فاقد المجتهد في الدنيا، فيعمل - حينئذ - بما يحكم عقله، فإن قول الأخباري بأن العقل يحكم بكذا، أو قول المجتهدين بأنه يحكم بكذا - حينئذ - إخبار عن حكم العقل، والجاهل - أيضا - من أهل العقل، فالمعتمد عقل نفسه، لا عقل غيره، وأمر الأخباري إياه بالاحتياط من باب الإرشاد لا يلزمه عليه (3)، إذ الأمر الإرشادي لا يكون حجة عليه شرعا، وإنما الحجة هو فتواه واعتقاده القائم بنفسه، والمفروض عدمه.
نعم يمكن أن يكون قول الأخباريين أو المجتهدين معينا لعقله وإدراكه، كما في المعلم بالنسبة إلى المتعلم فإن المتعلم لا يقلد المعلم في المطالب، إلا أنه يستعين من المعلم (4) فيها، وكثيرا يكون قول المعلم معينا له على إدراك مطلب.
وظيفة الجاهل عند عدم إفتاء المجتهد بالاحتياط
قوله - قدس سره -: (وربما يتوهم: أن الإجمال إذا كان في متعلق الحكم - إلى قوله -: كان داخلا في الشبهة في طريق الحكم، وهو
104

فاسد) (1)
منشأ التوهم المذكور: أنه إذا كان الإجمال في متعلق الحكم كان منشأ الشك هو الجهل بوضع اللفظ، وبأنه هل وضع لمعنى يشمل مورد الشك، أو لا؟ وهذا الجهل مما يرتفع بالسؤال عن العالمين (2) بالوضع، وليس من شأن الشارع رفعه، فيكون داخلا في الشبهة الموضوعية، فيجري فيه ما يجري فيها من جواز الرجوع إلى أصالة البراءة وعدم وجوب الفحص.
وبالجملة: الشك في الحكم ناشئ عن الشك في الوضع، فالشك حقيقة في الوضع، ورفعه من شأن العالم به.
وأما وجه الفساد: أن معيار الشبهة الحكمية أن يكون رفع الشبهة من شأن الشارع كما أن معيار الموضوعية أن يكون رفعها من غيره، كما يعترف به المتوهم، ولا ريب أنه إذا شك في الحكم بواسطة الشك في متعلقه، ولم يتمكن من السؤال عن وضع اللفظ، فعليه أن يسأل الشارع عن مراده: بأني لم أفهمه، ولا ريب أن بيان مراد الشارع من شأن الشارع.
وبالجملة: الشك وإن كان مسببا عن الشك في وضع اللفظ، لكنه شك في مراد الشارع، وشأنه رفعه. نعم السؤال عن الوضع (3) مع تمكنه يكفي عن السؤال من الشارع.
والحاصل: أن مناط الشبهة الحكمية أن يكون الشك في مراد الشارع، وهو حاصل في المقام.
قوله - قدس سره -: (وإن حكم أصحابنا بالتخيير أو
105

الاحتياط... إلى آخره) (1)
هذا دفع للإشكال الثاني وهو مخالفة عملهم لقولهم في المسألتين.
قوله - قدس سره -: (لا لمقتضى نفس مدلولي الخبرين) (2)
يعني لا لمقتضى الأصل الأولي بالنظر إلى نفس مدلولي الخبرين، بل بالنظر إلى الأصل الثانوي المستفاد من الأخبار، وهو التخيير على قول الأكثر أو غيره على حسب اختلاف الأقوال.
قال - دام ظله -: يشكل الجمع بين حكمهم بالتخيير - ولو من جهة الأخبار - وبين حكمهم بتقديم المخالف للأصل من الخبرين ولو بالنظر إلى الأصل الأولي، فإنه إذا كان مخالفة الأصل من المرجحات لأحدهما فلا يدخل المورد في اعتبار التخيير، فإن موردها صورة فقد المرجحات رأسا.
قوله - قدس سره -: (قد يأباه مقتضى أدلتهم) (3)
لأنهم عللوا تقديم الناقل على المقرر - في مسألة الناقل والمقرر - بأن الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج إلى البيان، ولا يستغني عنه بحكم العقل، وهذا التعليل عام شامل لصورة كون مقتضى الأصل البراءة من
الوجوب، فالتفصيل المذكور في التوجيه ينافي ذلك، والمشار إليه بقوله: (وهذا الوجه) (4) إنما هو الوجه الأول لدفع الإشكال الأول، لكن ظاهر العبارة موهم لأن المشار إليه هو الوجه الثاني لدفع الإشكال الثاني، مع أنه ليس بمراد قطعا.
عدم استناد الحلية إلى أصالة الحل
قوله - قدس سره -: (إلا أن الأمثلة المذكورة فيها ليس الحل فيها مستندا إلى أصالة الحلية... إلى آخره) (5)
106

توضيح المقال وتحقيق الحال على نحو الإجمال: أما في مثال الثوب والعبد فلأنهما إن لوحظا باعتبار اليد عليهما فهما محكومان بالحل، لكنه ليس مستندا إلى أصالة الحل، بل إلى اليد التي [هي] من الأمارات الشرعية، وإن لوحظا مع قطع النظر عنها فهما محكومان بحرمة التصرف فيهما - حينئذ - بمقتضى استصحاب بقاء تلك الغير في الأول، وبمقتضى أصالة الحرية الثابتة بقوله عليه السلام:
«الناس كلهم أحرار إلا من أقر على نفسه بالرق» (1) في الثاني، فإنهما حاكمان على أصالة الحل في موردهما لإخراجهما موردهما عن تحتها، وقد مر أنه إذا كان على المورد أصل موضوعي لا يجري فيه أصالة الحل والإباحة، فلا يكون شيء من المثالين مندرجا (2) في صدر الرواية المثبتة لأصالة الحل.
نعم المثال الأول - على بعض الوجوه - يمكن إدخاله (3) في صدر الرواية، فإن الشك في كون الثوب ماله أو مال الغير قد سرق منه له صورتان:
إحداهما: صورة العلم بكونه - سابقا - مال ذلك الغير الذي يحتمل الآن كونه ماله، ففي هذه الصورة الحلية مستندة إلى اليد كما مر، ومع قطع النظر فالحكم الحرمة لما مر.
وثانيتهما: صورة الشك في أنه مال الغير في السابق باحتمال أن يكون الثوب مصنوعا من مال نفسه، فحينئذ:
إن قلنا: إن موضوع الحلية في الأموال هو كون الشيء مالا للإنسان، وموضوع الحرمة فيها هو ما لم يكن مالا له.
فالحلية - حينئذ أيضا - مستندة إلى اليد، ومع قطع النظر عنها فالحكم الحرمة بمقتضى أصالة عدم كونه ماله، فبه يحرز موضوع الحرمة لكونه عدميا، ويترتب عليه الحرمة، ولا يعارضه استصحاب عدم كونه مال الغير، فإن ذلك
107

يصلح للمعارضة.
وإن قلنا: بالعكس، وهو أن موضوع [الحرمة] أمر وجودي، وهو كون الشيء مالا للغير، وموضوع الحل عدمي، وهو ما لم يكن مالا للغير.
فحينئذ وإن كان الحكم - مع قطع النظر عن اليد أيضا - الحلية لإحراز موضوع الحل بالاستصحاب، لكنها مستندة إلى الاستصحاب، لا إلى أصالة الحل، ولا يعارضه استصحاب عدم كونه مال نفسه، لأنه لا حكم له.
وإن قلنا: إن موضوع كل منهما أمر وجودي يتعارض (1) استصحاب عدم المالية من الجانبين، ويتساقطان.
فيكون المورد مجرى لأصالة الحل والإباحة، فالحلية ثابتة - مع قطع النظر عن اليد والاستصحاب - بمقتضى أصالة الإباحة، فإنها جارية في هذه الصورة: لعدم أصل موضوعي حاكم عليها حينئذ، فمورد جريانها هي هذه الصورة لا غير.
قال - دام ظله -: الظاهر أن موضوع كل من الحل والحرمة في الأموال [أمر] وجودي، كما يستفاد من الأدلة الشرعية، ويظهر للمتتبع فيها.
ومثل ما ذكرنا في الأموال يجري في الحيازات - أيضا - فإن من حاز شيئا، ثم شك في سبق يد عليه أصلا، أو سبق يد مسلم مع العلم بسبق اليد في الجملة، فإن قطع النظر عن اليد فالحلية مستندة إلى استصحاب عدم يد المسلم لا إلى أصالة الإباحة، فيحرز بذلك مورد الحيازة المملكة، وهو ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين، كما يستفاد من قوله عليه السلام: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو له» (2).
وأما مثال الزوجة المحتملة لكونها أختا أو رضيعة، فإن جهة الحلية فيها
108

منحصرة في استصحاب عدم تحقق النسب والرضاع، وإلا فمع قطع النظر عنه تكون محكومة بالحرمة جدا، لحكومة أصالة عدم تأثير العقد على قاعدة الحل حينئذ.
قال - دام ظله -: الحكم بالحلية في هذا المثال - فيما إذا كان منشأ الشبهة احتمال كون الزوجة أختا له أو غير الأخت من المحارم - من جهة الاستصحاب أيضا مشكل غاية الإشكال، فإنه لو فرض عدم علمه إجمالا بأخت له مرددة بين نساء، فحينئذ وإن كان يجري استصحاب عدم تحقق النسب الكلي، حيث إنه مسبوق بالعدم، لكن لا يثبت ذلك جواز النكاح على (1) تلك المرأة إلا بناء على الأصل المثبت الذي لا يقول هو - قدس سره - به، وأما استصحاب عدم تحقق النسب بالنسبة إلى تلك المرأة فلا يجري أصلا: لعدم الحالة السابقة له:
لأنها على تقدير كونها من إحدى الأنساب، فهي منها من أول وجودها، وعلى تقدير عدم كونها منها، فهي ليست منها كذلك، فلا يتعقل فيها أن تكون هي موجودة في زمان خالية عن النسب، وإن فرض علمه إجمالا بما ذكر فينحصر الاستصحاب في الثاني، وقد عرفت حاله.
وكيف كان، فلا تنطبق الأمثلة على صدر الرواية.
قال - دام ظله -: فيدور الأمر بين أن يجعل تلك الأمثلة قرينة على إرادة غير ما يظهر من الصدر، وبين جعل الصدر قرينة على إرادة معنى آخر من تلك الأمثلة.
ويمكن أن يقال: إنه يمكن أن يراد من الصدر ما يعم أصالة الحل بحيث لا ينافي تلك الأمثلة، فيكون المدعى - وهو ثبوت قاعدة الحل - داخل فيه.
قوله - قدس سره -: (وتوهم عدم جريان قبح التكليف بلا.
109

بيان... إلخ) (1)
منشأ توهم ذلك المتوهم أنه تخيل أن المراد بالبيان في تلك القاعدة هو بيان الشارع، فلذا زعم أنها مختصة بالشبهة الحكمية.
لكنه مدفوع بما مر سابقا: من أن المراد به إنما هو الحجة القاطعة للعذر، فما لم يتم الحجة لم يكن عقاب، فيقبح العقاب، والحجة في الشبهات الموضوعية هو العلم بالحرام تفصيلا أو إجمالا، وأما فيما فقد العلم بأحد الوجهين - كما هو المفروض في المقام - فلم يتم فيه الحجة، فيقبح المؤاخذة على تقدير مصادفته للحرام الواقعي بلا شبهة تعتريه.
قوله - قدس سره -: (ويمكن عدمه، لأن الحلية في الأملاك... إلخ) (2).
قال - دام ظله -: كان عليه - قدس سره -: أن يقول - بدل الأملاك -: الأموال، بأن يقول: لأن الحلية في الأموال... إلى آخر ما ذكره، إذ الملكية إنما هي علقة حاصلة بين الشخص والمال، بخلاف المالية، فإنها
صفة أصلية ثابتة للشيء في الواقع، مع قطع النظر عن الشخص، فإن معناه كون الشيء مما يقوم.
فعلى هذا فقوله: (في الأملاك) يعطي بظاهره أن الأشياء التي هي أموال للإنسان فعلا لا يجوز له التصرف فيها إلا بسبب آخر، وهو كما ترى، لأن الملكية - بعد إحرازها - من الأسباب المبيحة للتصرف، بل من أقواها.
التمسك بقوله (لا يحل مال) في الشبهة الموضوعية
قوله - قدس سره -: (ولقوله - عليه السلام (3) -: «لا يحل مال إلا من حيث أحله الله») (4).
110

قال - دام ظله -: الظاهر أن المراد إلا من حيث أحله الله في الكتاب.
ثم إن الاستدلال به مبني على أن يكون هو في مقام إنشاء الحلية، فيقال - حينئذ -: إنه علق الحل على أمر وجودي، وهو السبب الذي جعله الله سببا للحل في القرآن، فإذا لم يحرز سبب الحل فالشيء محكوم بالحرمة لأصالة عدم تحقق سبب الحل.
لكن الظاهر أنه تأكيد للخطابات الخاصة، لا تأسيس، ومعناه نظير قوله عليه السلام: «إنما الحرام ما حرم الله» (1) يعني الحرام منحصر فيما حرم الله في الواقع، فيكون إخبارا لا إنشاء، فيسقط عن الاستدلال.
ثم قال: إن بنينا أن موضوع كل من الحرمة والحل أمر وجودي، فيتعارض استصحاب عدم موضوع كل منهما مع استصحاب عدم موضوع الآخر، فيجري أصالة الحل - حينئذ - لعدم أصل موضوعي حاكم عليها.
وكذا نحكم بالحل - أيضا - إن قلنا بأن موضوع الحرمة أمر وجودي، دون موضوع الحل، بأن يقال: إن موضوعها مال الغير، وموضوعه ما لم يكن مالا للغير، فحينئذ نحكم - بمقتضى أصالة عدم كونها مالا للغير - بحليته، وإن قلنا بعكس ذلك فنحكم بالحرمة، لأصالة عدم تحقق موضوع الحل، فيحرز به موضوع الحرمة، ولعل المتأمل في الأدلة يجد أن موضوع كل منهما وجودي، فيجري أصالة الحل والإباحة.
ثم قال: ويمكن أن يقال - أيضا -: إنه قد يثبت في بعض الموارد حلية التصرف الملكي الذي هو أقوى التصرفات المالية من غير توقف على سبب، كما في باب الحيازات واللقطة، وإذا ثبت ذلك ثبت حلية سائر التصرفات بالأولى.
لكن الإنصاف اندفاعه: بمنع الأولوية لما ترى من جواز التملك في
111

اللقطة ابتداء مع عدم جواز التصرف فيها قبل التملك، بل يتوقف على السبب وهو التملك، فافهم.
قوله - قدس سره -: (ولو في الأمور العدمية.). (1)
وجه الترقي: أن الأمور العدمية مما ادعي الإجماع على اعتبار الاستصحاب فيها، فتكون هي أقوى موارد الاستصحاب.
قوله - قدس سره -: (والدليل عليه استثناء ما ذكيتم (2)... إلى آخره) (3)
قال - دام ظله -: استفادة كون موضوع الحل هو الأمر الوجودي، وكونه موضوع الحرمة هو الأمر العدمي، وهو ما لم يقع عليه التذكية الشرعية من ذلك الاستثناء موقوف على أن يكون مفاد الاستثناء كون موضوع الحكم في المستثنى منه أمرا متفصلا بعدم المستثنى، فيكون عدميا باعتبار فصله، فإذا أحرز ذاته بالحس - مثلا - كما [إذا] أحرزنا بالحس أن الشيء مما أكله السبع أو نطيحة أو متردية، وشككنا في أنه مذكى - أيضا - فيجري أصالة عدم التذكية، ويحرز بها فصله، فيحرز بها موضوع الحرمة بتمامه، وأما لو قلنا بأن مفاده التنويع - وأن معناه كون موضوع الحكم في المستثنى منه هو الذي (4) غير المستثنى (5) الذي هو الأمر الوجودي - فلا، بل يكون الأصل الموضوعي في كل من موضوعيهما معارضا بمثله في الآخر، فيجري أصالة الحل.
وكيف كان، فلا بد من التأمل في أن مفاده ما ذا؟ والمراد بقولنا: (مفاده)
112

أعم من العرفي، شامل للعقلي أيضا، فافهم.
إيراده على الحر العاملي
قوله - قدس سره -: (وقسم متردد) (1)
أقول: لا تردد في ذلك القسم، بل هو داخل في الشبهة الحكمية، فإن الشبهة فيه إنما هي لإجمال (2) موضوع الحكم، وهو الغناء والخبائث، بأنهما مفادهما ما يشمل الأفراد المشكوكة، أو لا، وقد مر أن الشبهة من هذه الجهة - أيضا - داخلة في الحكمية، وإن تخيل بعض دخولها في الموضوعية.
قوله - قدس سره -: (لم يصدق عليها أن فيها حلالا وحراما) (3)
غرضه أن الخبر المذكور وأشباهه غير صادقة على الشبهة التحريمية الحكمية، فإذا لم يصدق يكون (4) الاحتياط واجبا فيها لأخبار الشبهة الشاملة لها.
والحاصل: أن أخبار وجوب التوقف في مطلق الشبهة إنما ثبت تخصيصها في الشبهة الموضوعية بالخبر المذكور وأشباهه، وأما في أزيد من هذا فلا.
قوله - قدس سره -: (كأن مطلبه... إلخ) (5)
مراده: أنه كأن مطلب المحدث المذكور (6) ما مر من أن مقتضى ما دل على وجوب التوقف في مطلق الشبهة وجوبه مطلقا، لكن ثبت خروج الشبهة الموضوعية، وأما خروج الشبهة الحكمية فلا.
لكن لا يخفى ما في عبارته - قدس سره - من القصور في إفادة المراد، وكان عليه أن يقول: كأن مطلبه أن هذه الروايات وأمثالها إنما هي مخصصة لعموم
113

ما دل على وجوب التوقف في مطلق الشبهة بالنسبة إلى الشبهة الموضوعية لا غير.
قوله - قدس سره -: (وإلا فجريان أصالة الإباحة... إلخ) (1)
يعني أنه لو لم يكن مراده ذلك - وكان مراده أنه يجب الاحتياط في الشبهة الحكمية لعدم شمول تلك الأخبار المذكورة لها مع قطع النظر عن عموم ما دل على وجوب التوقف في مطلق الشبهة - لما كان له وجه أصلا، فإن ثبوت الإباحة والرخصة في الشبهة الموضوعية لا ينفي ثبوتها في الشبهة الحكمية - أيضا - ولو لدليل آخر، فلم يكن هذا بمجرده مع قطع النظر عن عموم ما دل على وجوب التوقف في مطلق الشبهة صالحا لإثبات وجوب التوقف في الشبهة الحكمية.
قوله - قدس سره -: (إلا أن الإنصاف أن دلالتها على الإباحة والرخصة أظهر) (2)
قال - دام ظله -: وجه الأظهرية كون أخبار التوسعة والتخيير أقل أفرادا من أخبار الشبهة، فإنه إذا كان أحد العامين من وجه عند التعارض أقل أفرادا من الآخر، فهو بالنسبة إلى مورد التعارض كالنص، والعام بمنزلة الظاهر.
وأما بيان كون التعارض بينهما من تعارض العامين من وجه: فلكونهما معا صادقين على الشبهة التحريمية - لأجل تعارض النصين - التي هي مورد تعارضهما، وصدق أخبار الشبهة على الشبهة التحريمية - لفقد النص
أو إجماله - بدون صدق أخبار التخيير عليها، وصدق أخبار التخيير على الشبهة الوجوبية والتحريمية - لتعارض النصين - بدون صدق تلك عليها، لأنها تدل على لزوم الاحتياط فيما أمكن فيه الاحتياط، وتلك الصورة لا يمكن فيها الاحتياط.
114

وأما أقلية أفراد أخبار التخيير من أفراد أخبار التوقف، فلأن الثانية شاملة للشبهة التحريمية مع فقد النص ولإجماله ولتعارضه، والأولى للصورة الثالثة فقط ولصورة دوران الأمر بين الوجوب والترحيم لتعارض النصين، فللثانية ثلاثة أنواع، وللأولى نوعان.
قوله - قدس سره -: (أن الشبهة في نفس الحكم يسأل عنها الإمام - عليه السلام.). (1)
يعني يجب أن يسأل عنها الإمام عليه السلام لأجل العمل، فإذا وجب السؤال عنها للعمل فنقول: إنه لا ريب [أن] العمل بالاحتياط لا حاجة فيه إلى السؤال بالضرورة، فيكون وجوب السؤال لأجل العمل بالبراءة والسلوك على مقتضاها.
والحاصل: أن الشبهة في طريق الحكم لا يجب السؤال فيها لأجل العمل مطلقا أصلا، بل يجب السؤال في الشبهة الحكمية لأجل العمل، وهو مختص بصورة العمل بالبراءة، فيتوقف العمل بها (2) على السؤال.
قوله - قدس سره -: (فإن طريق الحكم لا يجب الفحص عنه وإزالة الشبهة فيه) (3)
يعني أن وجوب السؤال على تقديره ليس لأجل خصوصية السؤال، بل من باب أنه من أفراد الفحص، فيكون وجوبه من جهة وجوب الفحص، والشبهة الموضوعية لما لم يجب فيها الفحص أصلا، فلم يجب فيها السؤال أيضا.
وأما الشبهة الحكمية فهي وإن كانت وجب فيها الفحص - والقائل بالبراءة أيضا يلتزم به، وإنما يعمل بها بعد الفحص، لكن لا يلزم من وجوب
115

الفحص وجوب خصوص السؤال إذا كان المفروض أن وجوبه من جهة أنه من أفراد الفحص.
نعم يجب السؤال - عند التمكن منه - من جهة أنه أقوى مراتب الفحص، وتحصيل أقوى مراتب الفحص لازم عند إمكانه، وأما مع عدم التمكن منه فلم تجب هذه المرتبة، بل يقتصر على أدون منها مما هو بطاقة المكلف.
قوله - قدس سره -: (على وجه لا يعذر الجاهل المتمكن من العلم) (1)
وهذا يختص بصورة المتمكن من السؤال، وأما بدونه فلا يتعلق التكليف بالواقع على هذا الوجه.
قوله - قدس سره -: (نعم يمكن أن يقال.). (2)
قال - دام ظله -: لا يخفى ما في هذه العبارة، فإنه في مقام التعليل، لأن الدليل المذكور أولى بالدلالة على وجوب التوقف والاحتياط في الشبهات الموضوعية، فكان عليه - قدس سره - أن يقول - مكان قوله: نعم -: لأنه، إذ ليس المقام مقام الاستدراك، كما لا يخفى.
قوله - قدس سره -: (لاختلال النظام.). (3)
يعني نظام نوع العباد، فإنه إذا أمر الشارع عامة المكلفين بالاحتياط يلزم (4) من بنائهم على العمل به اختلال أمورهم، لكونه شاغلا لهم عن أكثر ما يتوقف عليه نظام أمورهم من التجارات والصنائع إن لم نقل بكونه شاغلا عن جميعها.
116

قوله - قدس سره -: (بل يلزم أزيد مما ذكره..). (1)
فإنه ربما يؤدي إلى اختلال النظام الشخصي بالنسبة إلى كل واحد واحد من المكلفين كما لا يخفى، بل إلى مفاسد أخر غير الاختلال، فإنه من موارد الاحتياط الأموال والفروج أيضا، ولا ريب أنه لو يبنى عليه فيهما يلزم الوقوع (2) في المحرم، وهو التفتيش عن عيوب الناس الذي هو مبغوض عند الشارع، ومخالف لغرضه، بل ربما يؤدي إلى العداوة والبغضاء بين الناس المخالفة لغرضه، بل ربما يؤدي إلى تلف النفوس والأعراض كما لا يخفى، فإنه إذا أراد أحد تفتيش حال آخر فلا ريب أنه يكون موجبا لبغضه له، فربما يحمله هذا على هتك (3) عرض المفتش أو قتله.
قوله - قدس سره -: (لأن تحديده في غاية العسر) (4)
قال - دام ظله -: بل لا يمكن، فإنه مما لا يعلم إلا بعد وقوعه.
وأما تحديده بالظن فقال - دام ظله -: هو أيضا كذلك، فإنه في غاية التعسر، فلا يمكن تحديد الاختلال علما أو ظنا بحسب الموارد.
قوله - قدس سره -: (فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات) (5)
قال - دام ظله -: هذا التبعيض جيد إلا أنه قد يصادف المظنونات بعض الموارد التي يلزم الاختلال من العمل بالاحتياط فيها مع الاقتصار عليها أيضا،

(1) قال - دام ظله -: لا حسن للاحتياط - حينئذ - لا عقلا ولا شرعا، بل الاحتياط تركه، ففي الحقيقة إذا عارضته جهة أقوى منه يخرج (أ) هو عن موضوع الاحتياط، ولا يتحقق له موضوع أصلا.
117

كما في الأموال والفروج، ولذا عللوا اعتبار سوق المسلم ويده بأنه لو لا [ه] لما بقي للمسلمين سوق، هذا مضافا إلى محاذير أخر تلزم في تلك الموارد من العمل بالاحتياط، كما أشرنا إليها.
ومن هنا ينقدح الإشكال في التبعيض بحسب المحتملات أيضا، فإن الفروج وحقوق الناس وأموالهم هي مادة الإشكال المتقدم.
قوله - قدس سره -: (وفيه: أن مساقها التسهيل.). (1)
قال - دام ظله -: يمكن منع ذلك بناء على حرمة التفتيش عن عيوب الناس، ولعله الظاهر، وأن غرض الشارع تعلق بسترها، والاحتياط في مثل حرمة المعقودة مستلزم للتفتيش عن عيوب الناس، بل هو عينه، فيكون الاحتياط بترك الاحتياط، ويكون التوبيخ في محله.
قوله - قدس سره -: (فهو إنما يقدح في وجوب الاحتياط، لا في حسنه.). (2)
قال - دام ظله -: هذا مبني على أن الاختلال كالعسر إنما هو مانع عن وجوب الاحتياط، لا عن حسنه، وذلك يتم على القول بعدم كون الاختلال مبغوضا ذاتيا للشارع، بحيث يكون غرضه متعلقا بعدمه، وإلا فمع فرض كونه كذلك - كما لعله الظاهر - فلا يتحقق في مورده موضوع الاحتياط، فضلا عن حسنه، كما أشرنا إليه.
بيان رأي المحدث الحر العاملي
قوله - قدس سره -: (لكنه - قدس سره - في مسألة وجوب الاحتياط قال... إلى آخره) (3)
118

قال - دام ظله -: يستفاد مخالفة المحدث المذكور - قدس سره - في المقام من موضعين من كلامه:
أحدهما: تمثيله لصورة إجمال النص - التي أوجب الاحتياط فيها - بتردد بين الوجوب والاستحباب. فإن ذلك ظاهر في الاحتياط الواجب فيما لا نص فيه - أيضا - أعم من الشبهة التحريمية، شامل للشبهة الوجوبية أيضا.
وثانيهما: قوله: (ومن هذا القسم ما لم يرد فيه نص من الأحكام التي لا يعم به البلوى) (1)، فإن ذلك ظاهر بعمومه للمقام، لكن كلماته الاخر لا تنافي أصالة البراءة في المقام.
وكيف كان، فيكفي في الدلالة على مخالفته تمثيله المذكور.
ثم إنه - دام ظله - قال: قول المحدث - قدس سره -: (ومن هذا القسم ما لم يرد فيه نص... إلى آخره) لا يلائم ما قبله، فإنه ليس مثالا لما لا نص فيه، بل هو عينه.
ثم قال: ولعل العبارة المذكورة فيها سقط، فلا بد من مراجعتها في الدرر النجفية (2).
قوله - قدس سره -: (للحسن والقبح الذاتيين) (3)
قال - دام ظله -: ليس المراد بالذاتي هنا ما لا يتخلف عن الشيء، بل المراد به الثابت للشيء قبل الشرع.
وبعبارة أخرى: إن المراد [به] الحسن والقبح الواقعيان الثابتان للشيء مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه، ويقال لهما: العقليان، كما عبر بهما شيخنا الأستاذ - قدس سره - في كلامه الآتي.
119

وجه توصيفهما بذلك: أنهما مقابلان لما يقول به الأشاعرة - المنكرين لهما - من الحسن والقبح الشرعيين: أي الحاصلين بأمر الشارع ونهيه، فإنهم يقولون:
إن الشيء لا حسن فيه إلا بأمره، ولا قبح فيه إلا بنهيه، فالأمر والنهي جاعلان للحسن والقبح، لا كاشفان عنهما.
قوله (قدس سره): (وكذا عند من يقول بها ولا يقول بالحرمة والوجوب الذاتيين) (1)
المراد بكون الحرمة والوجوب ذاتيين أن كل ما هو واجب أو حرام عقلا (2) فهو كذلك شرعا بمعنى الملازمة بين حكم العقل والشرع، فالمراد بمن يقول بالحسن والقبح العقليين ولا يقول بالحرمة والوجوب الذاتيين هو المنكر للتلازم بين العقل والشرع فيجوز بمقتضى مذهبه كون القبيح الذاتي مباحا بل واجبا وكذا كون الحسن الذاتي منهيا عنه ولا يلتزم بذلك ذو مسكة، ويمكن أن يكون مراده مجرد نفي التلازم لكن نقول بأن الشارع إذا أوجب شيئا فلا بد من حسنه الذاتي أو حرمة فلا بد من قبحه كذلك فافهم.
قوله (قدس سره): (وأوجبوا الاحتياط في بعض صوره) (3)
أي في بعض صور التوقف هذا لما مر (4) من أن التوقف أعم موردا من الاحتياط.
قوله (قدس سره): (لكن يعرف مذهبهم من أكثر المسائل) (5).

(1) المراد بالوجوب العقلي هو حكم العقل بلزوم العمل بالنظر إلى ما في الفعل من المصلحة وبالحرمة العقلية هو حكمه بترك العمل لما في الفعل من المفسدة. لمحرره عفا الله عنه.
(2) في بيان نسبة المحقق البهائي إلى الأخباريين مذاهب أربعة في المسألة الأولى من المسائل الأربعة فيما لا نصت فيه فراجع. لمحرره عفا الله عنه.
120

فإن المنع في كلماتهم في أكثر المسائل يجدي أن مذهبهم على العمل بالبراءة وأن استدلالهم بالاحتياط من باب تأييد دليل آخر.
قوله (قدس سره): (والحكم بالثواب هنا أولى) (1)
وجه الأولوية أن الأمر في جانب الثواب أوسع منه في جانب العقاب لأنه يكتفى في الثواب بأقل ما يوجب استحقاقه بخلاف العقاب، فإنه لا يكون إلا ببلوغ سببه الشدة والتأكد.
وإن شئت قلت إذا تحقق من المكلف سبب استحقاق الثواب يقبح من المولى عدم إعطائه إياه، هذا بخلاف ما إذا صدر منه سبب استحقاق العقاب، فإن العقاب منه حينئذ وإن لم يكن قبيحا إلا أن العفو عنه حسن.
قوله (قدس سره): (وفي جريان ذلك) (2).
يعني جريان الاحتياط.
قوله (قدس سره): (لأن العبادة لا بد فيها من نية التقرب) (3).
توضيحه: أنه لا يتحقق في العبادات موضوع الاحتياط إذا لم يحرز أمر في مورده إجمالا أو تفصيلا، لأن معناه الإتيان بشيء يكون ذلك الشيء بحيث يصح قيامه مقام الواقع المشكوك فيه على تقديره واقعا وذلك لا يكون إلا إذا أتى بما ينطبق عليه ويكون من نوعه، فإذا فرض أن المشكوك إنما هو على تقديره من العبادات فلا بد حينئذ إذا أراد الاحتياط أن يأتي بما ينعقد عبادة منطبقة على ذلك المشكوك على تقديره لكن ذلك لا يمكن فيما نحن فيه، لأن العبادة تتوقف على العلم بالأمر تفصيلا أو إجمالا والمفروض عدمه أصلا ومعه لا يمكن إيقاع الفعل على وجه ينعقد عبادة حتى يصح قيامه مقام الواقع على تقديره فيكون
121

إدراكا للواقع على تقديره فيكون احتياطا، هذا بخلاف التوصليات، فإن الواقع فيها على تقديره قد تعلق الغرض فيه بذات الفعل كيف ما اتفق، ولا ريب أن الإتيان بذات الفعل يمكن ولو مع العلم بعدم أمر في الواقع أيضا فيكون المأتي به حينئذ منطبقا على المطلوب الواقعي على تقديره فيتحقق موضوع الاحتياط.
قوله (قدس سره): (بناء على أن هذا المقدار من الحسن العقلي) (1).
لا يخفى ما في هذه العبارة فإن الحسن إنما يدور مدار تحقق موضوع الاحتياط، وقد مر أنه لا يحصل إلا مع العلم بالأمر، فلو أتى بالفعل حينئذ لم يكن احتياطا فلم يكن حسنا، فكان عليه (قدس سره) الاقتصار على قوله منع توقفها إلى ما بعده وحذف قوله المتقدم إلى هنا، ومن هنا يتطرق المنع إلى قوله (قدس سره): وما ذكرناه من ترتيب الثواب... إلى آخره وقوله: ودعوى أن العقل إذا استقل بحسن هذا الإتيان... إلى آخره فإنه إذا لم يتحقق هنا موضوع الاحتياط فالعقل لا يحسن هذا الإتيان قطعا، بل يقبحه لكونه عبثا، وكذا لا يترتب عليه الثواب جزما حتى يقال إنه يوجب الأمر أو لا يوجبه.
أخبار من بلغه
قوله (2) (قدس سره): (عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
من بلغه عن النبي صلى الله عليه وآله شيء من الثواب فعمله كان له أجر ذلك... إلى آخره) (3)
قال دام ظله: البلوغ معناه الحقيقي هو الوصول فعلى هذا لا يصح نسبته حقيقة إلى العمل أو الثواب بمعنى الأجر، إذ لا يعقل وصولها إلى الشخص قبل وجودهما كما هو المفروض في الرواية بل لا يعقل ذلك بالنسبة إلى العمل بعد
122

وجوده أيضا، فإنه حينئذ صادر عن الشخص لا واصل إليه فعلى كل من الاحتمالين في لفظة شيء لا يصح إسناده إليه على سبيل الحقيقة فلا بد على كل منهما إما من حمله من باب المجاز العقلي وإما من التزام إضمار الخبر بأن يكون المعنى من بلغه خبر شيء من الثواب.
ثم المراد بالشيء يحتمل أن يكون هو عمل الخير الذي هو سبب لاستحقاق الثواب، فعلى هذا يكون المراد من الثواب ذلك أيضا وتكون كلمة (من) بيانية (1) ويكون المعنى من بلغه خبر شيء هو عمل الخير... إلخ.
ويحتمل أن يكون نفس الأجر على عمل الخير فتكون كلمة (من) تبعيضية لا محالة (2) ويكون المراد بالأجر المراد من الشيء، إما المقدار من الأجر أو نوع منه، كالحور والقصور أو غيرهما مثلا ويكون المعنى على هذا من بلغه خبر مقدار من الثواب أو نوع منه... إلى آخره).
وحاصل المعنى على الأول أنه من بلغه خبر ثوابية عمل وأن عليه أجرا فعمل ذلك العلم... إلخ. وعلى الثاني أنه من بلغه خبر نوع من الثواب والأجر أو مقدار منه، فالبالغ على الأول هو نفس خيرته العمل وكونه مما يثاب عليه من غير تعرض لأصل الثواب كما وكيفا، فيكون المتسامح فيه هو العمل كما هو المدعى، وعلى الثاني هو المقدار أو النوع بعد الفراغ عن خيرة العمل وكونه مما يثاب عليه، فعلى هذا لا تكون الرواية دليلا على المدعى، لكن الأظهر من الاحتمالين هو الأول بقرينة قوله (فعمله) فإن الظاهر أن الضمير فيه راجع إلى
الشيء نفسه فيكون هو المعمول ولفظ الثواب وإن كان ظاهرا في نفس الجزاء

(1) والظاهر من كلمة (من) الواقعة بعد المبهمات هو كونها بيانية. لمحرره عفا الله عنه.
(2) أما على تقدير إرادة المقدار فواضح وأما على تقدير إرادة الفرد فلأن كلمة (من) الداخلة على الجنس المفرد أيضا تبعيضية لا محالة مثل قولك فرد من الإنسان. لمحرره عفا الله عنه.
123

والأجر ويكون مقتضاه كون المراد من الشيء إما المقدار منه أو النوع منه، لكن ظهور الشيء بقرينة قوله فعمله أقوى، إذ على تقدير إرادة العمل منه يلزم التجوز في لفظ الثواب وعلى تقدير إرادة المقدار أو النوع من الثواب منه لا بد من إضمار لفظ (1) (على عمل) لتصحيح مرجع قوله فعمله ولا ريب أن المجاز أكثر من الإضمار فيتعين.
ويشهد لذلك أيضا إضافة الأجر إلى العمل، إذ لو كان المراد بالشيء المقدار أو النوع من الثواب لناسب أن يقال كان له ذلك الشيء.
ثم إن قوله عليه السلام في الخبر الثاني من بلغه شيء من الخير ظاهر في العمل، بمعنى أن لفظ الخير ظاهر فيه وكلمة من فيه يناسبه جدا كيف كان، لكن قوله عليه السلام فعمل به ظاهر في إرادة خبر الخير إما من لفظ الخير بأن يكون هو مستعملا في خبر الخير ومرادا منه ذلك، وإما بتقدير لفظ الخبر، ضرورة أن المعمول به إنما هو الخبر دون العمل، فإنه معمول لا معمول به ودون الثواب بمعنى الجزاء والأجر لكونه أيضا معمولا لا معمولا به وأيضا هو معمول لله سبحانه وتعالى، فإنه عمله تعالى ولا يصح نسبته إلى العبد من نسبة الفعل إلى فاعله كما هو مفاد الرواية. هذا، لكن قوله عليه السلام: (ما بلغه) لعله ظاهر في مقدار الثواب دون أصله.
قوله (قدس سره): (وأخرى بما تقدم في أوامر الاحتياط من أن قصد القربة مأخوذ في الفعل المأمور به بهذه الأخبار) (2)
وذلك لأن موضوعها إنما هو العمل بما بلغ احتياطا لإدراك الواقع على

(1) ويكون المعنى من بلغه خبر مقدار من الثواب أو نوع منه على عمل فعمل ذلك العمل كان له أجر ذلك العمل. لمحرره عفا الله عنه.
124

تقديره كما هو المصرح به في بعض تلك الأخبار ورود في بعضها أنه عمله طلبا لقول النبي صلى الله عليه وآله وفي بعضها التماس ذلك الثواب وهو الظاهر مما لم يصرح به أيضا، فإن قوله: (من بلغه شيء من الخير أو من الثواب فعمله) ظاهر في أنه عمله بداعي ذلك البلوغ بأن يكون الداعي إلى عمله هو مجرد احتمال الواقع الناشئ من البلوغ ويكون الفرض إدراكه على تقديره فحينئذ إما أن تكون تلك الأخبار مختصة بالعبادات أو يعم غيرها أيضا.
وكيف كان فهي داخلة فيها البتة وكلامنا أيضا فيها، وهذا لا يصح إلا بأن يكون البالغ هو الثواب الخاص مع ثبوت مشروعية أصل الفعل والأمر به حتى يكون الاحتياط لإدراك ذلك الثواب البالغ على تقديره فتكون تلك الأخبار منجبرة لذلك الثواب على كل تقدير، لأنه لو كان المراد بلوغ أصل العمل بمثل الخير الضعيف فلا ريب أنه لا يمكن أن يكون منشأ للقربة المعتبرة في العبادات المقومة لها فلا ينعقد الفعل حينئذ عبادة حتى يكون احتياطا ومدركا للواقع على تقديره ولا يعقل أيضا أن تكون هذه الأخبار منشأ للقربة المثوبة فيها لاستلزامه الدور كما لا يخفى، حيث إن موضوعها الاحتياط فهي متوقفة على تحققه قبل ورودها، فإذا كان تحققه متوقفا على ورودها يلزم الدور فلا بد حينئذ من حملها على ما إذا ثبت الأمر بالفعل في نفسه لكن يشك في مقدار المثوبة مع بلوغ مقدار منه عليه فتكون هي مثبتة لذلك المقدار الموعود بالبلوغ لا شرعية أصل الفعل.
قوله (قدس سره): (وثالثة بظهورها فيما بلغ فيه الثواب المحض لا العقاب محضا أو مع الثواب) (1)
قال دام ظله: لما كان الكلام في احتمال الوجوب الناشئ بالخبر الضعيف
125

البالغ به فيقال حينئذ إن الأخبار المذكورة مختصة بمقتضى ظاهرها بما إذا بلغ الثواب المحض كما إذا أقام خبر ضعيف مثلا على استحباب شيء فلا يشمل ما إذا بلغ العقاب المحض كما إذا قام خبر ضعيف على وجوب شيء وقلنا بأن العقل لا يستقل باستحقاق الثواب على امتثال الواجبات، فإنه حينئذ يدل التزاما على استحقاق العقاب على ترك ذلك الشيء من غير دلالة على الثواب أصلا ولا ما إذا بلغ الثواب والعقاب معا كما إذا قام خبر ضعيف مثلا على وجوب شيء وقلنا بأن العقل مستقل باستحقاق الثواب على امتثال الواجب أيضا كاستقلاله باستحقاق العقاب على مخالفته، فإنه حينئذ يدل التزاما على الثواب على فعل ذلك الشيء وعلى العقاب على تركه، فالبالغ حينئذ هو الثواب والعقاب معا لا الثواب المحض.
والحاصل أن الظاهر منها أن يكون البالغ هو الثواب من غير أن يكون معه بلوغ عقاب أيضا فلا يشمل صورة بلوغ العقاب المحض أو بلوغ كليهما معا.
قوله (قدس سره): (ويرد على هذا منع الظهور مع إطلاق الخبر) (1)
لا يخفى أن ظاهر العبارة موهمة بخلاف المقصود، فإنها بظاهرها تقضي أن المراد إطلاق تلك الأخبار بالنسبة إلى صورة بلوغ العقاب المحض أيضا مع أنه ليس بمراد له قطعا، وكان عليه أن يقول: ويرد على هذا منع كون البالغ في المقام وهو احتمال الوجوب الناشئ من الخبر الضعيف هو العقاب المحض لاستقلال العقل باستحقاق الثواب على امتثال الواجب، ومنع ظهور الأخبار في كون البالغ هو الثواب المحض، بل يعم ما إذا كان مع العقاب أيضا كما في المقام.
ولعل الداعي إلى عدم تفصيل الكلام وضوح بطلان كون البالغ في المقام هو العقاب المحض.
126

قوله (قدس سره): (ويرد ما قبله ما تقدم... إلى آخره) (1).
وهو أن تلك الأوامر المستفادة من أخبار التسامح إنما تعلقت بالعمل المجرد عن نية القربة لا بالاحتياط المتوقف تحققه في العبادات على نية القربة المتوقفة على الأمر قبل تلك الأخبار فحينئذ يمكن أن تكون تلك الأخبار منشأ للقربة في العبادات كما مر.
قوله (قدس سره): (لأن الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرعا على البلوغ وكونه الداعي على العمل (إلى قوله) ومن المعلوم أن العقل مستقل باستحقاق هذا العامل المدح والثواب) (2)
حاصله أن موضوع هذه الأخبار إنما هو العمل بما بلغ بداعي بلوغه لما ذكره (قدس سره) ولا ريب أن العمل على هذا الوجه موجب لاستحقاق فاعله الثواب ولو لم يكن هناك أمر أصلا فإنه من الانقياد والإطاعة الحكمية فلا يكشف حينئذ ثبوت الثواب عليه بهذه الأخبار عن الأمر الشرعي بها لاحتمال كون تلك الأخبار مؤكدة لحكم العقل، فإنه إنما يصح التمسك بثبوت الثواب على عمل على الأمر الشرعي به إذا لم يكن ذلك العمل في نفسه موجبا لاستحقاقه أصلا، وأما إذا كان كذلك كما هو المفروض فورد خبر على ثبوت أصل الثواب عليه أو على ثبوت مقدار خاص منه فلا يكشف ذلك عن الأمر به شرعا.
أما إذا كان منشأ لأصل الثواب فواضح، حيث إنه مؤكد لحكم العقل به وهو لا يلازم طلب الشارع استحباب وإن كان يلازم طلبه إرشادا، حيث إن كل عاقل فضلا عن الشارع الحكيم إذا علم بوجود نفع في شيء لأحد يطلب منه ذلك إرشادا.
127

وأما إذا كان منشأ لمقدار منه فهو وإن لم يكن حينئذ مؤكدا لحكم العقل لعدم استقلاله بمرتبة خاصة من الثواب إلا أنه أيضا لا يلازم الاستحباب لاحتمال أن يكون ذلك من باب التفضل ويكون ذلك الخبر وعدا من الله عليه تفضلا واللازم من ذلك أيضا هو الأمر الإرشادي.
قال (دام ظله):
إذا كان الدليل حينئذ منشأ للمقدار لا ينحصر محمله في التفضل، بل يمكن أن يقال إنه يحتمل أن يكون هذا العمل على ذلك الوجه في الواقع موجبا لاستحقاق هذا المقدار الخاص البالغ لكن العقل لا يدركه وإنما الشرع كشف عنه، هذا.
وكيف كان فمن هنا تبين بطلان قياس ما نحن فيه بقوله عليه السلام:
(من سرح لحيته فله كذا) فإن سرح اللحية ليس في نفسه موجبا لاستحقاق الثواب أصلا بل كونه موجبا له إنما هو بأن يكون قد أمر به وأتى به لداعي هذا الأمر حتى يدخل في عنوان الامتثال ليكون موجبا له وليس هو نظير ما نحن فيه، لعدم صدق الانقياد عليه.
هذا حاصل ما أفاده قدس سره.
أقول: استقلال العقل باستحقاق هذا الفاعل الثواب كما ادعاه (قدس سره) إنما يتجه بناء على كفاية احتمال الأمر في تحقيق موضوع العبادة التي محط نظرنا في المقام حتى يتحقق موضوع الاحتياط والانقياد أيضا.
وأما بناء على عدم كفايته وتوقف موضوع العبادة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا فلا وجه لدعوى استقلال العقل بذلك لعدم تحقق موضوع الانقياد حينئذ وقد عرفت أن الظاهر بل الصريح من كلماته (قدس سره) المتقدمة أن الفعل بداعي الاحتمال موجب لاستحقاق الثواب والمدح وإن لم يكن احتياطا.
128

وقد عرفت ما فيه أيضا.
والظاهر أن قوله هنا أيضا ناظر إلى ذلك لا إلى كفاية الاحتمال في تحقيق موضوع العبادة فافهم.
وكيف كان فالتحقيق ما أفاده دام ظله من أنا إن قلنا بتحقق موضوع الانقياد في المقام نفعل ما يحتمل الوجوب بداعي الاحتمال بأن يكون الإتيان بداعي احتمال الأمر كافيا فيه كما هو الظاهر فلا يصح التمسك بتلك الأخبار لما مر.
وأما إذا بنينا بتوقفه على العلم بالأمر تفصيلا أو إجمالا كما اختاره (قدس سره) سابقا فيصح التمسك بها حينئذ لأن هذا العمل على هذا نظير سرح اللحية من غير فرق بينهما أصلا، لكن لما اخترنا كفاية الاحتمال فيه فتسقط هي عن الاستدلال.
قوله (قدس سره): (ولا يترتب عليه رفع الحدث فتأمل) (1)
الأمر بالتأمل لعله إشارة إلى أن الوضوء قد ثبت استحبابه في نفسه فحينئذ إن ورد أمر آخر به فهو إنما يكون غيريا يفيد شرطيته لغاية واجبة أو مندوبة ومن المعلوم أنه لم تتعلق تلك الأوامر الغيرية إلا به بعنوانه الراجح الذي هو جهة استحبابه النفسي، فلا بد في إتيانه لغاية مشروطة من قصد جهة استحبابه النفسي لا محالة، فيكون إتيانه بتلك الجهة موجبا لانعقاده عبادة وصحيحة فيترتب عليه الطهارة البتة سواء تلك الغاية مما ثبت اشتراطه به بدليل معتبر أو غير معتبر، فإنه إذا كان ذلك بدليل غير معتبر فأراد إتيانه احتياطا فلا بد أن يأتي به بتلك الجهة وهذا موجب لانعقاده عبادة وصحيحا موجبا لرفع الحدث، فلا تظهر الثمرة بين القولين فيه.
129

قوله (قدس سره): (وإن قلنا بصيرورته مستحبا شرعيا) (1)
وذلك لوجوب المسح ببلة الوضوء وهي مختصة بما يكون في محل الوضوء من الماء دون الخارج عنه وإن استحب غسله كالمسترسل من اللحية هذا.
ثم إن هاهنا فائدة أفادها (دام ظله): وهي أنه هل يشرع الاحتياط في موارد احتمال الوجوب أو الاستحباب بحيث يستحق الثواب عليه إذا قام دليل ظني معتبر على عدم وجوب ذلك الشيء المحتمل للوجوب أو على عدم استحباب ذلك الشيء المحتمل للاستحباب أو لا؟ وذلك كما إذا قام على عدم وجوب السورة في الصلاة مثلا أو على عدم استحبابها مع احتمال كونها واجبة أو مندوبة في الواقع أو قام على وجوبها أو استحبابها مع احتمال عدم وجوبها أو استحبابها في الواقع فأراد المكلف الإتيان بالصلاة بدونها احتياطا لأجل ذلك الاحتمال، إما لتعذر إتيانه بها مع السورة مثلا أو لأنه لا يريد إتيانها معها بتشهي نفسه وتجريه، فقال دام ظله:
الحق فيه التفصيل بأنه إن قام دليل معتبر على وجوب شيء في العبادة فتجري ولم يأت بها من ذلك الشيء الثابت اعتباره بالدليل بتشهي نفسه لكن أراد الإتيان بها بدونه فلا يكون ذلك منشأ للثواب في شيء فإن مثل ذلك خارج عن الانقياد والاحتياط جدا، بل هو نظير اللهو واللعب وأما إذا اتفق تعذر الإتيان بها مع ذلك الشيء بحيث لو كان الواجب عليه واقعا هي مع ذلك الشيء لم يكن عليه شيء فأتى به بدونه حينئذ فالظاهر أن الحكم حينئذ هو الحكم فيما يأتي من صورة قيام الدليل على عدم شيء في العبادة أو على عدم استحبابه فأتي بها معه احتياطا فقال: أما في تلك الصورة أعني صورة قيام دليل معتبر على عدم وجوب شيء أو عدم استحبابه في العبادة أو مطلقا مع احتمال
130

وجوبه أو استحبابه فيها أو مستقلا ونفسا فأتى به المكلف احتياطا لذلك الاحتمال.
فإن قلنا: إن استحقاق الثواب على الاحتياط من اللوازم العقلية المترتبة عليه قهرا، بمعنى أنه مترتب عقلا على مجرد احتمال المطلوبية مع الإتيان بالمحتمل لأجل ذلك وليس مما يدخله الجعل أصلا، لاختصاص ذلك بما إذا كان رفع المجعول بيد الشارع بأنه إن شاء رفعه وإن شاء أثبته، فيكون الاحتياط في الصورة المفروضة منشأ لاستحقاق الثواب ومشروعا جدا.
وإن قلنا بأنه مما يمكن أن يدخله الجعل بمعنى أن العقل إنما يحكم باستحقاق الثواب ما لم يقل المولى بأني لا أعطي الثواب على فعل ذلك المحتمل للمطلوبية كما لعله الظاهر فلا يستحق عليه شيئا من الثواب أصلا لدخوله حينئذ على العمل مجانا فإن أعطاه شيئا فإنما هو إحسان محض.
هذا فيما إذا ثبت عدم إعطائه الثواب بطريق القطع ظاهر، وأما فيما إذا ثبت بدليل ظاهر معتبر فالظاهر أنه أيضا كذلك، لأن دليل اعتبار ذلك الظاهر منزلة منزلة القطع في آثار مؤداه، بل نقول إن الاستحقاق ليس له ظاهر وواقع بل واقعه إنما يتحقق إذا لم يقم في المورد حجة من المولى على عدم الثواب وهي حاصلة بذلك الدليل الظني المعتبر هذا إذا كان مفاد ذلك الدليل عدم إعطاء الثواب، وأما إذا لم يكن دليل كذلك، بل الموجود في المورد إنما هو الدليل الدال على عدم وجوب ذلك الشيء المحتمل للوجوب أو على عدم استحبابه فهل هو يفيد ما يفيد الدليل المذكور أو لا؟ وجهان:
أحدهما: أن مقتضى دليل اعتبار ظاهر هذا الدليل جعل مؤداه مقام المقطوع ومن المعلوم أنه إذا قطع بعدم الوجوب أو الاستحباب فلا يستحق بعمله شيئا على المولى أصلا.
131

وثانيهما: وهو الظاهر أن مقتضاه إنما هو جعل مؤداه منزلة ذات المقطوع لا يوصف كونه مقطوعا فحينئذ لا يقضي هو بنفي حكم احتمال الوجوب أو الاستحباب، فالظاهر استحقاق الثواب على العمل حينئذ ويدل عليه بناء العقلاء أيضا فراجع.
اختصاص أدلتها بالشك في الوجوب التعييني وعدمها
قوله (قدس سره): (أما لو شك في الوجوب التخييري والإباحة) (1)
يعني لو شك في كون شيء أحد فردي الواجب المخير أو مباحا لكن العبارة قاصرة عن ذلك، فإن ظاهر الشك في الوجوب التخييري إنما هو الشك في أصل الوجوب التخييري، بمعنى أن نشك في أنه هل ثبت عليه وجوب، تخييري بين أمرين أو لم يثبت شيء أصلا بل هما مباحان ومن المعلوم أن الشك في أصل الوجوب التخييري مجرى لأصالة البراءة بلا شبهة، فإن أحد هذين الأمرين لا إلى بدل في مقام الواجب التعييني كما لا يخفى وكذلك مجموع الفردين من الكلي المنحصر فيهما.
ثم إنه أراد بالوجوب التخييري أعم من الشرعي بقرينة جعله الشك في وجوب الشيء في ضمن كلي مشترك من أقسامه.
ثم إنه لا ريب إذا كان الشك في وجوبه في ضمن كلي مشترك فمن المعلوم حينئذ عدم وجوبه وإلا يرجع الشك إلى وجوب ذلك الكلي أو وجوب ذلك الفرد بالخصوص كما اعترف به (قدس سره) بقوله إذ ليس هنا إلا وجوب واحد مردد بين الكلي والفرد.
قوله (قدس سره): (فتعين إجراء أصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقن الوجوب) (2)
132

قال (دام ظله) ليست العبارة بجيدة، ضرورة أن ذلك الفرد ليس متيقن الوجوب وإنما هو المتيقن بكونه مسقطا للواجب المعلوم المردد بينه وبين الكلي المشترك.
ثم قال إن إجراء أصالة عدم سقوط الواجب المعلوم بذلك الفرد إنما يتجه بناء على عدم اعتبار أصالة البراءة في مقام الشك في الوجوب التعييني والتخييري حتى فيما إذا كان التخيير عقليا، لكن الظاهر اعتبارها حينئذ فحينئذ تكون هي حاكمة على تلك الأصل ومقتضاها حينئذ إسقاط الواجب المعلوم بفعل الفرد المشكوك فافهم، فإنه إذا نفى التعين بها فيكون المأمور به بمقتضاها هو الكلي ومقتضاه سقوطه بأي من الفردين.
وإن شئت قلت: إنه لما كان الشك في تعيين ذلك الفرد بالخصوص بحيث يلزم به ويعاقب عليه فمقتضى أصالة البراءة نفى التكليف عن خصوصيته فهو حينئذ ليس ملزما بتلك الخصوصية فيكون مخيرا حينئذ.
وبعبارة [أخرى] إن الواقع لم يتنجز على المكلف كيف كان، بل بمقدار لا يجوز مخالفته القطعية الحاصلة بترك الفردين جميعا وأما على نحو لو كان هو تلك الخصوصية فيتجه على المكلف فيعاقب عليه فلا، بمقتضى أدلة البراءة من العقل والنقل فلا يرد حينئذ أن أصالة البراءة لا تصلح لتعيين المكلف به بعد العلم الإجمالي به، بل شأنها نفي التكليف المشكوك فيه فافهم.
قوله (قدس سره): (وأما إذا كان الشك في إيجابه بالخصوص) (1)
يعني بأن نشك بعد القطع بوجود شيء آخر في الجملة في أن هذا أيضا واجب بالخصوص بالوجوب التخييري، بمعنى أن وجوب ذلك الشيء الآخر تخييري وهذا أحد فردي الواجب التخييري أو أن ذلك الشيء الآخر واجب
133

عينا فلا وجوب لهذا أصلا.
وبعبارة أخرى إن حال هذا الشيء مردد بين عدم الوجوب أصلا أو كونه واجبا تخييريا بأن يكون وجوب ذلك الفرد المعلوم وجوبه في الجملة تخييريا شرعا. والمراد بوجوب هذا الشيء بالخصوص هذا. وإنما عبر به لأنه مقابل لوجوبه في ضمن كلي مردد، إذ عليه لا يكون هو واجبا بالخصوص وإنما الواجب هو الكلي المردد هذا.
هذا بخلاف التخييري الشرعي فإنه على تقديره ثابت لهذا الشيء بالخصوص لا للكلي المردد بينه وبين الغير.
ثم إنه ربما يتخيل أن هنا ثلاثة حوادث يكون كل منها مشكوك الحدوث في نفسه وهي: وجوب هذا الشيء تخييرا، ووجوب ذلك الشيء المعلوم وجوبه في الجملة تخييرا، ووجوبه عينا، واثنان منها متلازمان، وهما: وجوب هذا تخييرا ووجوب ذلك الغير كذلك ولما كان المفروض العلم الإجمالي بوجود حادث في ذلك الشيء الآخر مردد بين الوجوب التخييري الملازم لوجوب هذا الشيء كذلك وبين التعييني الغير الملازم لوجوبه فيقع التعارض بين أصالة عدم وجوب ذلك الغير عينا وبين أصالة عدم وجوبه تخييرا وأصالة عدم وجوب هذا الشيء كذلك، فإن أصالة عدم الوجوب التخييري في هذا الشيء وفي ذلك لا تعارض بينهما بوجه بل متوافقتان إلا أن أصالة عدم وجوب ذلك عينا منافية لكل واحدة من هاتين بعد فرض العلم الإجمالي المذكور، فلا معنى للأخذ بأصالة عدم الوجوب التخييري في خصوص هذا الشيء فإنها في مرتبة أصالة عدم الوجوب العيني في ذلك الشيء الآخر، فلا يعقل أن يرخص الشارع في الأخذ بها دون تلك لعدم الترجيح كما أنه لا يعقل ترخيصه للأخذ بهما جميعا فإنه مستلزم للمخالفة القطعية.
لكنه مدفوع بأنه لو كان مفروض الكلام فيما إذا كان محل كل من تلك
134

الحوادث مغايرا لمحل الآخر كما إذا شك في ثلاثة أشياء بأن اثنين منها واجبان تخييرا أو أن الثالث واجب عينا بعد العلم الإجمالي بحدوث وجوب من الشارع في أحد تلك الأشياء فكان الأمر كما ذكر من أن أصالة عدم الوجوب التعييني في مرتبة كل من الأصليين الآخرين وهما أصالة عدم الوجوب التخييري في هذا وأصالة عدم الوجوب كذلك في ذلك، لكن مفروضة في صورة اتحاد مورد اثنان منها، إذ المفروض أن ذلك الشيء الآخر هل ثبت له الوجوب التعييني أو التخييري، فهذان الحادثان متحدان بحسب المورد في ذلك الشيء ولما كان المفروض العلم الإجمالي بوجود حادث في ذلك الشيء مردد بينهما فيعارض الأصلان الحادثان فيهما فيه لذلك ويتساقطان.
وأما أصالة عدم الوجوب التخييري في هذا الشيء المشكوك الوجوب رأسا فهي ليست في مرتبة أصالة عدم الوجوب التعييني لذلك الشيء، بل إنما هي في مرتبة أصالة عدم وجوب ذلك الشيء أصلا، المنقطعة بالعلم بوجوب ذلك الشيء في الجملة، فتكون هذه سليمة عن المعارض فيصح الأخذ بها.
وبعبارة أخرى إن الشك هنا في وجوب الأكثر بعد العلم بوجوب الأقل، إذ المفروض العلم بوجوب ذلك الفرد في الجملة والشك في وجوب هذا أيضا أو اختصاصه بذلك.
والحاصل أن أطراف الشك هنا ثلاثة خصوصيات وهي وجوبان تخييريان ووجوب عيني، متلازمة اثنتان منها وهما الأولان في الوجود ومتحدة اثنتان منها في مفروض البحث وهما الأخير وأحد الأولين فيكون الحال في المقام نظير ما إذا شككنا في إناءين في أنه هل وقع في كل منهما البول أو وقع الدم في أحدهما فقط هو هذا الإناء الخاص بعد العلم الإجمالي بوقوع أحد النجسين في هذا الإناء الخاص، بمعنى أنا علمنا أنه لو كان الواقع بولا لوقع في كليهما وإن كان دما وقع في هذا الإناء الخاص فكما أنه لا إشكال في نفي وقوع البول من الإناء الآخر
135

المشكوك النجاسة رأسا فكذلك نفي الوجوب التخييري عن الشيء المفروض كونه مشكوك الوجوب كذلك.
وبالجملة نحن إذا جعلنا وجوب هذا الشيء في عرض وجوب الشيء الآخر المعلوم الوجوب في الجملة فلا يمكن أن نقول إما هذا واجب وليس ذلك كذلك مع إمكان عكسه فيكون هذا الشيء مشكوك الوجوب بدوا فيجري في نفي وجوبه الأصل من غير معارضة بالأصل في الآخر لانقطاعه بالعلم.
وبعبارة ثالثة أن المشكوك الحدوث في هذا الشيء إنما هو أمر شخصي جزئي وهو الوجوب التخييري فإنا إذا شككنا في أن هذا الشخص هل حدث في هذا الشيء أو لا؟ ومقابل هذا المشكوك إنما هو الحادث المردد بين النفسي والتخييري في ذلك الشيء الآخر ولما كان قد علم انقلاب الأصل هناك بالعلم بوجود ذلك المردد فيبقي، الأصل في نفي هذا الشخص سليما عن المعارض فينفيه.
والشك في أن ذلك المعلوم الإجمالي هناك تخييري أو عيني شك آخر في مرتبة لاحقة على هذا.
وإن أبيت إلا عن معارضة أصالة عدم الوجوب التعيني هناك لأصالة عدم الوجوب التخييري فنقول: أن الغرض نفي ذات الوجوب عن هذا الشيء ومن المعلوم أنه لا أصل يعارض أصالة عدم ذات الوجوب فحينئذ لا يجوز لنا ترتيب الآثار المجعولة لعدم الوجوب التخييري لهذا الشيء وأما ترتيب لازم عدم ذات الوجوب فلا مانع منه.
ثم إنه قد عرفت أن المصنف (قدس سره) منع استصحاب عدم المنع كما مر في المسألة الأولى من مسائل الشبهة التحريمية فكان عليه أن يمنع من أصالة عدم الوجوب أيضا لعدم الفرق بينهما كما بينا عليه ثمة، والإنصاف ما يبنى عليه هنا لأن استصحاب عدم المنع أو عدم الوجوب عبارة عن عدم جعل قاطع في مرحلة الظاهر للعدم الأصلي الأولى وهو معقول ومشمول لأدلة الاستصحاب جدا.
136

قوله (قدس سره): (وأصالة عدم لازمه الوضعي وهو سقوط الوجوب المعلوم)
فيه ما مر من أنه إذا بنينا على جريان أصالة البراءة عن تعيين ذلك الفرد المعلوم وجوبه إجمالا مرددا بين التخييري والتعييني فهي حاكمة على أصالة عدم ذلك اللازم الوضعي بتقريب ما مر، فتدبر.
قوله (قدس سره): (إلا بالنسبة إلى طلبه) (1)
لكونه هو المشكوك دون لازمه الوضعي للعلم بثبوته.
قوله (قدس سره): (لكن الظاهر أن المسألة ليست من هذا القبيل) (2)
فإنها مختصة بما إذا [كان] ذلك المشكوك كونه واجبا تخييرا أو مباحا مسقطا للواجب التعييني مباينا لذلك الواجب الآخر المعلوم الوجوب كالسفر بالنسبة إلى الصلاة فإنه إذا فرض كون شيء فردا من كلي واجب يكون ذلك الواجب الآخر فردا منه فلا فإن ذلك الشيء يتصف بالوجوب حينئذ لا محالة فلا يعقل الشك في إباحته من جميع الجهات.
ثم إن التخيل لما ذكر إنما هو الفخر (قدس سره) كما ينطق به آخر عبارته المحكية عنه وهو قوله: والمنشأ ان قراءة الإمام بدل أو مسقط. ومنشأ تخيله أنه لاحظ الإسقاط بين قراءة الإمام وقراءة المأموم مع أنه ليس كذلك، بل الصلاة جماعة مسقطة للقراءة عن المأموم وهي فرد من الصلاة الواجبة فالمسقط هي لا قراءة الإمام حتى يكون المسقط مباينا للواجب، فافهم.
قوله (قدس سره): (ثم إن الكلام في الشك في الوجوب الكفائي... إلى آخره) (3)
137

اعلم أن الشك في الوجوب الكفائي يتصور على وجوه:
الأول: ان نشك في أصله فحينئذ لا إشكال في جريان أصالة عدم الوجوب.
وأما أصالة [البراءة] فتختص جريانها بما إذا تعين مورد ذلك الواجب المشكوك فيه، فيه.
الثاني: ان نشك في تعيين مورده بعد العلم الإجمالي بثبوت وجوب كفائي مردد بينه وبين غيره بأن لم يكن هو أو صاحبه متيقن الدخول فيه فحينئذ لا تجري أصالة البراءة أيضا إلا فيما إذا لم يقم عليه صاحبه وأما أصالة عدم الوجوب فالظاهر جواز إجرائه في حق نفسه ولا يعارضه أصالة عدم الوجوب في حق صاحبه، فإنها لا حكم لها في حق الشاك فلا تصلح للمعارضة.
الثالث: أن نشك في دخوله فيمن ثبت ذلك في حقهم كما إذا صلى على جماعة وهو منهم وهو يعلم بكون غيره مقصودا بالسلام ولكن نشك في كون نفسه أيضا مقصودا فحينئذ جريان أصالة البراءة أيضا تختص بصورة عدم قيام غيره برد السلام، وأما أصالة عدم الوجوب فلا إشكال بوجه حينئذ في جريانها لعدم معارضتها بشيء أصلا فإن الشك فيه حينئذ بدوي كما لا يخفى (1)
قوله (قدس سره): (وكذا ما لو تردد فيما فات عن أبويه إلى قوله ومجرد عروض النسيان) (2)
لعدم توجه الأمر الأول إليه فيما على الأبوين من الفوائت بخلاف ما نحن فيه، هذا.
ثم إنه (دام ظله) قال الإنصاف أنه إذا كان النسيان مسببا عن
138

تقصير المكلف لعدم تحفظه لعدد ما عليه من الفوائت مع التفاته إلى اشتغال ذمته بها والتمكن من حفظها فالعقل لا يحكم بقبح العقاب حينئذ على القضاء المجهول بسبب النسيان عن تقصيره، بل الظاهر أنه يصحح عقابه على ترك ما عليه من القضاء الذي قد التفت إليه في زمان ولم يحفظه إلى أن نسيه فصار مجهولا عنده لذلك النسيان.
وهكذا نقول في مسألة الدين أيضا فإن من كان بانيا على الاستدانة من أحد كثيرا على نحو التدريج فلم يحفظ ما يأخذه في دفتر فعرض له النسيان فيما بعد شك في أن الدين عشرة دراهم مثلا أو عشرون فالعقل لا يقبح العقاب حينئذ على ترك أداء العشرين إذا كان هو تمام الدين في الواقع مع جهله به.
فإن قيل: إن هذا مناف لما اتفقوا عليه من عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية بل جواز إجراء أصالة البراءة من أول الأمر.
قلنا: الاتفاق في الصورة التي ذكرناها ممنوع، لوجود القول بما ذكرنا من كثير من الأعلام في قضاء الفوائت فيها كما عرفت، بل لم يقيد هؤلاء وجوب الاحتياط فيها بالتقصير كما فعلنا.
وكيف كان فالذي هو مناط وجوب (1) الفحص في الشبهات الحكمية بعينه موجود في الصورة المفروضة وهو علية الوقوع في مخالفة الواقع لو لا الفحص، والتحفظ هنا قائم مقام الفحص لعدم طريق للفحص بعد النسيان وإنما طريقه منحصر في التحفظ قبله فلا يعذر الجاهل المقصر التارك له مع تمكنه منه عند العقل في مخالفة التكاليف المجهولة عليه بسبب جهله المسبب عن تقصيره.
والحاصل أنا لا نجد فرقا بعد المراجعة إلى عقولنا في الحكم بعدم المعذورية في مخالفة التكليف المجهول على تقديره وكون احتماله سببا للتنجيز

(1) اعلم أن وجوب الفحص في الشبهات الحكمية عقلي لا غير لعدم معذورية الجاهل في مخالفة الواقع بدونه. لمحرره عفا الله عنه.
139

ومصححا للعقاب على مخالفته بين: ما إذا وصل طومار من مولى إلى عبده يحتمل العبد أن يكون لمولاه فيه أوامر ونواه بالنسبة إليه فلم يفتح الطومار ولم ينظر إلى ما فيه بل أتلفه وأحرقه أو غسله بالماء لئلا يعلم ما فيه، وبين من علم من مولاه بأوامر أو نواه موسعة أوقاتهما فلم يحفظ عددها إلى أن غاب عن ذهنه.
هذا ما يقتضيه العقل في المقام، وأما النقل فالذي يمكن أن يستدل به منه على البراءة فيه قوله صلى الله عليه وآله: (الناس في سعة ما لم يعلموا) وقوله صلى الله عليه وآله (رفع عن أمتي تسعة) بتقريب: أن ما لم يعلموا عام لما كان معلوما من قبل فصار مجهولا بعروض النسيان ولو مع ترك التحفظ، وبأن المقام داخل في إطلاق النسيان في الحديث الثاني، بل في عموم ما لا يعلمون أيضا فالحديثان يدلان على أن الله عز وجل قد رفع التكليف في المورد أيضا امتنانا على الأمة، لكن الإنصاف أن دون الاستدلال بهما خرط القتاد.. (1). مثل
المقام فافهم
قوله (قدس سره): (فتأمل) (2)
وجهه أن مراعاة الاحتياط في النافلة إنما هي على سبيل الندب فالذي يقتضيه الأولوية المذكورة ثبوته في الفريضة كذلك لا وجوبا وكون ذلك في النافلة بيانا لتدارك ما فات ولم يخص ممنوع، بل يحتمل أن يكون المراد بيان استحباب التدارك على هذا النحو.
قوله (قدس سره): (فإن في المسألة أقوالا ثلاثة) (3)
اعلم أولا أنه كان يحسن أن يقول بدل (فإن في المسألة أقوالا) ففي المسألة أقوال، فإن قوله: فإن ظاهر في كون ما بعده علة لما قبله مع أنه غير سديد كما لا يخفى وغير مراد قطعا.
140

وثانيا أن وجه عده الوجوه ثلاثة بملاحظة جعله وجوب الأخذ بأحد الاحتمالين بكلا قسميه قسما واحدا فلذا عطف أولا بعينه بكلمة أو دون الواو.
قوله (قدس سره): (والتوقف بمعنى عدم الحكم لشيء لا ظاهرا ولا واقعا) (1)
بمعنى عدم الحكم بأن الله قد أباح كلا من الفعل والترك ظاهرا أو واقعا، بل نقول إنه تعالى لم يبح شيئا في الظاهر وحكمه الواقعي أحد الأمرين من الوجوب أو الحرمة لكن العقل لما لاحظ أنه لا بد للمكلف من أخذ الفعل أو الترك وأنه لا يمكنه الجمع بينهما وتركهما جميعا فلا يتمكن من الاحتياط فحكم بأنه لا حرج عليه لا في الفعل ولا في الترك وإلا لزم الترجيح بلا مرجح.
وبالجملة فالعقل مستقل هنا بقبح المؤاخذة على شيء من الفعل والترك فيستكشف منه الغاؤه بكلا الاحتمالين بمعنى عدم تنجيزه شيئا منهما على المكلف لو كان هو الحكم المعلوم بالإجمال، ومناط حكم العقل على هذا إنما هو عجز المكلف من الاحتياط وعدم تمكنه منه مع بطلان الترجيح بلا مرجح، كما أن مناط حكمه بالبراءة الأصلية في الشبهات البدوية إنما هو صرف الجهل بالواقعة من دون النظر إلى عدم التمكن من الاحتياط، وكما أن مناط حكمه بالأخذ بأحد الاحتمالين لا بعينه في المقام على القول به إنما هو التحير فهو مخير في أول الأمر بين الأخذ بأيهما شاء إذا لم يكن أحدهما راجحا على الآخر وبعد الأخذ يلزمهم ما أخذه ولا يجوز مخالفته إذ يصير هو حينئذ على تقديره منجزا على المكلف وهذا هو الفرق بين التخيير والإباحة.
وأما إذا كان لأحدهما مرجح كما قد يدعى في المقام فيتعين الأخذ به بالخصوص دون التخيير.
141

ثم إن هذا الذي ذكرنا في معنى التخيير لا يفرق فيه بين العقلي والشرعي، إذ على الثاني إذا قال الشارع: أنت مخير بين الأخذ بأي الاحتمالين معناه أنه بعد الأخذ يتعين عليك ما أخذت به بمعنى أنه على تقدير عليك، وليست معذورا في مخالفته على تقديره فيكون قوله ذلك إنشاء لحكم ظاهري بالنسبة إلى الاحتمال الذي قد أخذ به، فإن كان هو الحرمة فيكون الفعل حراما عليه في الظاهر وإن كان الوجوب فيكون واجبا كذلك.
قوله (قدس سره): (لأنها مخالفة قطعية عملية) (1)
لا يخفى أن ذلك غير لازم في بعض صور ما إذا كان أحدهما المعين تعبديا، فإنه إذا كان أحدهما المعين تعبديا ففيه صورتان:
إحداهما: أن يقع العمل على طبق ذلك الذي هو على تقديره تعبدي لكن بدون نية القربة.
ثانيتهما: أن يقع العمل على طبق ما يكون على تقديره توصليا ولا ريب أن المخالفة القطعية إنما يلزم في أولى هاتين الصورتين لا غير.
وأما في ثانيتهما فهي احتمالية قطعا كما أن الموافقة معها أيضا احتمالية.
ومن هنا يظهر أنه لو كان أحدهما الغير المعين تعبديا لا يلزم المخالفة القطعية العملية أصلا وقد بينه (قدس سره) لذلك وإلا لم يذكره.
قوله (قدس سره): (والتخيير) (2)
هو في بعض النسخ مخطوط عليه. قال (دام ظله) وعلى تقديره لا بد أن يكون معطوفا بالعطف التفسيري على قوله أو لا بعينه، فإن معنى الأخذ بأحدهما لا بعينه هو التخيير وليس التخيير وجها مقابلا له.
142

قوله (قدس سره): (وليس العلم بجنس التكليف المردد بين نوعي الوجوب والحرمة كالعلم بنوع التكليف) (1)
لا يخفى أن العلم بجنس التكليف المردد بين نوعي الوجوب والحرمة ليس كالعلم بنوع التكليف إذا كان طرفا الترديد في ذلك الجنس المعلوم متعلقين بأمر واحد بأن يعلم أن ذلك الفعل واجب أو محرم كما هو مفروض البحث في المقام، وأما فيما إذا كان طرفاه متعلقين بأمرين متباينين كما إذا علم وجوب هذا الفعل أو حرمة ذلك الفعل الآخر فلا ينبغي الارتياب في كونه كالعلم بنوع التكليف من حيث كونه مقتضيا عقلا لوجوب الاحتياط.
وهذا القسم من الشبهة داخل في الشك في المكلف به كما قاله (دام ظله) وحكمه حكمه، ولعله يجيء منه (قدس سره) ما يشير إلى ما ذكرنا من اتحاد حكم هذا الحكم العلم بنوع التكليف، وعلى هذا فكان عليه تقييد ما ذكره هنا بصورة اتحاد متعلق طرفيه.
ثم إن مجمل الفرق بين العلم بجنس التكليف إذا كان طرفاه متعلقين بأمر واحد وبينه إذا كان طرفاه متعلقين بأمرين من حيث حكم العقل أن العقل إنما يحكم بكون الجهل عذرا رافعا للتكليف المستتبع للعقاب إلى ما لم يتم الحجة على المكلف من الشارع ومن المعلوم أن العلم بالجنس إذا كان طرفا الترديد فيه متعلقين بأمر واحد لا يصلح لقيامه حجة عليه في تنجز التكليف بالواقع وصحة المؤاخذة عليه لعدم قدرة المكلف على الاحتياط معه فيكون هذا العلم بمنزلة الجهل رأسا فيكون ذلك الجهل الموجود معه عذرا بحكم العقل.
هذا بخلاف ما إذا كان كل من طرفيه متعلقا بأمر غير ما تعلق به الآخر، فإن ذلك العلم الإجمالي حجة عليه حينئذ ولا يعذر معه في مخالفة المعلوم الإجمالي
143

لتمكنه من موافقته بحكم العقل وبناء العقلاء كافة فإنهم لا يفرقون بينه وبين ما إذا كان المعلوم نوع التكليف قطعا.
لا يتوهم إنا نقول أن مجرد التمكن من الاحتياط حجة قاطعة للعذر حتى يرد علينا أن مقتضى ذلك لزوم الاحتياط في الشبهات البدوية، بل المراد أن ذلك العلم الإجمالي منضما إلى إمكان الاحتياط حجة.
وبعبارة أخرى: إنه حجة بشرط إمكان الاحتياط معه.
وأما الفرق بين المقامين من حيث الأخبار فسيأتي الكلام فيه في الشبهة المحصورة إن شاء الله.
ويمكن الفرق بينهما من تلك الجهة أيضا بما ذكرناه.
وتقريره أن كل واحد من أخبار البراءة مغيا بعدم قيام الحجة فيشمل صورة كون طرفي العلم الإجمالي متعلقين بأمر واحد دون ما إذا كانا متعلقين بأمرين.
قوله (قدس سره): (فهو حاصل فيما نحن فيه) (1)
لا يخفى ما فيه من القصور، فإن مراده الموافقة العملية بالقدر الميسور وهو الاحتمالية منها فإنها هو القدر الممكن. وظاهر العبارة حصول الموافقة العملية القطعية.
قوله (قدس سره): (وليس حكما شرعيا ثابتا في الواقع) (2)
يعني ليس هذا النحو من الحكم الشرعي لا أنه ليس حكما شرعيا أصلا كما قد يتوهم.
والحاصل أن الحكم الشرعي قد يكون مما يمكن تطرق الجهل إليه بمعنى
144

كونه ثابتا في الواقع في حال الجهل وقد يكون مما لا يمكن فيه ذلك، بمعنى أن تحققه الواقعي لا يكون إلا بعد العلم الإجمالي بمتعلقه تفصيلا وما نحن فيه من قبيل الثاني.
وبعبارة أخرى: لا يوجد الحكم إلا بعد تحقق موضوعه ولما كان موضوعه فيما نحن فيه مأخوذا فيه العلم التفصيلي فلا تحقق له واقعا في صورة الجهل أصلا.
قوله (قدس سره): (إلا أن مجرد احتماله يصلح فارقا بين المقامين)
فإن استفادة حكم ما نحن فيه من حكم الشارع بالتخيير في مقام التعارض إنما هي من باب تنقيح المناط لا غير، ومن المعلوم أنه لا بد في تنقيح المناط من العلم بالمناط في الأصل.
فعلى هذا لو احتمل كون المناط فيه أمرا آخر غير مؤد في الفرع ولو بالاحتمال الموهوم لا يصح إجراء حكمه إلى الفرع.
ثم إن وجوب العمل بالخبر وإن لم يكن من باب السببية في غير صورة التعارض إلا أنه محتمل في تلك الصورة كالعلة يستفاد من بعض الأخبار الواردة في حكم تعارض الخبرين من قبيل قوله عليه السلام بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك.
145

بسم الله الرحمن الرحيم
رب زدني علما وعملا، وألحقني بالصالحين، ووفقني لما تحب وترضى بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وآله الطاهرين من ولده صلواتك عليهم أجمعين. يا معين الضعفاء ارحم ضعفي ومسكنتي وذلي وفقري وفاقتي.
في التعادل والترجيح
قوله - قدس الله نفسه الزكية -: (خاتمة في التعادل والترجيح) (1)
التعادل في الأصل: تساوي طرفي العدل ونحوه، والمراد به في باب الأدلة إنما هو تساوي الدليلين المتعارضين، وعدم مزية لأحدهما على الآخر.
والترجيح في الأصل: إحداث الرجحان والمزية في أحد شيئين متقابلين، والمراد به في باب الأدلة تقديم المستنبط أحد الدليلين المتعارضين على الآخر.
ثم إنه قد يعبر عنه في هذه المسألة بصيغة المفرد كما صنع المصنف. قدس سره -، وقد يعبر عنه بصيغة الجمع:
والظاهر أن مراد من أفرده إنما هو إطلاقه الشائع في باب الأدلة، وهو الذي عرفته، ويحتمل بعيدا إرادة جنس المزية القائمة بأحد الدليلين المتعارضين بعلاقة السببية.
وأما الذي عبر عنه هنا بلفظ الجمع فالظاهر أنه أراد به المزايا الجزئية، لمنافاة الجمعية لإرادة جنسها - كما لا يخفى - ولإرادة إطلاقه الشائع أيضا، إذ
147

لا يخفى أنه فعل المستنبط، وهو في حد ذاته واحد لا تعدد فيه.
نعم يمكن اعتبار تعدده باعتبار تكثر موارده، فإن كل تقديم وترجيح - في مورد لمزية - شخص مغاير لتقديم في مورد آخر لمزية أخرى أو بتلك المزية أيضا، فيرتفع به منافاة الجمعية، فيكون احتماله أقرب لكونه على تقديره إطلاقا حقيقيا، بخلافه على جنس المزية أو جزئياتها.
قوله - قدس سره -: (وغلب في الاصطلاح على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما) (1)
وجه التسمية: أن الدليلين المتعارضين كأن كلا منهما يظهر نفسه لصاحبه، ويبارزه ليدفعه، فيكون إطلاقه عليه من باب المجاز بعلاقة المشابهة.
قوله - قدس سره -: (ولذا ذكروا أن التعارض تنافي مدلولي الدليلين) (2)
ما ذكره - قدس سره - في تعريف التعارض أحسن مما ذكروه، إذ من المعلوم أن التعارض عنده وصف للدليلين لا لمدلولهما.
نعم منشأ تعارضهما وتنافيهما إنما هو كون مدلولهما على وجه يمتنع الجمع بينهما، فيلزمه تنافي الدليلين الدالين عليهما وتدافعهما، فالتدافع وصف قائم بالدليلين ناشئ عن وصف امتناع الاجتماع الحاصل في مدلولهما.
ثم إن النزاع في هذه المسألة: إنما هو بعد الفراغ عن ثبوت التعارض بين الدليلين، فيكون كبرويا، إلا أنه قد يقع الاشتباه في بعض الموارد الخاصة من حيث دخوله في تلك الكبرى وعدمه، مع عدم تعرضهم له أصلا، كما تعرضوا لخصوص الأمر والنهي - في مسألة اجتماع الأمر والنهي - فلم يكن بأس
148

بالتعرض له من هذه الجهة هنا لوجود المناسبة بين المقام وبينه في الجملة، فأشار إليه - قدس سره - بقوله (1): (ومنه يعلم أنه لا تعارض (2) بين الأصول وما يحصله المجتهد من الأدلة الاجتهادية.. إلى آخره).
ولما انجر الكلام إلى ذلك فالحري توضيح المرام فيه ببسط النقض والإبرام:
التعارض بين الحكم الواقعي والظاهري
فاعلم أنه ربما يتوهم التدافع بين الأصول العملية ومؤدى الأدلة الاجتهادية، وهي الأحكام الواقعية، ومورد توهمه إنما هو صورة تخالفهما، كأن يكون الأصل مقتضيا لوجوب شيء مع كون مقتضى الطريق الاجتهادي ضد الوجوب من سائر الأحكام، أو العكس.
وتوضيح وجه ذلك التوهم: أنه لا شبهة في تضاد الأحكام الخمسة بأسرها فيلزمها بينا امتناع [اجتماع] (3) اثنين منها في مورد واحد، فإذا كان حكم شيء في الواقع أحدا منها يمتنع (4) ثبوت غيره - أيضا - لذلك الشيء حال ثبوته له في الواقع ولو كان غيره حكما ظاهريا، ضرورة أنه - أيضا - بالنسبة إلى موضوعه واقعي، فإنه ثابت للمورد مع صدق موضوعه عليه واقعا، وتسميته بالظاهري ليس معناه أنه لا واقع له، بل إنما هو مجرد اصطلاح بملاحظة أنه يحدث في حق المكلف في مرحلة الظاهر مع جهله بالواقع الأولي الغير الملحوظ فيه شيء من وصفي العلم والجهل.

(1) لا يخفى أنه كان الأوفق التعبير بعدم المنافاة، لما عرفت أن التعارض وصف للدليلين، فلا يوصف به المدلول، ومن المعلوم أن مؤدى الأدلة الاجتهادية والأصول إنما هما مدلولان للدليل، لا أن كل واحد دليل. لمحرره عفا الله عنه.
149

فالفرق بينه وبين الحكم الواقعي: أنه قد اعتبر في موضوعه وصف الجهل بالحكم الواقعي أو بموضوعه الموجب للجهل به بالأخرة، بخلاف الحكم الواقعي، فإنه إنما علق على موضوع غير ملحوظ فيه شيء من وصفي العلم والجهل، بل يمتنع ذلك فيما إذا لوحظ العلم والجهل بالنسبة إلى نفس الحكم، لاستلزامه الدور، كما لا يخفى.
لكن مجرد هذا الفرق لا يصلح فارقا مع فرض اتحاد متعلقي الحكمين المتضادين، فإن الجهل الذي هو مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري إذا عرض في مورد فلا يعقل أن يصير ذلك المورد شيئين يكون أحدهما موضوعا للحكم الواقعي، والآخر موضوعا للظاهري، بل الشيء الذي له حكم من الأحكام الواقعية باق على وحدته مع الجهل، فإن الخمر المشكوك خمريتها أو حرمتها - مثلا - التي حكمها الإباحة في مرحلة الظاهر هي بعينها الخمر التي قد أخذت موضوعا للنهي الواقعي، فهي في جميع عوالمها وحالاتها (1) هي بعينها من غير اختلاف فيها بما يوجب خروجها عن موضوع النهي، والمفروض دوران النهي الواقعي مدارها نفيا وإثباتا، فإذا كان المفروض كون المائع المشكوك كونه خمرا خمرا في الواقع، فيكون النهي عنه ثابتا حال الشك، وهو ينافي ثبوت الرخصة في شربه في تلك الحال، فكيف بوجوب شربه؟ كما قد يقتضي الأصل ذلك.
فبالجملة: منشأ التنافي إنما هو اتحاد متعلقي الحكمين المتضادين، فلا فرق بين كون الحكمين واقعيين، أو ظاهريين، أو مختلفين، فالملتزم بجواز الاجتماع في المقام لا بد له أن يلتزم به في مسألة اجتماع الأمر والنهي - أيضا - ولو [كان]

(1) بمعنى أن تلك الحالات ليس شيء منها مشخصا لها حتى تكون هي بالنسبة إلى كل واحد منها من قبيل المطلق والمقيد، بل هي بالنسبة إليها مثل (زيد) بالنسبة إلى أحواله من القيام والقعود ونحوهما.
لمحرره عفا الله عنه.
150

السبب هنا تعدد جهتي الحكمين (1)، نظرا إلى ان الأحكام الواقعية ثابتة للشيء المشكوك الحكم بالنظر إلى ذاته من غير ملاحظة صفة الجهل أصلا، والأحكام الظاهرية ثابتة له بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي، فلا بد أن يلتزم بكفايته في رفع التنافي هناك - أيضا - إذ المفروض ثمة - أيضا - تعدد الجهة، ضرورة أن تعددها لو كان رافعا لاجتماع الضدين وكافيا فيه فلا يعقل اختصاصه بمورد دون آخر.
نعم فرق بين المقامين من حيث إن جهة كل واحد من الحكمين المبحوث عن امتناع اجتماعهما ثمة في عرض جهة الآخر كالصلاة والغصب، بخلاف المقام، ضرورة أن جهة الحكم الظاهري - كما عرفت - إنما هو الجهل بالحكم الواقعي للمورد، فلذا لا يعقل بقاؤه حال فعلية الحكم الواقعي، وهي حال العلم به، فيكون جهة الحكم الواقعي مقدمة على جهة الظاهري طبعا، ضرورة أن ذات الشيء الذي هو جهة الحكم الواقعي مقدم كذلك على الجهل بحكمه أو بنفسه، ضرورة تقدم الموضوع على الحكم كذلك.
لكنه لا يصلح فارقا بينهما: فإن الحكم الظاهري وإن لم يمكن تحققه حال فعلية الواقعي، لكن الواقعي متحقق مع فعلية الظاهري، فيلزم اجتماع الحكمين المتضادين في مورد واحد في آن واحد.
وأيضا (2) يقبح من الحكيم إيراد حكمين متضادين على المكلف في آن واحد بالنسبة إلى شيء واحد، فإذن يقع التعارض بين الخطاب الواقعي ودليل اعتبار الأصل، فلا بد إما من تخصيص الخطاب الواقعي بغير مورد الأصل، أو طرح الأصل رأسا، إذ لا يعقل تخصيص دليل اعتباره بصورة موافقته للواقع، ضرورة

(1) قولنا: (وأيضا... إلى آخره) إبداء لمانع آخر غير محذور اجتماع الضدين. لمحرره عفا الله عنه.
151

أن الأصل حكم مجعول في مرحلة الظاهر للمكلف في مقام العمل حال كون المكلف جاهلا بالواقع، ومتحيرا فيما يصنع، ومن المعلوم أنه على تقدير تعليقه وتقييده بموافقة الواقع لا يجدي في رفع تحيره في مقام العمل أصلا، إذ مع جهله بالواقع لا يمكن له العلم بموافقته له، فلا يعلم حينئذ كونه مأمورا بالعمل بالأصل، ولو فرض تمكنه من الاطلاع على الموافقة وعدمها فتفحص فاطلع على الموافقة لم يبق مورد للأصل حينئذ أصلا، إذ لا يعقل له مورد مع انكشاف الواقع.
هذا خلاصة الكلام في توضيح وجه امتناع اجتماع الحكم الواقعي مع الأصل المخالف له.
ولا يخفى أن ما ذكر من الوجه بعينه جار بالنسبة إلى مؤديات الطرق الظنية الاجتهادية المعتبرة، والأمارات كذلك، إذ من المعلوم أن مؤدى الطرق - أيضا - حكم ظاهري، وكذلك مقتضى الأمارات.
نعم فرق بين مؤديات الطرق والأصول من حيث إن الأولى إنما هي مجعولة بعنوان الطريقية والكشف عن الواقع، نظرا إلى أن مقتضى أدلة اعتبار الطرق البناء على كون مؤدياتها أحكاما واقعية، والتدين بها على هذا الوجه، والعمل عليها على أنها الواقع، بخلاف الأصول حيث إنها أحكام ظاهرية لا على ذلك الوجه.
لكنه لا يصلح فارقا بينهما - كما لا يخفى - ففي صورة مخالفة تلك الطرق والأمارات للواقع يجري ما مر في الأصول بعينه، والمصنف لم يتعرض لذلك، فالأحسن تعميم الكلام بالنسبة إليها، وتحرير الإشكال: بأنه يمتنع اجتماع الحكم الواقعي مع الظاهري المخالف له مطلقا - سواء كان من الأصول أو من مؤديات الطرق والأمارات - لما مر.
وأما دفعه على نحو العموم - أيضا -: فبأن الحكم الواقعي والظاهري قد يلاحظان في حد أنفسهما مع قطع النظر عن لوازم شيء منهما، بمعنى ملاحظة
152

نفس الإنشاءين، ومن المعلوم لكل أحد أنه لا تنافي بينهما بهذه الملاحظة بوجه، ضرورة إمكان اجتماع ذاتي الأمر والنهي في مورد ولو كانا واقعيين، فلا وجه لإطناب الكلام في دفع التدافع بينهما من هذه الجهة.
وقد يلاحظان بالنسبة إلى المكلف - بالفتح - وقد يلاحظان بالنسبة إلى المكلف، وقد يلاحظان بالنسبة إلى الفعل المكلف به، حيث إن لهما ربطا بكل واحد منهما، ولكل منهما لوازم بالنسبة إلى كل منها، ونحن لا نجد مانعا من اجتماعهما في شيء من تلك الاعتبارات.
وتوضيح ذلك يتوقف على التكلم في مقامات ثلاثة:
أحدها: في لوازم اجتماعهما بالنسبة إلى المكلف - بالفتح - وثانيها: فيها بالنسبة إلى المكلف به.
وثالثها: فيها بالنسبة إلى المكلف - بالكسر - أما المقام الأول: فخلاصة الكلام فيه: أنه لا شبهة في أنه لا يلزم من توجه الحكمين إلى المكلف في آن واحد شيء من محذوري اجتماع الضدين والقبح على الحكيم.
أما الأول: فلبداهة عدم التضاد بالنظر إلى المكلف بين حكمين، أحدهما شأني، والآخر فعلي - كما هو المفروض في المقام - فإن الأحكام الخمسة على تقدير تضادها فإنما هي متضادة مع اتفاقها في الوحدات الثماني المعتبرة في التناقض، وأما بدونه فلا، فإن أوضح مضادة من بين الأحكام إنما هو الوجوب والحرمة (1)، ومن المعلوم أنه لا امتناع في ثبوتهما في حق المكلف بالنسبة إلى شيء واحد في آن واحد مع عدم تنجز أحدهما عليه وفعليته في حقه، مع أنهما متضادان،
153

وليس هذا إلا من جهة كفاية اختلافهما من حيث الشأنية والفعلية في رفع التضاد بينهما بالنسبة إليه (1).
وهذا هو الفارق بين المقام وبين مسألة اجتماع الأمر والنهي، إذ المفروض هناك فعلية كل منهما في حقه فينكر (2).
وأما الثاني: فلأن منشأه بالنظر إلى المكلف منحصر في التكليف بغير المقدور له ولو من قبل المكلف - بالكسر - وتفويت المصلحة على المكلف أو إيقاعه في المفسدة.
الأول: لا يلزم في المقام أصلا.
الثاني: وإن كان يلزم في بعض الصور، لكنه لا يقبح مطلقا.
توضيح عدم لزوم الأول: أنه إذا كان الحكم الواقعي للفعل هو الوجوب (3) وكان الظاهري غير الحرمة، أو العكس، أو كان الواقعي هي الحرمة والظاهري غير الوجوب، أو العكس، فعدم لزومه بين.

(1) قال - دام ظله -: بل لا مانع من اجتماع الحكمين المتضادين مع فعليتهما إذا كان أحدهما مرتبا على الاخر، لكن النفس فيه تأمل، بل منع، فإنا لو تعقلنا مسألة الترتب فغاية ما يمكن أن يقال من إمكانه إنما هو في الطلبين المتضادين أو المماثلين (أ) مع تعلق كل منهما بضد متعلق الآخر لا بنقيضه، إذ معنى الطلب المرتب على طلب آخر أنه أريد تحصيل متعلقه على تقدير عصيان ذلك الطلب، ومن المعلوم أنه على تقدير عصيان الطلب المتعلق بأحد النقيضين يحصل الغرض من الطلب المتعلق بالآخر، فيكون ذلك الطلب الآخر طلبا للشيء على تقدير حصوله، وهل هذا الا طلب الحاصل؟ لمحرره عفا الله عنه.
(2) اعلم أنه كما يمتنع اجتماع الأمر والنهي الفعليين كذلك يمتنع اجتماع الشأنيين منهما أو المختلفين إذا كان زمن فعلية كليهما واحدا، فإنهما يصيران فعليين في وقت واحد، وأما إذا كان أحدهما على وجه يمتنع فعليته - بل بقاؤه - مع فعلية الآخر - كما في الحكم الظاهري والواقعي - فيجوز اجتماع الشأنيين منهما أو المختلفين. لمحرره عفا الله عنه.
154

أما في الصورة الأولي: فلأن الوجوب لما كان مشكوكا فهو غير منجز على المكلف فلم يبلغ حد التكليف أصلا، فضلا عن كونه تكليفا بغير المقدور، فالمكلف معذور في مخالفته، وأما غير الحرمة (1) - الذي هو الحكم الظاهري بالفرض - فلأنه لا يقتضي امتثالا أصلا إذا كان هي الإباحة، ولا يقتضي تحتم الامتثال إذا كان هي الكراهة أو الاستحباب مثلا، فلا يكون شيء منها مقتضيا لحتمية الامتثال، حتى يكون تكليفا بفرض الاطلاع عليه، فضلا عن كونه تكليفا بغير المقدور للمكلف مع أن الاستحباب الظاهري إن لم يكن مؤكدا للوجوب الواقعي فهو لا ينافيه جدا.
لا يقال: إنه هب أن النهي عن الواجب الواقعي تنزيها ليس تكليفا بغير المقدور لكنه طلب لغير المقدور، ومن المعلوم أن طلب غير المقدور ولو مع الرخصة في مخالفة ذلك سفه وعبث، فيكون قبيحا من هذه الجهة.
لأنا نقول: إن الوجوب الواقعي قبل اطلاع المكلف عليه لا يصلح لجعل الفعل غير مقدور [الترك] (2) للمكلف، فإنه إنما يؤثر في غير (3) مقدورية ترك الفعل إذا أثر منع المكلف فعلا من الترك، وذلك لا يكون إلا بعد الاطلاع عليه، والمفروض عدمه في محل الفرض، كما أن الحرمة الواقعية لا تصلح لجعل الفعل غير مقدور الإيجاد إلا بعد الاطلاع عليها.
ومن هنا ظهر الحال في الصورة الثالثة أيضا.
وأما في الصورة الثانية: فلأن غير الوجوب والحرمة المفروض كونه حكما واقعيا خارج عن مرحلة التكليف مع الاطلاع عليه وغير قابل للتأثير في نفي مقدورية ترك الفعل أو إيجاده في تلك الحال، فكيف بما إذا كان مجهولا؟ فلا
155

يكون طلب الفعل حتما في مرحلة الظاهر تكليفا بغير المقدور.
ومن هنا ظهر حال الصورة الرابعة - أيضا - فلا نطيل الكلام بذكرها.
وأما إذا كان أحدهما الوجوب والآخر الحرمة فوجه عدم لزومه حينئذ ما مر: من أن الطلب الحتمي الواقعي ما لم يتنجز على المكلف لا يصلح لجعل الفعل ممنوع الترك أو الإيجاد فعلا: حتى يكون نطلبه أو طلب تكره طلبا لغير المقدور للمكلف (1).
وأما توضيح عدم لزوم الثاني على الإطلاق - ثم منع قبحه على تقدير لزومه في المقام - فبأنه إنما يلزم فيما إذا كان الحكم الواقعي هو الوجوب أو الاستحباب مع كون الظاهري هو الإباحة أو الحرمة أو الكراهة، أو كان الحكم الواقعي هي الحرمة أو الكراهة مع كون الظاهري هو الإباحة أو الوجوب أو الاستحباب، أو كان الواقعي هو الاستحباب مع كون الظاهري غير الوجوب، أو كان هي الكراهة مع كون الظاهري غير الحرمة:
أما في الصورة الأولى: فلأن إباحة الفعل كاشفة عن عدم المصلحة فيه ودالة عليه، فكيف بتحريمه أو كراهته؟ فيكون كل منهما إخفاء لمصلحة الواقع على المكلف وتفويتا لها عليه.

(1) لا يتوهم: أن عدم فعلية طلب - أمرا كان، أو نهيا - يوجب التجوز في الخطاب الدال عليه، وهو الأمر أو النهي، لأن صيغتي الأمر والنهي لم توضعا إلا لمجرد الطلب الحتمي الفعلي المتعلق بالترك أو الإيجاد، ومن المعلوم أن ذلك موجود حال عدم تنجز الخطاب كوجود الإرادة والكراهة اللازمتين لهما، والتنجز ليس من مدلول اللفظ، بل هو أمر عقلي يترتب عليه بعد اطلاع المكلف عليه.
والحاصل: أنهما موضوعتان للطلب الفعلي، لا للتكليف الفعلي الذي يتوقف تحققه على اطلاع المكلف على الطلب، فيما نحن فيه - إذا فرض كون الحكم الواقعي هو الوجوب والظاهري هي الحرمة، أو العكس - الإرادة والكراهة وطلب الفعل وطلب الترك، - أعني الإنشائيين - كلها فعلية، والشأنية إنما تلاحظ بالنسبة إلى عنوان التكليف بالنظر إلى الواقع، وهو ليس من مدلول الصيغة، بل مسبب منه بعد الاطلاع عليه. لمحرره عفا الله عنه.
156

ومنه يعلم وجه كون الإباحة أو الوجوب أو الاستحباب إيقاعا له في المفسدة كما في الصورة الثانية.
وأما في الصورة الثالثة: فلأن غير الوجوب - كما عرفت - مستلزم لإخفاء مصلحة الفعل الداعية إلى الأمر الاستحبابي الواقعي، فيكون تفويتا لها على المكلف.
ومنه يعلم وجوه كون غير الحرمة في مرحلة الظاهر مستلزما لإخفاء مفسدة الكراهة على المكلف، وإيقاعا له [فيها] (1) كما في الصورة الرابعة.
وأما في غير تلك الصور فلا يلزم من الحكم الظاهري تفويت للمصلحة ولا إيقاع [في] (2) المفسدة أصلا، فإن الصور المتصورة وراء تلك الصور - أيضا - أربع:
إحداهما: ما إذا كان الحكم الواقعي هي الإباحة مع كون الظاهري هي الحرمة أو الكراهة.
وثانيتها: ما إذا كان هي الإباحة مع كون الحكم الظاهري هو الوجوب أو الاستحباب.
وثالثتها: ما إذا كان ذلك الاستحباب مع كون الحكم الظاهري هو الوجوب.
ورابعتها: ما إذا كان ذلك هي الكراهة مع كون الحكم الظاهري هي الحرمة.
ومن المعلوم أنه لا يلزم شيء من ذينك في شيء منها:
أما في الأولى والثانية: فلأنه ليس في الفعل مصلحة حتى يكون الحكم
157

بحرمته أو كراهته إخفاء لها وتفويتا لها على المكلف، ولا مفسدة حتى يكون الحكم بوجوبه أو استحبابه إخفاء لها وإيقاعا للمكلف [فيها] (1).
وأما في الصورة الثالثة: فلأن الوجوب يؤكد داعي تحصيل مصلحة الاستحباب كما لا يخفى، فلا يكون إخفاء لها على المكلف، بل تأكيدا لها.
وأما في الصورة الرابعة: فلأن الحرمة بالنسبة إلى مفسدة الكراهة نظير الوجوب بالنسبة إلى مصلحة الاستحباب من حيث كونها مؤكدة لداعي التحرز عنها.
فظهر أن ما ذكر غير لازم على الإطلاق بالنسبة إلى جميع صور مخالفة الحكم الظاهري للواقعي المبحوث عنها في المقام.
لكن لا يخفى على المتأمل أنه في موارد لزومه لا يقبح مطلقا، بل إنما يقبح مع عدم تدارك المكلف (بالكسر) لمفسدة الواقع، أو مصلحته وأما معه فكلا، ونحن قد حققنا - في مسألة نصب الطرق في مسألة حجية الظن - أن الشارع يتدارك ما يستند إليه من فوت المصلحة، أو الوقوع في المفسدة.
هذا.
وأما المقام الثاني:
فملخص الكلام فيه: أن اللازم عندنا في مقام إيراد حكم على شيء أن يكون ذلك الحكم تابعا لما في ذلك الفعل من المقتضي إذا كان حقيقيا، لا ابتلائيا (2):
فإذا كان هو الوجوب أو الاستحباب: فلا بد حينئذ من مصلحة فيه ملزمة أو غير ملزمة تقتضي وجوبه أو ندبه.
158

وإذا كان هي الحرمة أو الكراهة: فلا بد أن يكون فيه مفسدة ملزمة، أو غير ملزمة تقتضي تحريمه أو كراهته.
وإذا كان هي الإباحة: فلا بد من خلوه مما يقتضي غير الإباحة - من الأحكام الأربعة المذكورة - سواء كان مشتملا على ما يقتضي الإباحة أو خاليا عن ذلك أيضا.
فغاية ما يلزم من إيراد حكمين متخالفين من الأحكام الخمسة على شيء اجتماع المصلحة والمفسدة، أو المصلحة وعدم المصلحة، أو المفسدة وعدمها في ذلك الشيء في آن واحد.
لكنه لا يمتنع مع تعدد الجهة - كما هو المفروض في المقام - بل واقع في بعض الأمور الخارجية، كالأدوية والأغذية والأشربة، فإن المصلحة والمفسدة وإن كانتا متضادتين، لكنهما إنما يمتنع اجتماعهما في مورد واحد مع اتفاقهما في الوحدات المعتبرة في التناقض، وكذلك كل منهما مع عدمه (1) وإن كانا نقيضين لكنهما إنما
يمتنع اجتماعهما مع اتفاقهما في تلك الوحدات.
وإحدى الجهتين: فيما نحن فيه إنما هي الملحوظة في مقام جعل الحكم الواقعي وإنشائه، وهي جهة ذات الشيء الغير الملحوظة بشيء من وصفي العلم والجهل.
وأخراهما: إنما هي الجهة الملحوظة في مقام جعل الحكم الظاهري، وهي عنوان سلوك الطريق (2) أو الأمارة الظنين إذا كان الحكم الظاهري من مؤدى

(1) اعلم أنه ربما يتوهم: أنه إذا فرض أن جهة الحكم الظاهري إنما هو عنوان سلوك الطريق - مثلا - فنقول: إن ذلك العنوان إما أن يكون فيه مصلحة ملزمة، وإما أن يكون فيه مصلحة غير ملزمة، وإما أن لا يكون فيه مصلحة أصلا.
لا سبيل إلى شيء من هذه الشقوق:
أما الأول: فلأنه على تقديره يلزم أن يكون العمل بالطريق واجبا مطلقا في جميع الموارد، فينحصر الحكم الظاهري في الوجوب وهو باطل.
وأما الثاني: فلأنه لازمه استحباب العمل بالطريق، فيلزمه أن يكون الحكم الظاهري منحصرا في الاستحباب، وهو في البطلان كسابقه.
وأما الثالث: فلأنه على تقديره يستلزم إباحة سلوك الطريق، فيلزمه انحصار الحكم الظاهري في الإباحة، وهذا في البطلان كسابقيه.
وهكذا يتوهم: بالنسبة إلى سلوك الأمارة والعمل على طبق الحالة السابقة.
لكنه مدفوع: بأنا نختار الشق الأول، أعني اشتمال سلوك الطريق على المصلحة الملزمة.
لكن نقول: إن تلك المصلحة لا تقتضي وجوب كل ما قامت الطرق الظاهرية على إفادة حكمه ولو كانت مفيدة لغير الوجوب من سائر الأحكام، حتى ينحصر الحكم الظاهري في الوجوب، بل إنما هي مقتضي لزوما حكم الشارع في مرحلة الظاهر على طبق مؤديات تلك الطرق، فإن كانت مؤدياتها هو الوجوب فتقتضي حكمه بوجوب الفعل وإحداث طلب حتمي بالنسبة إليه في مرحلة الظاهر، وإن كانت هي الحرمة فمقتضى حكمه بحرمة الفعل كذلك، وهكذا إلى سائر الأحكام، فلا ينحصر الحكم الظاهري في واحد من الأحكام الخمسة، فلا تغفل. لمحرره عفا الله عنه.
159

الطرق والأمارات، أو البناء على طبق الحالة السابقة إذا كان من مقتضى الاستصحاب.
وأما أصالة البراءة: فهي ليست من الإباحة المصطلحة - التي هي أحد الأحكام الخمسة - بل إنما هي مجرد معذورية المكلف ورفع العقاب عنه على تقدير مخالفة الواقع في مواردها - سواء كانت مأخوذة من العقل أو من النقل - فإن الأخبار الدالة عليها لا تفيد أزيد من ذلك.
وأما الاحتياط: فهو من الأحكام العقلية، ومقتضاه عدم معذورية المكلف في موارد لزومه - ضد أصالة البراءة - ومن المعلوم أن عدم المعذورية ليس حكما شرعيا.
وأما أصالة التخيير: فهو - أيضا - نظير أصالة البراءة ليست إلا عذرا في اختيار المكلف في مقام التخيير أيما شاء من الاحتمالين.
160

ثم إن المراد بالجهة - في المقام - إنما هي التقييدية لا التعليلية.
والفرق بينهما - في المقام -: أنه على الثاني يلزم ثبوت المصلحة والمفسدة لذات الفعل - الذي هو مورد اجتماع الجهتين - أولا وبالذات فيما إذا كان الحكم الواقعي والظاهري مختلفين باعتبار كون أحدهما طلبا لترك الفعل، والآخر طلبا لإيجاده، إذ كل وصف أو حكم إنما يقوم بموضوعه لا بعلته، وإنما تكون العلة واسطة في ثبوته لموضوعه.
هذا بخلاف الأول، إذ عليه يثبت كل منهما ابتداء لنفس الجهة، ويكون ثبوتهما لمورد اجتماع الجهتين من باب العرض بتوسط الجهتين، فتكونان واسطتين في العروض، كما أنهما كانتا واسطتين في الثبوت على التقدير الثاني.
نعم المصلحة والمفسدة يجوز اجتماعهما في مورد مع تعدد الجهة التعليلية أيضا.
والثمرة بين التعليلية والتقييدية يظهر بالنسبة إلى لوازم المفسدة والمصلحة كما سيأتي.
وكيف كان، فبعد تعدد موضوعي المصلحة والمفسدة ومورديهما لم يبق محذور من جهة اجتماع الأمر الظاهري والنهي الواقعي أو العكس بالنظر إلى المكلف به.
فإن قيل: إنه لا مصلحة ولا مفسدة في المفاهيم، بل إنما هما - على تقديرهما - ثابتتان للأشخاص الخارجية، كما نشاهده بالعيان والوجدان، فلا يصح جعل الجهات واسطة في العروض بالنظر إلى ثبوتهما للأشخاص التي منها مورد اجتماع تلك الجهات، بل هي في مقام اتصاف الأشخاص واشتمالها على المفسدة والمصلحة واسطة في الثبوت دائما.
قلنا: سلمنا أنه لا مصلحة ولا مفسدة في المفاهيم، لكن نقول: إن هذا إنما هو في عالم كليها وعالم وجودها الذهني، وأما في عالم وجودها الخارجي فلا، وظهور
161

المصلحة والمفسدة في الأشخاص ليس لأجل كون موضوعهما هي الأشخاص من حيث هي، بل إنما هو لأجل أن الأشخاص ليست إلا وجودات تلك المفاهيم في الخارج، فهي عالم الوجود الخارجي لتلك، فالمصلحة والمفسدة في هذا العالم ثابتتان لنفس الطبائع من حيثية وجودها الخارجي بحيث تكون تلك الحيثية محققة لفعلية الاتصاف ومحصلة لها.
والحاصل: أنهما ثابتتان للطبائع من الحيثية التي هي من تلك الحيثية منشأ للآثار، وهي حيثية وجودها الخارجي.
هذا مضافا إلى أن مورد اجتماع الجهات في المقام - أيضا - قد يكون من المفاهيم، كما في موارد الشبهة في الحكم الكلي الواقعي للشيء كما لا يخفى، فلا بد لذلك السائل من صرف المصلحة والمفسدة - حينئذ - إلى أشخاصه، فافهم.
وأما المقام الثالث:
فتوضيح الحال فيه: أن غاية ما يقال فيه: أن الحكيم إذا حكم على شيء بحكم، فلا بد أن يتصور أولا ذلك الشيء، ويعلم بما فيه من الجهة المقتضية للحكم من المصلحة والمفسدة، أو خلوه منهما، أو استوائهما فيه الذي يقتضي (1) الإباحة، ثم يحكم عليه بما تقتضيه تلك الجهة من الأحكام الخمسة، فإذا فرض حكمه على شيء بحكمين، فاللازم منه بالنسبة إليه إنما هو تعدد التصور على حسب تعدد الجهة المقتضية لهما وتعدد العلم.
ومن المعلوم أنه لا تنافي بين التصورين ولا بين العلمين بوجه، فلا يلزم من اجتماع اثنين من تلك الأحكام بالنسبة إليه - أيضا - محذور أصلا.
فإن قيل: إن في مقام الحكم واسطة أخرى بين الحكم وبين العلم بالجهة
162

المقتضية له، وهي الإرادة أو الكراهة النفسانيتين (1) أو الرضا بطرفي الفعل والترك على حد سواء، فإن الحاكم إذا تصور الفعل وتصور ما فيه من الجهة: فإن كانت تلك الجهة هي المصلحة الملزمة ينشأ (2) منها في نفسه إرادة حتمية للفعل من المحكوم، ثم ينشأ من تلك الإرادة الحكم عليه بالوجوب.
وإن كانت هي المصلحة الغير الملزمة ينشأ (3) منها في نفسه إرادة غير بالغة إلى مرتبة الحتم بحيث يجتمع مع الرضا بالترك، ثم ينشأ من تلك الإرادة الحكم عليه بالاستحباب.
وإن كانت هي المفسدة الملزمة ينشأ (4) منها في نفسه كراهة حتمية للفعل، ثم ينشأ من تلك الكراهة الحكم عليه بالحرمة.
وإن كانت هي المفسدة الغير الملزمة ينشأ (5) منها في نفسه كراهة حتمية للفعل غير بالغة حد الحتم، ثم ينشأ منها الحكم عليه بالكراهة والنهي عنه تنزيها.
وإن كانت هي خلوه من المصلحة والمفسدة رأسا أو استواؤهما فيه ينشأ (6) منها في نفسه الرضا بطرفي الفعل والترك على حد سواء، فينشأ منه الحكم عليه بالإباحة.
ومن البديهي عند كل أحد - أيضا - ثبوت التضاد بين الإرادة والكراهة، وكذا بين كل منهما وبين الرضا بطرفي الفعل والترك على حد سواء، وكذا بين كل مرتبة من كل منهما وبين المرتبة الأخرى منه، فيلزم من إيراد الحاكم حكمين من

(1) المراد بالإرادة النفسانية هو الحب للشيء (أ) والشوق المؤكد إليه وبالكراهة النفسانية هو البغض له (ب) لمحرره عفا الله عنه.
163

تلك الأحكام على شيء واحد اجتماع الضدين في نفسه.
قلنا: إن توسط الإرادة والكراهة أو الرضا مسلم فيما إذا كان الحاكم غير الله - سبحانه وتعالى -، وأما إذا كان هو - سبحانه - فغير معلوم، بل ذهب جمع من محققي المتكلمين إلى أن معنى كونه تعالى مريدا إنما هو علمه
بالأصلح بحال العباد، والغرض إنما هو رفع التنافي بين أحكامه.
وعلى تسليم توسطها في حقه تعالى أيضا نقول: إنها وإن كانت مضادة، لكنها كسائر الأمور المضادة إنما يمتنع اجتماع اثنين منها إذا كان موردهما متحدا، وأما مع تعدده وتغايره فلا، ومواردهما (1) في محل الكلام متعددة ومتغايرة، فإن متعلق كل منهما إنما هو العنوان المتضمن له، فمتعلق الإرادة والكراهة بعينه هو متعلق المصلحة والمفسدة، كما أن متعلق كل من الحكمين إنما هو العنوان المتضمن للجهة الداعية إليه، فإن كلا من المصلحة والمفسدة إنما تدعوا إلى إرادة ما تضمنتها أو كراهته وإلى طلبه أو طلب تركه، ونحن لما فرغنا عن تعدد مورد المصلحة والمفسدة في المقام السابق، فلا يرد علينا محذور من جهة اجتماع الإرادة والكراهة بالنسبة إلى المكلف - بالكسر - في هذا المقام.
والحاصل: إن الإرادة والكراهة ناشئتان من المصلحة والمفسدة وتابعتان [لهما]، وكل واحدة ثابتة لعنوان مغاير للعنوان الذي ثبتت له الأخرى، والأمر والنهي ناشئان عن الإرادة والكراهة، فيتعلق كل منهما بما نشأ منها (2)، ويتحد موضوعه معه.
فإن قيل: إن الأحكام لا بد من تعلقها بفعل المكلف الاختياري، فإنها تابعة للحسن والقبح، ومن المعلوم أن المتصف بهما إنما هو فعله الاختياري، وفعله
164

إنما هو ما يصدر منه، وهو ليس إلا الأشخاص والأفراد، دون العناوين والوجوه الصادقة عليها، فلو سلمنا أن مورد المصلحة والمفسدة إنما هو تلك العناوين نمنع من تعلق الأحكام بها.
والإرادة والكراهة - أيضا - لا بد من تعلقهما بفعله الاختياري، إذ لا يعقل إرادة غير فعله منه، وكذا كراهته، فتكون تلك العناوين واسطة لثبوت تلك الأحكام والإرادة والكراهة لنفس الأفراد التي منها مورد اجتماعها في محل الكلام، وهو صورة مخالفة الحكم الواقعي مع الظاهري، فيلزم اجتماع الإرادة والكراهة في الواحد الشخصي، وهو مورد الاجتماع.
قلنا: مراد من قال بتبعية الأحكام للحسن والقبح إنما هو تبعيتها للمصالح والمفاسد الثابتتين للأشياء قبل إيراد حكم عليها، وإطلاق الحسن والقبح عليهما شائع، إذ كثيرا [ما يقال] (1) للشيء أنه حسن باعتبار اشتماله على مصلحة، أو أنه قبيح باعتبار اشتماله على مفسدة، وقد يقال للشيء الواحد أنه حسن وقبيح باعتبار اشتماله على مصلحة من جهة وعلى مفسدة من أخرى، وأما الحسن والقبح بمعنى المدح والذم - كما قد يطلقان عليهما - فلا، بل لا يعقل تبعيتها لهما بهذا المعنى، ضرورة أن المدح والذم إنما هما من آثار الإطاعة والعصيان، وهما لا يتحققان إلا بالأمر والنهي، فكيف يعقل تبعية الأمر والنهي لما لا يتحقق إلا بهما؟ وبالجملة: الحسن والقبح، - بمعنى المدح والذم - وإن كانا قائمين بالأشخاص دون المفاهيم، لكن تبعية الأحكام وما يلزمها من الإرادة والكراهة لهما ممنوع، بل غير معقولة، لما عرفت، وهما - بمعنى المصلحة والمفسدة - وإن كانا قائمين بالعناوين من حيثية الوجود - كما عرفت سابقا - لكن تبعية الأحكام وما
165

يلزمها لهما غير خفي على المتأمل.
وما ذكر من أن فعل المكلف ليس إلا الأشخاص ممنوع، بل فعله إنما هي نفس الطبيعة، والأشخاص ليست إلا وجوداتها، وبعبارة أخرى: إن الأشخاص عين صدور الطبيعة من المكلف.
ولو سلمنا نقول: إنه لا يجب أن تكون الأحكام متعلقة بفعل المكلف، بل يجب تعلقها بما يكون مقدورا، ومن المعلوم ثبوت قدرته على الطبائع باعتبار تمكنه مما يحصلها وهي الأفراد.
والحاصل: أن متعلق الأحكام إنما هي الطبائع من الحيثية التي هي بها منشأ للآثار، وهي حيثية وجودها الخارجي الذي هو عين الأفراد، وذوات الأفراد خارجة عن موضوعها، وحيثيتها مأخوذة فيه، وذلك لأن حال الشارع في المقام (1) حال أحد منا، والذي نجده من أنفسنا في مقام الحكم والطلب أنا لا نلاحظ الأفراد من حيث هي حينئذ بوجه، بل نجد الذي نطلبه أو نطلب تركه أو نبيحه أمرا وحدانيا، وهو نفس الطبيعة، ولو كان هو الأفراد لوجدناه (2) متعددا.
وإن قيل: سلمنا أن الأمر والنهي يتبعان المصلحة والمفسدة دون المدح والذم، وأن المصلحة والمفسدة قائمتان بالعنوانين المتغايرين في الذهن، لكن مجرد تعدد موضوعهما وتغايرهما في الذهن لا يجدي في جواز اجتماع الحكمين في مورد اجتماعهما، إذ بعد فرض تصادفهما فيه تجتمع فيه المصلحة والمفسدة الثابتتان لذينك العنوانين، فحينئذ إن كانت إحداهما أقوى من الأخرى فالحكم الفعلي يستتبع تلك الأقوى ولا تؤثر الأخرى حينئذ في الحكم الذي تقتضيه لو لا مزاحمتها بأقوى منها، فيكون الحال فيه كما في صورة اجتماع عنوان الكذب الذي
166

هو قبيح ذاتا مع عنوان حسن ذاتي أهم منه كحفظ نفس أو عرض ونحوهما، فيكون الحكم الفعلي الواقعي في مقامنا مستتبعا لأقوى الجهتين، فلو كانت هي جهة الحكم الظاهري لانقلب (1) الواقع الأولي - واقعا - إلى الظاهري بحيث لا حكم حينئذ للمكلف سواه، كما أن الكذب المتحد مع عنوان حفظ النفس ليس حكمه واقعا إلا الوجوب، وإلا فلا يقتضي شيء منهما ما (2) كانت تقتضيه من الحكم أصلا، بل الحكم الفعلي حينئذ إنما هي الإباحة، وذلك لأن المصلحة والمفسدة كسائر العلل إذا اجتمعنا في مورد واحد يقع (3) الكسر والانكسار فيما بينهما لا محالة، لا بمعنى أن إحداهما تنقض الأخرى أو تزيلها رأسا، بل بمعنى أنهما يتصادمان من حيث التأثير الفعلي، فإن كانت إحداهما أقوى فهي تغلب الأخرى، وتؤثر أثرها فعلا، وتبقى الأخرى بلا أثر فعلي، وإلا فلا أثر لشيء منهما حينئذ، بل يكون المورد كالخالي عن المصلحة والمفسدة من حيث كون حكمه هي الإباحة، فإن كل واحدة إذا زوجت بالأخرى تكون كالمعدومة.
فعلى هذا إذا فرض أن مقتضى دليل الواقع إنما هو الوجوب - مثلا -، ومقتضى دليل إثبات الحكم الظاهري هي الحرمة، فمع فرض كون جهة الوجوب في مورد الاجتماع أقوى لا بد من تخصيص دليل إثبات الحكم الظاهري، ومع فرض كون جهة الحرمة أقوى لا بد من تخصيص دليل الواقع بغير تلك الصورة، ومع تساويهما لا بد من تخصيص كلا الدليلين.
قلنا: هذا إنما يلزم بناء على تعلق الأحكام بالأشخاص التي منها مورد الاجتماع في محل الكلام، دون الطبائع، وقد مر عدم المانع من الثاني، بل تعينه، وعليه فمورد الاجتماع غير داخل في شيء من الدليلين أصلا وغير محكوم عليه
167

بحكم أحد العنوانين، فلا يلزم ما ذكر من المحذور.
نعم يتصف بحكم كل منهما من باب العرض والمجاز.
وإن قيل إنك سلمت ثبوت التضاد بين صفتي الإرادة والكراهة النفسيتين، وإنما دفعت محذور اجتماعهما بتعدد المتعلق، لكنه إنما يجدي مع تعدد متعلقهما في الخارج - أيضا - ومجرد تعددهما في الذهن غير مجد مع فرض تصادفهما في مورد.
وذلك لأنه كما يمتنع اجتماع الضدين، كذلك يمتنع صيرورة شيء واحد مصداقا لهما، فإنه - أيضا - آئل إلى
الأول كما لا يخفى، فإذا فرض أن أحد العنوانين مراد والآخر مكروه، فيلزم كون مورد الاجتماع مرادا ومكروها وهو محال، فيكون ملزومه - أيضا - كذلك.
قلنا: سلمنا أن المراد والمكروه عنوانان متضادان لكن الطبيعتين الموصوفتين بهما لا تتصادقان في مورد الاجتماع مع ثبوت الاتصاف بهما فعلا، وذلك لأن معنى الإرادة النفسية هو الحب للشيء (1) والشوق المؤكد إليه، ومعنى الكراهة النفسية إنما هو البغض له (2)، ومن المعلوم أنهما لا يعقل تعلقهما بالطبائع من حيث هي، بل إنما تتعلقان بها من حيثية وجودها الخارجي، فإنهما من مقولة الطلب، نظير الأمر والنهي، وإنما الفرق بينهما وبين الأمر والنهي أنهما طلبان من جانب القلب، ويكون الطالب فيهما هو القلب، والأمر والنهي طلبان من الشخص، والطالب فيهما هو، والطلب إنما يتعلق بالشيء من حيثية وجوده الخارجي، ومن المعلوم أنه بمجرد تحقق تلك الحيثية لا يعقل بقاؤه، لاستلزام بقائه طلب الحاصل، فالطبيعة المرادة المحبوبة قبل وجودها مرادة ومحبوبة، لكنها غير مجامعة للطبيعة الأخرى المكروهة، وبمجرد وجودها - ولو في ضمن مورد
168

اجتماعهما - ترتفع عنها تلك الصفة، فهي حال اجتماعها مع تلك الطبيعة غير متصفة بصفة الإرادة حتى يلزم اجتماع الضدين.
وبالجملة: الأوصاف: منها ما لا قيام لها بموصوفها إلا في عالم الذهن، كالكلية للمفاهيم، ومنها ما لا قيام لها بموصوفها إلا في عالم الخارج، كالألوان، والحرارة، والبرودة، والطعوم: كالحلاوة، والحموضة، والملوحة، ونحوها.
والطلب نظير القسم الأول، أو منه، فافهم.
هذا تمام الكلام وكمال النقض والإبرام في دفع التنافي بين الأحكام الواقعية والظاهرية، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على نبيه محمد وآله الطاهرين.
وقد ظهر مما ذكرنا: أن ما ذكره المصنف - قدس سره - في وجه الدفع من تعدد موضوعهما بمجرده غير مجد، فإنه إنما ينفع في رفع محذور اجتماع الضدين، لكنه لا يرفع محذوري التكليف بغير المقدور، وتفويت المصلحة على المكلف، أو إيقاعه في المفسدة المشار إليهما في المقام الأول من المقامات الثلاثة المتقدمة، إذ من المعلوم أن تعدد موضوعهما على تقديره إنما هو بحسب الذهن، وهو بنفسه لو كان مصححا لإيراد الأمر والنهي على شيء واحد لكان مصححا في مسألة اجتماع الأمر والنهي المعروفة، مع أنه - قدس سره - لا يلتزم به، فتأمل (1).
ثم إنه يتفرع على ما ذكرنا في المقام الأول - من وجه دفع المحذورين

(1) وجه التأمل: أن مسألة اجتماع الأمر والنهي مغايرة للمقام من حيث فرض المندوحة للمكلف في امتثال الأمر فلا يلزم من الأمر ثمة التكليف بغير المقدور. نعم يلزم من فرض الاجتماع ثمة طلب غير المقدور تخييرا، وهو أيضا قبيح كالتكليف بغير المقدور، لكن تعدد الجهة لو كان مجوزا للتكليف بغير المقدور لكان مجوزا له - أيضا - قطعا، فإن قبحه لو لم يكن أخفى من قبح التكليف بغير المقدور لم يكن أجلى منه، فالملتزم بجواز الاجتماع مع لزوم التكليف بغير المقدور لا بد أن يلتزم به مع لزوم طلب الغير المقدور تخييرا أيضا. لمحرره عفا الله عنه.
169

المشار إليهما - صحة البناء على وجود الأمر واقعا في مسألة اجتماع الأمر والنهي حال نسيان المكلف للنهي وغفلته عنه أو عن القضية، لجريان الوجه فيه بعينه، فإنه حينئذ معذور في مخالفة النهي، فيصح توجه الأمر إليه حينئذ.
فعلى هذا لا حاجة في توجيه صحة عمله إذا كان عبادة إلى التجشم لكفاية (1) جهة الأمر، بل المصحح حينئذ هو وجود نفس الأمر في نفس الأمر فعلا مع فرض كونه هو الداعي للمكلف نحو الفعل، فإن المفروض اعتقاده لشمول الأمر بالنسبة إلى مورد الاجتماع، فاغتنم.
ثم أنه يمكن دفع محذور اجتماع الضدين بالنظر إلى المصلحة والمفسدة، والإرادة والكراهة بنحو آخر لم يتعرض له - دام ظله - وهو أن يقال:
إنه لا يجب أن يكون الداعي للأمر بسلوك الطرق والأمارات الغير العلمية - وكذا الأصول - مصلحة قائمة بنفس السلوك المتحد مع موضوع الأحكام الواقعية، حتى يتوهم منه لزوم اجتماع الضدين بالنظر إلى نفس المصلحة والمفسدة، وبالنسبة إلى لوازمها من الإرادة والكراهة، نظرا إلى اتحاد مواردها بالنسبة إلى مورد اجتماع العنوانين، بل يمكن ان يكون ذلك مصلحة قائمة بنفس الأمر بالسلوك على طبقها، فإن الالتزام بالمصلحة - في مقام نصب الطرق والأمارات وجعل الأصول - إنما هو لأجل رفع محذور لزوم السفه والعبث في فعل الحكيم، إذ لولاها لزم نقضه لغرضه مع تمكن المكلف من تحصيله، ويكفي في رفعه وجود مصلحة في نفس الطلب المتعلق بالسلوك على طبق الطرق والأمارات والأصول، لا في السلوك، ويكفي كونها مجرد التوسعة على العباد، فيختلف مورد المصلحة والمفسدة ولوازمهما في الخارج - أيضا -، فلا يلزم الاجتماع بينهما ولا بين لوازمهما بوجه (2).
170

وأما صحة وقوع التسهيل حكمة وصلاحيته لذلك الحكم، فتوضيحه على نحو الاختصار:
أنه لو أراد الشارع من نوع المكلفين - مع تمكنهم من امتثال التكاليف الواقعية علما - امتثالها كذلك، لكان مخالفة تلك التكاليف حينئذ أكثر منها على تقدير أمرهم بامتثالها بالطرق والأمارات والأصول، فإن بعضهم وإن لم يكن حاله كذلك، لكن حال أكثرهم كذلك، ضرورة ما نشاهد من صعوبة امتثال تلك التكاليف بالطرق والأمارات ومشقته على أنفسهم بحيث يخالفون مع ذلك كثيرا من التكاليف الثابتة عليهم، فكيف بامتثالها بطريق القطع؟ بل لو أراد منهم الشارع امتثالها بطريق العلم لكان أشق عليهم ذلك، وسببا لمخالفتهم أكثر منها على تقدير امتثالها بالطرق الظاهرية، فإذا كان حالهم كذلك فاللطف يقتضي اختياره لما يكون مخالفته وفوت المصالح الواقعية أقل منهما على تقدير اختياره لأمر آخر مستلزم لأكثر منهما على تقدير اختياره، فلعل هذا الوجه أظهر مما اختاره - دام ظله - من التزام مصلحة في نفس السلوك على طبق الطرق والأصول.
والمصنف - قدس سره - كان في أول زمان تأليف الرسالة مختارا لما اختاره - دام ظله - ثم رجع أخيرا حين قراءتنا عليه مسألة المظنة (1)، واختار ذلك، وضعف ما اختاره أولا: بأنه نوع من التصويب، فإنه إذا كان عنوان السلوك نفسه متضمنا لمصلحة معادلة لمصلحة الواقع على تقدير فوتها، أو مفسدته على تقدير وقوع المكلف فيها - لسلوكه على طبق الطرق والأمارات بحيث يتدارك بها هاتيك المفسدة أو تلك المصلحة - فلا يعقل أن يكون شيء منهما مع اتحاد الفعل المتضمن له مع عنوان السلوك مقتضيا فعليا لما كان يقتضي لو لا اتحاد
171

مورده مع عنوان السلوك، ضرورة أن المفسدة المتداركة في قوة المعدومة، وكذا المصلحة المتداركة في قوة الحاصلة.
ومن البديهي أنه مع عدم المفسدة لا يعقل النهي، وكذا مع وجود البدل لمصلحة فعل لا يعقل الأمر به نفسا، بل لا بد منه تخييرا، ولازم ذلك انتفاء الخطاب المشترك بين العالم والجاهل، وهل هذا إلا من التصويب، فإن التصويب وإن لم ينحصر فيه، فإن منه - أيضا - القول بانتفاء المفسدة والمصلحة الواقعيتين في حق الجاهل رأسا الذي هو خلاف اتفاق الخاصة.
إلا أن الظاهر أن هذا النوع - أيضا - خلاف اتفاقهم، فإن ظاهرهم وجود خطاب مشترك بين العالم والجاهل، لا مجرد المصلحة والمفسدة.
هذا خلاصة ما أفاده - قدس سره - في مجلس الدرس.
أقول: ويضعفه - أيضا - دوران العقاب في مخالفة الأوامر الظاهرية مدار مخالفة الواقع، فإن لازم كون نفس عنوان السلوك مشتملا على المصلحة، وكون تلك المصلحة هي الداعية إلى تلك الأوامر كون الفعل المأمور به بتلك الأوامر واجبا نفسيا، ولازم ذلك كون موافقة تلك الأوامر من حيث هي - ولو لم يكن في مواردها أمر واقعي - امتثالا حقيقة، ومنشأ لاستحقاق الثواب على تلك الموافقة من حيث هي موافقة لتلك الأوامر، وكون مخالفتها - من حيث إنها مخالفتها - معصية موجبة لاستحقاق العقاب على هذه المعصية، ولازم ذلك تعدد الثواب والعقاب في صورة مصادفة تلك الأوامر للواقع مع موافقتها أو مخالفتها.
فإن قيل: إنه ما معنى ما اشتهر بينهم من (أن من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد).
قلنا: مورده إنما هو الاجتهاد، لا العمل، وكلامنا في الثاني، فلا تغفل.
والحاصل: أنه لا يتحقق معصية في مخالفة تلك الأوامر حقيقة ولا امتثال وإطاعة في موافقتها كذلك، بل المتحقق إنما هو التجري والانقياد، فلو كان هناك
172

ثواب فإنما هو على مجرد الانقياد، أو عقاب فإنه على مجرد التجري.
وكيف كان، فما اختاره - قدس سره - في كيفية نصب الطرق خال عن الإشكال.
إن قيل: لم يقم إجمال في الأوامر الظاهرية على دوران العقاب مدار مخالفة الواقع، بل المصرح به في كلمات جمع من الأعلام الخلاف فيه، بل ذهب بعض منهم إلى ثبوت العقاب في مخالفتها ولو لم يصادف مخالفة الواقع، وكيف كان، فليس عدم العقاب على مخالفة الأوامر الظاهرية أمرا مفروغا عنه حتى يستدل به على ملزومه.
قلنا: هذا الذي ذكرنا إنما هو بالنظر إلى مخالفة الأوامر الظاهرية من حيث كونها تكاليف شرعية مع قطع النظر عن ملاحظة اتحاد مخالفتها مع عنوان آخر، وذلك الخلاف إنما هو في عنوان التجري من حيث أنه تجري على المولى، فهو غير ما نحن فيه، ويكشف عن مغايرته للمقام جريانه بالنسبة إلى موارد الطرق العقلية الصرفة، كالقطع، والظن عند الانسداد، ضرورة أنه لا حكم من الشارع هناك حتى يقتضي الامتثال.
وبعبارة أخرى: كلامنا في المقام في ثبوت العقاب وعدمه بعد الفراغ عن ورود أمر من الشارع في مرحلة الظاهر، وثمة في حرمة التجري من حيث هو ذلك العنوان وأن الشارع هل حرمه كسائر المحرمات الواقعية ولو لم يكن للمورد تكليف في الواقع أصلا، ومن يدعي حرمته يدعي استحقاق العقاب عليه، ويحتج به على حرمته شرعا، فلا تغفل.
فإن قيل: إن حاصل ذلك الوجه: أن الأمر على طبق الطرق والأمارات الغير العلمية أو الأصول، والسلوك على مقتضاها إنما هو لمصلحة في الأمر، لا في المأمور به، فتكون الأوامر الظاهرية - التي ليس في مواردها أمر واقعي - نظير الأوامر الابتلائية، فلم تكن تلك الأوامر أوامر حقيقية يقصد منها امتثالها من
173

حيث هو، ومقتضى ذلك عدم علم المكلف بكونه مكلفا بشيء قامت الطرق، أو الأمارات على وجوبه، أو على حرمته، أو اقتضى الأصول ذلك، فحينئذ فما المحرك له نحو الامتثال والسلوك على مقتضاها، فإن الأمر الغير الحقيقي إنما يكون محركا إذا اعتقد المكلف كونه واقعيا، وأما مع اعتقاده بكونه غير حقيقي - وغير مراد منه الامتثال حقيقة، وأنه لا يلزم منه عقاب على العصيان لذلك، وأن تكليفه حقيقة دائر مدار الواقع - فلا يعقل ذلك، واللازم باطل، ضرورة علم كل أحد بكونه مكلفا بمجرد قيام واحد من الطرق أو الأصول أو الأمارات على ثبوت تكليف في حقه، فالملزوم مثله.
قلنا: نلتزم بالملزوم، ونمنع بطلان اللازم، فإن غاية ما هنا أنه بمجرد قيام شيء من الأمور المذكورة على تكليف يتحرك المكلف نحو الفعل أو الترك إذا لم يكن بانيا على العصيان، لكنه ليس لأجل علمه بكونه مكلفا واقعا، بل لأجل احتمال التكليف المحتمل - في موارد تلك الأمور - المنجز عليه على تقديره واقعا، فإن تلك الأمور وإن لم تحدث في حقه تكليفا حقيقة، لكنها توجب تمامية الحجة عليه في التكليف الموجود في مواردها على تقديره، بحيث لا يكون المكلف معها معذورا في مخالفته، فيكون المحرك له نحو الفعل أو الترك هو مجرد احتمال العقاب، هذا، فافهم واغتنم، والله العالم بحقائق الأمور.
تنبيه: كل ما ذكرنا في بيان توهم المنافاة بين الأحكام الظاهرية والواقعية إنما هو بعد فرض وجود حكم ظاهري وواقعي، فيختص مورده بموارد الطرق الشرعية، فإن الطرق العقلية لا توجب حدوث حكم من الشارع في مرحلة الظاهر على طبق مؤداها حتى يقال: إنه ينافي الحكم الواقعي المخالف له، أو لا ينافي، بل غاية ما يترتب عليها إنما هو مجرد معذورية المكلف ورفع العقاب عنه.
ثم إنه بعد ما ظهر عدم المنافاة بين الأحكام الظاهرية والواقعية، ظهر
174

لك أنه لا تعارض بين الأدلة الاجتهادية الكاشفة عن الأحكام الواقعية وبين الأصول العملية المقتضية لخلاف مؤداها.
ثم إن كل دليلين غير متعارضين إن لم يكن الحكم المدلول عليه بأحدهما مترتبا على الجهل بالحكم المدلول عليه بالآخر، فالمكلف مكلف في جميع الحالات بالعمل بمؤدى كليهما وإلا - بأن يكون الجهل بأحد الحكمين مأخوذا في الموضوع الآخر - فالمكلف لا يكلف في شيء من الحالات إلا بالعمل بمقتضى أحدهما الذي علم به، فإنه حينئذ:
إن كان جاهلا بكليهما معا، فهو غير مكلف بشيء منهما، بل له حكم ثالث.
وإن كان عالما بأحدهما: فإن كان ذلك هو الحكم الذي قد أخذ الجهل به موضوعا للحكم الآخر، فلا يبقى مورد للآخر حينئذ أصلا لارتفاع موضوعه بالعلم، وفي حكمه ما إذا دل دليل غير علمي معتبر على ثبوتا ذلك الحكم فإنه وإن كان لا يرفع موضوع الحكم الآخر، إلا أنه رافع له من باب حكومة دليل اعتباره على الدليل المثبت لذلك الحكم الآخر.
وإن كان هو الحكم الذي قد أخذ في موضوعه الجهل فهو معذور في الحكم الاخر وغير مكلف به حينئذ أصلا.
ومن هنا ظهر أن وجه ورود الأدلة على الأصول إن كانت علمية، أو حكومتها عليها إن كانت ظنية، إنما هو أخذ الجهل بالأحكام الواقعية - التي هي مؤديات الأدلة - في موضوع الأصول، فيكون ورودها أو حكومتها عليها مترتبا على ذلك.
وظاهر كلام المصنف (قده) - حيث إنه بعد بيان عدم المنافاة بين الأحكام
175

الظاهرية والواقعية قال: (فحينئذ الدليل المفروض (1)... إلى آخره) (2) - أنه يترتب على عدم المنافاة بينهما، فإن كلمة (فاء) ظاهرة في التفريع على ما سبق، وقد عرفت عدم استقامة ذلك بأن مجرد عدم المنافاة بين الدليلين لا يقتضي بورود أحدهما على الآخر أو بحكومته عليه.
لكن مقصوده - قدس سره - ما ذكرنا، نظرا إلى تعليله ما ذكره بقوله - بعد ذلك -: (لأنه إنما اقتضى حلية مجهول الحكم) (3)، فما أراده - قدس سره - حسن، لكن صدر العبارة ليس بجيدة (4)، ولو كان بعده
كلمة (الواو) مكان (الفاء) لكان حسنا.
ويمكن تصحيح إيراد (الفاء) المشعر بالتفريع: بأن ورود دليل على دليل آخر، أو حكومته عليه مبني على أمرين:
أحدهما: عدم التعارض بينهما.
أحدهما: عدم التعارض بينهما.
وثانيهما: كون الجهل بالحكم - المدلول عليه بذلك الدليل الحاكم أو الوارد - موضوعا للحكم المدلول عليه بالدليل الآخر، فيكون الورود أو

(1) الموجود في الطبعات المتوفرة لدينا هكذا: «... مجهول الحكم والدليل المفروض ان كان....»، ويبدو أن نسخته قدس سره كانت على ما ذكر.
انظر: طبعة الوجداني: 410، طبعة جماعة المدرسين (النوراني): 2: 750، وطبعة المصطفوي 431.
(2) المناقشة هذه إنما ترد بناء على نسخة المصنف قدس سره، وأما على الطبعات المتوفرة لدينا فلا، لما تقدم في الهامش رقم (1).
(3) حكمه بعدم جودة صدر العبارة يتضح من الهامش الأول والثالث وهو مناسب لنسخة الرسائل التي اعتمدها المحرر (ره) والتي نقل منها العبارة السابقة: (فحينئذ..).
- والظاهر انها نسخة غير مصححة - وأما نسخة وجداني والنوراني ومصطفوي فلا خلل فيهما فلاحظهما.
176

الحكومة متوقفا ومتفرعا على عدم التعارض في الجملة، وهذا المقدار منه مصحح لإيراد كلمة (الفاء)، فافهم.
ميزان الحكومة والورود
ثم إنه لما كان المأخوذ في موضوع الأصول العملية هو الجهل بحكم الواقعة في الواقع - إما من جهة الشبهة في نفس الحكم الكلي الواقعي، أو من جهة الشبهة في مصداقية المورد لموضوعه كما أشرنا إليه - فلازم ذلك أنه إذا قام طريق قطعي - على نفس الحكم، أو على تعيين المصداق - يكون ذلك الطريق واردا على الأصول الجارية في المورد لولاه، لكونه بمجرده رافعا لموضوعها حقيقة، فلا يعقل التعارض بينه وبينها بوجه.
وأما إذا قام طريق ظني - من دليل أو أمارة ظنيين، إما من جهة ظنية دلالتهما، أو من جهة ظنية السند في الأول أو الصدق في الثاني، أعني الأمارة - ففي وروده أو حكومته عليهما أو تعارضهما وجوه، وتوضيحها يتوقف على بيان ميزاني الورود والحكومة أولا، ثم بيان الوجوه المتصورة في كيفية اعتبار ذلك الطريق الظني، وفي كيفية اعتبار الأصول الشرعية العملية، وأن الظاهر من أدلة اعتبارهما ما ذا؟ فاعلم أن ميزان الورود: أن يكون الطريق الوارد بحيث يرفع موضوع المورود عليه، ويخرج مورده حقيقة عن كون مصداقا لموضوع المورود عليه - كما أشير إليه - وذلك بأن يكون بنفسه رافعا للشك حقيقة.
وأما ميزان الحكومة: فأحسن ما يقال فيه: أن يكون الحاكم - أولا وبالذات وبنفسه (1) - مفسرا للمراد من المحكوم عليه، ومبينا لكمية مدلوله، لكنه غير رافع لموضوعه، بل هو مع وجود الحاكم صادق على المورد - أيضا - وإنما

(1) قولنا: (بنفسه) إنما عدلنا إلى ذلك، ولم نقل: (بلفظه) كما صنع المصنف - قدس سره -، لأن الحاكم قد
يكون دليلا لبيا، فلا يشمله اللفظ، ومن هنا ظهر أن إيراده - قدس سره - (قوله): (بلفظ) لا يستقيم.
لمحرره عفا الله عنه.
177

الحاكم أوجب رفع الحكم المعلق عليه عن المورد.
والمراد من كونه مفسرا له أولا: أنه يكون بحيث لا يفهم التنافي بينه وبين المحكوم عليه من أول النظر، بل يكون كالقرائن المتصلة من حيث كونه موجبا لظهور المحكوم عليه في اختصاص الحكم الذي تضمنه بغير مورد الحاكم ابتداء.
وبعبارة أخرى: ميزانه أن يكون بحيث يوجب ظهور المحكوم عليه في إرادة اختصاص الحاكم المعلق على الموضوع المذكور فيه بغير مورد الحاكم مع صدق ذلك الموضوع على ذلك المورد بنفسه، وذلك بأن يكون ذلك الدليل الحاكم بمنزلة قول المتكلم، أعني غير هذا المورد.
ومن هنا ظهر الفرق بينه وبين المخصص المنفصل، فإنه ليس بحيث يوجب ظهور العام في اختصاص الحكم المعلق عليه بغير مورد التخصيص، بل العام معه - أيضا - ظاهر في تعميم الحكم بالنسبة إلى ذلك المورد، وإنما يقدم الخاص لترجيح ظهوره على ظهور العام، فالعام والخاص متعارضان إلا أن الترجيح للخاص، فيقدم عليه ذلك.
بخلاف الحاكم والمحكوم عليه، فإن المحكوم عليه لا ظهور له في عموم الحكم بالنسبة إلى مورد الحاكم حتى يتعارضا، بل ظاهر في اختصاصه بغير ذلك المورد وتظهر الثمرة بينهما في الدليلين الظاهرين، فإنه على تقدير كون أحدهما حاكما على الآخر، فيقدم على الآخر، ولو كان من أضعف الظنون المعتبرة، ولا يقدم عليه الآخر أبدا، إلا أن تعارض الحاكم وتزاحمه قرينة أخرى غير المحكوم
178

عليه، فإذا زاحمه أمر آخر يلاحظ (1) أحكام التعارض بينه وبين ذلك الأمر، لا بينه وبين المحكوم عليه.
هذا بخلاف الخاص في مقام التخصيص، فإنه لا يقتضي بمجرده تقديمه على العام، بل يدور ذلك مدار رجحان ظهوره على ظهور العام، فربما يكون ظهور العام أقوى من ظهوره (2)، فينعكس فيه الأمر.
والحاصل: أن الحاكم من حيث هو مقدم على المحكوم عليه كذلك دائما، بخلاف الخاص، فإنه لا يقدم على العام من حيث هو، بل بملاحظة رجحان ظهوره على ظهوره، فعليه يدور مدار تقديمه عليه.
والسر في ذلك: ما مر من أن الحاكم مع ظهوره مفسر للمحكوم عليه، وموجب لظهور المحكوم عليه في اختصاص الحكم الذي تضمنه بغير مورده، فيدور تقديمه عليه مدار بقاء ظهوره من دون توقف على أمر آخر.
بخلاف الخاص، فإنه بمجرد ظهوره لا يوجب صرف العام، حتى يكون بنفسه مقدما عليه، بل مع رجحان ظهوره - أيضا - لا يوجب صرفه، وإنما يوجب ذلك تقديم ظهوره على ظهوره.
هذا، ثم إن ما ذكره المصنف - قدس سره - من ميزان الحكومة - من كون الحاكم على وجه لو فرض عدم ورود المحكوم عليه لكان لغوا خاليا من المورد -، فيه ما لا يخفى على من له دقة النظر، إذ لا يخفى أن أدلة اعتبار الأدلة الاجتهادية بأسرها حاكمة على أدلة اعتبار الأصول العملية الشرعية كما اختاره - قدس سره - وسيأتي توضيحه أيضا، مع أنه ليس شيء منها بحيث لو فرض عدم دليل على اعتبار الأصول الشرعية العملية لكان لغوا خاليا عن الفائدة،

(1) كما في العمومات الآبية عن التخصيص. لمحرره عفا الله عنه.
179

بل لها فائدة أخرى غير بيان كمية مدلول أدلة اعتبار الأصول الشرعية العملية - أيضا - وهي ورودها على الأصول العقلية المحكمة في المورد قبل الأصول الشرعية.
وكأنه قدس سره - زعم أن الحاكم لا بد أن يكون الغرض منه مجرد التفسير والبيان لدليل آخر، فلذا يكون لغوا لولاه.
لكنه كما ترى، بل مدار الحكومة على كون الحاكم على وجه يصلح لأن يكون بيانا ومفسرا لدليل آخر على خلافه على تقدير ذلك الدليل ولو كان الغرض منه غير تفسير ذلك الدليل أيضا.
نعم اتصافه فعلا بذلك العنوان يتوقف على وجود ذلك الدليل.
ثم إن ما ذكره - من لغوية دليل النافي لحكم الشك في النافلة، أو مع كثرة الشك وغير ذلك لو لا الأدلة المثبتة لحكم الشك -.
ففيه أنه بدون تلك الأدلة وإن كان حكم الشك منفيا عن النافلة، أو مع كثرة الشك بحكم العقل بالبراءة، كنفيه به حينئذ عن غير ذلك المورد - أيضا - من غير احتياج في نفيه إلى ذلك الدليل أصلا، لكن ليس كل ما لا يحتاج إليه يكون الإتيان به لغوا، إذ ربما تكون له فائدة أخرى غير التفسير والبيان، فيحسن الإتيان به، وأقلها تأييد حكم العقل وتعاضده بالنقل، وهو حاصل في المثال المذكور، فلا وجه للحكم باللغوية على تقدير انتفاء تلك
الأدلة، فافهم.
هذا كله في بيان ميزاني الورود والحكومة.
الوجوه المتصورة في اعتبار الأصول
أما الوجوه المتصورة في كيفية اعتبار الطرق والأمارات الظنية فأربعة:
أحدها: أن يكون اعتبارها على وجه السببية واقعا، بأن يراد من أدلة اعتبارها علية قيامها لوجوب البناء على مقتضاها والعمل على طبقها.
وثانيها: أن يكون اعتبارها على وجه السببية ظاهرا، بأن يراد من تلك الأدلة عليتها في مرحلة الظاهر لإحداث حكم بالعمل على طبقها.
180

والفرق بينه وبين الأول: تحقق الإطاعة والعصيان الواقعيتين بمجرد إيقاع العمل على طبقها أو عدم إيقاعه إذا كانت متضمنة لتكليف على الأول مطلقا، وعلى الثاني إذا صادفت تكليفا واقعيا لا مطلقا، بحيث تكون مخالفتها - فيما إذا لم يكن في مواردها - مجرد تجر.
وثالثها: أن يكون اعتبارها على وجه الطريقية بالنسبة إلى نفي الاحتمال المخالف لها فحسب، بأن يراد من تلك الأدلة أنه لا يعبأ بالاحتمال المخالف لمؤديات تلك الطرق والأمارات، فيكون نفس الاحتمال الموافق لها كالمسكوت عنه، لعدم كونها دليلا عليه حينئذ.
ورابعها: أن يكون اعتبارها على وجه الطريقية في تمام مؤداها وكونها منزلة منزلة العلم، بأن يراد من تلك الأدلة جعل مؤداها بمنزلة المتيقن وجعل الاحتمال المخالف لها بمنزلة العدم.
وأما الوجوه المتصورة في كيفية اعتبار الأصول - أيضا - أربعة بالنظر إلى الشك المأخوذ في موضوعها وإلى العلم الذي جعل غاية لارتفاعها في أدلة اعتبارها.
أحدها: أن يكون المراد بالشك في أدلة اعتبارها هو الجهل المقابل للعلم، وكان المراد بالعلم هو صفة القطع.
وثانيها: الوجه الأول بحاله بالنظر إلى الشك مع كون المراد بالعلم في الأدلة هو مطلق الطريق الشامل لغير العلم من الظنون المعتبرة، بأن يكون المراد به هو مطلق الحجة على خلاف الأصول.
وثالثها: أن يكون المراد بالعلم هو صفة القطع، لكن يكون المراد بالشك هو التحير في مقام العمل.
ورابعها: أن يكون المراد بالشك عدم الحجة، وبالعلم مطلق الحجة.
فإذا عرفت ذلك كله فاعلم: أنه إن كان اعتبار الطرق والأمارات على
181

الوجه الأول من الوجوه الأربعة المتقدمة: فهي وإرادة على الأصول الشرعية العملية بجميع الوجوه المتصورة في اعتبارها، فإن حكم الواقعة - المفروض الشك في حكمها - وإن لم يعلم بمجرد قيام دليل أو أمارة ظنيين، لكن قيامهما يوجب حدوث تكليف آخر واقعي معلوم بإيقاع العمل على طبقهما، فلا مجرى للأصول أصلا بالنسبة إلى هذا التكليف، بل يرتفع موضوعها وهو الشك بكلا المعنيين فيه بمجرد قيامهما في المورد.
وإن كان اعتبارها على الوجه الثاني: يقع (1) التعارض بينها وبين الأصول بجميع الوجوه المتصورة في اعتبارها - أيضا - إذ حينئذ كل منهما يقتضي حكما ظاهريا مأخوذا فيه الجهل بحكم الواقعة، ولا يوجب شيء منهما تبيين الواقع، حتى يكون واردا على الآخر، ولا منزلا منزلة العلم، حتى يكون حاكما عليه، فلا بد حينئذ من ملاحظة الترجيح بين أدلة اعتبار الطرق والأمارات وبين أدلة اعتبار الأصول، ومع فقده يرجع إلى الأحكام المقررة لصورة تكافؤ الدليلين.
وإن كان اعتبارها على أحد الوجهين الأخيرين من الوجوه الأربعة المتقدمة فحينئذ:
إن كان اعتبار الأصول على الوجه الثاني من الوجوه المتقدمة: تكون (2) الطرق والأمارات - بمقتضى أدلة اعتبارها المنزلة لهما بالنسبة إلى نفي الاحتمال المخالف لهما الموافق للأصول - حاكمتين على الأصول لكونهما رافعتين للأصول مع صدق موضوعها - وهو عدم العلم - على المورد.
وإن كان اعتبارها على الوجه الثالث والرابع: فهما واردتان عليها، لأن موضوعها - وهو التحير في العمل وعدم الحجة - يرتفع بمجرد قيامهما، إذ مع
182

واحد منهما لا تحير في مقام العمل.
وإن كان اعتبارها على الوجه الأول: فهما حاكمتان عليها، فإنها وإن لم يرفعا موضوعها، إلا انهما رافعتان لحكمها بمقتضى أدلة اعتبارهما، فإن حكم الشارع بالبناء على عدم الاحتمال المخالف لمؤداهما معناه رفع الحكم الظاهري المجعول منه لذلك الاحتمال في موردهما، فيكون قوله: (صدق العادل في خبره أو البينة) - مثلا - تفسيرا لقوله: «لا تنقض اليقين بالشك» (1)، وقوله: «كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر» (2) وقوله: «كل شيء لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه» (3)، وغير ذلك.
ومبنى الحكومة في الوجه الأول على تنزيل الشارع لهما مقام العلم من دون تصرف في أدلة اعتبار الأصول أصلا.
ومبناها في الوجه الثالث على جعل تلك الأدلة قرينة صارفة للعلم المأخوذ غاية في أدلة اعتبار الأصول إلى الأعم من صفة القطع.
ومبنى الورود في الوجه الثالث على جعل تلك الأدلة قرينة صارفة للشك المأخوذ في أدلة اعتبار الأصول إلى الأخص من ظاهره، حيث إن ظاهره مطلق الجهل المقابل للعلم، والشك المقرون بالتحير في مقام العمل قسم منه، وإن شئت فعبر عنه بالشك فيما يصنع حال الجهل.
183

ومبناه في الفرض الرابع على جعل تلك الأدلة صارفة للشك إلى الأخص وللعلم إلى الأعم منه.
ومبناه في الفرض الأول - من فروض اعتبار الطرق والأمارات - على ظهور أدلة اعتبارها في السببية من غير تصرف في أدلة اعتبار الأصول أصلا.
هذا.
والتحقيق: أن كل واحد من التعارض والورود والحكومة - على تقديره - إنما هو بين أدلة اعتبار الطرق والأمارات وبين أدلة اعتبار الأصول، لا بين ذات الطرق والأمارات وبين نفس الأصول.
أما على تقدير الحكومة: فلأن المفسر، إنما هو أدلة اعتبار الطرق والأمارات، والمفسر - بالفتح - إنما هو أدلة اعتبار الأصول، دون نفس الطرق والأمارات والأصول.
وأما على تقدير الورود: فلأن الرافع للشك حقيقة إنما هو أدلة اعتبار الطرق والأمارات، لا أنفسهما كما لا يخفى، فلا يصدق تعريف (الوارد) إلا عليها.
وأما على تقدير التعارض: فلأنه لو فرض وجود طريق أو أمارة مع فرض عدم اعتباره، أو أصل كذلك - مثلا - فمن المعلوم عدم التعارض بينه وبين الطرف الآخر المفروض اعتباره، فإنه بوجوده لا يمنع من العمل به، بل إنما يمنع منه بواسطة اعتباره، والمفروض أن اعتباره كل من الطرق والأمارات والأصول إنما هو بأدلة
اعتبارها، فالتعارض حقيقة بين تلك الأدلة.
وتقديم الطرق والأمارات على الأصول ليس لأجل ورودها أو حكومتها على الأصول، بل لأجل ورود أدلة اعتبارها أو حكومتها على أدلة اعتبار الأصول، وتقديم أدلة اعتبارها إنما هو بتقديم ما قامت هي على اعتبارها، وهي الطرق والأمارات.
184

وبعبارة أخرى: لا بد من تقديم أدلة اعتبارها على أدلة اعتبار الأصول على تقدير حكومتها أو ورودها عليها، وتقديمها عبارة عن العمل على طبقها والأخذ بمؤداهما، وطرح مؤدى أدلة اعتبار الأصول، والعمل على طبقها عنوان منطبق على العمل بتلك الأدلة الخاصة والأمارات في الموارد الخاصة مقابل الأصول الجارية فيها لو لا تلك الأدلة والأمارات.
نعم قد يوجد من الأدلة والأمارات ما يكون هو بنفسه واردا على الأصل الجاري في المورد لولاه، كجميع الأدلة والأمارات المفيدة للقطع، وأما الأدلة والأمارات الغير العلمية فليس الوارد - على تقدير الورود - إلا دليل اعتبارها، وكلامنا إنما هو فيها.
وقد يوجد منها - أيضا - ما يكون حاكما على في بعض الموارد الخاصة، كأدلة الشكوك - في الصلاة الرباعية - الدالة على البناء على الأكثر في مقابل الاستصحاب - المقتضي للبناء على الأقل - إذا فرض كون تلك الأدلة قطعية سندا ودلالة، إذ لو فرض ظنيتها من إحدى الجهتين يكون الحاكم حينئذ حقيقة هو دليل اعتبار السند أو الدلالة، كما أنه قد يكون بعض الأدلة الاجتهادية الظنية حاكمة على البعض الآخر، كالأدلة النافية لحكم الشك - مع كثرة الشك، أو مع حفظ الإمام أو المأموم، أو غير ذلك - الحاكمة على أدلة الشكوك (1).
لكن كلامنا في كلية الطرق والأمارات الظنية بالنسبة إلى كلية الأصول وتوضيح الحال بالنظر إليهما، لا في استيفاء جميع مصاديق الوارد والحاكم.
وكيف كان، فقد ظهر مما ذكرنا ما في كلام المصنف - قدس سره - من

(1) اعلم أنه قد تتحقق الحكومة بين نفس أدلة اعتبار الأصول بعضها مع بعض، فإن أدلة اعتبار الاستصحاب حاكمة على أدلة اعتبار سائر الأصول من أصالتي البراءة والاحتياط وغيرهما، وقد تتحقق بين نفس أدلة اعتبار الأمارات بعضها مع بعض، فإن أدلة اعتبار البينة حاكمة على أدلة اعتبار اليد والسوق، لمحرره عفا الله عنه.
185

جعل الحكومة بين نفس الأدلة ونفس الأصول.
نعم جعله الورود بين أنفسهما - حيث إنه فرض الدليل قطعيا من جميع الجهات - في محله، حيث إن الأدلة القطعية بنفسها رافعة للشك من غير حاجة إلى دليل اعتبار أصلا، لأن القطع منجعل في نفسه.
ثم إن الظاهر من أدلة اعتبار الطرق والأمارات الظنية إنما هو اعتبارها على الوجه الرابع من الوجوه الأربعة المتصورة المتقدمة فيها (1).
نعم لا تظهر الثمرة بين اعتبارها على ذلك الوجه وبين اعتبارها على الوجه الثالث من تلك الوجوه من حيث الورود والحكومة على الأصول، فإن الملحوظ فيهما إنما هو الاحتمال المخالف للطرق والأمارات الموافق للأصول.
وإنما تظهر الثمرة بينهما من جهة أخرى، وهي كون الطرق والأمارات دليلا في إثبات الاحتمال الموافق لها على وجه تعارض ما يدل على نفي ذلك الاحتمال - بناء على اعتبارها على الوجه الرابع - وعدم كونها دليلا، فلا تصلح لمعارضة ما يدل على نفي ذلك الاحتمال بناء على اعتبارها على الوجه الثالث.
وأما الأصول العملية فهي مختلفة.
فإن الظاهر من أدلة اعتبار الاستصحاب اعتباره على الوجه الأول من الوجوه المتقدمة فيها، كما لا يخفى.
وأما أصالة البراءة فهي وإن كان ظاهر بعض أدلتها اعتبارها على ذلك الوجه، لكن التأمل في مجموع الأدلة يقضي باعتبارها على الوجه الرابع.
وأما التخيير فهو من باب العقل، والكلام في الأصول الشرعية، وإن

(1) من غير فرق في الطرق بين اعتبارها من حيث الصدور إذا كان الصدور ظنيا، أو من حيث الدلالة إذا كانت الدلالة كذلك، أو من حيث وجه الصدور إذا كان هو كذلك، فإن أدلة اعتبار السند وأدلة اعتبار الأصول اللفظية التي هي المنشأ للظهور، وكذا أدلة اعتبار أصالة كون المتكلم في مقام بيان الواقع كلها خاصة بذلك. لمحرره عفا الله عنه.
186

شئت الإشارة إلى كيفية اعتباره عقلا، فاعلم أن موضوعه إنما هو التحير، وغايته رفعه، فيكون اعتباره على الوجه الرابع، كاعتبار أصالة البراءة من باب التعبد، بل ومن باب العقل أيضا.
نعم التخيير في الخبرين المتعارضين شرعي، والظاهر أن اعتباره - أيضا - على الوجه الرابع، فتكون أدلة التراجيح واردة عليها (1) مطلقا (2)، فيكون حاله بالنسبة إلى تلك الأدلة حال القرعة في الموضوعات بالنسبة إلى الأمارات من حيث وجه الاعتبار وكونه مورودا عليه (3).
وأما أصالة الاحتياط فالظاهر أنها - أيضا - كأصالة البراءة - سواء كان مدركها الأخبار أو العقل - فإن مدركها (4) مطلقا إنما هو عدم الحجة للمكلف في ترك الموافقة القطعية.
وبالجملة: فعل ما استظهرنا فأدلة اعتبار الطرق والأمارات حاكمة على الاستصحاب، وواردة على أصالة البراءة والاحتياط، ووجهه قد علم مما سبق، فلا نطيل الكلام بإعادته.
لا يقال: إنه لو كان أدلة اعتبار تلك الأصول قطعية الصدور فتكون (5) أدلة اعتبار الطرق والأمارات مفسرة لها ورافعة لحكمها عن صورة قيام دليل أو أمارة غير علميين.
وأما إذا كانت تلك الأدلة أيضا - كنفس الأدلة الاجتهادية - ظنية فلا،

(1) سواء كانت قطعية أو ظنية. لمحرره عفا الله عنه.
(2) كذا في الأصل، لكن الظاهر أن عدم الحجة المذكور أعلاه هو موضوع أصالتي البراءة والاحتياط أو جزء موضوعهما، لأن عدم الحجة يعني الشك في التكليف.
187

فإنها حينئذ إنما تثبت تلك الأصول بملاحظة اعتبارها بمقتضى أدلة اعتبار قول العادل، فإن قوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشك» (1) - على تقدير ظنية صدوره إنما يقوم دليلا على اعتبار الاستصحاب بالنظر إلى شمول قوله:
(صدق العادل) له الذي هو مستند اعتبار الأخبار الظنية الصدور المتضمنة لبيان الأحكام الواقعية، المخالفة لمقتضى الاستصحاب، فهو في عرض تلك الأخبار، فكيف تقدم هي عليه في مورد المخالفة؟ فإن معنى تصديق العادل - في قوله:
قال الصادق عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشك» - وجوب البناء على عدم احتمال عدم صوره منه عليه السلام وفرضه كمقطوع الصدور، كما أن قوله: صدق العادل - في قوله: قال الصادق عليه السلام: «تجب السورة» (2) - معناه ذلك، فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر، لعدم اقتضاء دليل اعتبار صدورهما ذلك، بل نسبته إلى كل منهما كنسبته إلى الآخر.
مع أنه يلزم - على تقدير تقديم قوله: «تجب السورة» على قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» - التبعيض في الصدور، إذ من المعلوم أن (ما) (3) وما تقدمه عليه إنما تقدمه في مورد مخالفته للأدلة الاجتهادية، وأما في صورة عدم دليل اجتهادي فيعمل به، وهو كما ترى.
لأنا نقول: إنا لا تقدم صدور أحدهما على صدور الآخر، بل نحكم - بمقتضى دليل الصدور بصدور كليهما وفرضهما كمقطوعي الصدور، إلا أنا نقدم
188

أحدهما على الآخر من حيث الدلالة، ودليل اعتبار دلالتيهما وظهوريهما وإن كان - أيضا - متحدا، إلا أنه يقتضي جعل كل ظهور طريقا إلى مؤداه، وجعل احتمال خلافه بمنزلة العدم في عدم ترتب حكم المجعول له مع فقد ذلك الظهور عند وجوده.
ومن المعلوم أن مقتضى قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» ليس إلا أنه جعل لاحتمال بقاء الحالة السابقة حكما ظاهريا، وهو البناء على بقائه، ومقتضى قوله عليه السلام: «تجب السورة» وجوبها واقعا، واحتمال خلافه إنما هو عدم وجوبها الذي هو مقتضى الاستصحاب، وحكم الشارع بحجية ظهوره عدم اعتنائه بذلك الاحتمال، فيكون ذلك في معنى (أني لا أريد ذلك الحكم الظاهري المجعول له عند وجود ذلك الظهور)، فيكون نفس دليل اعتبار ظهوريهما مفسرا للمراد من قوله: «لا تنقض اليقين».
فالحكومة بينهما إنما هي بالنظر إلى دلالتهما، والتبعيض إنما هو بالنسبة إليها، لا بالنسبة إلى الصدور.
وبعبارة أخرى: دليل اعتبار ذينك الظهورين يقتضي عدم اعتناء الشارع باحتمال (1) خلافهما، بمعنى أنه لو فرض منه حكم مجعول لاحتمال خلافهما فهو منفي في مورديهما، ومن المعلوم أن ظاهر قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» أنه قد جعل للشك في احتمال البقاء والارتفاع حكما ظاهريا، وهو وجوب البناء على مقتضى الحالة السابقة للمشكوك، واحتمال خلاف ذلك الظهور عدم جعله للشك ذلك الحكم، لا عدم جعله للمورد حكما واقعيا على خلاف حكمه السابق، حتى يقع التعارض بين قوله المذكور وبين قوله: «تجب
189

السورة» الذي يفيد للسورة حكما مخالفا لحكمها السابق، وهو عدم الوجوب - مثلا -، نظرا إلى كون احتمال وجوب السورة حينئذ هو احتمال خلاف قوله:
«لا تنقض اليقين» مع ملاحظة أن احتمال خلاف قوله: «تجب السورة» أيضا عدم وجوبها الذي هو الاحتمال الموافق لقوله: «لا تنقض» فيقال حينئذ: إن دليل اعتبار كل من الظهورين يقتضي إلغاء احتمال خلافه، مع فرض أن كلا منهما إنما هو احتمال خلاف الآخر، فيلزم من شموله لكل منهما عدم حجية شيء منهما في مؤداه، وشموله لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، فيلزم أن لا يكون شيء منهما حجة في مؤداه، فلا يثبت للمورد حكم أحد الدليلين.
والحاصل: أن احتمال خلاف ظاهر الدليل الاجتهادي المتكفل لبيان الحكم الواقعي إنما هو الاحتمال الموافق لمقتضي دليل اعتبار الأصل، بخلاف العكس، فمقتضى حكمه بالأخذ بالظهورين - والبناء على عدم احتمال خلافهما - أنه لم يرد ذلك الحكم الظاهري في مورد ظهور الدليل الاجتهادي، ومعناه ذلك، فيكون دليل اعتبارهما مفسرا للمراد من قوله: «لا تنقض» - مثلا - وحاكما عليه، فافهم، ولا تغفل.
جريان الورود والحكومة في الأصول اللفظية
قوله - قدس سره -: (ثم إن ما ذكرنا من الورود والحكومة جار في الأصول اللفظية أيضا) (1)
اعلم أن الأصول اللفظية إنما هي أدلة اجتهادية بالنسبة إلى مؤدياتها، لا أحكام ظاهرية، إلا أن اعتبارها إنما هو في صورة عدم القرينة الصارفة عنها.
فحينئذ إن كانت القرينة قطعية فهي بنفسها رافعة لموضوعها، فتكون واردة عليها.
190

وإن كانت ظنية من حيث الصدور - مع نصوصيته أو أظهريته - فتكون حاكمة عليها، إذ بمقتضى أدلة اعتبار سندها تكون كمقطوع الصدور من حيث إيجابها لرفع حكم تلك الأصول واعتبارها عن موردها وإن لم يرفع موضوعها، وهو عدم العلم بالقرينة.
وبعبارة أخرى: إن الحكم بصدور ما يكون على تقدير صدوره قرينة أنه لم يعتن باحتمال عدم القرينة بمعنى أنه رفع الحكم المجعول لذلك الاحتمال عن مورد تلك القرينة المظنونة الصدور، فيكون حكمه بالصدور تفسيرا لدليل اعتبار تلك الأصول، فيكون دليل اعتبار الأصول حاكما على دليل اعتبار الأصول اللفظية.
والمصنف - قدس سره - جعل الحكومة هنا - أيضا - بين نفس الأصول ونفس القرائن الظنية، وليس بجيد.
والتحقيق: ما عرفت من كون دليل اعتبار القرينة حاكما على دليل اعتبار الأصول.
قوله - قدس سره -: (وحاكم عليه إذا كان ظنيا في الجملة كالخاص الظني السند) (1)
أقول: قوله: (في الجملة) يشعر بأنه إذا كانت القرينة ظنية - دلالة، أو سندا ودلالة - [فهي] - أيضا - حاكمة على الأصول اللفظية، وأن قوله:
(كالخاص الظني السند) إنما هو من باب المثال (2).
لكنه لا يستقيم، لأنها إذا فرضت ظنية من حيث الدلالة - مع القطع

(1) لا يقال: إن تقديم الأظهر على الظاهر - إذا كان الأظهر مقطوع [الصدور] - إن كان من باب ترجيح
دلالته على دلالة الظاهر لقوته أو من باب الحكومة يكون (أ) تقديمه عليه مع ظنية صدوره - أيضا - من هذا الباب، وإن كان فرق فبينه.
لأنا نقول: إنه إذا كان مقطوع الصدور لا يصلح أن يعارض القطع بصدوره الظن بصدور الآخر، وإنما يعارض الظاهر ظاهر [الآخر] (ب)، فيقدم ظهوره عليه لقوته، هذا بخلاف ما إذا كان ظني الصدور، فإن الكلام فيه إنما هو بعد الفراغ عن كون الأظهر كالنص في تقديمه على الظاهر على تقدير قطعية صدوره، فينحصر التعارض بمقتضى الفرض بين الظن بصدور الأظهر وبين ظهور الظاهر، إذ على تقدير قطعية صدوره لا معارضة بين ظهوره وبين ظهور الظاهر بالفرض، بل يقدم عليه دون العكس، فيكون الأظهر بمقتضى دليل صدوره حاكما على الظاهر دون العكس، فإن دليل صدورهما وإن كان واحدا إلا أن مقتضاه وجوب التعبد بآثار الصدور للمشكوك الصدور، فإذا فرضنا أن من آثار الأظهر كونه صارفا للظاهر على تقدير صدوره دون العكس، فيكون مقتضاه وجوب البناء على كون الأظهر صارفا عنه حال الشك في صدوره، فالأظهر حال كونه مشكوك الصدور لا تنفع قوة دلالته بمجردها في تقديمه على الظاهر، بل يتوقف على إحراز صدوره، فالدليل المثبت لصدوره يكون حاكما على الظاهر، ويكون تقديمه عليه من هذا الباب، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
191

بصدورها (1) - فلا ريب أن منشأ ذلك الظن إنما هو - أيضا - هي (2) الأصول اللفظية، فحينئذ يقع التعارض بين نفس الأصول اللفظية، وحينئذ إن لم يكن ظهورها أقوى فلا تصلح لكونها قرينة للصرف أصلا، وإن فرض كونه أقوى فتقديمه على الظهور الآخر إنما هو لأجل ترجيحه عليه لقوته، وقد عرفت في الفرق بين الحكومة والتخصيص أن التقديم لأجل الترجيح خارج عن باب الحكومة، فإن الترجيح فرع التعارض وكون كل منهما حجة في نفسه، وقد مر أن
192

تقديم الحاكم على المحكوم عليه ليس لأجل ترجيحه عليه، بل لأجل كونه مفسرا له ورافعا لحكمه عن مورده بحيث لا تعارض أولا وبالذات فكان عليه - قدس سره - أن يقول: إذا كان ظنيا من حيث السند كالخاص الظني السند ونحوه، فلا تغفل.
قوله - قدس سره -: (فحالها حال الأصول العقلية، فتأمل) (1)
أقول: الأمر بالتأمل إشارة إلى أن القول يكون العمل بالظواهر معلقا على عدم التعبد بالقرينة خلاف التحقيق، بل الحق أن العرف متعبدون بالظواهر عند عدم القرينة الصارفة، لكن إحراز عدمها على سبيل القطع لما كان مخلا بأمور معاشهم وموجبا للتعطيل فيها فاكتفوا في إحراز عدمها بأصالة عدمها تعبدا، وجعلوها طريقا إلى عدمها.
قوله - قدس سره -: (وإن فرض كونه أضعف الظنون المعتبرة). (2)
يعني من حيث الصدور بقرينة قوله - فيما بعد -: (نعم لو فرض الخاص ظاهرا)، ولا بد أن يكون المراد ذلك، لما مر في بيان الإشكال على قوله: (إذا كان ظنيا في الجملة)
قوله - قدس سره -: (فلو كان حجية ظهور العام غير معلقة على عدم الظن المعتبر على خلافه). (3)
193

توضيحه: أنه لو لم يكن حجية ظهور العام - مثلا - معلقة على عدم مخصص ظني الصدور بالظن المعتبر لكان دليل حجية ظهوره مقتضيا لحجيته مع وجود ذلك المخصص الظني الصدور - أيضا - فحينئذ يقع التعارض بينه وبين دليل اعتبار ذلك المخصص من حيث الصدور، ويكون كل واحد من الظنين - أعني الظن بالصدور والظن بالمراد الحاصل من العام - حجة في نفسه، لكن العمل بأحدهما والأخذ بمقتضاه لا بد من ترجيحه على الآخر، والمرجح حينئذ كون أحدهما أقوى من الآخر، فإن كان أحدهما كذلك يؤخذ به، ويطرح الآخر، وإلا فيتكافئان ويتساقطان.
ومن المعلوم أنه ليس الظن بالصدور في جميع الموارد أقوى من الظن بإرادة العموم من العام، بل قد يكون ظن إرادة العموم أقوى، وقد يكونان متساويين، ولازم ذلك أن يؤخذ بالعام في مورد كون الظن بإرادة العموم أقوى
، ويطرح الخاص الظني الصدور، ويتوقف فيما إذا كان الظنان متساويين مع أنا لم نسمع موردا يقدم [فيه] ظهور العام على صدور الخاص حتى في صورة كون احتمال إرادة العموم أقوى من احتمال صدور الخاص، بل يقدمون الخاص من حيث الصدور على العام من حيث الدلالة.
نعم قد يكون الخاص ظني الدلالة، فيتعارضان، لكن التعارض حينئذ إنما هو بين الدلالتين، لا بين دلالة العام وبين سند الخاص، فإنه لا يزاحم سنده، وإنما يزاحم دلالته، وحينئذ إن كان ظهور العام أقوى من ظهوره فيقدم عليه، لترجيح ظهوره على ظهوره، لا لترجيح ظهوره على سنده.
ويكشف عن ذلك - أيضا - أنه على تقدير تقديم العام لا يطرح الخاص رأسا بحيث يكون وجوده كعدمه، بل يصرف عن ظاهره، فحينئذ إن كان أقرب
194

المجازات (1) فيحمل عليه، ويكون حجة في إثباته وواردا على الأصل النافي له لو كان مخالفا للأصل، ويتعارض مع ما دل على نفيه من الأدلة الاجتهادية لو كان هناك دليل كذلك.
قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الترك
قوله - قدس سره -: (وهي أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح). (2)
المراد بالأولوية هنا إنما هو التعيين، لا الرجحان المطلق، ومنه قوله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم (3).
والكلام في الجمع بين الخبرين هنا إنما هو بالنظر إلى صدورهما.
والمراد بالجمع: البناء على صدور كليهما، وفرضهما كمقطوعي الصدور، والتصرف في متنهما.
وبالطرح: البناء على عدم صدور أحدهما والأخذ بسند الآخر ودلالته إما لمرجح أو من باب التخيير.
ومحل النزاع في هذه القاعدة: إنما هو فيما إذا كان الخبران كلاهما ظاهرين من حيث الدلالة.
وأما إذا كان أحدهما نصا أو أظهر أو كان كلاهما نصين فلا نزاع، بل المتعين على التقديرين الأولين هو الجمع والتصرف في دلالة الظاهر، وفي الأخير هو الطرح لمرجح إن كان له مرجح وقلنا بوجوب الأخذ به، وإلا فيؤخذ بأحدهما تخييرا.
ثم إن الكلام في هذه القاعدة خارج عن مسألة التعادل والترجيح الموضوعة لها هذه الرسالة فإن النزاع في هذه القاعدة صغروي بالنسبة إليها
195

حيث إنها على تقدير اعتبارها ولزوم الأخذ بها ترفع التعارض المتحقق بين الخبرين الظاهرين من حيث الصدور، فيخرجهما عن مورد الكلام في المسألة المذكورة، فيختص مورد المسألة بالنصين من الخبرين المتعارضين، حيث إن شيئا منهما غير قابل للتأويل في دلالته، وعلى تقدير عدم اعتبارها فلا، بل يدخل موردها في المسألة المذكورة.
قوله - قدس سره -: (ولا ريب أن التعبد بصدور أحدهما - المعين إذا كان هناك مرجح، والمخير إذا لم يكن - ثابت على تقدير الجمع وعدمه). (1)
هذا بالنظر إلى الإجماع والأخبار العلاجية، حيث إنها بمجموعها تفيد عدم سقوط المتعارضين كليهما عن الحجية في مؤداهما وكونهما كأن لم يكونا بالنسبة إلى مؤداها، وإلا فمقتضى الأصل - كما ستعرف بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقية كما هو المختار - إنما هو سقوط المتعارضين منها عن الحجية، وعدم كون شيء منهما حجة فعلا في مؤداه.
ثم إن حاصل مراده - قدس سره -: أنه لا مناص عن الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين، لما مرت الإشارة إليه، ومن المعلوم أن الذي وجب الأخذ به منهما لا يعقل أن يزاحم سنده سند الآخر، بل التزاحم إنما يقع بين ظاهر ذلك المتيقن الأخذ به وبين السند الآخر، لدوران الأمر حينئذ بين التصرف في ظاهره والأخذ بسند الآخر ودلالته وبين طرح سند الآخر، وظاهر الآخر لا يزاحم ظاهره، لعدم صلاحيته لذلك، فإن أدلة اعتبار الظواهر إنما تقتضي اعتبار الظواهر بعد الفراغ عن سندها، والمفروض عدم إحرازه بعد (2) في المقام، فلا
196

يكون طرحه مع الشك في صدور متنه مخالفا لذلك الدليل، حتى يقع التعارض والتزاحم بينه وبين ظهور ذلك المتيقن الأخذ به (1).
وبالجملة: ذلك الدليل إنما يشمل ظهور ذلك الواحد المتيقن الأخذ به، دون ظهور الآخر، فيقع التعارض والتزاحم حقيقة بين ذلك الدليل وبين دليل اعتبار سند الآخر ولا ترجيح للثاني، فيكون اختياره ترجيحا بلا مرجح.
فظهر أنه لا دليل على القاعدة المذكورة مع قطع النظر عن الأدلة المتقدمة المشار إليها المانعة من المصير إليها.
هذا خلاصة ما ذكره - قدس سره -.
لكن الإنصاف: أنه مع الإغماض عن تلك الأدلة مقتضى الأصل والقاعدة إنما هو لزوم الأخذ بالسندين والتصرف في ظهور أحدهما أو كليهما فإن الشك في جواز التأويل في أحدهما أو كليهما ناشئ من الشك في صدور كليهما ومسبب عنه، دون العكس، فحينئذ يكون دليل اعتبار سند ما عدا المتيقن الأخذ به حاكما على دليل اعتبار ظهور المتيقن الأخذ به، فيكونان كمقطوعي الصدور، فلا بد من التأويل حينئذ دون الطرح، فقياسهما بمقطوعي الصدور في محله، وسيجئ بيان ضعف ما ذكره - قدس سره - في وجه بطلانه.
قوله - قدس سره -: (وتوضيح الفرق وفساد القياس: أن وجوب التعبد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور، بل القطع بالصدور قرينة على إرادة خلاف الظاهر). (2)
حاصل مراده - قدس سره -: منع كون الشك في التأويل مسببا عن

(1) ومن هنا ظهر ضعف الوجه الثاني الذي احتج به صاحب عوالي اللئالي، فإن الدلالة الأصلية ما لم يحرز صدور متنها لا يكون طرحها مخالفا للأصل، حتى يصار إلى التأويل - الذي هو طرح دلالة نفسه - فرارا عنه. لمحرره عفا الله عنه.
197

الشك في الصدور وإبداء الفارق بين المقيس والمقيس عليه (1).
وتوضيح ما أراده من الفرق: أن الأمر في الخبرين المتعارضين يدور بين أمور أربعة:
أحدها: البناء على صدور كليهما، والأخذ بظاهر كل منهما.
ثانيها: البناء على عدم صدور شيء منهما.
وثالثها: البناء على صدور أحدهما المعين، والأخذ بظاهره، وطرح الآخر رأسا.
ورابعها: البناء على صدور كليهما، والتصرف في ظاهريهما.
والشك في أحد تلك الأمور غير مسبب عن شيء من البواقي (2)، حتى يكون النافي له نافيا ومزيلا للآخر.
بل لو قام دليل على نفى أحدها فغاية ما يترتب عليه [هو] انحصار الاحتمال في البواقي (3)، فلو فرض قيام دليل على نفي أحدها ينحصر الاحتمال في الثلاثة، ولو فرض قيامه على نفي اثنين ينحصر في اثنين، ولو فرض قيامه على نفي ثلاثة منها يتعين الأخذ بالواحد الباقي من باب أن انتفاء أحد طرفي المنفصلة المانعة الخلو مستلزم لثبوت الطرف الآخر.
ولما كان الأمران الأولان غير محتملين في المقيس والمقيس عليه كليهما - أما أولهما فلعدم إمكانه عقلا، وإلا لم
يكونا متعارضين، وأما ثانيهما فلعدم إمكانه شرعا، نظرا إلى قيام الإجماع وتواتر الأخبار العلاجية بحجية أحدهما - فيبنى على عدمهما في كل منهما.

(1) المقيس هو الخبران المعتبران سندا، والمقيس عليه هو الخبران المقطوع بصدورهما.
(2) فواعل جمع فاعلة، وكل واحد من الأمور الثلاثة الباقية يوصف بالباقي، لا بالباقية، فلا توصف الأمور بالبواقي، بل بالمفرد المؤنث، أي الأمور الباقية، وهكذا يقال فيما شاع استعماله من وصف الأمور بالاخر.
198

لكن المقيس عليه له خصوصية زائدة [هي] صفة القطع بالصدور - تنفي احتمال الأمر الثالث - أيضا - فينحصر فيه الأمر في الرابع، ويتعين الأخذ به، وهذه الخصوصية مفقودة في المقيس، حتى توجب نفي ذلك الاحتمال أيضا.
والحاصل: أن الذي ألجأنا في المقيس عليه إلى ارتكاب التأويل إنما هو القطع باحتمال (1) غيره، إذ معه لا مناص لنا عن الالتزام بالتأويل وهذا مفقود في المقيس.
وبعبارة أخرى: الملازمة ثابتة بين التأويل والأخذ بالسندين وبين القطع بالسندين، لا بين واقعية السندين وبين التأويل.
وبعبارة ثالثة: مجرد صدور الخبرين المتعارضين في الواقع مع قطع النظر عن العلم به غير ملازم للالتزام بالتأويل، وإنما الملازم له هو القطع بصدورهما.
هذا حاصل ما ذكره - قدس سره - بتوضيح منا.
لكن يتجه عليه: منع الملازمة بين نفس القطع وبين التأويل، بل الملازم له إنما هو صدور الخبرين واقعا، وعدم انفكاك القطع عنه من جهة أنه طريق إلى ملزومه وكاشف، ومن المعلوم أنه مع انكشاف الملزوم بأي طريق كان يترتب عليه لازمة، سواء كان ذلك الطريق عقليا كالقطع، أو شرعيا كأدلة اعتبار السند، والذي يكشف عن ذلك أنا لو فرضنا القضية فرضية لوجدنا الملازمة بين نفس صدور كليهما واقعا وبين التأويل فيهما.
ألا ترى أنه لو قيل: - إنه لو كان الخبران كلاهما صادرين لوجب

(1) الظاهر - إذا لم يكن من المقطوع به - أن عبارة المتن صحيحة ومراده (ره) فيها هو: أن الذي ألجأنا إلى التأويل في المقيس مكية - أي في الخبرين المتعارضين المقطوعي الصدور - هو القطع بإرادة خلاف الظاهر من أحدهما، إذ التعارض بين ظاهريهما، ولا يمكن طرحهما ولا طرح أحدهما للقطع بصدورهما، كما لا يمكن الأخذ بظاهريهما لتعارضهما، فلا محيص من تأويل ظاهر أحدهما لرفع التعارض. إذن ففي المقيس عليه نحن نقطع بإرادة الاحتمال الآخر غير الظاهر.
199

التأويل فيهما - لكان صادقا من غير مسامحة ومجاز من غير حاجة إلى توسيط صفة القطع.
نعم ترتيب هذا اللازم عليه هو في الظاهر يتوقف على إحراز ملزومه بأحد الطرق، فيكون الشك في التأويل مسببا عن الشك في صدور كليهما واقعا، وبعد ملاحظة أدلة إثبات صدورهما يرتفع هذا الشك، ويتعين الأخذ بالتأويل كصورة القطع بصدورهما.
ويكشف عن ضعف ما ذكره - قدس سره - أيضا أنه من المعلوم عدم الفرق في الخبر الذي يجب الأخذ به والبناء على صدوره بين ما كان واحدا معينا - كما إذا تعارض آية أو رواية متواترة مع خبر واحد غير معلوم الصدور - وبين ما كان واحدا مخيرا - كما في المقام - من حيث دوران الأمر في الأول - أيضا - بين الأخذ بظاهر ذلك الذي لا بد من الالتزام بصدوره وبين الأخذ بسند الآخر والتأويل فيهما أو في ذلك الذي يجب الالتزام بصدوره.
فإن لم يكن الشك في التأويل مسببا عن الشك في صدور الآخر يلزم أن لا يبادر إلى التأويل في المقامين، وإن كان مسببا عنه فلا بد من المصير إليه في كليهما، مع أنه لم يتوقف أحد فيما أعلم في اختيار التأويل على الطرح في القسم الأول حتى المصنف - قدس سره - فإن جواز تخصيص الكتاب والخبر المتواتر بخبر الواحد مما لم نقف فيه على مخالف.
وكيف كان، فالمصنف - قدس سره - ملتزم به، فلا مناص له عنه في القسم الثاني الذي هو محل الكلام.
إن قيل: إن الكلام هنا إنما هو في الظاهرين، ومسألة تخصيص الكتاب - أو السنة المتواترة - بأخبار الآحاد إنما هي فيما إذا كان الخبر المخالف لهما نصا أو أظهر منهما.
قلنا: المناط في المقامين واحد، فإن الشك في التأويل في ظاهر
200

والسنة المتواترة إن لم يكن مسببا عن الشك في صدور المخصص فلا وجه للأخذ به واختيار التأويل، وإن كان مسببا عنه وكان هو الوجه لاختيار التأويل على طرح المخصص، فلا فرق بين المقامين بوجه.
نعم بينهما فرق، وهو أن التأويل على تقديره ثمة إنما هو بالنسبة إلى واحد معين وهو الكتاب أو السنة المتواترة، وفيما نحن فيه في الواحد الغير المعين أو في كليهما.
ومن هنا ظهر - أيضا - ضعف إبطاله - قدس سره - لقياس ما نحن فيه بالنص الظني السند مع الظاهر، الذي مثاله الخبر الواحد النص مع عموم الكتاب أو السنة المتواترة.
والعجب أنه - قدس سره - صرح - في مقام بيان حكومة الأدلة على الأصول اللفظية وحكومتها عليها -: بأن الظاهر أن دليل حجية الظن الحاصل بإرادة الحقيقة مقيد بصورة عدم وجود ظن معتبر على خلافه، ومع ذلك أنكر فيما نحن فيه كون الشك في التأويل مسببا عن الشك في صدور ما عدا الواحد المتيقن الأخذ به، وكون دليل اعتبار الصدور مزيلا للشك فيه، فإن مراده بالظن المعتبر على خلاف الظن بإرادة الحقيقة - كما عرفت سابقا - هو الظن بالصدور، ومن المعلوم أن ذلك على تقدير ثبوته جار في جميع الظواهر وبالنسبة إلى كافة الأسناد، فافهم.
والحاصل: أنه لو لا لزوم الهرج والمرج في الفقه على تقدير إهمال المرجحات في الظاهر من المتعارضين - ولو لا قيام الإجماع على إعمالها فيهما، وعدم الفرق بينهما وبين النصين - لكان القول بتقديم الجمع متجها، لكونه مقتضى القاعدة الأولية، إلا أنهما قد قطعا تلك القاعدة في الظاهرين، واختص العمل بها بما إذا كان هناك ظاهر قطعي الصدور مع نص ظني الصدور أو أظهر كذلك.
201

نعم ربما يوهن كون الجمع - أولا وبالذات - على طبق القاعدة تحير الصحابة في الخبرين المتعارضين - من حيث كيفية العمل بهما - الداعي لهم إلى السؤال، فإنه لو كان مقتضي القاعدة هو الجمع لكانت تلك القاعدة مركوزة في أذهانهم أيضا، فإنها - على تقدير اعتبارها - متخذة من بناء العرف والعقلاء - وهم منهم - ولم يبق لهم تحير حينئذ، لكونها رافعة له على تقدير اعتبارها.
اللهم إلا أن يدعى أن مورد تحيرهم وسؤالهم إنما هو فيما إذا كان المتعارضان نصين في مؤداهما، بأن يقال: إن مرادهم من قولهم: (يجيئنا خبران أحدهما يأمرنا والآخر ينهانا) إنما هو الخبران النصان في الأمر والنهي، لا مطلق ما يدل عليهما.
لكنه بعيد، فإن الأمر والنهي وإن كان موضوعين لطلب الفعل حتما واقعا، أو لطلب تركه كذلك، إلا أن الظواهر اللفظية مبنية لهما، ويقال لما يكون ظاهرا في طلب الفعل حتما: إنه أمر، ولما يكون ظاهرا في طلب تركه حتما: إنه نهي، فتأمل.
وأبعد من ذلك الاستبعاد كون التصرف في ظاهر الخطاب المقطوع الصدور بالنص الظني الصدور - أو بالأظهر كذلك - الذي لا إشكال عندهم في جوازه على خلاف القاعدة، وكونه لدليل خاص مخرج له عن كلية عدم جواز تقديم الصدور على ظاهر المتيقن الأخذ به، إذ قد عرفت أنه مع ما نحن فيه من باب واحد.
فلو كان مقتضي القاعدة الأولية عدم جواز تقديم الصدور لكان مقتضاها ذلك - أيضا - ثمة، وكان جوازه هناك لأجل دليل وارد عليها، مع أنا نقطع بأنه إنما هو بمقتضى القاعدة الأولوية، لا على خلافها، فحينئذ لا بد من
التزام كون مورد التحير في الأسئلة الواقعة في الأخبار العلاجية هو النصان، أو يقال: إن تحيرهم لم يكن لأجل عدم ثبوت قاعدة أولوية الجمع عندهم وارتكاز
202

ذلك في أذهانهم، بل لأجل أنهم كانوا يحتملون عدم إمضاء الشارع لتلك القاعدة، كما لم يمض كثيرا من القواعد المقررة عندهم قبل الشرع.
ألا ترى أن مقتضى القاعدة الثابتة عند العرف هو التوقف في صورة تعارض النصين مع ظنية صدورهما كصورة قطعية صدورهما، مع أن الشارع رد هذه القاعدة في تلك الصورة، وجعل فيها قاعدة أخرى، وهي التخيير إذا لم يكن لأحدهما مرجح، أو ترجيح أحدهما إذا كان له مرجح، فحينئذ لا مانع من تعميم مورد السؤال في تلك الأخبار بالنسبة إلى الظاهرين من الخبرين المتعارضين، فتدبر.
أقول: الذي أجده من العرف في الظاهرين اللذين يتوقف الجمع بينهما على التأويل في أحدهما الغير المعين - بأن لم يكن أحدهما أظهر - عدم المبادرة إلى الجمع، بل يتوقفون في مؤدى كل منهما بالخصوص، ويعملون فيه بمقتضى الأصول المقررة لصورة عدم الدليل.
والظاهر أن صورة توقف الجمع على التأويل في كليهما - أيضا - عندهم كذلك، فإن الظاهر أنهم في تلك الصورة - أيضا - يتحيرون فيما يصنعون، ولا يبادرون إلى الجمع والتأويل فيهما، بل يتوقفون.
فما ذكره المصنف - قدس سره - من منع القاعدة في نفسها كأنه هو الظاهر، لكن تعليله بما مر غير سديد، لاقتضائه إهمال تلك القاعدة في كثير من الموارد المسلمة المشار إليها مع أنه - قدس سره - لا يقول به.
فعلى هذا الشأن في إبداء الفارق بين الصورتين وبين سائر الموارد المشار إليها، فتدبر.
قوله - قدس سره -: (ويؤيده قوله أخيرا: فإذا لم يتمكن من ذلك ولم يظهر لك وجهه فارجع إلى العمل بهذا الحديث، فإن مورد عدم
203

التمكن نادر جدا) (1)
توضيحه: أن مورد عدم التمكن العقلي في غاية الندرة، فإنه منحصر في النصين، ومن المعلوم أن تعارض النصوص في أخبار أهل العصمة في غاية الندرة والشذوذ، فلا يمكن حمل الأخبار العلاجية عليه.
مع أن اهتمام الصحابة في السؤال يأبى عن ذلك، إذ لا معنى لكثرة الاهتمام بهذه المرتبة في السؤال واستعلام حكم مورد نادر غاية الندرة، فلا بد لأحد (2) من حملها على مورد عدم التمكن العرفي، لكونه كثيرا مقتضيا لكثرته لذلك.
فإرجاع صاحب غوالي اللئالي - في صورة عدم التمكن من التأويل - إلى الأخبار العلاجية يشعر بأن مراده من عدم التمكن إنما هو مورد تلك الأخبار، وهو عدم التمكن العرفي، فافهم.
قوله - قدس سره -: (ولو خص المثال بالصورة الثانية لم يرد عليه ما ذكره المحقق القمي - رحمه الله -). (3)
حاصل ما ذكره المحقق القمي: أن الحكم بالتنصيف في الصورة الأولى إنما هو لأجل تقديم اليد الداخلة على الخارجة، فإن المفروض فيها يد كل من المتداعيين على الدار، فيد كل منهما مستقرة في نصفها المشاع، فيحكم لذلك باستحقاقه للنصف، لا للتمام، فإن يده على النصف الآخر يد خارجة مقدم عليها يد الآخر الداخلة التي هي على النصف الباقي المشاع.
204

قوله - قدس سره -: (وإن كان ذلك - أيضا - لا يخلو عن مناقشة تظهر بالتأمل) (1)
المناقشة هي أن الحكم بالتنصيف في الصورة الثانية لعله لأجل تساقط البينتين لأجل التعارض، فيكون كصورة تداعيهما مع عدم بينة لأحدهما ولا يد، فإن الحكم - حينئذ - التنصيف.
والحاصل: أن التنصيف في الصورة المذكورة غير متوقف على اعتبار قاعدة الجمع، فلا يتفرع عليها.
قوله - قدس سره -: (وفي مثل تعارض البينات - إلى قوله -:
انحصر وجه الجمع في التبعيض فيهما). (2)
حاصل الفرق بين البينات وبين أدلة الأحكام - بالنظر إلى العمل بقاعدة الجمع على تقدير اعتبارها -: أن وجه العمل بها في البينات منحصر في التبعيض، فيما قامت عليها من الحقوق إذا كانت تلك الحقوق مما يمكن فيها التبعيض، كالدار ونحوها.
وأما إذا كانت مما لا يمكن فيها ذلك كالنسب ونحوها، فلا يمكن العمل فيها بتلك القاعدة، بل لا بد حينئذ من الأخذ بالراجحة من البينتين والعمل على طبقها وطرح الأخرى إذا كان لأحدهما مرجح، وإلا فالتساقط بالنسبة إلى خصوص مؤدى كل منهما والرجوع إلى القواعد الاخر غير التخيير لاختصاصه بالتعارض بين الخبرين.
هذا بخلاف الأخبار، فإن وجه العمل بها فيها منحصر في التصرف في دلالتي المتعارضين منها مع التصديق والتعبد بصدور كليهما إذا أمكن التصرف في
205

دلالتهما، كما إذا كان ظاهرين، ومع عدم إمكانه لا مورد لتلك القاعدة، بل يرجع - حينئذ - إلى قاعدتي التعادل والترجيح المستفادتين من الأخبار العلاجية، فإن كان لأحدهما مرجح معتبر يؤخذ به، ويطرح الأخرى، وإلا فيتخير بينهما (1).
وكيفية التصرف في الدلالة هي أن المدلول المستفاد مما يراد التصرف فيه إن كان مطلبا وحدانيا غير قابل للتبعيض أصلا، فلا بد حينئذ من طرح تلك الدلالة رأسا، وحمل الخطاب على غير ذلك المدلول.
وإن كان مطالب متعددة، فالتصرف حينئذ إنما هو بطرحها بالنسبة إلى بعض تلك المطالب وقصير الخطاب على الباقي، وذلك فيما إذا كان الخطاب من العمومات، فإنها مفيدة لأحكام متعددة مستقلة، ومثلها المطلقات، فيعمل بها ما يعمل بتلك من كيفية التصرف وهذا النحو من التصرف يشبه التبعيض في متعلق البينات.
والسر في ذلك الفرق: أن البينتين المتعارضتين كالنصين المتعارضين غير قابلتين للتأويل في دلالتهما، وإلا لم تكونا متعارضتين (2)، بل يتعين الأخذ بالناصة

(1) لا يخفى أن الفرق بين البينات وأدلة الأحكام بالنظر إلى العمل بقاعدة الجمع إنما هو ما ذكرنا في موارد إمكان العمل بها وأما الذي ذكرنا في موارد عدم إمكانه فهو حقيقة خارج عن حيثية الجمع.
وبعبارة أخرى نحن في المقام في صدد بيان الفرق في مورد تلك القاعدة وهو صورة إمكان الجمع، فما ذكرنا من الأحكام لصورة عدم إمكانه فإنما هو فرق بين البينات وأدلة الأحكام من حيثية أخرى، فلا تغفل. لمحرره عفا الله عنه.
(2) وذلك لأن التعارض إنما يتحقق مع كون كل من المتعارضين حجة في نفسه بحيث لا مانع من وجوب العمل بكل منهما عينا إلا وجوب الآخر كذلك، لا وجود الآخر، إذ معه يكونان من مقولة المانع والممنوع لا المتعارضين.
وكيف كان فلا بد من كون كل من المتعارضين جامعا لجميع شرائط الحجية المأخوذة في دليل اعتبارهما، ومن المعلوم أن من شرائط حجية البينة إنما هو كون الكلام نصا في المطلوب غير محتمل للخلاف، لمحرره عفا الله عنه.
206

منهما إن كانت إحداهما كذلك، أو لا يعمل بشيء منهما إن لم تكن، بل بالقواعد المقررة لصورة تداعي شخصين مع عدم بينة لأحدهما، فينحصر طريق الجمع بينهما في التبعيض في تصديق كل منهما، فيصدق كل منهما في بعض ما قامت عليه من الحق.
وأما الخبران المتعارضان - اللذان يعمل فيهما بتلك القاعدة على تقدير اعتبارها - لما كان المفروض فيهما كونهما ظاهرين في مؤداهما، فيمكن الجمع بينهما بالتأويل في ظاهريهما، بل ينحصر وجه الجمع في ذلك، إذ لا يعقل التبعيض في تصديق كل من المخبرين بالنسبة إلى الصدور الذي هو متعلق إخبارهما، إذ لا يعقل تعبد الشارع لنا بالبناء على صدور نصف الكلام الذي يحكيه أحدهما عن المعصوم عليه السلام، لكونه سفها وعبثا، لعدم ترتب فائدة على نصف الكلام الواحد، فإنه لا يفيد حكما، فإن معنى تعبده بصدور ما نشك في صدوره، إيجابه للبناء على صدوره وترتيب مؤداه عليه، والتدين به في مرحلة الظاهر، فإذا لم يكن له مؤدى أصلا،
فيلغى التعبد بصدوره.
قوله - قدس سره -: (سواء كانا نصين بحيث لا يمكن التجوز في أحدهما) (1)
فيه ما مرت الإشارة إليه من أن اعتبار تلك القاعدة على القول به مختص بصورة إمكان التأويل.
هذا مع أن ما ذكره (قدس سره) من وجه المنع من التبعيض في ترتيب الآثار في تلك الصورة من لزوم المخالفة القطعية على تقديره لا يستقيم، لاختصاصه بما إذا كان كل من النصين متضمنا لحكم إلزامي وكان أحدهما مقطوع الصدور من المعصوم عليه السلام على وجه بيان الواقع، مع أن النصين.
207

أعم من ذلك فلا تغفل.
نعم يتم ما ذكره (قدس سره) بناء على اعتبار الأخبار من باب السببية إذ عليه يجب إيقاع العمل على طبق واحد من المتعارضين لا محالة وإن لم يكن في الواقع تكليف أصلا.
لكنه (قدس سره) لا يقول به، مع أن التحقيق على القول به - أيضا - عدم تمامية الوجه على الإطلاق، فإن اعتبار الأخبار على ذلك الوجه إنما يقتضي ما ذكر إذا كان أحد المتعارضين متضمنا لحكم تكليفي لا محالة، كما لا يخفى.
بيان منشأ التعارض بين الخبرين
قوله - قدس سره -: (فنقول إن المتعارضين إما أن لا يكون مع أحدهما مرجح فيكونان متكافئين متعادلين) (1)
المراد بالمرجح إنما هي المزية (2) المعتبرة القائمة بأحدهما، لا مطلق المزية.
قوله - قدس سره -: (قد يقال، بل قد قيل: إن الأصل في المتعارضين عدم حجية أحدهما) (3)
المراد بالمتعارضين المبحوث عنهما هنا، المتكافئان منهما، لا مطلق المتعارضين.
قوله - قدس سره -: (بل عنوان منتزع منهما غير محكوم عليه بحكم نفس المشخصات بعد الحكم بوجوب العمل بها عينا) (4)

(1) المراد بالمزية المعتبرة أعم من المعتبرة شرعا شاملة للمعتبرة عقلا، إذ قد يعتبر العقل المزية القائمة بأحدهما في مقام الترجيح بحيث لا يرخص في المصير إلى فاقدها مع عدم إحراز اعتبار الشارع إياها كما سيجيء بيانه في تأسيس الأصل في مقام احتمال اعتبار الشارع للمزية الموجودة في أحدهما. لمحرره عفا الله عنه.
208

وجه عدم كونه محكوما عليه بحكم نفس المشخصات أنه في الحقيقة راجع إلى ما ينتزع منه وهو أحد تلك المشخصات، فهو في الحقيقة، واحد منها، وليس فردا آخر وراءها، والمفروض الحكم لكل من المشخصات بالوجوب العيني فلو حكم عليه حينئذ - أيضا - بالوجوب العيني يلزم اجتماع حكمين متماثلين في مورد واحد، وهو أحد تلك المشخصات.
تمهيد مقال لتوضيح الحال فيما سنبينه إن شاء الله تعالى:
فاعلم أن منشأ التعارض بين الخبرين، بل بين كل دليلين أو أمارتين - بناء على اعتبار الأخبار أو مطلق الأدلة أو الأمارات أيضا من باب السببية - منحصر في عجز المكلف من الجمع بين العمل بالخبرين أو الدليلين، أو الأمارتين، بحيث لو فرض محالا جمعه بينها في مقام العمل لكان ذلك منه مطلوبا، فإن سلوك الطريق - بمعنى إيقاع العمل على طبقه على هذا التقدير - يكون واجبا نفسيا ولو لم يكن في الواقع وجوب أصلا، فيكون حاله حال سائر الواجبات النفسية من حيث توقف تحقق التزاحم - بين اثنين منها، أو أزيد - على عدم إمكان امتثالهما وإيقاع العمل على طبقهما، فيتوقف التعارض بين الطريقين حينئذ على عجز المكلف من إيقاع العمل على طبق كليهما معا، ولا ريب أن عجزه عن ذلك مختص بما إذا كان مؤدى أحدهما هو الوجوب العيني ومؤدى الآخر هي الحرمة كذلك.
وأما في غير هذه الصورة فلا.
أما إذا كان مؤدى كليهما أحد الأحكام الخمسة بأن يكون مؤدى كل منهما هو الوجوب، أو الحرمة، أو غيرهما، فلأن كلا منهما حينئذ مؤكد للآخر، غير مقتض لغير ما يقتضيه الآخر من السلوك.
مع أنه إذا كان الحكم المدلول عليه بهما هو غير الوجوب والحرمة فلا يلزمه امتثال.
209

أما إذا كان هو الاستحباب، أو الكراهة، فإنهما وإن كانا مقتضيين للامتثال لكنهما غير مقتضيين لتحتمه، إذ السلوك المأمور به على التقدير المذكور إنما هو السلوك على طبق الطريق على الوجه الذي يستفاد منه، لا وجوب إيقاع العمل على طبقه مطلقا، ومن المعلوم أن الاستحباب والكراهة لا يقتضي شيء منهما ذلك.
وأما إذا كان هو الإباحة فالأولى، فإنها حينئذ غير مقتضية لأصل إيجاد العمل، فكيف يتحتم امتثاله.
وأما إذا كان مؤدى كل منهما حكما مغايرا لمؤدى الآخر مع عدم كون أحد الحكمين هو الوجوب العيني وكون الآخر الحرمة كذلك، فلأن أحدهما لا محالة - حينئذ - لا يقتضي تحتم الامتثال، والمتحتم عليه فيما إذا كان أحدهما مقتضيا لتحتم الامتثال، - كما إذا كان مؤدى أحدهما فقط هو الوجوب العيني، أو الحرمة كذلك - ليس إلا امتثال أحدهما.
فظهر أن التعارض بين الخبرين - بناء على اعتبار الأخبار من باب السببية - إنما يتحقق في صورة كون مؤدى أحدهما هو الوجوب العيني وكون مؤدى الآخر هي الحرمة كذلك.
هذا بناء على القول بكونها أسبابا لوجوب تطبيق العمل عليها مطلقا.
وأما بناء على القول بكونها أسبابا لوجوب تطبيق العمل عليها على وجه التدين بها، بأن يكون الاستناد في العمل إليها - كما هو حقيقة السلوك على طبقها - فالتعارض متحقق بينهما في جميع صور مخالفة مؤدى أحدهما لمؤدى الآخر، لعدم إمكان الاستناد في فعل واحد إلى كل واحد منهما على سبيل الاستقلال، كما لا يخفى.
وأما منشأ التعارض بينهما كغيرهما من مطلق الدليلين، أو الأمارتين - بناء على اعتبار الأخبار والأدلة من باب الطريقية المحضة، كما هو ظاهر أدلة
210

مطلق الطرق - إنما هو التكاذب بينهما بأن لا يمكن صدقهما بحسب الواقع.
فعلى هذا التقدير يتحقق التعارض بينهما بمجرد مخالفة مؤدى أحدهما لمؤدى الآخر بأي مخالفة كانت ولو مع تمكن المكلف من الجمع بينهما في العمل، فمورد التعارض على التقدير الثاني أعم مطلقا منه على التقدير الأول.
وإذا عرفت ذلك، فاعلم أنا قد أشرنا سابقا إلى أن أدلة الأخبار لا تشمل صورة التعارض.
والسر فيه أن مفاد تلك الأدلة إنما هو اعتبار كل واحد واحد من خصوصيات الأخبار عينا، لكنه غير معقول بالنسبة إلى صورة تعارضها.
أما بناء على اعتبارها من باب السببية فواضح، لاستلزامه التكليف بما لا يطاق، كما لا يخفى.
وأما بناء على اعتبارها من باب الطريقية، فلأن معنى جعل الطريق الغير العلمي هو إيجاب التدين به واستناد العمل إليه في مرحلة الظاهر، ومفاد أدلة اعتبار الأخبار على هذا التقدير إنما هو ذلك، ويعتبر في الطرق المجعولة عدم العلم بكذبها لا محالة، فما علم كذبه ولو إجمالا لم يرد الشارع التدين به، بل حرم التدين به، وكل واحد من الطريقين المتعارضين وإن كان جامعا لشرائط الحجية والاعتبار بالفرض وإلا لم يكونا متعارضين
، لكن إيجاب العمل بهما معا في مورد التعارض يوجب الرخصة في التدين بما علم كذبه فيما بينهما مع فرض حرمة التدين به بالفرض، بل الرخصة في العمل بهما معا حينئذ مستلزمة لما ذكر، فلو كان معنى حجية الطرق هو مجرد الرخصة في العمل بها لا إيجابه يلزم ذلك المحذور - أيضا - فيمتنع حجية كل واحد منهما فعلا.
وإيجاب العمل - حينئذ - بأحدهما تعيينا، أو تخييرا، وإن كان أمرا، جائزا، لكونه غير مستلزم لما ذكر، إلا أن نفس أدلة اعتبارها لا تصلح لإفادته، إذ المفروض أن مفادها اعتبار كل منهما عينا.
211

نعم يمكن ذلك بدليل آخر، وهو خارج عن محل الكلام.
والحاصل: أن صورة التعارض غير قابلة للدخول في تلك الأدلة على التقديرين مع فرض إرادة وجوب العمل بكل من خصوصيات الأخبار على التعيين من تلك الأدلة.
نعم يمكن استفادة حكمهما من نفس تلك الأدلة على التقدير الأول (1) على بعض الوجوه، وسيأتي بيانه عن قريب إن شاء الله (2)، فانتظر.
ثم إنه كما لا يمكن إطلاق اعتبار الأخبار، بل مطلق الطرق والأمارات على وجه التعيين بالنسبة إلى صورة التعارض - كما عرفت - كذلك لا يعقل تقييد أدلة الاعتبار بغير تلك الصورة - أيضا - على كل من الوجهين المتقدمين في كيفية اعتبارها، وذلك لوجهين:
أحدهما: لزوم السفه على تقديره، إذ فائدته إخراج تلك الصورة عن تحت تلك الأدلة، والمفروض عدم شمولها لها بنفسها، فيكون تحصيلا للحاصل.
وثانيهما: امتناعه في نفسه مع قطع النظر عن كونه سفهيا، فإن التعارض بين الطريقين ليس بالنسبة إلى ذاتيهما، ضرورة إمكان اجتماع ذاتيهما، ولا بالنسبة إلى وجوب العمل بأحدهما وذات الآخر، لدخولهما حينئذ في المانع والممنوع (3)، بل بالنسبة إلى وجوبيهما، بمعنى أن التدافع حقيقة بين وجوب

(1) بل على التقدير الثاني - أيضا - لما سيأتي هناك من عدم الفرق. لمحرره عفا الله عنه.
(2) في المقام الثاني من المقامين اللذين وضعنا أحدهما لتأسيس الأصل في حكم المتعارضين والآخر لبيان كيفية استعمال الخطاب الدال على اعتبار الأخبار. لمحرره عفا الله عنه.
(3) ومن المعلوم عدم التعارض بين المانع والممنوع بل يتعين الأخذ بالمانع ان كان حجة في نفسه مع تعينه وإلا فلا يعمل بشيء منهما.
لا يقال: إن المانع من الأخذ بكل من المتعارضين إنما هو كونه من أطراف ذلك المعلوم الإجمالي، أعني معلوم الكذب المردد بينهما لا وجوب الأخذ بالآخر.
لأنا نقول: لو فرضنا قيام طريقين على طرفي النقيض في مورد مع كون أحدهما المعين حجة في نفسه
وعدم كون الآخر كذلك كالقياس فمن المعلوم حينئذ حصول العلم الإجمالي بكذب أحدهما، فلو كان وقوع حجة طرفا للمعلوم الكذب إجمالا مانعا من الأخذ به لكان مانعا منه في الفرض المذكور مع أنه لم يقل به أحد. لمحرره عفا الله عنه.
212

العمل بكل واحد منهما عينا وبين وجوب العمل بالآخر كذلك، فالتعارض بينهما إنما هو بفرض وجوب كل منهما، فوجوب العمل بكل منهما معتبر في تحقق معارضته للآخر، فإن غير الواجب العمل منهما لا يزاحم واجب العمل منهما.
فحينئذ يلزم من اعتبار تقييد وجوب العمل بكل منهما بالنسبة إلى صورة التعارض أخذ وجوب العمل موضوعا لنفسه بالنسبة إلى كل منهما - لما مر - من أن عنوان التعارض لا يتحقق بواحد منهما إلا مع فرض وجوب العمل به، وهذا دور ظاهر.
ولا فرق في ذلك بين ما إذا كان الدليل على وجوب العمل بهما واحدا، أو كان وجوب العمل بكل منهما مستفادا ومرادا من دليل آخر غير ما يستفاد منه وجوب العمل بالآخر، إذ على الثاني - أيضا - يلزم أخذ الحكم المستفاد من كل دليل موضوعا لنفسه، كما لا يخفى.
ومن هنا ظهر امتناع هذا التقييد بخطابين، أو أزيد، فإن غاية ما يترتب على تعدد الخطاب كون أحدهما قرينة على أن الشارع لاحظ هذا التقييد، ومن المعلوم امتناع ملاحظة هذا التقييد في نفسه، فالقرينة عليه لا تصيره ممكنا.
وبذلك يفرق بينه وبين التقييد بقصد القربة، حيث أنه ممكن مع تعدد الخطاب.
وتوضيح الفرق: أن الموضوع للخطاب الثاني ثمة إنما هو الخطاب الأول، وليس الأمر هنا كذلك، فإن الخطاب الثاني هنا على تقديره كاشف عن تقييد الأول بنفسه، وليس مقيدا لحكم آخر معلق على نفس الأول، فيكون حاله حال
213

الخطاب الثاني الوارد هناك على وجوه القرينة والكشف عن تقييد الأول بنفسه.
ثم إن هذا الإشكال لا يختص بالخبرين، بل يجري في المتزاحمين من الواجبات النفسية - أيضا - فإن التدافع بينهما - أيضا - إنما هو بين وجوب كل منهما عينا وبين وجوب الآخر كذلك، ولا فرق ثمة - أيضا - بين أن يكون المتزاحمان مندرجين في عنوان واحد - بمعنى كونهما فردين من واجب واحد - كإنقاذ غريقين أو مندرجين في عنوانين، كإنقاذ غريق مع إطفاء حريق، لعين ما مر في الخبرين.
ثم إن حكم الطريقين المتعارضين في حد أنفسهما لو كان هو مجرد جواز العمل - أيضا - لا يمكن ثبوته لهما بالنسبة إلى مورد التعارض، فلا يعقل إطلاقه بالنسبة إليه، كما قد أشرنا إليه، وكذلك لا يعقل تقييده بصورة التعارض - أيضا - كما لا يخفى، لعين ما مر من المانع من تقييد الوجوب على تقديره، فلا تغفل
(1).
قوله - قدس سره -: (لكن ما ذكره من الفرق بين الإجماع والدليل اللفظي لا محصل ولا ثمرة له) (2)
حاصله أنه لا يتحقق التعارض بين الدليلين إلا إذا كان كل واحد منهما حجة في نفسه، وجامعا لشرائط الحجية كذلك، بحيث لا مانع من وجوب العمل بكل واحد منهما على سبيل التعيين إلا وجوب الآخر كذلك، إذ لو لم يكن شيء

(1) لا يقال إن الدور المذكور إنما يلزم على تقدير تقييد الحكم بالنسبة إلى صورة التعارض بملاحظة عنوان التعارض، لكن لا يتعين أن يكون التقييد على تقديره كذلك، بل يمكن بملاحظة صورة التعارض مع قطع النظر عن وصف التعارض فلا دور حينئذ.
لأنا نقول: إن التقييد على تقديره لا بد أن يكون بملاحظة وصف التعارض، إذ مع قطع النظر عنه لا مانع من شمول الحكم لتلك الصورة فلا معنى للتقييد حينئذ، لعدم الداعي له. لمحرره عفا الله عنه.
214

منهما. حجة في نفسه، فلا يزاحم شيء منهما الآخر أصلا، إذ لا يزيد شيء منهما حينئذ على نفسه بالنسبة إلى غير صورة التعارض، والمفروض عدم وجوب العمل به في غير تلك الصورة، أو كان أحدهما حجة بعينه وكان ذات الآخر مانعا من وجوب العمل به فعلا، فإنهما حينئذ من مقولة المانع والممنوع وحكمهما إلقاء الممنوع والعمل بالمانع إذا كان حجة، وإلا فإلقاؤه أيضا.
فحينئذ لا فرق بين الإجماع وغيره، إذ على تقدير كون الدليل على اعتبار الأخبار هو الإجماع فلا يتحقق التعارض بينها إلا بقيامه على حجيتها في حد نفسها.
وبالجملة، بعد فرض كون الخبرين متعارضين، لا معنى لذلك التفصيل بوجه، وعدم التعارض ليس من شرائط الحجية، بل من شرائط العمل، فلذا لم يعده أحد من شرائط الحجية، بل عدوه من شرائط العمل.
مع أنه لو كان من شرائط الحجية، فيكون كل من المتعارضين مانعا عن حجية الآخر، فيكون كل منهما مانعا وممنوعا من غير فرق بين أن يكون الدليل على الحجية من الأدلة اللفظية وبين ما إذا كان من الأدلة اللبية.
قوله - قدس سره: (فنقول: إن الحكم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضين... إلى آخره) (1)
اعلم أن هاهنا مقامين:
أحدهما: في تأسيس الأصل في حكم المتعارضين من أن القاعدة الأولية العقلية ما ذا تقتضي فيهما؟ وثانيهما: في أن الخطاب - أعني الدليل اللفظي الدال على اعتبار كل منهما في حد ذاته - في ما ذا استعمل؟
215

وتحقيق الكلام في المقام الأول: أنه على تقدير اعتبار الأخبار من باب السببية - بمعنى إفادة أدلة اعتبارها عليتها لوجوب إيقاع العمل على مقتضاها ولو لم يكن في مواردها تكليف واقعا أصلا - يكون حال الخبرين المتعارضين حال الغريقين اللذين لا يتمكن المكلف من إنقاذهما، بل المقدور له إنقاذ أحدهما، فيدور أمره بين إنقاذ هذا، أو ذاك، فيكونان من مقولة الواجبين النفسيين المتزاحمين، فلهما حكمهما.
وعلى تقدير اعتبارها من باب الطريقية - بمعنى جعلها مرآة للأحكام الواقعية وطرقا إلى امتثال تلك الأحكام من دون تعلق غرض لوقوع العمل على طبقها من حيث أنه عمل على طبقها سوى ذلك - يكونان من مقولة الطريقين المتنافيين، فلهما حكمهما، وهذا واضح لا غبار عليه بوجه.
والشأن إذن في تأسيس الأصل في مطلق الواجبين النفسيين المتزاحمين وفي مطلق الطريقين المتنافيين.
فاعلم أن مقتضى الأصل في كل واجبين نفسيين متزاحمين - سواء كانا مندرجين في عنوان واحد، كإنقاذ الغريقين، أو إطفاء حريقين، أو مندرجين في عنوانين مختلفين، كل منهما مأمور به بأمر مستقل، كإنقاذ غريق، وإطفاء حريق - إنما هو لزوم امتثال أحدهما تخييرا إذا كانا متساويين - بمعنى عدم كون أحدهما أهم من الآخر، كما هو المفروض في المقام بحيث يستحق العقاب على مخالفة كليهما معا - وهذا الوجوب التخييري وإن لم يدل عليه الخطاب، لفرض كون مؤداه وجوب كل منهما عينا مع امتناع ثبوته لهما حينئذ، لاستلزام التكليف بغير المقدور - كما مر - كامتناع إرادة الوجوب التخييري من ذلك الخطاب بالنسبة إلى صورة التزاحم - أيضا - لاستلزامها لاستعماله في معنيين لكننا إنما نستفيده بتنقيح المناط.
وتوضيحه: أنه لا شبهة في تضمن كل من المتزاحمين حال التزاحم لما
216

تضمنه في غير تلك الحال من المصلحة التامة في حد نفسها، بحيث تساوي هي في تلك الحال لها في غيرها من غير قصور فيها أصلا، وهي تقتضي مطلوبية ذيها حتما على وجه التعيين لو لا مانع عن طلب ذيها كذلك - بمعنى (1) أن المانع على تقديره إنما يمنع عن فعلية التأثير، لا من أصل الاقتضاء - والمانع إن كان منافيا لأصل الطلب رأسا، فهي لا تؤثر في أصل الطلب فعلا، فكيف بتأثيرها في عينيته، وإن كان منافيا لعينية الطلب دون نفسه، فهو إنما يمنع من فعلية تأثيرها في عينية الطلب دون أصله، ومن المعلوم أن غاية ما عرضها في صورة التزاحم إنما هو عجز المكلف عن امتثال كلا الواجبين معا، بحيث لو فرض محالا إتيانه بهما معا في تلك الحال لكان مطلوبا منه ذلك، ولا ريب أن الذي ينافيه العجز إنما هو عينية الوجوب لا أصله، ضرورة عدم منافاته له تخييرا، فلا مانع من اقتضاء المصلحة المفروضة حينئذ للوجوب التخييري، ومن البديهي أن المقتضي مع عدم المانع منه علة تامة لمقتضاه، فهي في تلك الحال علة تامة لوجوب كل من المتزاحمين تخييرا، فيستكشف منه بطريق اللم كون كل واحد منهما حينئذ واجبا كذلك.
لا يقال: إن العجز إنما يمنع من وجوب كليهما معا عينا، لكن لا يمنع من وجوب أحدهما خاصة كذلك، كما إنه لا يمنع من وجوب كل منهما تخييرا، فحينئذ لا يثبت من رفع وجوب كليهما معا عينا وجوب كل منهما تخييرا، لجواز اختصاص إحدى المصلحتين بالتأثير الفعلي في وجوب ذيها عينا، وعدم تأثير الأخرى أصلا.
لأنا نقول: المفروض مساواة كل منهما للأخرى في حد نفسها، ومساواة مورد كل منهما لمورد الأخرى - أيضا - بمعنى عدم كونه أهم من الآخر في نظر الشارع، فيكون تأثير إحداهما فيما يقتضيه بالذات من الوجوب العيني من دون

(1) إذ المفروض كونها كذلك، وإلا فلا معنى لاقتضائها للوجوب التعييني في غير صورة التزاحم. لمحرره عفا الله عنه.
217

تأثير الأخرى ترجيحا بغير مرجح لتساوي نسبة المانع المفروض إلى كل منهما (1) وعدم مانع غيره بالفرض عن الأخرى.
نعم فيما إذا كان أحد الواجبين أهم، فتكون أهمية مانعة من تأثير المصلحة الموجودة في الآخر في الوجوب التخييري - أيضا - وذلك مانع آخر غير المفروض فيما نحن فيه ومختص بإحدى المصلحتين، لا مشترك بينهما، فافهم.
ثم إن ذلك الوجوب التخييري يغاير الوجوب التخييري المصطلح، فإن المصلحة الموجودة في كل من الواجبين التخييريين بالمعنى المصطلح أولا وبالذات لا يقتضي أزيد من مطلوبية ذيها لا إلى بدل، والمصلحة الموجودة في كل منهما من المتزاحمين، بحيث تقتضي أولا وبالذات مطلوبية ذيها على الإطلاق بحيث لا يرفع عنه بعد الإتيان بالبدل أيضا.
هذا كله في مقتضى الأصل والقاعدة الأولية في حكم المتزاحمين.
وأما مقتضاه في الطريقين المتعارضين فإنما هو تساقطهما وفرضهما كأن لم يكونا في خصوص مؤدى كل منهما، والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما دون المخالف لكليهما.
وتوضيح ذلك:
أن المفروض اشتمال كل منهما على شرائط الحجية المأخوذة في دليل اعتبارهما على نحو اشتمال الآخر عليها، بحيث لو لا العلم بكذب أحدهما الناشئ من تنافي مدلوليهما، لكان كل منهما حجة فعلية على خصوص مؤداه، لكن العلم بكذب أحدهما الغير المعين منع من حجية كليهما معا، لاستلزامها العمل

(1) بمعنى أنه لا يمنع من وجوب كل منهما عينا في حد ذاته، ولا من وجوبه تخييرا مع وجوب الآخر كذلك، وإنما يمنع من وجوب كل منهما عينا مع وجوب الآخر كذلك من غير اقتضاء له لرفع الوجوب العيني من أحدهما المعين فحينئذ رفع الوجوب العيني عن كليهما معا برفعه عن أحدهما المعين لا يرفعه عن كل منهما يحتاج إلى مرجح. لمحرره عفا الله عنه.
218

بالطريق المعلوم الكذب، والشارع لم يرد العمل به، كما أشرنا إليه سابقا، إذ لا يعقل التعبد بطريقية ما علم مخالفته للواقع، إذ لا بد من كون الطريق المتعبد به على وجه يمكن الوصول به إلى الواقع في نظر المكلف لا محالة، ومع علمه المفروض يمنع عنده التوصل به إليه، فيكون تعبده به حينئذ آئلا إلى التناقض في نظره، لفرض إرادته الواقع منه المخالف لمؤدى ذلك الطريق المتعبد به وأن التعبد به على تقريره ليس إلا لغرض التوصل به إليه، فيقبح التعبد به فيقبح التعبد بكلا الطريقين المتعارضين معا تعبدا، لاستلزام التعبد بهما كذلك التعبد بذلك.
وهذا هو الفارق بين المتزاحمين وبين الطريقين المتعارضين، فإنهما لأجل ما ذكر ليسا على وجه لو فرض تمكن المكلف من العمل بكليهما معا يكون ذلك منه مطلوبا، والتعبد بكل واحد منهما عينا بدون التعبد بالآخر كذلك وإن كان أمرا جائزا، لفرض الشك في مخالفة كل منهما بالخصوص وفي حد نفسه للواقع، وإمكان التوصل به إلى الواقع بدون العمل بالآخر، لكن لما كان المفروض اشتمال كل منهما على شرائط الحجية المعتبرة في دليل اعتبارهما على نحو اشتمال الآخر عليها ودخول كل منهما من مصاديق العنوان المحكوم على حجيته في ذلك الدليل، وهو خبر العادل مثلا، فلا يقتضي ذلك الدليل اعتبار أحدهما دون الآخر.
والتعبد بكل منهما تخييرا - أيضا - وإن كان أمرا جائزا، لعدم استلزامه المحذور المتقدم، إلا أنه لا يقتضيه ذلك الدليل، لفرض كون مؤداه اعتبار كل منهما على التعيين، والمفروض عدم ورود دليل آخر على حجية أحدهما تعيينا أو حجية كل منهما تخييرا، لفرض الكلام في المقام في مقتضى الأصل مع الإغماض عن ورود دليل آخر، فاللازم من ذلك كله إنما هو عدم حجية شيء منهما فعلا في إثبات مؤداه ونفي مؤدي الآخر، فيحرم التدين بمؤدى كل منهما، لفرض عدم ثبوت التدين به، لكن لا يلزم منه عدم حجية واحد منهما في نفي
219

المخالف لكليهما، إذ المفروض اشتمال كل منهما على المقتضي للحجية في جميع مدلوله، وهو كونه خبر العدل الضابط، الغير المعلوم الكذب مثلا، إلا أنه منع وقوعه طرفا لذلك العلم الإجمالي مما يقتضيه المقتضي بالنسبة إلى إثبات مؤداه ونفي مؤدى الآخر دون غيرهما من مداليله، ومن المعلوم أنه مع إحراز المقتضي لا بد من الاقتصار في ترك العمل بمقتضاه على مقدار مانعية المانع، والأخذ بما يبقى منه، فإن المقتضي مع عدم المانع
علة تامة لترتيب المقتضي (بالفتح) وهو التعبد بالخبر وترتيب مدلوله عليه في المقام بالنسبة إلى صورة انتفاء المانع، فيكون كل منهما حجة فعلا في نفي الاحتمال المخالف لكليهما.
ومن هذا الباب حجية العمومات المعلومة التخصيص بالنسبة إلى بعض الأفراد في إثبات الحكم للأفراد الأخر، ومن المعلوم المحقق - في محله - جواز التمسك بها فيما إذا كانت مخصصه بمخصص مبين إثبات الحكم لغير مورد التخصيص وفيما إذا كانت مخصصة بمخصص مجمل في الجملة في إثباته لغير مورد الإجمال وفيما إذا كانت مخصصة بمخصص مجمل من جميع الجهات في نفي الاحتمال المخالف لهما.
ومن هنا يظهر الفرق بين تعارض الطريقين المعتبرين في أنفسهما وبين اشتباه طريق معتبر في نفسه بغيره الغير المعتبر كذلك، كما إذا اشتبه خبر صحيح بضعيف غير منجبر، فإن المقامين وإن اشتركا في الحكم بنفي الثالث فيهما، إلا أن النافي له في المقام كل واحد من المتعارضين، وثمة إنما هو المعلوم الإجمالي المردد وهو الخبر الصحيح، فإن الطريق الغير المعتبر عند اشتباهه بالمعتبر لا يزيد على ما كان عليه عند امتيازه عنه، فإن اشتباهه بذلك لا يجعله حجة، فتكون الحجة حينئذ هو المعتبر المشتبه به لا غير، فهو النافي للثالث لا غير.
وقد يشكل الفرق: بأن المفروض في صورة تعارض الطريقين هو العلم الإجمالي بكذب أحدهما وقد مر أنه لا يعقل حجية الطريق المعلوم الكذب، فلا
220

يكون كل منهما حجة، بل أحدهما، فالنافي للثالث إنما هو أحدهما، لا كل منهما، فارتفع الفرق بين المقامين بما ذكر.
ويمكن دفعه، بأن غاية ما في المقام إنما هو العلم الإجمالي بكذب أحدهما في مدلوله المطابقي، وأما كذبه بالنسبة إلى نفي الثالث الذي هو مدلوله الالتزامي فلا، ولما كان المفروض وجود مقتضي الحجية في كل منهما وقد مر أنه لا بد بعد إحرازه من ترتيب مقتضاه عليه إلا أن يمنع مانع، وأنه على تقدير وجود مانع لا بد من الاقتصار في رفع اليد عن مقتضاه بمقدار مانعية ذلك المانع، فهما بالنسبة إلى مدلوليهما المطابقي كالطريق المعتبر والغير المعتبر المشتبهين، وأما بالنسبة إلى ذلك المدلول الالتزامي فلا. بل كل منهما حجة عليه فيصح الفرق.
وقد يشكل: بأن القدر المعلوم وإن كان كذب أحدهما في مدلوله المطابقي دون مدلوله الالتزامي الذي هو عدم الثالث، لكن مجرد الشك في كذبه في مدلوله الالتزامي لا يصلح لكونه سببا لحجيته فيه، بل لا بد معه من حجيته في مدلوله المطابقي - أيضا - بكونه أيضا مشكوكا، فإن المدلول الالتزامي من توابع المطابقي، فإذا حكم بعدم إرادة المطابقي، فيحكم بعدم إرادة الالتزامي - أيضا - فأحدهما الذي علم بكذبه لا يكون حجة في نفي الثالث - أيضا - فارتفع الفرق المذكور لذلك.
ويمكن دفعه، بأن المدلول الالتزامي لا يدور إرادته مدار إرادة المطابقي نفيا وإثباتا، بل إثباتا فقط - بمعنى أنه لا يمكن انفكاك إرادة الالتزامي عن إرادة المطابقي - وأما العكس فهو ممكن - كما في المدلول التضمني - فتأمل (1).

(1) من الخطاب الدال على إرادة المطابقي إلا بعد حمله على إرادته منه.
وبالجملة استفادة الجزء أو اللازم من حيث كونهما جزء أو لازما متوقفة على استفادة الكل أو الملزوم.
نعم قد يكون استفادته منهما من الخطاب المتعلق بالكل أو الملزوم بوجه آخر غير متوقف على حمله على إرادة الكل أو الملزوم، بل مبني على عدم إرادتهما وهو أنه إذا قام قرينة على عدم إرادتهما فيحمل الخطاب على إرادة الجزء أو اللازم من جهة أنه إذا تعذر حمل لفظ على حقيقته فلا بد من حمله على أقرب مجازاته إذا كان مجاز أقرب، وهما أقرب من سائر المجازات، وحمل العمومات - بعد قيام قرينة منفصلة على عدم إرادة العموم - على ما عدى ما علم بخروجه من هذا الباب، فإن القرائن المنفصلة فيها ليست كالمتصلة موجبة لظهور العام في إرادة الباقي فتكون معينة أيضا، بل إنما هي صارفة صرف، والتعيين إنما يجيء من جهة أقربية تمام ما عدى الخارج إلى مدلول العام من سائر مراتب الخصوص، لكن ما نحن فيه أعني الطريقين المتعارضين خارج عن ذلك الباب، فإن المفروض مساواة الطريقين في كيفية الإفادة من النصوصية والظهور وعدم مزية وقوة لدلالة أحدهما على دلالة الآخر، ومن المعلوم أنه إذا كانا نصين لا يمكن التصرف في شيء منهما بوجه بحمله على إرادة جزئه أو لازمه، بل الأمر دائر بين الأخذ بتمام مؤدى هذا وبين الأخذ بتمام مؤدى ذاك، وأما إذا كانا ظاهرين فكل منهما حينئذ وإن كان قابلا للتأويل والحمل على خلاف ظاهره، لكن لا بد أن يكون الاعتماد في التصرف على أمر ثالث، لا على صاحبه المساوي له، لعدم صلاحيته لذلك، ولما كان المفروض انتفاء أمر ثالث فلازمه إرادة تمام مدلول هذا أو تمام مدلول ذاك، فالعلم بكذب أحدهما في مدلوله المطابقي مانع منه من حجيته في مدلوله الالتزامي أيضا، فأحدهما غير حجة في مداليله مطلقا.
ومن هنا يظهر أن الظاهرين المتعارضين ليس شيء منهما من مقولة الخطاب المجملة من جهة اكتنافها بما أوجب إجمالها، فإن الشك هناك إنما هو في المراد من الخطاب بعد الفراغ عن إرادة معنى منه في الجملة، وهنا إنما هو في إرادة معنى الخطاب وعدم إرادته رأسا، وسيجئ لذلك مزيد بيان في طي بيان جواز التعدي عن المرجحات المنصوصة وعدمه، فانتظر.
وكيف كان فقد ظهر الفرق بين المقام وبين العمومات المخصصة، وبطل قياسه عليها، فتدبر ولا تغفل. لمحرره عفا الله عنه.
221

والذي يقتضيه دقيق النظر عدم تمامية الفرق بما ذكر، ومقتضى التحقيق ثبوت الفرق بين المقامين بوجه آخر: وهو أن أحد الطريقين في المقام وإن لم يكن حجة في مداليله مطلقا لما ذكر في تقرير الإشكالين المتقدمين إلا أنه ليس أحدهما المعين في الواقع المجهول في الظاهر، كما هو الحال في ذلك المقام، حيث أن غير
222

الحجة هناك إنما هو معين واقعي، وهو الخبر الضعيف مثلا مجهول في الظاهر، لاشتباهه بالصحيح، بل أحدهما الغير المعنون بعنوان معين له في الواقع الذي هو في قوة أحدهما على البدل، لأن غاية ما في المقام العلم بكذب أحدهما مع قيام احتمال كذب الآخر - أيضا - فلا يعقل أن يكون عنوان معلوم الكذب متعينا في أحدهما بخصوصه في الواقع، وتعينه فيه فيما إذا علم بصدق الآخر إنما هو من لوازم العلم بصدق الآخر لا من لوازم العلم بكذب أحدهما حتى يجري في صورة الشك في صدق الآخر أيضا.
وبعبارة أخرى أوضح: إنه لا يعقل اعتبار مصادقة الواقع والصدق في نصب الطرق الغير العلمية، بأن يكون المجعول منه حجة هو المصادف للواقع، لأن ذلك العنوان إن حصل العلم به فيخرج الطريق المجعول عن كونه طريقا غير علمي، فلا يكون حجة بمقتضي دليل اعتبار الطريق الغير العلمي، بل حجيته حينئذ من باب كونه علما، وهو حجة في نفسه لا يجعل جاعل، وإن لم يحصل العلم به، فلا ينفع نصبه طريقا للمكلف في شيء، فاعتبار الطريق الغير العلمي من حيث كونه طريقا غير علمي يناقضه تقييده بصورة مصادفته للواقع، كما أنه لا يعقل تقييده بصورة العلم بكذبه تفصيلا، فإنه حينئذ يخرج عن قابلية الطريقية، وعدم شمول الحكم له حينئذ من باب التعبد والاختصاص، لا التقييد والتخصيص.
نعم يمكن تقييده بصورة عدم كونه من أطراف معلوم الكذب إجمالا، لعدم استلزامه لشيء من المحاذير، إلا أنه غير واقع إلا فيما إذا كان الطرف الآخر مساويا له في سائر شرائط الحجية التي متحققة فيه، إذ لا شبهة في حجية الخبر الصحيح الذي علم إجمالا بكذب الطريق المردد بينه وبين القياس مثلا في الظاهر، فما يصح اعتباره في اعتبار الطريق الغير العلمي غير وصف مصادفته للواقع، كعدالة الراوي وضبطه ونحوهما، والمفروض في تعارض الطريقين اشتمال
223

كل منهما على الأوصاف المعتبرة في الاعتبار على نحو اشتمال الآخر عليها وكون كل منهما مندرجين في العنوان الذي دل الدليل على اعتباره لشرائطه، وهو خبر العدل الضابط مثلا، وقد علمنا من جهة تنافي مدلوليهما كذب واحد منهما حيث أنه يمتنع صدق المتنافيين، لكنه ليس واحدا معينا في الواقع مجهول في الظاهر، بل هو أحدهما بلا عنوان معين له، لأن معينه الواقعي إما وصف الكذب وإما العلم بالكذب، وإما غيرهما، لا سبيل إلى شيء منهما.
أما الأول: فلفرض احتمال الكذب في كليهما، إذ من المعلوم أنه على تقدير كذبهما جميعا لا يعقل أن يكون الكذب معينا لأحدهما، لفرض عدم اختصاصه بواحد منهما.
وأما الثاني: فلأنه لا يعقل اعتباره في متعلقه، لأنه من جعل الشيء موضوعا لنفسه.
وأما الثالث: فالمفروض كون المتعارضين فيه سواء واقعا من غير اختصاص له بأحدهما حتى يصلح لكونه معينا، فإذا كان الذي علم كذبه أحدهما بلا عنوان معين فغير الحجة منهما إنما هو أحدهما بلا عنوان، كما أن الحجة منهما إنما هو أحدهما كذلك.
هذا مع أن الكذب لا يعقل أخذه واعتباره غاية، لعدم الحجية، لاستلزامه لأخذ وصف المصادفة شرطا في الحجية.
والحاصل أن الذي علم من ملاحظة تنافي مدلوليهما إنما هو كذب أحدهما بلا عنوان، فأحدهما بلا عنوان غير حجة في مداليله مطلقا، وأحدهما كذلك حجة في مداليله مطلقا، لفرض بقاء احتمال (1) صدقه مع اشتماله على شرائط الحجية إلا أنه لما لم يكن له عنوان ما مر فيكون تعيينه في خصوص أحدهما تعيينا بلا
224

معين، فلأجل ذلك لا يعمل بشيء منهما في مؤداه المطابقي، وإنما بنفي الثالث بأحدهما المحتمل الصدق الغير المعنون بعنوان الذي هو الحجة.
هذا بخلاف ما إذا اشتبه طريق معتبر بغيره، فإن المعتبر له عنوان واقعي غير عنوان الغير المعتبر، فالنافي هناك للثالث إنما هو معين واقعي مجهول في الظاهر، ففيما إذا اشتبه خبر صحيح بضعيف يكون النافي له هو الصحيح الذي هو معين في نفسه في الواقع، فالمقامان اشتركا في حكم التساقط بالنسبة إلى المدلول المطابقي لكل من الطريقين وفي أن النافي للثالث فيهما إنما هو أحدهما لا كل منهما ولا كلاهما معا، وافترقا في أن النافي له في مقامنا هذا هو أحدهما بلا عنوان معين، وهناك هو أحدهما المعين.
وكيف كان، فحاصل ما يقتضيه تدقيق النظر في تعارض الطريقين تساقطهما في مؤداهما وعدم كون واحد منهما حجة فعلية في إثبات مؤداه المطابقي فإنه لما علم بكذب أحدهما فلا يكون أحدهما حجة لذلك، وأحدهما وإن لم يعلم بكذبه إلا أنه لما لم يكن له مائز ويكون تعيينه في خصوص واحد منهما ترجيحا بلا مرجح فلا يكون هو - أيضا - حجة في مؤداه المطابقي فعلا، لكنه حجة في نفي الثالث، لفرض وجود المقتضي فيه، فلا بد من ترتيب مقتضاه عليه مع عدم المانع منه، والذي ذكر إنما هو يمنع منه بالنسبة إلى مدلوله المطابقي دون الالتزامي.
لا يقال: قد مر أن المدلول الالتزامي تابع للمطابقي، فإذا لم يمكن الحكم بإرادة المطابقي فكيف يمكن الحكم بإرادة الالتزامي.
لأنا نقول: إن مقتضى المانع المذكور إنما هو عدم إمكان الحكم بإرادة المدلول المطابقي لأحد الطريقين بالخصوص وأما المدلول المطابقي لأحدهما لا على التعيين فذلك لا يمنع من الحكم بإرادته، فيحكم بكونه مرادا، فيتبعه مدلوله الالتزامي الذي هو عدم الثالث، فيحكم بعدم الثالث، فإن البناء على إرادة
225

المدلول المطابقي لأحدهما لا على التعيين إنما لا ينفع في الحكم بإرادة خصوص واحد من المدلولين المطابقيين لهما، وأما في الحكم بعدم إرادة الثالث فيجدي جدا، فإن المفروض أن كل واحد من الطريقين دال على نفي الثالث التزاما، فأحدهما لا على التعيين المحكوم بإرادة مدلوله المطابقي في أي منهما تعين، يقتضي نفي الثالث التزاما.
هذا تمام الكلام في المقام الأول.
واما المقام الثاني: فتوضيح المرام أن المتصور فيه، بل الممكن وجوه:
أحدهما: أن يكون المستعمل فيه الخطاب الدال على اعتبار الخبر هو الوجوب التعييني، لكن بالنظر إلى ذات الخبر من غير ملاحظة حال التعارض أو التزاحم، بأن يوجه به البعث والتحريك إلى العمل به بالنظر إلى ذاته، كما هو الحال في الخطاب الدال على حلية الأشياء أو طهارتها، كقوله تعالى: أحل لكم الطيبات (1) فإن المراد به إنما هو الرخصة في تناولها بالنظر إلى ذاتها التي لا تنافي المنع عن تناولها في بعض الحالات لأجل عروض مانع، ككونها مغصوبة مثلا.
نعم المانع عند عروضه مانع من فعليتها مع بقاء مقتضيها.
وفائدة الرخصة، أو الطلب كذلك - فيما إذا اتحد متعلقهما مع عنوان محرم، فارتكبه المكلف حينئذ - أنه يستحق حينئذ عليه عقاب واحد، وبدونهما - بأن يكون أصل الفعل في حد ذاته محرما إذا اتحد مع عنوان آخر محرم كأكل النجس المغصوب مثلا (2) - يتعدد العقاب على الارتكاب.

(1) وكوطء الأجنبية الحائض فإنه يستحق عليه عقابان أحدهما من جهة كونه وطءا للأجنبية حيث أنه محرم ذاتا وثانيهما من جهة وطئ المرأة حال الحيض، هذا بخلاف ما إذا كانت الحائض الموطوءة زوجته فإنه حينئذ يستحق عقاب واحد من الجهة الثانية فقط لكون وطئها مباحا في حد ذاتها. لمحرره عفا الله عنه.
226

وفائدة الطلب التعييني كذلك بالنسبة إلى ذات الخبرين المتعارضين مع فرض امتناع فعليته في كل منهما ولا في واحد منهما - كما مر - أنه يشتبه تحرير المقتضي للعمل بكل منهما أو بواحد منهما - بناء على ما قويناه أخيرا (1) - من أن المقتضي للعمل إنما هو لأحدهما بلا عنوان، لا لكل منهما، لفرض العلم بكذب أحدهما كذلك، فيقال، في تقرير ثبوت المقتضي لأحدهما بلا عنوان أنه لا شبهة في مساواته للخبر السليم عن المعارض من حيث وجود المقتضي فيه، وهو كونه خبر عدل غير معلوم الكذب.
وإنما الفرق بينهما أن هذا لما لم يتعين مورده في خصوص أحد المتعارضين،

(1) قولنا بناء على ما قويناه.. إلى آخره: يمكن المناقشة فيه بأن المفروض طلب العمل على طبق كل واحد من الخبرين وجعله طريقا في مؤداه في حد ذاته فهو يكشف عن وجود المقتضي للحجية في ذات كل منهما، ومن المعلوم أن ما ثبت لذات الشيء ثابت له في جميع أحواله التي منها حال التعارض في حمل الغرض، فكل منهما مشتمل على مقتضي وجوب العمل تعيينا في تلك الحال، إلا أن التعارض مانع من عينية الوجوب، فيترتب عليه أصله المتحقق في ضمن التخييري، كما هو الحال فيهما، بناء على اعتبارهما من باب السببية.
لكنها مدفوعة بأن وجوب العمل على الفرض المذكور أيضا - بناء على اعتبارهما من باب الطريقية - لا يتعلق بذات خصوص شيء منهما، بل إنما هو يتعلق بعنوان الخبر الغير المعلوم الكذب.
وبعبارة أخرى إنه يتعلق بذات ذلك العنوان من حيث هو، وهذا العنوان صادق على أحدهما الغير المعين في خصوص شيء منهما، لا على كل منهما فتأمل، فالمقتضي للحجية إنما هو متحقق في أحدهما بلا عنوان، لا في كل منهما، هذا.
وبل يمكن دعوى ذلك بناء على اعتبارهما من باب السببية أيضا، إذ من المعلوم أنه على ذلك التقدير - أيضا - لا يجب العمل بالخبر المعلوم الكذب، بل موضوع وجوب العمل حينئذ - أيضا - هو المحتمل للصدق منه الصادق في صورة التعارض على أحدهما بلا عنوان.
اللهم إلا أن يقال إنه وإن كان صادقا على أحدهما بلا عنوان إلا أنه صادق على خصوص كل منهما أيضا لفرض عدم معلومية كذب خصوص شيء منهما فثبت المقتضي لوجوب العمل في خصوص كل منهما لذلك والعلم بكذب أحدهما بلا عنوان ربما يمنع من العمل بواحد منهما بالخصوص في مؤداه على وجه الطريقية دون السببية فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
227

فذلك منع من التمسك وحجيته فعلا في إثبات مؤداه المطابقي. وأما بالنسبة إلى مؤداه الالتزامي الخالي عن المانع، فلا فرق بينهما بوجه.
فيقتصر في رفع اليد عنه على مقدار ما يمنعه المانع - لما مر - من أنه بعد ثبوت المقتضي فلا بد من ترتيب مقتضاه عليه حسبما أمكن.
وقد مر أنه لا مانع من ترتيب نقيض مقتضاه عليه حينئذ، وهو نفي الثالث - بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقية - والعمل بأحدهما مخيرا - بناء على اعتبارها على وجه السببية - وكذلك الحال في سائر الواجبات النفسية المتزاحمة.
وبالجملة إذا كان الحكم معلقا على ذات الشيء من حيث هو، فتعليقه عليه على هذا الوجه يكشف عن ثبوت المقتضي له فيه مطلقا في جميع حالاته، ولازمه ترتيب ذلك الحكم أمرا كان، أو نهيا عليه إذا لم تزاحمه جهة أخرى خارجية مساوية له، أو غالبة عليه، وعلى تقدير التزاحم يقتصر على مقداره.
ثم إن ذلك الشيء إذا عرضته جهة أخرى مؤكدة لما فيه من مقتضي ذلك الحكم بأن اتحد مع عنوان آخر مشتمل على الجهة المقتضية للحكم الذي تقتضيه جهة ذات ذلك الشيء فلازمه ثبوت مرتبة متأكدة من ذلك الحكم له حينئذ، فإن كل علتين مشتركتين في معلول إذا وردتا على مورد دفعة فلا يعقل أن يؤثر كل منهما أثرا ممتازا عن أثر الآخر، بل يؤثر كل منهما حينئذ ذلك المقدار الذي كانت تؤثر فيه، فيتداخل أثرهما ويكون الحاصل من كليهما مرتبة بمقدار مجموع المقدارين، كما في صورة ورود علتين للسواد، أو الحمرة على مورد دفعة.
والحاصل أنه يؤثر كل منهما حينئذ أثره، لكن وحدة المورد مانعة من امتياز أثر كل منهما عن أثر الآخر، نظرا إلى امتناع اجتماع المثلين كاجتماع الضدين في مورد واحد، ولأجل كون كل منهما مؤثرة ترى أنه تتعدد آثارهما حينئذ، كتعدد العقاب على الفعل إذا كان الحكم الحرمة، أو على الترك إذا كان هو الوجوب.
228

وثانيها: أن يكون المستعمل فيه اللفظ هو خصوص الوجوب التعييني - أيضا - لكن مع ملاحظة تقييده بغير صورة التزاحم والتعارض، فيكون حاله حال سائر التقييدات اللفظية من حيث رجوع التقييد إلى تقييد المصلحة المقتضية للحكم، هذا بخلاف الوجه الأول، فإن التقييد بناء عليه إنما هو من جانب العقل، وهو راجع إلى تقييد فعلية تأثير تلك المصلحة مع ثبوت أصلها مطلقا، لا إلى تقييد نفسها، ولازمه عدم ثبوت وجوب العمل للطريقين مطلقا، لا تخييرا، ولا تعيينا، على كل من وجهي اعتبارهما من السببية، أو الطريقية أما الوجوب التعييني فواضح.
وأما التخييري، فلأنه لا مقتضي حينئذ حتى يترتب عليه مقتضاه على حسب الإمكان، فيقال - بناء على اعتبارهما من باب السببية - إن الممتنع إنما هو تأثيره في عينية الوجوب، دون أصله باعتبار تحققه في ضمن
التخييري، - وبناء على اعتبارها من باب الطريقية - إن الممتنع إنما هو حجية أحدهما الغير المعلوم الكذب في مؤداه المطابقي، لما مر غير مرة، وأما حجيته بالنسبة إلى مدلوله الالتزامي - وهو نفي الثالث - فممكن، فيكون حجة عليه لوجود المقتضي بالنسبة إليه وعدم المانع منه.
فعلى هذا، فاللازم في صورة التعارض - بناء على اعتبارهما من باب الطريقية - فرض المسألة التي تعارضا فيها كالمسألة الخالية عن النص رأسا والعمل على مقتضى الأصول العملية المقررة لتلك الصورة.
وبناء على اعتبارهما من باب السببية فلا يفرض شك في جواز عدم العمل بواحد منهما، لفرض تقييده دليل اعتبارهما بغير تلك الصورة ويرجع في الشك في المسألة المتفرعة عليهما إلى تلك الأصول المقررة لصورة فقد النص.
وثالثها: أن يكون المستعمل فيه اللفظ هو خصوص الوجوب التعييني مع إرادة شموله لصورة التزاحم والتعارض، لكن من باب التوطئة لإفادة حكم
229

صورة التزاحم والتعارض على وجه ينطبق على غرضه من مطلوبية العمل بكل من الخبرين حال التعارض - أيضا - في حد ذاتهما وطلبه للعمل بكل منهما حينئذ تخييرا - بناء على اعتبارهما من باب السببية - ومن حجية أحدهما بلا عنوان الذي يجدي في نفي الثالث - بناء على اعتبارهما من باب الطريقية - بمعونة العقل (1) جمعا بين الحقين من إفادة الغرض على ما هو عليه في نفسه، والاستراحة عن كلفة إيراد خطاب آخر لبيان حكم خصوص صورة التعارض أو التزاحم.
بيان ذلك: إن الذي في نفسه إنما [هو] وجوب العمل بكل واحد من آحاد الخبر عينا في صورة السلامة عن المعارض مطلقا، وتخييرا في صورة التعارض - بناء على اعتبارها من باب السببية - وعدم وجوب العمل بواحد منهما في مؤداه مع العمل بواحد منهما بلا عنوان في نفي الثالث في تلك الصورة.
ومن المعلوم أن حكمها في صورة التزاحم، أو التعارض مخالف لحكمها في صورة السلامة، فلا يمكن إفادة الحكمين بخطاب واحد، لتوقفه على جواز استعمال اللفظ في معنيين، فلا بد إذن إما من خطابين، أو خطاب واحد يصلح لإفادة حكم الصورتين ولو بمعونة العقل، مع عدم استلزامه لمحذور استعماله في معنيين، ومع إمكان خطاب واحد معه لذلك على الوجه المذكور لا حاجة إلى خطابين، فإن إيراد خطاب يدل على الوجوب التخييري مثلا وإن لم يكن مفيدا لحكم الصورتين ولو بمعونة العقل نظرا إلى أن غاية ما يترتب عليه إطلاقه بالنسبة إلى صورة السلامة - أيضا -، ومن المعلوم أن ثبوت الوجوب التخييري لا يكشف عن مقتضي الوجوب التعييني حتى يحكم بمقتضاه في صورة السلامة، إلا أن الخطاب الدال (2) على الوجوب التعييني مع تعميم الوجوب بالنسبة إلى

(1) قولنا بمعونة العقل متعلق بالإفادة في قولنا لإفادة حكم صورة التعارض. لمحرره عفا الله عنه.
(2) نعم مع عدم تعميمه بالنسبة إلى تلك الصورة يفهم منه التقييد في المقتضي المستلزم لعدم ثبوت الحكم في تلك الصورة أصلا كما مر سابقا فلا يكون مفيدا لغرضه الكامن في نفسه. لمحرره عفا الله عنه.
230

صورة التزاحم والتعارض كاف في إفادة حكم الصورتين بمعونة العقل.
أما إفادته لحكم صورة السلامة عن المعارض والمزاحم فظاهرة.
وأما إفادته لحكم صورة [عدم] السلامة عنهما، فلأنه إما يدل على اعتبار الخبر من باب السببية، وإما أن يدل عليه باعتبار الطريقية.
فإن كان مفاده هو الأول، فتقريب استفادة حكم الصورة المذكورة حينئذ أن العقل لما رأى ثبوت الوجوب التعييني لكل منهما مع عجز المكلف عن العمل بكليهما جميعا ومع ملاحظة أن المتكلم حكيم لا يكلف بغير المقدور، فيستفيد من ذلك كله أن غرض المتكلم من تعميم الوجوب التعييني إلى تلك الصورة إنما هو التنبيه على تمامية المقتضي له في كل منهما فيها وأنه يجب العمل بمقتضاه بما أمكن، وهو العمل بأحدهما لا تركهما جميعا، وهكذا يقال: في سائر الواجبات النفسية أيضا.
وإن كان مفاده هو الثاني، فتقريب استفادة حكم الصورة المذكورة حينئذ أن العقل لما رأى إطلاق وجوب العمل بالنسبة إلى تلك الصورة، وعلم أن الغرض إنما هو العمل بهما بعنوان الطريقية مع ملاحظته أنه لا يعقل التعبد بطريق معلوم الكذب، بل لا بد فيه من احتمال الإيصال، وأن التعبد بكل منهما في مؤداه المطابقي عينا مستلزم للتعبد بالطريق المعلوم الكذب كذلك، وبواحد منهما بالخصوص لا يدل عليه الكلام لفرض مساواتهما في العنوان المأخوذ فيه وأن أحدهما بلا عنوان محتمل له مساو للخبر السليم عن المعارض من حيث اشتماله على الجهة المقتضية للحجية، إلا أنه لعدم تعينه في شخص خاص لا يمكن التمسك في مؤداه المطابقي مع إمكان التمسك به في مؤداه الالتزامي، ومع ملاحظة أنه مع وجود المقتضي يترتب عليه مقتضاه إذا لم يمنعه مانع، فيستفيد من ذلك كله أن الغرض إنما هو حجية أحدهما بلا عنوان في نفي الثالث، وعدم حجية
231

شيء منهما في مؤداه المطابقي (1).
ورابعها: أن يكون المستعمل فيه اللفظ هو القدر المشترك بين الوجوب التعييني والتخييري وإيكال إفادة العينية والتخييرية بالنسبة إلى صورتي التزاحم وعدمه إلى العقل، وكذا إفادة أن التخييري على تقديره ليس كالتخييري المصطلح، وهو ما يسقط عن مورده المطلوبية والمحبوبية والمصلحة بمجرد الإتيان ببدله، بل المصلحة موجودة في المبدل بعد الإتيان يبدله أيضا أما تقرير استفادة العقل عينية الوجوب بالنسبة إلى غير صورة التزاحم فهو أنه بعد ما علم أنه طلب العمل بالخبر مع فرض عدم جعل بدل له في مقام امتثال ذلك الطلب المتعلق به يحكم بلزوم العمل به عينا، فإن لازم عدم جعل بدل لواجب عقلا انحصار مورد الامتثال في ذلك الواجب، كما أن لازم جعل بدل له إنما هو عدم انحصار مورده فيه، ومنه يظهر وجه استفادة الوجوب التخييري بالنسبة إلى صورة التزاحم.
ويمكن استفادته بوجه آخر أحسن، بل متعين (2) وهو أن الطلب المفروض تعلقه بكل من المتزاحمين لا يعقل كونه تعيينيا، لاستلزامه للتكليف، بما

(1) لا يقال: إن المفروض وجود المقتضي لأحدهما بلا عنوان فهو حجة عينا في مؤداه المطابقي أيضا وهو صادق على خصوص كل منهما على حد سواء ولازمه التخيير منهما.
لأنا نقول: المفروض حرمة العمل بأحدهما بلا عنوان أيضا لفرض العلم بكذب أحدهما كذلك وهو صادق على كل منهما فيدور الأمر في كل منهما بين حرمة العمل به في مؤداه المطابقي وبين جوازه فيتساقط الجواز والحرمة في كل بالنسبة إلى مؤداه المطابقي فيرجع إلى الأصل في مؤدى كل منهما. لمحرره عفى الله عنه.
(2) قولنا بل متعين، وجهه أن جعل البدل في المقام إنما هو من قبل العقل وهو إنما يحكم به بعد حكمه برفع التعيين عن كل من المتزاحمين مع ثبوت أصل الوجوب لكل منهما تخييرا، وفي الحقيقة بدلية كل منهما عن الآخر مفهوم منتزع من حكمه برفع التعيين من غير أن تكون هي بحكم آخر منه، فبدلية كل منهما عن الآخر متوقفة ومتفرعة على رفع التعيين عن كل منهما مع ثبوت الوجوب التخييري له، فلو توقف حكمه بالتخيير حينئذ على بدلية أحدهما عن الآخر يلزم الدور. لمحرره عفا الله عنه.
232

لا يطاق، فيتعين في التخييري.
وهذا الوجه إنما يجري في الخبرين المتعارضين - بناء على اعتبار الاخبار من باب السببية -، وأما - بناء على اعتبارها من باب الطريقية - فلا يكاد يجري فيهما.
ويمكن إجرائه فيهما بتقريب آخر: وهو أنه أريد من الخطاب وجوب التعبد بكل خبر، وجعله طريقا في مؤداه من غير ملاحظة التعيين والتخيير فيه، فحينئذ تلاحظ خصوصية الموارد.
فإن كان المورد قابلا للوجوب التعييني، بأن يكون الخبر المفروض تعلق الوجوب به سليما عن معارضة مثله في مؤداه، فيتعين وجوبه في التعيين.
وإن لم يكن قابلا لذلك لأجل معارضته بمثله، فلا مانع عقلا من كونه حينئذ تخييريا، وإلا للزم طرح الأخبار الآمرة بالتخيير في المتعارضين المتساويين، فيتعين في التخييري، فعلى هذا فيكون التخيير في المتعارضين بمقتضى أدلة اعتبارهما ويكون أصلا أوليا فيهما.
نعم وجوب الترجيح حينئذ - فيما إذا كان مرجح لأحدهما - إنما هو أصل ثانوي وارد عليه، لعدم اقتضاء أدلة
اعتبارهما ذلك، إذ المفروض اشتمال كل منهما على الشرائط المعتبرة في الحجية المأخوذة في أدلة اعتبارهما، والمزية القائمة بأحدهما - التي تدل تلك الأخبار على وجوب الترجيح بها - خارجة عن تلك الشرائط، فأولوية الأخذ بذيها إنما جاءت من قبل تلك الأخبار.
فإذا عرفت تلك الوجوه، فهل الأوفق بأدلة اعتبار الأخبار أي منها؟ لا يخفى أن الثاني منها - مع منافاته لظواهر تلك الأدلة حيث أنها ظاهرة في الإطلاق - يمنع من المصير إليه الأخبار العلاجية المفيدة لحجية أحد المتعارضين في الجملة.
مضافا إلى قيام الإجماع عليه أيضا، فلا يمكن حمل تلك الأدلة عليه.
233

والرابع منها وإن كان هو مقتضى ظاهر الأمر عرفا، لما حققنا في محله من أنه ظاهر في مجرد الطلب الحتمي وأن التعيين والتخيير خارجان عن مدلوله يلحقانه باعتبار خصوصيات الموارد المقتضية لأحدهما، إلا أنه يبعد إرادته من الأوامر الواردة في تلك الأدلة، إذ لو كانت هي ظاهرة فيه لما يبقى تحير لأحد في حكم صورة التعارض، فلم يكن داع لتلك الأسئلة في الأخبار العلاجية، ولا لورود كثير منها مع عدم سبق سؤال - أيضا - فذلك يكشف عن اكتفاف تلك الأوامر بما أوجب صرفها عنه إلى ما لا يغني عن بيان صورة التعارض، فلا يكاد يمكن حملها عليه.
فظهر أن الأوفق بتلك الأدلة أحد الوجهين الآخرين، وهما الأول والثالث، لعدم منافاتهما لما ذكر.
إلا أنه قد يستشكل في صحة الوجه الأول في نفسه بأن إيراد الحكم إذا كان إباحة ورخصة على ذات الشيء من حيث هو وإن كان جائزا، بل واقعا أيضا، لكنه يشكل فيما إذا كان من مقولة الطلب - كما هو المفروض في تلك الأدلة - فإنه لا يكاد يمكن بقائه فيما إذا اقترن ذلك الشيء بمانع من امتثاله، لكونه لغوا حينئذ، فلا يكون ثابتا لذات الشيء من حيث هو، فإن الثابت له كذلك لا بد من ثبوته له في جميع حالاته كما مر، فإن الذات متحققة في جميع حالاته اللاحقة له والحكم المعلق على موضوع يدور مدار ذلك الموضوع.
لكنه مدفوع بعدم الفرق بينه وبين الإباحة من تلك الجهة، لجريان شبهة اللغوية فيها - أيضا - بعينها، إذ يقال فيها - أيضا - أنها لا يعقل بقائها فيما إذا اقترن الشيء بجهة محرمة فيلغى إلى آخر ما ذكر من التقريب.
والذي يقوي في النظر أن ذلك الحكم لا يمكن فعليته (1) في صورة وجود

(1) المراد بالفعلية انما هو فعليته بالنسبة إلى آثاره - بمعنى ترتيبها في صورة وجود المانع - وبعدم الفعلية ثبوت أصله مع عدم ترتيب تلك الآثار، فوجوده في تلك الصورة فعلي وآثاره شأنية. لمحرره عفا الله عنه.
234

المانع، فإنه إنما يمنع من ترتيب آثاره التي هي المؤاخذة على المخالفة إذا كان إلزاما، أو عدمها وجواز التناول فعلا إذا كان رخصة من غير فرق بين الطلب وغيره، فافهم.
ثم إنه يظهر من المصنف (قدس سره) اختيار الوجه الثالث، حيث أنه جعل كلا من المتعارضين مشمولا لدليل الاعتبار، إلا أنه قيد امتثال الأمر الوارد فيها في كل منهما بصورة عدم العمل بالآخر - على تقدير اعتبارهما من باب السببية - وجعلهما دليلا على نفي الثالث مع تساقطهما في مؤداهما لأجل التعارض - بناء على اعتبارهما من باب الطريقية - فتدبر.
ثم إن في كلامه (قدس سره) في مقام تأسيسه للأصل في المتعارضين مواقع للنظر لا يسعني المجال للتعرض لجميعها، فلنقتصر على واحد منها، وهو قوله:
(بل وجود المصلحة في كل منهما بخصوصه مقيد بعدم معارضته بمثله) (1).
ولا يخفى على المتأمل أن وجود مصلحة الإيصال في كل منهما بالخصوص مقيد بعدم وجودها في الآخر، لا بعدم معارضة موردها للآخر.
وكيف كان، فالأجود ما ذكرنا في تأسيس الأصل.
مفاد الأخبار عند التعارض
قوله - قدس سره -: (وأما أخبار التوقف الدالة على الوجه الثالث، من حيث أن التوقف في الفتوى يستلزم الاحتياط في العمل) (2)
اعلم أن الوجه الثالث مركب من دعويين:
أحدهما: وجوب التوقف في المتعارضين وعدم الإفتاء بشيء منهما.
وثانيهما: الاحتياط في مقام العمل والرجوع فيه إليه مطلقا.
235

وتقريب الاستدلال بأخبار التوقف على أولهما أنها آمرة بالتوقف في مورد الشبهة، وكل من التوقف والشبهة عام، فإن التوقف عبارة عن السكون وعدم المضي، والشبهة عبارة عن اشتباه الواقع، فكل منهما يعم المقام، فان عدم المضي معنى واحد في مقام الفتوى والعمل، والاختلاف إنما هو في مصاديقه، حيث أن مصداقه في مقام الفتوى تركه، وفي مقام العمل ترك العمل المخالف للاحتياط، وكذلك الاشتباه معنى واحد في جميع الموارد، والاختلاف إنما هو في مصاديقه، حيث أنه في الشبهات الحكمية مسبب عن فقد النص، أو إجماله، أو عن تعارضه - كما هو المفروض في المقام - وفي الشبهات الموضوعية مسبب عن اختلاط الأمور الخارجية مع تبين حكم العنوان الكلي، فتدل تلك الأخبار بإطلاقها على وجوب التوقف في مقام الفتوى في الشبهة الحكمية الناشئة عن تعارض النصين المبحوث عنها في المقام.
وأما تقريب الاستدلال بها على الثانية، أنه إذا ثبت بمقتضاها وجوب التوقف من حيث الفتوى فثبت وجوبه من حيث العمل أيضا - لاستلزام الأول للثاني، كما ادعاه المصنف (قدس سره).
ووجهه: أن وجوب التوقف من حيث الفتوى على تقدير ثبوته ثابت مطلقا شامل للإفتاء بالحكم الظاهري، ووجوب التوقف من حيث الحكم الظاهري يستلزم وجوبه من حيث العمل.
لكن الإنصاف: أن الاستلزام غير بين، بل يمكن منعه لانتقاضه بالشبهات الحكمية التي يرجع فيها إلى أصالة البراءة العقلية، إذ من المعلوم أن معنى الرجوع أنه يقبح المؤاخذة عقلا على التكليف من غير بيان وحجة، فلا مؤاخذة على ارتكاب محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب مع فرض عدم قيام الحجة عليهما، فيكون الحاصل نفي العقاب بمقتضى حكم العقل وترك الاحتياط في مقام العمل لذلك، ومن المعلوم أن نفي العقاب كذلك ليس
236

بالإباحة شرعا، لا ظاهرا ولا واقعا، فلا يخالف الاحتياط من حيث الفتوى، بل يوافقه، فيتحقق هناك الاحتياط في الفتوى مع عدمه من حيث العمل.
لا يقال: إن غاية ما هناك تحقق الاحتياط في الفتوى مع الرخصة في ترك الاحتياط من حيث العمل، والمدعى ثبوت التلازم بين وجوب الاحتياط في الفتوى وبينه من حيث العمل، لا بين تحققه من حيث الفتوى وبين وجوبه من حيث العمل.
لأنا نقول: إن العمل بالبراءة الأصلية - أيضا - يقول بوجوب الاحتياط من حيث الفتوى مع قوله بعدم وجوبه من حيث العمل، فتأمل (1)
.
والأولى أن يتمسك بإطلاق أخبار التوقف، بتقريب أنها تدل بإطلاقها على وجوب التوقف من حيث العمل في
مورد الشبهة - أيضا - والمفروض في المقام الشبهة في حكم الواقعة لأجل تعارض النصين، فلا بد من التوقف من حيث العمل - أيضا - فافهم.
قوله - قدس سره -: (وإلا لوجب التوقف) (2)
إشارة إلى وجه توهم دلالة الأخبار الآمرة بالتخيير في المتعارضين على اعتبار الأخبار من باب السببية.
وتوضيحه: أنه لو كان اعتبارها على وجه الطريقية لكان مقتضى القاعدة

(1) وجه التأمل أنه يمكن دفع النقض بموارد أصالة البراءة بأن ترك الاحتياط فيها من جهة أن المكلف يستكشف من حكم العقل بقبح التكليف من غير حجة إباحة الفعل شرعا في مرحلة الظاهر، نظرا إلى الملازمة بين حكمه وبين حكم الشرع فتركه العمل بالاحتياط في العمل بعد إفتائه بالإباحة الشرعية ظاهرا واعتماده فيه إليها، إذ لا معنى للإباحة إلا رفع المنع والجرح عن الفعل، ومن المعلوم أنه يعلم بحكم العقل المذكور أن الشارع رفع المنع عن الفعل المشكوك حكمه، فيجوز الإفتاء بالإباحة الظاهرية شرعا فلم يجمع وجوب التوقف في الفتوى مع عدمه في العمل، بل اجتمع جوازه فيه مع جوازه من حيث العمل فلا تغفل. لمحرره عفا الله عنه.
237

أن يحكم الشارع في المتعارضين منها بالتساقط في مؤداهما، فإن القاعدة فيهما - بناء على اعتبارهما من باب الطريقية - إنما هو ذلك، كما مر غير مرة، وحكمه بالتخيير يناسب اعتبارها على وجه السببية، إذ القاعدة فيهما - بناء على اعتبارهما كذلك - إنما هو ذلك،
وقوله (قدس سره): (لقوة احتمال أن يكون التخيير حكما ظاهريا عمليا) (1)
دفع لذلك الوجه.
وتوضيحه: أن اعتبارها على وجه الطريقية إنما ينافي ثبوت التخيير في المتعارضين على نحو ثبوته للمتزاحمين من الواجبات النفسية، بأن يكون كل منهما مطلوبا نفسيا واقعيا تخييرا.
وأما ثبوته فيهما بعنوان كونه حكما ظاهريا في مقام العمل [فلا ينافي] (2) كما مرت الإشارة إليه سابقا، وأخبار التخيير ليست ظاهرة فيه على الوجه الأول، بل ساكتة عنه، فغاية ما ثبت منها إنما هو التخيير بين المتعارضين وهو أعم منه فلا يدل عليه.
ثم إن وجه قوة احتمال كونه على الوجه الثاني ظهور أدلة اعتبار الأخبار في اعتبارها على وجه الطريقية مع عدم ظهور أخبار التخيير على خلافها.
هذا مضافا إلى شهادة الأخبار الآمرة بالأخذ بالمرجحات، إذ لا ريب أن تلك المرجحات من المزايا التي توجب أقربية ذيها إلى الصدور، أو أبعدية احتمال عدم صدوره، ومن المعلوم أن المعتبر في المتزاحمين في مقام الترجيح كون الراجح مشتملا على مزية موجبة لتأكد مطلوبيته وأهميته بالنسبة إلى صاحبه، ومجرد أقربية صدوره، أو أبعدية احتمال عدم صدوره بالنسبة إلى صاحبه لا يصلح لجعله أهم سيما مع اشتمال صاحبه - أيضا - على جميع الشرائط المعتبرة في المطلوبية
238

المأخوذة في أدلة اعتبارهما.
هذا مضافا إلى ما مر سابقا من أنه لا يتحقق التزاحم بين الخبرين إذا كان اعتبارهما على وجه السببية إلا فيما إذا كان مؤدى أحدهما مطلوبية الفعل ومؤدى الآخر مطلوبية تركه.
وعلى تقدير اعتبارهما على ذلك الوجه لا بد من تخصيص حكمي التخيير والترجيح بتلك الصورة، لعدم الدوران بينهما في غيرها، فلا داعي إلى ترك العمل بأحدهما وطرحه، مع أن مورد الأخبار العلاجية أعم منها قطعا وبلا ريب من أحد فيه.
وأيضا من الظاهر ورود أدلة اعتبار الأخبار في اعتبارها على طبق بناء العقلاء، ومن المعلوم أن بناءهم على اعتبارها من باب الطريقية،
وقوله: (بل هو أمر واضح) (1)
إشارة إلى هذا.
فكل من هذه الوجوه شاهد قوي على أن التخيير الثابت في المتعارضين حكم ظاهري ثابت في مورد التوقف.
ثم إن المصنف (قدس سره) لم يذكر أخبار التخيير وإنما ادعى تواترها عليه.
نعم بعض أخبار الترجيح التي ذكرها مشتمل على التخيير مع فقد المرجحات، فيكون هو من أخبار التخيير - أيضا - وهو خاص بالنسبة إلى سائر أخباره التي لم يذكر المصنف (قدس سره) وإني لم أتمكن من كتاب من كتب الأخبار المشتملة عليهما مكنني الله تعالى منها عن قريب، ووفقني للتدبر فيها وشرح صدري ويسر أمري بمحمد وآله الطاهرين صلواته عليهم أجمعين إلى يوم الدين.
239

ثم إن المصنف (قدس سره) ذكر الوجوه الثلاثة في المتعارضين على سبيل الإطلاق المقتضي لجريان كل منهما على القول به في جميع موارد الأصل الأولي، وهو التساقط، وظاهر جعله كلا منها مقابلا للأصل السابق - أيضا - يقتضي ذلك.
لكنه لا يستقم بالنسبة إلى الوجهين الأخيرين المشار إليهما
بقوله (أو العمل بما طابق منهما الاحتياط أو بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما) (1)
ضرورة أن الأصل المذكور المفروغ عنه يعم جميع موارد تعارض الخبرين حتى ما لا يكون موردا للاحتياط، بمعنى عدم كون أحدهما موافقا له كما إذا كان مؤدى أحدهما الوجوب، ومؤدى الآخر الحرمة، فلا يعقل حينئذ القول بالأخذ بما طابق منهما الاحتياط أو بنفس الاحتياط ولو كان مخالفا لهما، فكان عليه (قدس سره) أن يقول: (أو العمل بما طابق منهما الاحتياط إن كان أحدهما موافقا له وإلا فالتخيير، أو بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما مع إمكانه، وإلا فالتخيير) فحينئذ يجري كل من الوجهين في جميع موارد الأصل المذكور، وكأنه (قدس سره) اعتمد في إفادة ذلك الذي ذكرنا على وضوحه، فلذا اقتصر في التعبير عنه بما ذكر.
ثم إن قوله: (أو بالاحتياط ولو كان مخالفا لهما) بعد تقييده بما ذكرنا أيضا بظاهره لا يستقيم، فإن ظاهر قوله ولو كان مخالفا لهما هو الأخذ بما خالف كليهما جميعا.
ومن المعلوم أن عد ذلك وجها من وجوه المسألة بعد البناء على كون أحد الخبرين المتعارضين حجة لا محالة تناقض ظاهر، فإن لازم كون أحدهما حجة نفي الاحتمال الثالث، فمع التزامه لا يمكن المصير إلى وجوب الاحتياط المخالف لهما، نعم يجوز ذلك.
240

ويمكن ان يوجه ذلك بأن مراده من قوله (ولو كان مخالفا لهما) ليس ما كان مخالفا لكليهما، بل إنما هو المخالف لخصوص كل منهما، بقرينة تمثيله لذلك بالظهر والجمعة، فتأمل.
لكن يبقى فيه إشكال آخر، لا أرى محيصا عنه، وهو أنه بعد فرض كون أحد الخبرين حجة لا محالة لا يعقل إيجاب الرجوع إلى الاحتياط فيما إذا كان أحدهما موافقا له أيضا، لأن قضية الفرض المذكور كون المرجح في مقام العمل أحد الخبرين، لا الاحتياط الموافق له.
اللهم إلا أن يوجه ذلك بأن المراد كون الاحتياط مرجعا في مؤدى الخبرين، نظرا إلى أن القدر المتيقن من الإجماع والأخبار حجية أحدهما في الجملة، من غير ثبوت أن يكون ذلك على وجه التعيين أو التخيير، فلا يجوز التمسك بواحد منهما في خصوص مؤداه لقيام احتمال كون الحجة أحدهما بالخصوص ولا نعلمه، والمراد بحجية أحدهما في الفرض المذكور هذا، فمعنى حجية أحدهما حجية أحدهما فعلا في نفي الثالث مع عدم كونه حجة في خصوص مؤداه، فلا ينافي الرجوع إلى الاحتياط في خصوص مؤداه.
لكنه أفسد من سابقه، لأن ذلك - كما مر غير مرة - إنما هو يقتضي الأولى (1)، والمراد بالوجه المذكور ما
كان مخالفا له، ومن المعلوم أن مقتضى الإجماع والأخبار المتواترة إنما هو حجية أحدهما حينئذ فعلا في مؤداه، ومراده (قدس سره) أيضا ذلك.
هذا مع أن المفروض في مورده الوجوه الثلاثة إنما هي صورة تكافؤ الخبرين، وعدم ترجيح لأحدهما شرعا، ومعه لا يحتمل كون الحجية على تقدير

(1) نعم تفارقه من حيث أن مقتضاه حجية أحدهما بلا عنوان لا الغير المردد بين كونه أحدهما بالخصوص أو على التخيير. لمحرره عفا الله عنه.
241

ثبوتها - كما هو المفروض - مختصة بأحدهما، بل يلازم حجية كل منهما تخييرا.
قوله - قدس سره -: (ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي، فيفتي بما اختاره، لأنه حكم للمتحير، وهو المجتهد) (1)
فيه أن كون التخيير حكما للمتحير مسلم لكن المتحير ليس المجتهد فحسب، بل المقلد - أيضا - متحير، فان تحيره في نفس الحكم الفرعي، وفي أدلته، وشرائط تلك الأدلة، ومؤدياتها، لا ينافي تحيره في الخبرين، بل هو من هذه الجهة - أيضا - متحير، لا يدري ما يصنع فيهما، فيكون تحيره من هذه الجهة زائدا على تحيره من الجهات الاخر المذكورة، فهو متحير في جميع جهات التحير للمجتهد، التي منها تحيره في حكم الخبرين المتعارضين، الذي حكمه التخيير بينهما، إلا أنه عاجز عن استعلام ذلك الحكم واستنباطه، فإذا استنبطه المجتهد يكون ذلك حكما مشتركا بينه وبين المقلد.
اللهم الا أن يقال: إن مطلق الجاهل لشيء لا يسمى متحيرا في ذلك الشيء، وإنما يصدق عليه هذا العنوان إذا كان مبتلى به، ولا بد له من عمل فيه، فينحصر في المجتهد (2)، إذ المقلد لمكان عجزه لا يلزمه التصدي لتعيين الطريق الفعلي من المتعارضين.
قوله - قدس سره -: (فلو فرضنا أن راوي أحد الخبرين عند المقلد أعدل إلى قوله فلا عبرة بنظر المقلد) (3)

(1) وبعبارة [أخرى] إن المتحير هو ما يعبر عنه بالفارسية ب (درمانده) وهو لا يصدق إلا على من ليس له بد من العمل مع جهله في كيفية العمل.
ألا ترى أن من لم يرد الذهاب إلى بغداد لكنه جاهل بطريقه لم يصدق عليه أنه متحير في طريق بغداد، بل يقال له أنه جاهل به فحسب بخلاف من أراد الذهاب إليه مع جهله بطريقه فيصدق عليه انه متحير في طريقه. لمحرره عفا الله عنه.
242

قال (دام ظله) عدم العبرة بنظر المقلد - في الموارد المذكورة بحيث يكون اعتقاده بخلاف ما اعتقده المجتهد كعدمه في جواز أخذه الحكم الذي استنبطه المجتهد بناء على اعتقاده في كيفية الطريق - مشكل غاية الإشكال، وإنما المسلم من جواز تقليده له إنما هو ما إذا لم يكن معتقدا بخلاف ما اعتقده المجتهد في الطريق.
قوله - قدس سره -: (وإن كان وجه المشهور أقوى) (1)
قال (دام ظله) الظاهر ذلك.
وأنا أقول وللنفس في كل من الوجهين تأمل وتزلزل، والمرجو من الله أن يهدينا إلى سواء السبيل، فإنه خير هاد ودليل، وكأن القوي في النظر انما هو الوجه الثاني، فان الظاهر من الأخبار العلاجية كونها مسوقة لبيان حكم المتعارضين بالنسبة إلى من يكون طريقه إلى الواقع الأخبار، أعني من يجب عليه تحصيله بها، لا غير، مع جهلة بالطريق الفعلي له من المتعارضين، وهذا لا يكون الا المجتهد، إذ المقلد طريقه إلى الواقع ليس إلا اعتقاد المجتهد.
ولو تنزلنا عن ذلك فغاية الأمر كونه متحيرا في العمل، بين العمل باعتقاده، أو بما يشخصه من الخبر لشرائط حجيته، وعلى أي تقدير خارج عن مورد الأخبار العلاجية، والإشكال المتقدم منه (دام ظله) إنما يقدح بالاستشهاد بالموارد المذكورة، إذ هي على تقدير ثبوت عدم جواز عمل المقلد بمقتضى اعتقاد المجتهد فيها لا تكون شاهدة على المدعى، لكنها لا تقدح به، فان عدم جواز العمل حينئذ من باب أنه حينئذ عالم بخطأ اجتهاد المفتي، وهو لا يلازم جواز عمله بمقتضى ما اعتقده هو، حتى ينافي اختصاصه حكم المتعارضين بالمفتي، فافهم.
قوله - قدس سره -: (فالظاهر أنها مسوقة لبيان وظيفة المتحير في ابتداء الأمر، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحير بعد الالتزام.
243

بأحدهما) (1)
أقول: كان الأجود أن يقول إنها مسوقة لبيان وظيفة المتحير، ومن المعلوم أن الجاهل بطريق مقصد لا يكون متحيرا فيه إلا مع قصده الذهاب إلى ذلك المقصد، ومن المعلوم أن مقصد كل مكلف في موارد احتمال التكاليف الشرعية إنما هو ما يبرأ ذمته عن تبعة استحقاق العقاب عليها، فغرضه تحصيله والوصول إليه، وهو لا ينحصر في الإتيان بالواقع على ما هو عليه، بل يعم ما أدى إليه طريق غير علمي معتبر فعلا من قبل الشارع، فالشاك في اعتبار أحد الخبرين المتعارضين إنما يكون متحيرا قبل ثبوت اعتبارهما في تلك الحال شرعا، وأما بعد ثبوت اعتبارهما تخييرا حينئذ بمقتضى أخبار التخيير فيرتفع تحيره، فإنه حينئذ بأيهما أخذ يؤديه إلى مقصده، وهو المؤمن له من العقاب، فله الأخذ بأي منهما في الواقعة الأولى، وأما الوقائع الاخر فإذا فرض كونه شاكا فهي (2) فيها في اعتبار غير ما اختاره في الأولى، فلا يصدق عليه أنه متحير، لأن له فيها طريقا فعليا إلى مقصده، وهو ما اختاره في الأولى لأن اعتباره فيها متيقن، والمفروض أن أخبار التخيير مسوقة لبيان حكم المتحير، لا مطلق الشاك، فلا تشمل الوقائع الاخر قطعا، فلا بد له في إثبات حكم التخيير حينئذ من التشبث بغيرها إن كان، وإلا فالاقتصار على المتيقن.
قوله - قدس سره -: (وبعض المعاصرين استجود هنا كلام العلامة مع أنه منع من العدول عن أمارة إلى أخرى وعن مجتهد إلى آخر فتدبر) (3)
244

أقول: لعل وجه استجواده له أن كلا الخبرين المتعارضين قد وصلا من الشارع بطريق صحيح، وكل ما كان كذلك يجوز الأخذ به تعبدا من باب التسليم، بمقتضى أخبار التسليم - التي منها ما ورد في بعض الأخبار العلاجية - وهو قوله عليه السلام حين سئل عن الخبرين المتعارضين (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك) (1) فيجوز الأخذ بكل من المتعارضين مطلقا، لأن مصلحة التسليم لا ترتفع، وعنوانه لا ينتفي بمجرد الأخذ بأحدهما واختياره، بل هما - أعني مصلحة التسليم وصدق عنوانه - باقيان على ما كانا عليه بالنسبة إلى الوقائع المتأخرة - أيضا -.
هذا مع أن ما ذكرنا - من أخبار التسليم - وارد في خصوص الخبرين المتعارضين، ومعه لا حاجة إلى إثبات كلية الكبرى.
هذا بخلاف الأمارة وفتوى المجتهد، فإن شيئا منهما لم يصل من الشارع بالوصول القولي وبطريق الانتساب إليه كذلك.
نعم الدليل على اعتبارهما قد وصل منه كذلك، وليس الكلام فيه، وكأن أمر المصنف (قدس سره) بالتدبر إشارة إلى هذا الذي ذكرنا، فافهم.
قوله - قدس سره -: (بقي هنا ما يجب التنبيه عليه خاتمة للتخيير ومقدمة للترجيح) (2)
أقول: كون التنبيه المذكور خاتمة للتخيير لأجل أن الذي أثبته سابقا إنما هو حكم التخيير للمتكافئين من الخبرين المتعارضين، لكن لم يبين أنه ثابت لمطلق المتكافئين منهما، أو للذين لا يرجى الاطلاع على مزية لأحدهما،
فلا عبرة بالتكافؤ البدوي، فكان عليه التنبيه على ذلك فنبه عليه لذلك، لكن كونه مقدمة
245

للترجيح لم يفهم وجهه، بل الظاهر العكس، لأن وجوب الفحص عن المرجحات.
مبني على وجوب الأخذ بها، فالمناسب التعرض له بعد إثبات وجوب الترجيح.
قوله - قدس سره -: (مع أن أصالة العدم لا يجدي في استقلال العقل بالتخيير، كما لا يخفى) (1)
فيه أنه لا فرق بين الأصول العملية والطرق الغير العلمية المعتبرة في هذا المقام أصلا، فان حكم العقل إن كان على وجه يستكشف منه حكم الشارع به في صورة عدم المزية لأحد المتعارضين، فيكون الحال كما في تخيير الشارع بلسانه في تلك الصورة، من حيث جواز الاعتماد في عدم المزية على استصحاب عدمها وعلى الطريق الظني الكاشف عن عدمها.
وإن لم يكن حكمه على هذا الوجه، فلا مساس لشيء منهما في إحراز عدم المزية، إذ كل من الطريق الظني والأصل العملي مجعول من قبل الشارع، ومعنى جعل الطريق الظني إيجابه ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على مؤداه - على تقدير صدقه - عليه مع كونه محتملا للخلاف، بمعنى جعله طريقا إلى ما يفيده من الأحكام الشرعية، ومعنى جعل الاستصحاب مثلا الحكم في مورده على طبق الحالة السابقة، وترتيب الأحكام الشرعية المترتبة على المتيقن على مورده، ومن المعلوم أنه إن استكشف من حكم العقل تخيير الشارع في صورة عدم المزية لأحد المتعارضين، فيكون التخيير حكما شرعيا ثابتا لتلك الصورة واقعا، فيجري في إحراز موضوعه - المفصل بعدم المزية - كل منهما، وإلا فلا مجرى لشيء منهما لعدم إفادة شيء منهما حينئذ علما ولا عملا.
أما عدم إفادة العمل فواضح.
وأما عدم إفادة العلم بالنسبة إلى الأصل فكذلك، وأما عدمها بالنسبة
246

إلى الظن، فلأن استقلال [العقل] (1) في الموارد الشخصية بحكم منوط بجزمه بكون الموارد من مصاديق الكلي الذي حكم عليه بذلك الحكم، ومن المعلوم أن الظن وإن بلغ في القوة إلى ما بلغ يكون محتملا للخلاف، وإلا لما كان ظنا فلا يحرز به موضوع ذلك الحكم في المورد ليستقل العقل بالحكم عليه.
قوله - قدس سره -: (المتممة فيما لم يذكر فيها من المرجحات المعتبرة بعدم القول بالفصل) (2)
قوله المتممة مبني للمفعول، صفة للدلالة في قوله قبل ذلك (ودلالة بعضها الآخر على وجوب الترجيح ببعض المرجحات) وحاصله أن أخبار التخيير جملة منها مطلقة، غير مقيدة بشيء من المرجحات، وبعض منها مقيدة ببعض تلك المرجحات، فلا بد من حمل تلك المطلقات عليه، إذ المطلقات وإن بلغت في الكثرة إلى ما بلغت يكفي في تقييدها ورود مقيد واحد معتبر، فيكون الحاصل من مجموعها اختصاص حكم التخيير بغير صورة بعض المرجحات المذكور في بعضها، فإذا ثبت اختصاصه بغير صورة ذلك البعض من المرجحات ثبت اختصاصه بغيره من المرجحات بضميمة عدم القول بالفصل، فذلك البعض من أخبار التخيير الدال على اختصاص التخيير بغير صورة ما ذكر فيه من المرجحات وإن لم يكن دالا على اختصاصه بغير صورة وجود سائر المرجحات في نفسه إلا أنه دال عليه بضميمة عدم القول بالفصل، فعدم القول بالفصل متمم لدلالته على تمام المطلوب.
حكم الترجيح عند تعارض الأخبار
قوله - قدس سره -: (فالمشهور فيه وجوب الترجيح وحكي عن
247

جماعة منهم الباقلاني والجبائيان عدم الاعتبار بالمزية) (1) (2)
قال (دام ظله) ومن القائلين بعدم اعتبارها السيد صدر الدين الشارح للوافية (قدس سره) (3) إلا أنه قائل باستحباب الترجيح بها، وسيأتي من المصنف نقله منه - أيضا -.

(1) شرح الوافية للسيد صدر الدين، مخطوط، فإنه صرح بذلك في باب التعادل والتراجيح في موردين بالاختصار والتفصيل.
المورد الأول في الباب المزبور قبل ثماني أوراق عند قوله العاشر بين الخبرين وإليك لفظه:
فأنت إذا تأملت ما بيناه - ونظرت في أحاديث التراجيح من حيث الاختلاف إذ قد اكتفى في البعض بالتوقف، وفي البعض بالتخيير وفي البعض فصل تفصيلا ثم إن المفصلات منها مختلفة الترتيب ومختلفة العدد، ونظرت - أيضا - في قول الصادق عليه السلام انه هو الذي أوقع هذا الاختلاف بين الشيعة، لكونه أبقى لهم عليهم السلام ولنا - علمت ان الأصل هو التخيير في العمل والفتوى فيجوز للمكلف العمل بما في الكافي والفقيه بشرط عدم رد الشيخ له سواء كان له معارض أم لا.
نعم الترجيح بما ذكر في الأخبار مستحب إن أمكن وسيجئ كلام أبسط من هذا إن شاء الله تعالى.
المورد الثاني في الباب المزبور أيضا قبل ست أوراق وإليك لفظه بكلامه الأبسط حيث قال: ثم إن المشهور، بل المجمع عليه عند الأصوليين وهو وجوب استعلام التراجيح ووجوب العمل بالراجح، وسننقل دليلهم إن شاء الله تعالى فيرد على قولهم إشكالات على تلك الأحاديث.
منها: أن الواجب على من يسأل عن طريق العمل بالمتعارضين أن يجيب بأن اللازم العمل بالحديث الذي اختص بوجه من جملة ثمانية وجوه إن كان مناط جوابه على الوجوه المعلومة من الأحاديث، وهو ما فوق التوقف حسب ما ذكرناه مع أن الراوي سأل مرة وأجاب عليه السلام بأن اللازم العمل بما هو أصح سندا، ففرض الراوي التساوي فيه فأجاب بترجيح المشهور على النادر، فيشكل الأمر بأن الراوي إن فرض التساوي في الوجوه الأخر غير السند ثم فرض التساوي فيه - أيضا - فالجواب هو التوقف أو التخيير ليس إلا، وإن لم يفرض التساوي، فالعمل بما أصح سندا لا يقتضي قوة الظن بالعمل بما هو حكم الله تعالى في الواقع لأن الأوثقية لا تفيد إلا قوة الظن بصدور الخبر عن المعصوم عليه السلام، وربما كان خبر الثقة قطعي المضمون فضلا عن قوة الظن به، كما أشرنا إليه، كأن يروي الأوثق ما هو مخالف لجميع أقوال الأمة ويروى الثقة ما هو المعلوم من مذهب الشيعة، وأيضا بعد فرض التساوي في السند فقط ليس اللازم العمل بما يخالف العامة، كما يدل عليه حديث زرارة بن أعنى (رحمه
الله) أعني المخالفة لا يقتضي قوة الظن بكون مضمون المخالف واقعيا، كما إذا كان الموافق موافقا لنص الكتاب ومحكمه، لأن صدور الأخبار التي ليست واقعية ليس منحصرا في التقية عن العامة، بل لعله كان تقية من بعض سلاطين الوقت الذي لا يبالي بالدين مطلقا، كبعض بني أمية وبني العباس، ألا ترى أن الوليد (لعنه الله) استخف بالقرآن والمتوكل (لعنه الله) صرح بعداوة سيدة النساء صلوات الله عليها مع أن هذين ليسا مذهبا لأحد من العامة.
ومنها: أن العوض على كتاب الله تعالى إن كان على المحكم الذي صار مضمونه ضروريا في الدين أو المذهب فلا ثمرة لعرض الحديث عليه إن كان المقصود تحصيل العلم أو الظن بحقيته ليعمل به، لأن مثل هذا الحكم مستغن عن الدليل، وإن كان على الظاهر الذي اختلف في ظهوره ولم يعلم من طريق الأئمة عليهم السلام حاله والمقصود منه، فلا يحصل من موافقته لمثل هذا الظاهر قوة الظن، إذ ربما كانت دعوى الظهور من قائله غير مستندة إلى حجة شرعية وكان ما ليس بظاهر عنده هو المقصود فيكون الحديث المخالف لهذا الظاهر المطابق للواقع.
ومنها: الاكتفاء في البعض بالبعض.
ومنها: مخالفة الترتيب ففي البعض قدمت الشهرة وفي الآخر قدم السند وغير ذلك مما يظهر بالتأمل فيها.
والجواب عن الكل هو ما أشرنا إليه، من أن الأصل التوقف في الفتوى والتخيير في العمل إن لم يحصل من دليل آخر العلم بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع وأن الترجيح هو الفضل والأولى. انتهى.
وقد قال في مورد آخر: فنحتاج إلى الترجيح وليس لازما بل مخيرون بين الترجيح والأخذ بأيهما شئنا من باب التسليم.
248

واحتج عليه على ما حكي عنه (دام ظله) بوجوه:
أحدها: الاقتصار في بعض أخبار الترجيح على بعض المرجحات.
وثانيها: اختلاف الترتيب في ذكر المرجحات في تلك الأخبار.
وتقريب الاستدلال بهما: أن شيئا منهما لا يناسب وجوه الترجيح، بل يناسب استحبابه، لأن الواجبات لا يعقل تسامح المعصوم عليه السلام في بيانها، وبيان كيفيتها مع عدم الموجب له المقطوع به في المقام.
وثالثها: أن من المرجحات المنصوصة موافقة الكتاب، والمراد بها إما موافقة نصوصه وإما موافقة ظواهره، لا سبيل إلى حملها على الأولى، إذ مع وجود
249

نص من الكتاب في مسألة لا يعقل التحير في حكمها الذي هو مورد تلك الأخبار والداعي للسؤال فيها في المسبوقة به منها، فيتعين حملها على الثانية، وهي لا تصلح لإيجاب الأخذ بها في مقام الترجيح، إذ الظواهر مما تختلف باختلاف الأنظار، فلا بد أن يكون الأمر بالأخذ بها استحبابيا، فإذا كان الحال في موافقة الكتاب ذلك، فهو الحال [في] سائر المرجحات، إذ من المعلوم أنها بأسرها على نسق واحد، مضافا إلى عدم القول بالفصل، بل إلى الاتفاق على عدمه.
ورابعها: أن من تلك المرجحات أعدلية راوي إحدى الروايتين، وقد قدمت هي على الشهرة في مقبولة عمر بن حنظلة (1)، التي هي العمدة من أدلة وجوب الترجيح بها، مع أن الترجيح على القول بوجوبه إنما هو لقوة الظن في إحدى الروايتين، ومن المعلوم أن الشهرة أقوى منها من حيث إفادة الظن لصدق موردها.
هذه جملة ما ذكره (قدس سره) من الأدلة، مع توضيح منا في تقريب الاحتجاج بها.
وحاصل الجميع تسليم ظهور الاخبار العلاجية في وجوب الأخذ بالمرجحات، إلا أنه يدعي الاستحباب بإبداء الصارف لها عنه بهذه الوجوه.
ولا يخفى على المتأمل ما في كل منهما:
أما الأولان منها: فلأنهما على تقدير تماميتهما في أنفسهما إنما يقدحان بالقول بوجوب الأخذ بتلك المرجحات من باب التعبد، لا الظن بأقربية إحدى الروايتين إلى الواقع أو أبعديته عن الباطل، إذ مراعاة الترتيب بينهما والعمل بخصوص كل منهما لازمان على ذلك القول، وأما على القول الثاني فلا يلاحظ الترتيب بينها على النحو المذكور في الأخبار، ولا يقتصر على ما ذكر فيها من
250

المرجحات، بل المناط ما مر من اشتمال إحدى الروايتين على مزية مفقودة في الأخرى موجبة لأقربية ذيها إلى الواقع على فرض الدوران بينه وبين صاحبه، أو أبعديته عن الباطل، والترجيح بتلك المزية وإن كان - أيضا - تعبدا من الشارع إلا أنه ليس تعبدا صرفا غير منوط بأمر جامع بينهما كما هو مقتضى القول الأول.
والحاصل أن أصحاب القول الأول إنما يتعبدون بخصوصيات تلك المرجحات المنصوصة ولا يتعدون فيها إلى غيرها، وبتقديم بعضها على بعض على النحو المذكور فيها.
وأصحاب القول الثاني لا يتعبدون بشيء منهما وإنما يتعبدون بالمزية الموجودة في إحدى الروايتين على النحو المذكور، من أي سبب حصلت، ويحملون ذكر المنصوصة منها في الأخبار على ذكر بعض أفرادها، وكونه
من باب التمثيل.
وبالجملة إذا كان المناط في الترجيح هي المزية المذكورة، فالواجب على الشارع التنبيه عليها فحسب، إذ لولاه لزم تسامحه في بيان الواجب، وهو حاصل كما يقضي به التأمل في تلك الأخبار وأما التنبيه على شيء من خصوصياتها فلا، فضلا عن جميعها، لعدم إناطة الترجيح بخصوص شيء منها، حتى يلزم من عدم التنبيه عليه التسامح في بيان الواجب.
ومن هنا يظهر عدم قدح اختلاف الترتيب في ذكر المنصوصة منها بذلك القول أيضا، بل دليل عليه، كما لا يخفى على المتأمل.
والسيد المذكور (قدس سره) قد اعترف في ذكر الرابع من الوجوه المتقدمة بأن الترجيح على القول به منوط بقوة الظن في إحدى الروايتين، وهو عين ما اختاره أصحاب القول الثاني.
وخلاصة الكلام: أنه ينبغي الاحتجاج - بالوجهين المذكورين على تسلمهما
251

وتماميتها في أنفسهما - على بطلان القول الأول، بتقريب أنه لو كان الترجيح منوطا بخصوص تلك المرجحات المنصوصة لما أهمل الإمام عليه السلام بعضها في بعض تلك الأخبار العلاجية، لاستلزامه إخلاله عليه السلام ببيان الواجب مع عدم الداعي المجوز له، وأيضا أصحاب هذا القول لا بد لهم من التعبد بتقديم بعض تلك المرجحات على بعض، كتعبدهم بخصوصياتها، ولا يتمكنون من إثبات ذلك لاختلاف الأخبار العلاجية في ترتيبها، بل اختلافها في ذلك كاشف عن عدم وجوب ملاحظة الترتيب بينها، إذ على تقدير الوجوب يلزم إخلاله عليه السلام ببيان الواجب.
وأما القول الثاني، فلا ينافيه شيء من الوجهين، إذ عليه يكون الواجب هو الترجيح بتلك المزية المذكورة من أي سبب حصلت، وقد ثبتت هي في تلك الأخبار، وأما خصوصياتها فلم ينط الترجيح بخصوص شيء منها، حتى يلزم من عدم ذكر شيء منها التسامح في بيان الواجب، فلا ينافيه أول الوجهين المتقدمين.
والترتيب بين الأسباب المحصلة لتلك المزية - إذا تحققت جملة منها في إحدى الروايتين المتعارضتين، وجملة أخرى مخالفة لتلك الجملة في أخراهما - إنما هو بكون أحدهما محصلة للظن الأقوى مما يحصله الأخرى، وإن كانت الأخرى المفيدة للظن الأضعف مقدمة في الذكر في تلك الأخبار، فأن الأخرى المحصلة للظن الأضعف مع تعارضها للمحصلة للأقوى غير مندرجة في تلك المزية، التي أنيط بها الترجيح، بل المندرجة فيها حينئذ إنما هي المحصلة للأقوى وإنما تندرج فيها إذا كانت سليمة عن معارضة تلك لها، وفي الحقيقة لا تعارض بينهما عند اجتماعهما.
والحاصل: إذا كان المفروض أن الشارع أناط الترجيح بكون إحدى الروايتين مشتملة على مزية موجبة لأقربيتها إلى الحق، أو أبعديتها عن الباطل، وتعبدنا بالأخذ بمثل هذه المزية، فلا يعقل تعبده إيانا بمصداقية شيء لها، فإنها
252

كسائر المفاهيم صدقها على ما ينطبق عليها قهري، وعلى ما لا ينطبق عليها ممتنع، فعلى تقدير عدم اختلاف الأخبار في ترتيب المزايا المذكورة - أيضا - لا حجية فيها علينا في إثبات وجوب الترتيب بينها، لرجوعه إلى التعبد بمصداقية ما قدمت عند الاجتماع لتلك المزية الكلية، وهي ليست حكما شرعيا يتطرق إليه التعبد، فلا تكون أدلة اعتبار الخبر مقتضية للتعبد به، بل لا يعقل إرادته به منها، فيكون تشخيص مصاديقها موكولا إلى نظر المستنبط، فاتضح بذلك عدم منافاة الوجه الثاني لذلك القول - أيضا -.
هذا كله مضافا إلى عدم تمامية شيء من الوجهين في نفسه أيضا.
أما أولهما: فلأنه غير مستلزم للتسامح في بيان الواجب على تقدير وجوب الأخذ بجميع تلك المرجحات المنصوصة، فإن التسامح حينئذ إنما يتحقق بعدم بيان بعض منها أصلا، وأما إذا كان المفروض بيان الجميع في مجموع تلك الأخبار وإن لم يكون في بعضها فلا.
وأما ثانيهما: فلأن أكثر الأخبار الآمرة بالترجيح قد اقتصر في كل منهما على ذكر بعض المرجحات، فلا منافاة بينها من حيث الترتيب، حتى يقدح بالقول الأول، وإنما المذكور فيها جميع تلك المرجحات اثنان، أحدهما مقبولة عمر بن حنظلة، وثانيهما مرفوعة زرارة، والاختلاف في الترتيب إنما هو بين تينك من جهة أن أول ما ذكر منها في المقبولة إنما هي صفات الراوي، وفي المرفوعة إنما هي الشهرة، وغاية ما يلزم أصحاب ذلك القول إنما هو العلاج بينهما، وسيأتي إمكان العلاج بينهما إما بحمل تقديم الترجيح بصفات الراوي على الترجيح بين الحكمين من حيث أنهما حكمان، كما هو ظاهر صدر المقبولة، وإما بتحكيم المرفوعة على المقبولة على النحو الذي يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، فلم ينهض الوجهان حجتين على أولئك أيضا.
وأما ثالث الوجوه المتقدمة، ففيه أن المراد بموافقة الكتاب إنما هو موافقة
253

ظواهره، من عموماته أو إطلاقاته، لكن ليس كل ظاهر مما يختلف باختلاف الأنظار، بل غالب الظواهر مما اتفقت فيها الأنظار، إذ الغالب استناد الظهور إلى الوضع، أو إلى إحدى من القرائن العامة التي في قوة الوضع، واختلاف الأنظار فيها على تقديره راجع إما إلى الاختلاف في الوضع، وإما إلى صلاحية القرينة لإيجابها لذلك، وهو بكلا شقيه نادر جدا، فلا محذور في إيجاب الترجيح بتلك الظواهر.
وأيضا إنما علقت الترجيح على نوع الظهور الكتابي دون أشخاصه، فهو كسائر الموضوعات العرفية المعلق عليها حكم شعري، من حيث إناطة تشخيصه إلى المحكوم، وهو يشخصه بالرجوع إلى العرف واستعلامه منهم أن الظاهر من الآية المحتمل ظهورها في الاحتمال الموافق لأحد الخبرين ما ذا؟ وبعد استعلامه ظهورها فيه لا عبرة في حقه باختلاف إنظار سائر المجتهدين، وإنما القادح بعمله اختلاف إنظار العرف، فافهم.
هذا مضافا إلى أن اختلاف الظواهر باختلاف الأنظار لو كان قادحا بوجوب الترجيح بموافقتها لكان قادحا باستحبابه أيضا، كما لا يخفى على المتأمل.
وأما رابع الوجوه المذكورة، ففيه أنه على تقدير تماميته بقدح بالقول الأول من القولين في وجوب الأخذ بالمرجحات، إذ أصحاب الثاني منهما لا عبرة عندهم بالترتيب الواقع بينها في الأخبار، ويحملون تلك الأخبار على بيان مرجحية كل منهما في نفسه.
هذا مضافا إلى عدم تماميته في نفسه أيضا، فإن الترجيح بقوة الظن إنما هو أحد الأقوال في المسألة فليس أمرا متفقا عليه حتى يحتج به على أولئك.
نعم، الذي يرد عليهم أن الظاهر أنهم معترفون بتقديم الشهرة على صفات الراوي مع أنها قد قامت على الشهرة في المقبولة.
254

لكنه مندفع - أيضا - بما مرت الإشارة إليه، من أن غاية ما يلزم عليهم علاج التعارض بينها وبين المرفوعة، الدالة على تقديم الشهرة، ولهم العلاج بإحدى الوجهين المشار إليهما.
وكيف كان، فلا ينبغي الارتياب في وجوب الأخذ بالمرجح لأحد الخبرين المتعارضين، وهذا هو المشهور.
لنا عليه - مضافا إلى تواتر الأخبار الظاهرة فيه من غير ما يصلح لصرفها عنه كما عرفت، وإلى الإجماع المحقق، والسيرة القطعية، والمحكية عن الخلف عليه في الجملة (1)، وإلى لزوم الهرج والمرج في الفقه، وإحداث فقه جديد من طرح المرجحات كلية، حيث أن من سير الفقه سيرا إجماليا يجد الأخبار المتعارضة في عمدة أبوابه فوق حد الإحصاء، إذ في عمدة أبوابه وردت الأخبار الموافقة للعامة والمخالفة لهم لا محالة، فإذا بني في تلك الأبواب على الإفتاء على طبق الموافقة لهم يلزم إحداث فقه مباين لطريقة الفرقة الناجية (نصرهم الله) - أن مقتضى الأصل إنما هو ذلك، مع قطع النظر عن تلك الوجوه أيضا.
وتوضيحه أنا قد قوينا سابقا أن اعتبار الأخبار إنما هو على وجه الطريقية، لا السببية، وقد عرفت ان مقتضى الأصل الأولي في المتعارضين منها بناء عليه - إنما هو تساقطهما في خصوص مؤداهما، وفرضهما كأن لم يكونا بالنسبة إليه في العمل بما يقتضيه الأصول العملية، فلو لا قيام الإجماع والسيرة وتواتر الأخبار على اعتبار أحدهما في الجملة - حينئذ - وكونه دليلا في مؤداه، لكان مقتضى الأصل والقاعدة عدم العبرة باحتمال الترجيح لأحدهما - أيضا - فإنه بمجرده - من غير قيام دليل على اعتباره في مقام الترجيح والتعيين - لا

(1) فإن المرجحات المنصوصة داخلة في معقد الإجماع ومورد السيرة المذكورين لا محالة والخلاف إنما هو في غيرها. لمحرره عفا الله عنه.
255

يصلح لجعل مورده حجة حتى يؤخذ به، ولا قدرا متيقنا من الحجية أيضا حتى يؤخذ به لذلك، إذ المفروض حجية كل منهما في نفسه على نحو حجية الآخر كذلك، بمعنى اشتمال كل منهما على شرائط الحجية المأخوذة في دليل اعتبارهما وكونهما في الدخول فيه سواء، وعدم حجية شيء منهما فعلا لأجل التعارض، وعدم مزية لأحدهما على الآخر بالنظر إلى دخوله في ذلك الدليل، كما أنه لا مساس للتخيير بينهما على ذلك التقدير أيضا، فإنه مترتب على حجية أحدهما فعلا لا محالة، والمفروض عدمه، لكن لما قام الإجماع والسيرة وتواترت الأخبار على حجية أحدهما فعلا في الجملة، حيث أن أخبار التخيير والترجيح متفقة على ذلك، لاشتراك الكل فيه، فصارت حجية محتمل الترجيح منهما متيقنة، فإن الواحد منهما الذي علم بحجيته إما حجة عينا، أو تخييرا، وعلى أي تقدير يلزم حجية محتمل الترجيح لعدم احتمال حجية الآخر تعيينا، وحجية الآخر مشكوكة بدوا، فيتعين الأخذ بمحتمل الترجيح للعلم بحجيته، وعدم العمل بالآخر، لفرض الشك في حجيته الموجب لدخوله تحت أدلة حرمة العمل، والتدين بغير ما علم من الشارع التدين به.
ولا مساس لأصالة البراءة عن التعيين في محتملة في المقام، إذ لا سبيل لها إلى موارد الشك في طريق الامتثال (1)، فإنها إنما يرفع التكليف المستتبع للعقاب، ومخالفة الطريق من حيث هو لا يعقل العقاب عليه ولو مع القطع باعتباره، فكيف بصورة احتماله، وإنما هو على تقديره على مخالفة ذيه، وبعد فرض قيام الحجة عليه لفرض العلم بحجية ما قام عليه وأن التردد إنما هو في انحصار الحجية فيه، دون أصلها، لا مساس لها به - أيضا -، فإن موردها سواء أخذت

(1) هذا مع أنها على تسليم جريانها لا يثبت جواز العمل بالآخر المشكوك الحجية فعلا، فلا يجوز الأخذ به حينئذ بمقتضى أدلة حرمة التشريع لمحرره عفا الله عنه.
256

من الأخبار أو من العقل إنما هي موارد احتمال التكليف التي لم يقم عليها حجة، فتأمل (1).
والحاصل: أن احتمال الترجيح لأحد الخبرين المتعارضين، وإن لم يكن في نفسه صالحا لإثبات حجية مورده، لكن بعد قيام الدليل على حجية أحدهما في الجملة يوجب تيقن حجية مورده، فالأخذ به إنما هو لأجل ذلك.
فقد ظهر أن الأصل بالنظر إلى الأدلة اللبية من الإجماع والسيرة وإلى تواتر الأخبار القاطعة للأصل الأولي في الطريقين المتعارضين بالنسبة إلى الخبرين المتعارضين - أيضا - مع الإغماض عن الأدلة المتقدمة، إنما ووجوب الترجيح.
لا يقال: إن إطلاق أخبار التخيير حجة على عدم وجوب الترجيح.
لأنا نقول: إنه لا بد من تقييدها بأخبار الترجيح بالنسبة إلى المرجحات المنصوصة فيها لا محالة عملا بقاعدة المطلق والمقيد، المتفق عليها في المتنافيين منهما، ولا يعقل ملاحظة التعارض بينهما، فضلا عن ترجيح الأول فتأمل (2).
وأيضا بعض أخبار التخيير مقيد بصورة فقد المرجحات، فلا بد من تقييد غيره به، عملا بتلك القاعدة.
نعم يتجه الاحتجاج بإطلاقها في نفي وجوب الترجيح بغير المرجحات المنصوصة، إذا لم يستظهر من أخبار الترجيح وجوب الأخذ بمطلق المزية، وليس

(1) وجه التأمل أن غاية ما هنا إنما هي العلم بجواز الأخذ بمحتمل الترجيح من الخبرين، وهذا بمجرده لا يوجب تمامية الحجة في مؤداه حتى لا يجري فيه أصالة البراءة لفرض احتمال حجيته من باب التخيير، إذ من المعلوم أنه على تقدير كونه حجة تخييرا لا ينهض حجة في مؤداه إلا بعد الأخذ والالتزام به، فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
(2) وجه التأمل أن الكلام على تقدير الغض عن أخبار الترجيح فلا معنى حينئذ للجواب بتقييد إطلاق أخبار التخيير بها. لمحرره عفا الله عنه.
257

كلامنا الآن في ذلك المقام.
فتلخص مما حققنا أنه لا دليل على التخيير مع احتمال وجوب الترجيح بأي لحاظ في الخبرين المتعارضين، فان مدركه:
إن كان دليل اعتبار خبر الواحد، فهو لا يقتضي حجية واحد من المتعارضين، فضلا عن اقتضائه لحجية غير محتمل الترجيح.
وإن كان ما قام على حجية أحدهما في الجملة، فهو - أيضا - لا يقتضي حجة غير محتمل الترجيح، حتى يثبت التخيير، وإنما القدر المتيقن منه حجية محتمله.
وإن كان أدلة التخيير، فهي مقيدة بصورة فقد المرجحات المنصوصة لا محالة - كما عرفت - بل الدليل على عدمه بأي لحاظ، كما عرفت.
نعم يتجه القول به - بناء على اعتبار الأخبار من باب السببية التي لا نقول بها -، إذ الكلام في وجوب الترجيح بمزية لأحد الخبرين المتعارضين موجبة لأقربية ذيها إلى الحق، أو أبعديته عن الباطل بالنسبة إلى فاقدها، وغاية ما يترتب عليها إنما هي تأكد جهة الكشف والطريقية في ذيها بالنسبة إلى فاقدها، ومن المعلوم أو جهة الكشف غير ملحوظة أصلا على ذلك التقدير في وجوب العمل بالخبر، حتى يتأكد بقوتها وجوب العمل بالأقوى من تلك الحيثية، والمناط في الترجيح بين المتعارضين على ذلك التقدير ما هو المناط في سائر الواجبات المتزاحمة، وهو تأكد وجوب أحدهما بالإضافة إلى الآخر المتوقف على تأكد ما يقتضي وجوبه بالإضافة إلى ما يقتضي وجوب الآخر، فلا بد في مقام ترجيح أحد الخبرين المتعارضين - حينئذ - من مزية له من غير سنخ المزية المتنازع فيها محتملة لتأكد مطلوبية العمل بذيها بالإضافة إلى الآخر وليس الكلام فيها، فتأمل (1).

(1) وجه التأمل أنه ليس جميع المرجحات المتنازع فيها كذلك، بل بعضها كالأعدلية، بل ومخالفة العامة
أيضا - مما يصلح لإحداث مزيد حسن في مورده، فيحتمل معه تأكد وجوب مورده من وجوب العمل بفاقده.
وبعبارة أخرى: العمل بقول العادل مع الشك في صدقه نوع إعظام له وهذا العنوان له مطلوبية ذاتية، ويحتمل أن يكون إعظام الأعدل عند تزاحمه لإعظام العادل أهم في نظر الشارع، وإذ فرض تساوي الراويين في ذلك مع مخالفة قول أحدهما لمذهب العامة فعنوان الإعظام وإن ان مطلوبيته بالنسبة إلى قوليهما سواء، إلا أن اتحاده في قول أحدهما مع عنوان مخالفة العامة وترك النسبة بهم يصلح لتأكد مطلوبيته، فإن عنوان ترك النسبة بهم - أيضا - له مطلوبية ذاتية.
اللهم إلا أن يقال: الجهة المؤكدة للوجوب لا بد أن يكون عنوانا مقتضيا لوجوب العمل مع قطع النظر عن اتحاده مع عنوان واجب، حتى يكون اتحاده معه موجبا لتأكد وجوبه، لأن الطلب المؤكد لا يعقل تأكده إلا بما يكون من نوعه، فلو فرض اتحاد واجب مع عنوان مستحب في نفسه فهو غير صالح لتأكد وجوبه، بل لا يتأكد وجوبه ولو مع اتحاده مع الف عنوان من العناوين المستحبة، كما سيأتي توضيحه عن قريب، ومن المعلوم أن إعظام العادل، وكذلك ترك النسبة بالعامة، ليس شيء منهما واجبا في حد نفسه، فيصح القول بأن شيئا من المرجحات المنصوصة لا يصلح للترجيح به - بناء على اعتبار الأخبار من باب السببية - فافهم. لمحرره عفا الله عنه.
258

وفي الحقيقة يخرج المزية المتنازع فيها عن صلاحية النزاع في وجوب الترجيح بها وعدمه على ذلك التقدير، إذ عليه يكون عدم وجوب الترجيح بها قطعيا وغيرها - مما يحتمل معه تأكد وجوب مورده، واهتمام الشارع به بالإضافة إلى الآخر - يتوقف الترجيح به على وجوب الترجيح باحتمال الأهمية لأحد الواجبين المتزاحمين، والحق عندنا عدمه، فالوجه معه هو التخيير - أيضا -.
ثم إنه لا بأس بتأسيس الأصل - في الواجبين المتزاحمين اللذين منهما الخبران المتعارضان على ذلك التقدير - توضيحا لما ذكره من عدم العبرة باحتمال الأهمية للعمل بأحد الخبرين المتعارضين على تقدير اشتماله على ما يصلح لتأكد (1) مطلوبيته بالإضافة إلى الآخر.
فاعلم أن كل واجبين متزاحمين إما نعلم بتساويهما في نظر الشارع وإما نعلم بأهمية أحدهما من الآخر على تقدير الدوران بينهما وهو تقدير تزاحمهما، وإما
259

نشك في الأهمية والمساواة.
لا إشكال في حكمهما على التقديرين الأولين، وقد مر الكلام فيهما على الأول في أوائل المسألة، ووجوب الأخذ بالأهم على الثاني من القضايا التي قياساتها معها، إذ معنى أهمية أحدهما إنما هو كونه على وجه لو فرض الدوران بينه وبين ما يزاحمه لأراد الشارع امتثاله تعيينا، دون امتثال ما يزاحمه.
وعلى الثالث، إما أن يكون احتمال الأهمية في أحدهما بالخصوص، وإما أن يكون في كل منهما إما بأن يعلم بأهمية أحدهما إجمالا وتردد ذلك المعلوم بينهما وإما أن يشك في أصل الأهمية لأحدهما مع احتمال كون الأهم على تقديره هذا أو ذاك.
لا كلام ولا إشكال في عدم العبرة باحتمال الأهمية على الثاني بكلتا صورتيه، وكون الحكم في كل منهما هو التخيير، لأن حرمة المخالفة لكل واحد منهما بالخصوص لأجل احتمال أهميته معارضة بحرمة ارتكابه لاحتمال أهمية ما يزاحمه في كل من الصورتين، يدور الأمر في كل منهما في كل واحدة من الصورتين بين المحذورين، والعقل مستقل بالتخيير في كل مورد يكون الحال فيه كذلك، لكن هذا إنما يجري في جميع فروض الصورتين في خصوص الخبرين المتعارضين بناء على كون اعتبار الأخبار من باب السببية على معنى عليتها لوجوب التدين بمقتضاها، والاستناد في الحركة والسكون إليها، لكن الظاهر أن القائل باعتبارها على وجه السببية على تقدير وجوده لا يلتزم به، للإجماع على جواز الاحتياط وترك طريقي الاجتهاد والتقليد الكاشف عن بطلان ذلك، فتأمل.
وأما بناء على اعتبارها على وجه السببية على معنى كونها علة لإحداث حكم مماثل لمؤداها فيختص جريانه بما إذا كان (1) مؤدى أحد الخبرين المتعارضين

(1) والتخيير في تلك الصورة حقيقة راجع إلى التخيير في الاحتمالين، المدلول عليهما بالخبرين، لا إلى
التخيير بين نفس الخبرين، بمعنى جواز التمسك بأيهما شاء، وجعله دليلا في مؤداه.
وبعبارة أخرى: إنه راجع إلى التخيير في العمل من حيث العمل والترك، دون الاستدلال بالخبرين، فلا تغفل لمحرره عفا الله عنه.
260

هو الوجوب ومؤدى الآخر هي الحرمة، إذ اللازم على هذا التقدير حرمة المخالفة العملية للأخبار المختصة بما إذا كانت متضمنة لحكم إلزامي دون الالتزامية، لكن يمكن إثبات التخيير في غير تلك الصورة - حينئذ - بأخبار التخيير وإن لم يمكن إثباته بها لمطلق المتزاحمين المحتمل أهمية كل منهما، لورودها في خصوص الخبرين المتعارضين، لكن لا حاجة إليها في غيرهما من الواجبات المتزاحمة، لجريان الوجه الأول فيها، وإنما الإشكال في جريانه في خصوص الخبرين.
وتوضيح إثبات التخيير بين الخبرين في غير تلك الصورة بأخبار التخيير - بناء على اعتبار الأخبار على وجه السببية على المعنى الثاني - أن المأخوذ في موضوع تلك الأخبار إنما هو التحير في المراد من الخبرين المتعارضين، على تقدير صدورهما، بحيث لا يعلم المراد من واحد منهما إلا ببيان آخر، وهذا حاصل في كل خبرين متعارضين، ولو كان مؤدى أحدهما أو كليهما حكما غير إلزامي، وغاية ما ثبت إنما هي تقييدها بغير صورة وجود مزية لأحدهما راجعة إلى قوة جهة طريقية ذيها مع العلم بموردها، وفي الحقيقة خروج صورة وجود المزية المذكورة لأحدهما على الوجه المذكور انما هو من باب الاختصاص، لا التخصيص، لعدم صدق موضوع تلك الأخبار عليها بعد اعتبار الشارع لتلك المزية في تعيين المنع من المتعارضين، إذ معه لا يبقى تحير في مراده في مرحلة الظاهر، فإن الراجح منهما حينئذ محكوم بكون مؤداه هو المراد له، وإنما كان التحير حاصلا في تلك الصورة مع قطع النظر عن اعتبار الشارع لتلك المزية، لعدم صلاحية دليل اعتبارهما لتعيين أحدهما، لغرض دخول كليهما فيه على حد سواء وإلا لم يكونا متعارضين، ومن المعلوم - أيضا - أن اعتبارهما من باب السببية لا يرفع هذا التحير، فيدخل
261

جميع صور احتمال الأهمية لكل من الخبرين المتعارضين في أخبار التخيير على حد سواء، وهذا التخيير ليس كالتخيير الآتي من قبل العقل على تقديره، بل إنما هو تخيير في الأخذ بأي من الخبرين وجعله دليلا في مؤداه.
لكن يشكل تمامية الاستدلال بأخبار التخيير في جميع صور احتمال الأهمية لكل من الخبرين المتعارضين، بأن الكلام في حكم الخبرين المتعارضين على ذلك التقدير إنما هو على فرض إلغاء المزايا الراجعة إلى جهة الطريقية، وإنما هو بالنظر إلى احتمال الأهمية، ولو كان أحدهما مشتملا على شيء من تلك المزايا، وأخبار التخيير لا يفيد التخيير في صورة اشتمال أحدهما على شيء من تلك المزايا، فيكون الدليل أخس من المدعى.
لكنه مدفوع بأن الكلام وإن كان عاما لصورة اشتمال أحدهما على شيء من تلك المزايا، لكنه إنما هو مع الغض عن الأخبار الآمرة بالأخذ بتلك المزايا، ومن المعلوم حصول التحير في تلك الصورة - أيضا - مع قطع النظر عنها الموجب لدخولها في أخبار التخيير، فافهم.
فقد ظهر أنه لا إشكال في حكم الخبرين المتعارضين بناء على اعتبار الأخبار الآحاد من باب السببية على الشق الثاني من شقي الفرد الثالث من الفروض الثلاثة المتقدمة بكلتا صورتيه، ولا كلام فيه ظاهرا - أيضا - هذا.
لكن الإنصاف عدم استقامة الاحتجاج بأخبار التخيير على ثبوته لغير المتضمنين للحكم الإلزامي من الخبرين المتعارضين في هذا المقام، وإن كان الاحتجاج بها عليه تاما في نفسه، فإن الكلام في المقام في حكم نوع الواجبين المتزاحمين، ودخول الخبرين المتعارضين فيه إنما هو بالتبع، ومن باب كونهما أحد أفراد ذلك النوع، وقد عرفت أنهما لا يدخلان فيه بناء على كون معنى اعتبار الأخبار على وجه السببية كونها علة لإحداث حكم مماثل لمؤداها، إلا فيما إذا كانا متضمنين لحكم إلزامي.
262

والحاصل أنه كما في الكلام في المقام مع الغض عن أخبار الترجيح، كذلك هو مع الغض عن أخبار التخيير - أيضا - وإنما هو في نوع الواجبين المتزاحمين المختص صدقهما على الخبرين المتعارضين بالصورة المذكورة.
ومن هنا يظهر عدم دخولهما في الكلام في المقام الآتي - أيضا - وهو صورة قيام احتمال الأهمية بخصوص أحد الواجبين المتزاحمين، فأن الكلام هناك - أيضا - في حكم الواجبين المتزاحمين، إلا أنه يفارق هذا المقام من حيث فرض اختصاص احتمال الأهمية بأحد الواجبين المتزاحمين بالخصوص.
وكيف كان، فلا إشكال في أن الحكم هو التخيير فيما إذا احتمل أهمية كل من الواجبين المتزاحمين، ولا كلام فيه ظاهرا - أيضا - وإنما الكلام في ثبوت التخيير فيما إذا اختص احتمالها بأحدهما، لكن لا ينبغي الإشكال في ثبوته لهما على ذلك التقدير - أيضا - في الجملة، لضعف ما يتوهم مانعا منه كلية.
نعم يقع الإشكال في ثبوته لهما فيما إذا كانا مندرجين في عنوانين في بعض الصور.
وتوضيح ذلك: أن الواجبين المتزاحمين المحتمل أهمية خصوص أحدهما إما أن يكونا مندرجين في عنوان واحد بمعنى كون القدر المشترك بينهما هو الموضوع للتلف في الأدلة الشرعية، كإنقاذ الغريقين، وإطفاء الحريقين، وإما أن يكونا مندرجين في عنوانين، بمعنى عدم كون الموضوع لهما في الأدلة هو القدر المشترك بينهما، كإنقاذ غريق مع إطفاء حريق.
ومنشأ أهمية أحدهما من الآخر على تقديرها في القسم الأول منهما منحصر في اتحاده مع عنوان آخر واجب، فيتأكد به وجوبه بالإضافة إلى الآخر، ويقدم عليه عند الدوران بينهما، كما إذا دار الأمر بين إعطاء الزكاة بهذا الفقير أو بذاك، مع كون أحدهما في مخمصة يخاف عليه الموت من المجاعة، فإن وجوب إعطاء الزكاة في
حقه قد تأكد باتحاده مع عنوان آخر واجب وهو حفظ نفس
263

المسلم. ووجه انحصار سبب الأهمية في هذا القسم في ذلك أن المفروض كون الواجبين مندرجين في عنوان واحد، وكون وجوب كل منهما من جهة دخوله في ذلك العنوان، حيث أن الدليل قد دل على وجوب ذلك العنوان أولا وبالذات، وهما في الدخول فيه على حد سواء.
وبعبارة أخرى وجوب كل منهما من جهة تحقق ذلك العنوان في ضمنه، وهو متحقق في ضمن كل منهما على نحو تحققه في ضمن الآخر، فيكون المقتضي للوجوب في كل منهما مساويا له في الآخر، ولا يعقل كونه في أحدهما أقوى وآكد منه في الآخر من الحيثية المذكورة، بل يتوقف ذلك على اتحاده في أحدهما مع عنوان آخر واجب.
لا يقال: قد يكون الطبيعة مشككة بواسطة شدة تحققها في ضمن بعض أفرادها، فيكون وجوب ذلك الفرد آكد من غيره.
لأنا نقول: إذا كانت مشككة، فإما أن يكون الطلب الوجوبي في الخطاب الشرعي متعلقا بنفسها من حيث هي، مع قطع النظر عن شدة تحققها في الخارج، وإما أن يكون متعلقا لشدة تحققها فيه، فيكون موضوعه مرتبة من وجود تلك الطبيعة، وهي وجودها في الخارج على نحو الشدة، دون نفسها من حيث هي.
وعلى الأول لا محيص عما ذكرنا من توقف تأكده في بعض الأفراد على اتحاده مع عنوان آخر واجب، إذ المفروض كون المناط هو نفس الطبيعة لا شدة وجودها، ونفس الطبيعة موجودة في كل من الأفراد، فيكون كل منها من حيث وجود المقتضي للطلب فيه مساويا لغيره من الأفراد، لو لا اتحاده مع عنوان واجب آخر.
وعلى الثاني يخرج عن محل الفرض، إذ الكلام في الواجبين المتزاحمين،
264

فلا بد أن يكون كل منهما في نفسه واجبا، بحيث لا مانع من التكليف به فعلا والمؤاخذة عليه إلا مزاحمة الآخر له، لعجز المكلف من الجمع بينهما، ومن المعلوم أن الفرد الذي يضعف فيه تحقق الطبيعة لا وجوب له في نفسه أصلا، وإنما يختص الفرد الآخر بالوجوب، فأين التزاحم بين الواجبين.
وأما منشأها في القسم الثاني فلا ينحصر في ذلك، بل قد يكون هو عظم أحد الواجبين في نظر الشارع بالإضافة إلى الآخر، من غير اتحاده مع عنوان آخر - أيضا - بل قد يكون أهم من الآخر في صورة اتحاد الآخر مع عنوان واجب آخر - أيضا - كما في حفظ بيضة الإسلام بالإضافة إلى غيره من الواجبات، وبعده حفظ النفس المحترمة بالإضافة إلى غير الأول، وكما في حقوق الناس الصرفة بالإضافة إلى حقوق الله تعالى كذلك.
وتظهر الثمرة بين الأهمية الناشئة من الجهة الأولى وبين الناشئة من الثانية عند إيجابها لتنجيز التكليف بالأهم في تعدد العقاب واتحاده، فإنه إذا تعين الأخذ بالأهم، فخالف المكلف وعصى، فإن كان منشأ أهميته هي الجهة الأولى يتعدد عقابه، فإنه حينئذ حقيقة قد عصى في واجبين، وإن كان منشأه هي الجهة الثانية يتحد عقابه، نعم هو على تقديره أعظم من العقاب على عصيان غير الأهم إذا لم يزاحمه الأهم.
لا يقال: إن اتحاد الأهم في الفرض الأول مع عنوان واجب آخر يمنع من تعدد الطلب به، فإن الشيء الواحد لا يعقل أن يجتمع فيه طلبان، ولو كانا مثلين، فإنهما كالنقيضين في امتناع اجتماعهما في محل واحد، بل الطلب معه واحد، ومعه لا معنى لتعدد العقاب، إذ هو يدور مدار تعدد العصيان المتوقف على تعدد الأمر. لأنا نقول: سلمنا أن الطلب من الكيفيات التي تتداخل فيها أسبابها عند توارد اثنان أو أزيد منها في محل واحد دفعة، لكن نقول إنه ليس معنى
265

تداخل أسبابه أنها عند الاجتماع تؤثر أثر واحد منهما، بل معناه أنه لا أثر لكل واحد حينئذ يمتاز عن أثر الآخر في الخارج من حيث الذات، لكن كل منها حينئذ يؤثر أثره الذي يؤثر فيه حال الانفراد، وإنما منع وحدة المورد من امتيازه عن أثر الآخر في الخارج، فهناك طلبات متعددة من حيث الذات، فيلزم كلا منها ما هو لازم له حال الامتياز من العقاب على العصيان، لتعدد العصيان حينئذ في الحقيقة، نعم لا يتعدد الامتثال، إذ بعد فرض اتحاد متعلقها جميعا يثبت الغرض من الكل بامتثال واحد، لصدق المطلوب من كل منها عليه (1).
وكيف كان، فإذا احتمل أهمية أحد الواجبين المتزاحمين من إحدى تينك الجهتين، ففي الحكم بالتخيير حينئذ مطلقا - كصورة القطع بانتفاء الأهمية لأحدهما - أو تعين الأخذ بمحتملها مطلقا، أو التفصيل بين ما إذا كان منشأها هي الجهة الأولى، وبين ما إذا كان منشأها هي الجهة الثانية باختيار الأول في الأول، والثاني في الثاني، وجوه:
للثاني: أنه قد علم المكلف باشتغال ذمته بتكليف مردد بين تعلقه بخصوص محتمل الأهمية وبين تعلقه بكل منهما تخييرا، لعدم جواز مخالفته لكليهما بالضرورة، وهو يقتضي القطع بامتثاله المتوقف على الإتيان بمحتملها.
وللثالث: أن قاعدة الاشتغال المذكورة محكمة سليمة عما يحكم عليها فيما إذا كان منشأ الأهمية هي الجهة الثانية، لعدم جريان أصالة البراءة عن التعيين

(1) لا يقال: بالفرق بين مقام الامتثال وبين مقام العصيان، فكما أن الإيجاد الواحد يقع امتثالا عن الجميع، فلا بد أن يكون ترك أحد تلك العناوين المتصادقة عصيانا عن الجميع - أيضا - فيتحد عصيانها - أيضا -.
لأنا نقول: الفرق أن تلك العناوين إنما يتحد في ظرف الوجود فقط، وتصادقها إنما هو في عالم الوجود دون عالم العدم، فلا يصدق على ترك أحدها ترك الآخر، بل على تقدير الترك هناك تروك متعددة، فيكون كل منها عصيانا للمتروك، فلا تغفل. لمحرره عفا الله عنه.
266

حينئذ، فإن مجراها إنما هو التكليف المشكوك بدوا.
ومن المعلوم أن التكليف بمحتمل الأهمية في الجملة ثابت قطعا، فلا يمكن نفيه بها رأسا، وإنما الشك في تعيينه، وهو من الجهة الثانية ليس تكليفا آخر، حتى يمكن نفيه بها لغرض الشك فيه، بل هو على تقديره من كيفيات ذلك التكليف المعلوم تعلقه به الناشئة من قوة جهة ذلك التكليف بالنسبة إلى جهة التكليف بالآخر، فجهة الأهمية على ذلك التقدير إنما هي عين جهة أصل وجوب الأهم على تقديره، بمعنى أن جهة وجوبه لما كانت أقوى من جهة الوجوب في غيره فأقوائيتها توجب أقوائية طلب موردها من طلب مورد الجهة الأخرى، فهي على تقديرها لا يوجب طلبا وتكليفا آخر، حتى يرجع في نفيه إلى أصالة البراءة، فقاعدة الاشتغال في القسم المذكور محكمة لسلامتها عما يحكم عليها، هذا بخلاف ما إذا كان منشأها هي الجهة الأولى، فإن التكليف بمحتملها حينئذ - أيضا - وإن كان معلوما في الجملة إلا أن تعيينه على تقديره ناشئ عن تكليف مستقل آخر متعلق بالعنوان الذي اتحد معه محتملها، فيكون الشك حقيقة راجعا إلى الشك في التكليف بذلك العنوان بدوا، فيكون موردا لأصالة البراءة، وهي أينما تجري تحكم على قاعدة الاشتغال على تقدير جريانها في المورد لولاها.
فان قلت: إن حكومة أصالة البراءة على قاعدة الاشتغال مسلمة فيما إذا كان أمران، ثبت وجوب كل منهما في الجملة، وشك في أن وجوب كل منهما إنما هو على سبيل التعيين، حتى يلزم الإتيان بكليهما معا، أو التخيير حتى يجوز الاكتفاء بواحد منهما.
وبعبارة أخرى: إنها مسلمة فيما إذا لم يكن منشأ تعيين الوجوب هي الأهمية، وأما إذا كان منشأه هي فلا، إذ المفروض في الثاني - المتنازع فيه في المقام - العلم بثبوت طلب لمحتمل التعيين في الجملة فعلا، والشك في وجوب الآخر رأسا، فإنه على تقدير تعيين وجوب الأول لا وجوب للآخر أصلا، فإنه
267

على تقديره تخييري، واحتمال تعيين وجوب الأول مستلزم للشك في وجوبه التخييري، ووجوبه التعييني معلوم العدم، وأصالة البراءة ليس من شأنها إثبات التكليف، ولا تعيين متعلقه وإثبات مصداقية شيء للواجب، فإنها -
سواء أخذت من باب التعبد أو من باب حكم العقل - حكم ظاهري، وهو رفع المنع من ارتكاب محتمل التحريم أو ترك محتمل الوجوب بدوا في مرحلة الظاهر، لا طريق، حتى يلزم من طريقيته إلى الملزوم - وهو عدم تعيين وجوب الأول - طريقيته إلى اللازم، وهو وجوب الآخر تخييرا، حتى يكون الإتيان به مسقطا عن التكليف المعلوم تعلقه بمحتمل التعيين، فغاية ما يترتب عليها رفع المنع من ترك ذلك العنوان المتحد مع محتمل التعيين في حد نفسه وعدم العقاب عليه كذلك، وأما رفعه من ترك نفس ذلك المحتمل التعيين وعدم المؤاخذة عليه فلا، للعلم بتعلق الطلب به، فلا بد من العلم بامتثاله المتوقف على الإتيان بنفسه.
قلنا: نحن لا نحكم أصالة البراءة على قاعدة الاشتغال في المقام بنفسها، وإلا لزم ما ذكر، وإنما نحكمها عليها بضميمة شيء آخر وهو أن المفروض في المقام وجود المقتضي للطلب لغير محتمل التعيين في حد نفسه عينا، وأنه لا مانع من وجوبه فعلا عينا إلا وجود المقتضي له في الآخر كذلك، ولا من أصل وجوبه في الجملة فعلا المتحقق في ضمن التخييري إلا اختصاص المقتضي في الآخر فعلا بتمام مقتضاه، وهو الوجوب التعييني من جهة احتمال تأكده باتحاده مع عنوان آخر.
وكيف كان فالمقتضي للوجوب في الجملة المتحقق في ضمن التخييري فيه فعلا محرز قطعا، والشك في ترتيب مقتضاه عليه كذلك ناشئ من الشك في التكليف بذلك العنوان الذي اتحد معه صاحبه، حيث أنه على تقديره يرجح صاحبه عليه، ويختص ما فيه من المقتضي للوجوب التعييني بمقتضاه فعلا.
ومن المعلوم أنه لا مانع من جريان أصالة البراءة بالنسبة إلى التكليف
268

المشكوك المتعلق بذلك العنوان على تقديره واقعا، فإذا جرت في نفيه، فينتفي المانع من وجوب غير محتمل التعيين تخييرا، فيترتب عليه، لأن وجود المقتضي مع عدم المانع علة تامة لترتيب المقتضي فعلا، فإذا ثبت وجوبه كذلك فيكون الإتيان به مسقطا عن ذلك الطلب المعلوم تعلقه بمحتمل التعيين.
وليس المراد نفي الطلب عن ذلك العنوان بأصالة البراءة حتى يرد أنه ليس من شأنها ذلك، بل المراد نفي فعليته على تقديره، وإثبات المعذورية في مخالفته، وقد حققناه في مقام رفع التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي في أول مسألة التعادل والترجيح، وكذلك في مطاوي كلماتنا في مسألة اجتماع الأمر والنهي - أيضا - جواز التكليف بأحد طرفي النقيض فعلا، مع كون المكلف معذورا في الطلب المتعلق بالطرف الآخر، وكذلك جوازه بأحد الضدين المتزاحمين مع كونه معذورا في الآخر، بمعنى أن المانع ليس هو الطلب بالنقيض أو الضد، وإنما هو فعليته، وما نحن فيه من قبيل الثاني، فإذا ثبت معذورية المكلف في ذلك العنوان المتحد معه محتمل التعيين من الواجبين المتزاحمين يجوز التكليف بما يزاحمه، وهو غير محتمله منهما تعيينا، فكيف به تخييرا، ولما كان المفروض العلم بتعلق طلب فعلا بمحتمله إجمالا، فهو مانع من المصير إلى وجوب غير محتمله عينا فحسب، فإذا جاز ذلك عقلا مع فرض قيام المقتضي له وعدم المانع بواسطة أصالة البراءة من ترتيب الوجوب التخييري عليه فعلا، فيترتب عليه ذلك كذلك.
والحاصل أن السؤال المذكور إنما يرد فيما إذا علم وجوب شيء وتردد بين كونه عينيا أو تخييريا بينه وبين شيء آخر لم يحرز فيه الوجوب في نفسه أصلا، والمقام المتنازع فيه ليس منه.
وبعبارة أخرى أقصر: إن المقتضي للوجوب التخييري لا محالة في غير محتمل التعيين في المقام معلوم، وأنه لا مانع من ترتيبه عليه إلا تنجز الطلب
269

المعلوم تعلقه بمحتمله على وجه لا يجوز مخالفته إلى بدل، وأصل ذلك الطلب وإن كان معلوما إلا أن كونه على وجه التعيين المستلزم لعدم جواز المصير إلى بدل غير معلوم، ولم يقم عليه حجة، ومقتضي أصالة البراءة كون المكلف معذورا في مخالفته إلى بدل، فإذا ثبت بها عدم ذلك المانع يترتب على ذلك المقتضي مقتضاه، وهو الوجوب التخييري، المستلزم لكون مورده مسقطا عن ذلك الطلب المعلوم، هذا.
وقد قوى (دام ظله) هذا الوجه من بين الوجوه الثلاثة.
ولكن الأقوى عندي هو الحكم بالتخيير مطلقا، لجريان أصالة البراءة في كل من الشقين على حد سواء، كان مدركها العقل أو الأخبار.
إذ على الأول المناط عند العقل في استقلاله بعدم المنع والإباحة ظاهرا إنما هو قبح العقاب من غير حجة، وهذا موجود في كل منهما على حد سواء، إذ على تقدير كون احتمال التعيين لأجل أهمية محتملة في نفسه وإن كان الشك راجعا إلى كيفية من كيفيات الطلب المعلوم تعلقه به في الجملة لا إلى طلب آخر مستقل، لكن الكيفيات أيضا مما لا طريق إليها للمكلف إلا ببيان الشارع لها، كنفس التكاليف المستقلة، ومن المعلوم للمتأمل أن قبح العقاب عند العقل في التكاليف المستقلة المجهولة ليس لخصوصية استقلال المجهول، بل إنما هو من باب أنه مما لا طريق للمكلف إليه إلا ببيان الشارع، وأن كل ما كان كذلك يقبح المؤاخذة على مخالفته مع الجهل به.
وعلى الثاني المناط هو الجهل الموجود في كل منهما، فإن المستفاد من الأخبار إنما هو معذورية الجاهل في مخالفته الواقع المشتبه عن جهله به، من غير فرق بين أن يكون متعلقه من الأمور المستقلة، أو من الكيفيات والتوابع، والاشتغال بمحتمل التعيين في كل من الشقين لم يثبت على الإطلاق، وإنما المعلوم منه ثبوته على وجه لا يجوز مخالفته لا إلى بدل أصلا، فلا يقتضي تعيين خصوص محتمل التعيين.
270

ومن هنا ظهر أنه لا حاجة في جواز الاكتفاء بغير محتمله إلى التوجيه بحكومة أصالة البراءة، إذ على هذا التقدير لا ينافيها قاعدة الاشتغال أصلا حتى يحتاج تقديمهما عليها إلى إثبات حكومتها عليها، فافهم.
ثم إنه بقي أمران ينبغي التنبيه عليها:
الأول: أنه إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين أهم من الآخر في نظر الشارع واقعا حال التزاحم من جهة اتحاده مع عنوان آخر واجب، فذلك إنما هو فيما إذا انحصر مصداق ذلك العنوان فيه، بحيث لا يمكن امتثاله في مورد آخر، وأما معه فلا، إذ مجرد اتحاده معه لا يقضي بتعيينه، وإنما هو لأجل أنه لو ترك ذلك يلزم فوت الواجبين، بخلاف ترك الآخر الغير المتحد معه، ومن المعلوم أن ترك واجبين لا يلزم إلا في تقدير انحصار مصداق ذلك العنوان فيه، فإذا كانت أهمية أحدهما محتملة من تلك الجهة، فلا بد أن يكون المورد مما انحصر مصداق ذلك العنوان المتحد معه المحتمل وجوبه، وإلا فلا يعقل احتمال أهميته بمجرد اتحاده معه مع فرض المندوحة.
الثاني: أنه إذا اتحد أحد الواجبين المتزاحمين مع عنوان مندوب في نفسه، بل ومع ألف عنوان كذلك، لا يوجب ذلك تعينه، بل الحكم حينئذ أيضا التخيير، كصورة عدم اتحاده مع شيء منها أصلا.
والدليل عليه - بعد الإجماع على عدم تعيين أحد فردي الواجب التخييري باتحاده مع عنوان آخر مندوب، الذي يعبر عنه بأفضل فردي الواجب التخييري، بل ومع اتحاده مع عناوين كذلك - العقل.
وتوضيحه: أن تعيين أحد الواجبين المتزاحمين المتخير فيهما لو لا أهمية أحدهما إنما هو على تقديره من جهة تأكد وجوبه بالإضافة إلى وجوب الآخر، ومن المعلوم أن كان كيفية من الكيفيات لا بد أن يكون مؤكدها كيفية
هي من سنخها ونوعها، كما ترى ذلك في مثل الألوان، والطعوم.
271

ومن المعلوم أن الجهات المقتضية للاستحباب وإن اجتمعت آلاف منها في مورد، لا يعقل تأثيرها في إيجاب المورد، وإنما يؤثر حينئذ - أيضا - طلبه ندبا، غاية الأمر أنه تؤثر - حينئذ - مرتبة من الطلب الندبي المؤكد.
ومن المعلوم - أيضا - أن الطلب الندبي، وإن بلغ ما بلغ من التأكد، لا يبلغ مرتبة الوجوب، فلا تسانخه، فلا يعقل أن يكون مؤكدا له، فلا يوجب اتحادها مع أحد الواجبين التخييريين - بالأصل، أو لعارض لأجل التزاحم - تعيين ما اتحدت معه، نعم يوجب أفضليته من الآخر.
قوله -: (قدس سره) -: (ومرجع التوقف أيضا إلى التخيير إذا لم يجعل الأصل من المرجحات) (1)
مراده من رجوع التوقف إلى التخيير إنما هو رجوعه إليه بحسب المورد، بمعنى أنه إذا كان المورد مما كان الأصل الأولي فيه التوقف مع عدم كون الأصل من المرجحات يكون من صور التكافؤ التي هي مورد للتخيير الثابت بأخبار التخيير، والتقييد بعدم كون الأصل من المرجحات لأجل أنه مع كونه منها يكون قاطعا للأصل الأولي الذي هو التوقف، ومعينا للأخذ بموافقه من الخبرين المتعارضين، فيكون مخرجا للمورد عن أخبار التخيير، لاختصاصها بما لم يكن لأحدهما مرجح ومعين، الذي يعبر عنه بصورة التكافؤ.
وظاهر العبارة يعطي ما لا يخلو من المناقشة والإيراد مع أنه ليس بالمراد، فإن ظاهرها رجوع نفس التوقف إلى نفس التخيير على التقدير المذكور وهو لا يستقيم، فإن التوقف والتخيير معنيان متباينان، لا يعقل صدق أحدهما على الآخر، إذ الأول عبارة عن عدم التمسك بواحد من الخبرين المتعارضين في خصوص مؤداه، والثاني عبارة عن جواز التمسك بواحد منهما على البدل في
272

خصوص مؤداه، وجعله طريقا إليه، فالنسبة بينهما هو التباين الكلي، لتناقضهما.
قوله - قدس سره -: (ومرجع الأخير إلى أنه لو لا الإجماع حكمنا بالترجيح في البينات - أيضا -) (1)
أقول: هذا بظاهره لا يستقيم، فإن الأخير الذي استظهر منه ذلك هي العبارة المحكية عن النهاية (2) والمنية (3) وهي قوله سلمنا، لكن عدم الترجيح في الشهادة ربما كان مذهب أكثر الصحابة، والترجيح هنا مذهب الجميع.
ولا يخفى أنها ظاهرة، بل صريحة في إبداء الفرق بين المقام وبين البينات، بقيام الإجماع على وجوب الترجيح هنا، ووقوع الخلاف فيه في البينات، حيث أن أكثر الصحابة على عدم الترجيح فيها، لا قيام الإجماع على عدم الترجيح فيها - كما استظهره (قدس سره) - وحاصلها أن الترجيح في المقام للإجماع، فهو الفارق بينه وبين البينات، لا أن عدم الترجيح في البينات للإجماع فيها على عدمه، كما استظهره (قدس سره).
كلام السيد الصدر من مفاد الأخبار والتحقيق فيها
قوله - قدس سره -: (ثم إنه يظهر من السيد الصدر الشارح للوافية (4) الرجوع في المتعارضين من الأخبار إلى التخيير أو التوقف والاحتياط وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب) (5)
أقول: لا يخفى أن ما استظهره من السيد المذكور من التخيير أولا، ثم التوقف والاحتياط، ظاهره هو التخيير في الفتوى، ثم التوقف فيه، والاحتياط
273

في العمل خلاف صريح العبارة التي حكاها عن السيد المذكور، وهي أن الأصل التوقف في الفتوى والتخيير في العمل، فلا تغفل (1).
بيان ما لعله يحتاج إلى البيان في مقبولة عمر بن حنظلة، وهو أن قوله عليه السلام فيها (من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذه سحتا، وإن كان حقه ثابتا... إلى آخره) (2). يشمل المنازعة في الدين والعين الخارجية أيضا، ويعم ما إذا كان منشؤها في الموضعين اختلاف المتنازعين في الحكم الشرعي، أو كان اختلافهما صغرويا بعد اتفاقهما على الحكم الشرعي الكلي، كأن يدعي أحدهما تملكه لدار في يد الآخر مستندا إلى دعوى أنه قد باعها تلك الدار، وينكره الآخر لإنكار عدم وقوع البيع الذي يدعيه، مع اتفاقهما على أن البيع الذي يدعي مدعيها وقوعه عليها على تقديره سبب ملك شرعا.
لكن يشكل الحكم بحرمة أخذ العين الخارجية المتنازع فيها إذا كان اختلافهما صغرويا مع علم الآخذ بأنها ماله واقعا، بل الظاهر قيام الإجماع على جواز أخذها حينئذ، بل ويشكل حرمة أخذ العين المتنازع فيها مع كون النزاع فيها كبرويا - أيضا - إذا كان الآخذ قاطعا بأنها له شرعا، كأن ادعى أحدهما تملك ثوب في يد الآخر مستندا إلى اشترائه بالبيع بالصيغة الفارسية مثلا، وينكره الآخر، لإنكاره سببية العقد بالفارسي للتملك شرعا مع اعترافه بوقوعه، لكن المدعي قاطع بسببيته له شرعا، بل لا أظن بأحد القول بالحرمة في ذلك الفرض، بل الظاهر جواز أخذها - حينئذ - لجريان مناط الجواز في معقد الإجماع المذكور فيه - أيضا - فإن جواز الأخذ هناك ليس حكما تعبديا جديدا، بل المعلوم أنه من
274

باب سلطنة كل أحد على ماله، وأن المفروض قطع المدعي بكون العين ماله، وهذا بعينه موجود في الفرض المذكور.
بل ويشكل ذلك فيما إذا كان مورد النزاع دينا، مع كون النزاع صغرويا أو كبرويا، مع كون المدعي قاطعا بمستند دعواه من الحكم إذ انحصر طريق استيفاء الدين في كلتا الصورتين في التحاكم إلى حكام الجور.
وقد يوجه حرمة أخذ الدين في تينك الصورتين بأن الدين كلي لا يتعين في مال إلا بإعطاء المديون إياه بعنوان الإيفاء والأداء، والمأخوذ بحكم حكام الجور لم يؤخذ بذلك العنوان، فلا يتعين الدين فيه حتى يكون ملكا للآخذ.
لكن يمكن منعه بمنع توقف تعيينه في مال مخصوص على ما ذكر فيما إذا كان المديون ممتنعا من الأداء - كما هو المفروض - وإلا فلا نزاع، بل يتعين فيه حينئذ من باب التقاص، فالأولى قصر الرواية الشريفة على ما قام الإجماع على حرمة الأخذ فيه - أيضا - وهو ما إذا كان الآخذ شاكا في تملكه لما يأخذه، ويكون اعتماده فيه على حكم حاكم الجور، سواء كان شكه من جهة شكه في الحكم الشرعي الكلي، أو من جهة شكه في ثبوت الصغرى، لكن قول السائل فيها (وكلاهما اختلفا في حديثكم) يأبى عن عمومها لما كان منشأ النزاع، النزاع في الصغرى فإن القاطع للنزاع من حيث الصغرى إنما هي البينة والحلف، لا الحديث المتكفل لبيان الأحكام الكلية.
فمنه يظهر خروج النزاع من حيث الصغرى، سواء كان مورده هو العين أو الدين منها.
قوله - قدس سره -: (وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الإشكال بل الإشكالات من حيث ظهور صدرها في التحكيم لأجل فصل الخصومة إلى قوله ولا جواز الحكم من أحدهما بعد حكم
275

الآخر) (1)
أقول: وفيها إشكال آخر، لم يذكره المصنف (قدس سره) وهو أن ظاهر صدرها الرجوع إلى الحاكم عند المعارضة والمنازعة، ولا ريب أن الأمر بيد المدعي في اختيار الحاكم في المنازعات وله اختيار من شاء،
وإن كان مفصولا بالنسبة إلى من اختاره المنكر، فإن الفقيه وإن كان مفصولا، ينفذ حكمه في الواقعة الشخصية، لا تفويض الأمر بيد المتنازعين وتحريهما في إعمال المرجحات فكان المناسب أن يجيب عليه السلام بأن الأمر بيد المدعي، والقول قول من اختاره حكما، هذا.
ولكن الذي يقتضيه التأمل اندفاع تلك الإشكالات بأسرها على تقدير تماميتها في أنفسها، بأن غاية ما ثبت إنما هي المنع منها في القاضي المنصوب خصوصا أو عموما، وأما قاضي التحكيم الذي هو المفروض في صدر الرواية كما يقتضيه قول السائل (فإن كان كل رجل يختار رجلا) فلم يقم دليل على عدم جواز نقض حكمه، ولا على عدم جواز تعدده، ولا على عدم جواز اجتهاد المترافعين بعد تعارض حكمهما، ولا على عدم جواز اختيار المنكر من شاء أيضا، فالأمور المذكورة على تقدير لزومها لا محذور فيها، بل يمكن التمسك على جوازها بصدر الرواية.
هذا مضافا إلى عدم لزوم بعضها - أيضا - كتعدد الحكمين، فلأن الظاهر من الرواية فرض السؤال عن تراضي المتخاصمين بكون كلا الشخصين معا حكما فيما شجر بينهما بأن يحكم كل منهما باستصواب الآخر، لا كونه حكما مستقلا مستندا برأيه، نظرا إلى قول الراوي (فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما).
276

وقوله (فإن كان كل رجل يختار رجلا) وإن كان في نفسه ظاهرا فيما استظهره المصنف (قدس سره) من تعدد الحكمين، لكنه بقرينة ما ذكر محمول على اختيار كل منهما رجلا برأسه في أول الأمر، ثم بنيا على كونهما معا حكما بينهما بالاستصواب.
وبهذا يندفع لزوم حكم أحدهما بعد حكم الآخر - أيضا - إذ بعد كون كليهما معا حكما لا يجوز أن يحكم واحد منهما مخالفا لما حكم به الآخر، وكذا لزوم تفويض الأمر في اختيار الحاكم إلى المنكر - أيضا -.
ويمكن منع لزوم ذلك على تقدير تعدد الحكمين - أيضا - بحمل الرواية على صورة التداعي، فإن كلا من المتخاصمين في تلك الصورة مدع ومنكر باعتبارين.
وأما ما ذكره (قدس سره) من لزوم غفلة الحكمين عن المعارض لمدارك حكمه ففيه أن مثل ذلك غير عزيز.
وأيضا يمكن منع اللزوم بأن فتوى كل منهما على خلاف الآخر لعله لاطلاعه على قدح في مستند حكم الآخر، لم يطلع الآخر عليه من صدوره تقية أو غيره من القوادح، لا لغفلته عنه رأسا.
فبقي مما ذكره لزوم اجتهاد المترافعين، ووجه كونه محذورا أن القول قول الحاكم في مقام الدعوى.
لكن لا ضير فيه بعد فرض تعارض الحكمين - كما عرفت - لعدم قيام دليل على المنع منه.
ثم إن هذا كله على تقدير تسليم ظهور صدر الرواية في رجوع المتخاصمين إلى الحكمين، لأجل الحكم بينهما، بأن يكون الفاصل بينهما هو حكومة الحاكم، لا روايته.
لكن يمكن دعوى ظهوره في رجوعهما إليهما من حيث الرواية، وذلك
277

لمقدمتين.
إحداهما: ما عرفت سابقا من ظهور الرواية من فرض كون منشأ النزاع بينهما هو الاختلاف في الحكم.
وثانيتهما: أن المتعارف في ذلك الزمان أن كل من يفتي بشيء كان إفتاؤه بنقل الحديث الوارد في الواقعة المسؤول عنها، وكان المستفتى عن شيء إنما يرجع إلى المفتي، لأجل استعلام ما عنده من الحديث في الواقعة المجهولة الحكم.
والمستنتج من هاتين المقدمتين ان فرض السؤال إنما هو في رجوع المتخاصمين إلى الحكمين من حيث كونهما راويين، وكون كل منهما مجتهدا.
ويدل عليه - أيضا - قول السائل (وكلاهما اختلفا في حديثكم) فإنه ظاهر في رجوعهما إليهما من حيث الحديث والرواية، وجعل الفاصل بينهما هي لا رأى الحاكم، فلا يرد حينئذ شيء من الإشكالات المتقدمة، إذ الرواية مما يناسبها التعدد، ويجوز نقل رواية متعارضة لما يرويه الغير أيضا، والراوي أيضا لا يجوز له إلزام الغير الذي له ملكة الاستنباط على ما يراه مما رواه، بل العبرة بنظر الغير في أحكام نفسه.
نعم يقع التعارض على هذا بين هذه الرواية وبين المرفوعة الآتية كما سيأتي التنبيه عليه.
هذا كله مضافا إلى أن إجمال صدر الرواية الشريفة لا يقدح في الاحتجاج بذيلها، الصريح بوجوب الأخذ بالمرجحات المذكورة فيه كما اعترف به (قدس سره) أيضا.
قوله - قدس سره -: (اللهم إلا أن يمنع ذلك، فإن الراوي إذا فرض كونه أفقه... إلى آخره) (1)
278

أقول: لا يخفى أن هذا التعليل إنما يقتضي عدم جواز العمل على العكس، لا عدم عمل العلماء كذلك، وظاهره أخذه علة للثاني.
ويمكن توجيهه: بأن غرضه أخذ العلة المذكورة كاشفة عن عدم عمل العلماء كذلك.
ويحتمل كونها علة للأول، بأن يكون غرضه منع حجية عمل العلماء على إثبات العكس، وأن الوجه هو الأخذ بصفات الراوي لمكان العلة المذكورة.
قوله - قدس سره -: (حتى بين من هو أفقه من هذا المنفرد برواية الشاذ) (1)
يعني الأفقه منه في زمانه وعصره، بأن يكون بعض رواة الرواية المشهورة المعاصرين له أفقه منه، فلا يجوز ترجيح تلك الرواية الشاذة لأجل أفقهية ذلك المنفرد لوجود تلك العلة فيما يعارضها، لأن اعتبار الأفقهية على تقديره لا يختص بشخص دون شخص، أو زمان دون زمان.
قوله - قدس سره -: (مع أن أفقهية الحاكم بإحدى الروايتين لا يستلزم أفقهية جميع رواتها) (2)
يعني أفقهية جميع رواتها المعاصرين في جميع الطبقات، فقد يكون بعض رواة الرواية الأخرى في بعض الطبقات المتقدمة على عصر ذلك المنفرد، أو المتأخرة عنه أفقه منه إن لم يكن بعض رواتها المعاصرين له أفقه منه، فلا يجوز ترجيح روايته على الرواية المشهورة في تلك الصورة - أيضا - لما مر، هذا.
أقول: لا يخفى أن الغرض إنما هو تقديم الأفقهية من حيث هي على الشهرة كذلك في مقام الترجيح، وعدم تقديمها عليها في الصورتين لا يقدح
279

بذلك، فإنه حقيقة ليس لأجل تقديم الشهرة عليها فيهما، بل إنما هو لأجل اشتراك الروايتين في اشتمالهما عليها ومساواتهما من جهتها، فليس لإحداهما مزية على الأخرى من جهتها، وترجيح الرواية المشهورة على الشاذة - حينئذ - لأجل اشتمالها على مزية أخرى غير تلك الجهة، ووجوب الأخذ بكل من المرجحات إنما هو فيما لم يوجد في كلا الخبرين معا، وهذا إنما هو من باب الاختصاص (1) لا التخصيص، لأن التخصيص إنما هو فيما كان من شأنه عموم الحكم بالنسبة إليه، ومن المعلوم أنه لا يعقل تعميم وجوب الترجيح بها بالنسبة إلى صورة وجودها في كلا الخبرين.
قوله - قدس سره -: (أو تعارض الصفات بعضها مع بعض) (2)
فيه: أن فهم السائل جواز الترجيح بكل من الصفات في نفسه لا يغنيه عن حكم تلك الصورة، إذ غايته جواز
الترجيح بكل منها إذا لم يكن لها معارض، وأما فيما كان لها معارض من الصفات الأخر فلا يقتضي ذلك جواز الترجيح بكل منها حينئذ.
أما تعيينا فواضح، لامتناعه.
وأما تخييرا، فلأنه ليس من مدلول قوله عليه السلام.
والحاصل: أن عدم سؤال السائل عن صورة تعارض الصفات بعضها مع بعض لا يصلح قرينة على إرادة وجوب الترجيح بكل منها مستقلا، لعدم الارتباط بينهما بوجه، كما عرفت، بل يمكن جعله قرينة على فهمه وجوب الترجيح بجميعها، إذ عليه لا حاجة إلى بيان حكم تعارض بعض الصفات مع بعض، لأنه لا يجب الترجيح حينئذ لفرض عدم اجتماعها في طرف.

(1) الظاهر ان المراد التخصص، أي أن هذا من باب الخروج موضوعا، لا حكما مع الدخول موضوعا.
280

نعم، عدم سؤاله عن صورة وجود بعض منها دون بعض ظاهر فيما ذكره، فيقع التعارض بين ظهوره وبين ظهور عدم سؤاله عن تعارض بعضها مع بعض في خلافه، فلا يصح الاستشهاد بشيء منهما.
نعم، قول السائل: - (لا يفضل أحدهما على صاحبه) - ظاهر في أن مراده عدم فضل أحدهما على الآخر بشيء من المزايا، فهو ظاهر في أنه فهم أن الترجيح بمطلق المزية، فالاستشهاد به لما ذكر جيد.
قوله - قدس سره -: (الثاني ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي) (1)
أقول: لا يخفى أن في ذلك الذي حكي عن ابن أبي جمهور إشكالا لا يكاد (2) أن يتفصى عنه، وهو أنه قد ذكر في ذيله - بعد ذكر وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين - أنهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له، إذ لا يمكن أن يكون النقيضان كلاهما موافقين للاحتياط (3).
قوله - قدس سره -: (التاسع ما عن الكافي... إلى آخره) (4)
أقول: قوله عليه السلام في ذلك الحديث: (خذوا به) الظاهر منه إرادة الأخذ بالأخير من الخبرين.
أما أولا: فلأن الضمير إذا تقدمه أمران أحدهما أقرب إليه، الظاهر

(1) أي: التخلص من الإشكال ممكن لكنه بعيد بينما هو يريد ظاهرا عدم إمكان التخلص منه. فالأفضل الإشارة إلى أنه استعمل (يكاد) بمعنى (يمكن).
(2) طبعا ولا يمكن أيضا أن يكون النقيضان مخالفين للاحتياط لأن النقيضين كما لا يجتمعان لا يرتفعان.
281

رجوعه إليه، دون الأبعد منه، ومن المعلوم أن قوله: (حديث من آخركم) أقرب إليه.
وأما ثانيا: فللتصريح به في الحديث العاشر، والحادي عشر.
بيان ما لعله يحتاج إلى البيان في الحديث الرابع عشر وهو قوله (عليه السلام).
(إن الكلمة لتنصرف على وجوه، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب.) (1). فاعلم أن الظاهر من قوله: (إن الكلمة لتنصرف على وجوه) أنها تنصرف إلى وجوه بعضها ظاهر منها وبعضها غير ظاهر، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء يعني يريد به ما شاء، فله أن يريد المعنى المؤول للكلمة الذي هو خلاف ظاهرها، ولا يكذب في إرادة ذلك المعنى منها.
وكلمة (إن) في قوله: (إن الكلمة لتنصرف على وجوه) في مقام التعليل لقوله عليه السلام: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا.
والواو في قوله: (ولا يكذب) حالية.
فحاصل ما يستظهر من الحديث الشريف، أن الغرض أنه لا يجوز المبادرة إلى طرح خبر مروي عنهم عليهم السلام وتكذيب صدوره بمجرد ورود خبر آخر ينافي ذلك الخبر بظاهره، لإمكان إرادة خلاف الظاهر منه، بل لاحتماله، لأنه على تقديره غير مستلزم للكذب، بل لا بد من ملاحظة دلالتهما أولا، وأن دلالة أحدهما أقوى من دلالة الآخر أو لا؟ فإن كانت دلالة أحدهما أقوى فيجعل ذلك قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الآخر.
قوله - قدس سره -: (الأول في علاج تعارض مقبولة ابن حنظلة
282

ومرفوعة زرارة)
قال (دام ظله): إن المرفوعة ضعيفة السند باعتبار رفعها وانفراد ابن أبي جمهور بنقلها، إلا أن عمل الأصحاب حيث إنه على طبقها جابر لها، فتكون حجة لذلك.
وأما المقبولة، فالراوي لها إنما هو عمر بن حنظلة، وهو مجهول الحال عند الأكثر.
نعم حكى ولد الشهيد الثاني (قدس سرهما) عن والده الماجد في حاشية له - الظاهر أنها على الروضة في مسألة الوقت - أنه قد ورد في عمر في مسألة الوقت أنه سئل أحدهما عليهما السلام عن أن عمر بن حنظلة يجيء لنا عنكم بوقت فكيف تصنع؟ فقال عليه السلام: (إذن لا يكذب علينا) وهذا يدل على حسن حاله.
وكأنه زعم (قدس سره) أن قوله عليه السلام: (لا يكذب) مبني للفاعل، لأنه على تقدير كونه مبنيا للمفعول - كما هو المحتمل - يكون دليلا على سوء حاله، كما لا يخفى، كما ضعفه بعضهم بزعم كونه مبنيا للمفعول.
وكيف كان، فلم نعلم حال عمر، فتكون المقبولة ضعيفة السند لذلك.
فيتوقف اعتبارها على جابر لها، وهو [كونها] معمولا بها عندهم حتى وصفت بالمقبولة، فيكون ذلك جابرا لضعفها، بمعنى أنهم استدلوا بها واعتمدوا عليها، ولو بالنسبة إلى بعض مدلولها الغير المنافي للمرفوعة، فاعتمادهم عليها كذلك جابر لها، موجب لاعتبارها.
تمهيد مقال: الشهرة في الأصل هو الوضوح، والتجرد عن موجبات الخفاء، ومنه فلان شهر سيفه، وسيف شاهر، بمعنى المشهور.
والشذوذ فيه إنما هو الانفراد، ومنه شذ الغنم، ويعبر عن الأول بالفارسية بنماياني، وعن الثاني ببازماندگي.
283

وأما في الاصطلاح: فالظاهر عدم نقلهما عن معنييهما الأصليين إلى غيرهما، بل يكون إطلاقهما على شهرة الرواية أو الفتوى أو على شذوذهما باعتبار معنييهما الأصليين، كما أن إطلاقهما في أخبار الأئمة عليهم السلام أيضا كذلك بطريق أولى.
وبالجملة هما في جميع الموارد بمعنى الوضوح والانفراد، واختلافهما في الموارد إنما هو من اختلاف مصاديقهما ومشخصاتهما، فإن الذي يختلف باختلاف الموارد إنما هو جهة الوضوح والانفراد، لا أنفسهما.
ومشهور الرواية معروفيتها بين العلماء، بأن عرف كل واحد منهم وجودها في الروايات المأثورة عن أهل العصمة عليهم السلام ولو كان ناقلها واحدا.
ويقابلها شاذها، وهي ما لم يعرفها إلا نادر منهم، وإطلاق الشاذ عليها باعتبار انفرادها عن المشهورة بهذا الاعتبار، وعدم وصولها إلى حدها من الوضوح، كما أن مشهور الفتوى ما كان معروفا بينهم بحيث يعرفه كل أحد على وجه لا ينكر وجوده في جملة فتاوى العلماء، بل يعترف بوجوده ولو كان المفتي شخصا واحدا.
وقد توصف الرواية بالشهرة أو الشذوذ من حيث الفتوى، ويقال: إنها مشهورة أو شاذة من حيث الفتوى، والمراد حينئذ إنما هو كون مضمونها اشتهر الإفتاء به أو شذ بالاعتبار المذكور في شهرة الفتوى وشذوذه.
ومن هنا يعلم الفرق بين المشهور من الرواية ومستفيضها، أو متواترها، وكذا الفرق بين المشهور من الفتوى والمجمع عليه منه.
وتوضيح الفرق: أن توصيف الرواية بكونها مشهورة - كما عرفت - إنما هو باعتبار معروفيتها بين العلماء من
غير نظر إلى تعدد راويها أصلا.
بخلاف المستفيض والمتواتر، فإن توصيفها بهما إنما هو باعتبار تعدد وكثرة راويها، من غير نظر إلى الاعتبار الأول أصلا.
284

وكذا توصيف الفتوى بكونه مشهورا إنما هو بالاعتبار الأول، وتوصيفه بكونه مجمعا عليه إنما هو بالاعتبار الثاني.
نعم قد يكون سبب معروفية الرواية أو الفتوى هو كثرة النقلة، أو المفتين.
وقد توصف الرواية بكونها مشهورة من حيث الرواية، ويراد به كونها متفقا على نقلها من الرواة.
وقد توصف به من حيث الفتوى، ويراد به كون مضمونها متفقا عليه ومفتى به بين العلماء ولو لم يستندوا إليها.
وقد يوصف الفتوى بكونه مشهورا، ويراد به اتفاق العلماء على الإفتاء به فيرادف المجمع عليه.
لكن الرواية المشهورة من حيث الرواية بالمعنى المذكور لا ترادف شيئا من المستفيض والمتواتر، بل أعم منهما إذ قد يكون الرواة منحصرا في اثنين، فلا يصدق على الرواية شيء من المستفيض والمتواتر، وقد لا يبلغ رواتها إلى حد التواتر، فلا يصدق عليها المتواتر أيضا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد بالشاذ في المقبولة ليس الحقيقي منه، وهو ما لا يعرفها إلا نادر، فإن الشذوذ إلى هذا المقدار مناف للاعتبار، ومن المعلوم أن المراد به في المقبولة ما كان معتبرا بنفسه، بحيث لو لم يكن له معارض لوجب العمل به، فحينئذ لا بد من حمله على الإضافي، فيكون المراد بالمشهور أيضا كذلك.
قوله - قدس سره -: (ولأجل ما ذكرنا لم يذكر ثقة الإسلام رضوان الله عليه... إلى آخره) (1)
285

يعني لأجل ما ذكرنا من أن المستفاد من مجموع الأخبار هو الترجيح بالمرجحات المنصوصة من الشهرة وما بعدها.
قوله - قدس سره -: (إلا أن يقال: إن إطلاقات التخيير حاكمة على هذا الأصل).
أقول: قد يتوهم أن التمسك بتلك الإطلاقات لا يستقيم في المقام، لكون الشبهة فيه مصداقية، نظرا إلى العلم بتقيد تلك المطلقات بصورة عدم مزية معتبرة شرعا لأحد المتعارضين، فيكون الشك في اعتبار مزية في أحدهما آئلا إلى الشك في كونها مصداقا لتلك المزايا المعلوم خروجها عنها إجمالا.
لكنه مدفوع بأن القدر المسلم بين المتعدي عن المرجحات المنصوصة وبين المقتصر عليها - إنما هو تقيدها بتلك المرجحات المنصوصة، لا بمزية واقعية غير معلومة العنوان، حتى يكون الشك في اعتبار مزية راجعا إلى مصداقيتها لتلك المزية.
وبعبارة أخرى أوضح: إنه لا نزاع بين الفريقين في وجوب الأخذ بالمرجحات المنصوصة، وتقيد تلك المطلقات بالنسبة إليها لا محالة، وإنما النزاع بينهما في غيرها من المزايا الموجبة لأقربية احتمال صدور ذيها، أو احتمال كون وجه صدوره بيان الواقع أو أبعدية ذينك الاحتمالين فيه عن الباطل بعد الفراغ عن كون المزية المبحوث عن اعتبارها كذلك، فالمتعدي يدعي تقيدها بصورة عدم مطلق المزية كذلك، التي من أفرادها المزايا المنصوصة، والمقتصر يدعي تقيدها بصورة فقد تلك المزايا الخاصة المنصوصة، ومن المعلوم أن التقييد على تقدير التعدي أكثر منه على تقدير الاقتصار على المزايا المنصوصة، فيكون الشك في اعتبار مزية من غير المزايا المنصوصة راجعا إلى الشك في التقييد البدوي
286

الزائد على القدر المعلوم، فلا تغفل (1).
اللهم إلا ان يقرر الشبهة بأن تقييدها بفقد المرجحات المنصوصة معلوم، وإنما الشك في أن الملحوظ خصوص تلك المنصوصات أو القدر المشترك بينها وبين غيرها، وأن إخراج مواردها من باب أن تلك الموارد من موارد فقد ذلك القدر المشترك، ومن المعلوم أنه على تقدير كون الملحوظ هو القدر المشترك وكون الخارج هو، لا يلزم تقييد زائد على القدر المعلوم، فإن الملحوظ في الإخراج حينئذ ليس خصوصية كل واحد من مصاديقه، حتى يقال: إنه يلزم على تقديره تقييد تلك المطلقات بأزيد من القدر المعلوم، بل نوعها وهو في حد ذاته أمر وحداني، فيدور الأمر بين أن يكون الخارج ذلك الأمر الوحداني أو خصوصية كل واحد من المرجحات المنصوصة، وعلى الأول لا يلزم أكثرية التقييد منه على الثاني، فلا يصح التمسك بتلك الإطلاقات على نفيه، بل يمكن تعكيس الأمر بأنه لما كان الملحوظ في مقام الإخراج على الثاني خصوصية كل واحد واحد من المرجحات المنصوصة، فيكون التقييد على تقديره أكثر منه على الأول، فيصح

(1) وبعبارة أوضح: إن المزية المعتبرة بعنوان كونها معتبرة عنوان منتزع من الأمر المتعلق بالأخذ بالمزايا المأمور بالأخذ بها، فإن الخارج عن إطلاق أخبار التخيير إنما هي ذوات تلك المزايا، لا هي بذلك العنوان، إذ لا يعقل أخذه في الدليل المخرج، فإنه ليس إلا الأوامر الواردة بالأخذ بتلك المزايا، فاعتبارها لا يكون إلا بتلك الأوامر، فيلزم من اعتبار عنوان الاعتبار فيها الدور، لأن معنى كونها معتبرة كونها مأمورا بالأخذ بها في مقام الترجيح، والمفروض أن كونها كذلك إنما هو بتلك الأوامر، فيلزم من اعتباره فيها اعتبار نفسها في موضع نفسها.
فإن قيل: إنا نقرر الشبهة بوجه آخر، وهو أنا نعلم بعدم ثبوت حكم التخيير في صورة وجود مزية أخرجها الشارع عن إطلاق أخبار التخيير، فإذا شككنا في مزية أنها من المزايا الخارجة أو لا، فلا يصح التمسك بالإطلاق لكون الشبهة مصداقية.
قلنا: هذا أفسد من سابقه، لأن وصف المخرج عنوان منتزع عن أمر الشارع بالأخذ بمزايا مخصوصة منصوصة وحاصل بعده، وأن الخارج إنما هو ذوات تلك المزايا، لا هي بهذا العنوان. لمحرره عفا الله عنه.
287

التمسك بتلك الإطلاقات على نفيه، فتأمل.
التعدي عن المرجحات وعدمها
قوله - قدس سره -: (فلا بد للمتعدي من المرجحات الخاصة المنصوصة من أحد أمرين، إما أن يستظهر من النصوص، إلى قوله:
وإما أن يستظهر من إطلاقات التخيير. إلى آخره) (1)
اعلم أن ما ذكره (قدس سره) من الترديد إنما هو من مقولة المنفصلة باعتبار منع الخلو فقط، ضرورة عدم التنافي بين طرفيه، بل كل منهما يؤكد الآخر ويقويه.
ثم اعلم أن الشواهد للأمر الأول مضافا إلى فتوى الأكثرين هي الفقرات التي أشار إليها (قدس سره) فيما بعد.
وأما الأمر الثاني، فيمكن الاستشهاد له بظهور الأسئلة، فإن قول السائل: (يأتي عنكم خبران أحدهما يأمرنا والآخر ينهانا كيف نصنع) ظاهر في أن مورد السؤال إنما هو مقام التحير في مقام العمل، ومن المعلوم أنه لا تحير مع اعتبار الشارع لذي المزية من الخبرين لتعين الأخذ به حينئذ.
وبعبارة أخرى: إن الداعي للسؤال عن حكم الخبرين المتعارضين إنما هو تحير السائل في مقام العمل، فيكون سؤاله ظاهرا في أن مورده مورد التحير، لا سيما بملاحظة قوله (كيف نصنع) الذي هو كالصريح، بل الصريح في ذلك.
فيكون الحكم المذكور في الجواب مختصا بذلك المورد، أعني مورد التحير، نظرا إلى أن ظاهر الجواب إنما هو كونه جوابا عن مورد السؤال، هكذا أفاد (دام ظله) أقول: اختصاص أخبار التخيير بصورة التحير مما لا شبهة فيه، ولا نزاع، لكن هذا المقدار لا يجدي فيما نحن بصدده، إذ الذي يجدينا إنما [هو] ظهور اختصاصها بصورة عدم مزية لأحد الخبرين المتعارضين أصلا، إذ معه
288

يقال: إن المزايا غير المنصوصة قد فرضنا كونها مزايا على الوجه المتقدم، وإنما الكلام في اعتبارها، وبعد فرض ظهور اختصاص أدلة التخيير بغير صورة مطلق المزية لا حاجة لنا إلى ظهور أخبار الترجيح في الأخذ بمطلق المرجح، لما قد أشرنا إليه غير مرة من أن مقتضى الأصل الأولي في الخبرين المتعارضين هو التوقف وتساقطهما في مؤداهما، إلا أن الإجماع قام على عدم سقوط كليهما عن الحجية حينئذ، بل أحدهما حجة في مؤداه، فيدور الأمر - حينئذ - بين كون أحدهما حجة على التعيين أو كونه حجة على التخيير، وبعد ما فرضنا
انتفاء احتمال كونه حجة على التخيير بمقتضى ظهور اختصاص تلك الأخبار بغير مورد الفرض، يتعين كونه حجة على التعيين، وهو المطلوب.
وأما ظهور اختصاصها بصورة التحير، فلا يجدينا في المقام في شيء أصلا، ضرورة أن التحير لا يرتفع بمجرد وجود مزية في المورد لأحد المتعارضين، وإنما يرتفع بثبوت اعتبارها شرعا عند المكلف، ومع الشك فيه - كما هو المفروض - فالتحير متحقق، وإن فرض كونه ثابتا في الواقع، لأن مجرد اعتبار مزية في الواقع مع عدم العلم باعتبارها لا يرفع التحير، فيتوقف رفعه في مورد الشك على ظهور أدلة الترجيح على اعتبار مطلق المزية.
قوله - قدس سره -: (فما يمكن استفادة هذا المطلب منه فقرات من الروايات) (1)
اعلم أن إفادة بعض تلك الفقرات للمطلوب على نحو الإشعار، وإفادة بعضها له على نحو الدلالة.
أما المشعرة به منها فهي المتضمنة للترجيح بالأصدقية، والأوثقية في المقبولة، والمرفوعة، فإن اعتبار هاتين الصفتين يشعر بأن النظر في اعتبارهما إنما
289

هو إلى كونهما موجبتين لأقربية ما يرويه المتصف بهما إلى الحق مما يرويه الفاقد لهما.
لا يقال: إن أكثرية ملكة الوثاقة والصداقة للراوي لا يلازم أقربية ما يرويه إلى الحق، إذ غاية ما يلازمه إنما أكثرية تحرزه عن تعمد الكذب، واحتياطه في نقل الرواية، ومن المعلوم أن ذلك بنفسه غير ملازم للأقربية لإمكان الخطأ والسهو في حقه، بل ربما يكون كثير السهو، فيكون الأقرب خلاف ما يرويه، فإذا لم تكن ملازمة بين الصفتين المذكورتين وبين أقربية ما يرويه المتصف بهما إلى الحق، فلا يكون اعتبارهما مشعرا بكونهما معتبرتين لأجل أنهما توجبان تلك الأقربية حتى نتعدى منهما إلى مطلق المزية الموجبة لها.
لأنا نقول: إن لمخالفة الرواية للواقع جهات:
منها: تعمد الراوي للكذب.
ومنها: عدم احتياطه في طريق تحملها وعدم تأمله فيه حق التأمل، مع كونه متحرزا عن تعمد الكذب، بمعنى أنه يتحملها عن طريق يثق به في بادئ النظر، بحيث لو تأمل فيه حق التأمل لذهب عنه ذلك الوثوق، فلا يرويها.
ومنها: عروض السهو والنسيان له، اللذين هما كالطبيعة الثانية للإنسان.
ومنها: كثرتهما.
أما الأخير، فهو مفروض العدم في مقام التعارض بالنسبة إلى كل من الراويين، إذ عدمه من شرائط الحجية، والمفروض حجية الخبرين المتعارضين في حد أنفسهما.
وأما سابقه: فهو مشترك بين الراويين، فتبقى الأوليان.
ومن المعلوم أنه كلما ضعف جهة من جهات المخالفة للواقع في شيء يكون احتمال موافقته له أقرب منه فيما لم يضعف فيه تلك الجهة.
ومن المعلوم - أيضا - ضعف الأوليين بتينك الصفتين في حق المتصف بهما
290

بالنسبة إلى الفاقد لهما، فيكون رواية المتصف بهما أقرب إلى الحق والواقع من رواية الفاقد لهما.
والحاصل: أن تينك الصفتين، وإن أمكن اعتبارهما من باب التعبد كغيرهما من صفات الراوي إلا أن المناسب لهما اعتبارهما من باب الطريقية، وكونهما موجبتين للأقربية المذكورة، فيشعر اعتبارهما بأن النظر فيه إنما هو إلى ذلك، فيستشعر - لذلك - كون قوله عليه السلام في المقبولة: (وأصدقهما في الحديث) عطفا تفسيريا لسابقه، وكون قوله عليه السلام: (وأوثقهما في نفسك) في المرفوعة كذلك بالنسبة إلى سابقه - أيضا -، فيستفاد أن الغرض من اعتبار سائر الصفات - أيضا - إنما هو كونها موجبة لضعف الجهتين الأوليين المذكورتين، فإن الأورعية والأعدلية - أيضا - توجبان ضعفهما إلا أنهما ليستا كالأوثقية والأصدقية.
نعم، قد يستشكل في كونه قوله: (وأصدقهما في الحديث) في المقبولة عطفا تفسيريا للأعدلية والأورعية معا، لتوسط فيما بينهما، فإنه على تقدير كونه كذلك لكان مقتضى القواعد تأخيره عنهما، فلا يكون تفسيرا لكليهما معا.
ويمكن الذب عنه: بأن غاية ما يلزم من ذلك عدم كونه عطفا تفسيريا بمصطلح أهل العربية، لكنه لا ينافي كونه تفسيرا لكليهما معا، إذ بعد تسليم إشعار اعتبار صفة الأصدقية باعتبارها، لأجل كونها موجبة لأقربية ما يرويه المتصف بها إلى الواقع، فيستشعر منه كونه تفسيرا لما قبله من الأعدلية لا محالة.
ومن المعلوم لكل أحد أنه لا فرق بين صفتي الأعدلية والأورعية في جهة الاعتبار، بل كلتاهما على نسق واحد قطعا، وإذا ثقبت أن الأعدلية إنما اعتبرت من جهة إيجابها لما ذكر، فيكون اعتبار الأورعية - أيضا - كذلك.
هذا مضافا إلى أنه مع الإغماض عن كون قوله (وأصدقهما في الحديث) تفسيرا لقوله: (وأعدلهما) يمكن - أيضا - إثبات المطلوب بوجه آخر، وهو أنه إذا
291

ثبت أن اعتبار الأصدقية لتلك الجهة المذكورة ثبت أن اعتبار غيرها من صفات الراوي - أيضا - لتلك الجهة بالإجماع المركب.
وأيضا قوله عليه السلام: (وأوثقهما في نفسك) في المرفوعة ظاهر في كونه عطفا تفسيريا لقوله: (أعدلهما عندك) فيمكن جعله قرينة على أن النظر في اعتبار الأعدلية والأورعية في المقبولة - أيضا - إلى جهة وثاقة الأورع والأعدل، وصداقتهما الموجبتين لضعف احتمال مخالفة الواقع فيما يرويانه.
ثم اعلم أن الاستشهاد بقوله عليه السلام: (وأصدقهما في الحديث) مبني على حمل صدر المقبولة - أيضا - على الترجيح من حيث الرواية، الذي هو المتنازع فيه في المقام.
وأما على تقدير اختصاصه بالترجيح بين الحكمين، فيخرج عما نحن فيه، فلا يكون شاهدا عليه، فلا يبقى للاستشهاد به مورد، وللإشكال المتقدم فيه مجال، وحينئذ فيقتصر في الاستشهاد على قوله (وأوثقهما في نفسك) في المرفوعة.
ثم إنه يتقوى ذلك الإشعار بعدم سؤال الراوي عن حكم صورة وجود بعض المرجحات المنصوصة وتخالفها، بل ذلك في نفسه شاهد مستقل أقوى من ذلك الإشعار.
وتقريب الاستشهاد به أنه لو فهم أن اعتبار تلك المرجحات من باب التعبد، أو احتمل ذلك، لكان يسأل عن حكم تلك الصورة، ضرورة أن بيان حكم صورتي وجود جميع تلك الصفات لأحد الراويين، أو لكليهما معا واستوائهما فيها، لا يغني - حينئذ - عن حكم تلك الصورة، وإنما يغني ذلك عنه على تقدير (1) فهمه أن غرضه عليه السلام الترجيح بمطلق المزية الموجبة لأقربية مورده إلى الحق، أو أبعديته عن الباطل، إذ معه يلاحظ في تلك الصورة أن أية المزيتين
292

كذلك، فيؤخذ بها، ويرجح بها ذيها على صاحبه، وإن كانتا متساويتين فيأتي فيهما حكم صورة المساواة.
لا يقال: إن غاية ما يستفاد من ترك السؤال عن حكم تلك الصورة أنه فهم استقلال كل من الصفات في مقام الترجيح، من غير اعتبار اجتماعها، كما هو قضية عطف بعضها على بعض بالواو، وأما فهمه أن العبرة بمطلق المزية فلا، لأن حكم الصورة المذكورة على تقدير اعتبار كل من تلك الصفات مستقلا من باب التعبد مع اعتبار الترتيب بينها على الوجه الذي في الأجوبة في تلك الأخبار - أيضا - غير محتاج إلى السؤال، فان الصورة المذكورة إن كان الموجود فيها إحدى تلك الصفات لأحد الراويين فلا بد من الأخذ بها - حينئذ - لفرض استقلالها في كونها مرجحة، وإن ثبتت لكليهما معا فيكون المورد من صور تساويها، والمفروض السؤال عن حكمها، وإن وجدت ثنتان منها مختلفتان كل واحدة لواحد منهما فلا بد حينئذ من الأخذ بما يكون أقدم من الأخرى وأسبق من حيث الترتيب المذكور في الأخبار، فإن غاية ما هناك أنه تعذر حمل كلمة الواو على الجمع، لكنه لا يوجب صرفها عن الترتيب - أيضا - إذ عدم سؤاله عن حكم تلك الصورة لا ينافيه.
لأنا نقول: إن الأخبار الآمرة بالأخذ بالمرجحات لو كانت متفقة على ترتيب واحد لكان ما ذكر متجها، لكن المفروض اختلافها في ذلك، فلا بد من إبقاء اعتبار الترتيب كاعتبار الاجتماع - أيضا - لذلك، ومن المعلوم - حينئذ - عدم كفاية بيان حكم الصورتين المذكورتين وإغناؤه عن بيان حكم الصورة المشار إليها.
نعم قد يستشكل في ذلك بأن غاية ما هناك أن السائل فهم من كلامه عليه السلام ذلك، لكن لا تنهض حجة لنا، فإن ذلك منه بمقتضى استنباطه واجتهاده، ولا حجة فيه في حق غيره.
293

لكنه مدفوع بأن فهمه إنما يكشف عن كون الكلام ظاهرا في ذلك، فإذا أحرزنا بفهمه ظهور الكلام فيه فيكون الحجة لنا هو ظهور ذلك الكلام.
ومما يقوي الإشعار المذكور أيضا أنه عليه السلام لم يتعرض لبيان حكم تلك الصورة في الأخبار الغير المسبوقة بالسؤال أيضا مع تعرضه للصورتين الأخريين كما في رواية الصدوق عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ورواية القطب الراوندي عن الصادق عليه السلام ووجه التقريب به ما مر.
ثم إن المصنف (قدس سره) جعل الفقرتين المتقدمتين مفيدتين للمطلوب على نحو الدلالة كما يظهر من قوله، فإن اعتبار هاتين الصفتين ليس إلا لترجيح الأقرب.
لكن دعوى القطع بعدم اعتبارهما إلا لما ذكره دونه خرط القتاد، إذ من المعلوم إمكان اعتبارهما من باب التعبد كالأعدلية والأورعية في تعارض المجتهدين في حق المقلد.
نعم الإنصاف ظهور اعتبارهما فيما ذكره.
ثم إن ما ذكره من تقريب شهادة عدم سؤال الراوي عن حكم الصورة المذكورة للمطلوب لا يخلو عن تشويش واضطراب، وهو قوله (فلو لا فهمه أن كل واحدة من هذه الصفات وما يشبههما مزية مستقلة لم يكن وقع للسؤال عن صورة عدم المزية فيهما رأسا، بل ناسبه السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات) (1).
وتوضيح الاضطراب فيه: أنه أخذ المدعى إثبات أن العبرة في مقام الترجيح بمطلق المزية الموجبة لأقربية ذيها إلى الحق أو أبعديته عن الباطل.
وتقريبه المذكور لا يفي به، فإنه أخذ النتيجة فيه مطلبا آخر، وهو استقلال كل
294

من الصفات في مقام الترجيح، ومن المعلوم أن الكلام في كون كل واحدة من تلك الصفات مستقلة في مقام الترجيح، أو كون المجموع من حيث المجموع مرجحا واحدا يناسب القول باعتبار تلك الصفات من باب التعبد.
وأما على القول باعتبارها من باب كونها أحد أفراد مطلق المزية فلا مناص لاحتمال كون المجموع منها مرجحا واحدا فكان ذلك يناقض ما ادعاه أولا.
هذا مضافا إلى أن ما ذكره من الدليل على إثبات تلك النتيجة - أيضا - غير تام في نفسه، فإن السؤال عن حكم صورة عدم المزية أصلا من المزايا لا يلازم فهمه من كلامه عليه السلام استقلال كل واحدة من الصفات في مقام الترجيح، لعدم توقفه عليه، إذ لا ينحصر موجبه في ذلك، إذ من المعلوم أنه مع احتمال الاستقلال - أيضا - يصح السؤال، بل يحسن، بل يجب، كما أن احتمال ملاحظة اجتماعها - أيضا - يوجب السؤال عن حكم صورة عدم اجتماعها ولو وجد بعضها في المقام، فقوله (قدس سره) (لم يكن وقع للسؤال عن صورة عدم المزية رأسا) لم يعرف له وجها، وكان الحري الاستدلال على تلك النتيجة بأن السائل إما فهم استقلال كل من الصفات في مقام الترجيح أو لا.
وعلى الثاني إما فهم اعتبار اجتماعها أو شك في الاستقلال والاجتماع، ولم يظهر له من كلامه شيء منهما.
لا سبيل إلى الأخيرين، إذ على أولهما كان الواجب على السائل السؤال عن صورة عدم اجتماع تلك الصفات، لا عن عدمها رأسا.
وعلى ثانيهما كان الواجب السؤال عن كلتا الصورتين معا، لا الاقتصار على السؤال عن إحداهما، فاقتصاره على السؤال عن حكم عدم تلك الصفات رأسا يكشف عن فهمه استقلال كل منهما في مقام الترجيح.
هذا خلاصة بيان التشويش فيما ذكره (قدس سره).
295

لكن من المعلوم للمتأمل فيه حق التأمل أن مراده ما ذكره في تقريب التأييد، فإن مراده - بقوله (حتى قال لا يفضل أحدهما على صاحبه) (1) يعني بمزية من المزايا أصلا - هو أن السائل إنما سأل بقوله (لا يفضل أحدهما على صاحبه) عن صورة عدم مزية لأحدهما من المزايا، يعني مطلق المزايا أعم من المزايا المنصوصة، فإن ماله الفضل في قوله (لا يفضل) أعم شاملة للمزية المتحققة بغيرها - أيضا -.
ومراده (قدس سره) بقوله (عن صورة عدم المزية فيهما رأسا) هو صورة عدم مطلق المزية.
ومراده بقوله (مزية مستقلة) أنه فهم كون كل واحدة من تلك الصفات إحدى المزايا من غير خصوصية لها.
ومراده (بعدم اجتماع الصفات) إنما هو وجود بعضها وتخالفها الذي أشار إليه سابقا.
ومراده بقوله (لم يكن وقع للسؤال) أنه لم يكن وقع للاقتصار في السؤال على صورة عدم المزية أصلا، فيرجع ما ذكره إلى ما ذكرنا، ويرتبط بما أخذه مدعى أولا، فتدبر.
ثم إنه ربما يتخيل كون السؤال عن صورة عدم المزية رأسا - بناء على عمومه بالنسبة إلى مطلق المزايا في نفسه - شاهدا لفهم السائل اعتبار مطلق المزية.
لكنه فاسد، لعدم توقف ذلك السؤال عليه، لصحته، بل لوجوبه مع احتمال اعتبار مطلق المزية أيضا.
والمعتمد في الاستشهاد له إنما هو ما ذكرنا من عدم سؤاله عن حكم
296

صورة وجود بعض تلك المرجحات المنصوصة مع تخالفها.
هذا كله فيما يشعر بالمطلوب من الفقرات.
وأما المفيدة له على نحو الدلالة فهي فقرتان:
إحداهما: تعليل الأخذ بالمشهور بقوله عليه السلام (فإن المجمع عليه لا ريب فيه).
وثانيهما: تعليل تقديم الخبر المخالف للعامة (بأن الحق والرشد في خلافهم).
وتقريب دلالتهما على المطلوب كما ذكره المصنف (قدس سره).
وأما قوله عليه السلام (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (1) فلا يصلح شاهدا للمطلوب، فإنه من جملة أخبار الاحتياط، ولا يمكن حمل شيء منها على الوجوب الشرعي، لاستلزامه تخصيص الأكثر فلا بد من حملها على الإرشاد.
ثم إنه لا يمكن حملها على الإرشاد الإلزامي - أيضا - ضرورة عدم كون الداعي للاحتياط - في أكثر من موارد الشبهة من المضار اللازمة - الدفع، فلا بد من حملها على الطلب الإرشادي المشترك بين الإلزام والندب، فيكون مفادها حينئذ مطلوبية الاحتياط في الجملة على نحو الإرشاد في موارد الشبهة في كل مورد بحسب ما يقتضيه من المضرة، فإن كانت المضرة مما يجب دفعها عقلا فيكون مطلوب الشارع - حينئذ إلزاما من باب الإرشاد - التحرز عنها بالاحتياط في محتملاتها.
وإن كانت مما يندب دفعها عقلا فيكون مطلوبه الاحتياط - حينئذ - ندبا من باب الإرشاد.
والحاصل: أن الحديث الشريف المذكور كغيره من أخبار الاحتياط لم
297

يأت بشيء جديد من الشارع أزيد مما استقل به العقل من مطلوبية الاحتياط إرشادا على حسب ما يقتضيه من المضار، فحينئذ لا بد من النظر في المفسدة المحتملة في الأخذ بالخبر الأقرب إلى مخالفة الواقع بالنسبة إلى صاحبه من أنها تقتضي لزوم الاحتياط أو ندبه، ومن المعلوم أن المفسدة التي يتوهم فيه إنما هي مفسدة الوقوع في خلاف الواقع، لكن لا ريب أنها ليست ملزمة للاحتياط مطلقا، وإلا للزم عدم العمل بالأبعد عن مخالفة الواقع من الخبرين - أيضا - لفرض كونه - أيضا - محتملا للخلاف، بل إنما يلزمه إذا لم يكن المكلف معذورا فيها.
وبعبارة أخرى: إن الملزمة للاحتياط إنما هي مفسدة الهلكة الأخروية، وأما بدونها فالعقل لا يحكم بلزوم الاحتياط، وإن كان يحكم بحسنه، وأخبار التخيير - حيث إنها لا يعارضها الحديث المذكور لفرض كونه إرشاديا - شاملة لمورد الحديث، ومبينة للتخيير في مرحلة الظاهر، فتكون هي محصلة للأمن من الهلكة الأخروية، فلا تكون مخالفة الواقع حينئذ مقتضية للزوم الاحتياط بالأخذ بالأبعد عن مخالفة الواقع من الخبرين.
والعجب من المصنف (قدس سره) أنه كيف غفل عما يبنى عليه - في مسألة البراءة والاحتياط - من كون أخبار الاحتياط للإرشاد حتى الحديث المذكور، حيث إنه ذكره هناك في طي تلك الأخبار، وأخذه دليلا على لزوم الترجيح بالأبعدية عن مخالفة الواقع في المقام، مع أنه يتوقف على كونه أمرا شرعيا حتى يصلح لوروده على أخبار التخيير.
قوله - قدس سره -: (ولا ريب أن المشهور بهذا المعنى ليس قطعيا من جميع الجهات) (1)
298

يعني من جهة السند والدلالة معا.
قوله - قدس سره -: (حتى يصير مما لا ريب فيه) (1)
لأن الرواية لا ينفى منها الريب إلا بكونها قطعية من جميع الجهات.
قوله - قدس سره -: (ولا الرجوع إلى صفات الراوي) (2)
وذلك لأن أحد الخبرين المتعارضين إذا كان مشهورا، بمعنى كونه قطعيا من جميع الجهات، فمن المعلوم الواضح لكل أحد أنه لا يجوز اختيار غيره عليه، ولو اشتمل على جميع المرجحات، إذ مع القطع المذكور لا يصلح غيره للمقاومة والمعارضة، فلا تقبل هذه الصورة للسؤال، ولبيان الإمام عليه السلام حكمها من غير سؤال عنها - أيضا - فلا يمكن حمل قوله عليه السلام (خذ بما اشتهر بين أصحابك) على هذه الصورة.
قوله - قدس سره -: (وإن لم يكن عليه أمارة المطابقة كما يدل عليه قوله عليه السلام ما جاءكم... إلى آخره) (3)
أقول في هذا الاستشهاد نظر، بل منع فإن قوله عليه السلام (فإن أشبههما فهو حق) مساوق لقوله عليه السلام في الحديث السابق (فإن الرشد في خلافهم) لا سيما بملاحظة قوله عليه السلام (وإن لم يشبههما فهو باطل) فإن الظاهر أنه تأكيد لإثبات كون موافقة الكتاب والسنة أمارة للحق فلا وجه لجعل الموافق لهما مما ليس فيه أمارة الحق والمطابقة.
ثم إن الشباهة في الحديث الشريف تحتمل معنيين:
أحدهما: الشباهة من حيث الأسلوب والفصاحة والبلاغة.
وثانيهما: الشباهة بحسب المعنى، بمعنى كون معنى الرواية منطبقا على
299

القواعد الكلية المستنبطة من الكتاب والسنة.
انقسام المرجحات
قوله - قدس سره -: (وهي كل مزية غير مستقلة في نفسه، بل متقومة بما فيه) (1)
يعني من حيث الدليلية، فالمراد أن المرجح الداخلي إنما هي المزية التي لا يستقل في نفسه من حيث الدليلية على حكم على تقدير اعتبارها شرعا، بمعنى أنها ليست صالحة للطريقية إلى حكم من الأحكام، لعدم كشفها عن حكم حتى تصلح لجعلها حجة وطريقا إليه، كصفات الراوي من العدالة أو الأعدلية أو الضبط وغيرها، وصفات الرواية من الفصاحة ونحوها، فإن شيئا منها لا يكشف عن حكم بنفسه، بل الكاشف عنه كذلك إنما هو مواردها، وهي متون الروايات.
ومن هنا علم معنى المرجح الخارجي أيضا، فإنه خلاف الداخلي، فهو المزية [التي] تكشف بذاتها عن حكم بحيث لو اعتبرها الشارع لكانت بنفسها مبينة لحكم من الأحكام الشرعية، كالكتاب والأصل.
هذا خلاصة توضيح ما أراده المصنف (قدس سره) بالمرجح الداخلي والخارجي.
أقول: فيما ذكره (قدس سره) ما لا يخفى على المتأمل، إذ ما من مزية من المزايا إلا وهي غير مستقلة في نفسها من حيث الدليلية، فلم يبق منها مصداق للمرجح الخارجي أصلا، فإن ذات الأصل أو الكتاب ليس مرجحا، وإنما المرجح هو موافقة الرواية من حيث مضمونها لهما، ومن البديهي أن موافقة الرواية لهما مع قطع النظر عن ذات الرواية لا تفيد حكما، بل هي كصفات الراوي ومخالفة العامة، فلا وجه للتمثيل للمرجح الخارجي بهما، وأما الشهرة فهي وإن كانت
300

نفسها مرجحة إلا أنها أيضا كصفات الراوي من حيث عدم إفادتها شيئا، كما لا يخفى.
فالحري أن يقال: إن المرجح الداخلي هي المزية الراجعة إما إلى صفات الراوي أو إلى صفات لفظ الرواية، كالفصاحة والأفصحية، وككونها منقولة باللفظ والشهرة من حيث الرواية، والخارجي بخلافه، فيصدق على موافقة الكتاب والأصل والشهرة الفتوائية، فإن كلا من الثلاثة من صفات معنى الرواية، هذا.
قوله - قدس سره -: (وجعل المعتبر مطلقا خصوصا ما لا يؤثر في الخبر من المرجحات لا يخلو عن مسامحة) (1)
مراده (قدس سره) من الجعل إنما هو جعل العلماء، يعني تسميتهم المعتبر مرجحا، لا جعل الشارع بمعنى وضعه وحكمه بلزوم الأخذ به، فإنه بهذا المعنى واقع في الشريعة حقيقة ومن غير مسامحة، ولا بمعنى تسميته، لأنه لم يعبر عنه ولا عن غيره من المرجحات - أيضا - بلفظ المرجح في الأخبار المأثورة عن أهل العصمة عليهم السلام حتى يقال: إنه على وجه الحقيقة أو المسامحة وإنما سماها العلماء بهذا الاسم.
ووجه المسامحة في تسمية مطلق المعتبر من المرجحات الخارجية بالمرجح أنه قد مر أن المرجح الخارجي هو ما يكون مستقلا بنفسه في الدليلية على تقدير اعتباره في نفسه، فإذا فرض اعتباره كذلك فهو بنفسه دليل على الحكم الذي يفيد أحد الخبرين المتعارضين الموافق له، فلا بد من الالتزام بذلك الحكم على تقدير الترجيح والعمل بالراجح منهما، وعلى تقدير عدمه فلا يزيد على تقدير الترجيح به شيء، بل الترجيح حقيقة راجع إلى العمل به، لا بالراجح منهما فهو
301

مرجع في الحقيقة لا مرجح.
وأما وجه خصوصية ما لا يؤثر (1) منه في الخبر، أن تسميته بالمرجح مسامحة أخرى وهي أن المرجح حقيقة ما يحدث بسببه رجحان لذيه بالنسبة إلى معادله، والمفروض عدم إيجاب القسم المذكور ذلك.
والمسامحة من الجهة الأولى المشتركة بين جميع أقسام المعتبر مبنية على تعريفه السابق للمرجح الخارجي، وقد عرفت ما فيه. وعلى ما ذكرنا فلا يوجد شيء من المرجحات يكون مستقلا بنفسه في الدليلية على تقدير اعتباره، فلا يلزم المسامحة من الجهة الأولى.
قوله - قدس سره -: (كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقولة بالمعنى) (2)
أقول: إن النقل باللفظ وإن كان موجبا لأقربية مضمون المنقول به إلى الحق إلا أنه يكون موجبا لأقربية صدوره - أيضا - فلا يستقيم عده من المرجحات الراجعة إلى المضمون خاصة.
قوله - قدس سره -: (وكالترجيح بشهرة الرواية ونحوها) (3)
أقول: أعد الشهرة من المرجحات إلى المضمون كما ترى، إذ رب رواية مشهورة تحققت شهرة الفتوى على خلافها، والحري عدها من المرجحات الراجعة إلى الصدور فحسب، بل هي أقواها، إذ لا شبهة أن الشهرة من حيث الرواية أقوى في إفادتها أقربية موردها إلى الصدور من صفات الراوي التي عدها المصنف (قدس سره) من المرجحات الراجعة إلى الصدور.
الكلام في الخبرين المتعارضين
قوله - قدس سره -: (بل اقترانهما تحير السائل فيهما) (4)
302

وذلك لأن العام والخاص - الذين هما أظهر موارد الجمع العرفي لا يصار معه إلى الأخبار العلاجية - ربما يعدان متنافيين متعارضين مع عدم فرض اقترانهما بحيث التحير للإنسان، لكن إذا فرضهما مقترنين يرفع عنه هذا التحير لعدم فهم التنافي بينهما إذا كانا مقترنين عرفا بوجه، فلا بد للعامل بالأخبار العلاجية في مورد من فرض صدور كلا المتعارضين وفرض اقترانهما أيضا فإن حصل له التحير - حينئذ - على وجه يحتاج في فهم مراد الشارع إلى بيان آخر منه فله العمل بتلك الأخبار، وإلا فلا.
قوله - قدس سره -: (نعم قد يظهر من عبارة الشيخ في الاستبصار خلاف ذلك إلى قوله فضلا من الظاهر والأظهر) (1)
لا بأس بإعادة الكلام في تحقيق المرام في الخبرين المتعارضين على نحو الإجمال توضيحا لضعف مقالة من مال إلى خلاف المذهب المنصور الذي عليه الجمهور.
فاعلم أن فيهما ثلاثة أقوال من حيث العمل فيهما بالمرجحات وعدمه:
أحدها: ما ربما يظهر من صاحب عوالي اللئالي من مراعاة قاعدة الجمع المتقدمة وإهمال المرجحات رأسا حتى فيما إذا توقف الجمع على التأويل في كليهما معا.
وثانيها: إعمال المرجحات مطلقا حتى في العام والخاص منهما كما يظهر من الشيخ قدس سره في الاستبصار.
وثالثها: ما عليه الجمهور الذي ينبغي القول به من أنه يجب الأخذ بالمرجحات في غير النص والظاهر والظاهر والأظهر، وفي تينك الصورتين بقاعدة الجمع.
303

لنا على وجوب الأخذ بالمرجحات في الجملة في قبال صاحب عوالي اللئالي ومن وافقه ما مر سابقا، من ظهور أخبار الترجيح فيه مع عدم اكتنافها بشيء يصلح لصرفها عنه، فيظهر بذلك فساد القول الأول، وعلى اختصاص الترجيح بتلك المرجحات بغير النص والظاهر والظاهر والأظهر ما مر غير مرة من ظهور تلك الاخبار في الاختصاص بما إذا كان المتعارضان في نظر العرف على وجه يحصل التحير لهم في المراد منهما على تقدير صدورهما من متكلم واحد واقترانهما بحيث يتوقف فهم المراد على بيان آخر غيرهما، كما لا يخفى على المتأمل فيها حق التأمل، والتحير على الوجه المذكور لا يحصل إلا في غير النص والظاهر والظاهر والأظهر.
والفارق بين هاتين الصورتين وبين غيرهما من صور التعارض إنما هو حكومة دليل اعتبار صدور النص والأظهر على دليل اعتبار ظهور الظاهر، بخلاف سائر الصور، لعدم حكومة لدليل اعتبار صدور واحد من المتعارضين الظاهرين على دليل اعتبار ظهور الآخر كما مرت الإشارة إليه غير مرة.
وتوضيحه: أنه لا ريب أن مقتضى دليل اعتبار صدور الخبر المشكوك الصدور ليس وجوب الاعتقاد بصدوره، لأنه غير معقول، إذ مجرد التعبد بذلك كيف يعقل تأثيره في الاعتقاد ولم يقل به أحد أيضا، بل مقتضاه والمراد به إنما هو وجوب ترتيب الآثار الشرعية على صدوره واقعا عليه عند الشك، ومن المعلوم أن من آثار صدور النص والأظهر كونهما قرينتين على صرف الظاهر من غير عكس فإنه إذا قطع بصدورهما لا يشك أحد في كونهما كذلك.
وهذا في النص ظاهر.
وأما الأظهر هو وان لم يكن كالنص في عدم قابليته للتأويل، بل يمكن فيه ذلك، لكنه لا يمكن بمجرد الظاهر، بل لا بد من قرينة أخرى، بخلاف التأويل في الظاهر، فإنه يصح الاعتماد فيه على مجرد الأظهر، فهو مع عدم بيان
304

آخر (1) غير الظاهر - كما هو المفروض - كالنص في عدم قابليته للتأويل عرفا وكونه قرينة على صرف الظاهر، ومثل ذلك لا يحصل لواحد من الظاهرين على تقدير صدورهما من متكلم واحد واقترانهما، إذ لا يصلح واحد منهما لكونه متصرفا في ظاهر الآخر ولو كان التصرف في أحدهما خاصة كافيا في رفع التعارض عما بينهما مع كون النسبة بينهما هي العموم من وجه أيضا، إذ لا شبهة في أنهما إذا كانا عامين من وجه - أيضا - على تقدير صدورهما واقترانهما يحصل التحير للعرف في فهم المراد منهما، ولا أولوية عندهم لأحدهما في كونه بيانا للآخر ولا يحكمون - أيضا - بكون ظهور كل منهما صارفا لظهور الآخر، ليكون كل منهما في
نظرهم من المجملات، بل ظهور كل منهما في تمام مؤداه متحقق عندهم، إلا أنهم يتحيرون لأجل تنافي الظهورين في أن مؤدى أيهما هو مراد المتكلم، فالحاصل عندهم من صدورهما واقترانهما إنما هو الدوران بين إرادة مؤدى هذا الظهور وبين إرادة مؤدى ذاك، لا إجمال كل منهما في مؤداه، والدوران المذكور ليس من الآثار المجعولة منهم أيضا، بل إنما هو من الآثار العقلية الناشئة عن اجتماعهما لكونهما متنافيين (2).
فمقتضى دليل صدور النص والأظهر ترتيب حكم صدورهما وهو كونهما متصرفين في الظاهر وصارفين له عليهما مع الشك في صدورهما من غير عكس،

(1) إذ الكلام في المتعارضين انما هو بالنظر إلى أنفسهما مع قطع النظر عن بيان آخر لمحرره عفا الله عنه.
(2) وقد ظهر من ذلك الفرق بين المقام وبين المجملات فإن المجمل ما ليس له ظهور، إما بداية - وهو المعبر عنه بالمجمل الذاتي - وإما لا كتنافه بما أوجب صرفه عن ظهوره الذي كان له بدوا - وهو المعبر عنه بالمجمل العرضي - والظاهر أنه من المتعارضين مطلقا المفروض كون كل منهما في حد ذاته ظاهرا في مؤداه وقد تحقق أيضا عدم صلاحية واحد منهما على صرف الآخر أيضا فلا يكونان من المجملات مطلقا لعدم الإجمال في شيء منهما لا ذاتا ولا عرضا.
وبعبارة أخرى: المجمل هو الكلام الذي يشك في المراد منه بعد الفراغ عن إرادة معنى منه لعدم ظهوره في تعيين المراد إما ذاتا أو عرضا ولا شيء من الظاهرين المتعارضين كذلك فإن الشك فيهما في أن ظهور أيهما مراد للمتكلم بعد الفراغ عن ظهور كل منهما. لمحرره عفا الله عنه.
305

فيكون حاكما على دليل اعتبار ظهور الظاهر ومفسرا له من غير عكس، فمعنى التعبد بصدورهما أنه يجب على المخاطب رفع اليد عن مقتضى الظاهر في موردهما في مرحلة الظاهر.
وأما في الظاهرين فلما لم يكن من آثار صدور واحد منهما التصرف في ظاهر الآخر فلا حكومة لدليل اعتبار صدور واحد منهما على دليل اعتبار ظهور الآخر، بل يقع التعارض والتدافع بين دليل صدور كل منهما وبين دليل ظهور الآخر من غير ترجيح لواحد منهما.
وبالجملة: مقتضى دليل اعتبار صدورهما ليس إلا التعبد بصدور واحد منهما لا بعينه وترتيب الآثار - المجعولة شرعا التي يكشف هو عنها - عليه، لا التعبد بصدور كليهما معا، لا لأجل ما ذكر المصنف (قدس سره) - في مسألة أولوية الجمع - من كون التعبد بصدور كليهما مع التوقف في مؤداهما لغوا، لمنعه بأنه إنما يلزم إذا لم يكن له فائدة أصلا، ومن المعلوم أن نفي الثالث من فوائده، بل لأجل ما مر من أنه لا يعقل التعبد بهما بالنسبة إلى مدلوليهما المطابقيين معا، لاستلزام التعبد بما علم كذبه منهما، بل الجائز انما هو التعبد بواحد منهما بلا عنوان، فيكون نفي الثالث من آثار أحدهما لا بعينه، لما مر من أنه مدلول التزامي تابع للمطابقي، فإذا فرض أن التعبد لم يقع الا بالنسبة إلى المدلول المطابقي لأحدهما فهو تابع له، لا لكليهما، فالتعبد به يقتضي التعبد بذلك، لأن التعبد بكل طريق ظني معناه ترتيب الأحكام الشرعية - التي يكشف عنها ذلك الطريق ولو التزاما عقليا - عليه مع احتمال مخالفته للواقع، ومن المعلوم أن إرادة عدم الثالث ملزوم عقلي لإرادة المؤدى المطابقي لأحدهما، فكشفه عن إرادة المطابقي ملازم مع كشفه عنه، فيجب التعبد إذا كان من الأحكام الشرعية على تقدير ثبوته لا مطلق الأمر الثالث ولو كان عقليا، والتأويل في أحدهما أو كليهما
306

المستلزم لإجمالهما معا مطلقا (1) المؤدي إلى توقف في مؤدى كل منهما ليس مدلولا لواحد منهما بالضرورة، ولا لمجموعهما - أيضا - لأن غاية ما يكشفان عنه حال الاجتماع على تقدير القطع بصدورهما معا إنما هو عدم إرادة ظاهر واحد منهما كما مرت الإشارة إليه، لا إرادة معنى آخر غير الظاهر مما لم يكن ظاهره مرادا لإمكان عدم إرادة شيء منه أصلا، واحتمال أن يكون الغرض من صدوره مصلحة أخرى من تقية ونحوها.
وعلى تسليم كشفهما مجتمعين عنه في صورة القطع بصدور كليهما معا فإنما هو من لوازم القطع بصدور كليهما، ومن باب الاستدلال على تعيين أحد أطراف القضية المنفصلة بانتفاء سائر الأطراف، لا من باب السببية بين نفس صدورهما معا وبينه حتى يقتضي دليل صدورهما التعبد به، فيكون دليل صدور كل منهما حاكما على دليل اعتبار ظهور الآخر.
فظهر من ذلك كله عدم تمامية قاعدة الجمع في نفسها في غير النص والظاهر والظاهر والأظهر مطلقا، حتى في العامين من وجه، وأن غير تينك الصورتين من موارد عدم إمكان الجمع عرفا والتحير الذي هو مورد الاخبار العلاجية.
وما قويناها به - في مطاوي الكلام فيها سابقا - من منع كون التأويل من آثار القطع نظرا إلى لزومه على تقدير جعل القضية فرضية، خلاف ما يقتضيه دقيق النظر، فإن القضية الفرضية وإن كانت صادقة، إلا أنه لرجوعها حقيقة

(1) قولنا (المستلزم لإجمالهما معا مطلقا) أي سواء كان التأويل في أحدهما أو في كليهما، إذ على الأول لا يمكن الحكم في الظاهر يكون المؤول أحدهما بالخصوص، بل إنما هو أحدهما لا بعينه فيسري الإجمال في كل منهما وعلى الثاني واضح اللهم إلا أن يكون للتأويل في كل منهما شاهد كان يكون لكل منهما مجاز شايع فيكون شيوعه معينا للمراد أو غير ذلك من القرائن المعينة بعد إرادة عدم الظاهر. لمحرره عفا الله عنه.
307

إلى فرض انتفاء بعض أطراف القضية المنفصلة الموجب للعلم بترددها في سائر الأطراف، فلا تغفل.
فإذن لا ينبغي الإشكال في شمول الأخبار العلاجية لغير تينك الصورتين مطلقا.
هذا مضافا إلى قيام الإجماع في الجملة والسيرة على عدم إعمال قاعدة الجمع في سائر الصور.
ومع الغض عن ذلك كله - أيضا - لا يمكن قصر الأخبار العلاجية على النصين المتعارضين بأن يقال: إن المراد منها إنما هو الأخذ بأحكام التعادل والترجيح فيما إذا كان التحير الحاصل للمكلف فيهما من جهة السند فقط فلا يجري في الظاهرين لكون التحير فيهما من جهة الدلالة - أيضا - لاحتمال التأويل في أحدهما أو كليهما مع عدم صلاحية أحدهما لكونه متصرفا في الآخر وبيانا له لأن ذلك يستلزم قلة مورد تلك الأخبار غاية القلة والندرة، ضرورة قلة موارد تعارض النصين من الأخبار المتعارضة، فلا يمكن قصرها عليهما، ومع التعدي نقطع بعدم الفرق بين ما إذا كان الظاهر على وجه يكفي في الجمع بينهما التأويل في أحدهما وبين ما إذا كان متوقفا على التأويل في كليهما، وعلى الأول - أيضا - نقطع بعدم الفرق بين العامين من وجه وبين غيرهما من الظاهرين المتباينين الذين يكفي في الجمع بينهما التأويل في أحدهما كقوله يجب غسل الجمعة وقوله ينبغي غسل الجمعة.
والحاصل: أن المتعارضين إذا كانا من قبيل النص والظاهر أو الظاهر والأظهر يتعين فيهما العمل على مقتضى قاعدة الجمع كما مر.
وإذا كانا نصين فلا شبهة ولا تراع في وجوب الرجوع فيهما إلى الأخبار العلاجية.
وأما إذا كانا ظاهرين فالأمر دائر فيهما بين أمور ثلاثة: العمل فيهما
308

بمقتضى الأصل الأولي في كل طريقين متعارضين، أو العمل بقاعدة الجمع الذي يوافق العمل بالأصل من حيث عدم حجية أحدهما فعلا في مؤداه، أو العمل باحكام التعادل والترجيح.
لا سبيل إلى الأول، لقيام الإجماع على حجية أحدهما ولا إلى الثاني لذلك، ولعدم اعتبار قاعدة الجمع فيهما في نفسها - كما مر - مضافا إلى الوجوه الأخر المتقدمة، فيتعين الثالث وهو المطلوب.
لا يقال: سلمنا وجوب الرجوع في الظاهرين إلى الاخبار العلاجية، لكن مقتضى القاعدة الرجوع إليها في النص والظاهر، والظاهر والأظهر، أيضا، فإن النص والأظهر وإن كان من شأنهما على تقدير القطع بصدورهما التصرف في الظاهر لكنه من لوازم القطع بصدورهما فإن كل قرينة صارفة لا تكون صارفة الا مع العلم بها.
ألا ترى أن لفظ (يرمي) في قولنا رأيت أسدا يرمي ما لم يحصل العلم بصدوره واقترانه بلفظ الأسد لا يصلح لصرف الأسد عن ظاهره.
ومن المعلوم أن دليل صدورهما إنما يفيد التعبد بآثار صدورهما، لا بآثار القطع بصدورهما، فلا يكون حاكما على دليل اعتبار ظهور الظاهر، فيكون الحال في الصورتين أيضا كما في الظاهرين من جهة حصول التحير فيهما في فهم المراد الموجب لدخولهما في الأخبار العلاجية.
لأنا نقول: المتوقف على العلم إنما هو الحكم بالصرف والعمل بمقتضاه، لا نفس الصرف، بل إنما هو من لوازم ذات القرينة، فالعلم معتبر بعنوان الطريقية لا السببية، فيقوم غيره مقامه.
إن قيل: سلمنا أن الصرف من لوازم صدور النص والأظهر، لكنه من اللوازم العادية فلا يقتضي دليل صدورهما ترتيبه عليهما حال الشك في الصدور.
309

قلنا: كونهما قرينتين في الظاهر ومتصرفين فيه من أحكام المحاورة (1) وهي وان لم يكن أصل جعلها من الشارع، بل من العرف من زمان آدم عليه السلام منذ بنوا على كشف مقاصدهم بالمحاورة، لكن بعد جعلها منهم قد اتخذها كل متكلم في أي زمان بعدهم أحكاما لنفسه في محاوراته وأتبعهم فيها من غير أن يحدث في محاوراته أحكاما أخر وراء تلك الأحكام، فإذا كان هو الشارع - كما هو المفروض - فهي من أحكامه التي التزم بها في محاوراته المترتبة على كلامه الصادر منه، فيكون مقتضى دليل صدور ما شك في صدوره عنه ترتيب تلك الأحكام أيضا.
إن قيل هب إن ذلك من الأحكام الشرعية المترتبة على صدور النص والأظهر لكن دليل صدورهما لا يقتضي إلا التعبد بالاحكام الشرعية التي يكشفان عنها وأما الأحكام الشرعية التي أخذ نفس الصادر موضوعا لها لا طريقا إليها فلا، ومن المعلوم أن النص والأظهر أنفسهما موضوعان لذلك الحكم، أعني كونهما متصرفين في الظاهر وليسا طريقين إليه، لعدم كشفهما عنه كشف الطريق عن مؤداه.
قلنا: الظاهر، بل المعلوم إفادة أدلة اعتبار خبر الواحد التعبد بجميع الأحكام المترتبة على صدوره واقعا، سواء كانت هي مما يكون ذات الخبر موضوعا لها أو مما يكون هو طريقا إليها، ويكشف عن ذلك وجوب ترتيب أحكام الإعراب والبناء على الأدعية المحكية عن أهل العصمة عليهم السلام بطريق الآحاد مع أنها من أحكام ذوات تلك الأدعية على تقدير صدورها، فإن ذلك لا يكون بمقتضي دليل خاص، بل حكموا به بمقتضى دليل التعبد بصدورها،

(1) وهذا نظير أحكام الإعراب والبناء في الألفاظ العربية المجعولة من واضعها فاتخذها غيره أيضا أحكاما لنفسه في محاوراته حتى الشارع. لمحرره عفا الله عنه.
310

فافهم واغتنم والله العالم.
ثم إن ما ذكرنا من لزوم الأخذ بمقتضي النص والأظهر، والتأويل في الظاهر إنما هو بالنظر إلى ذات النص والأظهر وإلى ذات الظاهر مع قطع النظر عن الموانع الخارجية، إذ قد يكون وجه التأويل في الظاهر في غاية البعد كما إذا كان نسخا، فبعده يمنع من العمل بقاعدة الجمع بل لا بد من الرجوع إلى الاخبار العلاجية الحاكمة بطرح أحدهما تعيينا أو تخييرا.
ثم إنه ظهر مما ذكرنا - من عدم الفرق في الظاهرين بين أقسامهما من حيث حصول التحير في الكل ودخولها في الأخبار العلاجية لذلك حتى العامين من وجه - ضعف التفصيل بينهما وبين غيرهما من أقسام الظاهرين الذي حكاه المصنف (قدس سره) عن بعض بإخراجه إياهما عن مورد الأخبار العلاجية وإدخاله غيرهما فيها محتجا عليه بأن الرجوع إلى المرجحات السندية فيهما على الإطلاق يوجب طرح الخبر المرجوح في مادة الافتراق، ولا وجه له (1)، والاقتصار في الترجيح بها في خصوص مادة الاجتماع التي هي محل المعارضة، وطرح المرجوح بالنسبة إليها مع العمل به في مادة الافتراق بعيد عن ظاهر الأخبار العلاجية (2). انتهى.
وكأن نظره في الاستبعاد المذكور إلى ما هو المقرر عند العرف من العمل بأخبارهم من حيث الظن بالصدور، فزعم أن اعتبار أخبار الآحاد في الشريعة - أيضا - على ذلك الوجه، فإنه لا يمكن التبعيض في صدور أحد العامين من وجه فيظن بصدوره في مادة الافتراق وعدم صدوره في مادة الاجتماع.
وتوضيح الضعف: أنا نختار الشق الثاني وهو الترجيح بتلك المرجحات

(1) وجهه أن التنافي بينه وبين الراجح في مادة الاجتماع لا يقتضي ذلك. لمحرره عفا الله عنه.
(2) زعم أن ظاهرها انما هو طرح إلى المرجوح رأسا. لمحرره عفا الله عنه.
311

في خصوص مادة الافتراق ولا يلزم منه التبعيض في صدور المرجوح، فإن اعتبار أخبار الآحاد في الشريعة إنما هو من باب التعبد من غير أن يكون دائرا مدار الظن كما هو الحال في اعتبارها عند العرف.
نعم غلبة مصادفتها للواقع قد لوحظت في اعتبارها على وجه كونها حكمة ومعنى التعبد بها إنما هو وجوب ترتيب الآثار والأحكام الشرعية المترتبة عليها على تقدير صدورها واقعا عليها حال الشك في صدورها - كما مر غير مرة - ومن المعلوم أن التعبد ليس كالصدور في عدم قابليته للتبعيض، بل هو قابل له، فيمكن أن يتعبدنا الشارع بترتيب آثار صدور المرجوح في مورد الافتراق مع عدم تعبده بترتيب آثار صدوره في مورد الاجتماع، فإذا أمكن فيه ذلك، والمفروض كونه جامعا لشرائط الحجية والاعتبار، وأنه لا مانع من إيجاب العمل به إلا معارضته بأقوى منه المتقدم عليه لقوته لأجل المرجح، فلا بد من رفع اليد عنه بمقدار ما يزاحمه المعارض وهو آثاره بالنسبة إلى مورد الاجتماع فيترتب عليه آثاره في مورد الافتراق، ووجوب ترجيح الراجح عليه ليس معناه التعبد بعدم صدوره في مورد الاجتماع، بل معناه التعبد بالراجح فيه، بمعنى التعبد بآثار الراجح فيه دون آثار المرجوح فيه.
وبعبارة أخرى: معنى وجوب الترجيح بالمرجحات أنه لو فرض الدوران بين ذيها وبين فاقدها في التعبد بآثار صدورهما يجب التعبد بآثار ذيها في مورد الدوران والتعارض دون التعبد بآثار فاقدها فيه، والدوران إنما هو ينشأ من جهة التعبد بآثارهما، لا من جهة نفس صدورهما، ضرورة إمكان صدور النصين المتعارضين فضلا عن الظاهرين المبحوث عنهما، بل وقوعه في الجملة في الشريعة.
فإن قلت: ما الفرق بين الترجيح بين العامين من وجه على هذا النحو وبين العمل فيهما بقاعدة الجمع، فإن مقتضاها - أيضا - أخذ مقتضى أحدهما في مورد الاجتماع حيث أن الجمع بينهما يحصل بالتأويل في أحدهما، وهو بأن
312

مورد الاجتماع عن أحدهما ويدخل في الآخر ويثبت له حكمه.
قلنا: بين المقامين بعد المشرقين فإن المفروض كون العامين وجه المتعارضين ظاهرين وقد عرفت أن معنى الجمع إنما هو التعبد بسندي المتعارضين والحكم بصدورهما ولازمه إجمالهما إذا كانا ظاهرين والتزام التأويل في أحدهما لا بعينه إذا لم يكن شاهد من الخارج على التعيين، لعدم إمكان الأخذ فيه بالمرجحات السندية، إذ معنى الأخذ بها إنما هو التعبد بذيها خاصة في مورد التعارض، والمفروض بمقتضى قاعدة الجمع التعبد بصدور كلا المتعارضين، وإنما الذي يمكن الأخذ به فيه هي المرجحات الراجعة إلى قوة الدلالة المفروضة العدم في المقام أو شاهد خارجي وهو غير مفروض في السؤال عن الفرق، مع أنه لا يجب وجوده في جميع الموارد بل قد يوجد وقد لا يوجد.
هذا بخلاف ما إذا عملنا بالمرجحات السندية على الوجه المتقدم، إذ حينئذ يكون مورد الاجتماع محكوما بدخوله في ذيها خاصة - في مرحلة الظاهر - من غير تردد وتحير وانتظار شاهد خارجي، فاحفظ ولا تنس.
قوله - قدس سره -: (فحكمهما حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما إلى شاهدين) (1)
يعني المحتاجين في الجمع بينهما إلى التأويل في كليهما معا فعبر عن التأويلين بالشاهدين تنبيها على توقف التأويل - فيما إذا لم يكن أحد الخبرين بنفسه قرينة على التصرف والتأويل في الآخر - على ورود شاهد من الشارع
عليه من غير فرق بين الواحد منه وبين المتعدد، فلا يجوز المبادرة إليه مطلقا من غير دليل شرعي عليه، وقد مر مرارا أن غاية ما يتخيل كونه شاهدا عليه في الظاهرين دليل اعتبار صدورهما، وقد مر دفعه بأنه لا حكومة له على دليل
313

اعتبار الظهور، بل هما متعارضان من غير أولوية له عليه، هذا.
ثم إنه بقي شيء كان الأنسب جعله خاتمة لمسألة أولوية الجمع. وقد غفلنا عن ذكرها هناك، ولما كان ذكرها هنا - أيضا - لا يخلو عن مناسبة، فالحري التنبيه عليه هنا، وهو أن المتعارضين إذا كان أحدهما نصا أو أظهر فيعمل فيهما بقاعدة الجمع بجعل النص والأظهر متصرفين في الظاهر - كما مر - فعلى هذا يكون شأنهما شأن القرائن القطعية الصدور القائمة على إرادة خلاف الظاهر من الخطاب، فالشأن إذن بيان شأن تلك إظهارا لشأنهما.
فاعلم أنها إما منفصلة أو متصلة، كالشرط، والغاية والوصف، والاستثناء (1) على أظهر الاحتمالين في الأخير.
وشأنها على الأول إنما هو مجرد إفادة أن المراد بالخطاب خلاف ظاهره من غير كونها مزيلة لظهوره ذلك الخطاب العرفي الحاصل له بدونها، وموجبة لإجماله، ولا معينة للمراد منه - أيضا - بل يتوقف التعيين على قرينة أخرى غيرها.
نعم لو وردت قرينة على المراد أولا فهي مغنية عن تلك، فإن لازمها الكشف عن أصل التأويل أيضا.
والحاصل: أن غاية ما يترتب على تلك إنما كونها دليلا على التأويل فقط.
وأن الخطاب معها من المؤولات لا المجملات.
وأما على الثاني، فهي مزيلة لظهور ذلك الكائن له بدونها وموجبة لإجماله - أيضا - (2) إذا لم يكن من العمومات أو المطلقات، بمعنى عدم ظهور معها في

(1) إذ قد يتوهم كونه من القيود المنفصلة، ولعله لجعله مقام قولنا أستثنيه فيكون كلاما تاما، لمحرره (عفا الله عنه).
(2) إذا الكلام المنكشف بها لا يعد في العرف من الظواهر. لمحرره عفا الله عنه.
314

المعنى المراد المخالف لظاهره الأولي - أيضا - فيتوقف تعيينه على قرينة أخرى - كما في الفرض الأول - فهي حينئذ صارفة فقط، وأما إذا كان من أحدهما فهي موجبة لظهوره في تمام الباقي فتكون معينة - أيضا - ولما كان النص والأظهر المبحوث عنهما في المسألة من القسم الأول، لفرض كون كل منهما كلاما مستقلا حيث أن الكلام في الخبرين المتعارضين، والخبر لا يكون خبرا إلا بكونه كلاما تاما، فيكون النص والأظهر المفروضان - في المسألة - من القرائن المنفصلة، فلهما شأنها، وقد أشرنا في طي بعض كلماتنا المتقدمة إلى ذلك أيضا.
ومن هنا يظهر أنا لو عملنا في الظاهرين - أيضا - بقاعدة الجمع فلا يلزم منه إجمال شيء منهما، بل غاية ما يترتب عليها التزام التأويل في أحدهما إذا حصل الجمع به، أو في كليهما إذا توقف عليه، إذ يكون حينئذ كل منهما - بمقتضى دليل صدوره - دليلا على التأويل في الآخر، فيعمل بمقتضى كل منهما في الآخر بالتزام التأويل فيه إذا توقف الجمع على التأويل في كليهما، أو بمقتضى أحدهما لا بعينه، بمعنى التزام تأويل واحد في أحدهما لا بعينه إذا حصل بتأويل واحد.
وعلى الأول يحتاج كل منهما إلى شاهد على تعيين المراد.
وعلى الثاني يكفي شاهد واحد، لفرض التزام التأويل في أحدهما مع بقاء الآخر على ظاهره، بمعنى التزام كون المراد ظاهره، فالمحتاج إليه إنما هو أحدهما.
نعم على الثاني لا بد من شاهد آخر لتعيين مورد التأويل فيهما، فيحتاج الجمع على الثاني - أيضا - إلى شاهدين، ونظر المصنف (قدس سره) إنما هو إلى الشاهد على تعيين المراد وهو واحد على الثاني، فلذا عبر عن الظاهرين الذين يحصل الجمع بينهما بتأويل واحد في أحدهما بالمحتاجين إلى شاهد واحد، والحاجة إلى شاهد آخر على الفرض الثاني إنما هو فيما إذا لم يكن الشاهد على المراد خطابا آخر يفيد كون المراد من خصوص أحدهما خلاف ظاهره، وأما إذا كان
315

هو، فيغني عن الشاهد على مورد التأويل، إذ لازمه تعيين مورده - أيضا - إلا أنه بحسب الاعتبار متعدد وان كان بحسب الذات واحدا، وكيف كان فلا يمكن استفادة مورد التأويل من أحد الظاهرين أو من كليهما على الفرض الثاني، بخلاف النص والظاهر والظاهر والأظهر، فإن كلا من النص والأظهر دليل على أصل التأويل وعلى تعيين مورده - أيضا - إلا أن تعيين المراد يتوقف على قرينة أخرى.
ثم إن القرينة على تعيين المراد بعد ثبوت أصل التأويل وثبوت مورده إنما هي القرينة المعينة له بعد صرف اللفظ عن ظاهره وهي أحد أمور:
أحدهما: انحصار المعنى المخالف للظاهر - الذي يصح إرادته منه بعد عدم إرادة ظاهره - في واحد.
وثانيها: أقربية بعض المعاني المخالفة له - استعمالا، أو اعتبارا إن اعتبرناه مطلقا أو حيث اعتبرناه - فيما إذا تعددت.
وثالثها: غلبة وجود بعضها إن اعتبرناها.
ورابعها: كون اللفظ المؤول على وجه يكون ظاهرا في إرادة بعض المعاني بنفسه كما في العمومات المخصصة على بعض الوجوه فيها ولعله أظهر، فإن الظاهر أن ألفاظ العموم في مقام قضايا جزئية متعددة يتعدد أفرادها بحيث يكون ظاهرة في إرادة هذا الفرد وذاك، وهكذا إلى تمام الأفراد على وجه إذا قامت قرينة على عدم إرادة بعض تلك الأفراد فهي لا يرفع ظهورها في إرادة غير الخارج منها، الثابت لها بدونها، بل هي ظاهرة في إرادة غير ذلك الفرد حينئذ بالاقتضاء الأولي، فكأن تلك القرينة رفعت قضية واحدة جزئية من القضايا الجزئية التي يكون العام في مقامها، هذا.
أو من غير الأمور المذكورة من الخصوصيات اللاحقة لبعض الموارد الخاصة التي لا تندرج تحت ضابط وقد تكون خطابا مستقلا جيء به ليفسر
316

المراد به.
قوله - قدس سره -: (وبالجملة إن الخبر الظني إذا دار الأمر بين طرح سنده وحمله وتأويله، فلا ينبغي التأمل في أن المتعين تأويله ووجوب العمل على طبق التأويل) (1)
قد يتوهم التدافع بين هذا الذي ذكرنا وبين منعه عن الأخذ بقاعدة الجمع في الظاهرين، وكذا بينه وبين منعه من العمل بها في النص والظاهر، والظاهر والأظهر، إذا انحصر وجه الجمع في النسخ.
لكنه مدفوع بقوله (إذا دار الأمر) فإن الدوران لا يحصل بين أمرين إلا مع إمكان كل منهما على نحو إمكان الآخر وأما مع امتناع أحدهما فلا، بل يتعين الآخر، ومنعه من الأخذ بمقتضى قاعدة الجمع في الظاهرين، وفي النص والأظهر مع الظاهر إذا انحصر وجهه في النسخ إنما هو لعدة الجمع في تلك الموارد ممتنعا عرفا، فلا دوران فيها عنده بين الجمع والطرح، فمرجع كلامه فيها إنما هو إلى تشخيص الصغرى، ومرجعه هنا إلى
الكبرى.
قوله - قدس سره -: (فلنرجع إلى ما كنا فيه... - إلى قوله -:
ومرجعها إلى ترجيح الأظهر على الظاهر) (2)
تخصيصه مورد الترجيح بالظاهر والأظهر لأجل أن الترجيح بين دلالتين فرع تعارضهما، وقد مر غير مرة أنه لا يصلح ظهور الظاهر لمعارضته لنصوصية النص، لعدم إمكان التأويل في النص، بخلاف الأظهر، فإنه يمكن فيه التأويل، فيمكن معارضة الظاهر معه إلا أنه يقدم عليه لقوله.
قوله - قدس سره -: (والأظهرية قد تكون بملاحظة خصوص
317

المتعارضين من جهة القرائن الشخصية وهذه لا يدخل تحت ضابطة) (1)
وجه عدم دخولها تحت ضابطة اختلافها باختلاف الموارد والأشخاص، أما اختلافها باختلاف الموارد فواضح، وأما هو باختلاف الأشخاص، فلأنه ربما يكون بعض القرائن الشخصية بحيث يتوقف فهمها على الذوق السليم والفطانة، فلا يكون قرينة لغير الفطن، وأيضا قد يكون بين متكلم وبين شخص خاص عهد يوجب ذلك أظهرية اللفظ في المعنى المعهود لذلك الشخص دون غيره.
ثم إنه إذا دار الأمر بين الأخذ بمقتضى القرائن الشخصية وبين الأخذ بمقتضى القرائن الصنفية، أو النوعية، يتعين الأول، ضرورة كون اللفظ مع الشخصية ظاهرة فيما تقتضيه هي، بحيث لا أثر حينئذ لغيرها من القرائن، وإذا دار الأمر بين الأخذ بمقتضى الصنفية وبين الأخذ بمقتضى النوعية بتعين الأول لما ذكر في وجه تقديم الشخصية.
قوله - قدس سره -: (في بعض أفراد العام والخاص) (2)
وهو الخاص المتقدم مع العام المتأخر، فإنه يدور الأمر فيهما بين أن يكون العام ناسخا للخاص وبين كون الخاص مخصصا له وبيانا، وأما العكس وهو صورة تأخر الخاص فلا يعقل الدوران بينهما فإن الخاص المتأخر إن كان صادرا قبل حضور وقت العمل فيتعين كونه مخصصا، إذ يشترط في النسخ صدور الناسخ بعده، وإن كان صادرا بعده، فيتعين كونه ناسخا: إذ المخصص بيان للعام ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة. فتأمل (3).

(1) وجه التأمل أنه يمكن تعبد الشارع بمقتضى عموم العام في مرحلة الظاهر مع كون المراد منه واقعا هو الخاص مع عدم بيانه وقت حضور العمل، فلا يمتنع تأخير البيان عن وقت العمل مطلقا، بل إنما يمتنع مع عدم إرادة الشارع العمل بمقتضى العام وتعبده به في مرحلة الظاهر، بل كان مراده العمل به في
بعض أفراده، ومورد الحاجة إلى البيان حقيقة إنما هو هذا القسم خاصة، لعدم الحاجة إليه في الأول، فيصح أن يقال إنه يصح تأخير البيان عن وقت الحاجة بقول مطلق إلا أن ذلك لا يوجب تعيين كون الخاص في مورد الفرض ناسخا، لأنه لم يفرض فيه كون المراد هو العمل بالعام في غير مورد الخاص على تقدير كونه بيانا، فمع إمكان ذلك الذي ذكرنا يتحقق الدوران فيه بين كونه مخصصا وبيانا وبين كونه ناسخا إذا كان مجملا في المورد، فلا بد من فرض امتناع الدوران فيما إذا علم من الخارج عدم تعبد الشارع بمقتضى العموم على تقدير تخصيصه واقعا. لمحرره عفا الله عنه.
318

قوله - قدس سره -: (فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات) (1)
توضيح القياس أنه لا ريب أن النبي صلى الله عليه وآله ولم يبين جميع الأحكام الواقعية للموجودين في زمنه في أول بعثته دفعة، بل إنما بينها لهم على التدريج إلى يوم ارتحاله إلى الدار الآخرة، كما يظهر من الأخبار والآثار المأثورة عن أهل بيته الأطهار سلام الله عليهم مع أنهم كانوا مشاركين لغيرهم في جميع الأحكام الواقعية وليس ذلك إلا لأجل أن الشارع جعل أحكامهم - في مرحلة الظاهر قبل بيان تلك التكاليف - مقتضى أصالة البراءة العقلية وهو التخيير والإباحة لأجل مصلحة من التسهيل عليهم أو غيرها من المصالح، ورفع ذلك المقتضى عنهم بالنسبة إلى كل مورد ببيان التكليف الواقعي الثابت لذلك المورد واقعا، فإذا جاز ذلك، بل ثبت وقوعه، جاز أن يكون حكمهم في مرحلة الظاهر في موارد الخطابات العامة أو المطلقة هو مقتضى العموم والإطلاق لأجله مصلحة مع كون الحكم الواقعي لهم ثابتا للخاص، إذ مع عدم فرض المصلحة لا يصح إيقاع المكلف على خلاف الواقع مطلقا ومعها لا فرق بين الموارد قطعا.
وتوهم الفرق بين المقامين بأن غاية ما في المقيس عليه إنما هو عدم بيان الشارع للأحكام الواقعية وهو لا يستلزم قبيحا، لعدم استناد فوت الواقع على
319

المكلف إليه حينئذ، لمكان إمكان الاحتياط في موارد أصالة البراءة، بخلاف المقيس، فإنه ببيانه للعدم يغر المكلف حيث أنه يزعم أن مقتضى العموم هو الواقع مع أن الواقع خلافه، فيكون فوته عليه - حينئذ - مستندا إليه، فيكون قبيحا.
مدفوع: بأن مفاد العام - أيضا - ليس قطعيا حتى لا يمكن معه الاحتياط بل احتمال مخالفته للواقع قائم معه، فيكون فوته على المكلف مستندا إلى اختياره فتأمل (1)، وغاية ما يترتب على تجويز الشارع العمل بمقتضى العموم إنما هو عدم العقاب على مخالفة التكاليف الواقعية المسببة من العمل بمقتضى العموم، ومن المعلوم أنه لا قبح في عدم العقاب، بل يقبح ثبوته مع تجويزه العمل بالعام المؤدي إلى المخالفة كقبح ثبوته في المقيس عليه أيضا، فإنه وإن فرض فيه عدم بيانه شيئا للمكلف، إلا أنه لما كان البيان عليه ولا طريق للمكلف إلى تكاليفه سوى بيانه فيكون سكوته بمنزلة بيانه للعدم من حيث استناد مخالفة الواقع إليه فيهما.
والحاصل: أنه مع وجود المصلحة لا قبح في بيانه للعدم، كعدم قبح سكوته عن البيان معها، ومع انتفائها يقبح كل منهما، لأن إخفاء المصالح والمفاسد على المكلف سواء كان بالسكوت عن البيان رأسا أو ببيان العدم قبيح إذا لم تكن مصلحة تقتضيه، ومعها لا قبح فيه بوجه مطلقا.
قوله - قدس سره -: (لأن الحكم بالإطلاق من حيث عدم البيان

(1) وجه التأمل أن المفروض تكليف الشارع ظاهرا بالعمل بالعموم، فاحتمال الخلاف إنما هو في مؤدى العموم، لا في التكليف بالعمل بمقتضاه، فإنه قد فرض قطعيته ووقوعه واقعا.
وبعبارة أخرى: النزاع في أنه يجوز أن يكلف الشارع بالعمل بمقتضى العموم مع كون مراده الخاص أو لا؟ لا في أنه هل يجوز احتمال أن يفعل الشارع هكذا نعم على تقدير ثبوت إمكانه ينفع احتماله في موارد الجمع، إذ معه يمكن أخذه طريقا للجمع. لمحرره عفا الله عنه.
320

والعام بيان.). (1)
فيه: أن عدم البيان الذي هو جزء من مقتضى ظهور المطلق في الإطلاق إنما هو عدم البيان في مقام البيان، لا عدمه إلى آخر الأبد، فإذا أحرز كونه في مقام البيان مع فرض ورود بيان في ذلك المقام فيتنجز الحكم بالإطلاق، لانعقاد ظهور المطلق فيه حينئذ بحصول ما علق عليه، والبيان المتأخر عن ذلك المقام الذي منه العام لم يعلق عليه ظهوره فيه حتى يدور الأمر بين المعلق والمنجز، فيرجح المنجز، بل هو معه حينئذ من قبيل المنجزين، فلا يعقل ترجيح أحدهما بكونه منجزا لاشتراكه بينهما، ولو لا ذلك لم يجز التمسك بواحد من المطلقات لأحد إلى آخر الأبد لقيام احتمال ورود بيان لها فيما بعد البتة، وهو كما ترى.
فإن قلت: إن المصنف (قدس سره) لم يصرح بكون العام - المعارض للمطلق، الذي حكم بترجيحه عليه - متأخرا عنه، بل يحتمل أن يكون مراده الأعم الشامل للمقارن أو يكون خصوص المقارن.
قلنا: نعم، بل المعلوم إرادة الأعم، فإنه في مقام بيان حكم تعارض العام والمطلق مطلقا على وجه لم يهمل بعض موارده، لكنها لا يصحح ما ادعاه مطلقا، بل يبقى الإرادة على حاله بالنسبة إلى العام المتأخر، فكان عليه التفصيل بينه وبين المقارن، هذا.
ثم إنه - بعد ما انجر الكلام هنا إلى شرائط ظهور المطلق في الإطلاق - قال (دام ظله): ويشترط إحراز كون المتكلم في مقام البيان حال التكلم، كما مرت الإشارة إليه.
وبعبارة أخرى: الشرط في ظهور المطلق في الإطلاق أمران:
أحدهما: كون المتكلم في مقام البيان حال التكلم، فلو لم يكن غرضه ذلك
321

في تلك الحال، ثم تبدل قصده إلى البيان بعدها إلى أول وقت العمل، وعلمنا من حاله ذلك لا يكون ذلك موجبا لظهور المطلق في الإطلاق، لأنه حين صدوره كان مجملا لم يقصد به العموم أو الخصوص، وبعد تبدل قصده
إلى البيان لا بد من بيان آخر غير ما ذكره أولا، لعدم صلاحيته لإفادة مقصوده، فتصديه للبيان حينئذ يجدي في صدوره ثانيا، والصادر ثانيا كلام آخر، فتكون العبرة بكونه في مقام البيان في تلك الحال، فلا بد من إحرازه في التمسك بإطلاق المطلق، ولا يخفى أن إحرازه في غاية الإشكال، إذ لا يجب عقلا على المتكلم بيان تمام مقصوده حال التكلم، بل له تأخيره إلى أول وقت العمل، ولم يثبت عليه - أيضا - حتى يحرز بها ذلك، ولأجل ذلك يكون المطلقات الواردة في الشريعة عندي مجملات مهملات.
ومن هنا يظهر ما في دعوى بعضهم أن الأصل كون المتكلم في مقام البيان، لعدم صلاحية شيء لكونه مدركا له عدا الغلبة، وقد عرفت حالها.
وثانيهما: عدم ورود بيان في ذلك كما مر، انتهى ما أفاده (دام ظله).
أقول: الإنصاف ندرة كون المتكلم في مقام الإجمال حال التكلم وتأخير البيان إلى أول وقت العمل غاية الندرة، لقلة ما يقتضيه غاية القلة جدا ولأجل ذلك ترى العرف أنهم إذا علموا من أحد كونه في مقام الإجمال حال التكلم يسألونه عن الداعي له إليه بخلاف ما إذا علموا منه كونه في مقام البيان في تلك الحال، مع أن البيان - أيضا - كالإجمال يحتاج إلى داع، فكأن القاعدة عندهم إنما هو البيان في تلك الحال بحيث بعد الإجمال فيها في نظرهم مخالفا للقاعدة ومحتاجا إلى سبب وعلة، فلا تغفل ولا تقلد.
خلق را تقليدشان بر باد داد إي دو صد لعنت بر اين تقليد باد
رب ارفعني عن حضيض التقليد إلى أوج الاجتهاد بنبيك محمد وآله الأمجاد صلواتك عليه وعليهم إلى يوم الميعاد.
322

قوله - قدس سره -: (نعم إذا استفيد العموم الشمولي من دليل الحكمة كانت الإفادة غير مستندة إلى الوضع) (1)
يعني أنه يكون كالمطلق تعليقيا فيتعارضان، فلا بد من ملاحظة الترجيح بينهما.
أقول: ولا يبعد حينئذ ترجيح التخصيص - أيضا - لغلبته.
قوله - قدس سره -: (ومما ذكرنا يظهر حال التقييد مع سائر المجازات) (2)
فإن المجاز هو غير التخصيص إن كان مخالفا لظهور اللفظ وضعا، فلا يصار إليه، بل يلزم بتقيد المطلق، فإن ذلك الظهور منجز، فيقدم على ظهور المطلق التعليقي كتقديم ظهور العام وضعا عليه، وإن كان مخالفا لظهوره الناشئ من دليل الحكمة، فيقع الدوران بينه وبين التقييد، لدوران الأمر حينئذ بين التعليقين فلا بد من ملاحظة الترجيح.
قوله - قدس سره -: (ولم يقل ذلك في العام المخصص فتأمل) (3)
كأن وجه التأمل أن كثرة التخصيص في العام أيضا على وجه قيل أنه ما من عام إلا وقد خص.
أقول: لا يخفى أن ما قيل معناه أنه لا يوجد شيء من العمومات أريد منه العموم بل كل واحد منها وقع التخصيص عليه ولو بمخصص عقلي لا أن كل واحد منها غلب فيه التخصيص.
هذا مع أنا لو سلمنا غلبته في كل واحد منها فإنما هي بملاحظة مجموع
323

مراتب التخصيص، لا بالنسبة إلى كل واحدة منها مع عدم إمكانه في نفسه ولا بالنسبة إلى مرتبة خاصة، بخلاف صيغة الأمر، فإن غلبة الاستعمال المجازي فيها إنما تحققت بالنسبة إلى خصوص بعض معانيها المجازية، وهو الاستحباب، ومن المعلوم أنه يتعين الأخذ بالغلبة الشخصية في مقام الترجيح.
لكن الإنصاف اندفاع ذلك بأن الغلبة الشخصية انما تجدي في تعيين المراد من بين المجازات من لفظ واحد بعد ثبوت عدم إرادة الحقيقة منه كما إذا ورد (أكرم العالم مثلا) وعلم أنه ليس المراد إكرام مطلق طبيعة العالم بل شخص خاص منها وتردد هو بين زيد - الذي هو من النحويين - وبين عمرو - الذي هو من الفقهاء - وفرضنا ان استعمال العالم في خصوص زيد أكثر منه في خصوص عمر ومع تحقق كثرة استعماله - أيضا - في مجموع آحاد الفقهاء بحيث تساوي كثرة استعماله في زيد، فيكون حمله على عمرو مقتضى الغلبة في نوع الفقهاء، وحمله على زيد مقتضى الغلبة الشخصية المختصة به، فيقدم الثاني لما مر.
لكن المفروض في المقام عدم ثبوت المجازية في خصوص شيء من العام والأمر، مع العلم بإرادة مخالف الظاهر من أحدهما إجمالا الداعي إلى الالتزام بالتأويل في أحدهما، والأمر دائر بين الأخذ بظهور العام والتأويل في الأمر وبين العكس، ومن المعلوم أن المرجح في هذا المقام إنما هو ما يوجب أظهرية دلالة العام على العموم من دلالة الأمر على الوجوب أو العكس ومن المعلوم أن الأظهرية إنما هي بواسطة قلة تصدم جهة الوضع بالاستعمال المجازي، فكل ما قل استعماله في خلاف ما وضع له بالإضافة إلى الآخر فهو أظهر، من غير فرق بين أن يكون كثرة الاستعمال المجازي - المصادمة لجهة وضع الظاهر - متحققة في معنى خاص من المعاني المجازية أو في ضمن مجموعها، فإن ضعف دلالته على إرادة الموضوع له إنما هو ناشئ عن كثرة إرادة خلاف الموضوع [له] لا عن كثرة إرادة معنى خاص من المعاني المخالفة له، فلا يقدح كثرة استعمال الأمر في
324

الندب في أضعفية ظهوره من ظهور العام إلا إذا كانت أقوى من كثرة التخصيص في ذلك العام المتحققة في جميع موارد استعماله المجازي من مراتب الخصوص.
والحاصل: أن الكلام في تشخيص الأظهر من اللفظين لتعيين مورد التأويل المعلوم إجمالا في غيره لا في تشخيص إرادة المعنى المجازي، والمرجح إنما هو قلة تصدم مقتضى الوضع بكثرة الاستعمال المجازي من غير فرق بين تحققها في معنى خاص وبين تحققها في مجموع معان مجازية، فالحكم بأظهرية العام في العموم متوقف على إحراز أكثرية استعمال الأمر في خلاف معناه الموضوع له من استعمال العام في خلاف ما وضع له وهو الخصوص، فلا يجدي أكثرية استعماله في خصوص الاستحباب من استعمال العام في خصوص مرتبة من مراتب الخصوص.
نعم إذا كان استعماله في خصوص الاستحباب أكثر من استعمال العام بالنسبة إلى جميع مراتب الخصوص فيجدي من جهة كون تلك الأكثرية محققة لعنوان أكثرية تصدم جهة الوضع الذي هو المناط في أضعفية الظهور ولا يبعد أكثرية استعمال أي من ألفاظ العموم في غير العموم بالنسبة إلى جميع مراتب التخصيص من استعمال الأمر في غير الوجوب مطلقا، فكيف باستعماله في خصوص الاستحباب، هذا فافهم جيدا.
قوله - قدس سره -: (ومنها تعارض ظهور الكلام في استمرار الحكم مع غيره من الظهورات) (1)
لا يخفى أنه كان المناسب إيراد ذلك عقيب الكلام في تعارض التخصيص
325

والنسخ، وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في تقديم ظهور الكلام في استمرار الحكم على غيره من الظهورات، لغلبة سائر الوجوه المخالفة للأصل بالنسبة إلى النسخ، مع أنه في نفسه - أيضا - نادر غاية الندرة جدا، وكفى بذلك حجة في أمثال المقام.
وقد يحتج لذلك بوجهين آخرين لا ينبغي الاعتماد على واحد منهما.
أحدهما: استصحاب عدم النسخ.
وفيه: ما ذكره المصنف (قدس سره) من أن الكلام في ترجيح أحد الظهورين على الآخر، ومن المعلوم المحقق في محله سقوط الأصول العملية في مرتبة الأدلة الاجتهادية مطلقا مخالفة كانت أو موافقة، وسواء كان العمل بها بعنوان كونها مرجعا أو بعنوان كونها مرجحة، فإنها غير صالحة لإفادة الظن حتى يقوى به الظهور الموافق لها، مع أنها على فرض إفادتها له لا يجدي، إذ الظن الحاصل منها إنما هو ظن بالواقع لا بإرادة المظنون من الخطاب، فيكون ظنا خارجيا غير صالح للترجيح به، إذ المدار فيه على قوة أحد الظهورين بالإضافة إلى الآخر، وذلك لا يفيد قوة الموافق له منهما.
هذا مضافا إلى عدم جريانه في نفسه - أيضا - في صورة تأخر الخاص عن العام وتردده بين أن يكون ناسخا أو مخصصا - بناء على إمكان الدوران بين النسخ والتخصيص حينئذ كما هو الظاهر - إذ على تقدير كونه مخصصا يكشف عن عدم ثبوت الحكم للعام بعمومه من أول الأمر فمع احتمال تخصيصه كما هو المفروض لا يمكن القطع بثبوته للعام في أول الأمر مع الشك في ارتفاعه بعده حتى يكون موردا للأصل.
وثانيهما، قولهم عليهم السلام (حلال محمد صلى الله عليه وآله حلال إلى
326

يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة) (1).
وتقريب الاستدلال به: أنه ليس المراد استدامة خصوص المباح والحرام المصطلحين إلى يوم القيامة، بل مطلق الأحكام المجعولة في شريعة محمد صلى الله عليه وآله، فالمراد أن كل حكم صادر من الله سبحانه وتعالى في شريعة محمد صلى الله عليه وآله مستمر إلى يوم القيامة، فيفيد الحديث الشريف أصلا كليا وهو عموم الاستمرار بالنسبة إلى كل حكم، فيكون ذلك مرجعا عند الشك في استمرار حكم لوجوب الاقتصار في تخصيصه على القدر المعلوم، هذا.
والذي يقتضيه النظر أنه على تقديره إفادة الحديث الشريف ذلك المعنى - أعني عموم الاستمرار بالنسبة إلى كل صادر في شريعة محمد صلى الله عليه وآله يتجه الاحتجاج به على المطلوب، لكن الكلام بعد في إفادته ذلك، فهاهنا موضعان:
أحدهما: في تمامية الاستدلال به على تقدير إفادته ذلك المعنى.
وثانيهما: في تحقيق أنه هل يفيد ذلك المعنى أو لا.
فلنقدم الكلام في الموضع الأول.
فاعلم ان الإنصاف أنه إذا كان مفيدا لذلك المعنى فيكون بعمومه مفسرا لذلك الدليل المقتضي بظاهره لنسخ حكم الدليل الآخر الظاهر في استمرار حكمه وحاكما عليه، فإن معناه حينئذ أن الشارع لم يعتن باحتمال النسخ، وحكم عليه بالعدم، فيكون مقتضاه من جهة عمومه الحكم بعدم النسخ المحتمل في مورد الفرض الذي يدل عليه ذلك الدليل، فيكون معناه عدم إرادة بيان انتهاء حكم الدليل الآخر الظاهر في الاستمرار من ذلك الدليل الدال على نسخ حكمه وانتهاء أمده، فيكون عموم الحديث الشريف مفسرا ومؤولا له إلى غير
327

ظاهره، فهو بنفسه كاف في البناء على عدم كون ذلك الدليل ناسخا وتأويله إلى غير ما يظهر منه ولو مع عدم ظهور الدليل الآخر في استمرار حكمه أيضا.
وربما يتمسك بالحديث الشريف في المقام بتقريب آخر، وهو أن المفروض ظهور الدليل الآخر في استمرار حكمه إلى الأبد مع ظهور الحديث - أيضا - بعمومه في ذلك، فحينئذ لو يبنى على نسخ حكم ذلك الدليل أخذا بظهور الدليل الظاهر في كونه ناسخا له يلزم طرح ظهورين وارتكاب الوجوه المخالفة للأصل في موردين، حيث أن كلا من تخصيص عموم الحديث بالنسبة إلى مورد الفرض وتأويل ظهور ذلك مخالف للأصل، هذا بخلاف ما إذا يبنى على عدم النسخ، فإنه يلزم منه مخالفة الأصل، في مورد واحد وهو ظهور ذلك الدليل المقتضي للنسخ، فإذا دار الأمر بين الأقل والأكثر من الوجوه المخالفة للأصل تعين ارتكاب الأقل منها، فيتعين الأخذ بظهور ذلك الدليل المقتضي لاستمرار الحكم، انتهى.
وقد ظهر ما في هذا التقريب مما قدمنا.
وتوضيح فساده أنه قد مر أن ظهور الحديث حاكم على ظهور ذلك الدليل في النسخ، ومن المعلوم عدم المعارضة بين الحاكم والمحكوم عليه حتى يلاحظ الدوران بينهما فيؤخذ به لأجل الترجيح، بل مرتبة المحكوم عليه متأخرة عن مرتبته فهو ساقط عن الاعتبار مع وجود الحاكم، لا أنه معارض له، فلا تغفل.
هذا خلاصة الكلام في الموضع الأول.
وأما الموضع الثاني:
فالحق فيه ما ذكره المصنف (قدس سره) من عدم إفادة الحديث الشريف لذلك المعنى.
وتوضيحه: أنه إذا جعل الحلال والحرام في الحديث كناية عن مطلق الأحكام فيكون معناه أن أحكام محمد صلى الله عليه وآله مستمرة من قبل الله
328

سبحانه وتعالى إلى يوم القيامة، فإن قولهم (حلال إلى يوم القيامة وحرام إلى يوم القيامة) المراد منهما أنه حلال من قبل الله تعالى وحرام من قبله إلى يوم القيامة.
والظاهر أنه مسوق لبيان عدم نسخ الله تعالى دين محمد صلى الله عليه وآله بدين آخر، فهو ساكت عن إفادة أن كل حكم منه في شريعة محمد صلى الله عليه وآله لم ينسخ بإثبات حكم مغاير له في مورد ذلك الحكم في شريعته صلى الله عليه وآله ولم يبين انتهاء أمده ببيان ذلك الحكم المغاير كما هو مبنى الاستدلال، فلا ينافي عدم استمرار بعض أحكامه صلى الله عليه وآله وانقطاع أمده بحكم آخر في شريعته.
قوله - قدس سره -: (ثم إن هذا التعارض إنما هو مع عدم ظهور الخاص في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء وإلا تعين التخصيص) (1)
يعني هذا النحو من التعارض - وهو تعارض الظهور في الاستمرار مع الظهور في العموم بالنسبة إلى كلام واحد الذي مورده ما إذا ورد عام وخاص متأخر عن العام - لا يتحقق في جميع صور ذلك المورد وإنما يختص بصورة عدم ظهور الخاص المتأخر في ثبوت حكمه في أول الشريعة.
ووجهه أنه إذا كان الخاص المتأخر ظاهرا في ذلك يكون ظهوره هذا حاكما على ظهور العام في ثبوت حكمه بالنسبة إليه أي إلى الخاص في الجملة، بمعنى أنه قرينة حينئذ على عدم إرادته من العام من أول الأمر، فيكون رافعا لاحتمال ثبوت حكم العام له من حين صدور العام إلى حين صدوره المستلزم للنسخ، إذ لا بد من رفع حكم العام عنه من حين صدوره إلى بعده لا محالة، فإن الخاص نص في هذا المقدار وإنما الشبهة في ثبوته له من حين صدور العام إلى حين صدوره، نظرا إلى ظهوره العام في ثبوت حكمه لكل فرد في الجملة، فعلى
329

تقدير ثبوت ذلك الحكم له من حين صدور العام مع فرض انقطاعه حين صدوره لا محالة يلزم النسخ وعلى تقدير
عدم ثبوته له في ذلك المقدار من الزمان - أيضا - لا يعقل النسخ فيه، إذ النسخ إنما هو الإعلام بانتهاء أمة الحكم الثابت للشيء واقعا، فمع عدم ثبوته له في الواقع أصلا يمتنع تحقق النسخ، وهذا لا يتوقف على اعتبار حضور وقت العمل في النسخ، بل يجري على عدم اعتباره أيضا، إذ عليه لا بد من ثبوته له قبل ذلك الوقت لا محالة، فإذا كان ظهور الخاص رافعا لاحتمال النسخ في العام بالنسبة إليه فيتعين التخصيص، فلا تعارض معه ولا دوران بين النسخ والتخصيص في العام حكميا.
وبعبارة أخرى أوضح إن للكلام المتضمن للعام ظهورين:
أحدهما في ثبوت حكمه لكل فرد من أفراده التي منها الخاص في الجملة.
وثانيهما ظهوره في استمرار ذلك الحكم لموضوعه من حين ثبوته إلى الأبد، ومن المعلوم أنه لا تعارض أولا وبالذات بين هذين الظهورين، وإنما جاء الدوران والتعارض من جهة التعبد بالخاص المتأخر - الذي هو نص في عدم ثبوت حكم العام له في الجملة مطلقا - إذ معه يدور الأمر بين الأخذ بظهوره في ثبوت حكمه لكل فرد في الجملة ليثبت به حكمه للخاص من حين صدوره إلى حين صدور الخاص، إذ به يتحقق العمل بذلك الظهور فيلزم منه طرح الظهور الآخر له، وهو ظهوره في استمرار حكمه فيما ثبت له إلى الأبد، إذ لا بد من رفع اليد عن حكم العام بالنسبة إلى الخاص من حين صدوره لا محالة لنصوصيته في هذا المقدار، فينافي ظهوره في الاستمرار وبين الأخذ بظهوره في استمرار حكمه إلى الأبد، وهو يناسب عدم ثبوت حكمه للخاص أصلا وخروجه منه من أول الأمر الذي هو معنى التخصيص، فإذا فرض ظهور الخاص المتأخر في ثبوت حكمه من أول الشريعة وخروجه عن حكم العام كذلك، فلا بد حينئذ من رفع اليد عن ظهور الكلام في عموم ثبوت حكمه لكل فرد بالنسبة إليه، وهذا هو معنى
330

تخصيصه بغير الخاص، فلا يكون للنسخ حينئذ مساس، فعلى هذا التقدير يكون العمل على مقتضى ظهوره في استمرار حكمه لما ثبت إلى الأبد، فإن مقتضاه ليس ثبوت حكمه لكل فرد بل إنما هو استمراره أينما ثبت (1).
قوله - قدس سره -: (نعم لا يجري في مثل العام المتأخر عن الخاص) (2)
يعني لا يجري ذلك النحو من التعارض في مثل العام المتأخر عن الخاص، فإن الظهور في عموم الحكم المستدعي إلى النسخ إنما هو للكلام المتضمن للعام، والظهور في استمرار الحكم المقتضي للتخصيص إنما هو للكلام المتضمن للخاص، فيكون الظهوران المتعارضان حينئذ في كلامين.
تشخيص موضوعي النص والأظهر في المتعارضات
قوله - قدس سره -: (فنقول توضيحا لذلك إن النسبة بين المتعارضات) (3)
الغرض من التعرض للمتعارضات بعد التعرض للمتعارضين ليس لأجل مخالفة حكمها مع حكمهما، بل الحكم في الجميع واحد، وهو تقديم النص والأظهر على الظاهر، والرجوع فيما لم يوجد أحدهما - أو كان كلاهما نصين - إلى الأخبار العلاجية.
بل إنما هو لأجل أنه قد يصعب تشخيص موضوعي النص والأظهر في المتعارضات، فقد يتوهم فيها نصوصية بعضها أو أظهريته بالنسبة إلى ما عداه مع أنه ظاهر حقيقة، وقد يتوهم ظهور بعضها مع أنه عند التأمل نص أو أظهر،

(1) وإن شئت قلت إن الشك في تخصيص العام ناشئ عن احتمال ثبوت حكمه للخاص في الجملة، فإذا كان الكلام المتضمن للخاص ظاهرا في ثبوت حكمه للخاص في أول الشريعة، المستلزم لعدم ثبوت حكم العام له رأسا، فيرتفع ذلك الشك ويبين تخصيص العام بغير ذلك الخاص، فيرتفع احتمال النسخ.
لمحرره عفا الله عنه.
331

فالنزاع في موارد الإشكال الآتية صغروي.
قوله - قدس سره -: (فإن كانت النسبة العموم من وجه وجب الرجوع إلى المرجحات) (1)
وذلك لما مر في المتعارضين من أن الأخص من شيء من وجه مع كونه أعم منه كذلك لا يوجب كونه كذلك أظهريته منه، بل يكونان من قبيل الظاهرين الذين لا مساس للجمع بينهما من حيث الدلالة.
نعم قد يكون أحدهما أظهر من الآخر من جهات أخر - ككونه أقل فردا من الآخر أو كون مورد الاجتماع أظهر أفراده وأندر أفراد الآخر أو كونه أغلب أفراده وغير الغالب من أفراد الآخر - فيجب حينئذ الجمع بينهما بإخراج مورد الاجتماع عن الآخر وتخصيصه بغيره، لكن الكلام في العامين من وجه مع قطع النظر عن الأمور الخارجية.
قوله - قدس سره -: (وإن كانت النسبة عموما مطلقا... - إلى قوله -: خصص بهما) (2)
وذلك لما مر ثمة من أن الأخص من شيء مطلقا أظهر منه لا محالة، فيقدم عليه لذلك، فلا يصار حينئذ إلى الأخبار العلاجية إلا إذا كانت المتعارضات للعام التي كل منها أخص منه مطلقا بأجمعها مستوعبة لجميع أفراد العام أو لأكثرها، بحيث لو خصص هو بها يلزم تخصيصه بأقل من أقل مرتبة من المراتب التي يجوز التخصيص إليها.
وهذا أحد موارد الإشكال المشار إليها الذي أشار إليه المصنف بقوله (قدس سره): (وإن لزم محذور مثل قوله: يجب إكرام العلماء ويحرم إكرام فساق
332

العلماء وورد يكره إكرام عدول العلماء، فإن اللازم من تخصيص العام بهما بقائه بلا مورد) لكنه (قدس سره) خص محذور لزوم عدم بقاء مورد للعام أصلا بالذكر وقد عرفت أن لزوم قلة مورده بحيث ينتهي إلى الأقل من أقل مراتب التخصيص - أيضا - محذور مثله (1)، فالأولى تعميمه - كما ذكرنا - والحكم في الصورتين واحد وهو أن يعمل في كل منهما بقاعدة التعارض بين النصين المتباينين، لأن مجموع الخاصين مباين، للعام ومناقض له، وكما أن كلا منهما نص في مدلوله كذلك العام نص في مدلوله في الجملة وهي أقل مراتب التخصيص كما أشار إليه (قدس سره) بقوله: (فحكم ذلك كالمتباينين، لأن مجموع الخاصين مباين للعام) ولما جاز المصنف (قدس سره) من هنا سريعا مكتفيا بالإشارة الإجمالية مع وجود المقتضي للتفصيل فنحن نبسط الكلام توضيحا للمقام مستعينا بالملك العلام تعالى شأنه العزيز ونبيه محمد وآله البررة الكرام صلواته عليه وعليهم إلى يوم القيام.
فنقول: إنه إذا كانت النسبة بين المتعارضان عموما مطلقا، فإن لم يلزم من تخصيص الأعم مطلقا بجميع الأخص منه كذلك أحد المحذورين المذكورين فلا بد من تخصيصه بالجميع، لفرض أن كلا منها نص في مؤداه أو أظهر، والعام ظاهر في أزيد من أقل مراتب التخصيص، والمفروض أن تلك بأجمعها مزاحمة له في أزيد من تلك المرتبة، فيكون المقام من قبيل تعارض النص أو الأظهر مع الظاهر وقد مر مرارا تعين المصير حينئذ إلى قاعدة الجمع، دون قاعدة العلاج المستفادة من الأخبار العلاجية.
وإن لزم منه أحد المحذورين، فلا مساس لتلك القاعدة بالنسبة إلى

(1) لكن ذكره (قدس سره) لذلك إنما هو من باب المثال من شمول إطلاق المحذور في قوله وإن لزم محذور للثاني أيضا. لمحرره عفا الله عنه.
333

الأقل من تلك المرتبة، بل يعامل بين العام ومجموع المتعارضات له التي هي أخص منه مطلقا في أقل مراتب التخصيص معاملة النصين المتعارضين لما مرت الإشارة إليه من نصوصية العام (1) بالنسبة إليه، وكل واحد من تلك المتعارضات وإن كان نصا في مؤداه لا يدافعه فيه بنفسه، بل بضميمة البواقي، فيكون طرفا التعارض
فيه مجموعها مع العام، فيعمل فيه بينهما بقاعدة العلاج، وفي أزيد منه بقاعدة الجمع، فإن رجح مجموعها عليه من حيث السند، أو أخذ به من باب التخيير كما إذا بان سند مجموعها مساويا مع سند العام يطرح العام رأسا، ولا يعمل به في شيء من مؤداه أما في أزيد من تلك المرتبة فللزوم إهماله فيه وعدم العمل به على تقدير الأخذ بسنده تعيينا، كما إذا كان سنده أقوى من سند مجموعها أو تخييرا كما إذا كان مساويا معه فإنه يتعبد حينئذ بآثار صدوره بالنسبة إلى تلك المرتبة خاصة، ويعمل بينه في أزيد منها وبين تلك المتعارضات بقاعدة الجمع، وحيث أنها نص أو أظهر بالنسبة إليه في الأزيد فلا بد من تخصيصه بها.
نعم لا تؤخذ بجميع تلك المتعارضات، لفرض استلزامه لإلقاء النص، وهو العام بالنسبة إلى تلك المرتبة مع فرض التعبد بسنده بالنسبة إليها، بل بغير واحد منها، بمعنى أنه يجعل مورد تلك المرتبة أحدها تعيينا أو تخييرا ويؤخذ بالباقي في تخصيصه بالنسبة إلى أزيد من تلك المرتبة، هذا هو الحال في صورة الأخذ بسنده، فكيف بصورة طرحه، فإن هذه الصورة أولى بذلك من تلك.
وأما إهماله في نفس تلك المرتبة فلفرض طرح سنده وعدم التعبد به فيها - أيضا -.

(1) ومن هنا ظهر أن الرجوع في مورد الفرض إلى قاعدة العلاج ليس خروجا عن قاعدة تعارض النص والأظهر مع الظاهر وهي الجمع بل إنما هو لأجل عدم الموضوع لتلك القاعدة في محل الفرض، لفرض رجوع التعارض إلى التعارض بين النصين. لمحرره عفا الله عنه.
334

وان رجح سنده على سند مجموعها أو أخذ به من باب التخيير فقد عرفت حكمه في طي الكلام في الفرض الأول.
ووجه عدم طرح مجموعها حينئذ مع كون طرف التعارض هو المجموع - ما مرت الإشارة إليه - من أن تدافعها للعام في تلك المرتبة إنما نشأت من ملاحظة اجتماعها خاصة فعلى تقدير الأخذ بسند العام فيها يكون الواجب طرحها على وجه يتحقق به رفع صفة الاجتماع والاقتصار عليه، ومن المعلوم تحققه بطرح بعضها فلا داعي إلى طرح الكل، فيكون طرح الباقي إلغاء للنص بلا سبب موجب.
والحاصل: أن كلا منها في حد نفسه مع عدم انضمامه إلى البواقي حاكم على العام، لفرض كونه نصا أو أظهر بالنسبة إليه، والمانع من تقديمه عليه فعلا إنما هو صفة الانضمام، فإذا رفعناها بطرح واحد منها يجب تقديم غير ذلك الواحد عليه وتخصيصه به في أزيد من تلك المرتبة إلى حيث استوعبته التخصيص من المراتب الفوقانية من مراتب العام وإن وصلت واستوعبت تمام تلك المراتب كما إذا كان مجموع موارد البواقي بمقدار تمامها، لعدم المانع حينئذ من ترتيب ما يقتضيه عليه من التقديم.
ثم إنه لا يخفى عدم التنافي بين نفس تلك المتعارضات للعام لمغايرة موضوع كل منها مع الموضوع في غيره، وشرط التعارض اتحاده بحيث لا يكفي مجرد الاختلاف في الحكم - كما عرفت في أول المسألة - إلا أنه تحقق التعارض بينها بواسطة أمر خارجي وهو التعبد بصدور العام تعيينا أو تخييرا المنافي لمجموعها من حيث المجموع بمقتضى الفرض المستلزم لطرح أحدها لا محالة لأجل ذلك.
فعلى هذا لا بد من العمل في نفس تلك المتعارضات بقاعدة التعارض، لعمومها لما كان التعارض ناشئا عن أمر خارجي، لعدم الفرق في العرف في إعمال
335

قاعدة الجمع في تعارض النص والأظهر مع الظاهر بين ما إذا كان منشأه تنافي مدلولي الدليلين أولا وبالذات كأن يكونا متناقضين أو متضادين، وبين ما إذا كان منشأه أمر خارجي موجب للدوران بينهما، والأخبار العلاجية - أيضا - عامة لكلا المقامين، لظهورها في بيان حكم صورة التحير بين الخبرين المتحقق في كل من المقامين على حد سواء إذا لم يكن أحد المتعارضين أقوى دلالة من الآخر فيجب فيها أولا ملاحظة قوة دلالته والترجيح بها وجعل المطروح فيها - هو الأضعف دلالة من الكل - خاصة إن كان مؤداه بمقدار منتهى التخصيص الذي يكون العام نصا فيه، وإلا بأن يكون أقل منه فهو مع ما هو الأقوى منه الأضعف بالنسبة إلى ما عداه، وهكذا.
وإن كان أحدها أقوى دلالة من الكل أو اثنان منها مع تساوي الباقي في قوة الدلالة لقدم ذلك الواحد، أو الاثنان، ويعمل بهما في تخصيص العام، ويرجع في الباقي إلى قاعدة العلاج.
وإن تساوى الجميع (1) فيرجع في الجميع إلى تلك القاعدة، وعلى تقدير عدم كفاية طرح واحدا تعيينا أو تخييرا والالتجاء إلى ضم آخر إليه كذلك، فإن كان مؤدى كليهما بمقدار منتهى التخصيص بحيث لا يزيد عنه، فلا إشكال، وإن كان أزيد منه ففي ترك العمل بهما في تمام مؤداها، أو الاقتصار فيه على ذلك المقدار فيما إذا كان أحدهما أو كلاهما قابلا للتأويل وجهان:
من فرض وجود المقتضي في كل منهما في ذاته، وإنما المانع الخارجي أوجب الخروج عنه، فلا بد من الاقتصار على مقدار يندفع به الضرورة.
ومن أنه على تقدير الاقتصار لا يتعين الأزيد من ذلك المقدار في أفراد خاصة، فيكون الكلام في قوة المجمل، فلا معنى للتعبد به في الأزيد لعدم إمكان

(1) بأن يكون كل واحد نصا أو أظهر بالنسبة إلى العام خاصة لا بالنسبة إلى غيره. لمحرره عفا الله عنه.
336

العمل به فيه فتأمل.
ثم إن المدار في الترجيح بين العام وتلك المخصصات على ثبوت المرجح للعام وحده بالنسبة إلى مجموع تلك، بحيث لا يكفي في ترجيحه عليها كون سنده أقوى من سند بعض منها مع مساواته لأسانيد البواقي، أو لمجموع تلك من حيث المجموع، بحيث لا يكفي كون سند بعضها أقوى من سنده مع كون سند بعض منها أضعف في ترجيحها عليه، بل يجب حينئذ ترجيح العام عليها، إذ المجموع باعتبار اشتماله على الأضعف منه يكون أضعف، إذ النتيجة تابعة لأخس المقدمتين. كما أن مدار التخيير على مساواة سنده لسند مجموع تلك من حيث المجموع بحيث لا مساس له بما إذا كان سنده مساويا لسند بعض، أو جملة منها مع كونه أضعف من سند بعضها، بل يجب حينئذ ترجيح تلك عليه، فإنها من حيث المجموع أقوى منه.
والسر في ذلك كله - ما مر - من أن التعارض إنما هو بين العام وبين مجموع تلك من حيث المجموع لا بينه وبين كل واحد منها مع قطع النظر عن الانضمام، إذ لا يناقضه واحد منها وحده وإنما هو خاص بالنسبة إليه، ولا معارضة بين العام والخاص، بل المناقض له إنما هو المجموع من حيث المجموع.
قوله - قدس سره -: (وقد توهم بعض من عاصرناه فلاحظ العام بعد تخصيصه ببعض الأفراد... إلى آخره) (1)
هذا - أيضا - أحد موارد الإشكال المشار إليها.
وذلك البعض الذي نسب التوهم إليه، الظاهر أنه الفاضل النراقي (2)

(1) مناهج الأصول: انظر منهاج تعادل الخبرين عند قوله: السابعة: لا بد في تغيير كيفية تعارض الدليلين وأنه هل بالعموم المطلق أو من وجه أو التساوي من ملاحظة المتصلة والمنفصلة لكل منهما ويحكم بعده
بأن التعارض على أي وجه ويعمل بمقتضاه فقد يكون الخبران متعارضان بالتساوي مثلا وبملاحظة تخصيص أحدهما بمخصص آخر من إجماع أو غيره يرجع التعارض إلى العموم والخصوص المطلقين أو من وجه وهذا فائدة جليلة لا ينبغي الغفلة عنها فلا يحكم إلا بعد ملاحظة جميع ما يجب ملاحظته من التقييدات والتخصيصات في كل من الخبرين.
337

صاحب المستند (قدس سره) والذي ذهب إليه هنا ذلك ليس لأجل بنائه على تخصيص قاعدة تخصيص العام بالخاص، بل إنما هو لأجل زعمه خروج هذا المورد عن عنوانهما ودخوله في العامين من وجه، بزعم أن الدليل اللبي الذي خصص العام بمنزلة المخصص المتصل الذي يكون العام معه ظاهرا في تمام الباقي فتنقلب النسبة إلى العموم من وجه، فله حكم تعارض العامين من وجه، ولم يبق معه ظهوره في الجميع الذي تكون النسبة بين مقتضاه وبين مقتضى المخصص اللفظي هو العموم مطلقا، هذا.
لكن الذي يقتضيه التحقيق اندفاعه بمنع كون المخصص اللبي كالمتصل، بل إنما هو من قبيل المنفصل، فله
حكمه، وغاية ما يترتب على المنفصل إنما هو منع العمل بظهور العام بالنسبة إلى مورده لا ظهوره في ما عدا مورده - كما هو شأن المتصل - بأن ينعقد به له ظهور آخر في ما عدا ذلك الخاص، ولا ارتفاع ظهوره في العموم - أيضا - فإن المخصصات المنفصلة وإن بلغت ما بلغت لا تصلح لإخراج العام عن ظهوره في ما كان ظاهرا فيه بدونها حتى يكون مجملا عرفا بأن يعد في العرف من المجملات، بل هو معها من الظواهر العرفية في ما كان ظاهرا فيه بدونها، وهي على تقدير ورودها إنما هي أدلة على التأويل فيه، لا التصرف، بمعنى أن العمل على طبق ذلك الظهور - في تمام مؤداه الذي هي المرتبة العليا، أو في ما دونه من مراتب الخصوص إلى منتهى التخصيص - معلق على عدم بيان مخالف له بالنسبة إلى ما يراد العمل به فيه من مؤداه فكلما جاء البيان المخالف المعبر عنه بالمخصص بالنسبة إلى أي مرتبة من تلك المراتب فهو
338

وارد عليه إذا كان قطعيا من جميع الجهات، وحاكم عليه إذا كان ظنيا من حيث الصدور، وعلى أي تقدير يكون المخصص المنفصل شارحا للمراد منه، سواء كان واحدا أو متعددا، إلا أنه إذا كان قطعيا من جميع الجهات يكون شارحا له بنفسه، وإذا كان ظنيا من حيث الصدور يكون شارحا بمقتضى دليل صدوره، ولا فرق في صورة التعدد بين الأول من المخصصات المنفصلة وبين المتأخر عنه في كون كل واحد منهما شارحا لأمر واحد وهو ذلك الظهور، فإذا وردت مخصصات منفصلة بالنسبة إلى مراتب متعددة من مؤداه فكلها شارحة له في تلك المراتب ورافعة لجواز التمسك به فيها من غير فرق بين ما إذا اتفقت جملة منها، أو جميعها على إخراج بعض تلك المراتب، كأن تكون النسبة بين تلك الجملة أو الجميع هي العموم من وجه - كما في المثال الذي ذكره المصنف (قدس سره) - وبين ما إذا لم يتفق، فإذن لا ترتيب ولا تدرج في العمل بتلك المخصصات المتعددة المنفصلة إذا تواردت على العام متعاقبة، بل الكل في مرتبة واحدة من حيث كونها شارحة ومؤولة له ورافعة للعمل بمقتضاه وإن تدرجت في الوجود.
والحاصل: أن التعارض وإن كان يلاحظ بالنظر إلى ظاهر الدليلين بالنسبة إلى الإرادة وإن كان ظهورهما مستندا إلى القرينة لا الوضع، لكن العام المخصص بالمنفصل قبل تخصيصه به ظاهر - بمقتضى الوضع - في إرادة جميع الأفراد، وبعد ورود المخصص المنفصل لا يزول عنه ذلك الظهور بحيث يعد من المجملات عرفا، بل هو باق على حاله، وإنما يرفع اليد عن العمل به فيما ورد الدليل على إخراجه وإرادة تمام الباقي ليست بظهور آخر ممتاز عن ذلك الظهور، بل إنما هي بذلك الظهور، فكلما جاء له المعارض لا بد من ملاحظة التعارض بينه وبين العام بالنظر إلى ذلك الظهور وأخذ النسبة بينه وبين ذلك المعارض منه بلغ ما بلغ.
والفرق بين المنفصل والمتصل أن الثاني يرفع ظهور العام الثابت له لولاه
339

ويوجب انعقاد ظهور آخر في ما عدا المخرج، بمعنى أن الكلام معه يكون ظاهرا في ثبوت الحكم لتمام الباقي وكون موضوعه هو تمام الباقي، فلذا إذا جاء مخصص منفصل بعده تلاحظ النسبة بين ظهوره في تمام الباقي، لا في الجميع لانتفائه، هذا بخلاف الأول، أعني المنفصل، فإنه - كما عرفت - لا يوجب ذلك، بل العام معه ظاهر في ثبوت الحكم لما كان ظاهرا في ثبوته له بدونه.
ثم إن المصنف (قدس سره) وإن أصاب في جعل المخصص اللبي كاللفظي المنفصل، إلا أن في جعله المنفصل مانعا عن نفس ظهور العام وموجبا لإجماله - كما هو ظاهر كلامه - ما عرفت، فلا تغفل ولا تقله.
قوله - قدس سره -: (ومن هنا يصح أن يقال إن النسبة بين قوله ليس في العارية ضمان إلا الدينار والدرهم وبين ما دل على ضمان الذهب والفضة عموم من وجه) (1)
يعني مما مر من أن التخصيص بالاستثناء من قبيل التخصيص بالمتصل صح القول بما ذكر، وذلك لأنه لو خصص دليل نفي الضمان عن العارية بمنفصل، كأن يقال يضمن في استعارة الدرهم والدينار لكان ذلك الدليل - وهو قوله ليس في العارية ضمان - ظاهرا في عموم نفي الضمان بالنسبة إلى أي عارية فكانت النسبة بينه بعد التخصيص بالمنفصل - أيضا - وبين دليل الضمان في الذهب والفضة هي العموم مطلقا، لكن تخصيصه بالاستثناء الذي هو من قبيل المتصل أوجب ظهوره في نفي الضمان عن غير الدرهم والدينار عموما الذي هو تمام الباقي والنسبة بين غير الدرهم والدينار وبين الذهب والفضة هي العموم من وجه لتصادقهما في المصوغ من الذهب والفضة، وافتراق الأول في غير الذهب والفضة، وافتراق الثاني في الدرهم والدينار المستثنيين من العام.
340

والأوفق بمذاق المصنف (قدس سره) - في جعل المخصص المنفصل موجبا لإجمال العام - أن يعلل عدم رجوع النسبة على تقدير التخصيص بالمنفصل إلى العموم من وجه بأن المنفصل يوجب رفع الظهور الأول للعام ولا يحدث معه ظهور آخر في تمام الباقي الذي تكون النسبة بينه وبين دليل الضمان في الذهب والفضة هي العموم من وجه، بل يكون مجملا، والقدر المتيقن منه حينئذ إنما هو غير الذهب والفضة المصوغتين - أيضا - فلا يكون له حينئذ عموم من وجه حتى تتحقق النسبة المذكورة، لانحصار مؤداه - حينئذ - وهو المتيقن في مورد واحد، وهو غير الذهب والفضة مطلقا، والنسبة بينه باعتبار ذلك المتيقن وبين الدليل المذكور إنما هي التباين الكلي، لعدم صدق غير الذهب والفضة على الإطلاق على شيء منهما في شيء من أقسامه حتى المصوغ.
قوله - قدس سره -: (قلنا: هذا - أيضا - لا يمنع قصور كل واحد من الدلالة) (1)
حاصله بتوضيح منا: أن المفروض وقوع التخصيص بالدراهم والدنانير في روايتين مستقلتين فيلغى الحصر المستفاد بمقتضى التخصيص بالاستثناء في كل منهما، لمعارضته بالحصر المستفاد من الأخرى بمقتضى الاستثناء، وحصر المستثنى في ما عدا الدراهم والدنانير مبني على وقوع استثنائهما في كلام واحد، والمفروض عدمه، فحينئذ فالقدر المتيقن من مجموع الروايتين خروج الدراهم والدنانير عن مطلق العارية من غير دلالة لهما على انحصار المستثنى فيهما، فتكونان قاصرتين عن إفادة الانحصار المطلق.
قوله - قدس سره -: (فان قيل إخراج الدراهم والدنانير خاصة) (2)
341

أقول لا وقع لهذا السؤال بعد منع ظهور الروايتين المستثنى منهما الدراهم والدنانير في إرادة تمام الباقي، فان المنافاة إنما تتحقق على تقدير هذا الظهور وبملاحظته، وأما بدونه فإخراج الدراهم والدنانير ليس لظهور الكلام في خروج خصوصهما، بل من باب القدر المتيقن، فلا منافاة.
قوله - قدس سره -: (إلا أن يقال إن الحصر في كل من روايتي الدرهم والدينار موهون من حيث اختصاصهما بأحدهما) (1)
أقول: بعد فرض الروايتين كرواية واحدة لا وقع لهذا الدفع أصلا، إذ لازم جعلهما كرواية واحدة الالتزام بمقتضى الرواية الواحدة المستثنى منها الدراهم والدنانير، وهو الحصر، فلا وجه لدفعه بتوهين الحصر نظرا إلى وقوع استثنائهما في روايتين.
نعم يتجه توهينه بما أشار إليه بقوله: ويؤيد ذلك أن تقييد الذهب والفضة بالنقدين مع غلبة استعارة المصوغ بعيد
جدا، هذا.
ثم إن خلاصة المقال، في تحقيق الحال، في رواية الدرهم والدينار مع رواية الذهب والفضة، أن في العارية خمس روايات:
ثنتان منها وهما صحيحتا الحلبي ومحمد بن مسلم دالتان على نفي الضمان في العارية عموما.
وإحداها دالة عليه، مع تضمنها لاستثناء الدراهم.
وأخرى دالة عليه مع تضمنها لاستثناء الدنانير.
وثالثة دالة عليه مع تضمنها لاستثناء الذهب والفضة.
أما الأوليان: فلا بد من تخصيصهما بغير الدراهم والدنانير، المستثنيين من الثانيتين لا محالة، فإنه قد خصص عموم نفي الضمان في الثانيتين بغيرهما،
342

فيكون المراد بهما غير الدراهم والدنانير لا محالة، فإذا كان مؤدى هاتين خاصا بالنسبة إلى مؤدى الأولتين، فلا بد من حمل الأولتين - أيضا - على ذلك الخاص، إذ حمل العام على الخاص من القواعد المتقررة في العرف، فحينئذ تبقى المعارضة بين العقد السلبي من الروايتين الثانيتين، وهو قوله «ليس في العارية ضمان» وبين العقد الإيجابي من الأخيرة، وهي المتضمنة لاستثناء الذهب والفضة، وهو قوله «إلا الذهب والفضة» الذي في قوة قوله يضمن عارية الذهب والفضة.
فإن العقد الأول بعمومه يقتضي نفي الضمان عن عارية المصوغ من الذهب والفضة، لأن القدر الثابت من تخصيصه إنما هو تخصيصه بالدرهم والدينار.
والعقد الثاني يقتضي بإطلاقه ثبوت الضمان في عارية المصوغ منهما، ومرجع التعارض بينهما إلى العموم من وجه إن جعلنا تينك الروايتين بمنزلة رواية واحدة متضمنة لاستثناء الدراهم والدنانير معا، بمعنى إفادتهما ما يفيده من كون موضوع حكم نفي الضمان فيهما هو تمام ما بقي بعد استثناء الدرهم والدينار.
فيكونان - حينئذ - بمنزلة قوله ليس في غير الدرهم والدينار من العارية ضمان، ومن المعلوم أن غير الدرهم والدينار أعم من وجه من الذهب والفضة، وكذلك الذهب والفضة أعم منه كذلك، فيتصادقان في المصوغ من الذهب والفضة، ويفترق الأول في عارية غير الذهب والفضة والثاني في الدرهم والدينار.
فعلى هذا لا بد من العلاج بينهما بالقواعد المتقررة لتعارض العامين من وجه، من ملاحظة قوة دلالة أحدهما والترجيح بها، ومع عدمها ملاحظة قوة السند والترجيح بها، ومع عدمها فالتخيير.
وإن لم نجعلهما بمنزلة رواية واحدة، بواسطة ما مرت الإشارة إليها من موهنات ظاهر الحصر المستفاد من الاستثناء - التي يأتي تفصيلها أيضا - فتكونان مجملتين بالنسبة إلى إفادة نفي الضمان عن عارية المصوغ من الذهب
343

والفضة، لأن ظهورهما في تمام ما بقي بعد استثناء الدرهم والدينار إنما هو من جهة ظهور الاستثناء في الحصر، فمع فرض عدمه ينتفي هذا الظهور، ولا تكونان - حينئذ - كالعام المخصص بمنفصل، من حيث بقاء الظهور الوضعي، وهو ظهورهما في جميع أفراد العارية لترجع النسبة إلى العموم والخصوص المطلقين، بل ذلك الظهور منتف بسبب اقترانهما بالاستثناء لا محالة، فإذا صارتا مجملتين مهملتين، فتكونان في قوة القضية الجزئية في القدر المتيقن منهما، وهو عارية غير الذهب والفضة مطلقا حتى المصوغ منهما، فحينئذ لا يعارض العقد السلبي منهما للإيجابي من الرواية الأخيرة، فإن العقد الإيجابي منها لا يعارض السلبي منهما في ذلك القدر المتيقن، لاختلاف موضوعهما، والسلبي منهما لا يعارض الإيجابي منها في المصوغ من الذهب والفضة، لفرض عدم دلالته على نفي الضمان عنه، مع دلالة الإيجابي على ثبوت الضمان فيه، فمقتضى القاعدة حينئذ الحكم بثبوت الضمان في استعارة مطلق الذهب والفضة، لمكان العقد الإيجابي المذكور مع سلامته عما يعارضه، كما أن مقتضى القاعدة على التقدير الأول - أعني تقدير كون الروايتين بمنزلة رواية واحدة - ترجيح العقد السلبي منهما على ذلك الإيجابي نظرا إلى كون العام أقوى دلالة من المطلق، فيكون التصرف في المطلق عند التعارض والدوران أقرب.
اللهم إلا أن يمنع ذلك، بأن العام وإن كان نوعا أقوى من المطلق إلا أن المطلق قد يكون أقوى منه في بعض الموارد بواسطة بعض الخصوصيات اللاحقة له، كما في محل الكلام، فإن عارية الدرهم والدينار في غاية الندرة والشذوذ، بل لم نقف على وقوعها في الخارج.
بخلاف المصوغ من الذهب والفضة، كالحلي، فإن استعارته شائع جدا، فلو قيد الذهب والفضة بالدرهم والدينار يلزم تقييدهما بالفرد النادر في مقام العارية، وهو في نفسه بعيد جدا وأبعد من تخصيص العام بغير المصوغ منهما،
344

فيتجه - حينئذ - تقديم المطلق وتخصيص العام، والإنصاف أنه جيد ينبغي الاعتماد عليه.
فالأقرب ثبوت الضمان في عارية مطلق الفضة والذهب على كل من التقديرين.
هذا مضافا إلى عدم استقامة التقدير الأول في نفسه - أيضا - لأن روايتي الدرهم والدينار كل منهما دافع (1) للآخر، بمقتضى اختصاص كل منهما باستثناء واحد منهما المفيد لحصر المخرج من العقد السلبي منها (2) فيما استثنى منها (3)، فلا يمكن العمل بظاهر كليهما معا، ولا بواحدة منهما فقط - أيضا - لكونه مخالفا للإجماع، فلا بد من التأويل في ظاهر كل منهما وحمل المستثنى فيهما على كونه من باب أحد الأفراد.
اللهم إلا أن يقال إن المتعذر من جهة التنافي بينهما إنما هو حمل كل منهما على الحصر الحقيقي.
وأما حمله على الإضافي (4) بالنسبة إلى ما عدا المستثنى في الأخرى فلا مانع منه، فيحمل عليه، إما لكونه أقرب المجازات بعد تعذر الحقيقة، وإما باعتبار جعل مفهوم الحصر من مقولة المطلق المتعذر حمله على العموم، إذ - حينئذ - لا يجوز طرحه رأسا، بل يعمل به في بعض مصاديقه، والأول أجود، فافهم.
قوله - قدس سره -: (وإن كانت النسبة بين المتعارضات مختلفة... - إلى قوله -: قدم ما حقه التقديم ثم لوحظ النسبة مع باقي المتعارضات) (5)
أقول: في ملاحظته (قدس سره) النسبة بين خطاب - بعد علاج
345

التعارض بينه وبين خطاب آخر - وبين سائر الخطابات المتعارضة له ما لا يخفى على المتأمل، من منافاته لما مر منه (قدس سره) سابقا في مقام الرد على الفاضل النراقي من أن التعارض بين دليلين إنما يلاحظ بالنظر إلى ظاهريهما قبل علاج التعارض بين أحدهما وبين معارض آخر له، فإن العلاج إنما هو من قبيل دفع المانع، لا إحراز المقتضي، فحمل خطاب على معنى لمرجح في معارضه لا يجعله ظاهرا في ذلك المعنى حتى تلاحظ النسبة بينه وبين خطاب آخر معارض له، فلم يبق الفرق من حيث ملاحظة النسبة قبل العلاج بين تساوي نسب المتعارضات وبين اختلافها.
والحاصل: أن مقتضى ما يبنى عليه ثمة - من كون المخصص مانعا من ظهور العام وغير موجب لظهوره فيما
بقي إذا كان منفصلا كما هو المفروض هنا - إجمال العام المخصص بالخاص المنفصل في المقام، ومعه لا ظهور له حتى تلاحظ النسبة بينه وبين معارض آخر له.
والذي يقتضيه التأمل، أنه على تقدير انقلاب النسبة بين متعارضين من المتعارضات بعد تقديم ما حقه التقديم على أحدهما - بأن تكون النسبة بين ما بقي منه بعد تخصيصه بما قدم عليه وبين المعارض الآخر مخالفة ومغايرة لما كانت بينهما قبله، كأن تكون النسبة بينهما قبله هي العموم مطلقا، يكون المخصص بما حقه التقديم عليه أعم من الآخر مطلقا، ثم انقلبت بعده إلى العموم من وجه، أو كانت قبله هي العموم من وجه ثم صار ذلك المخصص بعد التخصيص أخص مطلقا من الآخر - أن يقال بعدم الفرق من حيث ملاحظة النسبة بينهما بالنظر إلى ظاهريهما قبل تخصيص أحدهما بين الحالتين، بل يجب بعد التخصيص أيضا ملاحظة النسبة بينهما بالنسبة إلى ظهوريهما قبله مطلقا، من غير فرق بين ما إذا انقلبت بعده إلى العموم من وجه أو إلى العموم مطلقا، على النحو الذي عرفت، لما مرت الإشارة إليه، من أن الكلام في المخصص المنفصل، وليس من شأنه إزالة
346

ظهور ما قدم عليه وإحداث ظهور آخر فيه في تمام ما بقي منه بعد التخصيص، بل هو معه - أيضا - ظاهر فيما كان ظاهرا فيه بدونه، وإنما أوجب ذلك رفع اليد عن العمل بذلك الظهور في مورده، لكون العمل به في أي جزء من مؤداه معلقا على عدم المخصص.
وقد عرفت الكلام مشبعا في انقلاب النسبة بين متعارضين إلى العموم من وجه بعد ما كانت هي العموم مطلقا بعد تخصيص أحدهما في طي الكلام في المتعارضات بنسبة واحدة.
نعم، إذا انقلبت النسبة بينهما إلى العموم مطلقا بعد ما كانت هي العموم من وجه - بأن يصير المخصص بما حقه التقديم عليه أخص من الآخر بعد التخصيص مع كونه أعم منه من وجه قبله - يعامل بينه وبين العام الآخر الغير المخصص معاملة العام والخاص، ويقدم على ذلك العام، لكن لا لأجل ملاحظة النسبة بين ما بقي منه وبين العام الآخر وإدخاله في قاعدة العام والخاص، بل لأجل نظير ما مر في المتعارضات بنسبة واحدة فيما إذا كان عام مطلقا وخاصان كذلك مع كونهما على تقدير تقديمهما عليه مستوعبين لجميع مدلول العام أو لأكثره.
وتوضيحه، أن كل عام نص في منتهى التخصيص من مؤداه لا محالة، فإذا فرض في مورد عامان من وجه متعارضان وخاص مطلقا بالنسبة إلى أحدهما، فلا ريب أن ذلك الخاص حقه التقديم على ما هو أخص منه، ولا مانع من تقديمه عليه - أيضا - من جهة الأمور الخارجية إذ هو بنفسه لا يناقض الأعم منه مطلقا في ذلك المقدار الذي هو نص فيه، والعام الآخر ليس في مرتبة ذلك الخاص، فإنه ليس من شأنه التصرف والتأويل في صاحبه، فلا يمكن أن يقال بما قيل في العام المطلق مع خاصتين كذلك مستوعبين لجميع مؤداه من ملاحظة التعارض بين مجموع المستوعبين وبين العام، فإن كل واحد منهما هناك كان صالحا للتصرف في
347

العام، وكان من حقه التقديم عليه، وإنما منع من الأخذ بكليهما لزوم محذور الاستيعاب بخلاف المقام، فإن أحدهما وهو العام الآخر ليس كذلك - كما عرفت - فيقدم الأخص من ذلك العام عليه كائنا ما كان، فإذا قدم عليه ينحصر مورده في مورد اجتماعه مع العام الآخر، فلا بد من تقديمه على العام الآخر فيه، إذ لو أخرج مورد الاجتماع عنه يلزم طرح النص، حيث أنه نص في المقدار المذكور المنحصر مورده في محل الاجتماع، بخلاف إخراجه عن العام الآخر، لفرض عدم انحصاره مورده فيه، فيكون طرحه طرحا للظاهر وتأويلا فيه، فيتعين.
وتظهر الثمرة بين ما اخترنا وبين ما اختاره المصنف (قدس سره) من ملاحظة النسبة بين عام وبين معارض آخر له، بعد تخصيصه بما حقه التخصيص به في المتعارضات المختلفة النسب فيما إذا كان عامان من وجه متعارضان مع خاصان مطلقا بالنسبة إلى أحدهما وكان أحدهما على وجه إذا قدم على الأعم منه تنقلب نسبته مع الخاص الآخر إلى العموم من وجه.
فعلى ما اخترنا من ملاحظة النسبة السابقة والعمل على طبقها يقدم الخاص الآخر عليه - أيضا - وعلى ما اختاره يكون حكمه مع العام حكم العامين من وجه.
فربما يقدم العام عليه لاشتماله على بعض المرجحات من حيث الدلالة، أو السند.
لكن الظاهر من قوله (قدم ما حقه التقديم ثم لوحظ النسبة مع باقي المتعارضات) التزامه بتقديم الخاص الآخر عليه في المثال المذكور - أيضا -، لأنه - أيضا - مما حقه التقديم ومعه لا يكاد يوجد مورد تظهر الثمرة بينهما فتأمل.
ثم إنه بقي شيء لم ينبه المصنف (قدس سره) عليه وهو حكم صورة عدم انقلاب النسبة بعد تقديم ما حقه التقديم من المتعارضات.
348

فاعلم أنه بعد تقديم ما حقه التقديم من المتعارضات مع عدم انقلاب النسبة بين ما بقي من العام المخصص وبين معارض آخر له، فإما أن يقل أفراد ذلك العام بعد تخصيصه بما يجب تقديمه عليه إلى حيث ينتهي إلى منتهى مراتب التخصيص الذي لا يجوز التخصيص إلى ما دونه أو إلى ما يقرب منه مما يستبعد التخصيص إليه وإن جاز، أو لا يقل كذلك.
فإن كان المورد من قبيل الفرض الثاني، فلا ينبغي الإشكال في تقديم العام الآخر الغير المخصص على ذلك العام في مورد التعارض، وهو مورد اجتماعهما، فإن العام الآخر لعدم تطرق تخصيص إليه أقوى منه، فإن دلالته بواسطة تطرقه إليه موهونة، فاحتمال التخصيص فيه أقرب منه في العام الآخر، فيتعين، وهنا إنما هو مورد القضية المعروفة بينهم، من أن تطرق التخصيص أو كثرته يوجب وهو دلالة العام.
وإن كان من قبيل الفرض الأول، فالعمل فيه على عكس ما في الفرض الثاني، أما على التقدير الأول منه وهو لزوم قلة الأفراد إلى حيث ينتهي إلى منتهى مراتب التخصيص، فلعين ما مر في وجه تقديم العام المخصص المنحصر مورده في مورد اجتماعه مع العام الآخر، واما على التقدير الثاني منه فلفرض بعد التخصيص في العام المذكور زائدا على القدر المتيقن مع قربه من العام الآخر، وهنا إنما هو مورد القضية المعروفة من أن إذا كثر التخصيص في عام مع عدم كثرته في عام آخر معارض له كان احتماله في الأول أبعد فإن مرادهم من كثرة التخصيص الموجب لبعد احتمال التخصيص إنما هو ما بلغ هذا المقدار من الكثرة، لا مطلقا فافهم.
قوله - قدس سره -: (والسر في ذلك واضح... - إلى قوله -: أو طرح الظاهر المنافي له رأسا) (1)
349

فيه إجمال، إذ يحتمل أن يكون مراده من النص الذي يلزم طرحه على تقدير عدم طرح الظاهر المنافي له هو العام المعارض بأخص منه مطلقا ومن الظاهر العام الآخر المعارض له في غير مورد ذلك الخاص، وهو مورد اجتماعهما.
ووجه التعبير - حينئذ - عن طرح الأول بطرح النص، وعن طرح الثاني طرح الظاهر - مع كون كل منهما نصا في مؤداه في الجملة، وهي منتهى التخصيص وظاهرا فيه كذلك وهو بالنسبة إلى أزيد من تلك المرتبة - أنه إذا يبنى على طرح الأول لمرجح للثاني من حيث الدلالة أو السند قبل علاجه مع ما هو أخص منه والأخذ
بما يحدث له من الترجيح بعده، يلزم طرحه في جميع مؤداه الآئل إلى طرحه فيما هو نص فيه، إذ - حينئذ - يطرح في مورد اجتماعه مع ذلك العام بالفرض ويجب طرحه - أيضا - في مورد افتراقه عنه، الذي هو مورد التنافي بينه وبين ما هو أخص منه، إذ لا بد من تقديمه عليه، كائنا ما كان، فلا يبقى له مورد بعده أصلا.
هذا بخلاف ما إذا يبنى على طرح العام الآخر، فإنه إنما يطرح في مورد المعارضة بينه وبين ذلك العام لا مطلقا، لفرض عدم معارض له في مورد الافتراق عنه، فلا يلزم من طرحه خلوه عن المورد الآئل إلى طرح النص، بل يكون طرحا لظهوره فحسب.
لكن هذا لا يناسب تأكيده طرح الظاهر بقوله رأسا، فإنه ظاهر في طرح المنافي في جميع مؤداه، فيؤول إلى طرح النص، مع أنه لو كان المراد طرح المنافي فيما هو ظاهر فيه فقط، بمعنى طرحه في مؤداه في الجملة وهو مورد التنافي بينه وبين ذلك العام، فلا يخفى أنه ليس محذورا، بل لا بد منه على تقدير الترتيب في العلاج وعدمه.
ويحتمل أن يكون مراده (قدس سره) بالنص هو الأخص المنافي لأحد العامين في مورد افتراقه عن صاحبه، وبالظاهر المنافي له ذلك العام.
350

والوجه في لزوم أحد المحذورين على هذا لو لا مراعاة الترتيب في العلاج، أنه إذا عولج أولا بين العامين من وجه وقدم العام الغير المنافي للنص في مورد الاجتماع بينهما، لمرجح، أو تخييرا فينحصر مورد العام المنافي له في مورد افتراقه عنه، الذي هو محل التعارض بينه وبين ذلك النص، وحينئذ إما يقدم ذلك العام على ذلك النص أو يقدم النص.
وعلى الأول يلزم طرح النص.
وعلى الثاني طرح الظاهر المنافي له في جميع مؤداه، وهو محذور مثله، بل عينه، لرجوعه بالأخرة إليه، إذ العام نص في مؤداه في الجملة.
والثاني من الاحتمالين أظهر، كما استظهره (دام ظله) أيضا.
ولا يخفى على المتأمل عدم لزوم الدوران بين ذينك المحذورين على تقدير مخالفة الترتيب في العلاج إلا في بعض صورها، وهو ما إذا قدم العام الآخر الغير المنافي للنص على المنافي له في مورد الاجتماع بينهما، مع منافاة النص له في جميع مصاديق مورد افتراقه عن ذلك العام، وأما في غيره - كما إذا قدم العام المنافي (1) في مورد الاجتماع بينهما أو لا ينافيه في جميع مصاديق مورد افتراقه عن العام الآخر على تقديم الآخر عليه - فلا.
هذا مضافا إلى أنه لا يتوقف ترجيح الترتيب في العلاج على لزوم الدوران المذكور في جميع موارد مخالفته، بل يكفي فيه لزومه في بعضها مع عدم لزومه على تقدير الترتيب أصلا، فالحري تعليله بلزومه في بعض مواردها.
ويتأكد ترجيحه بلزوم الدوران بين طرح النص وبين قلة المورد للعام المنافي له في بعض صور المخالفة، وهو ما إذا قدم عليه العام الغير المنافي له في مورد الاجتماع بينهما مع لزوم قلة مورده على تقدير تقديم النص عليه - أيضا -
351

بأن يكون النص منافيا له في كثير من مصاديق مورد الافتراق، أو في أكثرها، فيدور الأمر بين طرح النص وبين طرحه المؤدي في مورد التنافي بينه وبين النص إلى قلة مورده، فإنها - أيضا - محذور كطرح النص، هذا.
قوله - قدس سره -: (وقد ينقلب النسبة ويحدث الترجيح في المتعارضات بنسبة واحدة)
(1).
توضيحه: أن المتعارضات بنسبة واحدة إما أن تكون النسبة بينها هي التساوي، أو العموم من وجه، وأما التباين والعموم مطلق فلا يعقلان هنا.
أما الأول: فلما مر - في أول المسألة - من أن شرط التعارض اتحاد متعلقي الدليلين المتعارضين في الجملة مع اختلاف حكمهما، ومع التباين كلية لا اتحاد أصلا.
وأما الثاني: فلامتناعه في نفسه، إذ لا يعقل كون كل واحد من أمرين أو أمور أخص مطلقا من الآخر.
ثم إنه إذا كانت النسبة بينهما هي التساوي، فلازم تقديم أحدهما على ما يعارضه رفع الحكم المدلول عليه به عن جميع موارده، كما لا يخفى، لعدم مورد له - حينئذ - سليم عن المعارض، فتكون النسبة معه بحالها بعد علاج التعارض.
وإذا كانت هي العموم من وجه، فلازم ترجيح بعضها على بعض انقلاب نسبة ذلك البعض المرجوح المخصص مع باقي المتعارضات إلى العموم مطلقا، إذا لم يكن له مورد (2) يفترق فيه عن البواقي، وإن كان له مورد كذلك فنسبته معها بحالها بعد التخصيص.
فظهر أن انقلاب النسبة وحدوث الترجيح إنما هو في بعض موارد محل

(1) فإن ذلك يوافق في النتيجة في مورد العلاج. لمحرره عفا الله عنه.
352

الفرض، لا مطلقا، كما أشار إليه المصنف (قدس سره) بقوله: وقد ينقلب النسبة ويحدث الترجيح المشعر بالتقليل.
ثم إن ظاهر كلامه (قدس سره) أن حدوث الترجيح إنما هو يدور مدار انقلاب النسبة، وأنه مع انقلابه إلى العموم مطلقا يجب الترجيح.
ويتجه على الأول منع الدوران، إذ قد تكون النسبة بعد التخصيص بحالها، ومعه يجب تقديم ذلك المخصص على غيره، وذلك فيما إذا قل أفراده بعد التخصيص بضميمة مورد افتراقه عن باقي المتعارضات إلى مورد التعارض بينه وبينها - أيضا - على وجه يبعد فيه التخصيص عرفا، أو يمنع كذلك، كما إذا انحصرت في منتهى التخصيص.
نعم استلزام انقلاب النسبة إلى العموم مطلقا للزوم التقديم والترجيح متجه، إذ لو لا الترجيح لزم بقائه بلا مورد.
ثم إنه يتجه عليه (قدس سره) هنا - أيضا - ما مر سابقا من أن ملاحظة النسبة بين بعض المتعارضات مع بعض بعد العلاج بينه وبين بعض آخر لا معنى له، وأنه خلاف ما اختاره سابقا - أيضا -.
والتحقيق ما مر سابقا من أن اللازم إنما هو ملاحظة النسبة بين المتعارضين بعد تصرف في أحدهما بدليل بما كان بينهما قبله، فمع تقديم أحد المتعارضات بنسبة العموم من وجه على واحد، فالملحوظ بين ذلك الواحد وبين البواقي من النسبة بعد التخصيص إنما هو ما كان بينهما قبله.
لكن ترجيحه على باقي المتعارضات - إذا كانت النسبة بين ما بقي منه وبينها هي العموم مطلقا - ليس لملاحظة هذه النسبة الحادثة، بل إنما هو لأجل أنه لولاه لزم خلوه عن المورد رأسا.
وبالجملة، مدار الترجيح إنما هو على قلة الأفراد إلى حيث يبعد معها التخصيص بالإضافة إلى باقي المتعارضات عرفا، أو إلى حيث يمتنع
353

كذلك، كما إذا انحصرت في منتهى التخصيص أو على لزوم خلوه عن المورد رأسا.
إذ مع الأول يرجع التعارض بينه وبين باقي المتعارضات إلى تعارض الأظهر والظاهر، فإنه لبعد احتمال تخصيصه بالنسبة إلى مورد تعارضه بينه وبينها بالإضافة إليها [يكون] أظهر في الدلالة على دخول مورد التعارض فيه.
ومع كل واحد من الأخيرين يرجع التعارض بينه وبين سائر المتعارضات إلى تعارض النص والظاهر لما قد مر غير مرة من نصوصية العام في منتهى التخصيص.
ثم إن ما ذكر من لزوم قلة المورد أو الخلو عنه على تقدير عدم الترجيح إنما يكونان مرجحين - بعد ثبوت مرجح من المرجحات الداخلية أو الخارجية - لبعض تلك المتعارضات بنسبة العموم من وجه على ذلك البعض الذي يراد ترجيحه على باقي المتعارضات أو بعضها لأنهما إنما يحدثان على هذا التقدير، لا مطلقا.
انقسام المرجحات إلى السندية والمتنية
قوله - قدس سره -: (واما تقسيم الأصوليين المرجحات إلى السندية والمتنية) (1).
حاصله ان ما ذكره من التقسيم إنما هو بملاحظة مورد المرجح، يعنى محل وجوده، وما ذكره (قدس سره) إنما هو باعتبار مورد الرجحان، وهو ما يوصف بكونه راجحا، والمغايرة بين الاعتبارين من حيث المفهوم واضحة، واما من حيث المصداق فالمغايرة ثابتة بينهما أيضا، إذ ليس كل ما يكون موردا للمرجح يكون موردا للرجحان أيضا، فإن الفصاحة والأفصحية وما يشبههما كالعموم والخصوص والمفهوم والمنطوق إنما موردها هو المتن فإن ظرف وجودها
354

إنما هو المتن مع أن الراجح بسببها إنما هو الصدور، فإنه يقال بملاحظة ثبوت بعضها أو كلها في أحد الخبرين أن صدوره راجح على صدور الخبر الآخر لا أن متنه راجح.
ووجه عدوله (قدس سره) - عن تقسيمهم المذكور إلى ما ذكره - أن ما ذكروه غير حاصر لجميع الأقسام، فإن المضمون أيضا من موارد المرجح، فإن المزية قد تكون موجودة فيه فإذا كان التقسيم باعتبار مورد المرجح فلا بد من التقسيم على وجه يحصره فلا يستقيم ما ذكروه، لعدم شموله وحصره له، فإنه مقابل وقسيم للمرجحات السندية والمتنية بالاعتبار المذكور، غير داخل في أحدهما.
ثم إن في عدهم المنطوق والخصوص من المرجحات ما مرت الإشارة إليه غير مرة من أن الكلام مع اشتماله على شيء منهما يخرج عن صورة التعارض ويدخل في الجمع العرفي، فإن الخاص والمنطوق أقوى دلالة من العموم والمفهوم فيكونان متصرفين فيهما وقرينتين عليهما، فلا يبقى معهما تحير في فهم المراد عرفا حتى يدخل موردهما في الأخبار العلاجية.
قوله - قدس سره -: (منها كون أحد الراويين عدلا) (1).
أقول: الترجيح بالعدالة - فيما إذا كان غير العادل متحرزا عن الكذب كتحرز العادل عنه بناء على كون المناط فيه هو الأقربية إلى الحق - لا يستقيم كما لا يخفى، وإنما يناسب الترجيح بها في تلك الصورة القول بإناطته بها من باب التعبد، فالأوفق بما ذكر تخصيص الترجيح بها بغير تلك الصورة.
قوله - قدس سره -: (وفي حكم الترجيح بهذه الأمور أن يكون
355

طريق ثبوت مناط القبول في أحدهما أوضح من الآخر) (1).
توضيحه: أنه لو كان مناط حجية الخبر هو عدالة الراوي فيقدم رواية من كان عدالته ثابتة بطريق أقوى من طريق عدالة الآخر، وإن كان هو الوثوق والاطمئنان لا صفة العدالة من حيث هي، فيقدم رواية من كان طريق ثبوت توثيقه أقوى من طريق توثيق الآخر.
قوله - قدس سره -: (ويلحق بذلك التباس اسم المزكى) (2)
الظاهر أنه بصيغة المفعول لكن في حكمه التباس اسم المزكي بصيغة الفاعل بين من يجوز الاعتماد عليه وبين غيره.
ثم إنه لا حاجة إلى تطويل الكلام بذكر ما ذكروه من أسباب قوة الظن المنوط بها الترجيح، إذ بعد ما كان المدار عليها يكون تشخيصها موكولا إلى نظر المجتهد في خصوص المورد.
قوله - قدس سره -: (ان ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامة يمكن أن يكون بوجوه) (3)
اعلم أن الفرق بين الوجه الثاني والرابع اختصاص الرابع بمورد خبرين متعارضين، أحدهما موافق للعامة والآخر مخالف لهم، بخلاف الثاني، فإنه يعم موارد انتفاء الخبر في المسألة أصلا، فعلى تقدير ثبوته تكون مخالفة العامة أمارة على أن الواقع هو الاحتمال المخالف لهم إن كان الاحتمال في المسألة منحصرا في اثنين، أو على كونه فيما بين الاحتمالات المخالفة لهم إن كان غير منحصر فيهما، فيعمل مع الاحتمال الموافق لهم معاملة العدم، وفي غيره بمقتضى الأصول العملية المقررة لصورة انحصار الاحتمال في غيره.
356

والحاصل: أنه يكشف عن أن الحق في خلافهم، ولازمه فيما إذا انحصر الاحتمال في اثنين كون الحق هو الاحتمال الواحد المخالف لهم، وفيما لم ينحصر كونه في جملة الاحتمالات المخالفة لهم، وأيضا الوجه الرابع على تقدير ثبوته إنما يكشف عن صدور الموافق لهم من الخبرين تقية، لا عن كون مضمونه باطلا، بخلاف الوجه الثاني، فإنه إنما يكشف عن كون مضمون الموافق لهم باطلا ولا يكشف عن صدوره تقية فتأمل.
ثم إن الوجه الأول والثالث يشتركان في كون الأمر بالأخذ بمخالف العامة مع كل منهما من باب التعبد، بمعنى أنه لا يكون الأمر لأجل كاشفية المخالف لهم عن شيء إلا أن الفرق بينهما أن الأول يختص بموارد خبرين متعارضين، أحدهما موافق لهم، والثالث يعم موارد فقد الخبر رأسا كالوجه الثاني، فإنه بعد البناء على كون مخالفة العامة من العناوين المحبوبة في أنفسهما، فتكون محبوبة ومطلوبة أينما تحقق موضوعها، وهو لا يتوقف على وجود خبر أصلا، بل إنما يتوقف على موافقة أحد الاحتمالين، أو الاحتمالات الموجودة في المسألة لمذهبهم.
قوله - قدس سره -: (أما الوجه الأول فمع بعده عن مقام ترجيح أحد الخبرين المبني اعتبارهما على الكشف النوعي... إلى آخره) (1)
وجه الاستبعاد أن المناسب للترجيح بين متعارضين. يكون اعتبار كل منهما في نفسه من باب الطريقية المحضة والكشف - إنما هو جعل المرجح لأحدهما ما يتقوى به مورده من حيث الكشف، بمعنى كونه مما يقوي جهة كشفه، بحيث يكون مورده معه أقرب إلى الواقع أو أبعد عن الباطل من غيره المعارض له، فلا يناسب جعل المرجح من الأمور الغير المفيدة لذلك أصلا، أو
357

جعله من الأمور المفيدة له مع عدم ملاحظة جهة تقويته لطريقية مورده، بل يكون الأمر بالأخذ به من باب التعبد
الصرف، كما هو الحال في الأمر بأخذ المخالف العامة على الوجه الأول من تلك الوجوه الأربعة.
والحاصل: أن المناسب حينئذ إنما هو جعل المرجح لأحدهما ما يكون مقويا لجهة الكشف في مورده مع كون النظر - في اعتباره مرجحا - إلى هذه الحيثية وهي المناسبة بمثابة تبعة وقوع خلاف ما يقتضيه وإن لم تكن منافية لإمكانه.
قوله - قدس سره -: (إلا أنه يشكل الوجه الثاني... - إلى قوله -:
لأن خلافهم ليس حكما واحدا) (1)
أقول: التعليل الواقع في الأخبار إنما هو كون الرشد في خلافهم بذكر لفظة (في) المفيدة للظرفية، لا كون الرشد هو خلافهم، والإشكال الذي ذكره (قدس سره) إنما يتجه على تقدير كون العلة فيها هو الثاني، لا الأول، لعدم استلزامه لكون المخالف لمذهبهم حكما واحدا، إذ غاية ما يفيده أن الرشد متحقق في خلافهم، ولازم في صورة انحصار الاحتمال المخالف لهم في واحد كون الرشد هو ذلك الاحتمال، وفي صورة تعدده كونه في جملة تلك الاحتمالات المخالفة لهم، بمعنى عدم كونه هو الاحتمال الموافق لهم.
ولا ينبغي أن يتوهم أنه ما الفائدة في كون الرشد في جملة الاحتمالات المخالفة لهم، وأي فائدة في التعبد بالأخذ بتلك الاحتمالات، فإن الأخذ بها لا يترتب عليه أزيد مما يترتب على صورة عدم الأخذ بها، إذ على تقدير الأخذ بها لا يمتاز الرشد من الغي حتى يتبع، كعدم امتيازه منه على تقدير عدمه.
لاندفاعه بأن الفائدة لا تنحصر في ذلك حتى يلغى التعبد بالأخذ بها
358

لفرض انتفاء تلك الفائدة، فإن المعاملة مع الاحتمال الموافق للعامة معاملة العدم من الفوائد المهمة، لاختلاف حكم عدم إلقائه مع حكم إلقائه بالنظر إلى الرجوع في الأصول والقواعد بالنسبة إلى غيره من الاحتمالات كما لا يخفى.
والحاصل: أن مقتضى التعليل المذكور في الروايات المستفيضة كون مخالفتهم أمارة على كون الرشد في خلافهم، غاية الأمر أنه مع تعدد الاحتمالات المخالفة لهم يكشف عن كون الحق والرشد فيما بينهم - بمعنى عدم خروجه منها - فقوله (قدس سره) (وكون الحق والرشد فيه بمعنى وجوده في محتملاته لا ينفع في الكشف عن الحق) إن أريد به عدم نفعه في الكشف عن وجوده فيما بين تلك المحتملات فهو يناقض فرضه كون الرشد في خلافهم على معنى كونه في محتملاته، وإن أريد به عدم نفعه في تشخيص الحق من بين تلك المحتملات كما هو الظاهر منه، فهو مسلم لكن اعتبار الكشف على هذا الوجه غير لازم في مقام الترجيح، لكفاية الكشف على الوجه الأول فيه، بل يكفي ما دونه وهو كون المرجح موجبا لأبعدية مورده عن الباطل على تقدير الدوران بينه وبين فاقده مع احتمال بطلان كليهما كما اعترف به (قدس سره) في غير موضوع من كلامه، والتعليل المذكور في الاخبار لا يقضى به - أيضا - كما عرفت.
نعم لا يمكن حمل التعليل المذكور على الدوام للعلم بأن جميع أحكام العامة ليست مخالفة للحق، فلا بد من حمله على الغلبة، فإنها غير منكرة، بل الظاهر من ملاحظة جملة من الأخبار ذلك، ومعها لا يكشف مخالفتهم عن كون الرشد في خلافهم على سبيل القطع، لأن غاية ما يفيده غلبة الباطل على أحكامهم (1) هو الظن في خصوص الموارد الشخصية بكون الرشد في خلافهم، ومن المعلوم أنه محتمل للخلاف وإلا لخرج عن كونه ظنا، وإنما يكشف مخالفتهم
359

حينئذ عن أبعدية خلافهم عن الباطل، لكن على هذا التقدير - أيضا - لا يفرق بين ما إذا كان خلافهم حكما واحدا وبين ما إذا كان أحكاما متعددة، إذ على الأول - أيضا - لا يعلم من غلبة الباطل على أحكامهم كون الحق هو ذلك الحكم المخالف لهم، بل غاية ما توجيه هي حينئذ - أيضا - إنما هو كونه أبعد عن الباطل، فلا تغفل.
قوله - قدس سره -: (لكنه خلاف الوجدان) (1)
أقول: لا يخفى إن الذي يقضي ببطلانه الوجدان إنما هو غلبة الباطل على جميع أحكامهم حتى أحكامهم المتفق عليها من الخاصة - أيضا - وأما خصوص أحكامهم التي لم يوافقهم الشيعة فيها أصلا أو لم توافقهم فيها جلهم فمنع غلبة الباطل عليها في حيز المنع، إذ المتأمل فيها يجد غلبة الباطل عليها.
وكيف كان فلم يعلم عدم غلبة الباطل عليها، ومورد أخبار الترجيح إنما هو هذه الطائفة من أحكامهم، فمع عدم معلومية انتفاء تلك الغلبة لا يرد الإشكال بالتعبد بالعلة، لأنا حينئذ نستكشف واقعية العلة وثبوتها بنفس تلك الأخبار لصدورها من أهل البيت عليهم السلام الذين هم أدرى بما في البيت.
ألا ترى أنه لو أخبرك أحدهم عليهم السلام بغلبة الباطل على الأحكام المذكورة فهل يبقى لك معه الشك في ثبوت تلك الغلبة، والمحكي عنهم بمنزلة المسموع منهم، فان الحكاية مبينة لما صدر منهم عليهم السلام.
نعم الإنصاف أن تلك الاخبار الحاكية عنهم ذلك ليست قطعية، لكن الإنصاف حصول الظن، بل الاطمئنان بصدقها ولو بملاحظة المجموع من حيث المجموع من أخبار الترجيح ومن غيرها، مضافا إلى ما حكي عن أبي حنيفة، ومن المعلوم أن الظن بصدقها ظن بثبوت تلك الغلبة،
360

فيكون بطلان الاحتمال الموافق لهم في الموارد الشخصية مظنونا، ضرورة أن الظن بما يفيد الظن بشيء ملازم للظن بذلك الشيء كالملازمة بين العلم بما يفيد العلم بشيء وبين العلم بذلك الشيء.
وكيف كان فالغرض منع لزوم التعبد بعلة الحكم، وقد عرفت وجهه.
ثم إن الترجيح بمخالفة العامة على الوجه الأول من الوجوه الأربعة التي ذكرها المصنف (قدس سره) إنما هو من باب التعبد الصرف.
وعلى ثانيها: إنما هو جهة تقوي مضمون الخبر المخالف لهم بالنسبة إلى مضمون الموافق لهم، فيدخل مخالفة العامة على ذلك الوجه في المرجحات المضمونية، كما أنها على رابعها تدخل في المرجحات لجهة الصدور دون المضمونية أو الصدورية أصلا.
وعلى ثالثها: يكون الترجيح بها - أيضا - تعبدا كالأول، إلا أنه ليس تعبدا صرفا غير ملحوظ فيه تقويته بمورده، أو كونه مطلوبا نفسيا - كما هو الحال في الأول - لفرض كون مخالفة العامة في الوجه الثالث من العناوين المطلوبة للشارع.
قوله - قدس سره -: (أما لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور إلى قوله (قدس سره) فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفا للعامة بناء على تعليل الترجيح بمخالفة العامة باحتمال التقية في الموافق) (1)
يعني بناء على أن يكون الترجيح بها لأجل كشفها عن صدور الموافق تقية كما هو الوجه الرابع من الوجوه المتقدمة الذي قلنا إنها باعتباره تدخل في المرجحات من حيث الصدور، وأما بناء على أن يكون الترجيح بها لأجل كشفها
361

عن أقربية مضمون المخالف إلى الحق فقد عرفت أنها بذلك الاعتبار من المرجحات المضمونية، وسيأتي من
المصنف تقديمها على المرجحات الصدورية فحكمه هنا بتقديم المرجحات الصدورية عليها مبني على كونها من المرجحات من حيث جهة الصدور.
قوله - قدس سره -: (لأن هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا - كالمتواترين - أو تعبدا - كما في الخبرين - بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الآخر... إلى آخره) (1)
حاصل ما أفاده (قدس سره) - في وجه تقديم المرجحات الصدورية على المرجحات من حيث جهة الصدور بتوضيح منا - أن جهة الصدور متفرعة على أصل الصدور، لأنها متأخرة عنه ومتوقفة عليه طبعا، ضرورة أن كون خبر صادرا لبيان الواقع، أو لغيره تقية، أو لغيرها من مصالح إظهار خلاف الواقع بصورة الواقع لا يعقل إلا أن يكون صادرا، فوصفا الصدور لبيان الواقع أو لغيره لا يتحقق موضوعهما إلا بأصل الصدور، وهذا الاعتبار يقتضي أن يكون الترجيح من حيث جهة الصدور ملحوظا بعد الفراغ عن أصل صدور كلا الخبرين المتعارضين قطعا أو تعبدا، لأجل وجود المقتضي للتعبد في كل منهما على حد سواء مع عدم مرجح للتعبد بصدور خصوص أحدهما، وأيضا التعبد بجهة الصدور قبل التعبد بأصل الصدور لغو خال عن الفائدة، لأنها نظير الدلالة، لا يترتب عليها شيء الا بعد الفراغ عن صدور المتن، إذ معنى التعبد بها ليس التعبد بصدور الراجح من جهتها، لأنه راجع إلى التعبد بصدور الراجح، بل معناه إنما هو التعبد بكون الراجح لبيان الواقع على تقدير صدوره.
وبعبارة أخرى: معناه هو التعبد بعدم كونه صادرا لبيان خلاف الواقع،
362

وهذا بمجرده لا يترتب عليه حكم أصلا، بل إنما ينفع بعد الفراغ عن إثبات أصل صدوره قطعا أو تعبدا، فلا بد من المصير أولا إلى الصدور، ثم بعد انقطاع اليد عن المرجحات الصدورية إلى المرجحات من حيث جهة الصدور.
لا يقال: أن قضية ما ذكر إنما هو إعمال المرجحات الصدورية في النص والظاهر أو الأظهر والظاهر بمعنى عدم جواز المصير إلى الترجيح أولا بقوة الدلالة بالنصوصية أو الأظهرية، بل يجب المصير أولا إلى المرجحات الصدورية ثم بعد فقدها إلى الترجيح بقوة الدلالة، إذ كما أن جهة الصدور متأخرة طبعا عن أصل الصدور فكذلك الدلالة متأخرة عنه كذلك وكما أن جهة الصدور بمجردها لا يترتب عليها شيء ولا فائدة فيها من دون إحراز الصدور المتن فكذلك لا فائدة في قوة الدلالة من دون إحراز صدور الأقوى دلالة.
لأنا نقول: إن حاصل ما ذكرنا إنما هو لزوم المصير إلى جهة الصدور بعد الفراغ عن أصل الصدور، وقياس الدلالة على جهة الصدور إنما يقتضي لزوم المصير إليها بعد الفراغ عن صدور المتن، وهذا مسلم وأما اقتضائه لوجوب إعمال المرجحات الصدورية في النص والأظهر مع الظاهر فلا، ضرورة أن الرجوع إلى المرجحات الصدورية إنما هو بعد حصول الدوران بين الخبرين من حيث الصدور، بأن يدور الأمر بين صدور هذا وبين صدور ذاك، ومن المعلوم أن منشأ ذلك الدوران إنما هو تنافي مدلوليهما وتعارضهما على وجه لا يفهم المراد منهما عرفا إلا ببيان ثالث، إذ بدونه لا مانع من الحكم بصدور كليهما بمقتضى دليل اعتبارهما من غير حاجة إلى دليل آخر أصلا، لأن عدم التعبد بصدور واحد منهما بمقتضى دليل اعتبارهما إنما هو نتيجة مقدمتين (1).

(1) ولأجل ذلك، أعني عدم اقتضاء دليل الاعتبار للتعبد بصدور واحد من المتعارضين في الظاهرين، نظرا إلى المقدمتين المذكورتين، يكون الأصل فيهما هو التساقط، ويكون التعبد بصدور أحدهما أو كليهما
محتاجا إلى دليل آخر غير ذلك الدليل بخلاف النص والأظهر مع الظاهر، لأن مقتضى الأصل [بالنسبة] إلى ذلك الدليل كما مر غير مرة هو التعبد بصدور كلا المتعارضين من غير حاجة إلى أدلة الترجيح أو التخيير أصلا. لمحرره عفا الله عنه.
363

إحداهما: دوران الأمر بين صدورهما لأجل تنافي مدلوليهما على الوجه المذكور.
وثانيهما: عدم مرجح لأحدهما بالنظر إلى ذلك الدليل، بمعنى كونهما على حد سواء في الدخول تحته.
والمقدمة الثانية إنما يمنع من التعبد بأحدهما بالخصوص على تقدير ثبوت المقدمة الأولى، إذ على تقدير انتفائها يعمل بذلك الدليل في كل منهما، بمعنى أنه يتعبد بصدور كل منهما لفرض شموله لهما مع عدم مانع من العمل به في كل منهما، ومن المعلوم انتفاء المقدمة الأولى في النص والظاهر والظاهر والأظهر، لما من غيره مرة من عدم التنافي عرفا بين الظاهر وبين كل من النص والأظهر، فلا دوران مع كون أحد المتعارضين نصا أو أظهر بالنظر إلى الصدور حتى لا يصلح دليل صدورهما لاقتضاء التعبد بصدور واحد منهما، فيقتضي التعبد بكل منهما، كاقتضائه لكون النص والأظهر متصرفين في الظاهر - كما مر فظهر بطلان المصير إلى المرجحات الصدورية في محل الفرض وظهر - أيضا - أن المصير إلى الترجيح بقوة الدلالة إنما هو بعد الفراغ عن أصل الصدور بمقتضى دليل السند من غير حاجة إلى دليل آخر أصلا.
ومن هنا ظهر اندفاع توهم المصير - في النص والأظهر مع الظاهر - إلى المرجحات من حيث جهة الصدور - أيضا -.
وتوضيح اندفاعه أنها كالمرجحات الصدورية مختصة بما إذا لم يمكن الجمع بين المتعارضين على وجه عرفي، وأما مع إمكانه - كما هو المفروض والمتحقق
364

مع النص والأظهر - فلا مساس لها بوجه.
والحاصل: أنه مع وجود المرجح لأحد المتعارضين من حيث الدلالة لا مورد للمرجحات الصدورية ولا للمرجحات من حيث جهة الصدور أصلا، إذ معه لا تنافي بينهما عرفا حتى يلتجأ إلى الترجيح بإحدى الجهتين الأخيرتين.
وما ذكرنا - في مطاوي بعض كلماتنا المتقدمة - من أن الترجيح من حيث الدلالة مقدم على الترجيح من حيث الصدور أو من حيث جهة الصدور ليس المراد به أنه إذا دار الأمر في مورد بين الترجيح من حيث الدلالة وبين الترجيح من حيث الصدور أو (1) من حيث جهة الصدور يقدم الترجيح من حيث الدلالة حتى ينافي ذلك الذي ذكره في هذا المقام من أنه مع وجود الترجيح من حيث الدلالة لا مورد لغيره أصلا، بل المراد به إنما هو تقديمه على غيره بالنظر إلى نوع المتعارضين لا آحاده وأشخاصه.
ومن هنا ظهر - أيضا - فساد قياس المرجح من حيث جهة الصدور في الظاهرين على المرجح من حيث الدلالة في النص أو الأظهر مع الظاهر، من حيث عدم المصير فيهما - أيضا - إلى المرجحات من حيث الصدور معللا بأن الأصل في الخبرين المتعارضين المفروض اجتماعهما لشرائط الحجية التعبد بصدور كليهما كما هو الحال ثمة.
وتوضيح الفساد أنه مع وجود المرجح من حيث الدلالة لا مورد للمرجحات الصدورية أصلا، لاختصاصها بما لم يمكن الجمع بين المتعارضين عرفا ومع وجوده لا شبهة في إمكانه، والأخذ بالمرجحات من حيث جهة الصدور دون المرجحات الصدورية مبني على اختصاصها بموارد فقد المرجحات من حيث جهة الصدور وهو غير معلوم.
365

ويدفعه - أيضا - أن دعوى أن الأصل في الخبرين الصدور إن كانت مع قطع النظر عن ورود دليل على اعتبارهما فهي متضحة الفساد، إذ معه يكون الأصل عدم الصدور حتى في النص والظاهر والظاهر والأظهر - أيضا -.
وإن كانت بالنظر إلى دليل اعتبارهما الذي هو غير أخبار الترجيح أو التخيير وهو الدليل الأولي فهي مسلمة في النص والظاهر، والظاهر والأظهر، دون الظاهرين، لأن مؤداه إنما هو التعبد بكل خبر على وجه التعيين وهو غير ممكن في الظاهرين معا، لأدائه إلى التعبد بالمتناقضين لو تعبدنا الشارع بمدلوليهما معا - أيضا - أو إلى الإجمال على تقدير عدم تعبده بمدلوليهما معا فلا يزيد التعبد بصدورهما معا على عدم التعبد بصدورهما فائدة، فيلغى التعبد بصدورهما معا على وجه التعيين مطلقا، والتعبد بأحدهما معينا دون آخر لا يقتضيه ذلك الدليل، لفرض دخولهما فيه على حد سواء، والتعبد بكليهما تخييرا ليس من مدلوله، مع أن المدعى التعبد بصدور كليهما معا وقد عرفت ما فيه.
هذا بخلاف خبرين يكون أحدهما نصا أو أظهر، إذ لا مانع فيهما من التعبد بصدور كليهما معا والتعبد بمدلوليهما حسبما تقضيه القواعد، ولا يرد حينئذ اللغوية المذكورة في الظاهرين، لأن مقتضى القاعدة إنما هو كون النص والأظهر شارحين للظاهر فمدلول النص والأظهر هو ظاهراهما الأوليان ومدلول الظاهر ما يبقى له بعد التصرف فيه بهما، ومن المعلوم أنه على تقدير التعبد بذينك الخبرين يترتب عليهما تلك المداليل، وعلى تقدير عدم التعبد بهما لا يترتب عليهما شيء منها. فتظهر الفائدة بين التقديرين، فهي الفارقة بين المقامين.
و - أيضا - لا معنى للتعبد بصدور خبر يتعين طرحه لخلوه عن الفائدة، ولذا لا يشمل أدلة اعتبار الخبر لخبر يتعين حمله على التقية على تقدير صدوره.
لا يقال: إن نظير هذا وارد على التعبد بصدور خبر ظاهر معارض للنص
366

أو الأظهر، لأنه يجب طرح ظاهره على تقدير التعبد بصدوره.
لأنا نقول: المحذور إنما هي اللغوية الناشئة من عدم الفائدة، ومن المعلوم أن غاية ما هناك هي عدم التعبد بظاهر ذلك الخبر، لكن لا يلزم منه خلو التعبد به عن الفائدة رأسا لأنه على تقدير طرح ظاهره يؤخذ بمأوله ويكون دليلا وحجة على إثبات معناه المؤول إليه وهو من الفوائد المهمة.
فإن قلت: إن ما ذكر من لزوم اللغوية على تقدير التعبد بصدور ما يتعين حمله على التقية يلزمكم بعد مساواة الخبرين الظاهرين في المرجحات الصدورية، لأن عدم التعبد بصدور واحد منهما وإن كان مقتضى الأصل الأولي لكنه مخالف للإجماع، لقيامه على التعبد بأحدهما لا محالة، والتعبد بأحدهما بالخصوص دون الآخر ترجيح بلا مرجح، لفرض مساواتهما في المرجحات من حيث الصدور، فيجب التعبد بصدور كليهما معا، فيلزم التعبد بما وافق منهما العامة الذي يجب حمله على التقية، فيلزمكم الكر على [ما] فررتم منه بالأخرة.
قلنا: مقتضى الكلية المستفادة من أخبار الترجيح هو الترجيح بكل مزية موجبة لأقربية موردها إلى الحق أو أبعديته عن الباطل بالإضافة إلى فاقدها، ومن المعلوم أنه مع فرض كون أحد الخبرين مخالفا للعامة مع مساواته للموافق لهم في سائر الجهات يكون هو أبعد عن الباطل، فيجب ترجيحه على الموافق لهم لذلك، فلا يلزم من مساواته له في المرجحات الصدورية التعبد بكليهما معا، لأنه مبني على عدم المرجح، وقد عرفت أن مخالفة العامة مرجحة.
فإن قلت: معنى طرح الموافق للعامة إنما هو حمله على التقية، ومن المعلوم أنه لا يعقل بدون التعبد بأصل صدوره، لأن صدوره تقية متفرع على أصل صدوره فيجب التعبد بصدوره - أيضا - فعاد المحذور لذلك.
قلنا: معنى طرحه ليس ما ذكر، بل إنما هو التعبد بالمخالف دون رأسا.
وبعبارة أخرى: المراد به إنما هو عدم التعبد بالموافق للعامة رأسا ومن
367

أصله، لا التعبد بصدوره تقية.
وبعبارة ثالثة: الغرض أنه إذا دار الأمر بين خبرين أحدهما مخالف للعامة والآخر موافق لهم مع فرض مساواتهما في سائر الجهات، فنحن إنما نتعبد بالمخالف ولا نتعبد بالموافق أصلا لا بعدم صدوره من أصله ولا بصدوره تقية (1).
368