الكتاب: جواهر الكلام
المؤلف: الشيخ الجواهري
الجزء: ٢
الوفاة: ١٢٦٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: تحقيق وتعليق : الشيخ عباس القوچاني
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٣٦٥ ش
المطبعة: خورشيد
الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران
ردمك:
ملاحظات: نهض بمشروعه : الشيخ علي الآخوندي

جواهر الكلام
" في شرح شرائع الاسلام "
تأليف
شيخ الفقهاء وإمام المحققين الشيخ محمد حسن النجفي
المتوفى سنة 1266
الجزء الثاني
قوبل بنسخة الأصل المخطوطة والمصححة بقلم المصنف طاب ثراه
حققه وعلق عليه الشيخ عباس القوچاني
نهض بمشروعه
الشيخ علي الآخوندي
* نام كتاب: جواهر الكلام
* تأليف: الشيخ محمد حسن النجفي
* ناشر: دار الكتب الاسلامية
* تيراژ: 1500 جلد
* نوبت چاپ: دوم
* تاريخ انتشار: بهار 1365
چاپ از: چاپخانه خورشيد
آدرس ناشر: تهران، بإزار سلطاني، دار الكتب الاسلامية
تلفن 520410 - 527449
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خلقه محمد وآله صلوات الله
عليهم أجمعين، (الثاني) من الفصول التي تتعلق بالوضوء ولو بوجه ما، ككون
الغالب فيمن أراده التخلي ونحو ذلك،
(في أحكام الخلوة) من الواجب والمستحب
والمكروه، (وهي ثلاثة الأول).
(في كيفية التخلي)
وحيث كان ذلك معرضا لتكشف العورة قال هنا كغيره من الأصحاب (ويجب
فيه ستر) بشرة (العورة) دون الحجم عن الناظر المحترم بما يحصل به مسماه عرفا من
كل ما يمنع من إحساس البصر، وإلا فهو لا يخصه، كما لا يختص ما يستتر به من حيث
ذلك بشئ، فتجزي اليد وغيرها، نعم قد يختص من حيث الصلاة بالملبوس ونحوه
على تفصيل يأتي إنشاء الله بين المختار والمضطر، ويدل على أصل الحكم كحرمة النظر
بعد الاجماع محصلا ومنقولا، بل ضرورة الدين في الجملة ما عن الصادق عن آبائه
(عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) (1) في حديث المناهي قال (إذا اغتسل أحدكم
فليحاذر على عورته، وقال: لا يدخلن أحدكم الحمام إلا بمئزر ونهى أن ينظر الرجل

(1) الوسائل الباب - 1 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2
2

إلى عورة أخيه المسلم، وقال: من تأمل عورة أخيه المسلم لعنه سبعون ألف ملك،
ونهى أن تنظر المرأة إلى عورة المرأة، وقال: من نظر إلى عورة أخيه المسلم أو عورة
غير أهله متعمدا أدخله الله مع المنافقين الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس، ولم
يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله) وقول الصادق (عليه السلام) أيضا (1) في تفسير
قوله تعالى (2) (قل للمؤمنين يغضوا) إلى آخره: " كل ما كان في كتاب الله تعالى من
ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا إلا في هذا الموضع، فإنه للحفظ من أن ينظر إليه " كما
عن علي (عليه السلام) (3) في تفسيرها أيضا أنه " لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن،
أو يمكنه من النظر إلى فرجه، ثم قال (قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن
فروجهن) أي ممن يلحقهن النظر، كما جاء في حفظ الفروج، والنظر سبب إيقاع الفعل
من الزنا وغيره) وما في صحيح حريز (4) عن الصادق (عليه السلام) " لا ينظر الرجل
إلى عورة أخيه " إلى غير ذلك من الأخبار، مثل ما دل على الأمر (5) بالمئزر عند
دخول الحمام، والنهي عنه بغيره، وفي بعضها الإشارة إلى أن ذلك من جهة النظر
، كقوله (صلى الله عليه وآله) (6): " يا علي إياك ودخول الحمام بغير مئزر، ملعون الناظر
والمنظور إليه " كما في آخر تعليل النهي (7) عن دخول الماء بأن للماء سكنة
. والحاصل ما دل على وجوب الستر وحرمة النظر أكثر من أن يحصى، وإن كان
في استفادة الأول من حرمة الثاني كما وقع لبعضهم نظر، إذ لا يتم إلا من جهة الإعانة
على الإثم، وهي غير مطردة في غير المكلف ونحوه، لكن ذلك لا يقدح في أصل

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3
(2) سورة النور - آية 30
(3) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5 - 1
(4) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5 - 1
(5) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب آداب الحمام - حديث 2 - 5
(6) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب آداب الحمام - حديث 2 - 5
(7) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب آداب الحمام - حديث 2 و 3 و 4
3

الحكم، كما لا يقدح قصور السند أو الدلالة في بعض ما تقدم، واشتمال بعض الأخبار
(1) على لفظ الكراهة مع احتمالها الحرمة، لما عرفت، وكذا لا يقدح ما في بعضها
من تفسير قوله (عليه السلام) (2): " عورة المؤمن على المؤمن حرام " بإذاعة سره
أو إذلال ذاته، أو حفظ ما يعاب عليه من كلامه لتعييره، وأنه ليس المراد منها المعنى
المعروف، لما عرفت أيضا من عدم انحصار الدليل بهذه العبارة، مع إمكان إرادة
المعنيين منها على نوع من المجاز، كما يقضي به الجمع بين ما تقدم وبين خبر حنان
ابن سدير (3) قال: " دخلت أنا وأبي وجدي وعمي حماما بالمدينة، فإذا رجل في
بيت المسلخ، إلى أن قال: ما يمنعكم من الإزار، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: عورة المؤمن على المؤمن حرام، ثم قال: سألنا عن الرجل فإذا هو علي بن
الحسين (عليه السلام) " وما في بعضها من عدم إرادة ذلك منها محمول على عدم إرادته
بخصوصه دون غيره.
ثم الظاهر من إطلاق النص والفتوى أنه يجب الستر عن كل ناظر محترم عدا
ما استثني من الزوج والزوجة ونحوهما، من غير فرق بين كونه مكلفا أو غير مكلف
كالمجنون والصبي المميز، وما في بعض الأخبار المتقدمة من الرجل والمسلم والمرأة ونحو
ذلك لا يقضي بالتقييد، نعم لا بأس بغير المميز كسائر الحيوانات، للأصل والسيرة
القاطعة، مع عدم شمول الأدلة لمثله، لأن المتبادر من الحفظ من النظر كون النظر
مقصودا للناظر لا مجرد البصر، وكذا لا فرق فيها بين كون الناظر مسلما أو كافرا ذكرا
أو أنثى، وما يقال إن الإناث من الكفار بمنزلة الإماء المملوكة فيه أنه ليس في هذا
الحكم، ومن ثم لم يستثنه أحد من الأصحاب في المقام، وأما حرمة النظر إلى العورة

(1) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب آداب الحمام - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب آداب الحمام - حديث 1 و 2 و 3
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب آداب الحمام - حديث 4
4

فالظاهر أن كل من يجب التستر عنه يحرم النظر إلى عورته، من غير فرق بين كونه
مكلفا بالتستر أولا كالمجنون وشبهه، ولا بين كونه مسلما أو كافرا ذكرا أو أنثى،
فيحرم النظر إلى عورات المميزين، وإن كان إقامة الدليل عليه من السنة في غاية الاشكال،
لكن قد يستدل عليه بقوله (عليه السلام): " لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه " و " عورة
المؤمن على المؤمن حرام " بدعوى دخوله تحت لفظ الأخ والمؤمن، وخروجه عن الحكم
التكليفي للاجماع غير قادح، وبقوله: " من نظر إلى غير أهله متعمدا أدخله الله) إلى آخره
وبقوله (عليه السلام) (1): (ادخله بمئزر وغض بصرك) وقول النبي (صلى الله عليه وآله):
" يا علي إياك ودخول الحمام بغير مئزر ملعون ملعون الناظر والمنظور إليه " إلى غير ذلك،
إلا أن الكل لا يخلو من نظر، فالمسألة لا تخلو من إشكال إن لم يقم إجماع يقطع به الأصل،
ولم أعثر على دعواه في المقام فتأمل.
وأما ما عن بعضهم من جواز النظر إلى عورة غير المسلم للأصل، ولظاهر بعض
الأخبار المتقدمة، مضافا إلى تصريح بعضها كقول الصادق (عليه السلام) (2): " النظر
إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار " وفي آخر عنه (عليه السلام) (3)
أيضا " إنما أكره النظر إلى عورة المسلم، فإن النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل النظر
إلى عورة الحمار " فضعيف، كما عن الشهيد في الذكرى، أخذا باطلاق بعض الروايات (4)
المنجبرة باطلاق الفتوى والاجماع، فلا يجسر على تقييد ذلك بهاتين الروايتين
مع ما فيهما من الارسال وعدم الجابر، وبذلك يضعف المفهوم المتقدم لو قلنا بحجية مثله،
وبأن مقتضاه عدم وجوب التستر عن الكافر، ولم يقل به أحد، وأيضا ففي بعض
الروايات السابقة أن النظر سبب الايقاع في الزنا، ولعل حرمته من هذه الجهة، فلا

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب آداب الحمام - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب آداب الحمام - حديث 1 - 2
(3) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب آداب الحمام - حديث 1 - 2
(4) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب آداب الحمام - حديث 5
5

يتفاوت بين الكافر والمسلم، فالتحقيق أنه يجب التستر عنهم، كما أنه يجب التستر عليهم،
ويحرم النظر إليهم، كما أنه يحرم النظر منهم، والله أعلم. وقد ذكرنا في باب الصلاة تحقيق أن العورة هي القبل والدبر مع زيادة الأنثيين
في الرجل وحكم الخنثى المشكل والممسوح، فلاحظ وتأمل. وليعلم أنه لا إشكال في
وجوب التستر مع العلم بالناظر، ويقوى إلحاق الظن، وفي الشك وجهان، ولعل في
الأمر بالمئزر وعند دخول الحمام، والمحاذرة على العورة عند الغسل، وما ورد في تفسير
حفظ الفروج إشارة إلى ذلك، وأما الوهم فالأقوى العدم، بل ينبغي القطع به في الضعيف،
وهل حرمة النظر كوجوب التستر أولا؟ الأقوى الأول، وقد يشير إليه قوله (عليه
السلام): (وغض بصرك) فتأمل جيدا.
(ويستحب فيه ستر البدن) أي استتار الشخص نفسه عند إرادة التخلي، إما
بأن يبعد المذهب، أو يلج في حفيرة، أو يدخل بناء، لقول الصادق (عليه السلام)
(1) في خبر حماد بن عيسى قال: " قال: لقمان لابنه يا بني إذا سافرت مع قوم فأكثر
استشارتهم، إلى أن قال: وإن أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب في الأرض "
وعنه (عليه السلام) أيضا (2) قال: (ما أوتي لقمان الحكمة لحسب ولا مال ولا جمال،
ولكنه كان رجلا قويا في أمر الله متورعا ساكنا سكيتا، ولم يره أحد من الناس على
بول ولا غائط ولا اغتسال، لشدة تستره وتحفظه في أمره، إلى أن قال: وبذلك
أوتي الحكمة ومنح العطية " وعن النبي (صلى الله عليه وآله) (3) " أنه لم ير على بول
ولا غائط " وعنه (عليه السلام) أيضا (4) أنه (من أتى الغائط فليستتر) وعن كشف
الغمة (5) عن جنيد بن عبد الله في حديث قال: (نزلنا النهروان، فبرزت عن
الصفوف، وركزت رمحي، ووضعت ترسي إليه، واستترت من الشمس، وإني

(1) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 2 - 3
(2) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 2 - 3
(3) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 2 - 3
(4) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4 - 5
(5) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4 - 5
6

لجالس إذ ورد علي أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أخا الأزد معك طهور،
قلت: نعم، فناولته الإداوة، فمضى حتى لم أره، وأقبل وقد تطهر، فجلس في ظل
الترس " وعن بعض الكتب (1) روينا عن بعضهم (عليهم السلام) (أنه أمر بابتناء
مخرج في الدار، فأشاروا إلى موضع غير مستتر من الدار، فقال: يا هؤلاء إن الله
عز وجل لما خلق الانسان خلق مخرجه في أستر موضع منه، وكذلك ينبغي أن يكون
المخرج في أستر موضع في الدار " وقول الكاظم (عليه السلام) (2) لأبي حنيفة: " يتوارى
خلف الجدار " كل ذلك مع موافقته للاحتشام، وإطلاق المصنف وغيره كتصريح بعض
ما ذكرنا من الأخبار يشمل البول والغائط، فما وقع في بعض العبارات من تخصيص
الحكم بالثاني ضعيف، اللهم إلا أن لا يريده، كما يستفاد منه أن بيت الخلاء كاف،
وهو كذلك، ووقوع التباعد منه (عليه السلام) لا يدل على قصر الحكم، بل الظاهر
أنه لمكان أنه لم يستعمل البيوت للخلاء، نعم لا يكفي الاستتار بعباءة ونحوها. وفي الظلمة
وشبهها وجهان، أقواهما الاجتزاء بها.
(ويحرم استقبال القبلة واستدبارها) عينا أو جهة، والمرجع فيهما العرف،
فالاستقبال في الجالس والواقف بمقاديم البدن، بل الظاهر تحققه ولو مع انحراف الوجه،
والمستلقي كالمحتضر، وعكسه المكبوب، وفي المضطجع بوضع رأسه في المغرب ورجليه
في المشرق وبالعكس، والاستدبار بالمآخير، فما وقع من بعضهم من التردد في ذلك
في غير الجالس والواقف استقبالا واستدبارا سيما مع عدم العجز ضعيف، للصدق العرفي
فيه، وعدم اكتفاء الحالف فيه مع عدم العجز قد يكون لانصراف خصوص الحلف
إلى الكيفية الخاصة، وإلا فلا ينبغي الشك في الاكتفاء للحالف على النوم مستلقيا أو
مضطجعا مستقبلا، ودعوى انصراف النهى عن التغوط مثلا مستقبلا إلى الكيفية

(1) المستدرك - الباب - 4 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 7
7

المتعارفة في التغوط ممنوعة، إذا هي ندرة لا تقدح في الشمول، إذ لا شك في أنه يصدق
على النائم مثلا أنه تغوط مستقبلا، ويظهر من المقداد في التنقيح أن المحرم إنما هو الاستقبال
بالفرج دون الوجه والبدن، فمن بال مستقبلا وحرف ذكره عنها لم يكن عليه بأس،
ولعل وجهه أنه هو المفهوم من استقبال القبلة ببول وغائط، لأنه مقتضى الباء، ولبعض
الأخبار (1) " أنه نهى (صلى الله عليه وآله) أن يبول الرجل وفرجه باد للقبلة " وفيه
مع خلو أكثر الأخبار عن الباء أن المراد منها معنى (في) أي لا تكون مستقبلا في هذا
الحال، ولا دلالة لما ذكره أخيرا، بل المفهوم منه عرفا خلاف ما ادعاه فتأمل.
ثم إن الظاهر عدم دخول ما جعله الشارع قبلة في بعض الأوقات، كجعل
ناصية الدابة مثلا قبلة للراكب ونحو ذلك، لأن القبلة إنما هي اسم للعين، وشاع إطلاقها
على الجهة، وكذا ما بين المشرق والمغرب وإن جعله قبلة في نحو التحير، ودعوى
استفادته من قوله (عليه السلام) (2): " ما بين المشرق والمغرب قبلة " لكونه كقوله
(صلى الله عليه وآله) (3): " الطواف بالبيت صلاة " ممنوعة، لتبادر الصلاة منه
لا أقل من الشك.
وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في حرمة الاستقبال والاستدبار، بل في كشف
اللثام هنا الجزم بحرمتهما حال الجماع أيضا، بل أرسله إرسال المسلمات وإن كنا لم نجده
لغيره، بل هو نفسه وغيره صرح بكراهتهما في كتاب النكاح على وجه المفروغية، ولعله
الصواب. كما تسمعه إن شاء الله تعالى.
(و) لا في أنه (يستوى في ذلك الصحاري
والأبنية) كما هو خيرة المبسوط والخلاف والسرائر والمعتبر والنافع والمنتهى والإرشاد
والقواعد وجامع المقاصد وغيرها، بل هو المشهور نقلا وتحصيلا، بل في الخلاف

(1) المستدرك - الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4
(2) الوسائل - الباب 2 - من أبواب القبلة - حديث - 9 - من كتاب الصلاة
(3) سنن البيهقي ج 5 ص 85
8

وعن الغنية الاجماع عليه، وهو الحجة، مضافا إلى إطلاق المرسل (1) المروي في الكافي
والتهذيب والفقيه، بل في المقنع أيضا روايته عن الرضا (عليه السلام) قال: " سئل
أبو الحسن (عليه السلام) ما حد الغائط؟ قال: لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستقبل
الريح ولا تستدبرها ". وقول الصادق (2) عن آبائه (عليهم السلام) في خبر الحسين بن
زيد: " أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال في حديث المناهي: إذا دخلتم الغائط فتجنبوا
القبلة " وعن الفقيه (3) أنه قال: " نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن استقبال القبلة
ببول أو غائط " وفي آخر (4) " إذا أتى أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا
يولها ظهره " وخبر عيسى بن عبد الله الهاشمي (5) عن أبيه عن جده عن علي (عليه
السلام) قال: " قال النبي (صلى الله عليه وآله): إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة
ولا تستدبرها، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها، ولكن شرقوا أو غربوا " وفي مرسل
عبد الحميد (6) سئل الحسن بن علي (عليهما السلام) (ما حد الغائط؟ قال: لا تستقبل
القبلة ولا تستدبرها، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها " وفي مرسل علي بن إبراهيم (7)
" قال: خرج أبو حنيفة من عند أبي عبد الله (عليه السلام) وأبو الحسن موسى (عليه
السلام) قائم وهو غلام فقال له أبو حنيفة: يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم، فقال:
اجتنب أفنية المساجد وشطوط الأنهار ومساقط الثمار ومنازل النزال، ولا تستقبل القبلة
بغائط ولا بول، وارفع ثوبك، وضع حيث شئت).
وهي مع استفاضتها وتعاضدها ومناسبتها للتعظيم منجبرة بما سمعت من
الشهرة والاجماع، فلا يقدح ما في أسانيدها من الضعف والارسال واشتمالها على ما لا

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة حديث 2 - 3 - 4
(2) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة حديث 2 - 3 - 4
(3) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة حديث 2 - 3 - 4
(4) كنز العمال ج 5 ص 86 الرقم 1830
(5) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5 وليس فيه (ولا تستقبل
الريح ولا تستدبرها)
(6) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6 - 1
(7) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6 - 1
9

يقول به الأصحاب كالنهي عن استقبال الريح واستدبارها، والأمر بالتشريق والتغريب،
مع خلو بعضها عن الأمرين لا يصلح لأن يكون قرينة على التجوز بالنهي، مع احتمال
الأمر بالتشريق والتغريب الاستحباب، لقصوره عن إفادة الوجوب لعدم الجابر له
في خصوص ذلك. أو يراد الميل إلى الجهتين، وهو لازم لتحريم الاستقبال والاستدبار.
وكيف يكون ذلك قرينة على الكراهة مع ما عرفت من أن المشهور بل نقل الاجماع عليه
الحرمة، بل قد يدعى أنه محصل، لانقراض الخلاف، وذلك لأن المنقول عنه
الخلاف إنما هو ابن الجنيد والمفيد وسلار على ما فيه من الاضطراب، مع أن عبارة المفيد
غير صريحة في ذلك، فإنه بعد أن قال: " ولا يستقبل القبلة بوجهه ولا يستدبرها،
ولكن يجلس على استقبال المشرق إن شاء أو المغرب " قال: " وإذا دخل الانسان دارا
قد بني فيها مقعد للغائط على استقبال القبلة أو استدبارها لم يضره الجلوس عليه. وإنما
يكره ذلك في الصحاري والمواضع التي يتمكن فيها من الانحراف عن القبلة " فقد يكون
مراده من لفظ الكراهة الحرمة، ومن عبارته الأولى صورة عدم التمكن من الانحراف ومن
غير هذا الموضع، وقد يستأنس لذلك بعبارات وقعت لمن علم أن مذهبه التحريم كما تسمع
إن شاء الله تعالى.
وأما ابن الجنيد فلم نعلم مذهبه من غير جهة النقل، فقد نقل أنه قال: " يستحب
للانسان إذا أراد التغوط في الصحراء أن يجتنب استقبال القبلة " وقد يريد الوجوب،
فانحصر الخلاف في سلار، فإنه قال: " وليجلس غير مستقبل القبلة ولا مستدبرها،
فإن كان في موضع قد بني على استقبالها واستدبارها فلينحرف في قعوده، هذا إذا كان
في الصحاري والفلوات، وقد رخص في ذلك في الدور، وتجنبه أفضل " ولعل وجهه الجمع
بين ما تقدم من الأدلة وبين خبر محمد بن إسماعيل (1) قال: " دخلت على أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) وفي منزله كنيف مستقبل القبلة " وهو - مع عدم مقاومته لما سمعت

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 7
10

من الأخبار، ومعارضته للاجماع المنقول - غير صريح في ذلك، بل ولا ظاهر، لعدم
استلزام ذلك الجلوس فيه منه (عليه السلام) كذلك، مع احتمال كون البناء على القبلة
دون محل التغوط، بل ينبغي القطع بذلك، لأنه لا كلام في كون ذلك مرجوحا، وهم
منزهون عن الاستمرار عليه، وكيف يتخيل أنهم (عليهم السلام) يأمرون الناس
ويؤكدون غاية التأكيد على تعظيم القبلة وإجلالها مع أنهم لا يفعلون ذلك، ويضعون
الكنيف في دورهم لهم ولعيالهم وخدامهم وضيوفهم، كلا إن ذلك ممنوع، وعبارة المفيد
وإن اقتضى ظاهرها الإباحة لكن قد عرفت الكلام فيها، ولم ينقل عن ابن الجنيد الحكم
في البناء، مع أن هذا الراوي قد روى عن الرضا (عليه السلام) (1) قال: سمعته
يقول: " من بال حذاء القبلة ثم ذكر فانحرف عنها إجلالا للقبلة وتعظيما لها لم يقم من مقعده
ذلك حتى يغفر له " على أن قوله ثم ذكر فانحرف فيه إشعار أنه لا ينبغي أن يقع منه حال
العمد، وأيضا قوله في خبر عيسى إذا دخلت المخرج ظاهر في الأبنية، وكذلك مرسل
علي بن إبراهيم فتأمل.
وكيف كان فلا ينبغي الشك في المسألة، فما وقع من بعض المتأخرين من النزاع
في هذا الحكم إنما نشأ من سوء الطريقة،
والظاهر خروج الاستبراء والاستنجاء عن
هذا الحكم، وكذلك الخارج منه اتفاقا، والمسلوس والمبطون، لعدم ظهور تناول
الأدلة لمثل ذلك، بل قد يدعى ظهور العدم، لظهورها في التخلي، كقوله إذا
دخلتم المخرج وأين يضع الغريب ونحو ذلك، نعم قد يدل خبر عمار (2) على مساواة
حكم الاستنجاء قال: سألت الصادق (عليه السلام) " عن الرجل يريد أن يستنجي
كيف يقعد؟ قال: كما يقعد للغائط " ولكن دعوى ظهوره في المقام ممنوعة، إذ لم يعلم
إرادة السائل من الكيفية ماذا فتأمل.

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 7
(2) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2
11

وكذلك ينبغي القطع بخروج الجالس لخروج أحد الأخلاط أو الحقنة مع الخلوص
عن الحدث، ولا يضر الاحتمال مع عدم تحققه، بل قد يقال إن مثل هذا الخليط لا يدخل
لظهورها فيما ذكرنا من التخلي على النحو المتعارف،
ولو اشتبه القبلة وأمكنه تعرفها
وجب، مقدمة للامتثال، ولو تعذر وجب الاجتناب ما دام ممكنا، فإن حصرها
في جهة وإن لم يشخصها وجب عليه اجتناب تلك الجهة، وهل يقوم الاجتهاد في القبلة
عند عدم غيره مقام اليقين كما في الصلاة؟ لا يبعد ذلك، إما للالحاق بالصلاة، أو
لدعوى أنه يفهم من نحو قوله (عليه السلام) (لا يستقبل القبلة) قيام الظن مقام العلم عند
تعذره، أو لاستصحاب بقاء التكليف، فيقضي به العقل بقيام الظن مقام العلم، للزوم
التكليف بما لا يطاق بدونه، والكل لا يخلو من تأمل.
ولو دار الأمر بين الاستقبال أو الاستدبار قدم الأول، لكونه أعظم قبحا،
وبينه وبين تكشف العورة فالثاني، ومدار هذا الترجيح وغيره على ما يحصل عند المجتهد،
فينبغي مراعاة الميزان، وكان دليل تقديم الأعظم قبحا على غيره العقل، فضلا عن
النقل،
والظاهر أنه لا يجب على الأولياء تجنيب الأطفال المميزين أو غير مميزين،
للأصل والسيرة، وربما احتمل الوجوب للتعظيم، كما في كل ما كان منشأ الحكم فيه
ذلك، كحرمة المس ونحوها، وهو ضعيف، وقد يستفاد من رواية محمد بن إسماعيل
المتقدمة عن الرضا (عليه السلام) رجحان تجنب القبلة عن كل فعل ردي، وربما يستأنس
له بمرجوحية المواقعة مستقبلا ومستدبرا، بل في كشف اللثام حرمته، وقد يشم منه
إلحاق الأماكن المشرفة بالقبلة، بل عن النهاية للفاضل احتمال اختصاص النهي عن
الاستدبار بالمدينة ونحوها مما يساويها جهة، لاستلزام استقبال بيت المقدس، وإن
حكي عن الشهيد أنه قال هذا الاحتمال لا أصل له، ولعله كذلك، بل يمكن القطع بخلافه
من النصوص والفتاوى، على أن بيت المقدس قبلة منسوخة، نعم لا بأس باحترامه
من حيث كونه مكانا شريفا كما ذكرناه، والله العالم.
12

(ويجب الانحراف في موضع قد بني على ذلك) فإن لم يمكن وجب التخلي
في غيره، فإن لم يمكن جاز كل ذلك، قضية ما ذكرنا من الأدلة، وأشار المصنف
في هذه العبارة إلى شيئين، الأول الجواب عن ما سمعت من الرواية عن الرضا (عليه
السلام) أن في داره كنيفا مستقبل القبلة، والثاني إلى بعض عبارات وقعت ظاهرها
المنافاة كعبارة الشيخ في المبسوط، فإنه - بعد أن حكم بحرمة الاستقبال والاستدبار مع
التصريح بعدم الفرق بين الصحاري والأبنية - قال: " وإن كان الموضع مبنيا كذلك
وأمكنه الانحراف عنه وجب عليه ذلك، وإن لم يمكن لم يكن عليه شئ بالجلوس عليه "
قال في المعتبر: يريد أنه مع عدم إمكان غيره، قلت: يريد بالانحراف عنه تجنبه،
وكذلك ابن إدريس في السرائر، فإنه - بعد أن حكم بالحرمة مع التصريح بعدم الفرق
المذكور - قال: " وإن وجد لفظ الكراهة في بعض الكتب فليس بشئ يعتمد، إلا
أن يكون الموضع مبينا على وجه لا يمكن فيه الانحراف من القبلة " والظاهر أنه يريد مع عدم
التمكن من غيره، وقس على ذلك باقي العبارات، ولذا لم ينقله أحد من أصحابنا
خلافا في المسألة، فتأمل جيدا. (الثاني) من أحكام الخلوة.
(في الاستنجاء)
وهو من النجو، قيل بمعنى التشرف والتطلع، أو العذرة وما يخرج
من البطن بمعنى إزالتهما، أو من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض للجلوس عليه،
أو الاستتار به، وكيف كان فهو في الاصطلاح لا يصدق إلا على إزالة ما يبقى
من أحد الخبثين بعد خروجهما من المحلين الأصليين، أو المعتادين العارضين
في وجه عن ظاهر الموضع الذي خرجا منه، والظاهر عدم مدخلية قصد الإزالة في حقيقته،
فيدخل حينئذ الماء والأحجار الذي يزيل هذه النجاسة مع عدم القصد تحت الاستنجاء،
كما أن الظاهر أنه لا يشترط في الإزالة أن يكون بوجه شرعي، واحتمال القول أنه لا يدخل
13

يؤيده ما يظهر من بعض الأخبار (1) - ضعيف، كما لا يخفى على الخبير الملاحظ للأخبار فتأمل.
(ويجب غسل موضع البول) إجماعا منقولا ومحصلا، بل هو من ضروريات
مذهبنا، وسنة كادت تكون متواترة، بل هي كذلك، خلافا لأبي حنيفة، فلم
يوجب غسلا ولا غيره، والمراد الوجوب الشرطي لما يجب غسل النجاسة فيه، كالصلاة
مثلا دون الوضوء، فمن توضأ قبل أن يغسل موضع البول كان وضوؤه صحيحا، للأصل
والمعتبرة المستفيضة (2) وفيها الصحيح وغيره، كما قيل فيمن نسي غسل ذكره حتى
توضأ أنه يغسل ذكره، ولا يعيد الوضوء، ومع اعتبارها في نفسها معمول عليها عند
أكثر الأصحاب، بل لعله إجماعا، خلافا للمنقول عن الصدوق، فأوجب إعادة الوضوء
للصحيح عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) " في الرجل يتوضأ فينسى غسل ذكره
قال: يغسل ذكره، ثم يعيد الوضوء " وبمعناه الموثقان (4) ولقصورها عن المقاومة
لوجوه غير خفية وجب حملها على الاستحباب أو التقية أو غيرهما
ويشترط فيما ذكرنا من الغسل أن يكون (بالماء، ولا يجزي غيره) للأصل
والاجماع محصلا ومنقولا، والسنة التي كادت تكون متواترة (منها) الآمرة (5) بالغسل
الظاهر بالماء، و (منها) الآمرة (6) بصب الماء، و (منها) المصرحة (7) بأنه لا يجزي
غيره كقول أبي جعفر (عليه السلام) في صحيحة زرارة: " ويجزيك من الاستنجاء
ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنة، أما البول فلا بد من غسله " وقوله (عليه السلام)

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 0 - 9
(3) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 0 - 9
(4) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 8 والباب 10
من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
(5) الوسائل - الباب 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(6) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(7) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
14

أيضا في رواية بريد بن معاوية (1): " ولا يجزي من البول إلا الماء " خلافا للشافعي،
فاجتزى بغير الماء من التمسح بالأحجار، وما تقدم عن المرتضى سابقا من الاجتزاء
بالمضاف لعله لا يقول به في المقام، لعدم استثنائه من الاجماع. وإلا فهو محجوج بما تقدم
وأما ما في رواية سماعة (2) قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): " إني أبول ثم
أتمسح بالأحجار فيجئ مني البلل ما يفسد سراويلي، قال: ليس به بأس " وموثقة
حنان (3) قال: " سمعت رجلا سأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال إني ربما بلت فلا
أقدر على الماء، ويشتد ذلك علي، فقال: إذا بلت وتمسحت فامسح ذكرك بريقك،
فإن وجدت شيئا فقل هذا من ذاك " فهما مع الغض عما في السند معرض عنهما بين
الأصحاب، لما قد عرفت من الاجماع المحصل والمنقول، بل ضرورة المذهب، والأخبار
التي كادت تكون متواترة، فوجب حينئذ طرحهما، أو تأويلهما بما لا ننافي المقصود وإن
بعد بحمل نفي البأس في الأول على إرادة عدم نقض التيمم به وإن كان محكوما بنجاسته،
وأولى منه حملهما على التقية. ويؤيده أنها مروية عن الكاظم (عليه السلام) وقد كانت
التقية في زمانه في غاية الشدة، وبحمل الثانية على إرادة مسح غير المحل النجس حتى
يتخلص عن البلل الخارج منه، إذ قد يكون ذلك من الريق الذي جعله، فلا يتنجس
به، أو غير ذلك. وقد تفرد الكاشاني بشئ خالف به إجماع الفرقة الناجية. بل إجماع
المسلمين، بل الضرورة من الدين، مستندا إلى هاتين الروايتين ونحوهما، وهو أن
المتنجس لا ينجس، بل الذي ينجس إنما هو عين النجاسة، فمتى زالت بحجر أو خرقة
أو نحو ذلك لم ينجس محلها شيئا، وهو بالاعراض عنه حقيق، ولا يليق بالفقيه التصدي
لرد مثل ذلك بعد ما عرفت أنه مخالف لاجماع المسلمين وضرورة الدين.
(مع القدرة) أي يجب غسل الموضع المذكور بالماء للصلاة مثلا مع القدرة.

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6
(2) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4 - 7.
(3) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4 - 7.
15

أما مع العجز فيجب مسحه بما يزيل العين وإن بقي الأثر، تخفيفا للنجاسة، فلا ظهور في العبارة
في الاجتزاء حال العجز بغير الماء بالنسبة إلى الطهارة، للاجماع على عدم الفرق بين القدرة
والعجز، وما ذكرناه من وجوب التخفيف عند العجز هو ظاهر المقنعة والمصنف في المعتبر
وصريح العلامة في التذكرة والمنتهى، ونقل عن الشهيد في الذكرى، بل يظهر من
بعضهم أنه مشهور، وقد يناقش بعدم الدليل عليه، لكن قد يستفاد ذلك من قولهم
(عليهم السلام) (1): " لا يسقط الميسور بالمعسور " و " ما لا يدرك كله لا يترك كله " (2)
و " إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم " (3) بل ربما يشعر به خبر زرارة ومحمد بن
مسلم (4) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته (عن طهور المرأة في النفاس إذا
طهرت وكانت لا تستطيع أن تستنجي بالماء أنها إن استنجت اعتقرت، هل لها رخصة
أن تتوضأ من خارج وتنشفه بقطن أو خرقة؟ قال: نعم تنقى من داخل بقطن أو خرقة "
ومن تغيير خرقة المستحاضة عند الصلاة ونحو ذلك، بل ربما يشير إليه قول الصادق
(عليه السلام) (5) في خبر عبد الله بن بكير " في الرجل يبول ولا يكون عنده الماء
فيمسح ذكره بالحائط، قال: كل شئ يابس زكي " بل ينبغي القطع بوجوبه إذا كان
عدم التخفيف يوجب نجاسة بعض الأماكن الطاهرة، كما أنه يشكل الوجوب إذا
استلزم تنجيسها، ولعل ما ذكره بعضهم - من الاستدلال عليه بأن الواجب إزالة العين
والأثر، وتعذر أحدهما لا يسقط الثاني - يرجع إلى ما ذكرناه أولا من عدم سقوط الميسور
بالمعسور ونحوه، لكن يشكل دخول ما نحن فيه تحتها، فتأمل، لظهورها فيما إذا كان

(1) غوالي اللآلي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
(2) غوالي اللآلي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
(3) سنن البيهقي ج 1 ص 215 ولكن نصه (ما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم)
ورواه أيضا في غوالي اللآلي عن النبي (صلى الله عليه وآله) بعين ما ذكر في الجواهر وفي تفسير
الصافي - سورة المائدة - آية 101
(4) الوسائل الباب - 29 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3
(5) الوسائل الباب - 31 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
16

المكلف به ذا أفراد أو ذا أجزاء فتعذرا. دون الغسل والمسح مثلا، وما يقال من أن
الأمر بالغسل تضمن شيئين. أحدهما إزالة العين. والآخر الأثر ففيه أن ذلك ليس معنى
الغسل، بل هو من لوازمه، مع أنه قد يقال إنا مكلفون بإزالة الأثر وإزالة العين من
اللوازم نعم هي جارية في متعدد الغسل وفيما إذا أمكن غسل البعض ونحو ذلك. وهل يجب
التخفيف الحكمي كما إذا كان متنجسا بنجاسة يجب غسلها مرتين مثلا فتمكن من المرة
الواحدة؟ وجهان، أقواهما الأول.
(وأقل ما يجزي) من الماء في إزالة البول (مثلا ما على المخرج) كما في المقنعة
والمبسوط والتهذيب والنهاية والمراسم والمهذب والمعتبر والنافع والتذكرة والقواعد والتحرير
بل في جامع المقاصد وعن المسالك حكاية الشهرة عليه، وكأنها كذلك، خلافا للعلامة
في المنتهى والمختلف وعن أبي الصلاح وابن إدريس، فذهبوا إلى عدم التقدير بذلك،
وقال في الأول: " أقل ما يجزي من الماء لغسله ما أزال العين عن رأس الفرج، هذا قول
أبي الصلاح، وقدره الشيخان بمثلي ما على الحشفة من البلل، لنا إلى آخره " انتهى.
وقال في المختلف: " قال الشيخان وسلار وابن بابويه: أقل ما يجزي من الماء في البول
مثلا ما على الحشفة منه، والحق أنه لا يتقدر، بل يجب الإزالة مطلقا بما يسمى غسلا،
سواء زالت بأقل أو بأكثر، وهو قول أبي الصلاح وابن إدريس، وهو الظاهر من
كلام ابن البراج " انتهى. وقال أبو الصلاح في الكافي على ما نقل عنه: " وأقل ما يجزي
ما أزال البول عن رأس فرجه " وقال ابن إدريس: " وأقل ما يجزي من الماء لغسله ما يكون
جاريا ويسمى غسلا وقد روي (1) أن أقل ذلك مثلا ما عليه من البول، وإن زاد على
ذلك كان أفضل " ويظهر من الشهيد في البيان أنه نزاع في العبارة، قال فيه: " وأقله
مثلاه مع زوال العين، والاختلاف هنا في مجرد العبارة " انتهى.
قلت: هو لا يخلو من وجه وإن كان الأوجه خلافه، بل النزاع معنوي،

(1) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
17

كما يظهر من المصنف والعلامة وغيرهما، وتظهر الثمرة فيما لو تحقق الغسل بالأقل من المثلين
فلا يجتزى به، بناء على الأول، بخلاف الثاني، فيكون في الحقيقة اشتراط المثلين
تعبديا، ويؤيد ذلك أنه من المستبعد جدا توافق العبارات المتقدمة على التعبير بالمثلين،
وأنه أقل ما يجزي مع إرادتهم منه أن ذلك أقل ما يتحقق به الغسل، وإلا فهم متفقون
على أن المدار ما يسمى غسلا،: كلا إن ذلك غير ظاهر من كلماتهم مخالف لما فهم الفحول
منهم، نعم لا خلاف بينهم في عدم الاجتزاء بالمقدر إذا لم يتحقق به غسل، لكنه
فرض نادر، واحتمال أن الغسل لا يتحقق بالأقل من المثلين، فحينئذ لا خلاف
ممنوع، كاستعباد كون ذلك شرطا تعبديا، لعدم النظير في سائر ما يرفع به الخبث،
بل ولا ما يرفع به الحدث، بل ولا البول نفسه في غير الاستنجاء، إذ هو استبعاد
لغير البعيد بعد قضاء الدليل به، بل لعله الأقوى، لخبر نشيط بن صالح (1) عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: سألته " كم يجزي من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال:
مثلا ما على الحشفة من البلل " فيقيد به إطلاق الغسل، كما يقيد به إطلاق المرتين لو سلم
شموله للمقام، ودعوى أن في سندها مروك بن عبيد الذي هو غير معروف الحال
يدفعها - مع أن ذلك غير قادح، لما عرفت من انجبارها بالشهرة المحصلة والمنقولة - أنه
نقل العلامة في الخلاصة عن الكشي أنه قال محمد بن مسعود سألت علي بن الحسن عن
مروك بن عبيد بن سالم بن أبي حفصة، فقال: ثقة شيخ صدوق، كدعوى أن هذه
الرواية معارضة بروايته الأخرى المؤيدة بأصل براءة الذمة من الزائد، والأخبار (2) المطلقة
الآمرة بالغسل، وأن الاستنجاء حده النقا، فإنه روى أيضا عن أبي عبد الله (عليه
السلام) (3) قال: " ويجزي من البول أن تغسله بمثله " إذ الأصل مقطوع باستصحاب
النجاسة، وبما سمعت من الرواية المنجبرة بما تقدم، وبذلك تقيد المطلقات، مع

(1) الوسائل الباب 26 من أبواب أحكام الخلوة حديث - 5 - 7
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة
(3) الوسائل الباب 26 من أبواب أحكام الخلوة حديث - 5 - 7
18

كون الظاهر فيها انصرافها إلى الفرد الغالب، وهو تحقق الغسل بما زاد على المثلين فضلا
عنهما، والرواية - مع كونها مرسلة لا جابر لها، وموهونة باعراض المشهور، مضافا إلى
استبعاد تحقق الغسل بالمثل، لاشتراط الغلبة والاستيلاء، وهو منتف فيه إلا على تكلف
تسمعه إن شاء الله تعالى - غير صريحة الدلالة، بل ولا ظاهرة، لاحتمال أن يراد
بمثله مثله من الماء، كما أشارت إليه بعض الأخبار (1) " أنه ماء فلا يزال إلا بالماء "
بل يحتمل أن تكون الرواية بمثليه، وحذفت الياء من النساخ، واحتمال العكس في الرواية
الأولى في غاية البعد، لما عرفت من انجبارها بفتوى الأصحاب الذين صدرت منهم
الروايات، وربما احتمل فيها احتمالات أخر لا بأس بها في مقام الجمع بعد ما سمعت من
رجحان الأولى من وجوه متعددة، ويظهر من المحقق الثاني في جامع المقاصد وعن تعليقه
على الكتاب والنافع أن المراد بالمثلين في الرواية وكلام الأصحاب كناية عن وجوب
الغسل مرتين، مع اختياره لوجوب المرتين، ومثله نقل عن الشهيد الثاني في المسالك،
والكلام معهما في مقامين.
(الأول) جعل المثلين في الرواية وكلام الأصحاب عبارة عن الغسلتين، وفيه
أنه لا شاهد لهما على ذلك، بل الظاهر خلافه، إذ الرواية ظاهرة في التقدير، لسؤالها
عنه من غير تعرض للتعدد، وكذلك كلام الأصحاب، فإنهم - بعد أن ذكروا أن
البول لا بد من غسله بالماء - قالوا: وأقل ما يجزي من الماء مثلا ما عليه من البلل، وهو
باطلاقه شامل لما إذا كان ذلك دفعة أو دفعتين بعد تحقق مسمى الغسل به، على أنه
من المستبعد تحقق مسمى الغسل بالمثل، لعدم حصول الغلبة والاستيلاء، وما يقال إن
المراد بالمثل أي مثل القطرة المتخلفة في رأس الذكر، أو هي مع البلل، وحينئذ فتتحقق
الغلبة، ويحصل الغسل بالمثل، مع كونه خلاف ظاهر قوله ما على الحشفة من البلل، بل

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6 - ولم نعثر على
(أنه ماء فلا يزال إلا بالماء)
19

الظاهر إرادة المثلين لما يغسل، وهو البلل الباقي على الحشفة، فإنه المحتاج للماء في الغسل
لا تلك القطرة التي تسقط غالبا عند إرادة الاستنجاء، سيما بعد تعارف الاستبراء، وكون
الغسل بعد انقطاع دريرة البول، أنه لا داعي إلى هذا التكلف لما ستعلمه من فساد
القول بوجوب التعدد، وإلا فيمكن أن يقال بتحقق الغسل بالمثل، لصدق المثل
على الزائد زيادة يسيرة بحيث يتحقق به الغلبة، واحتمال إرادة كل غسلة بمثلي ما على
المخرج، لا كل غسلة بالمثل، فتتحقق حينئذ الغلبة يدفعه أن الرواية المنجبرة بكلام
الأصحاب ظاهرة بل نصة في نفيه، إذ على ذلك يكون الأقل أربعة أمثال لا المثلين،
على أنه لم يصرح أحد بوجوب نحوه، نعم قيل إنه يحتمله عبارة الفقيه والهداية، وستسمعهما.
(المقام الثاني) وجوب التعدد، ونقل التصريح عن الفقيه والهداية، لقوله
في الأول: " ويصب على إحليله من الماء مثلي ما عليه من البول، يصبه مرتين، وهذا
أدنى ما يجزي " ونحوه في الهداية، واختاره المحقق الثاني والشهيدان، والأقوى خلافه
للأخبار المطلقة الآمرة بالغسل المتحقق بالمرة، مع كون الحكم مما تشتد الحاجة إليه،
فايكال الأمر إلى الاطلاق في مقام البيان كالتصريح في عدم وجوب التعدد، (منها)
خبر يونس بن يعقوب (1) قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): " الوضوء الذي
افترضه الله على العباد لمن جاء من الغائط أو بال، قال: يغسل ذكره، ويذهب
الغائط " مضافا إلى رواية نشيط بن صالح المنجبرة بفتوى الأصحاب، فإنها اجتزت
بالمثلين من غير تقييد بالمرتين، بل قد عرفت أنه لا يتحقق بالمثل، فيكون
حينئذ المشهور الاكتفاء بالمرة الواحدة، لكون عباراتهم مطلقة في الغسل من
غير ذكر للمرتين وإن ذكروا التقدير بالمثلين، لكنه لا إشارة فيه إليه كما عرفت،
بل الأظهر عدمه، لما عرفت من عدم تحقق الغسل بالمثل إلا على تكلف مستغنى
عنه، على أنه لم يقيده بذلك في الخلاف والإرشاد واللمعة وعن جمل السيد

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
20

والشيخ والوسيلة والغنية والتبصرة والموجز وشرحه، بل اقتصروا في بيان غسل
مخرج البول على غسله بالماء، ولم يعتبروا تقديرا في المقدار ولا في العدد.
احتج من قال بوجوب التعدد بالأصل وبالأخبار (1) الدالة على أن البول إن أصاب
الجسد فصب الماء عليه مرتين، بل نقل عن المصنف نسبة مضمونها إلى علمائنا، وفيه
أن الأصل مقطوع بما سمعت، وأن الظاهر من تلك الأخبار أن المراد بالجسد غير محل
البول كما يشعر به لفظ الإصابة، ومما يرشد إلى ذلك نسبة المصنف له إلى علمائنا مشعرا
بدعوى الاجماع عليه، كما ذكره المستدل، لكون الخلاف في المقام معلوما، وقد
نقله المصنف هنا في المعتبر، بل قد عرفت أن تلك المطلقات منجبرة بعمل المشهور على
الظاهر، كما سمعت بيانه، مضافا إلى ظاهر خبر نشيط بن صالح، لتقييد غيره به
لو سلم شموله للفرض، فكان الأقوى الاجتزاء بالمرة الواحدة، لكن الأحوط المرتين
بل الأولى الثلاثة، لما في خبر زرارة (2) " أنه كان يستنجي من البول ثلاث مرات "
ثم الظاهر أنه لا يمكن جريان الخلاف بالتقدير على الوجه المتقدم سابقا بناء على وجوب
التعدد، لعدم الفائدة، إذ لا يتصور التعدد حينئذ بالأقل من المثلين، وعلى تقدير
التعدد، في المثلين والاكتفاء بالفصل التقديري في غير المقام فهل يكتفى به هنا كما اكتفي
بذلك في غير المقام، فيرتفع الخلاف حينئذ بين القول بالتعدد والقول بالمرة مع اشتراط
المثلين؟ الظاهر العدم، كما صرح به الشهيد في الذكرى والمحقق الثاني في جامع المقاصد
وإن اكتفيا به في غير المقام، وكأنه لأن المثلين إذا وقعا دفعة لا تعد في العرف إلا
غسلة واحدة، بخلاف ما إذا كان الماء كثيرا متصلا، فإنه يكتفى بالفصل التقديري
عندهما في غير المقام.
وكيف كان فالظاهر استثناء بول الرضيع الغير المتغذي بالطعام بناء على اشتراط

(1) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 و 4 و 9
(2) الوسائل - الباب - 26 من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6
21

التعدد لخفة نجاسته، كما يظهر من الأدلة، لكن هل يعتبر فيه للمرة المثلان؟ وجهان، أحوطهما إن لم يكن أقواهما ذلك.
ثم إنه بناء على الاكتفاء بالمرة فهل يجري الحكم في كل ما كان مخرجا للبول في الذكر
والأنثى والخنثى وغيرها مما يخرج من ثقب ونحوه، أصليا كان أو عارضيا قد اعتيد
كما هو مقتضى إطلاق المتن؟ وجهان، وكذلك بالنسبة لاشتراط المثلين، وذكر لفظ
الحشفة في الرواية وكلام بعض الأصحاب من باب المثال إشكال، كالاشكال في غسل
الأغلف الغير المتمكن من اخراج حشفته غلفته مرة واحدة، بناء على ذلك، بل والمتمكن
بناء على أن الحشفة من البواطن، لغلبة استتارها، أما بناء على وجوب خروجها وغسلها
فالظاهر أنه لا بد من غسل الغلفة مرتين، لأنها من الجسد الذي أصابه البول بل قد
يقوى ذلك وإن لم نوجب الخروج، اقتصارا لما خالف إطلاق المرتين لإصابة البول
الجسد على المتيقن، وهو غير الفرض، وكذا المرأة وغيرها ممن لا حشفة فيه.
(و) يجب تخييرا (غسل مخرج الغائط) مع تلوثه بذلك، وإلا فلا يجب بدونه،
كما في سائر النجاسات، وإن ظهر من المنتهى وجوب الاستنجاء حتى لو خرجت بعرة
يابسة، لكنه ضعيف، لأصالة البراءة، ولأن كل يابس زكي، وما ورد (1) من
الأمر بالاستنجاء من الغائط محمول على غلبة التلوث، كما يشعر به قوله (عليه السلام):
" يغسل ذكره ويذهب الغائط " كقوله (2) بعد أن سئل هل للاستنجاء حد: " لا حتى
ينقى ما ثمة " (بالماء حتى يزول العين والأثر) لا إشكال ظاهرا في وجوب الاستنجاء
من الغائط، إذ يدل عليه مضافا إلى ما دل (3) على اشتراط الصلاة بالطهارة الاجماع هنا

(1) الوسائل - الباب - 29 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
22

محصوله ومنقوله، والأخبار المعتبرة (1) المستفيضة البالغة أعلى درجات الاستفاضة،
نعم نقل عن أبي حنيفة أنه سنة. كما أنه لا إشكال بحسب الظاهر في الاجتزاء بالاستنجاء
بالماء، لعموم ما دل (2) على مطهرية الماء، مضافا إلى الاجماع المحصل والمنقول أيضا،
والأخبار المستفيضة (3) حد الاستفاضة، بل يروى (4) " أن قوله تعالى (إن الله يحب
التوابين ويحب المتطهرين) (5) أول ما نزلت في رجل من الأنصار أكل طعاما فلانت
بطنه فاستنجى بالماء فأنزل الله فيه ذلك " فما ينقل عن عطاء أنه محدث، وعن سعيد بن
المسيب أنه قال: هل يفعله إلا النساء. وما عن ابن الزبير وسعد بن أبي وقاص من إنكار
الاستنجاء بالماء لا يخفى عليك ما فيه، إنما المهم بيانه هنا هو ما ذكره المصنف وغيره
من وجوب إزالة الأثر، وجعله بعضهم مناط الفرق بين الاستنجاء بالأحجار والماء،
فاشترط إزالة الأثر بالثاني دون الأول، واستشكله بعض المتأخرين بعدم وضوح
معناه، وأنه لا ذكر له في الروايات، بل الموجود التحديد بالنقاء في الحسن كالصحيح
عن أبي الحسن (عليه السلام) (6) قال: " قلت له: للاستنجاء حد، قال: لا حتى
ينقى ما ثمة،: قلت: ينقى ما ثمة ويبقى الريح، قال: الريح لا ينظر إليها " والاذهاب في خبر
يونس بن يعقوب قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) (7): " الوضوء الذي افترضه الله على
العباد لمن جاء من الغائط أو بال قال يغسل ذكره، ويذهب الغائط. ثم يتوضأ مرتين مرتين "
قلت: قد صرح باعتبار إزالة الأثر عند الاستنجاء بالماء المفيد في المقنعة والعلامة

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق
(3) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب أحكام الخلوة
(4) سورة البقرة - آية 222
(5) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3 و 5
(6) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(7) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
23

في التذكرة والتحرير والقواعد والإرشاد وعن الوسيلة والسرائر، وهو ظاهر المبسوط
والمعتبر والمنتهى وغيرها، بل الظاهر أنه المشهور بين الأصحاب وإن اختلف في تفسيره
ففي التنقيح المراد به اللون، لأنه عرض لا يقوم بنفسه، فلا بد له من محل جوهري
يقوم به، إذ الانتقال على الاعراض محال، فوجود اللون دليل على وجود العين،
فيجب إزالته، وفيه - مع منع كونه لا بد له من محله الأولي، بل يكفي فيه وجود محل
جوهري يقوم به، كالرائحة فإنها تكتسب من المجاورة - إن اللون معفو عنه في سائر
النجاسات فهنا بطريق أولى، بل لا يعد عرفا ولا لغة مثل هذه الأجزاء على تقدير تسليم
وجودها أنها من الغائط، وكأنه أخذه من قول الكاظم (عليه السلام) (1) لأم ولد لأبيه لما
غسلت ثوبها من دم الحيض فلم يذهب أثره: " اصبغيه بمشق " فإن الظاهر أن المراد
بالأثر فيه اللون، لكنه مأخذ ضعيف، بل كيف يتخيل أن بقاء الألوان دليل على
بقاء الأعيان التي يجب إزالتها، مع اشتهار الصبغ سابقا بخرء الكلاب ونحوه، وعن
الأردبيلي استظهار كون الأثر بمعنى الرائحة، وجعل إزالتها مستحبة مع عدم بقاء الأصل
وكسب المحل تلك الرائحة بالمجاورة، وفيه أن لفظ الأثر إنما وقع في كلام الأصحاب
وإلا فليس في السنة له أثر، وأكثر كلامهم على خلاف ذلك، لأن منه ما هو صريح
في أن الأثر غير الرائحة كعبارة المصنف ونحوها، لقوله ولا عبرة بالرائحة، ومنه ما هو
ظاهر كالصريح في ذلك أيضا، وكيف وقد أجمعوا على عدم وجوب إزالة الرائحة،
وصرحوا بوجوب إزالة الأثر، بل جعلوه حدا للاستنجاء بالماء، على أن حكمه
بالاستحباب لا أعرف مأخذه.
والتحقيق أن المراد بالأثر الأجزاء الصغار اللطيفة كما فسره بذلك بعضهم،
بل قد يقال إنه المفهوم منه عرفا إذا قيل بقي أثره أو لم يذهب أثره، بل قد يرجع
إليه تفسير اللون، إذ الظاهر أنه لا يريد اللون الصبغي، وعن المصباح المنير أنه قال:

(1) الوسائل الباب - 52 - من أبواب الحيض - حديث 1
24

" استنجيت غسلت موضع النجو أو مسحته بحجر أو مدر، والأول مأخوذ من استنجيت
الشجر إذا قطعته من أصله، لأن الغسل بالماء يزيل الأثر. والثاني مأخوذ من استنجيت
النخلة إذا التقطت رطبها، لأن المسح لا يقطع النجاسة، بل يبقى أثرها " وهو ظاهر
فيما قلناه، لا يقال إن ذلك مأخوذ في الغسل لسائر النجاسات، فما الداعي إلى اشتراطه
في المقام وإيجاب إزالته، بل هو مقتضى الأمر بغسل النجاسة، إذ لا معنى لغسلها مع
بقاء بعض منها، لأنا نقول هو أنه لما قام الاجماع على الاجتزاء بالمسح بالأحجار،
وظاهر الأدلة حصول الطهارة بذلك، ومن المعلوم بل ربما نقل الاجماع عليه أن المسح
بالأحجار لا يزيل هذه الأجزاء الصغار الدقاق، بل لو كلف بإزالتها بها لكان فيه
من المشقة والعسر بل التعذر وإثارة الوسواس ما لا يخفى، وهو مناف لحكمة مشروعية
التخفيف والتسهيل، فقد يتخيل متخيل أن الاستنجاء بالماء حده المقدار الذي يزال بالأحجار
وذلك لحصول الطهارة بالمسح بها كما عرفت، فلا يجب حينئذ إزالة الأثر، بل يكون
معفوا عنه، مؤيدا لذلك بأن الأخبار حدث مطلق الاستنجاء بمطلق النقاء والاذهاب
وبذلك اعترض بعضهم على ما ذكرناه من تفسير الأثر بالأجزاء، قال: " لا دليل على
وجوب إزالتها، بل يدل على عدمه الاستجمار، للاجماع على أنه لا يزيله، إلا أن يقال
أنه لا يطهر، بل يعفى عما بقي معه، وهو خلاف نص التذكرة والمنتهى والمعتبر وقوله
(صلى الله عليه وآله) (1) في الدم: " لا يضر أثره " وقول الكاظم (عليه السلام) لأم
ولد لأبيه لما غسلت ثوبها من دم الحيض ولم يذهب أثره: " اصبغيه بمشق " قال: إلا أن
يقال بالوجوب إذا أمكن ".
وفي كشف اللثام قلت: ولا يندفع به الاشكال، للزوم قصر الاستجمار على
الضرورة، وأن لا يطهر المحل وإن عفي عما فيه، ويلزم منه تنجيسه ما يلاقيه برطوبة،
قلت: لا مانع من التزام طهارة هذه الأجزاء حال التمسح بالأحجار خاصة، كما صرح

(1) سنن البيهقي - ج 2 ص 408
25

به في المعتبر والمنتهى، وقد يشعر به قوله (صلى الله عليه وآله) (1) في العظم والروث:
" أنهما لا يطهران " إن لم يرد بها النقاء ونحوه ولو مجازا. كما لعله الظاهر منه، وقوله
(عليه السلام) (2): " يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار " بل سائر ما دل على الاستجمار
ومساواته الماء في حصول الطهارة، إذ ليس ذلك بأبعد من التزام طهارتها في الحالين،
كما يلتزم به المعترض، ودعوى أن المدار على النقاء، فإن حصل بدون إذهاب هذه
الأجزاء فليجتز به في المقامين، وإلا فلا يجتزى به فيهما يدفعها أن النقاء لكل
شئ بحسبه، فنقاء الأحجار للسيرة والطريقة وحصول العسر والمشقة إزالة العين دون
الأثر، بخلاف الماء، فإنه بإزالة الآثار كما في سائر النجاسات، وما نقله من قول النبي
(صلى الله عليه وآله): " لا يضر أثر الدم " فليس المراد به ما نحن فيه قطعا، بل المراد
ما لا يزيله الغسل من اللون ونحوه، كالأثر في سؤال الكاظم، (عليه السلام) هذا
مع أن الأصل يقتضي نجاسة هذه الأجزاء وإيجاب إزالتها. لشمول اسم الكل لها،
والمعلوم من عفو الشارع إنما هو في المسح بالأحجار لمكان العسر والحرج، بخلاف الماء،
فيبقى على الأصل والقاعدة، إذ لا عسر ولا حرج، ويشير إليه أيضا قول النبي (صلى
الله عليه وآله) (3) لعائشة: " (مري نساء المدينة يستنجين بالماء، ويبالغن، فإنه مطهرة
للحواشي " فإن قوله (صلى الله عليه وآله) ويبالغن مع التعليل مشعر بذلك، أو يقال إنا لا نلتزم
طهارة تلك الأجزاء حال المسح بالأحجار، بل نقول: إنه معفو عنها وعما يلاقيها مما
يكون في اجتنابه عسر ما دامت على المحل، أما لو ارتفع ذلك فإنها تنجس ما يلاقيها،
ولا ينافي ما ذكرناه من التحديد بزوال العين ما وقع لبعضهم من التحديد بالنقاء كالخبر،
لما عرفت من أن النقاء في كل شئ بحسبه، كما سمعت ذلك في الرواية، فالنقاء حينئذ
متحد المعنى، لكن مختلف بالنسبة إلى ما يحصل به، فإن نقاء كل شئ بحسب حاله.

(1) المنتقى لابن تيمية على هامش نيل الأوطار للشوكاني ج 1 ص 84
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 3
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 3
26

وأما ما نقل عن سلار أن حده حصول الصرير جيد إن أراد ما ذكرنا، وإلا
فهو غير صالح للتحديد، لاختلاف المياه والأزمان، فقد يحصل الصرير ولا يحصل النقاء،
، كما إذا كان الماء والهواء في شدة البرودة، كما يحصل النقاء التام ولا يحصل الصرير إذا
كان الماء والهواء حارين، وويل ثم ويل لأهل الوسواس كيف يحصلون ذلك إلا بعد
مدة مديدة، وأما ما قيل من احتمال تفسير الأثر بالنجاسة الحكمية الباقية بعد زوال العين،
فيكون إشارة إلى تعدد الغسل فلا أعرف له وجه صحة ومن المعلوم بل قيل لا خلاف
فيه أن الواجب في الغسل إنما هو غسل ظاهر المخرج دون باطنه، للأصل، مضافا
إلى ما تقدم، وقول الصادق (عليه السلام) (1) في خبر عمار: " إنما عليه أن يغسل
ما ظهر منه، وليس عليه أن يغسل باطنه " وقول الرضا (عليه السلام) (2): " تغسل
ما ظهر على الشرج ".
(ولا اعتبار بالرائحة) المتخلفة في موضع النجاسة واليد، للأصل، وإطلاق
الأمر بالغسل، وصدق تحقق النقاء والاذهاب مع بقائها، وعدم الدخول تحت أسماء
النجاسات، مضافا إلى ذيل الحسن المتقدم قلت: " ينقى ما ثمة ويبقى الريح، قال:
الريح لا ينظر إليها " وقد حكى حكاية الاجماع عليه في كشف اللثام، وفي المدارك هذا
مذهب الأصحاب لا أعلم فيه خلافا، وعن الشهيد أنه اعترض على نحو العبارة بأن
وجود الرائحة، يدفع أحد أوصاف الماء، وذلك يقتضي النجاسة، وأجاب عنه مرة
بالعفو عن الرائحة، للنص والاجماع، وأخرى بأن الرائحة إن كان محلها الماء نجس
، وإن كان محلها اليد أو المخرج فلا، واستجود الأخير في جامع المقاصد والمدارك،
واستحسنه في الذخيرة.
قلت: قد يظهر من الجواب الأول كون الرائحة معفوا عنه وإن كان محلها

(1) الوسائل الباب - 37 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 29 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
27

الماء، وهو مخالف للاجماع المتقدم سابقا في ماء الاستنجاء، وظاهر النص بقاؤها
على محل الغائط مطلقا، ولو شك في محلها فالأصل الطهارة، ولا يجب التجسس، بل
هو منهي عنه، وكأنه لذلك ونحوه أطلق عدم الاعتبار بالرائحة، والغالب عدم معرفة
محلها، وكذلك لو علم أن محلها الماء ولكن لم يعلم سببها، أو علم أنها من المحل أو اليد،
لما تقدم سابقا أن التغير بالمتنجس لا ينجس، ويمكن أن يجاب عن أصل الاشكال أيضا
بأن يقال إن ظاهر قولهم لا اعتبار بالرائحة في نجاسة المحل، وهو كذلك وإن كان
الماء متغيرا، فإنه قصارى ما هناك يتنجس الماء، ولا يلزم منه تنجس المحل، نظير
ما قالوه في ماء الغسالة، فتأمل جيدا، فإنه نافع في غير المقام.
(وإذا تعدى) الغائط (المخرج لم يجز) في طهارته شئ من أحجار وغيرها
(إلا الماء) كما في المبسوط والمعتبر والنافع والمنتهى والتحرير والإرشاد والقواعد
والتذكرة واللمعة وعن الغنية والوسيلة والمراسم والكافي والمهذب والسرائر والدروس
والتبيان، بل في المعتبر أنه مذهب أهل العلم، وفي التذكرة الاجماع عليه، ومثله عن
الغنية، وعن الانتصار أنه لا خلاف فيه، قلت: لكن لم يصرح أحد ممن نقلنا عنهم
بحد المتعدي. بل كلماتهم مطلقة، نعم في الذكرى لا استنجاء بالحجر من الغائط المنتشر
عن المخرج إجماعا. وهو المروي، وفي الروض أن المراد بالتعدي عن المخرج التعدي عن
حواشي الدبر وإن لم يبلغ الأليتين، وهذا الحكم إجماعي من الكل، وفي المسالك
المراد بالمخرج حواشي الدبر، فكل ما تجاوزها متعد وإن لم يبلغ الألية، ومثله في الروضة،
وفي المدارك ينبغي أن يراد بالتعدي وصول النجاسة إلى محل لا يعتاد وصولها إليه، ولا
يصدق على إزالتها اسم الاستنجاء، وذكر جماعة من الأصحاب أن المراد تجاوز النجاسة
عن المخرج وإن لم يتفاحش، وهو بعيد، انتهى. وفي الذخيرة والظاهر أن المراد
بالتعدي في عبارات الأصحاب تعدي حواشي الدبر وإن لم يصل إلى الألية، ويظهر
من التذكرة نقل الاجماع على ذلك، وكذا يفهم الاجماع من كلام الشارح الفاضل،
28

ولولا ذلك لم يبعد تفسيره بوصول النجاسة إلى محل لا يعتاد وصولها إليه، ولا يصدق
على إزالتها اسم الاستنجاء، كما ذكره صاحب المدارك، فإن الدليل يساعد عليه إلى أن
قال: ولا يخفى أن الأخبار (1) الدالة على الاكتفاء بالأحجار مطلقة من غير تفصيل بالمتعدي
وغيره، فإن لم يكن إجماع على الحكم المذكور كان للتأمل مجال، نعم لو فسر التعدي
بذلك المعنى الآخر صح بلا ريب انتهى وفي مجمع البرهان إن أخبار الاكتفاء بالأحجار
خالية عن التقييد، بل ظاهرها العموم، فلولا دعوى الاجماع لأمكن القول بالمطلق
إلا ما يتفاحش بحيث يخرج عن العادة ويصل إلى الألية، كما اعتبروا ذلك في عدم عفو
ماء الاستنجاء، ولولا دعوى العلامة الاجماع في التذكرة على أن المتعدي هو ما يتعدى
عن المخرج في الجملة ولو لم يصل إلى الحد المذكور لقلت: مراد الأصحاب بالتعدي
ما قلناه، لعموم الأدلة مع عدم المخصص، ولأن شرعية المسح لرفع الحرج والضيق
كما دل عليه النقل والعقل وذلك يناسب الاكتفاء فيما هو العادة لا النادر الذي هو قليل
الوقوع. وأيضا يبعد اعتبار الشارع في الاستعمال أمورا دقيقة ذكرها بعض الأصحاب
بحيث يصير في غاية الاشكال، فيفوت مقصوده، فالذي يقتضيه النظر في الدليل
عدم الالتفات إلى هذه الأمور، وحصول التطهير مطلقا، إلا على وجه يعلم تنجيس
غير الموضع المتعارف والتعدي العرفي، إذ لا شرعي له، والاحتياط معه، انتهى.
ونحو ذلك نقل عن الخوانساري، وفي الحدائق إن بيان معنى التعدي لا يخلو من إجمال
واشكال، حيث أن ما صرح به الأصحاب من أنه عبارة عن تجاوز الغائط للمخرج،
وهو حواشي الدبر وإن لم يبلغ الأليتين لا دليل عليه في أخبار الاستنجاء بالأجمار
الواردة من طرقنا، بل هي مطلقة، إلى أن قال: والظاهر أن مستند أصحابنا في ذلك
هو الاجماع، كما صرح به جماعة منهم، ومن ثم توقف فيه جملة من متأخري المتأخرين،
بل جزم البعض كالسيد السند في المدارك بأنه ينبغي أن يراد بالتعدي وصول النجاسة

(1) الوسائل - الباب - الباب - 30 - من أبواب أحكام الخلوة
29

إلى محل لا يعتاد وصولها إليه، ولا يصدق على إزالتها اسم الاستنجاء، وهو الأقرب،
لعموم الأدلة، ولبناء الشرعية على المتعارف دون النادر، ولما صرحوا به في ماء
الاستنجاء من الحكم بطهارته ما لم يتفاحش بحيث يخرج عن مسمى الاستنجاء انتهى.
قلت قد عرفت أن المستند في أصل الحكم الاجماعات المنقولة، مع نسبته له
في الذكرى إلى الرواية، ولعله أشار إلى ما رواه (1) في المعتبر عنه (عليه السلام)
" يكفي أحدكم ثلاثة أحجار إذا لم يتجاوز المحل " لكن الظاهر من ملاحظة كلامه أنها
من طرق العامة فلا ينفع انجبارها بالشهرة. إذ ظاهر الأصحاب عدم الالتفات إلى أخبار
العامة وإن انجبرت، والذي يظهر لي في المقام أن الأصحاب (قدس الله أرواحهم) لم يريدوا
ما فهمه هؤلاء منهم من مطلق التعدي، وأنكروا عليهم ذلك غاية الانكار، بل الظاهر
منهم إرادة التعدي عن المحل الذي يعتاد وصول النجاسة إليه، لما عرفت أن رؤساءهم
لم يذكروا تحديد التعدي، فيحمل على ما كان خارقا للمتعارف المعتاد، كما يشعر بذلك
أنهم ذكروه في مقابلة ما ذهب إليه الشافعي من الاجتزاء بالأحجار وإن وصل إلى باطن
الأليتين، بل يشير إليه قول بعضهم أنه لا بد من الماء وإن لم يبلغ باطن الأليتين، وذلك
لأنه بدونه يخرج عن المتعارف المعتاد، وكيف يسوغ لأحد أن يحمل كلامهم على إرادة
مطلق التعدي، مع أنه لازم لخروج الغائط في الغالب، مع أن الاستنجاء بالأحجار
كان هو المتعارف في ذلك الزمان، بل يظهر من الروايات (2) أنه لم يعرف غيره حتى
نزل قوله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) في الرجل الذي أكل طعاما
فلانت بطنه فاستنجى بالماء، فشرع هناك التخيير بينه وبين الأحجار، ومما يرشد
إلى هذا أيضا أن العلامة في المنتهى استدل على وجوب إزالة المتعدي بالماء بأنه إنما شرع
الأجمار لأجل المشقة الحاصلة من تكرر الغسل مع تكرر النجاسة، أما ما لا يتكثر فيه

(1) المعتبر - البحث الثاني من الاستنجاء في آداب الخلوة ص 33
(2) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3 و 5
30

حصول النجاسة فلا يجزي فيه إلا الغسل كالساق والفخذ، وهو كالصريح في إرادة
التعدي بغير المعتاد، وكأن الذي أوقعهم في الوهم تفسير المتأخرين للتعدي بالتعدي
عن حواشي المخرج، وهو مع أنه وقع من متأخري المتأخرين ممكن الحمل على ما ذكرنا
أيضا، وما نقله بعضهم عن التذكرة من الاجماع على أن المراد بالتعدي هو مطلق التعدي
لم أجده فيها، بل الموجود فيها الغائط إن تعدى المخرج وجب فيه الغسل بالماء إجماعا،
وهو كسائر عبارات الأصحاب.
نعم قال فيها بعد ذلك: ويشترط في الاستنجاء بالأحجار أمور، منها عدم
التعدي، فلو تعدى المخرج وجب الماء وهو أحد قولي الشافعي، وفي الآخر لا يشترط،
فإن الخروج لا ينفك منه غالبا، واشترط عدم الزيادة على القدر المعتاد، وهو أن
يتلوث المخرج وما حواليه، وإن زاد عليه ولم يتجاوز الغائط صفحتي الأليتين فقولان،
انتهى فقد يشعر نسبة ذلك إلى الشافعي أن المراد بالتعدي عندنا هو مطلق التعدي
حتى على المحل المعتاد، لكن التعويل على مثل هذه العبارة في مخالفة هذا الحكم الذي
كاد أن يكون قطعيا مما لا ينبغي أن يرتكبه فقيه. على أن ما نقله عن الشافعي فيها خلاف
ما نقله عنه في المنتهى، قال فيه: " إذا تعدى المخرج تعين الماء، وهو أحد قولي
الشافعي، والقول الثاني له وعن إسحاق إنه إذا تعدى إلى باطن الأليتين ولم يتجاوز إلى ظاهرهما
فإنه يجزيه الحجارة، فإن تجاوز ذلك فظهر على الأليتين وجب الماء عنده قولا واحدا "
انتهى. وهو ظاهر فيما قلنا، ومما يدل على ما ذكرنا من أن مرادهم بالتعدي إنما هو
عن محل العادة استدلال المصنف في المعتبر على وجوب الماء في التعدي بقوله (عليه السلام):
" يكفي أحدكم ثلاثة أحجار إذا لم يتجاوز محل العادة " وهو كالصريح فيما قلناه، فلا
ينبغي الاشكال حينئذ في أن مراد الأصحاب التعدي عن المحل المعتاد، نعم هل يراد
به بحيث يخرج عن مسمى الاستنجاء أو لا بد من الماء وإن لم تخرج عن مسمى الاستنجاء
فيكون الماء حينئذ؟ ظاهر قد سمعت من بعضهم دعوى اتحاد الأمرين، وأن المراد بالتعدي
31

هنا هو المراد هناك، وهو الخروج عن مسمى الاستنجاء، ويمكن أن يقال بخلافه،
كما يظهر من ملاحظة عباراتهم، وذكرهم له بالخصوص، وعدم الاستدلال عليه بالخروج
عن مسمى الاستنجاء ممن وقفت على كتبهم، بل العلامة في المنتهى أكثر من الأدلة
الواهية جدا على المطلوب، ولم يذكر مثل ذلك فيها، وإلا كان عليه أن يذكره معتمدا
عليه، ضرورة خروجه عن مسمى الاستنجاء، فلا تجزي الأحجار، لأن مشروعيتها
فيه، على أن ذكرهم له في خصوص المقام يشعر بدخوله تحت اسم الاستنجاء، بل قد
يومي إلى ذلك أنه لم يذكر الأكثر هذا الشرط في ماء الاستنجاء، بل اشترطوا فيه أن
لا تصيبه نجاسة من خارج، وأن لا يتغير أحد أوصافه، نعم نبه عليه بعض المتأخرين،
وهو في غير محله إن أراد كونه شرطا لعدم دخوله تحت ماء الاستنجاء حينئذ، وقد
عرفت أنه هنا اشترطه جمع من الأصحاب، بل نقل عليه الاجماع، بل يظهر من
بعضهم أن دليله الاجماع، وما ذاك إلا لدخوله تحت اسم الاستنجاء، ولا ينافيه المعنى
اللغوي، ويزيد ذلك تأييد استدلال كشف اللثام على استحباب الجمع بين الأحجار
والماء في المتعدي بقوله (عليه السلام) (1): " جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار
أبكار ويتبع بالماء " وما يقال إنه بناء على ذلك لم لا يزال بالأحجار، مع أن الأدلة
مطلقة بالاستنجاء بها يدفعه أولا انصرافها إلى الفرد الغالب المتعارف، وهو غير المتعدي
محل العادة، وثانيا الاجماع المنقول بل المحصل على أنه متى تجاوز المحل المعتاد تعين
غسله بالماء.
لا يقال إن مقتضى الأول عدم طهارة الماء الذي يغسل به، لانصراف
ما دل على طهارة ماء الاستنجاء إلى غيره أيضا، لأن الظاهر من الأصحاب في ذلك
المقام الحكم بالطهارة حتى يتعدى تعديا يخرج به عن مسمى الاستنجاء فتأمل، ثم إذا

(1) الوسائل الباب - 30 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4
32

تعدى الغائط التعدي الذي يعين الغسل بالماء فهل يسقط هناك الاستنجاء بالأحجار حتى
في المحل المعتاد، أو يجوز إزالة المعتاد بالأحجار والزائد بالماء؟ ظاهر عباراتهم الأول،
لكن لا يبعد في النظر الثاني، فتأمل.
(وإذا لم يتعد) الغائط ذلك التعدي (كان مخيرا بين الماء والأحجار) إجماعا
محصلا ومنقولا مستفيضا، بل كاد يكون متواترا، وسنة كذلك، فما في بعض
الروايات (1) من ظهور عدم الاجتزاء إما مطلقا أو مع وجود الماء مطرحة. أو محمولة على تأكد استحباب الماء، أو على تعدي الغائط، أو نحو ذلك.
.
(و) الاستنجاء (بالماء أفضل) للاجماع المنقول في كشف اللثام. ولقول النبي
(صلى الله عليه وآله) (2) لبعض نسائه: " مري نساء المدينة أن يستنجين بالماء ويبالغن،
فإنها مطهرة للحواشي، ومذهبة للبواسير " وقوله (صلى الله عليه وآله) أيضا (3):
" إذا استنجى أحدكم فليوتر بها وترا إذا لم يكن الماء " للاجماع على عدم العمل بالشرط،
فيحمل حينئذ على الاستحباب. ولقوله (صلى الله عليه وآله) أيضا (4): " يا معشر الأنصار
إن الله قد أحسن الثناء عليكم، فماذا تصنعون، قالوا نستنجي بالماء " وقول
الصادق (عليه السلام) (5): " كان الناس يستنجون بالكرسف والأحجار، ثم
أحدث الوضوء، وهو خلق كريم، فأمر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصنعه،
فأنزل الله تعالى في كتابه (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) " وربما يشعر به
صحيحة زرارة (6) لقوله (عليه السلام) فيها: " ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار "
إلى غير ذلك من الأخبار، كل ذلك مع كونه أبلغ في التنظيف لإزالته العين والأثر
بخلاف الأحجار ولا ينافي الوجوب التخييري الاستحباب، كما لا تنافي الكراهة الوجوب

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4 - 2 - 4
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4 - 2 - 4
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4 - 2 - 4
(4) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 4
(5) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 4
(6) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
33

لكون المراد بالأول أكثر ثوابا من الآخر، وبالثاني الأقل، كما بين في محله، وربما
أجيب بأن متعلق الوجوب الطبيعة، والاستحباب الفرد، وما يقال: إن المستحب ما جاز
تركه لا إلى البدل، والواجب ما لا يجوز تركه لا إلى بدل، فقد يجاب عنه بأن له اعتبارين،
فمن حيث الاستحباب يجوز تركه لا إلى بدل عنه في ذلك، ومن حيث الوجوب له بدل،
أو يقال: إنه لا معنى لأخذ البدلية في تعريف الواجب، بل هي مضاد لمعنى الوجوب،
وحينئذ لا يكون الواجب الفرد بل الطبيعة، وهو مفهوم أحدهما، ولا ينافي ذلك،
استحباب خصوص الفرد، وما يقال: إن الفرد متحد مع الطبيعة مدفوع بجواز اجتماع
الوجوب والندب باعتبارين، وإن كان لنا في ذلك بحث ليس المقام محل ذكره، ولعله يرجع
إلى ما ذكرنا أولا ما أجيب به هنا من أنه لا منافاة بين الوجوب لنفسه واستحبابه بالإضافة
إلى الغير. كما لا منافاة بين الوجوب للنفس والاستحباب للغير أو عكسه، كغسل الجنابة
لأجل صلاة النافلة على القول بوجوبه لنفسه، وكالوضوء بالنسبة للفريضة فتأمل جيدا،
وللبحث في ذلك محل آخر.
(والجمع) بين الماء والأحجار (أكمل) كما في التحرير والتذكرة، وقد
يستظهر من الخلاف والمنتهى والمعتبر الاجماع عليه، ويدل عليه مضافا إلى ذلك المرسل
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار
ويتبع بالماء " ويؤيده من الاعتبار ما فيه من الجمع بين المطهرين، والاستظهار بإزالة النجاسة
مع ما فيه من حفظ اليد من الاستقذار، وبقاء الرائحة فيها، ولهذا والخبر المتقدم ينبغي
تقديم الأحجار وإن أطلق الحكم في كثير من عباراتهم، وظاهر عبارة المصنف وما ضاهاها
كون الحكم المذكور في غير المتعدي، وصرح في المعتبر باستحباب الجمع وإن تعدى،
بل يظهر من العلامة في القواعد اختصاص الحكم بالمتعدي، لقوله والماء أفضل، كما
أن الجمع أفضل في المتعدي، ويمكن رفع المنافاة بينهما أن الأفضلية غير الأكملية، فهو
أكمل كما ذكره المصنف في غير المتعدي، وأفضل في المتعدى، إذ الكمال مرتبة ثانية في
34

الفضيلة وعلى كل حال فإقامة الدليل من السنة على استحباب الجمع في المتعدى لا تخلو من
إشكال، واحتمال التمسك بالمرسلة المتقدمة فهي - مع تسليم شمول اسم الاستنجاء للمعتدى -
طاهرة في غير المتعدي، لكونه الفرد الغالب، لكن أمر الاستحباب هين، والله أعلم.
(ولا يجزي) في الاستنجاء (أقل من ثلاثة أحجار) إذا لم يحصل النقاء به،
بل ولا بالثلاثة فما زاد إذا كان كذلك إجماعا وقولا واحدا، فاطلاق ما دل على الاجتزاء
بالثلاثة محمول على ما إذا حصل النقاء بها، كما يقضي بذلك حسنة ابن المغيرة (1) وخبر
يونس (2) أما إذا حصل النقاء بالأقل فهل يجب الاكمال تعبدا أم لا؟ قولان، خيرة
المصنف الأول، وبه صرح في المعتبر والنافع والمنتهى والتحرير والإرشاد والقواعد
وجامع المقاصد، وهو ظاهر اللمعة، بل لعله ظاهر المقنعة كما في كشف اللثام، قال:
" وإن كان حدثه من الغائط استعمل ثلاثة، يأخذ واحدا فيمسح به موضع النجو، ثم
يلقيه. ثم الثاني والثالث كذلك، إلى أن قال: ولا يجوز له التطهير بحجر واحد " لكن عن
السرائر عن المفيد عدم الوجوب، وفي الخلاف وإن نقي بدون الثلاثة استعمل ثلاثة
سنة، لكن استدل على ذلك بقوله (عليه السلام): " وليمسح بثلاثة أحجار " قال:
وظاهره الوجوب، إلا أن يقوم دليل، انتهى. فيكون قرينة على إرادته من السنة
الوجوب، ولعله حينئذ يحتمله ما عن النهاية، قال: " وإن نقي بواحدة استعمل الثلاثة
سنة " ونحوه ما في الوسيلة، لكن قال: " وإن لم تزل بثلاثة استعمل حتى تزول فرضا ")
فمقابلته بالفرض يشعر أن مراده بالسنة الاستحباب، وكذلك ما عن المهذب، قال:
" إن نقي الموضع بواحدة فينبغي أن يستعمل آخرين سنة " وعن الغنية " وفي السنة أن
يكون بثلاثة إلا أن الماء أفضل " وفي المبسوط " إنه إن نقي بدون الثلاثة استعمل الثلاثة عبادة "
وكيف كان فقد نقل أيضا عن ظاهر المراسم والكافي وصريح السرائر والذكرى

(1) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
35

والدروس والبيان، بل حكى جماعة عليه الشهرة، خلافا لجماعة من متأخري المتأخرين،
فاختاروا العدم كصاحبي المدارك والذخيرة وغيرهما، وهو المنقول عن المفيد والعلامة
في المختلف، وربما احتمله عبارة النهاية المتقدمة، وقد سمعت عبارة الوسيلة والمهذب
والغنية والمبسوط.
وعلى كل حال فحجة المشهور الأصل، والمناقشة فيه بأن الطهارة لغة النظافة
والنزاهة، وليس لها وضع شرعي بالنسبة إلى إزالة النجاسة، فهي في الحقيقة كألفاظ،
المعاملة ونحوها، وما اعتبره الشارع في بعضها كالتطهير وبالماء بالغسلتين ونحوه إنما هو
على وجه الشرطية، فيتجه حينئذ نفي ما شك فيه منها، ويكون الأصل في كل ما أزيل
حسا أن يكون طاهرا شرعا، سيما بما علم من الشارع جعله مزيلا لها في الجملة، ففيها
أولا عدم وجود لفظ التطهير بالحجر في المقام حتى يتمسك بما سمعت، وثانيا لفظ الطهارة
وإن لم يكن لها وضع شرعي إلا أن لها مرادا شرعيا غير المعنى اللغوي، كما يرشد إليه
استعمال لفظ النجس الغير المستقذر شرعا، فالمراد من الطهارة حينئذ شرعا رفع المنع
الشرعي، وهو لا يحصل العلم به إلا من قبل الشرع، فكل ما ثبت ممنوعية الصلاة فيه
يستصحب بقاؤه حتى يعلم الرفع من الشرع، فتأمل. وقول أبي جعفر (عليه السلام)
(1) في صحيح زرارة: " لا صلاة إلا بطهور، ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك
جرت السنة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) " فإن قوله يجزيك يشعر بأنه أقل
ما يجزيك، مضافا إلى قوله (عليه السلام) بذلك جرت السنة من رسول الله (صلى
الله عليه وآله) وقوله أيضا (2) في خبر زرارة: " جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار
أن يمسح العجان " وقوله (عليه السلام (3) أيضا: " يجزي من الغائط المسح بالأحجار،
ولا يجزي من البول إلا الماء " لأن أقل الجمع ثلاثة، كالخبر المنقول عن الخصال عن

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 30 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3 - 2
(3) الوسائل - الباب - 30 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3 - 2
36

علي بن الحسين (عليه السلام) (1) قال: " كان الناس يستنجون بالأحجار " وفي خبر
أبي خديجة (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كان الناس يستنجون بثلاثة أحجار "
وفي خبر جميل بن دراج (3) عنه (عليه السلام) أيضا " كان الناس يستنجون بالكرسف
والأحجار " واستدل الشيخ في الخلاف على اعتبار العدد بقوله (صلى الله عليه وآله) (4)
" وليستنج بثلاثة أحجار " والظاهر أنه رواية عامية، إذ لم أقف عليها من طرقنا،
ومثلها ما روي عن سلمان (رضي الله عنه) (5) عنه قال: " نهانا رسول الله (صلى الله
عليه وآله) أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار " ومما يؤيده أيضا أنه لا ريب في بقاء
الأجزاء الصغار المسماة بالأثر في لسانهم، فيستصحب حينئذ منعها من الصلاة حتى يثبت
العفو عنها، ولم يثبت إلا بعد إمرار الثلاثة عليها وإن لم تقلعها، وأيضا من المعلوم
أنه لا يمكن العلم بنقاء المحل، بل المراد نقاء الحجارة التي تستعمل حتى تكون دليلا
عليه، وهو في الحجر الواحد غير متحقق، لمباشرته أولا للنجاسة.
لكنك خبير بما في هذه الأدلة من الضعف، فإن الأصل مقطوع بالحسن
كالصحيح عن أبي الحسن (عليه السلام) (6) قال: قلت له: " للاستنجاء حد،
قال: لا حتى ينقى ما ثمة " إلى آخره. وخبر يونس بن يعقوب (7) قال: قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): " الوضوء الذي افترضه الله على العباد لمن جاء من الغائط أو بال،
قال: يغسل ذكره ويذهب الغائط " مضافا إلى مطلقات المسح والاستنجاء (8) إذ معنى
الاستنجاء غسل محل النجو أو مسحه، وعن القاموس أن النجو ما يخرج من البطن من
ريح أو غائط، واستنجى أي غسل بالماء أو مسح بالجحر، وعن الجوهري استنجى

(1) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3 - 5 - 4
(2) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3 - 5 - 4
(3) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3 - 5 - 4
(4) المستدرك - الباب - 22 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4 - 10
(5) المستدرك - الباب - 22 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4 - 10
(6) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(7) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
(8) الوسائل - الباب - 30 - من أبواب أحكام الخلوة
37

أي غسل موضع النجو أو مسحه، مضافا إلى استبعاد وجوب الامرار تعبدا من غير
فائدة أصلا، وما يقال - إن رواية النقاء ظاهرة في الغسل بالماء لما علمت أن الحجر
لا يحصل معه النقاء، مضافا إلى قوله في ذيلها: " ينقى ما ثمة ويبقى الريح، فقال: الريح
لا ينظر إليها " فإن جزمة بالنقاء واستشكاله بمجرد بقاء الريح الحاصلة من غير نجاسة ظاهر
في ذلك - ممنوع، لأن بقاء تلك الأجزاء لا تمنع عن صدق اسم النقاء، بل سؤاله عن
الريح كاد يكون ظاهرا في الاستنجاء بالحجر، لعدم بقاء الريح غالبا في الاستنجاء بالماء،
وكذا ما يقال في الخبر الثاني: إن السؤال قد اشتمل على الوضوء الظاهر في الغسل،
إذ اشتماله عليه لا يقضي بكون الجواب كذلك، خصوصا مع تغير جوابه (عليه السلام)
حيث قال في البول: اغسله، وفي الغائط أذهبه، ولو أراد (عليه السلام) الماء لقال:
اغسلهما، وأما الأخبار فمنها ما هو ظاهر في أن المراد بالأحجار الجنس في مقابلة الماء،
وما اشتمل فيها على العدد لا ظهور له في الوجوب.
وما يقال: إن الروايتين العاميتين لا بأس بهما بعد انجبارهما بالشهرة فيه أنه
مخالف لطريقة الأصحاب من الاعراض عن أخبارهم، بحيث لا تقومها الشهرة، إلا
شهرة رواية الأصحاب له مع العمل به، وكذا ما يقال: أيضا أن تلك الأخبار وإن
ضعف سندها ودلالتها لكنها أقوى مما ذكرت، لانجبارها بالشهرة فيه أن جملة
من كلام المتقدمين من أصحابنا كاد يكون ظاهرا في عدم الوجوب، وقد سمعت عبارة
الغنية، حيث قال: " وفي السنة أن تكون ثلاثة إلا أن الماء أفضل، إلى أن قال: كل
ذلك بدليل الاجماع " وأيضا قد يقال: إن الأخبار المشتملة على العدد لا حجة في مفهومها
لكونها واردة مورد الغالب من عدم حصول النقاء إلا بذلك، ومعارضته بأن هذا يرفع
الوثوق بالاستدلال بالمطلق، لكونه أيضا منصرفا إليه يدفعها (أما أولا) فبإمكان
الفرق بين الغلبة التي يضعف معها دلالة مثل هذا المفهوم، وبين الغلبة التي تصرف المطلق،
فإنه مأخوذ في الثانية أن يكون ما عداها نادرا جدا بالنسبة للاطلاق، ألا ترى أن ندرة
38

الوجود لا تقدح في تناول المطلق، بخلافها بالنسبة إلى المفهوم، (وثانيا) بأنه قد يدعى
أن ما نحن فيه من باب العام، إذ هو لعدم استقلال الجواب عن السؤال كان بمنزلة قوله
لا حد للاستنجاء، كما هو واضح، على أنه كيف يدعى الندرة القادحة في خصوص
المقام، مع أنه كان ذلك غالبا في أهل تلك النواحي، لحرارة أمزجتهم فكانوا يبعرون
بعرا كما أشارت إليه بعض الأخبار (1) معللة ذلك بأنهم كانوا يأكلون البسر، فالحاصل
دعوى الندرة التي تكون سببا لعدم العمل بالمطلق باطلاقه ممنوعة أشد المنع، فتأمل.
وربما يرشد إليه ما ستسمعه من أن المشهور بين القائلين بالتثليث الاجتزاء بالتوزيع
وهو قاض بإزالة الحجر الواحد النجاسة، ولولا مخافة خرق الاجماع المركب لأمكن
القول والجمع بين الروايات المنجبرة بالشهرة وبين الخبرين المذكورين بحصول الطهارة
بالأقل ووجوب الاكمال تعبدا، بل يمكن حمل بعض روايات القدماء عليه، بل في
جامع المقاصد بعد اختياره المشهور قال: " وهل الحكم بالطهارة موقوف على الاكمال
أم الطهارة دائرة مع النقاء والاكمال واجب؟ الظاهر الأول " انتهى. فإن ترديده
بين الأمرين ظاهر في عدم كونه مقطوعا به،
ومما يمكن أن يؤيد به خلاف المشهور
أيضا أن ما ذكروه من الروايات قد دخلها التأويل، وذلك لأن المشهور شهرة كادت
تكون إجماعا، بل قد حكى في الخلاف وعن الغنية أنه يكتفى بكل جسم طاهر قالع
للنجاسة سواء كان حجرا أو غيره، بل يدل عليه مضافا إلى ذلك الروايتان المطلقتان (2)
وخبر ليث المرادي (3). عن الصادق (عليه السلام) قال: " سألته عن استنجاء الرجل
بالعظم أو البصر أو العود؟ فقال: أما العظم والروث فطعام الجن " وخبر زرارة (4)

(1) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5 والباب - 13
حديث 1
(3) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 3
(4) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 3
39

سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: " كان الحسين بن علي (عليه السلام) يتمسح
من الغائط بالكرسف ولا يغسل " كخبره الآخر (1) " كان يستنجي من البول ثلاث
مرات، ومن الغائط بالمدر والخرق " لكن الاستدلال بهذه محتاج إلى التتميم بعدم
القول بالفصل، ولم أعثر على مدعيه في المقام، بل استحسنه صاحب الذخيرة، سوى
ما نقل عن المصابيح من دعواه، أو يقال: إنه يفهم من ملاحظة جميعها جواز الاستنجاء
بكل جسم مزيل، وعن سلار (أنه لا يجزي في الاستجمار إلا ما كان أصله الأرض ".
وربما ظهر من المنقول عن ابن البراج جواز استعمال الخرق والقطن إذا لم يتمكن
من الأحجار، ويردهما ما سمعت من الأخبار، سيما قوله في خبر زرارة: إنه (عليه السلام)
كان يتمسح بالكرسف المعتضدة بالاجماعين المنقولين وفتوى المشهور، بل نسبه في المنتهى
إلى أكثر أهل العلم، مع ما في كلام سلار من الاجمال، وعن الشهيد في البيان أنه فسره
بالأرض وما ينبت فيها، واستحسنه، وكان ما نقل عن ابن الجنيد " إني لا أختار
الاستنجاء بالآجر والخرق إلا أن يلابسه طين أو تراب يابس " ليس صريحا في الخلاف
وكذلك ما نقل عن السيد (رحمه الله) أنه قال: " يجوز الاستنجاء بالأحجار أو ما قام
مقامها من المدر والخرق والخرف " إذ لعل المراد بقوله أو ما قام مقامها أي في الإزالة،
لكن يظهر من بعضهم أنه فهم منه المخالفة، وربما أيد بأنه مقتضى الجمع بين الأخبار بحمل
المطلق على المقيد، وفيه - مع أن الذي اشتملت عليه الروايات أزيد مما ذكره السيد -
إن ما ذكرنا من الأخبار لا تقيد فيها حتى يحكم على المطلق، فإن روايتي الفعل عدم
دلالتهما على التقييد واضحة، إذ فعلهم (عليهم السلام) قد يكون اتفاقيا، لأنها كانت
متيسرة لهم، وكذلك خبر ليث، فإن مفهومه دال على جواز الاستنجاء بالعود،
ومن العجب أن صاحب الحدائق توقف في الحكم قائلا أن إطلاق الروايتين يمكن تقييده

(1) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6
40

بخصوص الافراد التي وردت بها النصوص، والاجماع لا يخفى ما فيه، وأنت خبير بما فيه.
ثم اعلم أن الذي يقتضيه الأخذ بظاهر عباراتهم من قولهم كل جسم تعميم الحكم
لأجزاء الانسان نفسه وغيرها من يده ورجله ونحو ذلك، فيجزيه أن يمسح الغائط
بأصابعه حتى ينقى، لكن للنظر فيه مجال، هذا. وقد عرفت أنه مما يمكن أن يؤيد
به خلاف المشهور أيضا، لشهرة الاجتزاء بالتوزيع عندهم، إذ هو في الحقيقة
اكتفاء بالحجر الواحد، وذلك لأن كل حجر طهر موضعه ولم يفده الحجر الثاني فائدة،
فالمتجه بناء على وجوب التثليث ما ذكره المصنف من أنه (يجب إمرار كل حجر على موضع
النجاسة) فلا يجزي التوزيع أي إمرار كل حجر على موضع من مواضع النجاسة، لكن
المشهور خلافه، بل لم أعثر على موافق له صريح، سوى بعض متأخري المتأخرين،
وقد صرح بالاجتزاء في المبسوط والمعتبر والمنتهى والتحرير والتذكرة والقواعد والمدارك
والذخيرة وعن الجامع ونهاية الإحكام والذكرى والدروس والبيان وشارح الدروس،
بل قال في الذخيرة: ما حاصله أن نسبة العدم إلى بعض الفقهاء في كلام مثل العلامة
المراد به أهل الخلاف، كما تشهد به الممارسة، قلت: كأنه لم يلحظ الشرائع، لكن
نقل عن المفاتيح وشرحها للاستاد نسبة ما ذهب إليه المصنف إلى الشهرة، ولعلهما أخذاه
من إطلاق بعض الفتاوى التمسح بثلاثة أحجار، وإلا فهو مشكل، لما عرفت.
وكيف كان فمستند المشهور صدق التمسح بثلاثة أحجار، إذ ليس في الأدلة ما يدل
على اشتراط مباشرة كل حجر موضع النجاسة، كما أن مستند المصنف ومن وافقه أنه
المتبادر من المسح بثلاثة، بل غيره من الأفراد النادرة التي لا ينصرف الاطلاق إليها،
مع أن استصحاب النجاسة محكم، وعن بعضهم أنه قال مؤيدا لما ذكره المصنف من أن هذا التوزيع لا يتحقق إلا بالحجرين، لأن الحجر الثالث لا بد أن يمسح بمجموع المحل
حتى يعلم النقاء بلا شك. وأيضا المحل لا بد أن يتكرر على بعضه الحجران الأولان أيضا،
لاستحالة زوال النجاسة عن أي بعض منه بمسح واحد منها بحيث لم يمسح عليه الآخر
41

أصلا ومع ذلك يمسح مجموع المحل بهذا التوزيع، إذ لا شبهة في استحالته عادة، فلا بد
أن يتكرر على ذلك البعض الأحجار الثلاث جميعا، ويتحقق فيه المسحات الثلاثة كملا،
نعم شئ من المحل يكتفى فيه بمسحين، مسح للإزالة، ومسح للاطلاع على الزوال،
فما ذكر من التوزيع ليس إلا مجرد فرض لا مصداق له في الخارج، فلا معنى لحمل المطلقات
عليه، انتهى. وفيه نظر من وجوه، يظهر بعضها مما قدمنا سابقا، وإن كان الأقوى
بناء على وجوب التثليث عدم التوزيع، لأنه المتيقن وغيره مشكوك فيه واستصحاب النجاسة
محكم، مع أنه الظاهر من قوله (عليه السلام) أن يمسح العجان، فتأمل.
(ويكفي معه)
أي مع الاستنجاء بالحجر (إزالة العين دون الأثر) وقد تقدم الكلام فيه سابقا.
(وإذا لم ينق بالثلاثة فلا بد من الزيادة حتى ينقى) إجماعا محصلا ومنقولا، ويدل
عليه مضافا إلى ذلك الروايتان المتقدمتان سابقا، نعم يستحب القطع على وتر لقوله
(صلى الله عليه وآله): (1) " إذا استنجى أحدكم فليوتر بها وترا " وإطلاق الأخبار
والاكتفاء بالثلاثة منزل على الغالب (ولو نقي بدونها أكملها وجوبا) كما تقدم الكلام فيه
(ولا يكفي) بناء على وجوب التثليث (استعمال الحجر الواحد) مثلا (من ثلاث
جهات) كما هو ظاهر المقنعة وعن المصباح وصريح المعتبر والروضة والمدارك وكشف اللثام
والحدائق والرياض وكشف الغطاء، بل ربما كان ظاهر من اقتصر على التعبير بثلاثة
أحجار كالخلاف واللمعة وعن المراسم والكافي والسرائر وغيرها، والموجود في المبسوط
" والحجر إذا كانت له ثلاثة قرون فإنه يجزي عن ثلاثة أحجار عند بعض أصحابنا،
والأحوط اعتبار العدد، لظاهر الأخبار " انتهى. وعن شرح المفاتيح للمولى
الأعظم نسبته إلى الشهرة،
وذهب العلامة في جملة من كتبه وجماعة من المتأخرين إلى
الاجتزاء، وهو المنقول عن الإشارة والجامع والمهذب، بل عن الروض نسبته إلى الشهرة.
(حجة الأول) الأصل، وظاهر قولهم ثلاثة أحجار، (وحجة الثاني)

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4
42

أن المراد من ثلاثة أحجار ثلاثة مسحات، نحو قوله اضربه عشرة أسواط، ولأنها
إن انفصلت أجزأت قطعا وكذا مع الاتصال، وبالنبوي (1) " إذا جلس أحدكم
لحاجته فليمسح ثلاث مسحات " وبأنه يجوز الاستنجاء به لثلاثة ويعد بالنسبة إلى كل
واحد منهم حجرا، فكذلك الواحد، وبأن المقصود إزالة النجاسة وقد حصلت،
وربما أيد بالمطلقتين السابقتين، وبأنه إذا غسل أجزأ وأن تمسح بالجهة التي استنجى
بها، فكذا قبل الغسل إذا تمسح بالباقيتين، (2).
واعترض علي سائر هذه الأدلة بعض المتأخرين بما ليس خفيا على المستدل بها،
بل المقصود منها حصول الظن ببقاء هذا الفرد على مقتضى إطلاق المعتبرتين المتضمنتين
للاكتفاء بالنقاء وحصول الاذهاب، وذلك بأن يقال: إن مقتضاهما، الاجتزاء بكل
ما يحصل به النقاء والاذهاب، إلا أنه لمكان بعض الأخبار المنجبرة بفهم المشهور،
وهي قوله (عليه السلام) جرت السنة ونحوها خالفنا بعض مقتضاها فيبقى غيره
داخلا، إذ قوله: (عليه السلام) " يجزيك من الاستنجاء بثلاثة أحجار " يقتضي بظاهره
أمورا، منها تعدد المسح، ومنها تعدد الممسوح به، ومنها كونه بالحجر لا بغيره،
ومنها كون الممسوح به منفصلا بعضه عن بعض، (أما الأول) فيمكن القول به وإن حصل
النقاء بدونه، لمكان انجبار الرواية بما سمعت سابقا من الشهرة، ومثله الثاني دون الثالث
لما سمعت من دعوى الشهرة بل الاجماع على الاجتزاء بكل جسم، (وأما الرابع) فكذلك
لمكان الشهرة المنقولة عن الروض، واستبعاد الفرق بين الاتصال والانفصال، بل

(1) ما وجدناه في كتب الأخبار
(2) والظاهر أن العمدة في الاستدلال على الاجتزاء بذي الشعب إنما هو القطع العادي
بعدم الفرق بين الاتصال والانفصال بالنسبة إلى الطهارة، وما يقال: إن الفارق النص،
وإن الغالب في العبادات خصوصا الطهارة رعاية جانب التعبد فيه أن الغالب خلافه، كما
لا يخفى على من لاحظ باب التراوح وغيره. (منه رحمه الله)
43

في المختلف أي عاقل يفرق بين كونه متصلا ومنفصلا، وللاجتزاء به بالنسبة إلى الأشخاص
وكذا بعد غسله على الأقوى، ولظهور الحكمة من القصد في الاستنجاء الإزالة، وللاجتزاء
بالخرقة المستطيلة جدا، كما قطع به بعض من لا يجتزي بذي الشعب وخبر المسحات ونحو
ذلك من الأشياء المفيدة للظن ببقائه على مقتضى الاطلاق، لا أقل من حصول الشك
للفقيه بالاحتراز عن مثل هذا الفرد بقوله ثلاثة أحجار، على أنا نرى أن السيد إذا قال
لعبده امسح هذا بثلاثة أحجار فمسحه بحجر واحد من ثلاث جهات يعدونه ممتثلا، لا
لأن اللفظ شامل له حقيقة، بل للقطع بأن مقصود السيد من المسح بثلاثة أحجار إنما
هو المسح بثلاثة مما يمسح به من الحجر، فتأمل جيدا.
على أن الذي يستفاد منه عدم الاجتزاء بذي الشعب من قوله ثلاثة أحجار إنما
هو لفظ الأحجار لا الثلاثة، فإنه لو قال بثلاثة أشياء أو أجسام أو نحو ذلك لشمله،
وقد عرفت أنهما من باب المثال، للاجماع المنقول على الاجتزاء بكل جسم مزيل للعين،
وما عساه يقال: إن مثاليتها إنما هو بالنسبة للحجرية دون ما يفهم منها من كونه قطعا متمايزة
فيه أن الظاهر بعد فرض كونها مثالا لسائر الأجسام لا ظهور فيها بإرادة كونها قطعا متعددة
كما لا يخفى، وإن شئت فافرض صدور هذا الاستعمال منك بعد إرادتك بالأحجار مثالا
لمطلق الأجسام، أترى أنه يخطر لك ببال خروج ذي الشعب عنه، كلا إن دعوى
ذلك مكابرة، وأيضا قد يقال: إن ما ادعوه سابقا من الاجماع على الاجتزاء بكل جسم
يشمل ما نحن فيه، بل قد عرفت ما في أخبار التثليث من الضعف في الدلالة المحتاج إلى
الجابر وهو بهذا المعنى مفقود، وما ادعاه بعض متأخري المتأخرين من دعوى الشهرة
على عدم الاجتزاء بذي الشعب لا يخلو من مناقشة، ولعله أخذه من التعبير للبعض بالثلاثة
أحجار، وهو مع تسليمه لا يبلغ حد الشهرة، وكيف كان فلا يخلو القول بالاجتزاء
بذي الشعب بناء على القول بالتثليث من قوة، كما أنه لا يخفى عليك ما يظهر من ملاحظة
كلامهم هنا، وفي مسألة التوزيع وفي مسألة الاجتزاء بكل جسم من التأييد لما قد تقدم
44

سابقا من الاجتزاء بالحجر الواحد إذا حصل به النقاء، إذ يعلم منه عدم الجمود على ظاهر
تلك الروايات، فتأمل جيدا.
وينبغي التنبيه لأمور (منها) إنه بناء على الاجتزاء بذي الشعب فهل المدار على
المسحات من دون فرق بين اتحاد الممسوح به وتعدده، كما لو مسح بحجر ثم غسله ثم
مسح به ثم غسله ثم مسح به، بناء على عدم اشتراط البكارة، أو لا بد من تعدد محل ما يمسح به؟
يظهر من بعضهم الأول، لتأويلهم الأحجار بالمسحات، ويحتمل قويا الثاني، ولا ريب
في عدم الاكتفاء به بناء على القول بعدم الاجتزاء بذي الشعب، لعدم صدق الاستنجاء
بثلاثة أحجار، وإن ساغ له استعماله بالنسبة إلى استنجاء آخر، وبالنسبة إلى شخص
آخر بناء على عدم اشتراط البكارة، فهو قابل للتطهير غير قابل له. (ومنها) أن المتجه
بناء على عدم الاجتزاء بذي الشعب عدم الاكتفاء بالخرقة المتجاوزة في الطول ولا بالخرقة
المطبقة طبقات إلا بعد تقطيعها قطعا، وكذلك الخرقة الثخينة التي لا تنفذ النجاسة من
جهتها الأخرى، فإنه لا يجوز استعمال تلك الجهة في ذلك الاستنجاء، وقد التزم المحقق
في المعتبر بعدم الاجتزاء بالطويلة إلا بعد تقطيعها، وفيه من الجمود ما لا يخفى، ومن جهة
ما فيه من الاستبشاع قال في المدارك بعد أن اختار عدم الاجتزاء بذي الشعب:
" (وينبغي القطع بأجزاء الخرقة الطويلة إذا استعملت من جهاتها الثلاث، تمسكا بالعموم "
انتهى. والظاهر أن مراده بالعموم إنما هو الاطلاق المتقدم في حسنة ابن المغيرة ونحوه،
وحينئذ فإن كان مراده أنه ينبغي الاقتصار على ذلك التثليث بالنسبة للأحجار، لأنه
الوارد في الأخبار، ففيه مع عدم ظهور قائل بالفصل أنه لا ينبغي التقييد بكونها طويلة،
وإن كان يريد بقاءها داخلة تحت الاطلاق لطولها ففيه أنه لا فرق بين الأحجار والخرق،
فينبغي أن يلتزم بجواز الاستنجاء بذي الشعب إذا كان طويلا، ولعله يلتزم بذلك.
(ومنها) أن من قال بالاقتصار على العدد وعدم الاجتزاء بذي الشعب يريد بذلك
بالنسبة إلى الثلاثة خاصة على الظاهر، أما إذا لم ينق بها فيجتزى بالزائد عليها وإن كان
45

بالشعب. لكنه لا يخلو من اشكال. (ومنها) أن الظاهر الاكتفاء بذي الشعب إذا
استنجى بالشعبة ثم كسرها واستنجى بالثانية وهكذا، وفيه إشكال، للشك في صدق
الأحجار، على أنه من الأفراد النادرة مضافا إلى ما فيه من إشكال صدق البكارة،
كما تسمع إن شاء الله تعالى، وأنت إذا أحطت خبرا بأطراف المسألة تكاد تقطع
بالاجتزاء بذي الشعب، وإن ما ذكروه هنا من الجمود الغير المستحسن.
(ولا يستعمل) في الاستنجاء سواء كان للإزالة والتعبد بناء على وجوبه (الحجر)
ونحوه (المستعمل) في الاستنجاء النقائي أو التعبدي، كما هو ظاهر القواعد والنافع
وعن الوسيلة والنهاية والمهذب، ونقله في كشف اللثام عن ظاهر الجامع والاصباح،
واختاره شيخنا في كشف الغطاء، ومقتضى ذلك عدم جواز الاستنجاء بالمستعمل وإن
لم يحصل له من الاستعمال نجاسة، كما إذا كان مستعملا بعد حصول النقاء، ولا ينفعه
الغسل، لأن أقصى ما ثبت من الشرع أن الغسل بالماء يزيل النجاسة، لا أنه يزيل صفة
الاستعمال، فإنه على كل حال يصدق عليه أنه مستعمل ولو غسل مرات متعددة، ولا
فرق عندهم في عدم جواز الاستنجاء به بين الإزالة والتطهير، بل لا يبعد أنه لا فرق
في المستعمل بين كونه مستعملا في الاستنجاء أو في التطهير للقدم والنعل ونحو ذلك وإن
لم يتنجس، كما إذا كان مستعملا في إزالة النجاسة الحكمية لصدق اسم المستعمل عليه
وقضاء ما تسمعه من الدليل به، نعم الظاهر أنهم يقصرون الحكم على المستعمل في النجاسة
الخبثية، دون المستعمل في الطهارة الحدثية كالمتيمم به، بل ودون المستعمل استحبابا
في النجاسة الخبثية، كالأحجار المستعملة في الاستنجاء استحبابا بعد زوال العين على
القول به، أو الوتر التي يستحب القطع عليها، وإن كان ظاهر لفظ المستعمل الشمول،
سيما للأول.
وكيف كان فأقصى ما يستدل به على ذلك الأصل، والمرسل عن الصادق (عليه
46

السلام) " جرت السنة في الاستنجاء بثلاثة أحجار أبكار ويتبع بالماء " (1) المؤيد بأن
المستعمل من الأفراد الخفية، فلا تشمله الاطلاقات، وفي الجميع نظر واضح، ومن
هنا صرح بعض المتأخرين كالمحقق الثاني وغيره بجواز استعمال المستعمل إذا لم يكن عليه
نجاسة، كما إذا كان مستعملا بعد زوال العين، أو كانت وغسلت، بل هو قضية
كلام المصنف في المعتبر، بل هو المنقول عن ابن إدريس أيضا، بل قد يقال: إنه
ظاهر المعظم، لاقتصارهم على اشتراط الطهارة، بل في الغنية ما نصه يجزي الأحجار
مع وجود الماء، أو ما يقوم مقامها من الجامد الطاهر المزيل للعين، سوى المطعوم والعظم
والروث، إلى أن قال: ويدل على جميع ذلك الاجماع المشار إليه، بل قد صرح
جملة من الأصحاب بجواز الاستنجاء بالمتنجس بالاستنجاء بعد غسله وتطهيره، بل في
المصابيح ولو طهر المتنجس بالاستنجاء أو غيره جاز استعماله إجماعا، بل قد يستدل
عليه بالعموم الواقع لهم في غير المقام من جواز الاستنجاء بكل جسم طاهر،
بل ربما نقل الاجماع عليه، كما أنه نسب إلى أكثر أهل العلم، وكونه مساقا للرد
على مشترط الأحجار لا يقتضي اختصاصا، بل قال في المنتهى: يجوز استعمال كل
جامد طاهر إلا ما نستثنيه، وهو قول أكثر أهل العلم، ولم يستثن المستعمل فيما استثني،
نعم استثني النجس، بل قد يقال: إنه لا خلاف فيه على أن يراد بالمستعمل في كلام
من لم يعطف النجس، عليه المتنجس، كما هو الغالب المعتاد، بل في كلام من عطفه
عليه أيضا، كالمصنف والعلامة المتنجس بالاستنجاء وبالنجس المتنجس بغيره، بل قد
يقال في عبارة المصنف وإن كان بعيدا: إن المراد بالمستعمل فيها المتنجس بالعارض،
وبالأعيان النجسة ما كانت نجاستها ذاتية، فتكون المسألة خالية عن المخالف.
ويؤيده ما يظهر من المصنف في المعتبر، فإنه قال: وأما الحجر المستعمل فمرادنا
بالمنع الاستنجاء به بموضع النجاسة، وأما لو كسر واستعمل المحل الطاهر منه جاز،

(1) الوسائل - الباب - 30 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4
47

وكذا لو أزيلت النجاسة بغسل أو غيره، كالتذكرة، ويشترط في الحجر أن لا يكون
مستعملا لنجاسة المستعمل إلى آخره، ومع ذلك كله يدل عليه إطلاق أخبار الأحجار
وغيرها، من قوله يذهب الغائط، ولا حد للاستنجاء حتى ينقى ما ثمة، فينقطع
الأصل، وخبر الأبكار مع كونه مقطوعا، ولا شهرة تجبره، ولا دلالة فيه على
الوجوب محتمل لأن يراد بالأبكار الطاهرة، فما سمعته من شيخنا في كشف الغطاء من
اختياره الأول قد يقوى في النظر خلافه، بل قد صرح (سلمه الله تعالى) بعدم جواز
المستعمل وإن غسل، وقد عرفت نقل الاجماع ونفي الخلاف فيه، والله أعلم.
(ولا الأعيان النجسة) أي المتنجسة ولو بغير الاستعمال إجماعا، كما في
المنتهى والتحرير والغنية، مضافا إلى الأصل، ورواية الأبكار المنجبرة بما سمعت، فلا
ينبغي الاشكال فيه، نعم لو استجمر به فهل يتعين حينئذ الماء اقتصارا على المتيقن مع
كون ذلك من الأفراد الخفية، أو يبقى على الحال الأول لأن المحل النجس لا يتأثر
بالنجاسة، أو يفرق بين ما كان متنجسا بالغائط أو بغيره، فإن كان الأول يبقى على
الحال الأول، وإلا يتعين الماء؟ وجوه، أقواها الأول.
(ولا الروث) وإن كان طاهرا (ولا العظم) كذلك بلا خلاف أجده،
بل عليه في المعتبر وعن ظاهر الغنية وصريح المصابيح دعوى الاجماع، ونسبه في المنتهى
إلى علمائنا، وعدم التعرض لهما في الوسيلة والمراسم على ما قيل ولأول في المبسوط مع
عد الثاني مما لا يزيل عين النجاسة ليس خلافا، كما أن احتمال الكراهة في التذكرة والحكم
بها في الوسائل غير قادح في الاجماع، فلا ضير في الاستناد إليه مع الاستصحاب،
وخبر ليث المرادي عن الصادق (عليه السلام) (1)؟ سألته عن استنجاء الرجل بالعظم
أو البعر أو العود؟ فقال: أما العظم والروث فطعام الجن وذلك مما اشترطوا على

(1) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
48

رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لا يصلح بشئ من ذلك " وعن الفقيه (1) أنه قال: " لا يجوز الاستنجاء بالروث والعظم لأن وفد الجان جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله
عليه وآله) فقالوا: يا رسول الله متعنا. فأعطاهم الروث والعظم. فلذلك لا ينبغي أن يستنجى
بهما) وعن كتاب دعائم الاسلام (2) قالوا: " نهوا (عليهم السلام) عن الاستنجاء
بالعظام والبعر وكل طعام " وعن مجالس الصدوق (3) إن النبي (صلى الله عليه وآله)
نهى أن يستنجى بالروث والرمة أي العظم البالي " بل يؤيده ما رواه العامة (4) عن النبي
(صلى الله عليه وآله) أنه قال: " لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم
من الجن " وعن الدارقطني (5) " أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهى أن يستنجى
بروث أو عظم، وقال: إنهما لا يطهران " وعن أبي داود (6) عن النبي (صلى الله عليه وآله)
أنه قال: لرويفعة بنت ثابت: " أخبري الناس أنه من استنجى برجيع أو عظم فهو
برئ من محمد " بل في الخلاف روى سلمان (7) قال: " أمرنا رسول الله (صلى الله
عليه وآله) أن نستنجي بثلاثة أحجار وليس فيها رجيع ولا عظم " والضعف في سند
أخبارنا، أو في دلالتها لمكان لفظ لا ينبغي ونحوه منجبر بعمل الأصحاب في المقام،
بل يظهر منهم عند الاستدلال على حرمة الاستنجاء بالمطعوم أنه من المسلمات، حيث
يأخذونه دليلا عليه، لكن ظاهر النص والفتوى تخصيص الحكم بما سمي روثا، وهو
رجيع ذات الحافر من الخيل والبغال والحمير ونحوها. فرجيع ذات الظلف والخف خارج،

(1) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4
(2) المستدرك - الباب - 26 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(3) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
(4) كنز العمال - المجلد 5 ص 85 الرقم 1788
(5) المنتقى لابن تيمية على هامش نيل الأوطار للشوكاني المجلد 1 ص 84
(6) سنن البيهقي المجلد 1 ص 110 - مع اختلاف في اللفظ
(7) سنن ابن ماجة المجلد - 1 - باب الاستنجاء بالحجارة والنهي عن الروث والرمة
49

فيجوز الاستنجاء به حينئذ، لما تقدم من جوازه بكل جسم، بل قد يشعر بذلك ما
في خبر ليث، حيث سأله عن البعر، فعدل عنه في الجواب وعبر بالروث، ولفظ البعر
في المنقول عن دعائم الاسلام محمول على الروث، لعدم الجابر له على إطلاقه، كلفظ
الرجيع في رواية الخلاف المصرح بأنه الروث في القاموس والصحاح، على أنها عامية،
والتعليل بكونه طعام الجن يحتمل أن يكون لخوف الظلم والأذية لهم، أو يكون من جهة
الشرفية الحاصلة له، فيحرم الاستنجاء به، وإن لم يتنجس على الثاني، بخلاف الأول
لعدم تنجسه، لكن لا مانع من جعل وجه التعليل الأمرين معا، ولا فرق في العظم
بين عظم مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم، ودعوى أن الجن حكمهم متفق مع الإنس،
فكما أن غير مأكول اللحم محرم على الإنس، فكذلك الجن يدفعها عدم معلومية
الاتفاق أولا، وعدم معلومية كيفية تغذيهم به هل هو على طريق الشم أو غيره ثانيا،
ثم إنه يفهم من التعليل جريان الحكم بالنسبة إلى مطلق التنجيس والتقذير والالقاء في
الخلوات ونحو ذلك، لكن لما لم يجبره عمل الأصحاب بقي على أصل الإباحة، إذ الظاهر
منهم قصر الحكم على الاستنجائية.
(ولا المطعوم) كما ذكره جماعة من أصحابنا، بل نسبه في المنتهى إلى علمائنا،
كما عن ظاهر الغنية والروض الاجماع عليه، بل ربما ظهر من غيرهما ذلك، وهو الحجة،
مضافا إلى ما تقدم في خبر الدعائم، وفحوى النهي عن الروث والعظم لكونه من طعام
الجن، مع ما دل من الأخبار على احترامه، كخبر الثرثار (1) فإنه روي " أنهم
جعلوا من طعامهم شبه السبائك ينجون صبيانهم، فغضب الله عليهم حتى أحوجهم إلى
تلك السبائك، فقسموها بينهم بالوزن " وعن تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى (2)

(1) الوسائل - الباب - 40 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(2) سورة النحل الآية - 113
50

(ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها) إلى آخره " أنها نزلت في قوم كان لهم
الثرثار، وكانت بلادهم خصبة، فبطروا حتى كانوا يستنجون بالعجين، ويقولون هو
ألين لنا فكفروا بأنعم الله فحبس الله عليهم الثرثار، فجدبوا حتى أحوجهم إلى ما كانوا
يستنجون به حتى كانوا يتقاسمونه " (1) ويظهر من بعض الأصحاب تخصيص الحكم بالمحترم
وهو قاض بأن منه محترما وغير محترم، بل عن بعضهم تخصيص الحكم بالخبز، لكن الذي
يظهر من الأصحاب وهذه الآية والتعليل بكونه طعام الجن ثبوت الاحترام لكل نعم
الله من المطعومات، وفي خبر هشام بن سالم (2) سأله " عن صاحب له فلاح يكون على
سطحه الحنطة والشعير، فيطؤونه ويصلون عليه، فغضب (عليه السلام) وقال: لولا أني
أرى أنه من أصحابنا للعنته) وقوله (ع) في خبر عمرو بن جميع (3): " دخل رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فرأى كسرة كاد أن يطأها، فأخذها وأكلها، ثم قال:
يا حميرا أكرمي جوار نعم الله عز وجل عليك، فإنها لم تنفر عن قوم فكادت تعود إليهم "
نعم لا يبعد عدم ثبوت الاحترام بالنسبة إلى بعض المطعومات الغير المعتادة كبعض البقول،
بل الانصاف أن بعضا من المعتاد كاللحم ونحوه ليس مبنيا على الاحترام، والحاصل كل
ما ثبت فيه جهة احترام من الشرع جرى عليه الحكم وإن لم يكن مطعوما بالفعل، بل قد
عرفت دعوى الاجماع على المطعوم من غير استثناء، ولا فرق في المطعوم بالنسبة إلى قوم
دون قوم، ولعله يشعر به التعليل بطعام الجن، كما أنه لا فرق في عدم جواز الاستنجاء
به بين الإزالة للنجاسة أو التطهير الشرعي. ثم إنه يفهم من كثير من الأصحاب بل لم أعثر
فيه على مخالف جريان الحكم في كل محترم، كالتربة الحسينية وغيرها وما كتب اسم
الله والأنبياء والأئمة أو شئ من كتاب الله عليه، بل قد يلحق به كتب الفقه والحديث

(1) تفسير الصافي - سورة النحل - الآية 113
(2) الوسائل - الباب - 78 - من أبواب آداب المائدة - حديث 3 من كتاب الأطعمة
(3) الوسائل - الباب - 76 - من أبواب آداب المائدة - حديث 4 من كتاب الأطعمة
51

ونحوها، بل قد يتمشى الحكم في المأخوذ من قبور الأئمة من تراب أو صدوق أو غيره،
بل قد يلحق بذلك المأخوذ من قبور الشهداء والعلماء بقصد التبرك والاستشفاء دون
ما لا يقصد، إذ الأشياء منها ما ثبت وجوب احترامها من غير دخل للقصد فيه، ومنها
ما لا يثبت له جهة الاحترام إلا بقصد أخذه متبركا به أو مستشفيا به، ومنها ما يؤخذ
من الإناء من طين كربلاء وغيرها، فإنه لا يجري عليه الحكم إلا إذا أخذ بقصد الاستشفاء
والتعظيم والتبرك، لكن هل استمرار القصد شرط في ذلك أو يكفي تحقق القصد أولا؟
إشكال، هذا.
ولا يخفى عليك أنه لا يليق بالفقيه الممارس لطريقة الشرع العارف للسانه أن يتطلب
الدليل على كل شئ شئ بخصوصه من رواية خاصة ونحوها، بل يكتفي بالاستدلال
على جميع ذلك بما دل (1) على تعظيم شعائر الله، وبظاهر طريقة الشرع المعلومة لدى
كل أحد، أترى أنه يليق به أن يتطلب رواية على عدم جواز الاستنجاء بشئ من
كتاب الله.
ثم ليعلم أن ما ذكرنا من حرمة الاستنجاء بالمحترم إنما هو حيث لا يكون مع قصد
الإهانة، وإلا فقد يصل فاعله بالنسبة إلى بعض الأشياء إلى حد الكفر والعياذ بالله،
والضابط أن كل مستحل مما علم تحريمه من الدين ضرورة، أو فعله بقصد التكبر
والعناد أو الفسق وإن لم يكن مستحلا تحقق به الكفر، فيكون بخسا ذاتيا، فلا يفيده
الاستنجاء طهارة، فإن عاد إلى الاسلام وجب إعادة الاستنجاء لا يقال: الاسلام
من جملة المطهرات، فلا حاجة إلى إعادة الاستنجاء لأنا نقول: إن أقصى ما ثبت
أن الاسلام مطهر من النجاسة الكفرية دون غيرها، نعم قد يقال: بحصول الطهارة
لما تنجس من بدنه ونحوه إذا كان قد أزالها على نحو إزالة المسلم، أو لم يعلم كيف أزالها،
أما لو علم بالإزالة الفاسدة فلا يجري الحكم، والقول بحصول الطهارة له حيث يستنجي

(1) سورة الحج - الآية 33
52

بما تقدم من تلك النجاسة وإن ثبت له النجاسة العينية بعيد، وكيف ومن شرط
التطهر بالاستنجاء بالأحجار أن لا يتنجس الحجر بغير النجاسة الحاصلة من الاستجمار،
والفرض أنه تنجس بمماسته لبدن الكافر، وما عساه يقال: - إن سائر الذوات النجسة
عينا لو أصابتها نجاسة خارجية فهي لا تتصف بالتنجيس، نعم يدور الحكم مدار وجود
عينها، فالكلب لا يتنجس بالدم مثلا، حتى إذا زال عنه يبقى حكمه، فالمدار على
زوال عين النجاسة الخارجة عنها - فيه أنه على تقدير تسليمه لا يتمشى فيما نحن فيه من
الكافر، لتكليفه بالفروع. فإذا أصابته نجاسة فهو مكلف بإزالتها على الوجه الشرعي،
وخبر الجب لم يعلم إرادة ما يشمل ذلك فيه مع أنه غير جامع لشرائط الحجية، فلا ريب
أن القاعدة تقتضي إعادة الاستنجاء، ولا دليل يخرج عنها، ولا يمكن دعوى السيرة
الصالحة للاستدلال بها في المقام، لكن ومع ذا والمسألة لا تخلو من تأمل، بل للبحث
فيها مقامات، تركناه خوف الإطالة والملل.
(ولا صيقل يزلق عن النجاسة) لملاسته فلا يزيلها، وحينئذ فاشتراطه واضح،
أما لو اتفق القلع به فلم أعثر على ما يقتضي عدمه، وما ذكروه من التعليل إنما هو خاص
بالأول، ولذا صرح بعضهم بالاجتزاء به، نعم عن العلامة في النهاية عدم الاجزاء،
وكأنه لكونه من الأفراد النادرة التي لا تشملها الاطلاقات، وفيه منع واضح، وعلى
تقدير تسليمه في الاطلاقات فما ذكروه من الاجماع المنقول على الاجتزاء بكل جسم طاهر
مزيل للنجاسة كاف، وما عساه يقال: إن ظاهر المشترطين لذلك يقضي بعدم جواز
الاستنجاء به وإن قلع، وإلا لم يكن وجه صحيح للتعرض له، لأنه مع عدم الإزالة
لا إشكال في عدم الاجتزاء به، فلا يناسب عده في تلك الأشياء، ففيه أنه لا يخفى
على الملاحظ لما ذكروه من الاستدلال عليه من عدم الإزالة ونحوها أنه ذكر لهذا
القصد، وإلا كانوا مطالبين بدليله، فالأقوى حينئذ الاجتزاء به لو اتفق القلع به ولو
نادرا، فحينئذ لا ينبغي الاشكال في الاجتزاء بامراره لو نقي المحل بدونه، وما يقال:
53

إنه يشترط فيها وإن لم يكن نجاسة أن تكون قابلة للقلع لو كانت في غاية الضعف، إذ
لا دليل يقتضيه، بل هو يقتضي عدمه.
(ولو استعمل) شيئا من (ذلك لم يطهر) قطعا في غير العظم والروث والمطعوم
والمحترم، وأما المستعمل بالمعنى السابق فهو مبني على القول باشتراطه، وقد صرح بعدم
حصول الطهارة في المبسوط والمعتبر كما عن ابن إدريس، بل ربما نقل عن المرتضى،
قال في الأول: " كل ما قلنا لا يجوز استعماله لحرمته أو لكونه نجسا إن استعمل في ذلك
ونقي به الموضع لا يجزي، لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد " انتهى. خلافا
للعلامة وجمع من المتأخرين، فصرحوا بالاجتزاء، وأقصى ما يمكن الاستدلال به للأول
الأصل، وعدم شمول ما دل على الاستنجاء لما نهى الشارع عنه، ولا أقل من إفادته الإذن
التي لا تشمل المنهي عنه، وقوله (صلى الله عليه وآله) (1) في العظم والروث: (لا يصلح)
الظاهر في عدم حصول الطهارة المؤيد بالرواية العامية أنهما لا يطهران، بل يستفاد حينئذ
من تعليله عدم الصلاحية بكونه طعام الجن تسرية الحكم لطعام الإنس بل ربما يقال:
بشموله للمحترم أيضا، لكون الظاهر من التعليل الاحترام، مضافا إلى ما نقل عن
الغنية من الاجماع على عدم الاجتزاء بالروث والعظم والمطعوم، بل قيل إنه إن ثبت
هذا الاجماع يثبت في سائر المحترم بطريق أولى.
وأقصى ما يمكن أن يستدل به للثاني تناول الاطلاقات والعمومات، والنهي
لا يقتضي الفساد في مثل المقام، لكونه من قبيل المعاملات، ودعوى عدم تناولها له
لاستفادة الإذن منها، فلا تشمل المنهي عنه يدفعها أن الحكم الوضعي المستفاد منها
شامل للجميع، على أن الاستفادة ليس من المدلول في شئ، وعلى تقديره فلا دلالة
فيها على شرطية الإذن بالنسبة للطهارة، ولعل الأقوى التفصيل بين ما نهي عن الاستنجاء
به كالعظم والروث، فإنا وإن لم نقل باقتضاء الفساد في مثله عقلا، لكن نقول باستفادته

(1) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
54

عرفا كما لا يخفى، إذ هو كالنهي عن نفس المعاملة ونحوه مما يستفاد منه عدم ترتب الأثر
عليه، بل قوله (لا يصلح) ظاهر في عدم ترتب الأثر الشرعي عليه، وبين ما لم ينه
عن الاستنجاء به، بل جاءت حرمة الاستنجاء به لأمر خارج مثل المحرمات، فإنه لا نهي
عن الاستنجاء بها، لكنه يحصل الحرمة من جهة منافاته للاحترام المأمور به، فحالها
كحال الحجر المغصوب ونحوه، وما يقال: من استفادة ذلك من التعليل في العظم
والروث فيه أنه لم يعلم أن العلة في عدم الطهارة الاحترام حتى تتسرى، مضافا إلى أنه
ضعيف السند، ولا جابر له في مثل المقام، بخلافه في مثل العظم والروث، فإنه مجبور
باجماع الغنية وغيره، نعم قد يلحق به المطعوم أيضا لذلك، وأما المحترمات الأخر
فمن استنجى بها جاهلا أو ناسيا أو نحو ذلك طهر، ولا حرمة، بل العامد كذلك
لكن مع الحرمة، فتأمل هذا. واعتبر في محكي المنتهى والتذكرة وصفا آخر، وهو
الجفاف، لأن الرطب ينجس بالغائط، ثم يعود إلى المحل فينجسه، ولأنه مزيد
التلوث والانتشار، وكذا عن نهاية الإحكام، مع احتماله فيه العدم، لاحتمال أنه
لا ينجس البلل إلا بعد الانفصال، وعن الذكرى لذلك ولكون نجاسته من نجاسة المحل،
وهذا كله في رطب لا يوجب التعدي الموجب للاستنجاء.
(الثالث)
(في سنن الخلوة)
(وهي مندوبات ومكروهات، فمن المندوبات تغطية الرأس) كما في الهداية والمقنعة
والمبسوط والمعتبر والقواعد والإرشاد والذكرى والروض والمدارك وكشف اللثام وغيرها
بل في المعتبر والذكرى الاتفاق عليه، وعن الفقيه تعليله بالاقرار بأنه غير مبرء نفسه من
العيوب، وفي المقنعة (1) أنه سنة من سنن النبي (صلى الله عليه وآله) وليأمن بذلك
من عبث الشيطان، ومن وصول الرائحة الخبيثة إلى دماغه، وفيه إظهار الحياء من الله

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
55

تعالى لكثرة نعمه على العبد، وقلة الشكر منه، بل قد يستدل عليه بخبر علي بن أسباط (1)
أو رجل عنه عمن رواه عن الصادق (عليه السلام) " أنه كان إذا دخل الكنيف يقنع
رأسه، ويقول سرا في نفسه بسم الله وبالله " إلى آخره وبالمروي عن المجالس (2)
بإسناده عن أبي ذر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصيته له قال: " يا أبا ذر
استحي من الله، فإني والذي نفسي بيده لأظل حين أذهب إلى الغائط متقنعا بثوبي
استحياء من الملكين اللذين معي " لكن قد يقال: إن المستفاد منهما استحباب التقنع
ولعله غير التغطية، بل هو الظاهر من جماعة، لذكرهم له مستقلا عنها، إلا أنه قد يشعر
كلام المفيد والصدوق بإرادة التقنع من التغطية، والأقوى ثبوت الاستحباب لهما معا
أما التغطية فلما سمعت، وأما التقنع فلما روي عن الصادق (عليه السلام) " أنه كان
يقنع رأسه إذا دخل الخلاء " نعم حيث يحصل التقنع يكتفى به عن التغطية، بل قد يقال:
أن المراد بالرأس في المقام رأس القصاص، فيكون تغطيته عين التقنع، فلا خلاف
حينئذ، لكنه لا يخلو من بعد، وقد يظهر من بعضهم ثبوت الكراهة لمكشوف الرأس،
قلت: لكن ترتفع حينئذ بستر بعضه وإن لم يحصل استحباب التغطية، لتوقفها عليه
جميعه، فتأمل.
(والتسمية) اتفاقا كما في المعتبر، وهو الحجة، مضافا إلى ما تقدم من
خبر علي بن أسباط، وفي صحيح معاوية بن عمار (3) سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: " إذا دخلت المخرج فقل بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث الرجس
النجس الشيطان الرجيم، وإذا خرجت فقل بسم الله وبالله والحمد لله الذي عافاني من
الخبيث المخبث، وأماط عني الأذى " ولا ينافيه ما ورد (4) في غيره من الأخبار من

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2 - 3
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2 - 3
(3) الوسائل الباب - 5 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(4) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2 و 5 و 6
56

الدعاء بذلك عند دخول الخلاء من غير ذكر التسمية، وللمرسل عن الصادق (عليه السلام)
" إنه كان إذا دخل الخلاء يقنع رأسه، ويقول في نفسه بسم الله وبالله ولا إله إلا الله،
رب أخرج مني الأذى سريعا بغير حساب، واجعلني لك من الشاكرين " إلى آخره.
وما عن وجادة الصدوق (1) بخط سعد بن عبد الله مسندا عنه (عليه السلام) أنه قال:
" من كثر عليه السهو في الصلاة فليقل إذا دخل الخلاء: بسم الله وبالله أعوذ بالله "
إلى آخره. بل يستفاد من المنقول (2) عن أبي جعفر (عليه السلام) استحباب التسمية
عند التكشف، لأنه قال: " إذا انكشف لبول أو لغير ذلك فليقل بسم الله، فإن
الشيطان يغض بصره " كما أنه يستفاد من خبر أبي أسامة (3) عن الصادق (عليه السلام)
استحباب مطلق ذكر الله، عند دخول الخلاء، لأنه سئل وهو عنده " ما السنة في دخول
الخلاء؟ قال: يذكر الله، ويتعوذ من الشيطان الرجيم " والظاهر مما ذكرنا استحبابها
مطلقا في الأبنية وغيرها كما هو الظاهر من المصنف، بل يدل عليه إطلاق إجماعه
في المعتبر.
(وتقديم الرجل اليسرى عند الدخول) كما نص عليه جماعة، بل في المدارك
أنه مشهور بين الأصحاب، بل في الغنية الاجماع عليه، كاستحباب تقديم اليمنى عند
الخروج، وعلل بالفرق بينه وبين المسجد، فينبغي حينئذ تقديم اليمنى عند الخروج،
كما صرح به بعضهم، ولعله للتسامح في أدلة السنن يكتفى في ثبوته بفتوى من تقدم،
مضافا إلى إجماع الغنية، لكن هل يقتصر في الاستحباب على البناء خاصة، كما هو
المنساق منه إلى الذهن، أو لما هو أعم منه على إرادة تقديمها بالنسبة إلى الموضع الذي
يجلس فيه، وكذلك تقديم اليمنى عند الانصراف؟ وجهان، أقربهما الثاني، كما عن العلامة
في نهاية الإحكام
(و) يستحب (الاستبراء) كما في المراسم والمعتبر والمنتهى والقواعد

(1) الوسائل - الباب - 5 من أبواب أحكام الخلوة - حديث 8 - 9 - 10
(2) الوسائل - الباب - 5 من أبواب أحكام الخلوة - حديث 8 - 9 - 10
(3) الوسائل - الباب - 5 من أبواب أحكام الخلوة - حديث 8 - 9 - 10
57

والدروس وغيرها، وليس بواجب كما هو المشهور، بل لا خلاف فيه بين المتأخرين،
للأصل، مع إشعار جملة من الروايات (1) به، بل ظهورها، نعم وقع الأمر به
بالجملة الخبرية في الحسن كالصحيح (2) قلت لأبي جعفر (عليه السلام): " رجل بال
ولم يكن معه ماء، قال: يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات، وينتر طرفه،
فإن خرج بعد ذلك شئ فليس من البول " وصحيح حفص بن البختري عن الصادق
(عليه السلام) (3) " في الرجل يبول، قال: ينتره ثلاثا، فإن سال حتى بلغ الساق
فلا يبالي " وهو مع كون الأمر فيهما بالجملة الخبرية، وإعراض المشهور عنهما، وإشعار
ذيلهما بإرادة الأمر فيهما للحكم بعدم المبالاة بما يخرج بعد ذلك - لا يبعد حمله على
الاستحباب، بل لولا فتوى الجماعة بذلك لأمكن التأمل فيه، لظهورهما في إرادة
الإرشاد، فما يظهر من ابن حمزة من القول بالوجوب، كما عن ابن زهرة والشيخ في
الاستبصار ضعيف جدا، لمنافاته لما يظهر من كثير من الروايات (4) من حصول
الطهارة بدونه إن أرادوا توقف الطهارة عليه، وإلا فلا معنى لوجوبه إلا وجوب إعادة
الاستنجاء والوضوء أن يظهر بلل مشتبه، وهو اتفاقي كما قيل، فيرتفع الخلاف حينئذ
واحتمال القول بالوجوب التعبدي في غاية الضعف، كاحتمال القول بوجوب إعادة
الاستنجاء فيما علم أن الخارج مذي أو وذي، فيكون هذا حينئذ ثمرة، فتأمل جيدا.
ثم إن الظاهر قصر استحبابه على الرجال خاصة، لعدم الدليل عليه بالنسبة
للنساء، إلا أنه صرح في المنتهى كما عن النهاية بالتعميم ولم يبين كيفيته فيها، ولعله الخرط
عرضا، ويمكن الحكم به للتسامح والاستظهار في خروج البول، لكن ينبغي القطع في

(1) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب أحكام الخلوة
(2) الوسائل - الباب - 11 من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2
(3) الاستبصار - الباب - 28 - حديث 1
(4) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب أحكام الخلوة
58

عدم جريان حكم المشتبه قبله بالنسبة إليها، كما في الرجال وإن قلنا باستحبابه، لعدم
الدليل، مع أصالة الطهارة المنافية لحدثيته.
وأما كيفية الاستبراء فسيأتي الكلام عليها في باب الغسل إن شاء الله تعالى
(والدعاء عند الاستنجاء) بالمأثور من قوله: " اللهم حصن فرجي واعفه، واستر
عورتي، وحرمني على النار " (وعند الفراغ) منه، " الحمد لله الذي عافاني من البلاء،
وأماط عني الأذى "
(وتقديم اليمنى عند الخروج) عكس الدخول، كما عرفت وجهه
مما سبق (والدعاء بعده) أو عنده، بقوله: " بسم الله، الحمد لله الذي رزقني لذته
وأبقى قوته في جسدي، وأخرج عني أذاه، يا لها نعمة ثلاثا "
(و) من (المكروهات
الجلوس) للبول أو بالغائط (في الشوارع) جمع شارع وهو الطريق الأعظم كما
عن الصحاح، ولعل المراد بها هنا مطلق الطرق النافذة إذ المرفوعة ملك لأربابها،
(والمشارع) جمع مشرعة، وهو مورد الماء كشطوط الأنهار وفي القاموس أنها مورد
الشاربة، بلا خلاف أجده فيهما، سوى ما في الهداية والمقنعة لا يجوز مع احتمال، أو
ظهور إرادتهما الكراهة، لما في الغنية من الاجماع على استحباب اجتنابهما، وهو - مع
الأصل والشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا، بل هي كذلك - قرينة على صرف
ما تسمع من الأخبار عن ظاهرها، مع ما في بعضها من الاشعار بذلك، (منها) قول
علي بن الحسين (عليه السلام) (1) في الجواب عن سؤال من سأله أين يتوضأ الغرباء؟:
" تتقي شطوط الأنهار والطرق النافذة " الحديث. وفي المرفوعة (2) قال: " خرج
أبو حنيفة من عند أبي عبد الله (عليه السلام) وأبو الحسن (عليه السلام) قائم وهو غلام
فقال: يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم، فقال: اجتنب أفنية المساجد وشطوط الأنهار "
الحديث. وفي خبر السكوني (3) عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: " نهى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يتغوط على شفير بئر ماء يستعذب منها، أو نهر

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 2 - 3
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 2 - 3
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 2 - 3
59

يستعذب، أو تحت شجرة فيها ثمرتها " وفي وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي
(عليه السلام) (1) " كره البول على شط نهر جار " وفي حديث المناهي (2) قال:
" نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبول أحد تحت شجرة مثمرة، أو على قارعة
الطريق " وغير ذلك.
(وتحت الأشجار المثمرة) كما عبر بذلك أكثر الأصحاب تبعا لصحيح
عاصم (3) وإذ كان المشهور عند الإمامية عدم اشتراط بقاء المبدء في صدق المشتق صرح
المحقق الثاني وتبعه عليه غيره أن المراد بالمثمرة ما من شأنها الأثمار، وفيه أنه بعد التسليم
ينبغي تعميمه لما أثمرت وزال ثمرها، لا لمن شأنها أن تثمر وإن لم تثمر، فإن صدق المشتق
عليه مجاز من غير إشكال، على أن خبر السكوني المتقدم شجرة فيها ثمرتها، ونحوه خبر
حصين بن مخارق (4) كما قيل، وفي آخر (5) " وكره أن يحدث الرجل تحت شجرة
قد أينعت، أو نخلة قد أينعت " والتعليل في الفقيه (6) وعن العلل عن الباقر (عليه السلام)
" وإنما نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يضرب أحد من المسلمين خلاء تحت
شجرة أو نخلة قد أثمرت لمكان الملائكة الموكلين بها، قال: ولذلك تكون النخلة والشجرة
أنسا إذا كان فيه حمله، لأن الملائكة تحضره " مما يستفاد إرادة الأثمار الفعلي، وبه
أفتى جماعة من المتأخرين، ويؤيده الأصل لكن لما كان الحكم مكروها أمكن القول بالتعميم
لما زال ثمرها، سيما مع تعبير الأصحاب بالمشتق، ومعروفية مذهبهم حتى أنهم في أصول
الفقه جعلوه مثالا لمحل النزاع، ونسبوا إلى الشيعة القول بعدم الاشتراط، بل قد يستفاد
من المروي في الفقيه (7) كون الملائكة موكلين بالأشجار حال عدم الثمرة، على أنه لا منافاة
بين ما دل على الكراهة تحت المثمرة فعلا وبين المشتق المفيد للأعم من ذلك إلا بمفهوم الوصف

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 9 - 10 - 1
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 9 - 10 - 1
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 9 - 10 - 1
(4) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6 - 11 - 8
(5) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6 - 11 - 8
(6) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6 - 11 - 8
(7) البحار - المجلد - 18 - باب آداب الخلاء ص 40
60

الضعيف، هذا. وفي المرفوعة السابقة التعبير بمساقط الثمار، وهو يفسر التحت الواقع
في النص والفتوى لكن يحتمل الرجوع فيه إلى العرف.
(ومواطن النزال) أي المواضع المعدة لنزول القوافل والمترددين، وعبر جماعة
من الأصحاب بفئ النزال، وفسر بموضع الظل المعد لنزول القوافل والمترددين،
كموضع ظل جبل أو شجرة ونحوهما، ويوافق الأول قول الكاظم (عليه السلام) لما
سأله أبو حنيفة أين يضع الغريب ببلدكم، فقال: " اجتنب أفنية المساجد، إلى أن قال:
ومنازل النزال " كما أنه يوافق الثاني خبر إبراهيم بن أبي زياد الكرخي (1) عن الصادق
(عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ثلاث من فعلهن
ملعون المتغوط في ظل النزال، والمانع الماء المنتاب، وساد الطريق المسلوك " لكنك
خبير أنه لا تعارض بينهما، فلعل تعبير المصنف أولى، لكونه أعم، بل يمكن أن يرجع
إليه الثاني على أن يراد بالفئ الرجوع من فاء إذا رجع، نظرا إلى أنهم يرجعون في
النزول إليه، لكنه بعيد، أو يقال: إنه عبر به لأن الغالب فيها أن تكون ذوات
أظلال والغالب نزولهم بها بعد العصر، نعم يحتمل قويا شدة الكراهة في الفئ،
بل ظاهر الخبرين التحريم في غيره، كما عن ظاهر الهداية والمقنعة وعن النهاية والفقيه،
لكن لما كانا قاصرين عن إفادته سندا ودلالة مع تصريح المشهور بالكراهة مضافا إلى الأصل
كان تنزيلهما عليها هو المتجه، بل تحمل إرادتها لأولئك أيضا وإن قالوا لا يجوز، لكن
التعبير به عنها معروف في عبارات مثلهم.
(ومواضع اللعن) كما هو المشهور، بل لعله لا خلاف فيه مما عدا الكتب المتقدمة،
بل قد عرفت إمكان إرادة الكراهة منها أيضا، فمن هنا اتجه حمل قول علي بن الحسين
(عليه السلام) في صحيح عاصم بن حميد (2) عن الصادق (عليه السلام) عليها، بعد أن
قال له رجل: أين يتوضأ الغرباء " تتقي شطوط الأنهار، إلى أن قال: ومواضع اللعن،

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4 - 1
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4 - 1
61

فقيل له: وأين مواضع اللعن، فقال: أبواب الدور " على أنه محتمل لأن لا يكون
أمرا، بل هو إخبار عن فعل الغرباء، فلا يكون فيه دلالة على الحرمة، فإن قلت:
إن الأصحاب حكموا فيما نحن فيه وفيما تقدم بالكراهة مع أن الوارد فيها الأمر، وحمله
على الكراهة إما ممتنع ولو مجازا، أو أنه لا يقدم على الندب، لكونه مجازا شائعا،
قلت: الظاهر أن الأمر الموجود فيهما معناه نهي. لقوله في الأول اجتنب، وفي
الثاني تتقي، والمراد بمواضع اللعن أبواب الدور كما سمعته، لكن في جامع المقاصد
وعن الذكرى قيل إنه مجتمع النادي لتعرضه للعنهم، قلت: ويمكن جعل ذلك في الخبر
من باب المثال، والمراد كل موضع يلعن فيه المحدث، ولعله يشعر به جمع المواضع،
فيستدل به حينئذ على غير المقام، والظاهر إرادة اللعن من المترددين لا من الله والملائكة
وإلا لافتضى ذلك التحريم مع احتماله، ولا يلزم التحريم، للحمل على ضرب من
المجاز كما ورد اللعن في كثير من المكروهات.
(واستقبال) قرص (الشمس) وقرص (القمر بفرجه) لا جهتهما كما في
القبلة، لأنه مجاز لا يرتكب بدون قرينة، والحكم بالكراهة هو المشهور بين الأصحاب
بل لا أعلم فيه خلافا بين المتأخرين، ويدل عليه خبر السكوني (1) عن جعفر عن أبيه
عن آبائه (ع) قال: " نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يستقبل الرجل الشمس
والقمر بفرجه وهو يبول " وخبر عبد الله بن يحيى الكاهلي عن الصادق (عليه السلام) (2)
قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يبولن أحدكم وفرجه باد للقمر يستقبل
به " وعن الصدوق (3) في الفقيه أنه قال: وفي خبر آخر " لا تستقبل الهلال ولا
تستدبره يعني في التخلي " وعن الكافي قال: وروي (4) أيضا " لا تستقبل الشمس

(1) الوسائل الباب - 25 - من أبواب أحكام الخلوة حديث 1 - 2 - 3
(2) الوسائل الباب - 25 - من أبواب أحكام الخلوة حديث 1 - 2 - 3
(3) الوسائل الباب - 25 - من أبواب أحكام الخلوة حديث 1 - 2 - 3
(4) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
62

ولا القمر " وخبر المناهي (1) المروي عن الفقيه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وفيه
" نهى أن يبول الرجل وفرجه باد للشمس أو القمر " والأخبار وإن كان ظاهرها التحريم
للنهي مادة وصيغة، لكن قصور أسانيد كثير منها - بل ليس فيها إلا حسنة الكاهلي
وإعراض المشهور عنها شهرة كادت تكون إجماعا، وكونه كعام البلوى مع خلو الأخبار
الآخر سيما المسؤول فيها عن حد الغائط فأجاب لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ولم يذكر
الشمس والقمر، بل اشتمل خبر الكاظم منها على قوله وارفع ثوبك وضع حيث شئت، بل
ظاهر إجماع الغنية على أنه يستحب أن لا يستقبل الشمس والقمر - يمنع من الحكم بالحرمة،
فما يظهر من المفيد والصدوق في الهداية من التحريم ضعيف مع أن عبارتهما غير صريحة
بذلك، إذ لعله مرادهما بعدم الجواز الكراهة، بل عبارة الهداية لم يتعرض فيها للشمس،
على أنهما عبرا بعدم الجواز فيما يبعد قولهما فيه بالتحريم مثل الريح ونحوها، بل لعل
عبارة الهداية على نسق الروايات، وأما ما يظهر من سلار - من النهي من استقبال الشمس
والقمر بفرجه في حال البول وأنه قال عند ذكر الغائط: وقد قيل إنه لا يستدبر الشمس
ولا القمر ولا يستقبلهما فالظاهر عدم إرادته الحرمة، لتصريحه في أول العبارة بإرادة الندب.
وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في الكراهة، نعم ظاهر عبارة المصنف الاقتصار
على الاستقبال، كما هو ظاهر بدو الفرج والاستقبال به في الأخبار، بل عن شرح
الإرشاد للفخر الاجماع على عدم كراهة الاستدبار، لكن قد سمعت أن المرسل تضمن
النهي عن الاستدبار بالنسبة للهلال، بل عن الهداية أنه قال: " لا يجوز الاستدبار بالنسبة
للهلال " وعن الذكرى احتمال الكراهة للمساواة في الاحترام، لكن لا يبعد عدم الكراهة،
للأصل وما سمعته من الاجماع، بل قد يقال: إنه مقتضى مفهوم الأخبار المتقدمة،
بل قد يرشد إلى ارتفاعها أيضا ارتفاعها لو ستر الفرج بثوب أو كف أو نحو ذلك من
الحجب السماوي وغيره كالسحاب ونحوه، كما صرح به بعضهم، للخروج به عن البدو

(1) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4
63

والاستقبال لهما، فكيف لو استدبرهما، مع ما فيه من العسر في بعض الأوقات،
لمكان حرمة استقبال القبلة واستدبارها وكراهة استقبال الشمس واستدبارها، بل بعضهم
أوجب التشريق والتغريب للأمر بهما وإن حمله آخرون على الاستحباب فتأمل جيدا.
ثم إن ظاهر الأخبار المذكورة عدا المرسلين المتقدمين اختصاص الحكم بالبول،
كظاهر المنقول عن الأكثر، ولعله لقولهم وفرجه باد للشمس والقمر، لكن عن الشهيد
في الذكرى أنه قال: والغائط محمول عليه، وربما روي بفرجه وهو يشملهما، قلت:
الظاهر أن الفرج هنا بمعنى القبل، لأنه هو الذي يستقبل به الشمس والقمر ويتحقق
به البدو لا الدبر، فلو استدل بالمرسلين المتقدمين لكان أحسن، لاطلاقهما، لكن
في كشف اللثام أنهما منزلان على المقيد، وفيه أنه لا تعارض بينهما يوجب ذلك،
نعم قد يقال: إن الكليني والفقيه أرسلا نقلا بالمعنى، ومقصودهما هي تلك الأخبار
الناهية عن البول والفرج باد للشمس والقمر، فلعل القول بعدم الكراهة لأصل لا يخلو
من قوة وإن كان الحكم بها أقوى، للتسامح فيها، فتأمل. بل يمكن إلحاق الغائط
بالبول استقبالا واستدبارا به لذلك أيضا، على أن يكون معنى الاستقبال به استدبار
الشخص والاستدبار بالعكس وإن كان لا يخلو من تأمل أو منع.
ثم الظاهر من الحالية في الأخبار أخذ القيدين معا، وهما البول من الفرج مع
بدوه، فمن بال من غير فرجه ولو معتادا، أو بدى فرجه من غير بول فلا كراهة
فيهما، ومن هنا يقوى عدم جريان الحكم على مثل الممسوح والمجبوب ونحوهما لعدم الفرج،
نعم الظاهر اشتراك الحكم المذكور بين الرجال والنساء، كما هو مقتضى القاعدة وإن كان
ظاهر الأخبار الأول، وأما الخنثى المشكل فالأصل عدم تحقق الكراهة بالنسبة إلى كل
من فرجيه، لعدم العلم بكونه فرجا، كما أن مقتضى التقييد المذكور أيضا تخصيص
الكراهة في حال البول لا في حال الجلوس أو الدخول، فما ينقل عن ظاهر الهداية من
64

كراهة الجلوس للبول إلى آخره لعل مراده ما ذكرنا لمكان الغالب وإلا فهو ضعيف،
والظاهر شمول الحكم للكسوف والخسوف وعدمهما، بل يحتمل شمول الحكم للقمر في
النهار للصدق، كما أن الظاهر شموله للهلال، لما سمعته من المرسل، وهل الحكم دائر
على الاستقبال بالفرج في حال البول أو على البدن وللشمس والقمر في حاله وإن لم يكن
معه استقبال؟ لا يبعد الأول، لظاهر قوله يستقبل به، ويحمل عليه غيره، فتأمل.
(و) استقبال (الريح بالبول) للخبر المروي (1) عن الخصال عن علي (عليه
السلام) " ولا يستقبل ببوله الريح " وبالنهي عن استقبال الريح بالبول عبر المبسوط كما
عن المقنعة والنهاية والمهذب والوسيلة والمراسم والكافي والسرائر، والظاهر أن مرادهم
بذلك الكراهة، كما صرح بها في النافع والمنتهى والتذكرة والتحرير والإرشاد والقواعد،
بل عن الغنية يستحب أن يتقى بالبول الأرض الصلبة وجحرة الحيوان واستقبال الريح،
وذكر غير ذلك، إلى أن قال: كل ذلك بدليل الاجماع، وهو وإن ذكر لفظ
الاستحباب والأصحاب ذكروا الكراهة إلا أنه مشترك معهم في عدم الحرمة، بل لعله
لا منافاة بينه وبينهم، بناء على أن ترك المكروه مستحب.
وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في عدم الحرمة، للأصل، مع قصور الروايات عن
إفادتها من وجوه، مع ما سمعت من دعوى الاجماع، بل لعله كذلك، فما ينقل عن ظاهر
الصدوق في الفقيه والمقنع من الوجوب ضعيف مع احتمال إرادته الكراهة أيضا، فتأمل.
لكن الذي يظهر من الأصحاب قصر الحكم على الاستقبال بالبول دون الغائط ودون
الاستدبار، والموجود في الأخبار، خلاف ذلك (منها) ما رواه (2) المشائخ الثلاثة كما قيل
عن محمد بن يحيى باسناده رفعه قال: " سئل أبو الحسن (عليه السلام) ما حد الغائط؟
قال: لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها " (ومنها) مرفوعة (3)

(1) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6
(2) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2 - 1
(3) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2 - 1
65

عبد الحميد بن أبي العلاء قال: " سئل الحسن بن علي (عليهما السلام) ما حد الغائط؟ قال:
لا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، ولا تستقبل الريح ولا تستدبرها " وهما كما ترى قد تضمنا
حكم الاستدبار مع حكم الغائط، والقول بأنهما لم يدلا على حكم الاستدبار بالنسبة للبول
يدفعه ظهور أن المراد بحد الغائط التخلي، كالقول إنما كره الاستقبال بالغائط من جهة
أن الغالب حصول البول حال الغائط، فتحقق الكراهة بالنسبة للبول، وإلا لو فرضنا
غائطا لا بول معه فلا كراهة، كما يؤيده تحقق سبب الكراهة في استقبال الريح بالبول دون
الغائط، وهو خوف الرد ونجاسة الثوب والبدن، إذ هو اجتهاد بحت في مقابلة النص،
مع عدم إشارة إلى هذا التعليل في الأخبار، نعم نقل عن علل محمد بن علي بن إبراهيم
ابن هاشم (1) " ولا يستقبل الريح لعلتين، أحدهما أن الريح ترد البول فيصيب الثوب
ولم يعلم ذلك، إلى أن قال: والعلة الثانية أن مع الريح ملكا، فلا يستقبل بالعورة "
انتهى. وهو مع ذكره للعلة الثانية مراده بالتعليل الحكمة، فقد يكون حينئذ يكره التغوط
مطلقا، لأن الغالب أن يكون معه بول، فيرد على الثوب ونحوه، فلا ريب أن
الأقوى كراهة استقبال الريح مطلقا، ولذا لم يقيده به في اللمعة، بل قال: واستقبال
الريح، بل الأولى كراهة الاستدبار أيضا فيهما كما صرح به في الروضة، بل ربما كان
ظاهر غيرها أيضا عملا بما سمعته من الأخبار السالمة عن المعارض، وما ذكرناه من رواية
الخصال لا تقتضي التقييد، ولو لم يكن الحكم مكروها لكان متابعة الأصحاب لازمة،
لأن الظاهر منهم الاعراض عن ظاهر الخبرين المتقدمين، مع أنه لا يخلو كلامهم من
وجه أيضا، فتأمل.
(والبول) دون غيره (في الأرض الصلبة) وما في معناها مما ينافي
الأمر بالتوقي من البول الموجود في عدة من الأخبار، خصوصا ما عن الصادق

(1) البحار - المجلد - 18 - باب آداب الخلاء ص 46 من طبعة الكمباني
66

(عليه السلام) (1) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من فقه الرجل أن يرتاد
موضعا لبوله " بل عنه (ع) أيضا (2) قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشد
الناس توقيا عن البول، كان إذا أراد البول يعمد إلى مكان مرتفع من الأرض أو إلى
مكان من الأمكنة يكون فيه التراب الكثير، كراهية أن ينضح عليه البول " وعنه
(عليه السلام أيضا (3) أنه قال لزرارة: " لا تستحقرن بالبول ولا تتهاونن به " إلى غير
ذلك، بل ربما يشعر به بعض ما تقدم في الريح، نعم يظهر من بعضهم عدم جعله من
المكروهات، بل جعل ارتياد موضع للبول من المستحبات، والأولى الجمع بينهما،
للتسامح بكل منهما.
(وفي ثقوب الحيوان) بلا خلاف أجده فيه إلا ما ينقل عن ظاهر الهداية،
لقوله لا يجوز مع احتماله ما عرفته غير مرة، لما عن النبي (صلى الله عليه وآله) (4)
" أنه نهى أن يبال في الجحر " المؤيد بما رواه الجمهور عن عبد الله بن سرجين (5)
" أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهى أن يبال في الجحر " وقد وقع في كلام بعض
أصحابنا التعليل بخوف الأذية من الحيوان، كما اتفق لسعد بن عبادة بال في جحر
بالشام فاستلقى ميتا، فسمعت الجن تنوح عليه بالمدينة، وتقول:
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * ورميناه بسهمين فلم تخط فؤاده
وكأنهم تبعوا بذلك ما وجدوه في كتب بعض العامة، وإلا فهذه الحكاية من
المشهور عند علماء الشيعة كذبها، بل عن ابن أبي الحديد التصريح بأنها موضوعة، وإن

(1) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 2
(2) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 2
(3) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث - 1 - ولكن رواه
عن أبي جعفر (عليه السلام)
(4) ما وجدناه في كتب الأخبار
(5) سنن البيهقي - ج 1 ص 99
67

القائل ليس من الجن، والثابت (1) في طرق الشيعة " إن سعدا لما أبى عن البيعة
خرج من المدينة إلى الشام، وكان سعد سيد الخزرج ممن يخاف منه، فاحتال فلان
على قتله، فأرسل إلى فلان فرموه بسهم غيلة وخفية، ووضعوا هذه الحكاية حتى يطل
دمه ولا ينفتق أمر آخر " نعم قد يستأنس بهذه الحكاية لكون البول في ثقوب الحيوان
كان معروفا في ذلك الزمان أنه مظنة للأذية، ولذا احتالوا به.
(وفي الماء جاريا وراكدا) كما صرح به كثير من الأصحاب، ويدل عليه جملة
من الأخبار، (منها) ما دل (2) على النهي عن البول في الماء غير مقيد له بأحدهما
(ومنها) ما دل (3) على النهي عنه في الماء النقيع والماء الراكد وهي كثيرة، (ومنها)
ما دل (4) على النهي عن البول في الماء الجاري، ولكن في جملة من الأخبار نفي البأس
عنه في الجاري كخبر الفضيل (5) عن الصادق (عليه السلام) قال: " لا بأس بأن
يبول الرجل في الماء الجاري، وكره أن يبول في الراكد " وخبر عيينة بن مصعب (6)
قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " عن الرجل يبول في الماء الجاري؟ قال: لا بأس به إذا كان الماء جاريا " وخبر سماعة (7) قال: سألته " عن الماء الجاري يبال
فيه؟ قال: لا بأس به " وخبر ابن بكير عن الصادق (عليه السلام) (8) قال: " لا بأس
بالبول في الماء الجاري " وما يقال أنه لا تنافي بين هذه، لأن الجواز لا ينافي الكراهة
فيه أن المنافاة ظاهرة في صحيح الفضيل المتقدم، نعم هو محتمل بالنسبة إلى غيره،

(1) البحار - المجلد - 8 - باب غصب الخلافة ص 37 و 70 من طبعة الكمباني
(2) المستدرك - الباب - 19 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3 و 5 و 7
(3) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 0 - 3
(4) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 0 - 3
(5) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1
(6) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2 - ولكن رواه في
الوسائل عن عنبسة عن الصادق (عليه السلام)
(7) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 3
(8) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 3
68

وربما حمل نفي البأس فيها على خفة الكراهة دون الراكد، وكأن منشأه أنه مجرد جمع
بين الأخبار، وإن الكراهة مما يتسامح فيها، وإلا فلا شاهد على ذلك، ولا ينتقل
إليه من اللفظ، وربما احتمل حمل نفي البأس فيها على عدم حصول النجاسة أو الاستقذار
وهو كسابقه، على أن خبر الفضيل ظاهر في خلاف ذلك، بل الذي يؤدى به هذا
المعنى عدم البأس عن الماء لا عن البول في الماء، فلذا نقل عن بعض القدماء أنه قال: لا بأس
به في الجاري، وعن الهداية والمقنعة أنه لا يجوز في الراكد، ولعل مرادهما شدة الكراهة،
لقصور الأخبار عن إفادة التحريم، مع اشتمال الصحيح على لفظ الكراهة، وإشعار
التعليل (1) الوارد في جملة منها بأن للماء أهلا به، فإن فعل فأصابه شئ فلا يلومن
إلا نفسه، وإن منه (2) يكون ذهاب العقل، وعن الفقيه أنه قال: وروي (3) " أنه
يورث النسيان " وعن شرح الإرشاد " أنه يورث الحصر " وكالتعليل الأول ورد (4)
في النهي عن البول في الجاري أيضا، فيمكن أن يقال إن المنفي عنه البأس من الجاري
السائل، والمنهي عنه الجاري الراكد أي ماله مادة وإن كان بعيدا جدا، وعن
النهاية أنه بالليل أشد لما قيل من أن الماء بالليل للجن، فلا يبال فيه ولا يغتسل، حذرا
من إصابة آفة، انتهى. وقد عرفت أن الأخبار دلت على أن له أهلا مطلقا،
وكذا مخافة إصابة الآفة، وأنت خبير أن ظواهر الأخبار اختصاص الحكم بالبول،
ومن هنا اقتصر عليه المصنف كالعلامة، وعن الأكثر إلحاق الغائط، ولعله للتعليل،
قيل ولأنه أولى، وفي جامع المقاصد أنه لا يبعد أن يقال: إن الماء المعد في بيوت الخلاء
لأخذ النجاسات واكتنافها كما يوجد في الشامات وما جرى مجراها من البلاد الكثيرة
المياه لا يكره قضاء الحاجة فيه، وفيه أن ذلك لا يصلح لأن يكون مقيدا لتلك الأدلة

(1) المستدرك - الباب - 19 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5
(3) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4 - 3
(4) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 4 - 3
69

ما لم يدخل تحت الضرورة المستثناة في بعض الأخبار الناهية (1) عن البول في الماء الجاري
(والأكل والشرب) حال التخلي كما في المهذب والمنتهى وعن المصباح ومختصره
ونهاية الإحكام، أو مطلقا كما هو ظاهر غيرها، ولعله أولى، للتسامح فيها، ولتضمنه
مهانة النفس، وفحوى خبر اللقمة المنقول (2) عن الباقر والحسين (عليهما السلام).
(والسواك) كما في الوسيلة والنافع واللمعة والذكرى، ولعل مرادهم حال التخلي
كما هو ظاهر المبسوط والمهذب والمراسم والمعتبر والمنتهى والقواعد والروضة، للمرسل
في الفقيه (3) عن الكاظم (عليه السلام) " السواك على الخلاء يورث البخر " وربما
احتمل إرادة بيت الخلاء، قيل لما رواه الشيخ (4) بدل (على) (في) والمراد بالسلوك
الاستياك، وفي المقنعة لا يجوز، وهو ضعيف إلا أن يريد الكراهة.
(والاستنجاء باليمين) بلا خلاف أجده فيه سوى ما في المقنعة والمهذب وعن النهاية
من أنه لا يجوز، وهو ضعيف. لعدم ما يصلح لها من المرسل عن الصادق (عليه السلام) (5)
" نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ن يستنجي الرجل بيمينه " وخبر السكوني
عن الصادق (عليه السلام) (6) (الاستنجاء باليمين من الجفاء) ونحوه غيره، وهما لا يصلحان
لغير الكراهة سيما مع فتوى الأصحاب، لكن ينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكن
في اليسار علة، للمروي (7) مرسلا في الفقيه والكافي من التقييد بذلك، وفي الفقيه
قال أبو جعفر (عليه السلام) (8): " إذا بال الرجل فلا يمس ذكره بيمينه " ومنه يستفاد
كراهة الاستبراء بها، وظاهر النص والفتوى دخول الاستجمار.

(1) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3
(2) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 و 2
(3) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب أحكام الخلوة حديث 1
(4) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب أحكام الخلوة حديث 1
(5) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 2
(6) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1 - 2
(7) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3 و 5
(8) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6
70

(و) كذا يكره الاستنجاء ولو استجمارا (باليسار وفيها خاتم عليه اسم الله)
كما في المبسوط والمهذب والوسيلة والمراسم والنافع والتذكرة والقواعد والتحرير والذكرى
والدروس والبيان وغيرها، للتعظيم، وقول الصادق (عليه السلام) (1) في خبر
الساباطي: " لا يمس الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم الله، ولا يستنجي وعليه خاتم
فيه اسم الله " الحديث. المتمم بعدم القائل بالفصل بين الجنب وغيره. وخبر أبي أيوب (2)
قلت لأبي عبد الله (ع): " أدخل الخلاء وفي يدي خاتم فيه اسم من أسماء الله، قال:
لا، ولا تجامع فيه " وخبر أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (3) قال أمير المؤمنين
(عليه السلام): " من نقش على خاتمه اسم الله فليحوله عن اليد التي يستنجي بها في
المتوضأ " وخبر الحسين بن خالد (4) قال: قلت لأبي الحسن الثاني (عليه السلام): " إنا
روينا في الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يستنجي وخاتمه في إصبعه وكذلك
أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان نقش خاتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) محمد رسول
الله، قال: صدقوا قلت: فينبغي لنا أن نفعل، فقال: إن أولئك كانوا يتختمون في اليد
اليمنى، وإنكم تتختمون في اليسرى " ونحوه غيره، وخبر معاوية بن عمار (5) عن
الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: " الرجل يريد الخلاء وعليه خاتم فيه اسم الله تعالى،
فقال: ما أحب ذلك، قال: فيكون اسم محمد (صلى الله عليه وآله) قال: لا بأس "
وأما ما في خبر وهب بن وهب (6) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كان نقش خاتم
رسول الله (صلى الله عليه وآله) العزة لله جميعا وكان في يساره يستنجي بها، وكان
نقش خاتم أمير المؤمنين (عليه السلام) الملك لله وكان في يده اليسرى يستنجي بها "

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5 - 1 - 4
(2) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5 - 1 - 4
(3) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5 - 1 - 4
(4) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3 - 6
(5) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3 - 6
(6) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 8 وفيه " أبي " بدل
(رسول الله صلى الله عليه وآله)
71

فالأولى حمله على التقية، مع أن راويه معروف بالكذب على آل الرسول، وقد يستفاد
من بعض ما تقدم من الأخبار كراهية إدخاله بيت الخلاء كما هو مقتضى بعض عبارات
الأصحاب، لكنه معارض بما يظهر من البعض الآخر (1) الدال على فعل النبي (صلى الله
عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ولعل الظاهر من خبر أبي أيوب إلحاق باقي
أسماء الله مختصها ومشتركها بعد القصد، وهو الظاهر من المقنعة والمبسوط والمهذب
والمراسم والقواعد والتحرير والتذكرة، ولا بأس به لمناسبة التعظيم، وفيها أيضا مع
غيرها من الذكرى والدروس والبيان وروض الجنان إلحاق أسماء الأنبياء والأئمة
(عليهم السلام) وفي جامع المقاصد زيادة اسم فاطمة (عليها السلام) وهو الظاهر من الوسيلة،
ولعل ما في خبر معاوية المتقدم من نفي البأس يراد به إدخاله الخلاء دون الاستنجاء كما قاله
الشيخ، أو يحمل على إرادة عدم قصد اسم النبي وإن وافقه في اللفظ، فإن الظاهر عادم
الكراهة فيه على إشكال، وقد يحمل عليه أيضا ما عن المقنع من نفي البأس كالخبر، ولضعف
ما تقدم من الروايات مع إعراض الأصحاب عنها عن ثبوت الحرمة كان القول بها وإن
ظهر من بعض المتقدمين ذلك مع احتماله إرادة الكراهة ضعيفا.
ثم إنه صرح بعض الأصحاب بتقييد الكراهة بما إذا لم يستلزم تلويثا في النجاسة،
وإلا فيحرم، بل قد يصل إلى حد الكفر مع قصد الإهانة والاستحقار وإن تأمل في
الحرمة بعض المتأخرين، لكنه في محله بالنسبة إلى لفظ الجلالة، وألحق في المبسوط
والمهذب والتحرير والقواعد والذكرى وغيرها بالمكروه السابق كراهة الاستنجاء باليسار
وفيها خاتم فصه من حجر زمزم ولعله للمضمر (2) قلت له: " ما تقول: في الفص
تتخذ من أحجار زمزم، قال: لا بأس به، لكن إذا أراد الاستنجاء نزعه " قيل وفي

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 3
(2) الوسائل - الباب - 36 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
72

بعض النسخ (الزمرد) بدل (زمزم) بل عن الكاشاني نسبته إلى كثير من النسخ ويؤيده
عدم تعارف الاتخاذ من ذلك. بل أورد عليه أن اخراج الحصى من المسجد غير جائز،
لكن فتوى الجماعة تؤيد الأولى، ويجاب عن الثاني بخروجه بالنص، أو بأن هذا الحكم
مبني علي الوقوع دون الجواز، أو بأن المراد ما يؤخذ من البئر بقصد الاصلاح، وهو
مما يجوز اخراجه كالقمامة. أو بأن زمزم ليست بداخلة في المسجد، أو بغير ذلك.
(و) يكره (الكلام) في حال التخلي غائطا أو بولا للمرسل (1) " إن من تكلم
على الخلاء لم تقض حاجته "، وقول الصادق (عليه السلام) (2) في خبر أبي بصير:
" لا تتكلم على الخلاء، فإن من تكلم على الخلاء لم تقض له حاجة " وقوله (ع) أيضا في
خبر عمر بن يزيد (3) بعد أن سأله عن التسبيح في المخرج وقراءة القرآن: " لم يرخص
في الكنيف في أكثر من آية الكرسي ويحمد الله وآية " ورواه في الفقيه بزيادة (أو آية
الحمد لله رب العالمين) وقول أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (4) في خبر صفوان:
" نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يجيب الرجل آخر وهو على الغائط، أو يكلمه
حتى يفرغ " ولا منافاة بينه وبين ما تقدم، إذ لا تخصيص فيه، ولعله لا خلاف في الحكم
بين الأصحاب، لتصريح كثير من القدماء والمتأخرين به سوى ما يظهر من الفقيه،
حيث قال: لا يجوز، ولعل مراده الكراهة، نعم يستثنى منه عندهم بعد فرض شمول
أدلة الكراهة له الكلام بذكر الله.
ولذا قال المصنف كغيره: (إلا بذكر الله) لما في الأخبار الكثيرة من التعليل بحسن
الذكر على كل حال، لكن قيده بعضهم فيما بينه وبين نفسه، ولعله للمرسل (5)

(1) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2
(3) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب أحكام الخلوة حديث 7
(4) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(5) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2
73

" كان الصادق (عليه السلام) إذا دخل الخلاء يقنع رأسه، ويقول في نفسه بسم الله
وبالله " إلى آخره.
(أو آية الكرسي) كما صرح به كثير من المتأخرين، لما سمعته من خبر عمر بن
يزيد، بل في خبر الحلبي (1) ما يدل على قراءة ما شاء من القرآن. لكن لم أعثر على
مفت به، بل صرح بعضهم بكراهة ما عداها، فقد يحمل الخبر على إرادة الجواز،
وفي الوسيلة تقييد قراءة آية الكرسي فيما بينه وبين نفسه، قال: لأنه يفوت شرف
فضلها، ولم نقف على شاهد له.
(أو حاجة يضر فوتها) لانتفاء الحرج، ومنه يعرف حسن التقييد بما إذا لم يمكن الإشارة والتصفيق
، وينبغي للمصنف استثناء الحمد بعد العطس، لما في خبر مسعدة
ابن صدقة (2) عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) قال: " كان أبي يقول إذا عطس أحدكم
وهو على خلاء فليحمد الله في نفسه " ولعله لدخوله تحت الذكر، ومنه يعرف انسحاب
استحباب التسميت كما صرح به بعضهم،
بل ينبغي استثناء حكاية الأذان أيضا كما هو المشهور،
للأمر به في عدة من الروايات (3) مضافا إلى العمومات الدالة على استحبابه (4) مع عدم
تبادره من الكلام المنهي عنه، ولعل المصنف تركه اعتمادا على كونه ذكرا كما يظهر من
تعليل بعضهم، إلا أنه لا يخلو من تأمل بالنسبة للحيعلات، اللهم إلا أن تبدل بالحولقة
كما تعرف إن شاء الله تعالى في استحباب حكايته،
ويكره زيادة على ما ذكره المصنف
تطميح الرجل ببوله من سطح أو مكان مرتفع لنهي النبي (صلى الله عليه وآله) (5)

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 8
(2) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 9
(3) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب أحكام الخلوة
(4) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الأذان والإقامة - حديث 1 و 3 و 4
(5) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
74

عن ذلك،
والبول قائما والتخلي على القبر أو بين القبور، لما رواه محمد بن مسلم عن أبي
جعفر (عليه السلام) (1) قال: " من تخلى على قبر أو بال قائما إلى أن قال: فأصابه شئ
من الشيطان لم يدعه إلا أن يشاء الله، وأسرع ما يكون الشيطان إلى الانسان وهو على
بعض هذه الحالات " وخبر إبراهيم بن عبد الحميد (2) عن أبي الحسن موسى (عليه السلام)
قال: " ثلاثة يتخوف منها الجنون - وعد منها - التغوط بين القبور "
وطول الجلوس على
الخلاء لأنه كما روي (3) يورث الناسور أو الباسور بالباء الموحدة،
واستصحاب الدرهم
الأبيض غير مصرور لما رواه غياث (4) عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) " أنه كره
أن يدخل الخلاء ومعه درهم أبيض إلا أن يكون مصرورا " وعن بعضهم تقييده بما إذا
كان عليه اسم الله، ولعله لمعروفية نقش ذلك في الزمان السابق. وإلا فالرواية مطلقة.
الفصل (الثالث في كيفية الوضوء)
(وفروضه خمسة) وفي النافع سبعة بإضافة الموالاة والترتيب، ولعل غرض
المصنف هنا بالفرض ما يستفاد من نص الكتاب، فلذا جعلها خمسة، بخلافه في النافع
لكن قال الشهيد في الذكرى: أنه يستفاد من نص الكتاب ثمانية، السبعة المذكورة مع
المباشرة بنفسه، وفيه ما لا يخفى، بل لا يخفى ما في الأول أيضا بالنسبة إلى الخمسة،
والأمر سهل.
(الأول النية، وهي) لغة وعرفا (إرادة) تؤثر في وقوع الفعل، وبها يكون
الفعل فعل مختار، والمراد ممن فسرها بالقصد على ما يظهر من ملاحظة كثير من
كلمات الأصحاب وبعض كلمات أهل اللغة، نعم ربما فسرت بالعزم في بعض عبارات

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2
(3) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب أحكام الخلوة
(4) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 7
75

الأصحاب والصحاح، بل يستفاد من إطلاق كثير من الأخبار (1) كما لا يخفى على من
لاحظ باب استحباب نية الخير والعزم عليه، وباب كراهية نية الشر من كتاب وسائل
الشيعة، والمراد بالعزم الإرادة المتقدمة على الفعل سواء حصل قبلها تردد أولا، فما
ينقل عن المتكلمين من الفرق بينه وبين النية بذلك غير واضح الوجه، كالفرق بين
النية ومطلق الإرادة بالمقارنة وعدمها، وحاصل ما نقل عنهم أن الإرادة إما أن تكون
مسبوقة بتردد أولا، فالأولى العزم، والثانية إما أن تكون مقارنة أولا، فالأولى
النية، والثانية إرادة بقول مطلق، وهو كما ترى. نعم لا يبعد دعوى اشتراك لفظ
النية بين الإرادة المتقدمة التي تسمى بالعزم، كما هو ظاهر ما عن الجوهري، ويؤيده
ملاحظة كثير من الاستعمالات، وبين الإرادة المقارنة المؤثرة في وقوع الفعل، مع احتمال
دعوى الحقيقة في الثانية خاصة.
وكيف كان لا نعرف لها معنى جديدا شرعيا، نعم ربما وقع في لسان بعض
المتشرعة إطلاقها على الإرادة مع القربة، بل هو مدار قولهم النية شرط في العبادات
دون المعاملات، ومنه اشتبه بعض متأخري المتأخرين، فادعى أن لها معنى جديدا،
وهو واضح الفساد كما لا يخفى على من لاحظ كلمات الأصحاب في معناها وإطلاقها
واستعمالاتهم وغير ذلك، فلا حاجة للإطالة، نعم لما لم يكتفوا بمطلق القصد في صحة
العبادة بل كان المعتبر قصدا خاصا على ما ستعرف جعلوا ذلك كله من متعلقات النية
ولذا تراهم بعد ذكرها يذكرون كيفيتها، فيشتبه على غير المتأمل أنه معناها عندهم،
وظهر لك مما تقدم من معنى النية أنها من الأفعال القلبية التي ليس للنطق فيها مدخلية كما
صرح بذلك جماعة من الأصحاب، منهم الشيخ في الخلاف والمصنف والعلامة والشهيدان
وغيرهم، ومن هنا اعترض على المصنف باستدراك قوله (تفعل بالقلب) بعد ذكره أنها
إرادة، وربما أجيب عنه أنه جئ به لاخراج إرادة الله عن مسمى النية، لمكان

(1) الوسائل - الباب - 6 و 7 - من أبواب مقدمة العبادات
76

كونها لا تفعل بالقلب، فيقال: أراد الله ولا يقال: نوى الله، بل في التنقيح لا يصدق
على إرادة الله تعالى أنها نية بالاجماع، قلت: ولعله لخصوص لفظ النية دون نحو نوى،
وإلا فقد قال العلامة في المنتهى: أنه يقال: نواك الله بخير أي قصدك، وفي الصحاح
نواك الله أي صحبك في سفرك وحفظك، قال الشاعر:
يا عمر وأحسن نواك الله بالرشد * واقرأ سلاما على الذلفاء بالثمد
وفي القاموس نوى الله فلانا حفظه، والأولى في الجواب أن يقال: إنه ذكره
المصنف للرد على بعض الشافعية حيث أوجبوا اللفظ، وهو مع أنه مجمع على بطلانه عندنا
كما في كشف اللثام لا دليل عليه، بل لا دليل على الاستحباب أيضا وإن ظهر من
بعض الأصحاب.
و
ما يقال من التعليل: بأن اللفظ أعون له على خلوص القصد، أو أنه زيادة مشقة
فيستتبع الثواب فيه ما لا يخفى، بل أقصى ما يفيده الأول الاستحباب العارضي لا الذاتي،
ونحن نقول به بحسب اختلاف الناوين، بل قد يصل إلى حد الوجوب كما إذا توقف
الاخلاص عليه، وقد يحرم إذا كان بالعكس، إلا أن الأحوط الترك مع الاختيار
فرارا من التشريع، وحيث كان المراد بالنية ما عرفت كان الدليل على وجوبها - بعد توقف
صدق الامتثال والإطاعة والتعبد وما دل من الكتاب والسنة على الاخلاص في العبادة
المتوقف عليها، إذ المراد به إتيان الفعل بقصد كونه امتثالا لأمر الله خاصة - الاجماع
المنقول على لسان جماعة كالشيخ وابن زهرة والعلامة، بل هو محصل، وما عساه يظهر
من المنقول عن ابن الجنيد من الاستحباب فهو - مع عدم صراحة عبارته ومعارضته بنقل
المصنف عنه في المعتبر خلافه - ضعيف جدا، فلا يقدح، وقول علي بن الحسين
(عليهما السلام) (1) في حسنة أبي حمزة " لا عمل إلا بنية " ونحوه روي (2) عن النبي

(1) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 1 - 2
(2) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 1 - 2
77

(صلى الله عليه وآله) وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1): " إنما الأعمال بالنيات
ولكل امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن
غزا يريد به عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلا ما نوى " وقوله أيضا (2) في خبر
أبي عثمان العبدي عن جعفر عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: " قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): لا قول إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول ولا عمل
ولا نية إلا بإصابة السنة " وفي الوسائل أنه رواه الشيخ مرسلا عن الرضا، وغير ذلك.
وما وقع من بعض متأخري المتأخرين - من المناقشة في الاستدلال بهذه الأخبار
لاحتمال توجه الحصر فيها إلى الكمال دون الصحة، وترجيح الثانية على الأولى لكونه
أقرب المجازات إلى الحقيقة معارض بأنه فيه تخصيصا للأعمال بالعبادات خاصة - ضعيف
جدا، لما فيه من المخالفة لفهم العلماء الماهرين، ولغلبة استعمال مثل هذا التركيب في نفي
الصحة كما هو واضح، وخروج غير العبادات منه غير قادح، بل هو أولى من غيره
لشيوع التخصيص، لا يقال: إن بعض هذه الأخبار لا تنطبق على ما ذكرت من معنى
النية، مثل " إنما الأعمال بالنيات " ونحوه، لأنا نقول: مع أنا نجوز إطلاقها على غير
ما تقدم مجازا أنه قد يشتبه المراد من متعلق النية إما باضمار أو نحوه، وفي إطلاق نفس
النية كما في قوله: " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى " إلى آخره. بل التأمل
الصادق في مثل قوله (إنما الأعمال) ونحوه يقضي بأنه أدل على المطلوب منه على غيره
لما فيه من إطلاق النية على غير ما نحن فيه، فتأمل جيدا.
وإذ قد ظهر لك المراد من النية علمت أن الأمر فيها في غاية السهولة، إذ
لا ينفك فعل العاقل المختار حال عدم السهو والنسيان عن قصد للفعل وإرادة له، ومن
هنا قال بعضهم: إنه لو كلفنا الله الفعل بغير نية لكان تكليفا بالمحال، وهو حسن بناء
على ما ذكرنا من معنى النية، بل لعله لذا أغفل المتقدمون ذكرها وبيان شرطيتها،

(1) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 1 - 2
(2) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 1 - 2
78

لكن لما كان لا يكفي في صحة العبادة وجود النية بالمعنى المتقدم، بل لا بد من ملاحظة
القربة منها وحصول الاخلاص، وهو في غاية الصعوبة، بل هو الجهاد الأكبر للنفس
الأمارة بالسوء، كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار (1) الواردة في الرياء والحذر عنه،
وأنه أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة، وكانت القربة في حال الاخلاص
من متعلقات النية، إذ يجب عليه قصد الفعل امتثالا لله خاصة صعب أمر النية من هذه
الجهة، وصح اشتراطها في العبادات دون المعاملات، وبحث عنها المتأخرون. بل لعل
المتقدمين بذكرهم في أوائل كتبهم اشتراط الاخلاص في العبادة والتحذير من الرياء
ونحوه اكتفوا عن ذكر النية بمعنى القصد، لعدم إمكان حصول الاخلاص بدونه، وبما
ذكرنا ظهر لك مراد من جعل أمر النية في غاية السهولة، وكذا من جعلها في غاية
الصعوبة، لاختلاف الحيثيتين، إلا أنه ربما ظهر من بعض عبارات بعض الأصحاب
صعوبة أخرى للنية من غير تلك الحيثية، وذلك لأنه جعلها عبارة عن هذا الحديث
النفسي والتصور الفكري، فلا يكتفى بدون الاخطار بالبال للقصد مع ما يعتبر معه من
القربة والوجه وغيرهما مقارنا لأول العمل، فبسببه يحصل بعض أحوال لهم تشبه أحوال
المجانين، وليت شعري أليست النية في الوضوء والصلاة وغيرهما من العبادات كغيرها
من سائر أفعال المكلفين من قيامهم وقعودهم وأكلهم وشربهم، فإن كل عاقل غير غافل
ولا ذاهل لا يصدر عنه فعل من هذا الأفعال إلا مع قصد ونية سابقة عليه ناشئة من تصور
ما يترتب عليه من الأغراض الباعثة والأسباب الحاملة على ذلك الفعل، بل هو أمر
طبيعي وخلق جبلي، ومع هذا لا ترى المكلف في حال إرادة فعل من هذه الأفعال
يعتريه شئ من تلك الوسوسة وذلك الاشكال، بل هو بالنسبة إلى العبادات الأخر
من الزيارات والصدقات وعيادة المرضى وقضاء الحوائج والأدعية والأذكار وقراءة
القرآن ونحو ذلك لا يعتريه شئ من تلك الأحوال، بل هو فيها على حسب سائر

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب مقدمة العبادات
79

أفعال العقلاء، فما أعرف ماذا يعتريه في مثل الوضوء.
ومن هنا كان التحقيق أن النية عبارة عن الداعي الذي يحصل للنفس بسببه انبعاث
وميل إلى الفعل، فإن المكلف إذا دخل عليه وقت الظهر مثلا وهو عالم بوجوب ذلك
الفرض سابقا وعالم بكيفيته وكميته وكان الغرض الحامل على الاتيان به إنما هو الامتثال
لأمر الله ثم قام من مكانه وسارع ثم توجه إلى المسجد ووقف في مصلاه مستقبل القبلة
فأذن وأقام ثم كبر واستمر في صلاته فإن صلاته صحيحة شرعية مشتملة على النية والقربة،
فظهر بذلك أنه لا تنحصر النية في الصورة المخطرة بالبال. لا يقال: إن الأخطار
أشد في حصول الاخلاص، لأنا نقول: إنه ينبغي القطع في عدم مدخلية ذلك فيه،
ألا ترى أنه إذا غلب على قلب المدرس أو المصلي حب الشهرة والسمعة وميل القلوب
إليه لكونه صاحب فضيلة أو ملازم عبادة وكان ذلك هو الحامل له على تدريسه وعبادته
فإنه لا يتمكن من نية القربة والاخلاص فيها وإن قال بلسانه وتصور بجنانه أصلي أو أدرس
قربة إلى الله كما هو واضح، وحاصل الفرق بين القول بالأخطار والداعي إما بأن يقال:
إن الأول يؤول إلى إيجاب العلم بالحضور وقت الفعل بخلاف الثاني، فإنه يكتفى بالحضور
من دون علم والتفات للذهن، وما عساه يظهر من بعضهم - من أنه بناء على الداعي يكتفى
بوجوده وإن غاب عن الذهن حال الفعل، ولذا لم يفرقوا بين الابتداء والاستدامة -
مما لا ينبغي الالتفات إليه ويقطع بفساده، وكيف يعد مثل هذا الفعل في العرف بمجرد
هذا العزم السابق منويا ومقصودا أو يقال في الفرق بينهما: إن المراد بالداعي إنما هو
العلة الغائية للفعل الباعثة للمكلف على إيجاده في الخارج، وهو ليس من النية في شئ،
بناء على ما ذكرنا أنها مجرد القصد والإرادة، وإطلاق لفظ النية عليه في لسان بعضهم
إنما هو بحسب الاصطلاح المتأخر، فنقول حينئذ يكتفى بقيام الداعي في المكلف لكن
لا بد من حصول الإرادة للفعل حين التعقل وإن غفل عن الداعي له في ذلك الوقت لكن
80

بحيث لو سئل لقال أريد الفعل لذلك، وبهذا تظهر الثمرة بينه وبين القول بالأخطار،
فتأمل جيدا. ولعل الأولى أن يجعل المدار بناء على الداعي على ما لا يعد في العرف أنه
فعل ساه خال عن القصد ليكتفي بذلك، ويأتي إن شاء الله تعالى في الاستدامة للبحث تتمة.
(وكيفيتها أن ينوي الوجوب) في الواجب (أو الندب) في المندوب كما هو
خيرة المنتهى والإرشاد والتحرير والشهيد في اللمعة والألفية، وهو المنقول عن الغنية
والمهذب والكافي، وربما نقل عن الراوندي وابن حمزة ونسب إلى الأكثر في بعض
حواشي الألفية، وفي آخر أنه المفتى به، وعن كتب أهل الكلام من مذهب العدلية
أنه يشترط في استحقاق الثواب على واجب أن يوقعه لوجوبه أو وجه وجوبه، ولعله
لذا قال في القواعد: " إنه يجب أن يوقعه لوجوبه، أو وجه وجوبه على رأي " كما هو
ظاهر اختيار السرائر والتذكرة وجامع المقاصد، وفسر الوجه بأنه اللطف عند أكثر
العدلية، وأنه ترك المفسدة اللازمة من الترك عند بعض المعتزلة، والشكر عند الكعبي،
ومجرد الأمر عند الأشعرية، وعن الروضة دعوى الشهرة على وجوب نية الوجوب
في الصلاة، بل في ظاهر التذكرة الاجماع عليه هناك، ولعله يفرق بين الصلاة وبين
ما نحن فيه كما ستسمعه إن شاء الله تعالى، ومن هنا نقل عن بعضهم أنه أنكر الوجوب
هنا وقال به في الصلاة.
وكيف كان فقد اختار المصنف في المعتبر في المقام عدم الوجوب، وإليه ذهب
كثير من متأخري المتأخرين وجملة مشائخنا المعاصرين، وهو المنقول عن المفيد في المقنعة
والشيخ في النهاية، بل نقله الشهيد في نكت الإرشاد عن المرتضى وظاهر الشيخ في
الاقتصاد وعن المصنف في الطبرية، بل ربما كان ظاهر سلار والجعفي، لاطلاقهم النية
على ما قيل كظاهر النافع، بل قد يكون ظاهر الشيخ في المبسوط أيضا، لأنه ذكر وجوب
نية رفع الحدث أو استباحة مشروط بالطهارة ولم يتعرض للوجوب والندب، بل قد
يكون ظاهر المتقدمين لتركهم التعرض للنية أصلا، ولعله الأقوى في النظر،
81

لكن ليعلم أن من تعرض لوجوب نية الوجوب (منهم) من أطلق نية وجوبه، و (منهم)
من يظهر منه وجوب ملاحظته علة وغاية، فلا يكتفي به لو لاحظه قيدا، ولعله لظاهر
المنقول عن كتب المتكلمين، وعن الوسيلة " وجوب ملاحظته وصفا لا غاية ".
وعلى كل حال فأقصى ما يمكن أن يستدل به لهم أن الامتثال بالمأمور به لا يتحقق
إلا بالاتيان به على وجهه المطلوب، وهذا لا يحصل إلا بالاتيان بالواجب واجبا والندب
ندبا، وبأن الوضوء يقع تارة على وجه الوجوب وأخرى على الندب، ولما كان الفعل
قابلا لأن يقع لكل منهما كان تخصيصه بأحدهما محتاجا إلى نية، لأن قصد جنس الفعل
لا يستلزم وجوهه، فكل فعل كان قابلا لأن يقع على وجوه متعددة افتقر اختصاصه
بأحدها إلى النية، وإلا فبدون ذلك لا يعد ممتثلا لأحدها، فمن أوقع مثلا ركعتين
ولم ينو أنهما صبح أو نافلة لم يمتثل أحد الأمرين، إذ قصد التعيين لا إشكال في شرطيته
وأنه لا يتحقق الامتثال بدونه، وربما أيد أيضا بأن شغل الذمة اليقيني محتاج إلى الفراغ
اليقيني ولا يقين إلا بنية الوجه، إذ ليس في الروايات ولا في غيرها ما يدل على حصول
البراءة بدونه، بل قد يشعر قوله (صلى الله عليه وآله) " وإنما لكل امرئ ما نوى "
بوجوبه، على أنه قد استفاض عنهم (عليهم السلام) " أنه لا عمل إلا بنية " ولم يعلم
كيفيتها وهي وإن كانت شرطا للعبادة ولكن الشك في الشرط يقتضي الشك في المشروط،
وأيضا فالشك واقع في جزء النية فيجري عليها ما يجري عند الشك في جزء العبادة، لكونها
لمعنى جديد إما حقيقة أو مجازا وهو غير معلوم.
ولا يخفى عليك ما في الجميع (أما الأول) فلأنه إن أريد بوجوب إيقاع الفعل
على وجهه إيقاعه على الوجه المأمور به شرعا فمسلم، لكن كون النية المذكورة مما تعتبر
شرعا أول البحث، وإن أريد به إيقاعه مع قصد وجهه الذي هو الوجوب أو الندب
فهو ممنوع، وهل هو إلا مصادرة، وإن أريد به الإشارة إلى وجوب الاحتياط في
العبادة فهو راجع إلى التأييد الأخير وستسمع ما فيه. (وأما الثاني) - فمع كونه خروجا
82

عن النزاع أولا، لكون الكلام في وجوب نية الوجه لنفسه لا لكونه مقدمة للتعيين،
فإن التعيين قد يحصل بغير ذلك من القصد إلى ذات وضوء مخصوص ونحوه، وعدم
اقتضائه الوجوب الغائي ثانيا - فيه ما قاله الشهيد في الروضة: " أنه لا اشتراك في الوضوء
حتى في الوجوب والندب، لأنه في وقت العبادة الواجبة المشروطة به لا يكون إلا واجبا،
وبدونه ينتفي " لكن قد يقال عليه: إن التعدد قد يكون بزعم المكلف لجهل أو غيره،
بل أن أراد بقوله لأنه في وقت إلى آخره أنه لا يصح أن يقع وضوء مستحب لغاية مستحبة
فهو ممنوع وإن كان فيه خلاف، إلا أن الأقوى صحته، ولا منافاة بين وجوبه لغاية
واستحبابه لأخرى في وقت واحد، وإن أراد أن وضوء تلك العبادة لا يكون حينئذ
إلا واجبا فهو مسلم، لكن الأول كاف في حصول الابهام المحتاج إلى التعيين، فالذي
ينبغي أن يقال في المقام: إنه لا إشكال في وجوب التعيين حيث يكون المكلف به متعددا
نحو صلاة الصبح والنافلة، فإن الامتثال يتوقف عليه، ولأن صرف الفعل إلى واحد
دون آخر ترجيح بدون مرجح، والجنس لا يقوم بدون الفصل، إذ الفرض أن الأمر
وقع بخاص، لكن هذا إذا كان المكلف به متعددا كل منهما غير الآخر إلا أنهما متفقان
بالصورة، أما في مثل المقام فلا تعدد في المكلف به، إذ هو رفع حدث واحد
وكونه مطلوبا على جهة الاستحباب لغاية وعلى جهة الوجوب لأخرى لا يقتضي تعدده،
وإلا لاقتضى وجوب ملاحظة خصوصيات الغايات مع أنه لا قائل به، واستحباب
التجديدي إنما هو ترتيبي فلا اجتماع حينئذ، فلا يجب التعيين.
وأما ما يقال: إن التعدد قد يكون بزعم المكلف ففيه ما قد عرفت من أنه اشتراك
لا يضر، فلو زعم المكلف جهلا منه مثلا أن وضوء الفريضة يكون على جهة الوجوب
ويكون على جهة الندب وأوقعه بقصد الثاني أو لم يعينه مع قصده القربة فإن الظاهر أن
وضوءه صحيح، لا يقال: إن قوله (صلى الله عليه وآله): " لكل امرئ ما نوى " ينافي
ذلك، لأنا نقول: الظاهر أن المراد منه معنى آخر من الاخلاص وكون الفعل لله أو
83

لغيره، أو إذا كان المكلف به متعددا فتأمل ولاحظ.
نعم لو زعم المكلف جهلا منه أن ذمته مشغولة بوضوءين أحدهما وجوبي والآخر
استحبابي وأوقعه مع ذلك غير معين لأحدهما أو أوقعه بقصد فعل الاستحبابي يمكن القول
بالفساد، لحصول الابهام المحتاج إلى التعيين، وهو مفقود في الأولى، وفاسد في
الثانية، مع أنه لا يخلو أيضا من إشكال وتأمل إلا إذا لم يكن قاصدا للامتثال، وإلا
فحيث يتحقق لا يبعد أن يقال: بالصحة فيهما معا وإن لم يعين في الأولى، لحصول
التعيين في الواقع وإن أخطأ في الثانية،: فتأمل جيدا. وأما الكلام في التأييد السابق
ففيه أولا أن لفظ الوضوء ليس من المجملات حتى تجري فيه القاعدة المذكورة كما سيظهر
لك من الأخبار البيانية (1) وما يقال -: إنه وإن لم يكن لفظ الوضوء منها لكن لفظ النية
لاستعماله في معنى جديد غير معلوم لنا - يدفعه ظهور أن ليس للفظ النية معنى غير المعنى
اللغوي، على أنه إن سلمنا أن لها أو للوضوء معنى جديدا مجملا أمكن دعوى القطع
أو الظن المعتبر بعدم دخول نية الوجوب أو الندب فيها أو فيه، لخلو الكتاب والسنة
وكتب المتقدمين عن الإشارة إليها مع عمومية البلوى بها واحتياج الناس إلى ذلك في
اليوم الواحد مرات متعددة، لكثرة العبادات من الواجبات والمستحبات المتكررة في
كل يوم بالنسبة إلى أكثر الأشخاص فلو كان قصد الوجوب أو الندب معتبرا لأكثر
الشارع من الأمر بالتعليم والتعلم، ولشاع في الأعصار والأمصار، واشتهر اشتهار
الشمس في رابعة النهار، ولخطبت بها الخطباء على رؤوس المنابر ونادت بها الوعاظ، مع
أنه لم يصل إلينا في ذلك خبر ولا أثر، بل الأخبار (2) الواردة في كيفية التعلم خالية
عن الإشارة إلى شئ من ذلك، ومثله الكتاب العزيز مع بيانه حقيقة الوضوء بقوله
تعالى (3): " إذا قمتم إلى الصلاة " إلى آخره، وما يقال: - إن الآية قد ترك بيان أكثر

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء
(3) سورة المائدة - الآية 8
84

شرائط الوضوء من إباحة الماء والمكان ونحوهما، فلعل النية من ذلك القبيل، على أن
اعتبارها ليس في الوضوء وحده لتذكر فيه، بل هي في سائر العبادات - فيه مع أنه
غير تام على القول بأنها شطر لا شرط أنه لا إشكال في دخولها في الكيفية وإن قلنا أنها
شرط، وليس حالها كحال غصبية الماء والمكان ونحوهما كما لا يخفى، وكونها جارية
في سائر العبادات لا يقتضي تركها عند بيان كيفية العبادة.
ثم إنه على تقدير ذلك كان ينبغي ذكرها وبيانها في آية أو رواية مستقلة مع أنه
لا شئ من ذلك، بل قد يظهر من بعض الروايات خلافه، فإنهم (عليهم السلام)
لا زالوا يأمرون بالمستحبات بلفظ (افعل) الظاهر في الوجوب، بل يشركون بين
الواجب والمستحب بلفظ واحد، وفي بالي أن في بعض الأخبار (1) أنه سأل أحد
الأئمة (عليهم السلام) " عن شئ فأمره به، ثم جاءه في السنة الثانية فسأله عنه ثم أمره
به ثم جاءه في السنة الثالثة فسأله عنه فأذن له في تركه " فهناك فهم أنه مستحب، بل مما
يؤيد ما ذكرنا أنه لا ريب في أن طاعتنا لله تعالى على نحو طاعة العبيد لساداتهم، ومن المقطوع به
أن أهل العرف لا يعدون العبد الآتي بالفعل الخالي عن نية الوجوب أو وجه الوجوب
عاصيا، بل يعدونه مطيعا ممتثلا ممدوحا على فعله، والحاصل صفة الوجوب والندب من
الصفات الخارجة عن تقويم الماهية، بل هما من المقارنات الاتفاقية ومثلهما القضائية والأدائية
والقصرية والتمامية والزمانية والمكانية ونحو ذلك، على أنه كيف يتم وجوب نية الوجه
وعدم استحقاق الثواب إلا بها كالامتثال مع أنه في كثير من المقامات لا يعرف الفعل
أنه واجب أو مندوب لاشتباه موضوع أو اشتباه حكم، مع أن القول بالسقوط هنا مما
لم يرتكبه ذو مسكة، كالقول بتحقق الامتثال حينئذ، وقصدهما على سبيل الترديد
غير مفيد، فلا ينبغي الاشكال حينئذ في عدم وجوب نية الوجوب والندب أو وجههما
لا قيدا ولا غاية، نعم نقول: بوجوب ذلك حيث يتوقف عليه التعيين، لعدم حصول

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 9
85

الامتثال حينئذ إلا به، بل لعل مراد من اشترط ذلك ذلك كما يقضي به بعض أدلتهم،
لكنك قد عرفت أنه لا اشتراك في الوضوء يوجب ذلك، لا يقال: إن جميع ما ذكرت
أقصى ما يفيد الظن بعدم الوجوب لكنه ليس ظنا منشؤه آية أو رواية، بل هو من أمور
خارجة عن الأدلة الأربعة، مع عدم القول بأن كل ظن حصل للمجتهد حجة، لأنا نقول: -
بعد إمكان منع ذلك لرجوع بعض ما ذكرنا إلى الأدلة المعتبرة - إنا نمنع عدم حجية كل
ظن حصل للمجتهد بالنسبة إلى موضوع العبادة وإن منعناه في أصل الحكم، لمكان
كونها من الموضوعات التي يكتفى فيها بالظن، فتأمل جيدا.
بقي شئ وهو أن اللازم مما ذكرنا عدم وجوب نيتهما، أما لو نوى كلا
منهما في مقام الآخر جهلا أو غفلة لا تشريعا فربما ظهر من بعضهم بطلان الوضوء
حينئذ، واحتمل تنزيل كلام المعتبرين لاشتراط نية الوجه عليه، وللنظر فيه مجال،
إذ قد يقال: إنه بعد تحقق قصد الامتثال بالعبادة وتشخصها والفرض أنها مطلوبة
للشارع مرادة، فنية أنها واجبة وهي مستحبة أو بالعكس لا يؤثر في ذلك فسادا، ومثل
ذلك جميع الصفات الخارجية التي هي من المقارنات الاتفاقية بعد تشخيص أصل المكلف به
كما هو واضح لمن تأمل، نعم قد يقال: بحصول الاشكال فيما لو جهل جعل صفة
الوجوب أو الاستحباب مشخصة لما زعم تعدده جهلا مثلا كما تقدمت الإشارة إليه سابقا،
والله أعلم
(و) من الكيفية أن ينوي (القربة) بلا خلاف أجده فيها، بل في المدارك أنه
موضع وفاق، وكأن عدم ذكر البعض لها لعدم تعرضه لأصل النية لا يشعر بالخلاف،
بل إما لاكتفائهم باشتراط الاخلاص في العبادة المستلزم لها أو غير ذلك، وكان خلاف
المرتضى (ره) الآتي إن شاء الله في صحة العبادات الريائية وإن كان لا ثواب عليها ليس
نزاعا في اشتراط التقرب، لأنه على ما يظهر من نقل بعضهم له أن نزاعه في ضميمة الرياء،
والظاهر أن المراد من القربة العلة الغائية بمعنى أنه يقصد وقوع الفعل تحصيلا للقرب إلى
86

الله تعالى الذي هو ضد البعد المتحقق بحصول الرفعة عنده استعارة من القرب المكاني،
لكن فيه من الاشكال ما لا يخفى، لأن دعوى وجوب نية القرب بهذا المعنى مما لا يمكن
إقامة الدليل عليها من كتاب أو سنة، بل هي إلى البطلان أقرب منها إلى الصحة، لما
نقل عن المشهور بل في القواعد للشهيد نسبته إلى قطع الأصحاب، بل نقل أنه ادعى
عليه الاجماع أنه متى قصد بالعبادة تحصيل الثواب أو دفع العقاب كانت عبادته باطلة،
لمنافاته لحقيقة العبودية، بل هي من قبيل المعاوضات التي لا تناسب مرتبة السيد سيما
مثل هذا السيد، ولا ريب أن القرب بالمعنى المتقدم نوع من الثواب، فيجري فيه
ما يجري فيه، نعم اختار بعض متأخري المتأخرين في مثل تلك العبادة الصحة، عملا
بظواهر الآيات والروايات، كقوله تعالى (1): " يدعون ربهم خوفا وطمعا " و " يدعوننا
رغبا ورهبا " (2) وقد روي عنهم (عليهم السلام) (3) " إن من بلغه ثواب على عمل
ففعله التماس ذلك الثواب أويته وإن لم يكن كما بلغه " وما ورد (4) من تقسيم العباد إلى
ثلاثة، منهم عبادة العبيد، وهي أن يعبد الله خوفا، ومنهم عبادة الأجراء، وهم
من عبده رجاء الثواب، إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، والأقوى خلافه،
وجميع ما ذكر محمول على إرادة إيقاع الفعل بقصد الامتثال، وموافقة الإرادة والطاعة،
وجعل ذلك وسيلة إلى تحصيل ذلك الثواب كما هي سيرة سائر العبيد مع ساداتهم، إنما
الممنوع عندنا القصد بالفعل لتحصيل الثواب، ومما يؤيده أنه إن أريد القربة بالمعنى
الأول كان لا ينبغي الاجتزاء بعبادة قاصد الإطاعة والامتثال مقتصرا عليهما لفقد الشرط
وهو مما لا يلتزم به فقيه، أو يراد بوجوبها الوجوب المخير بينها وبين غيرها، وهو
خلاف الظاهر منهم.

(1) سورة السجدة - الآية 16
(2) سورة الأنبياء - الآية 90
(3) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب مقدمة العبادات
(4) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب مقدمة العبادات
87

إذا عرفت ذلك فالمتجه حينئذ تفسير القربة بما يظهر من بعضهم من موافقة الإرادة
وقصد الطاعة والامتثال، فإنه حينئذ يدل عليه جميع ما دل على وجوب الاخلاص كتابا
وسنة، كقوله تعالى (1): " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " مضافا إلى
توقف تحقق قصد الطاعة والامتثال المأمور بهما في الكتاب والسنة عليها، لا يقال:
أن القول باشتراط القربة بالمعنى المتقدم قد يكون منشؤه الاجماع على وجوبها مع ظهورها
في ذلك، وبه تمتاز عن نية غيرها من قصد جلب الثواب أو دفع العقاب، بل مما يرشد
إليه ما نقل عن ابن طاووس في البشرى أنه قال: " لم أعرف نقلا متواترا ولا آحادا
يقتضي القصد إلى رفع الحدث أو استباحة الصلاة، لكنا علمنا يقينا أنه لا بد من نية
القربة، ولولا ذلك لكان هذا من باب " اسكتوا عما سكت الله عنه " (2) انتهى. فإن
قوله ولولا ذلك إلى آخره ظاهر في إرادة القربة بالمعنى الأول، وإلا ففي المعنى الثاني
لا يكون من باب " اسكتوا عما سكت الله عنه " لأنا نقول أما دعوى الاجماع على اشتراط
نية القربة بالمعنى المتقدم إن لم يكن ممنوعا فهو محل الشك، وما ذكره من كلام ابن طاووس
لا دلالة فيه على ذلك، لأنه قد يكون المقصود منه المعنى الثاني، ولولا ما ذكرنا من
الأدلة عليه من توقف الإطاعة والامتثال وأدلة الاخلاص التي أفادتنا اليقين بذلك لكان
من باب " اسكتوا عما سكت الله عنه " وهو كذلك، واحتمال القول أنه لا فرق معنوي
بين المعنى الأول للقربة والثاني فيه ما لا يخفى، نعم قد يظهر من ابن زهرة في الغنية
إيجاب معنيي القربة، متمسكا للأول منهما بنحو قوله تعالى (3) " اسجد واقترب "

(1) سورة البينة: الآية 4
(2) تفسير الصافي - سورة المائدة الآية - 101 - والبحار الباب - 33 - من أبواب
كتاب العلم - حديث 5
(3) سورة العلق - الآية 19
88

وقوله تعالى (1): " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم
تفلحون " فإن المعنى افعلوا ذلك على رجاء الفلاح، وقوله تعالى (2): " ويتخذ ما ينفق
قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم " وفيه ما لا يخفى، بل الاجماع على
خلافه، إذ هو مؤد إلى فساد عبادة الأولياء الذين لا يخطر ببالهم ذلك، فتأمل.
(وهل يجب) مع نية الوجوب أو الندب أو مع نية القربة (نية رفع الحدث)
عينا، أو مخيرا بينه وبين الاستباحة (أو) نية (استباحة شئ مما يشترط فيه الطهارة)
كذلك أي عينا أو تخييرا، أو يجبان معا، أو لا يجب شئ منهما؟ أقوال (الأظهر)
منها (أنه لا يجب) شئ من ذلك، للأصل وخلو الأدلة عن التعرض بشئ منها كتابا
وسنة مع عموم البلوى بالوضوء، ولما تسمعه من ضعف أدلة الموجبين، بل يظهر لك
من ذلك ما يفيد المطلوب قوة، ويحتج للأول وهو وجوب نية رفع الحدث كما يقضي
به الاقتصار عليه في عمل يوم وليلة على ما نقل عنه بأنه إنما شرع لذلك، فإن لم يقصد
لم يقصد الوضوء على الوجه المأمور به الذي شرع له، ولاشتراك الوضوء بينه وبين غير
الرافع، فوجب تمييزه بذلك، وبأنه إن لم ينو لم يقع، لما دل (3) على أن " لكل
امرئ ما نوى وإنما الأعمال بالنيات " ولبعض ما تقدم في نية الوجه.
وضعف الجميع واضح، لأن كون الوضوء مشروعا لذلك لا يقضي بوجوب
نيته وقصده، بل لو كان جاهلا بما شرع له لم يؤثر في وضوئه فسادا فلو فرض شخص
لم يعرف تسبيب الأحداث لهذه الأفعال ومانعيتها للصلاة بدون فعل الوضوء لكن علم
أن هذه الأفعال مطلوبة للشارع فجاء بها بعنوان الإطاعة إما على وجه الوجوب أو الندب
كان وضوؤه صحيحا وارتفعت مانعيتها، لما يظهر من الأدلة أنها سبب رافع له، ومن

(1) سورة الحج - الآية 76
(2) سورة التوبة - الآية - 100
(3) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 10
89

المعلوم أن السبب لشئ غير موقوف تأثيره على العلم بسببيته، إذ الأسباب الشرعية
كالأسباب العقلية لا تتوقف على ذلك، فمن ادعى أن قصد ذلك من تمام السببية شرعا
كان عليه الدليل، بل هو خلاف ظاهر الأدلة من الكتاب والسنة، لاشتمالها على
الوضوءات البيانية وغيرها من قوله (عليه السلام) (1): " لا ينقض الوضوء إلا حدث " و " من
توضأ وضوئي هذا " (2) ونحو ذلك، فتأمل.
وأما اشتراك الوضوء بينه وبين غير الرافع ففيه أنه ليس اشتراكا موجبا لتعدد
الفعل في وقت واحد حتى يوجب التمييز، بل الرافعية وعدمها إنما هي أوصاف لاحقة
له في الخارج مستفادة من الشارع لا دخل لترتبها بالنية، ضرورة أنه بمنزلة أن يقول
هذه الأفعال إن صادفت موضوعا ليس متلبسا إلا بالحدث الأصغر رفعته، وإلا فلا ترفع،
فهو أي الرفع وعدمه حكم من الشارع خارجي قد يعلمه المكلف، وقد يجهل به، وفي
الحالتين يؤثر الوضوء أثره، بل يمكن أن يقال فيما لو فرض مكلف زعم نفسه جنبا مثلا
فتوضأ مع ذلك وضوء الجنب ثم بان له أنه ليس جنبا: بارتفاع حدثه وصحة وضوئه كما لو
كان العكس يكون صوريا، لما عرفت من أن تسبيب ذلك ليس دائرا مدار القصد،
وقصد التعيين ليس منحصرا في قصد رفع الحدث، بل تكفي نية الاستباحة عنه
لتلازمهما كما ستسمعه في كلام أهل القول بالتخيير.
وأما القول بأنه إن لم ينو لم يقع ففيه أنه مصادرة، بل الرواية ظاهرة في أن
من قصد شيئا وقع له، فمن قصد الوضوئية تقع له، ومتى وقعت له ارتفع الحدث،
لعدم اجتماعهما في موضوع لم يكن متلبسا إلا بالحدث الأصغر الغير الدائم، مع احتماله
فيه في وجه أيضا، ولمكان التلازم في الخارج بين رفع الحدث واستباحة المشروط بالطهارة
خير بعضهم بينهما، وهو المذهب الثاني، وهو مختار الشيخ في المبسوط، وتبعه عليه

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4
(2) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الوضوء - حديث 1
90

بعض من تأخر عنه كالمصنف (رحمه الله) في المعتبر والعلامة في جملة من كتبه وغيرهم،
بل في السرائر إجماعنا منعقد على أنه لا تستباح الصلاة إلا بنية رفع الحدث أو نية استباحته
بالطهارة، لكنه صرح الشيخ وابن إدريس بعدم الاكتفاء بنية ما كانت الطهارة مؤثرة
في كماله، وحكم بعدم صحة الوضوء حينئذ، واختار بعض من وافقه في الأول خلافه
في الثاني، لأنه لا فرق بين ما كانت الطهارة شرطا في صحته وبين ما كانت شرطا في كماله
في لزومهما لقصد رفع الحدث، واحتمال الغفلة عن ذلك في الثاني جار في الأول أيضا،
ولعله الأقوى بناء عليه، نعم لا يخفى عليك ما فيه، لما تقدم سابقا، بل قد يقال:
أن تلازمهما في الواقع لا يقضي به في قصد المكلف، والمقصود الثاني، فإنه قد يعرف
المكلف اشتراط صحة الصلاة بهذه الأفعال ولا يعرف أنها رافعة لحكم الحدث من المنع
للصلاة، إذ قد يجهل مانعيته، فدعوى أن قصد الاستباحة يلزمه قصد الرفع ممنوعة،
بل قد يمنع التلازم في الواقع أيضا بحصول الاستباحة ولا رفع كوضوء المسلوس والمبطون
والمستحاضة ونحوها، فلا يكتفى بنيتها عنه، والقول بأنه لا فرق معنى بين الاستباحة
ورفع الحدث، إذ الحدث عبارة عن الحالة المترتب عليها منع الصلاة، فمتى حصلت
الاستباحة ارتفعت فيه أن مرجعه إلى نزاع لفظي يأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى،
بل قد يقال: بانفكاك الرافع عن المبيح بوضوء الحائض، لرفع حدثها الأكبر مع
الغسل ولا إباحة فيه، وكذا القول بالاكتفاء ليس لمكان التلازم، بل لظهور قوله
تعالى (1): " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " في إرادة اغسلوا وجوهكم لها
نحو قولك: إذا لقيت العدو فخذ سلاحك أي للقائه، والأمر يقتضي الاجزاء، إذ فيه
أنه حينئذ لا معنى للاكتفاء بنية رفع الحدث كما زعمتم، وحمل الأمر على الوجوب التخييري
مجاز بلا قرينة، بل لا معنى للتعدي إلى غير الصلاة مما شرط صحته بالطهارة، وأولى
منه عدم التعدي لما شرط كماله بها، ومما سمعت من الآية يظهر لك وجه من اقتصر على

(1) سورة المائدة - الآية 8
91

نية الاستباحة، كما لعله يظهر من الشيخ في الخلاف والمنقول عن المرتضى والشيخ في
الاقتصاد، لاقتصارهما على ذكرها، لكن فيه - مضافا إلى ما سمعت من أن الاستباحة
والرفع أمران مترتبان على هذه الأفعال علم المكلف أو جهل فضلا عن النية وعدمها،
لكونها من الأوصاف الخارجية التي رتبها الشارع عليها - إن ما ذكر من الآية لا دلالة فيه
على وجوب نية كونه للصلاة، إذ كونه لها لا يفيد أزيد من توقف صحتها عليه، وأنه
ليس واجبا لنفسه، وهو لا مدخلية له فيما نحن فيه، وما ضربه من المثال بأخذ السلاح
ليس بأوضح مما نحن فيه، بل هما من واد واحد، والقول بأن السيد إذا قال: لعبده
قم لاكرام زيد مثلا لا ريب في أنه لا يعد ممتثلا إذا قام لا بهذا القصد - لظهور أن امتثال
هذا التكليف لا يكون إلا بالقيام مقصودا به ذلك، لانتفاء المقيد بانتفاء قيده - مسلم
، لكن نمنع أن ما نحن فيه منه، لعدم ذكر القيد في العبادة، فالأمر فيه إلى المفهوم عرفا،
وهو هنا إنما يفيد كون علة الأمر بالوضوء الصلاة فليس معنى الآية أن غسل الوجه
للصلاة واجب عليكم ليكون متعلقا بالغسل حتى يكون الجميع متعلق الأمر، بل المعنى والله
أعلم أني أطلب للصلاة غسل الوجه، والفرق بينهما واضح.
ومما سمعت من عدم التلازم بين الاستباحة ورفع الحدث مفهوما ووجودا اختار
بعضهم وجوب جمعهما في النية، كما في التذكرة وعن الكافي والغنية والمهذب والاصباح،
وهو المذهب الرابع، وقد عرفت ضعفه مما تقدم سابقا، وكان الأقوى عدم وجوب
شئ منها كما اختاره المصنف، وهو المنقول عن الشيخ في النهاية، واختاره جماعة
من المتأخرين وجميع مشائخنا المعاصرين، وربما كان ظاهر من ترك التعرض لأصل النية
أيضا كما نقل عن المتقدمين، ولنعم ما قال ابن طاووس في البشرى على ما نقل عنه:
" إني لم أعرف نقلا متواترا ولا آحادا يقتضي القصد إلى رفع الحدث أو استباحة الصلاة "
إلى آخره. ولا تغفل عن كثير مما قدمناه في نية الوجه من السيرة وغيرها، فإنها جارية
هنا وأنى للأعوام ومعرفة الفرق بين رفع الحدث والاستباحة أو عدمه، وفي كشف
92

اللثام " لعل من أوجب التعرض لهما أو لأحدهما أراد نفي ضد ذلك بمعنى أن الناوي
لا يجوز له أن ينوي الوجوب أو الندب لنفسه، فلا شبهة في بطلان الوضوء حينئذ، أما إذا
نواه مع الغفلة عن جميع ذلك فلا دليل على بطلانه " انتهى.
قلت إن أراد بالضد قصد المكلف لعدم رفع الحدث مع قصده الوضوء فللبطلان
وجه، لأنه داخل في قسم التشريع، أو لأن ما نواه غير ممكن الوقوع، وإن أراد
غير يذلك كما لعله الظاهر من كلامه وتفسيره ففيه نظر لما عرفت سابقا، مع احتمال الصحة
في الأول، لأنه يكون غالطا في قصده عدم رفع الحدث، نعم إذا انحل إلى عدم قصده
الوضوء اتجه ذلك، ولعله من جميع ما تقدم لك ومن ملاحظة أخبار التجديد (1) وأنه
" طهر على طهر " (2) و " نور على نور " (3) مما يفيد مساواته للأول يظهر لك أن
من توضأ بنية التجديد ثم صادف الحدث في الواقع صح وضوؤه وارتفع حدثه، وقصد
التجديدية لا يمنع تسبيب هذه الأفعال في مسببها، إذ وصف التجديدية وصف خارجي
لاحق بعد وجود موضوعه الذي جعله الشارع فيه، وهو المسبوق بوضوء، وكذلك
لا يبعد العكس بمعنى أنه لو زعم أنه غير متوضئ ثم توضأ بنية أنه الوضوء الواجب مثلا
ثم ظهر له أنه كان متوضئ فإنه يحكم له بحصول ثواب التجديد وإن لم يقصده، لثبوت
وصفه في الواقع فتأمل جيدا. ومن العجيب ما في المعتبر من اختيار الاجتزاء بالوضوء
التجديدي مع اشتراطه في السابق وجوب نية الرفع أو الاستباحة، إذ هو لا ينطبق على
ما هنا، نعم يصح لمن لم يقل باشتراطهما هناك أن يقول بعدم الاجتزاء هنا، لأن عدم
اشتراط القصد غير يقصد العدم، وهو في الوضوء التجديدي ينحل إلى ذلك، لكنك
قد عرفت أن الأصح الاجتزاء فيه، لما سمعت.
(ولا يعتبر النية) بمعنى القصد فضلا عن غيرها (في طهارة الثياب ولا غير ذلك
مما يقصد به رفع الخبث) إجماعا وقولا واحدا بين أصحابنا، بل بين غيرهم عدى

(1) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 3 - 8
(2) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 3 - 8
(3) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 3 - 8
93

ما ينقل عن أبي سهل من الشافعية، قيل وحكي عن ابن شريح من الافتقار إلى النية،
وهو كما ترى، ولعله بما سمعت من الاجماع يخص أصالة الاحتياج إليها في كل أمر لو
سلمت، لكن قال في المدارك: " إن الفرق بين ما يحتاج إلى النية من الطهارة ونحوها
وما لا يحتاج من إزالة النجاسات وما شابهها ملتبس جدا، لخلو الأخبار من هذا البيان.
وما قيل: إن النية إنما تجب في الأفعال دون التروك منقوض بالصوم والاحرام، والجواب
بأن الترك فيهما كالفعل تحكم، ولعل ذلك من أقوى الأدلة على سهولة الخطب في النية
وأن المعتبر فيها تخيل المنوي بأدنى توجه، وهذا القدر أمر لا ينفك عنه أحد من العقلاء
كما يشهد به الوجدان، ومن هنا قال بعض الفضلاء: (لو كلف الله الصلاة أو غيرها
من العبادات بغير نية كان تكليف ما لا يطاق) وهو كلام متين لمن تدبره " انتهى.
قلت: قد يكون منشأ الاجماع هو كون إزالة النجاسة من قبيل التروك يراد بها
رفع القبيح عن الوجود في الخارج فلا تتوقف على النية. أو يقال: إنا لا نقول في مثل
المقام: بتحقق الامتثال حال عدم النية،. أو يقال: إنا لا نقول في مثل
المقام: بتحقق الامتثال حال عدم النية، نعم نقول: بحصول الطهارة للثوب حال
عدمها، وهو غير قادح إذ لم يعلم من الأدلة اشتراط حصول الطهارة بصدق مسمى
الامتثال، بل الظاهر من الأدلة خلافه، لكون المستفاد منها أنها تحصل بحصول مسمى
الغسل، فيكون التحقيق حينئذ أن الأمر إما أن يتعلق بما لا يعرف ماهيته وحصول
مسماه إلا من قبل الشرع كالوضوء والغسل ونحوهما، أو يتعلق بما لا مدخلية للشرع
فيه كالأمر بغسل الثياب والأواني ونحو ذلك، فإن كان الأول وقد رتب الشارع
أحكاما شرعية على حصول المسمى فالظاهر الاحتياج إلى النية، إذ بدونها لا يعلم حصول
المسمى، وإن كان الثاني وقد رتب الشارع كذلك فالظاهر عدم الاحتياج في حصول
تلك الأحكام إلى النية، لتحقق المسمى بدونها الذي علق عليه وجود الأحكام بدونها،
هذا كله حيث تعلق الآثار على مبدء الأوامر كأن يقول: اغسل ثوبك فإن
الغسل يزيل النجاسة، أما لو وقع الأمر بالغسل مثلا ولم يذكر تعليق الآثار على المبدء
94

ولم يعلم أن الآثار مترتبة على تحقق الامتثال أو على حصول المسمى فقد يتخيل أن
الاستصحاب يقضي بالأول، لكن الأقوى في النظر الثاني، للفهم العرفي أن المدار
على حصول المسمى، بخلاف ما إذا كان متعلق الأمر مع هذا الحال نحو الوضوء، فإن
الظاهر تعليق الأحكام على تحقق الامتثال وإن سلم تحقق مسمى الوضوء بدون ذلك،
وبذلك كله يندفع ما سمعته في المدارك مع ما في كلامه الأخير من العجب أي استشعاره
من ذلك سهولة أمر النية، إذ لا يخفى أن إزالة النجاسة لا يشترط فيها شئ مما ذكره
من السهل وغيره، فلو وقع غفلة أو في حال النوم أو غير ذلك اجتزي به، هذا. وإلى
ما ذكرنا يرجع ما نقل عن الأمين الاستربادي في رفع ما في المدارك وإن أطنب فيه، إذ
حاصله الرجوع إلى أن ذلك يتبع نظر الفقيه في المقامات الخاصة، لمكان النظر في كيفية
الخطابات وغيرها مما يقتضيه مراعاة المقامات، وإلا فالأصل الاحتياج إلى النية.
(ولو ضم) أي جمع (إلى نية التقرب) وقصد الطاعة والامتثال للأمر الرباني
(إرادة التبرد) أو التسخن أو التنظيف (أو غير ذلك) من الضمائم مما هو حاصل في
الفعل أو مطلقا وليس برياء ولا من الضمائم الراجحة (كانت طهارته مجزية) إن كان المقصد
الأصلي إرادة التعبد وغير ها من التوابع، لعدم منافاته الاخلاص حينئذ، وقد يلحق
به ما إذا كان كل من التقرب والتبرد باعثا تاما لايقاع الفعل على إشكال فيه من جهة
احتمال شمول ما دل (1) على عدم وقوع الفعل لله حيث يكون الفعل له ولغيره، أما إذا
كان المقصد التبرد عكس الأول أو كانا معا على سبيل الاشتراك في الباعث بحيث يكون
كل منهما جزء فالأقوى البطلان كما هو صريح بعضهم وقضية آخرين، خلافا لظاهر
المتن وكذا المبسوط والجامع والمعتبر والمنتهى والإرشاد وغيرها، فحكموا بالصحة، بل
نسبه الشهيد في قواعده إلى أكثر الأصحاب، وفي المدارك: أنه الأشهر، محتجين
عليه بأنه ضميمة زيادة غير منافية، فكان كاعلام الإمام مع قصد الاحرام، ولحصولها

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب مقدمة العبادات
95

على كل حال، بل قد يعسر عدم القصد إليها مع التنبه، ولأنه إذا وجد المكلف
ماءين حارا وباردا جاز له اختيار البارد في الهواء الحار والحار في البارد، بل أفرط
بعض متأخري المتأخرين في تأييده بأنه لا دليل هنا يدل على أزيد من اشتراط القربة في
الجملة سواء استقلت أو لا،
والجميع كما ترى، لمنع عدم المنافاة في الأول، إذ المراد
بالاخلاص إنما هو قصد الفعل بعنوان الطاعة والامتثال خاصة لا غير، وما ذكره من
المثال فيه - مع احتمال كونه ليس مما نحن فيه باعتبار تعدد ما قصد به لكون الاحرام
باللفظ والاعلام بالجهر أو لأنه من الضمائم الراجحة ولها حكم آخر تسمعه إن شاء الله -
أنه لا يصلح لأن يكون دليلا للمسألة وعدم اقتضاء الحصول كون الفعل له في الثاني،
وإلا لصح في الرياء، ودعوى عسر عدم القصد إليها ممنوعة إذا أريد بالقصد الأصلي،
ولا يثمر إن أريد غيره، ومثال الماءين ليس مما نحن فيه، بل هو من المرجحات لأفراد
الواجب المخير الخارجة عنه بعد كون الداعي إلى الفعل إنما هو الله، وذلك غير قادح
من غير فرق بين كون المرجح مباحا أو مستحبا أو غيرهما، ولا ينبغي أن يصغى لما سمعت
من الافراط المتقدم بعد قضاء الكتاب والسنة والاجماع باعتبار الاخلاص في العبادة،
بل قد يدعى توقف صدق الامتثال عليه، ومن الممكن تنزيل إطلاق المصنف وغيره
الصحة على الصورتين السابقتين، كما أنه يمكن تنزيل إطلاق الفساد على الصورتين
الأخيرتين فيرتفع الخلاف من البين.
وأما إذا كانت الضميمة رياء فلا ثواب عليها إجماعا، وغير مجزية على المشهور،
بل لا أعلم فيه خلافا سوى ما عساه يظهر من المرتضى (رحمه الله) في الانتصار من القول
بالاجزاء وإن كان لا ثواب عليها، وربما مال إليه بعض متأخري المتأخرين، وفي جامع
المقاصد أنه لو ضم الرياء بطل قولا واحدا، ويحكى عن المرتضى (رحمه الله) خلاف
ذلك، وليس بشئ، قلت وبالأولى يعرف النزاع منه فيما تقدم.
96

وكيف كان فلا ريب في ضعفه حيث يكون الضم على وجه ينافي الاخلاص،
ويدل على اشتراطه في الصحة - بعد الشهرة التي كادت تكون إجماعا بل هي كذلك، لعدم
قدح خلاف المرتضى فيه، على أن عبارته في الانتصار غير صريحة في ذلك - الكتاب
كقوله تعالى (1): (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) إذ الحصر قاض بأن
فاقدة الاخلاص لا أمر بها، فلا تكون صحيحة، ولا فرق في ذلك بين أن تكون اللام
للتعليل وبين جعلها بمعنى الباء، بل هي على الأول أدل، وكون الآية خطابا لأهل
الكتاب غير قادح بعد قوله تعالى: (وذلك دين القيمة) لكون المراد به المستمرة على نهج
الصواب، واحتمال أن يراد الاخلاص من عبادة الأوثان يدفعه ظهور كون المراد به
أعم من ذلك، بل في القاموس والصحاح أنه ترك الرياء، ويدل عليه أيضا قوله
تعالى (2): (فاعبدوا الله مخلصين له الدين) وقوله تعالى (3): (فاعبدا الله مخلصا) وغير
ذلك من الآيات المتضمنة للأمر بالعبادة حال الاخلاص الدالة على عدم الأمر بها في
غير هذا الحال إن قلنا بحجية نحو هذا المفهوم، وإلا كان الخصم محتاجا إلى الدليل في
صحة فاقدة الاخلاص، والتمسك باطلاقات الصلاة والوضوء ونحوهما موقوف على صدق
الاسم بعد فقده، وإن سلم فالظاهر مما سمعت من الآيات اشتراط صحة العبادة بالاخلاص
كقوله صل مستترا أو مستقبلا أو متوضئ، وبه يقيد سائر المطلقات، على أنه وإن
سلمنا صحة اسم الوضوء والصلاة على فاقدة الاخلاص لكنا نمنع إطلاق اسم العبادة عليه.
وحيث لا يكون عبادة لا يجتزى به، لقوله تعالى (وما أمروا) فتأمل. وقد يشعر بذلك
ما رواه أبو بصير عن الصادق (عليه السلام) (4) قال: سألته " عن حد العبادة التي إذا

(1) سورة البينة - الآية 4
(2) ما وجدناه في القرآن
(3) سورة الزمر - الآية 2
(4) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 2
97

فعلها فاعلها كان مؤديا قال (عليه السلام): حسن النية بالطاعة " ويدل أيضا السنة،
(منها) الأخبار (1) التي كادت تكون متواترة الدالة على أنه متى كان العمل لله ولغيره كان
لغيره وأنه وكله الله إليه، وفي خبر هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " يقول
الله عز وجل أنا خير شريك فمن عمل لي ولغيري فهو لمن عمله له غيري " و (منها) ما دل (3)
على كون المرائي مشركا، وأنه المراد بقوله تعالى (4): " ولا يشرك بعبادة ربه أحدا "
وقد تحقق في محله ظهور كون النهي فيها يقتضي الفساد وإن كان عن أمر خارج عنها
لكنه فيها كالتكفير في الصلاة، مع أن النهي هنا عن الأعمال على وجه الرياء كما يستفاد
من النظر في رواياته، وهذا لا ينافي القول يكون الرياء محرما في نفسه سواء كان في عبادة
أو غيرها، على أنه في غالية الاشكال بالنسبة إلى غير العبادات، بل لعل الأقوى
عدمه، للأصل السالم عن المعارض، كما أن الأقوى الحرمة في العبادة لا مجرد الفساد
كما يظهر من تتبع الأخبار، ويلحق بها في ذلك الأفعال التي تقع عبادة وغيرها إذا
أوقعها بعنوان العبادة مرائيا بها، و (منها) ما دل على عدم قبول عمل المرائي كقول
أبي جعفر (عليه السلام) (5) في رواية أبي الجارود على ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره:
" أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا يقبل الله عمل مراء " وقول الصادق
(عليه السلام) (6) في خبر السكوني: " قال النبي (صلى الله عليه وآله): إن الملك ليصعد
بعمل العبد مبتهجا به فذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل اجعلوها في سجين أنه ليس

(1) الوسائل - الباب - 8 و 12 - من أبواب مقدمة العبادات
(2) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 7
(3) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 13
(4) سورة الكهف - الآية 110
(5) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 13
(6) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 3
98

إياي أراد به " وقوله (عليه السلام) أيضا (1) في خبر عقبة: " إن ما كان لله فهو لله
وما كان للناس فلا يصعد إلى الله " وقوله (عليه السلام) (2) أيضا في خبر ابن أسباط:
" قال الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشريك، فمن أشرك معي غيري لم أقبله إلا ما كان
خالصا لي " إلى غير ذلك من الأخبار، ودعوى أن القبول أعم من الصحة بقرينة قوله
تعالى (3): (إنما يتقبل الله من المتقين) ونحوه لا شاهد عليها، مع مخالفتها الظاهر والمتبادر،
والآية محمولة على ضرب من المجاز حتى عنده، لعدم اشتراطه التقوى في القبول
وقد يستدل عليه أيضا بأخبار النية كقوله (صلى الله عليه وآله) (4): " إنما الأعمال
بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كان هجرته " الحديث. فإنه وإن قلنا بكون
النية حقيقة في القصد لكن يراد منها ولو مجازا في مثل هذه الخطابات النية الخاصة، وبأن
عدم الاخلاص ينافي نية القربة الثابت اشتراطها بالاجماع المنقول والمحصل، والمراد
بها على ما تقدم فعل المكلف المأمور به بعنوان أمر الله به خاصة، وما يقال: إنه قد يظهر
من المرتضى النزاع في أصل اشتراطها وإن قال بوجوبها إلا أنه تعبدي لا شرطي لذكره
العبادة المقصود بها الرياء وهو ظاهر في غير ضميمة الرياء فلا يجتمع مع القربة يدفعه -
مع بعده وعدم معروفية نزاعه في ذلك - أنه غير قادح في الاجماع المدعى، على أنه في
غير الاجماع مما دل على اشتراطها غنية، كل ذا فيما نافى الاخلاص من الرياء، أما
ما لا ينافيه كما إذا أخذ الرياء ضميمة تابعة أو كان كل من القربة والرياء باعثا مستقلا
إن قلنا به فيما سبق فلعل الظاهر الفساد أيضا كما هو قضية إطلاق الأصحاب، خلافا
لما يظهر من بعض محققي المتأخرين.

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 11 ولكن رواه
علي بن سالم
(3) سورة المائدة - الآية 30
(4) المستدرك - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 5
99

ويدل عليه - مضافا إلى ما ورد في عدة روايات (1) أن كل رياء شرك، وإياك
والرياء فإنه الشرك بالله، وما ورد من التحذير عنه وأنه أخفى من دبيب النملة السوداء
في الليل المظلم مما يدل على مبغوضية أصل طبيعة الرياء في الأعمال على أي حال وقع -
خبر زرارة وحمران عن أبي جعفر (عليه السلام) (2) قال: " لو أن عبدا عمل عملا
يطلب به وجه الله والدار الآخرة وأدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركا " لشمول
الادخال ما نحن فيه فتأمل، بل قد يستدل على الصورة الثانية بدخولها تحت ما دل (3)
على أن من عمل لله ولغير الله وقع لغير الله، إذ هو أعم من الاشتراك بالعلية
أو الاستقلال، بل لعله في الثاني أظهر كما هو قضية العطف، لكن ينبغي إدخال هذه
الصورة حينئذ فيما نافى الاخلاص، لمكان ظهور هذه الأدلة أن من عمل كذلك لم
يكن مخلصا كما يشعر به خبر ابن أسباط المتقدم وغيره. ومنه ينقدح حينئذ قوة الاشكال
السابق في صحة ضميمة غير الرياء إذا كانت كذلك كما أشرنا سابقا، والظاهر أنه
لا عبرة بما تجري على خاطر الانسان من الخطرات التي هي غير مقصودة ولا عزم عليها
كما يتفق كثيرا لأغلب الناس.
وربما ألحق بعض مشائخنا العجب المقارن للعمل بالرياء في الافساد، ولم
أعرفه لأحد غيره، بل قد يظهر من الأصحاب خلافه، لمكان حصرهم المفسدات
وذكرهم الرياء وترك العجب مع غلبة الذهن إلى الانتقال إليه عند ذكر الرياء، نعم
هو من الأمور القبيحة والأشياء المحرمة المقللة لثواب الأعمال، لكن قد يؤيد الفساد
ظواهر بعض الأخبار (منها) ما دل (4) على كونه من المهلكات، و (منها) النهي (5)

(1) الوسائل الباب - 11 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 0 - 11
(2) الوسائل الباب - 11 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 0 - 11
(3) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب مقدمة العبادات
(4) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 1
(5) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 1
100

عن اخراج النفس عن حد التقصير في عبادة الله عز وجل وطاعته، و (منها) ما رواه ابن
الحجاج (1) عن الصادق (عليه السلام) قال: " قال إبليس لعنه الله: إذا استمكنت
من ابن آدم في ثلاث لم أبال ما عمل، فإنه غير مقبول منه، إذا استكثر عمله ونسي ذنبه،
ودخله العجب " و (منها) ما في خبر أبي عبيدة (2) عن الباقر (عليه السلام) عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) قال: " قال الله تعالى: إن من عبادي المؤمنين لمن يجتهد
في عبادتي إلى أن فاض به النعاس الليلة والليلتين نظرا مني له وابقاء عليه، ولو أخلي
بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب من ذلك، فيصيره العجب إلى الفتنة بأعماله
فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه، لعجبه بأعماله، ورضاه عن نفسه، فيتباعد مني عند ذلك
وهو يظن أنه يتقرب إلي " و (منها) خبر علي بن سويد عن أبي الحسن (عليه السلام) (3)
قال: سألته " عن العجب الذي يفسد العمل، فقال العجب درجات منها أن يزين
للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا، ومنها أن يؤمن العبد
بربه فيمن على الله ولله عليه فيه المن " و (منها) ما رواه إسحاق بن عمار (4) عن الصادق
(عليه السلام) قال: " أتى عالم عابدا إلى أن قال: قال العالم للعابد: إن المدل لا يصعد
من عمله شئ " و (منها) ما رواه في الوسائل عن العلل والتوحيد (5) مسندا عن النبي
(صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل (عليه السلام) في حديث قال: " إن من عبادي لمن
يريد الباب من العبادة فأكفه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده " والكل كما ترى، وأولى
ما يستدل به لذلك ما رواه يونس بن عمار عن الصادق (عليه السلام) (6) قال: " قيل
له وأنا حاضر الرجل يكون في صلاته خاليا فيدخله العجب، فقال إذا كان أول

(1) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 7
(2) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 1 مع زيادة في الوسائل
(3) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 5 - 9 - 17
(4) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 5 - 9 - 17
(5) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 5 - 9 - 17
(6) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 3
101

صلاته بنية يريد بها ربه فلا يضره ما دخله بعد ذلك فليمض في صلاته وليخسأ للشيطان "
فإنه بالمفهوم دال على المطلوب، ويدل أيضا بالمنطوق على عدم الافساد لو وقع في الأثناء
وبالأولى الواقع بعده، بل مقتضى عموم (ما) أن الرياء كذلك إلا أنه لما لم يثبت اعتبار
سند الرواية ولا جابر بل ولا صريحة الدلالة كان الأقوى في النظر عدم الابطال بالعجب
مطلقا ولا بالرياء بعد العمل، وأما ما كان في الأثناء فوجهان، أقواهما البطلان، هذا.
وإذا كانت الضميمة راجحة فيصح كما صرح بذلك جماعة، بل في شرح
الدروس الاتفاق عليه، ويظهر من بعضهم نفي الخلاف فيه، ويدل عليه - مضافا
إلى ذلك وإلى عدم منافاته للاخلاص بل هو من مؤكداته - ملاحظة الأخبار،
لتضمنها بيان كثير من الأمور الراجحة المرادة في الواجبات والمندوبات، ولو أن
ملاحظة مثل هذه الأمور مفسدة للعمل لكان الذي ينبغي ترك بيانها كي لا تلاحظ،
فتنافي مع ما ورد من فعل الوضوء منهم والصلاة مع قصد التعليم، والأمر بإطالة الركوع
للانتظار، وإعطاء الزكاة للاقتداء، والتكبير للاعلام ونحو ذلك، لكن ينبغي أن
يعلم أن المراد بالصحة هنا من حيث ملاحظة الرجحان، وإلا فمع عدمه يكون كالضمائم
المباحة من التبرد ونحوه، والقول بأن المراد بالراجحة الراجحة في نفسها كأن يكون من مكارم الأخلاق ونحوه لا من حيث الاستحباب الشرعي وعدمه فلا فرق بين ملاحظة الرجحان
وعدمه لا وجه له، إذ بعد تسليم تحقق مثل ذلك لا يصلح لأن يكون مائزا بينه وبين
الضمائم المباحة فتأمل.
ثم الظاهر أنه لا فرق فيما ذكرنا من الصحة بين كون كل منهما علة مستقلة أو كان
المجموع علة مستقلة، بل قد يظهر من بعضهم الصحة حتى فيما لو كان المقصود الضميمة
أصالة والعبادة تبعا، لكنه في غاية الاشكال، بل الأقوى عدمه، فإنه لو صام بقصد
الحمية لا يقصد شهر رمضان بحيث كان الأول هو العلة ولولاه لم يفعل لا يكون مطيعا بالنسبة
للأمر الصومي، ولا ممتثلا لقوله صلى الله عليه وآله: " إنما الأعمال بالنيات " نعم قد يحصل له ثواب
102

بالنسبة للمندوبات لولا حظها ولو تبعا، بل يمكن النظر في الاجتزاء بالصورة الثانية بالنسبة
للواجب، اللهم إلا أن يستند للاجماع السابق.
وقد يظهر لك فيما يأتي أنه لا معنى للاطلاق المذكور في جميع الضمائم، بل نقول
أن الضمائم لا تداخل فيها حيث تكون من قبيل الجهات المتعددة للعمل الواحد المشخص
كما تقدم نظيره بالنسبة إلى غايات الطهارة الصغرى، وكذا فيما كان منها من قبيل تعلق
الأمر بكليين مختلفين يتفق اجتماعهما في فرد لا اجتماع صدق بالنسبة إلى ذلك الفرد،
بل هو صورة اجتماع في فرد، وإلا ففي الحقيقة هما فردان مختلفان نظير ما تقدم سابقا
في المسح والغسل، إذ لا يتصور التداخل فيه، وأما فيما كان منها من قبيل الأغسال
فهي من التداخل قطعا، وفي أحد الوجهين فيما كان منها من قبيل تعلق الأمر بكليين
بينهما العموم من وجه، وتحته صورتان، الأولى أن يكون في متعلق الأمر كقوله
أكرم عالما أكرم شاعرا، الثانية أن يكون في نفس الأمرين، ولعل الأولى أقرب
إلى التداخل من الثانية، ولا يخفى عليك اختلاف الحكم فيما كان من قبيل التداخل
وعدمه، فيحتاج إلى الدليل في الأول دون الثاني، مع اختلاف الحكم بالنسبة للنية
أيضا فتأمل جيدا.
(ووقت النية) استحبابا (عند) ما استحب من (غسل الكفين) للوضوء كما
في الوسيلة والمعتبر والمنتهى والتحرير والقواعد، بل في البيان أنه المشهور، وحوازا
كما في الدروس والذكرى والروض وغيرها، وعلى كل حال فالمستند أنه أول أجزاء
الوضوء الكامل، فتصح مقارنة النية له، إذ لا دليل على وجوب مقارنتها للواجب لكون
الاجماع محصلا ومنقولا، وقوله (عليه السلام): " لا عمل إلا بنية " وآية الاخلاص (1)
وغيرها أقصى ما توجب المقارنة لأول العمل لا الواجب منه، بل لعل مقتضاها
إيجاب المقارنة للأجزاء المندوبة إذا أريد تحصيل الفرد الكامل المشتمل عليها، لأن

(1) سورة الزمر - الآية 2 - وسورة البينة - الآية 4
103

إفرادها بالنية مع كونها بعض العمل كوقوع النية عند غسل الوجه وهو وسط العمل حقيقة
لا أوله لا يخلو من تأمل ونظر، لكن ذلك كله موقوف على ثبوت جزئية غسل اليدين
من الوضوء. ولم يثبت بل لعل ظاهر الأدلة يقضي بخلافه، ونفي الخلاف عن كونه
من سنن الوضوء أعم من الجزئية، واحتمال الاكتفاء بذلك وإن يثبت الجزئية لا وجه
له، وإلا لجاز التقديم عند غير ذلك من مستحبات الوضوء كالسواك والتسمية مع أنه غير
جائز كما نص عليه جماعة، بل في الروض الاجماع عليه، ولذلك كله خص ابن إدريس
في ظاهره جواز التقديم هنا عند المضمضة والاستنشاق كما عن الغنية، بخلاف غسل الجنابة
فجوز التقديم عندهما، وهو حسن، لكن اعترضه بعض بأن الفرق بين الوضوء والغسل
تحكم، وآخر بعدم ثبوت جزئية المضمضة والاستنشاق أيضا.
وقد يدفع الأول بملاحظة أخبار الغسل (1) فإنها ظاهرة في كون غسل اليدين
جزء مستحبا لمكان ذكره في كيفية الغسل بخلافه هنا، وكذا الثاني بملاحظة أخبار
المضمضة والاستنشاق (2) فإنه وإن اشتمل جملة منها على كونهما ليسا من الوضوء لكن
ذلك محمول فيها على واجباته جمعا بينها وبين ما دل على كونهما من الوضوء. فظهر أن
قول ابن إدريس هو الأقوى في النظر، وبذلك كله تعرف ضعف ما ينقل عن ابن
طاووس من التوقف في التقديم، نظرا إلى أن مسمى الوضوء الحقيقي غيرهما، وللقطع
بالصحة إذا قارن عند غسل الوجه، وهما كما ترى سيما الثاني، إذ القطع لا يمنع الاكتفاء
بالغير مع الظن من الأدلة الشرعية.
وكيف كان فبناء على جواز التقديم عند غسل اليدين ينبغي الاقتصار على الغسل
المستحب للوضوء، كما إذا توضأ من حدث البول أو الغائط أو النوم واغترف من إناء
لا يسع كرا ونحو ذلك على ما ستعرف إن شاء الله تعالى، فلا يجوز عند الغسل المباح،

(1) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الجنابة
(2) الوسائل - الباب - 29 - من أبواب الوضوء
104

كما إذا كان الوضوء من الريح مثلا أو المحرم أو المكروه أو المستحب لغير الوضوء
أو الواجب له كما إذا كانت اليد نجسة، وإن احتمل الجواز في الأخيرة لكونه أولى
من الندب إلا أن الأقرب المنع لعدم كونه من أفعال الوضوء.
(ويتضيق عند) أول (غسل الوجه) ولا يجوز تأخيرها، لاستلزام وقوع بعض
العمل حينئذ بلا نية، كما أنه لا يجوز تقديمها مع الفاصلة على جميع أجزاء العمل، لما
فيه من تفويت المقارنة مع اعتبارها في أصل النية أو أنها مقتضى ما سمعت من الدليل.
وما ينقل عن الجعفي من أنه لا بأس إن تقدمت النية العمل أو كانت معه ضعيف، أو
أنه يريد التقدم مع المقارنة المعتبرة ثم الغفلة عنها، وبالمعية الاستدامة الفعلية، أو أنه يريد
بالعمل الواجب منه بمعنى جواز تقديم النية عند غسل الكفين، أو أنه يريد بالتقدم ما لا
يقدح في اعتبار المقارنة عرفا، فلا يوجب المقارنة الحكمية، كما عساه يظهر من جملة من
عباراتهم، حتى أنهم وقعوا في الاشكال في كيفية مقارنة تمام النية لأول العمل، ووقع
منهم بسبب ذلك أمور لا ينبغي أن تسطر، أو أنه يريد بيان كون النية هي الداعي لا الصورة
المخطرة، فإنه حينئذ بناء على ذلك لا بأس في إيجاد الداعي سابقا على العمل أو مقارنا له،
كما صرح به جماعة من القائلين بذلك. ومن هنا ظهر من بعضهم سقوط هذا البحث
أعني بحث التقديم عند غسل الكفين بناء على كون النية هي الداعي لأنه مستمر، بل
لا يصدر الفعل الاختياري بدونه. وكذا بحث الاستدامة كما ستعرف، لعدم الفرق
حينئذ بين الابتداء والاستدامة في ذلك، وفيه نظر يعرف مما تقدم في النية، وقد
نشير إليه في الاستدامة إن شاء الله تعالى.
(ويجب) في صحة الوضوء بل كل عبادة تعذر أو تعسر استدامة النية فيها
فعلا (استدامة حكمها إلى الفراغ) كما في المبسوط والجمل والعقود والوسيلة والإشارة والغنية
والسرائر والنافع والمعتبر والمنتهى والتذكرة والتحرير والإرشاد وغيرها، بل لا خلاف
على الظاهر في اعتبارها، والمراد بها على ما فسرت في جملة مما سبق بل نسبه الشهيد
105

إلى كثير والمقداد إلى الفقهاء مشعرا بدعوى الاجماع عليه أن لا تنقض النية الأولى بنية
تخالفها، بل قد يرجع إليه ما في السرائر والغنية أن يكون ذاكرا لها غير فاعل لنية
تخالفها، مع دعوى الثاني الاجماع، وذلك يجعل قولهما (غير) إلى آخره تفسيرا لما
قبله، وإلا فالاجماع محصلا ومنقولا وغيره على صحة عبادة الذاهل، وأنه لا يجب
استمرار الذكر، وبه يظهر أن مراده في الذكرى من تفسيره لها بالبقاء على حكمها والعزم
على مقتضاها ما يرجع إلى المشهور أيضا، وإنما ارتكب ذلك لما في تفسير المشهور من كونه
بأمر عدمي، ولذا قال إنه مبني على أن الباقي مستغن في بقائه عن المؤثر.
ولعل مراده بالباقي الاخلاص أو الصحة أو صفة العبادية، فأراد العدول عن
التفسير بالعدمي ففسرها بذلك وهو ملازم له وسبب فيه، فلا ثمرة حينئذ بين التفسيرين
وأما ما يقال: من أنه يريد إيجاب استمرار تذكر البقاء والعزم إلى الفراغ فينبغي أن يقطع
بعدمه، وكيف وهو قد صرح بعدم بطلان العبادة مع الذهول عن ذلك غير متردد
فيه، بل المحقق الثاني نقل الاجماع على ذلك، نعم يحتمل إرادة تجديد العزم كل ما
ذكر، وبه يحصل الفرق حينئذ لكنه لا دلالة في كلامه عليه، كما أنه يحتمل أن يكون
الفرق بينهما بما تسمع إن شاء الله تعالى من بطلان الاستدامة بالتردد في إبطال العمل
وعدمه، فإنه يتجه البطلان على تفسير الشهيد والعدم على الثاني.
وكيف كان فالدليل على اشتراط الصحة بها في الجملة بعد الاجماع المدعى ما ذكره
بعضهم أن الأصل يقتضي إيجاب النية الفعلية لقيام دليل الكل في الأجزاء إلا أنه لما تعذر
ذلك أو تعسر اكتفى بالاستمرار الحكمي، لعدم سقوط الميسور بالمعسور (1) و " ما لا يدرك
كله لا يترك كله " (2) ونحو ذلك، وفيه - بعد إمكان منع كون الأصل كذلك،
وقوله (عليه السلام) (3): " لا عمل إلا بنية " ونحوه لا دلالة فيه على أزيد من وجوب

(1) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
(2) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
(3) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 1
106

تلبس العمل بنية في الجملة، على أنه لم يعلم إرادة النية الشرعية فيه - أنه ينبغي حينئذ
إيجاب تجديد النية على حساب الامكان، لكون الضرورة تقدر بقدرها، أو إيجاب
تذكر العزم من دون باقي مشخصات النية، على أنه بعد تسليم سقوط ذلك كله لا دليل
على وجوب ما ذكروه من الاستمرار، وقولهم لا يسقط الميسور ونحوه لا يصلح لاثباته
لما فيه من الاجمال المقرر في غير هذه المحال من الاقتصار به على التكليف ذي الجزئيات
أو مع الأجزاء، على أن في كون ذلك منه منعا وتأملا سيما على التفسير المشهور للاستدامة.
ولعل الأولى في المستند للاشتراط المذكور - بعد الاجماع المنقول المؤيد بالتتبع
المفضي إلى إمكان دعوى الحصول - توقف صدق كون العمل منويا عليها كما هو الشأن
في سائر الأعمال المركبة، فإن نيتها بأن يقارن أولها تمام النية ثم يبقى مستمرا على حكمها
غير ناقض لها بنية تخالفها، وبذلك يصدق كون العمل منويا ومقصودا وإن حصل
ما حصل من الغفلة في الأثناء ما لم يحصل النقض المذكور، فلا حاجة حينئذ إلى التقدير
المتقدم، بل هو للافساد أقرب منه للاصلاح، ولا فرق فيما ذكرنا بين القول بأن
النية هي الداعي أو الاخطار والفرق بين الابتداء والأثناء حينئذ، أما على الثاني
فظاهر، وأما على الأول فلما عرفت سابقا أنه يعتبر بناء على القول بالداعي الخطور
في الابتداء دون العلم به، وأن ذلك مدار الفرق بينه وبين الاخطار، وإلا فلا فرق
بينهما بالنسبة إلى عدم الاعتداد بعبادة الغافل محضا عند الابتداء، فيكون الفرق حينئذ
بين الابتداء والأثناء بناء على الداعي بأن الغفلة والذهول الماحيين لخطور الصورة يقدحان
في الابتداء دون الأثناء، فتأمل جيدا. أو يقال كما ذكرنا سابقا أنه بناء على
الداعي لا بد من القصد إلى الفعل في الابتداء وإن لم يلتفت الذهن إلى الداعي بخلافه في
الأثناء فإنه يكتفى به وإن وقع من غير قصد أو غير ذلك على ما يظهر لك من ملاحظة
ما سبق منا في النية، هذا.
وقد وقع في الرياض ما ينافي بظاهره ذلك تبعا للأستاذ الأعظم في شرح المفاتيح
107

والفاضل صاحب الحدائق والمدقق الخوانساري، قال بعد أن ذكر تفسير الاستدامة
بالمشهور وكلام ابني إدريس وزهرة: " إن مقتضاه اعتبار الاستدامة الفعلية كما هو مقتضى
الأدلة، لوجوب تلبس العمل بالنية، والحكمية مستلزمة لخلو جل العمل عنها، ومبنى
الخلاف هو الخلاف في تفسير أصل النية هل هي الصورة المخطرة بالبال، أم نفس الداعي إلى
الفعل فعلى الأول لا يمكن اعتبار الاستدامة الفعلية، إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوف
واحد، فتعينت الحكمية، لقوله (عليه السلام): (ما لا يدرك) وعلى الثاني يمكن اعتبارها
فيجب وحيث كان المستفاد من الأدلة ليس إلا الثاني بناء على دلالتها على اعتبار النية
في أصل العمل ومجموعه، وهو ظاهر في وجوب بقائها في نفسها إلى منتهاه، وقد
عرفت تعذره في المخطر، فلم يبق إلا الداعي، إلى أن قال: ومما ذكر ظهر سقوط
كلفة البحث عن المقارنة وتقدمها عند غسل اليدين، لعدم انفكاك المكلف على هذا
التقدير عنها، فلا يتصور فقدها عند القيام إلى العمل ليعتبر المقارنة لأول الواجبي أو
المستحبي " انتهى. وهو كالصريح كغيره ممن نقلنا عنهم أنه لا فرق بين الابتداء
والاستدامة، وأنه لا وجه للبحث في التقديم عند غسل اليدين، وفيه ما لا يخفى، فإنه -
مع مخالفته بعض ما هو مجمع عليه بحسب الظاهر - مستلزم لصحة وقوع العبادة بعد حصول
الداعي مع الغفلة الماحية لأصل الخطور في الذهن كما يتفق ذلك في الأثناء، وهو بعيد
جدا، أو أنهم يلتزمون فساد ما وقع فيها في أثناء ذلك حتى يتساوى الابتداء والأثناء،
وهو أبعد، وما أدري ما الذي دعاهم إلى ذلك مع أن القول بالداعي لا يقتضيه كما تقدم.
ومنه تعرف الوجه في مسألة تقديم النية عند غسل اليدين، وأنه يتصور له معنى
بناء على الداعي، لما ظهر لك من الفرق بين الابتداء والأثناء، فأما أن يعتبر الخطور
عند غسل اليدين أو القصد أو غير ذلك واتفاق استمراره غير قادح، وتظهر الثمرة
لو انقطع، وما يقال -: إنه متى انقطع وأغفل عنه من المحال أن يصدر فعل اختياري جار
مجرى أفعال العقلاء - يدفعه أنه على تقدير تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون اكتفى الشارع
108

بما يقع من المكلف من العبادة في الأثناء وإن كان وقوعه على حسب الوقوع من النائم
والغافل وغير ذلك. ولا يخفى عليك أن المراد باعتبار الاستدامة إنما هو للنية مع جميع
قيودها، كل على مذهبه (1).
ثم قد يظهر من تفسير المشهور للاستدامة أنه لا يقدح حصول التردد في الابطال
أو فعل المنافي، وذلك لما عرفت من تفسيرهم لها بأن لا ينقض النية الأولى بنية تخالفها،
ولا ريب أن التردد المتقدم ليس نية، لكن ذلك خلاف ما يظهر من كثير منهم في باب
الصلاة، نعم يتجه ذلك بناء على ما ذكره الشهيد في تفسيرها، لظهور منافاة التردد
للعزم على مقتضاها، ولعل الاستصحاب مع عدم دليل على وجوب الاستدامة بهذا المعنى
حتى ما ذكرناه سابقا في توجيهها يؤيد الأول، اللهم إلا أن يدعى الاجماع عليه كما عساه
يظهر من ملاحظة كلامهم في باب الصلاة، فيرتفع الخلاف حينئذ بين التفسيرين لها،
ويكون المتردد كالناوي لخلافها، فإنه لا إشكال عندهم في منافاته الاستدامة، وبه
صرح في المبسوط والمعتبر والمنتهى والتذكرة والقواعد والذكرى وغيرها، إلا أن
الذي يظهر منهم عدم حصول البطلان بمجرد ذلك، بل هو مشروط بما لم يرجع إلى
النية الأولى ولما يحصل مفسد خارجي للوضوء من فوات موالاة وغيرها، من غير فرق
في ذلك بين وقوع بعض الأفعال بتلك النية المخالفة وعدمه، لكون الوضوء من العبادات
التي لا تفسد بمثل ذلك، ولذا لو وقع الغسل منكوسا لم يبطل ما تقدمه من الأعضاء المغسولة،
ويزداد الغسل على الوضوء بعدم اشتراط الموالاة فيه، فحينئذ متى أراد الرجوع إلى الحال
الأول رجع بتجديد النية، لكن قد يشكل أنه ينبغي ابتناء الصحة في المقام وغيره على
جواز تفريق النية على الأجزاء.
ويدفع أولا بأنه ليس من تفريق النية في شئ، بل من تكريرها، فإنه نوى

(1) فمن اعتبر فيها الوجه وجب عليه استدامة ذلك، وكذا رفع الحدث والاستباحة
كالقربة وأصل القصد (منه رحمه الله)
109

جملة الوضوء أولا ثم نوى عند التدارك ثانيا بأن التفريق بعد نية الجملة مؤكد لها،
والحاصل أن مقتضى الاستصحاب المؤيد بفتوى الأصحاب عدم حصول البطلان بمجرد
ذلك، وتفريق النية الممنوع منه إنما هو النية بالجزء على أنه عبادة مستقلة، أو أنه وزع
تمام النية على تمام العمل، أما إذا نوى الجزء متقربا به على مقتضى الجزئية أو لم يلاحظ
فيه شيئا من ذلك فلا نرى فيه منعا، فيراد من التجديد حينئذ الرجوع إلى مقتضى
النية الأولى أو ينوي التقرب جديدا بالجزء من حيث الجزئية أو لم يلاحظ فيه
جزئية ولا غيرها، فما ينقل عن البهائي من الاشكال في الحكم كما عساه يظهر من كشف
اللثام في غير محله، فتأمل جيدا. نعم الممنوع من التفريق هو أن يوزع تمام النية على
تمام العمل على معنى وقوع الجزء الأول مثلا ببعض نية، أو ينوي نية تامة عند غسل
الوجه مثلا، وكذلك غسل اليمنى لكن مع نية رفع الحدث عنها، وكذا لو نوى
من أول الأمر رفع الحدث عن الأعضاء الأربعة، وذلك لعدم التبعض على إشكال
فيهما، لاحتمال الصحة لمكان السراية كما ذكرنا سابقا فيمن نوى حدثا معينا، أما لو نوى
رفع الحدث مثلا عند كل عضو عضو فالظاهر الصحة، خلافا لما يظهر من المحقق الثاني
ومن تابعه محتجين عليه بمعلومية عدم فعله من صاحب الشرع، على أن الوضوء عمل
واحد وعبادة واحدة ونحو ذلك، وضعفهما واضح، لأعمية الأول من الفساد، فلا
يقدح بعد شمول القول له وعدم اقتضاء الثاني منع تفريق النية، إذ لم يلحظ الاستقلال
سيما مع ملاحظة عدمه بأن تلاحظ الجزئية، على أن مسألة التفريق يتجه تفريعها بناء على
أن النية هي الاخطار دون الداعي إلا على وجه بعيد.
(تفريع) على ما تقدم (إذا اجتمعت أسباب مختلفة) كالبول والغائط ونحوهما سواء
كانت مترتبة أو دفعة (توجب الوضوء) لغايته الواجبة (كفى وضوء واحد بنية التقرب،
ولا يفتقر إلى تعيين الحدث الذي يتطهر منه) بلا خلاف أجده، بل في المدارك أنه
مذهب العلماء، وهو مع غيره الحجة، سواء قلنا بوجوب قصد رفع الحدث في
110

الوضوء عينا أو تخييرا بينه وبين الاستباحة أو لم نقل بوجوبه، إذ التعيين أمر زائد
لا دليل عليه، كما أنه لا فرق بناء على المختار من عدم وجوب قصد رفع الحدث بين
الوضوء بنية التقرب غير متعرض فيها لذلك وبين قصد رفع الحدث من حيث هو من
غير تعرض لتعيينه وبين ما قصد فيه رفع حدث بعينه مع عدم قصد غيره أو مع قصد عدم
غيره أو قصد رفع حدث معين وكان الواقع خلافه. فإن الوضوء في جميع ذلك صحيح،
أما الأولان فالحكم فيهما واضح، وكذا الثالث إذ احتمال قصر الرفع على المنوي خاصة
معلوم البطلان على ما ستعرف، كاحتمال تأثير ذلك الافساد حتى بالنسبة إليه، لما قد
علمت سابقا أن رفع الحدث من الغايات المترتبة على حصول هذه الأفعال بقصد التقرب،
فمتى حصلت على هذا الوجه من غير مستدام الحدث مثلا رتب الشارع عليها رفع تلك
الحالة فهي أسباب لا تتخلف عنها مسبباتها شرعا، فقصد المكلف رفع حدث بعينه مساو
لعدم قصده لا مدخلية له.
ومنه يظهر وجه الرابع والخامس أيضا، فإن قصد عدم رفع غيره أو رفعه ولم
يصادف الواقع لغو غير مؤثر شيئا، لأن المرتب للرفع على هذه الأفعال الشارع،
فقصد المكلف وعدمه سيان، وما يقال: إن تسبيب الوضوء لذلك إذا اشتمل على قصد
رفع الحدث من حيث هو أو إذا لم يشتمل على قصد عدم رفعه أو رفع بعضه فيه أن ذلك
دعوى عارية عن الدليل، بل الدليل على خلافها موجود، لاطلاق قوله (عليه السلام) (1):
" لا ينقض الوضوء إلا حدث " ونحوه، كدعوى دخول ذلك في مسمى الوضوء،
فلا يعلم شمول اللفظ للعاري، لما سيظهر لك أن الوضوء من المبينات في الكتاب فضلا
عن السنة لا من المجملات، ولم يشتمل شئ منهما على شئ من ذلك.
نعم يتجه الفساد بناء على وجوب قصد رفع الحدث في الأول كالصحة في الثاني،
وقوتها مع رفع الجميع في الثالث، بل في المدارك نسبته إلى قطع أكثر الأصحاب،

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقص الوضوء - حديث 4
111

لأن قصد المعين يستلزم رفعه، لقوله (صلى الله عليه وآله) (1): " لكل امرئ
ما نوى " فرفعه يستلزم رفع غيره، لكون الحدث الأصغر حالة واحدة بسيطة لا تتجزى
كما هو الظاهر من الأدلة، فمتى ارتفع أثر واحد منها ارتفع أثر الجميع، فاحتمال عدم
الرفع في مثل هذا الوضوء لايجاب قصد رفع حدث غير معين كاحتمال قصر الرفع على
خصوص المنوي ضعيفان، سيما الثاني لما عرفت.
ومنه ينقدح أن ذلك ونحوه ليس من التداخل في شئ، لكون الأثر من
جميع هذه الأسباب واحدا، وهو الحدث أي الحالة التي يمتنع معها المكلف من
الصلاة لا آثار متعددة، إذ ليس هناك حدث بولي وريحي ونومي ونحو ذلك، فمتى
ارتفع بالنسبة إلى واحد ارتفع بالنسبة إلى الجميع، فليس من التداخل، لعدم التعدد
في سبب الوضوء وإن تعددت أسباب سببه، بل قد يقال: إنه مع وقوعها مترتبة لا سببية
بالنسبة إلى الثاني والثالث، وإطلاق السببية عليهما مجاز، ومع وقوعها دفعة فالجميع
سبب لا أسباب، لاستناد المنع إلى الجميع دفعة، فهو حدث واحد، فلا أسباب حتى
تتداخل مسبباتها.
فما يظهر من بعضهم أن الاكتفاء بوضوء واحد حيث تعدد الموجبات من باب
التداخل محل تأمل، اللهم إلا أن يريد ما ذكرنا، مع احتماله أيضا، لظواهر الأخبار
الدالة على وجوب الوضوء لكل واحد منها، والاكتفاء بوضوء واحد لها لا يقضي باتحاد
السبب، وعدم مشروعية التفريق لو سلم لا يقضي إلا بكون التداخل عزيمة لا رخصة،
والأقوى ما قدمناه، فتأمل. ونقل عن العلامة في نهاية الإحكام احتمال البطلان فيما
لو نوى حدثا بعينه كما عن أحد وجهي الشافعي، لأنه لم ينو إلا رفع البعض فيبقى
الباقي، وهو كاف في المنع من نحو الصلاة، وأنت خبير بما فيه وبما في الوجه الثاني

(1) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 10
112

له أي الشافعي أيضا من الصحة إن كان المنوي آخر الأحداث. وإلا بطل، ولو قال
ذلك بالنسبة إلى أول الأحداث لكان أوجه، لكونه هو الذي حصل به الحدث حقيقة
وعن نهاية الإحكام أيضا احتمال ارتفاع المنوي خاصة، فإن توضأ لرفع آخر صح،
وهكذا إلى آخر الأحداث، ولم أجده لغيره من العامة والخاصة، وكان وجهه تعدد
المسببات بتعدد الأسباب، فكل واحد منها مؤثر أثرا متشخصا به، وهو كما ترى مما
يقطع بفساده، لما يظهر من الأدلة أن طبيعة الحدث لا توجب إلا وضوء واحدا.
ومن هنا يعلم أن المراد بقول المصنف (كفى) ليس رخصة في جواز التعدد. بل
المراد أنه لا يحتاج إلى آخر، فيكون الاتيان به تشريعا محرما، وربما ظهر من بعضهم
دعوى الاجماع عليه.
وأما الرابع وهو قصد عدم الرفع بالنسبة إلى غير المعين فعن نهاية الإحكام أيضا
والدروس والبيان القطع بالبطلان لمكان تناقض القصدين، وقد عرفت أن المتجه
على مختارنا الصحة، كما هي محتملة على القول الثاني أيضا، لأنه نوى رفع حدث
بعينه فيرتفع، لقوله (صلى الله عليه وآله): " لكل امرئ ما نوى " فيرتفع الباقي للتلازم،
وقصده عدم الرفع يكون لاغيا، وما يقال -: إن الذي وقع منه نية رفع وعدم رفع. فكما
أن الأول يقتضي رفع الجميع فكذا الثاني يقتضي العدم في الجميع - قد يجاب عنه أن
المكلف لما نوى رفع حكم المعين وكان ذلك متحدا بالنسبة للجميع فتخيله أن للثاني أثرا
غير ذلك خطأ، نعم قد يقال الفساد فيما لو علم اتحاد الأثر، لأنه حينئذ يرجع إلى نية
رفع الحدث ونية عدمه، والظاهر الفساد حينئذ، فتأمل. وبناء على ما تقدم من الاحتمال
عن نهاية الإحكام تتعين الصحة هنا ويتوضأ لرفع الباقي، فما نقل عنه من القطع بالبطلان
هنا محل نظر.
وأما الخامس وهو ما لو نوى حدثا وكان الواقع خلافه فالظاهر الصحة، لما علمت أن الإضافة وجودها كعدمها، فالمقصود رفع الحكم وهو حاصل وإن اشتبه في أن سببه
113

ذلك. وليعلم أن جميع ما ذكرنا في رفع الحدث يتأتى بالنسبة إلى نية الاستباحة بدل رفع
الحدث، إلا أنه لم ينقل هنا عن العلامة في النهاية تجزي الاستباحة كما احتمله في رفع
الحدث. ومن هنا تعرف أنه لا إشكال في الاكتفاء بوضوء واحد للغايات المتعددة واجبة
كانت أو مندوبة، والظاهر أنه ليس من التداخل في شئ أيضا، لأن المطلوب في
الجميع رفع الحدث، وهو أمر واحد غير ممكن التعدد، فلا يتصور فيه تداخل بخلاف
الأغسال المندوبة، إذ ليس المقصود منها ذلك، ودعوى تنويع الحدث فيكون للحاجة
حدث غيره بالنسبة إلى دخول المسجد وهكذا كدعوى احتمال أن الوضوءات المندوبة
كالأغسال المندوبة مما لا يرتكبه فقيه نعم يتجه التداخل في الوضوءات التي لم يكن المقصود
منها رفع الحدث كالوضوءات الصورية ولبعض الأسباب كالقئ والرعاف ونحوهما،
لأنها من قبيل الأغسال المندوبة، لكنه موقوف على الدليل لأصالة عدمه، ويحتمل قويا
التداخل في مثل القئ والرعاف ونحوهما لمكان التداخل فيما هو أقوى منها كالبول ونحوه.
(
وكذا لو كان عليه أغسال) كفى عنها غسل واحد، من غير فرق بين ما كان
معها غسل الجنابة أو لم يكن، وبين ما تعرض في النية لجميعها أو لم يتعرض لذلك، بل
نوى الجنابة أو غيرها. (وقيل) كما عن الشيخ وابن إدريس (إذا نوى غسل الجنابة
أجزأ عن غيره) من الأغسال (ولو نوى غيره) من المس أو غيره (لم يجز عنه) أي
الجنابة (وليس بشئ) لما تسمعه، وكلام الأصحاب في المقام لا يخلو من إجمال واضطراب
فنقول وعلى الله التكلان: أن الأغسال المجتمعة أسبابها إما أن تكون واجبة فقط أو مستحبة
فقط، أو بعضها واجب وبعضها مستحب، أما الأول فلا يخلو إما أن تكون معها
جنابة أولا، فإن كان الأول فإما أن يكون المنوي الجميع تفصيلا أو الحدث من حيث
هو أو الاستباحة أو القربة أو الجنابة أو غيرها، فإن كان الأول فالظاهر من المصنف
هنا والمعتبر والعلامة في التحرير والمنتهى والمحقق الثاني في ظاهر جامع المقاصد وجملة
من المتأخرين الاجتزاء، وهو ظاهر المنقول عن المبسوط والذكرى والبيان والدروس
114

والايضاح، بل قد يلوح من الشيخ في الخلاف، والظاهر أنه المشهور، بل لم أعثر
فيه على مخالف صريح، بل عن شارح الدروس الظاهر أنه موضع وفاق، وقد يدعى
شمول ما نقل من الاجماع على الاجتزاء في المسألة الثانية له، وهي ما لو نوى الجنابة
لاشتمال نية الجميع عليها، بل في كشف اللثام أن الصحة فيها أولى من تلك، وربما
احتج عليه بصدق الامتثال، وفيه أنه مبني على أن الأصل التداخل وهو ممنوع،
بل الأصل تعدد المسببات بتعدد الأسباب كما هو المتبادر بين أهل العرف، وستعرف
تحقيقه فيما يأتي، مع أن الأخبار المستدل بها هنا على التداخل دالة بظاهرها على التعدد،
كما ستسمع.
وربما احتج عليه أيضا بأن الحدث الأكبر أمر واحد بسيط، وتعدد أسبابه
لا يقضي بتعدده، بل حاله كحال الحدث الأصغر، ففي الحقيقة لا تعدد
للأسباب كما ذكرناه هناك بل السبب أمر واحد، وهو الخبث المعنوي المسمى بالحدث،
فيكتفى بالغسل الواحد على نحو ما ذكرناه في الوضوء، وهذا إن تم لا يخص محل البحث
بل قضية التداخل القهري، وعدم جواز التعدد حتى لو نوى معينا كما ذكرناه في الوضوء
وفيه أنه وإن كان محتملا في نفسه لكنه ليس في الأدلة ما يدل عليه، وحمله على الوضوء
قياس لا نقول به، وما دل عليه في الوضوء من الاجماع المدعى هناك وغيره مفقود هنا،
والعقل لا نصيب له في ذلك، فإنه لا مانع من تعدد الأغسال بتعدد الأحداث، بل
ظاهر قوله (عليه السلام) (1): " إذا اجتمعت عليك لله حقوق أجزأ عنها غسل واحد "
وغيره ذلك، لظهور لفظ الحقوق والاجزاء فيه، كل ذلك مع ظواهر الأوامر
بالغسل للحيض والجنابة ونحوهما فيه أيضا، مضافا إلى ما يشعر به خبر عمار الساباطي (2)
قال: سألته (عليه السلام) " عن المرأة يواقعها زوجها ثم تحيض قبل أن تغتسل قال إن

(1) الوسائل الباب - 43 - من أبواب الجنابة حديث 1 - 7
(2) الوسائل الباب - 43 - من أبواب الجنابة حديث 1 - 7
115

شاءت أن تغتسل فعلت وإن لم تفعل فليس عليها شئ، فإذا طهرت اغتسلت غسلا
واحدا للحيض والجنابة " وربما احتج عليه أيضا بقوله (صلى الله عليه وآله) (1):
" لكل امرئ ما نوى " فإنه شامل لنحو المقام، وفيه أن الظاهر من ملاحظة الرواية
إرادة أمر آخر من كون الفعل لله ولغيره كما لا يخفى على الناظر لها.
وربما احتج عليه بأمور أخر واهية لا ينبغي التعرض لها، والأولى الاستدلال عليه
بالأخبار (منها) ما في خبر زرارة (2) " إذا اجتمعت عليك لله حقوق أجزأ عنك غسل واحد
قال: وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها
وعيدها " وهذا الخبر وإن كان في الكافي مضمرا إلا أنه رواه الشيخ عن زرارة عن
أحدهما (ع) ورواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب
ومن كتاب حريز بن عبد الله عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وكتاب حريز أصل معتمد
يعول عليه، و (منها) مرسل جميل (3) عن أحدهما (عليهما السلام) " إذا اغتسل الجنب بعد
طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كل غسل يلزمه في ذلك اليوم " و (منها) خبر شهاب
ابن عبد ربه (4) سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " عن الجنب يغسل الميت أو من
غسل ميتا له أن يأتي أهله ثم يغتسل؟ فقال: لا بأس بذلك، إذا كان جنبا غسل يده
وتوضأ وغسل الميت، وإن غسل ميتا ثم توضأ له أن يأتي أهله، ويجزيه غسل واحد
لهما " و (منها) الأخبار المستفيضة (5) الدالة على الاجتزاء للمرأة عن الحيض والجنابة
بغسل واحد، و (منها) خبر زرارة (6) قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): " ميت

(1) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 10
(2) الوسائل - الباب - 43 - من أبواب الجنابة - حديث 2 - 1
(3) الوسائل - الباب - 43 - من أبواب الجنابة - حديث 2 - 1
(4) الوسائل - الباب - 43 - من أبواب الجنابة - حديث 3 مع اختلاف يسير
(5) الوسائل - الباب - 43 - من أبواب الجنابة
(6) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب غسل الميت - حديث 1
116

مات وهو جنب كيف يغسل؟ وما يجزيه من الماء؟ قال: يغسل غسلا واحدا يجزي ذلك
للجنابة ولغسل الميت، لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة " والحجة بالمفهوم من
التعليل وإن كان بالنسبة للمعلل لا بد فيه من التأويل لكنه غير قادح بالاستدلال، وتتم
الأخبار المتقدمة بعدم القول بالفصل بين المجتمع مع الجنابة من الحيض أو المس أو غيرهما
ولا إشكال في دخول ما نحن فيه تحت إطلاق هذه الأخبار، لأنه المتيقن منها، وما في
بعضها من ضعف في السند أو غيره يجبر بما سمعت من ظهور الشهرة بل الاجماع عليه،
نعم قد يظهر من ابن إدريس الخلاف في ذلك، لايجابه كون الغسل للجنابة، مع
احتمال وفاقه، لأنه مع نية الجميع تدخل نية الجنابة.
ثم إن الظاهر الاجتزاء بهذا الغسل عن الوضوء بناء على عدم مدخليته في رفع
الأكبر في نحو الحيض، بل وكذا بناء عليه أيضا على تأمل فيه، بل وفي تحقق مسمى
التداخل حينئذ عرفا، لكونه (1) في متحد صورة المسبب مع تعدد الأسباب، فلعل أخبار
التداخل حينئذ مما تشعر بعدمه، بل عدم الوضوء حتى للأصغر في سائر الأغسال كما
ستعرفه في محله، لكن الأقوى ما ذكرناه أولا من عدم الحاجة للوضوء، تمسكا بما
يلوح من أخبار التداخل وبما دل على الاجتزاء بغسل الجنابة عنه، ولا فرق في ذلك
بين القول بكون الغسل البارز للخارج عن الأسباب المتعددة مصداقا لاسم كل واحد
منها كما يقتضيه القول بكون التداخل على وفق الأصل وعدمه، وإن كان الأقوى
الثاني، وذلك لأن التحقيق الذي لا مفر منه أن يقال: إن التداخل الحقيقي ممتنع عقلا
إذ لا يتصور جعل الشيئين شيئا واحدا حقيقة، وما يطلق عليه الأصحاب أنه تداخل
فالمراد أنه شبه التداخل من جهة الاجتزاء بواحد عن متعدد، وبهذه المشابهة يمتاز عن
الاسقاط، فحينئذ نقول بعد أن علمت: أن الظاهر تعدد المأمور به بتعدد الأمر، وما ذكره
بعض المتأخرين من صدق الامتثال بالواحد عن الأوامر المتعددة كلام لا محصل له مخالف
لما عليه الأصحاب، ولذا احتاجوا إلى الدليل في الخروج عن ذلك، بل لا يكتفون

(1) هكذا في النسخ حتى النسخة الأصلية، ولكن الصحيح (صورة متحد).
117

بكل دليل كما يكتفى بذلك في قطع الأصول ونحوها، بل لا بد من دليل أقوى من
ذلك الظهور، حتى نقل عن بعضهم عدم القول بالتداخل رأسا في المقام، ترجيحا
لذلك على أخبار المقام، لكن الأقوى خلافه، لكونها معتبرة الأسانيد منجبرة بالشهرة
بل بالاجماع في بعض الصور، فحينئذ يجب الاقتصار على مدلول ذلك الدليل لا يتعدى
منه، ومن المعلوم هنا أن الدليل لم يكشف عن أن المطلوب في المقام طبيعة الاغتسال، بل
أقصى ما دل أنه يجتزى بغسل واحد عن الجميع، وهو إن لم يكن ظاهرا في عدم ذلك
لم يكن ظاهرا فيه فلا يصدق حينئذ على المغتسل غسلا واحدا بنية الجميع أنه امتثال
لتلك الأوامر، نعم جعله الشارع بمنزلة ذلك، فهو غسل جنابة وحيض شرعا
لا عرفا، بمعنى أنه واحد اجتزي به عن متعدد شرعا، وجعله الشارع بمنزلتهما
فيجتزي به حينئذ عن الوضوء لكونه بمنزلة غسل الجنابة، لا أنه غسل جنابة حقيقة،
كما أنه لما كان الظاهر من الأخبار أن ذلك رخصة لا عزيمة كان المكلف بالخيار بين
الاتيان بفعلين أو بفعل واحد ناويا به الاجتزاء عنهما. وليس من باب التخيير بين الأقل
والأكثر، لأنا نشترط في الاجتزاء عن الجميع نية الجميع، إذا علمت ذلك فلا يقدح
حينئذ الاجتزاء بالواحد عن الواجب والمندوب، ولا معنى للاشكال فيه بأنه كيف يكون
الواحد واجبا مندوبا كما تسمعه في القسم الثالث، وتمام الكلام هناك إن شاء الله تعالى
وأما إن كان المنوي رفع الحدث من حيث هو من غير ذكر لتفصيل الأسباب
فالمشهور كما صرح به من عرفت سابقا الاكتفاء به، ولا حاجة إلى التعدد، أخذا بما
سمعت من إطلاق الأدلة المتقدمة، وقد صرح جملة من هؤلاء بعدم الحاجة إلى الوضوء،
وقد يشكل بأنه لا يصدق عليه حينئذ أنه غسل جنابة لعدم نيتها، فكيف يكتفى به عن
الوضوء، ويندفع بأنه يصدق عليه ذلك وإن لم ينوه، لأنه لما نوى رفع الحدث من
حيث هو وكان في جملته حدث الجنابة كان غسل جنابة وغسل غيرها شرعا بهذه النية
وإن لم يذكرها تفصيلا كما عرفت، فإن قلت: أن نية التعيين لا إشكال في اشتراطها،
118

فمع عدم التعيين كيف يقع صحيحا، قلت: أن نية رفع الحدث من حيث هو يؤول إلى
نية الجميع، وبذلك يندفع ما يقال أيضا: إن نية رفع الحدث أعم من الرفع الذي معه
وضوء أو الرفع الذي ليس معه وضوء، إذ قصد رفع طبيعة الحدث شامل لهما، كما
أنه يندفع ما يقال أيضا: أنه لو أجزأ لكان ذلك إما لانصرافه إلى غسل الجنابة وهو باطل
لاشتراك نية رفع الحدث معه ومع غيره، ولا دلالة لما به الاشتراك على ما به الامتياز،
وإما لاقتضاء نية رفع الحدث المطلق رفع جميع الأحداث وهو باطل، وإلا لأجزأ غسل
الحيض المنوي به رفع الحدث عن غسل الجنابة، والحاصل لو أثر ذلك مع الاطلاق لأثر
مع التقييد كما قلناه في البول والغائط، إذ أنت خبير بما فيه لعدم التلازم، وجعله
كالبول والغائط قياس لا نقول به.
ومن ذلك كله يظهر لك الحال فيما إذا كان المنوي الاستباحة لما يشترط فيه الغسل
من تلك الأحداث كالصلاة، وقد استشكل فيه العلامة في القواعد، لما سمعت من
الوجوه المتقدمة في نية رفع الحدث التي قد عرفت ضعفها.
وأما إذا كان المنوي القربة فقط من غير تعرض للرفع والاستباحة فلا إشكال
في الفساد بناء على اشتراط ذلك في النية، أما على تقدير العدم كما هو الأقوى فعن
الشهيد في الذكرى أنه حينئذ من التداخل، وهو الظاهر من المصنف هنا، وربما مال
إليه كاشف اللثام، وعن شارح الدروس أنه الظاهر، وكأن الحجة فيه إطلاق
الأدلة مع أصالة براءة الذمة من وجوب تعيين السبب، وكونها آثارا متعددة لا يوجب
التعيين بعد ما دل الدليل على الاكتفاء بغسل واحد لها، وفيه أنك قد عرفت أن
الأصل يقضي بالتعدد فلا يخرج عنه إلا بالدليل ويجب حينئذ الاقتصار على مدلول ذلك
الدليل، وهو هنا الأخبار وأقصى ما يستفاد منها الاجتزاء بغسل واحد عنها، وهو
لا يقضي بكون المطلوب حينئذ واحدا لا تعدد فيه أصلا، بل هو اجتزاء عن ذلك المتعدد
بواحد، وتظهر الثمرة فيما لو عصى فإنه يعاقب عليهما وفي غير ذلك، والحاصل أن
119

ذلك الاجتزاء لا يكشف عن عدم تعدد في المطلوب، فحينئذ يكون الغسل الواحد يقع
على وجهين، أحدهما الاجتزاء به عن الجميع، والثاني عن أحدهما، فمتى فقد تعيين
ذلك بطل، للزوم اشتراط نية التعيين قطعا، والظاهر الاكتفاء عن الوضوء، لما
سمعت سابقا من أنه إما غسل جنابة أو مجز عنه، وكل يقتضي الاكتفاء به عن الوضوء.
وأما إن كان المنوي غسل الجنابة فالمشهور بين الأصحاب بل يظهر من السرائر
وغيرها دعوى الاجماع على الاكتفاء عن الجميع، وربما احتج عليه ببعض ما تقدم في
صدر المبحث من كون الحدث الأكبر شيئا واحدا وإن تعددت أسبابه، فلا يقدح
نية الخصوصية كما لا يقدح نيتها في الوضوء، وقد عرفت ما فيه، وربما استدل عليه هنا
بصدق الامتثال كما وقع لصاحب المدارك وغيره، وكأن المقصود كما عن بعضهم التصريح
به أن امتثال الأوامر لا يشترط فيه إيقاع الفعل بقصد امتثالها بل إن جاء بالفعل بقصد
آخر غيرها اكتفي به، مثلا إذا قال السيد لعبده ادخل السوق، فدخله العبد لا بنية
امتثال أمر سيده بل كان لغرض آخر صدق عليه أنه جاء بالمأمور به وفرغ عن العهدة نعم
أقصى ما دل الدليل على اشتراط القربة في العبادات، فحيث يتحقق اكتفي بالفعل وتحقق
الامتثال، ففي المقام يكتفى عن غسل الحيض وإن لم يقصد بالفعل امتثال أمره، ولا يخفى
ما فيه من بحث لا يحتاج إلى بيان، مع أن قضية ذلك الاكتفاء بغسل الجمعة والزيارة
ونحوهما عن غسل الجنابة والمس وغيرهما كما نقل عنه التصريح به.
وربما استدل عليه بأن غسل الجنابة أقوى من غيره لرفع الأكبر والأصغر،
فمع نيته وارتفاعه يرتفع غيره لأنه أضعف، وفيه - مع أنه لا يرجع إلى شئ يعتمد عليه
في التكاليف الشرعية - أنه قد يقال: إن حدث الحيض أعظم ولذا يحتاج إلى غسل
ووضوء، فلا يرتفع برفع الأضعف مضافا إلى ما ورد (1) في المرأة إذا كانت في جنابة
ثم جاءها الحيض لا تغتسل فإنه قد جاءها ما هو أعظم من ذلك، وربما استدل عليه باطلاق

(1) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب الحيض - حديث 2
120

الأخبار (1) الدالة على الاجتزاء بغسل واحد فإنه شامل لما نوى به الخصوصية، وفيه -
مع أن هذا الشمول غير مطرد عندهم، لكونه في الحيض ونحوه معركة للآراء، وفي غيره
من الأغسال المستحبة الظاهر عدم الاجتزاء كما ستسمع - أن دعوى الشمول ممنوعة،
لظهور قوله (عليه السلام): (أجزأك عنها) وقوله (عليه السلام): (يجزيه لهما غسل واحد)
في قصد الفعل للجميع، مع تأيده بقوله (صلى الله عليه وآله): " لكل امرئ ما نوى "
وقوله (عليه السلام): " لا عمل إلا بنية " و " إنما الأعمال بالنيات " ونحو ذلك، وقد
عرفت أن الأصل يقضي بتعدد المسببات، فمقتضاه حينئذ الخطاب بأغسال متعددة، فلا بد
من التعيين لاشتراك الفعل بين أمور متعددة، وقولهم لا يجب نية السبب إنما هو فيما
إذا اتحد، وأقصى ما دلت عليه الأخبار إنما هو الرخصة في الاجتزاء عن هذه الأغسال
المتعددة بغسل واحد، فصار الغسل الواحد يقع حينئذ على وجهين، مجتزيا به عن الجميع
ورافعا للبعض، فلا بد للمكلف من التعيين في إيقاعه على أحد الوجهين، فمتى أوقعه لا بقصد
لم يقع لأحدهما، ولو أوقعه لأحدهما لم يقع عن الثاني كما هو واضح، كل ذا مع أن
المتيقن في الخروج عن الأصل السابق إنما هو مع قصد الجميع.
والأجود في الاستدلال عليه في خصوص الجنابة بالاجماعين المنقولين في السرائر
وجامع المقاصد، وربما يظهر من غيرهما، وما يشعر به مرسل جميل المتقدم (2) عن أحدهما
(عليهما السلام) " إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كل غسل
يلزمه في ذلك اليوم " وقد يستدل بما دل (3) على أن غسل الجنابة لا وضوء معه، وذلك
لأنه لا معنى للقول بأن هذا الغسل لا يجزي عن الجنابة، بل قد يقال: أنه مخالف للاجماع،
إذ هو حدث مخاطب برفعه، وهو يقتضي إمكانه مع أن الأمر بالاغتسال للجنابة شامل
له فيقتضي الاجزاء، وقد دلت الأدلة على أن غسل الجنابة متى تحقق لا وضوء معه،

(1) الوسائل - الباب - 43 - من أبواب الجنابة - حديث - 2
(2) الوسائل - الباب - 43 - من أبواب الجنابة - حديث - 2
(3) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب الجنابة
121

فهو يقتضي رفع الحدث الأصغر حينئذ، وهو لا يمكن مع بقاء الأكبر لدخوله في ضمنه
حينئذ، فلا بد من القول بارتفاعه حينئذ تحقيقا لما دل على ذلك، ودعوى إيجاب غسل
الجنابة مؤخرا عن سائر الأغسال التزام بما لا يلتزم، واحتمال القول بامكان انفكاك
الأصغر عن الأكبر كما يقتضيه الوضوء للحائض وغيرها مقدما على الغسل يمكن دفعه بأن
يقال: إن جواز تقديمه لا يقضي برفعه الأصغر، إذ قد يكون رفعه ذلك موقوفا على حصول
الغسل وإن لم يكن للغسل مدخلية في رفع الأصغر، بل هو رافع للمانع الذي هو الحدث
الأكبر وبعد رفعه يعمل المقتضي حينئذ أثره والتزام مثله في المقام بعيد عما دل على أجزاء
غسل الجنابة عن الوضوء، فتأمل. فظهر لك أن القول بارتفاع الجميع فيما نوى الجنابة لا يخلو
من قوة، ولعله لما ذكرنا من الوجه الأخير لا يفرق حينئذ بين ما لم ينو عدم رفع الباقي
أو نوى العدم، ولولاه لكان الفرق متجها، لعدم ظهور الاجماعين المتقدمين والرواية
في الشمول له، فتأمل.
أما لو نوى غيره من الحيض أو المس فالأظهر عدم الاجتزاء عن غيره كما صرح
به في السرائر، ونقله في كشف اللثام عن الشرائع واللمعة، ومحتمل عبارتي المبسوط
والجامع، قلت: ويظهر من السرائر دعوى الاجماع عليه، وجزم به العلامة في القواعد
مع عدم ضم الوضوء، واستشكل به معه، وقال المصنف في المعتبر: " وإن نوت
الحيض خاصة فعلى تردد، أشبهه الاجزاء، وفي إيجاب الوضوء معه تردد، أشبهه أنه
لا يجب " وكيف كان فهنا أمران الأول ارتفاع حدث الحيض نفسه، والثاني إجزاؤه
عن غيره، أما الأول فربما ظهر من بعضهم عدمه، واستشكل فيه العلامة في التذكرة،
قال ما نصه: " فإن نوت الجنابة أجزأ عنهما، وإن نوت الحيض فاشكال ينشأ من عدم
ارتفاعه مع بقاء الجنابة لعدم نيتها، ومن أنها طهارة قرنها الاستباحة، فإن صحت
فالأقرب وجوب الوضوء، وحينئذ فالأقرب رفع حدث الجنابة لوجود المساوي في
الرفع " انتهى
122

قلت: الظاهر حصول رفع الحدث المنوي به، وذلك لشمول ما دل على وجوبه
للمقام، وإيجابه يقضي بامكانه، وامتثاله يقتضي إجزاءه، ولقوله (صلى الله عليه وآله):
" لكل امرئ ما نوى، وإنما الأعمال بالنيات " وما ذكره العلامة من أنه لا يرتفع مع
بقاء الجنابة محل منع، إذ هي أسباب لمسببات مستقلة، واجتزاء الشارع بغسل واحد لها
لا يقضي بتلازمها، وعلى تقديره فليرتكب رفع الجميع حينئذ أولى، ولعل وجه عدم
الاجتزاء به عنه الأخبار الآمرة بجعله غسلا واحدا فلا يجوز التعدد، وقضية ذلك في
الفرض، إما البطلان فيهما أو رفع الجميع لا سبيل للثاني، لعدم ظهور دخول هذا الفرد
أي المقتصر فيه على نية الحيض خاصة في مدلولها، مع معارضتها حينئذ بغيرها، كما
تقدم سابقا فيما لو نوى الجنابة، فتعين البطلان حينئذ، وفيه أنه لا جابر للأخبار في
خصوص ذلك، وكون الأمر المذكور ليس بصيغته بل هو بالجملة الخبرية، وإرادة
الوجوب منها هنا محل منع لورودها في مقام تخيل المنع، والتعبير بالأخبار الأخر بلفظ
يجزي ونحوه المشعر بعدم التعيين، كل ذا مع أنه قضية الأصل السابق القاضي بكون
التداخل رخصة لا عزيمة ومن ذلك كله ظهر لك الأمر الثاني، وإن الأصح فيه عدم
الاجزاء مطلقا، سواء ضم الوضوء أو لم يضم، لما عرفته سابقا فيما لو كان المنوي الجنابة
وما استجودناه في الاستدلال هناك من الاجماع المدعى سابقا والاستغناء عن الوضوء ونحو
ذلك لا يتأتى هنا، إذ ربما ادعي الاجماع هنا على العكس، كما أنه لا يستغنى به عن
الوضوء على الأصح، نعم يمكن الاستدلال بما ذكرناه أخيرا هناك بناء على ما نقل عن
المرتضى (رحمه الله) من أن غير الجنابة كالجنابة في الاستغناء عن الوضوء، وما يقال:
بأنه لو لم يكتف بغسل الحيض عن الجنابة مثلا عند اجتماعهما لم يكن لوجوب غسل الحيض
فائدة أصلا، وكان وجوده كعدمه وهو باطل، وذلك لأن وجوب الغسلين إما بمعنى
جمعهما معا أو التخيير بينهما على أن يجزي كل منهما عن الآخر أو المعتبر إجزاء أحدهما
خاصة دون العكس، والأول معلوم البطلان والثاني المطلوب، والفرض بطلانه فتعين
123

الثالث، وحينئذ فلا يكون لوجوب ذلك الآخر فائدة، لأنه لو أتى به لم يكن مجزيا
ولو أتى بغيره أجزأه عنه، وربما قرر هذا الدليل بوجوه أخر فيه من الفساد ما لا يخفى،
فإن الاجتزاء به عن نفسه يكفي في فائدته، وإجزاء غيره عنه لا يسقط ذلك، على أن
وجوبه ليس منحصرا مع الجنابة.
وذكر بعضهم في المقام أدلة واهية لا طائل في التعرض لها، منها ما ذكر في توجيه
كلام العلامة من القول بالارتفاع مع ضم الوضوء وعدمه مع العدم بأنه على تقدير الضم
يكون مساويا لغسل الجنابة بخلافه مع العدم، وفيه أن التحقيق أن الوضوء إنما هو لرفع
الأصغر، فكيف يتصور فيه رفع حدث الجنابة، وأيضا بعد فرض أن حدث الجنابة
لم يرتفع بالغسل فالوضوء بمجرده لا يصلح لذلك قطعا، وما يقال: إن الأدلة دلت على
أن غسل الحيض مثلا مع الوضوء كاف في استباحة الصلاة فيه أنها ظاهرة فيما لو كان
المانع الحيض، نعم ربما يتم لو قلنا أن غسل الحيض والوضوء معا رافعان للحدث أصغر
وأكبر لا على التوزيع أمكن القول بالاجتزاء حينئذ، فتأمل.
القسم الثاني (1) أن لا يكون معها جنابة، فإن نوى الجميع أو الحدث أو
الاستباحة ارتفع الجميع، وفي نية القربة ما تقدم ولو نوى أحدها اختص به على التحقيق،
خلافا لما يظهر من بعضهم، ويظهر لك الوجه في جميع ذلك من التأمل فيما تقدم،
ومقتضى إطلاق النص والفتوى عدم الفرق بين غسل الاستحاضة وغيرها في جميع ما تقدم
من غير فرق بين غسلها للانقطاع والبرء إن أوجبناه وبين غسلها لاستباحة الصلاة،
واحتمال الفرق في الثاني لو جامع الجنابة مثلا لمكان بقاء الحدث فهو مبيح لا رافع بخلاف
غسل الجنابة ضعيف، وذلك لامكان نية الاستباحة الجامعة لها مع أنه لا مانع من نيته رافعا
مبيحا، وأيضا فالإباحة رفع في الحقيقة عند التأمل. إن لم يكن عاما، كل ذلك لاطلاق

(1) أي الثاني من القسم الأول لأنه (قدس سره) قال: (أما الأول: فلا يخلو إما
أن تكون معها جنابة أولا)
124

الأدلة، نعم قد يقال: بعدم الاكتفاء لو كان المنوي رفع الحدث مثلا، فتأمل
القسم الثاني أن تكون كلها مستحبة، فقيل لا يجزي غسل واحد عنها مطلقا،
وقيل يجزي مطلقا وقيل بالاجزاء مع نية الجميع، أما لو اقتصر على نية البعض فلا يجزي
عن غير المنوي، ولو اقتصر على نية القربة من دون تعيين للسبب كلا أو بعضا فلا
يجزي عن شئ منها، وربما فصل بعضهم بانضمام الواجب معها وعدمه، فحكم بالتداخل
في الأول بخلاف الثاني.
حجة الأول الأصل أي الظاهر المستفاد من تعدد الأوامر بالغسل، وفيه أنه يجب
الخروج عنه بما هو أقوى منه من الأخبار المعتبرة التي ستسمعها، وقوله (صلى الله عليه وآله):
" لكل امرئ ما نوى، وإنما الأعمال بالنيات " ونحوها، وأن الإطاعة والامتثال
لا يحصلان إلا بقصدهما، مع أن نية التعيين لا إشكال في شرطيتها وفي توقف الامتثال
عليها، وفيه أن جميع ذلك متجه مع عدم نية الجميع، وأما معها فلا بل قد يكون بعض
ما ذكر من أخبار النية شاهدا.
حجة الثاني صدق الامتثال وهو مبني على أصالة التدخل، وقد عرفت ما فيه،
والأخبار (منها) ما رواه الكليني في الحسن كالصحيح (1) عن زرارة قال (عليه
السلام): " إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والحجامة وعرفة
والنحر والحلق والذبح والزيارة، فإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأ عنك غسل واحد،
قال: ثم قال: وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من
حيضها وعيدها " وعن الشيخ روايته في التهذيب مسندا عن أحدهما (عليهما السلام)،
ورواه ابن إدريس من كتاب حريز عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
وكتاب حريز أصل معتمد معول عليه، ورواه الشيخ في الخلاف أيضا عن زرارة عن

(1) الوسائل - الباب - 43 - من أبواب الجنابة - حديث 1
125

أحدهما (عليهما السلام) وفي رواية الشيخ وابن إدريس والجمعة بدل الحجامة ولعله الصواب،
وبذلك ظهر لك أنه لا وجه للطعن في الرواية من جهة الاضمار، على أن الظاهر أنه ليس
قادحا سيما إذا وقع من مثل زرارة الذي عرف أنه لم يرو إلا عن الإمام (عليه السلام)
وأنه من أصحاب الاجماع، وأيضا قد صرح الكليني في أول كتابه أن جميع ما فيه من
الروايات الصادرة عن الصادقين (عليهم السلام) وبظهور إرادة التمثيل من الرواية، وعدم
القول بالفصل يتم الاستدلال، وما يقال -: أنه قد دلت على حكم المستحب حيث يكون
معه واجب، مع ظهور لفظ عليك والاجزاء في الواجب - فيه أنه لا يخفى أن ذكر
الجنابة والحيض لا يراد منه الشرطية، بل المقصود لو كان عليك ذلك فهو كذكر غيره
ولفظ عليك والاجزاء لو سلمنا ظهورهما في ذلك لكن لا يراد منهما هنا، لتعداد المستحب
في صدرها كما هو واضح. و (منها) مرسلة جميل (1) عن أحدهما (عليهما السلام) أنه
قال: " إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأ عنه ذلك الغسل من كل غسل يلزمه
في ذلك اليوم " وعن الحدائق أن مثلها رواية عثمان بن يزيد عن الصادق (عليه السلام) (2)
قال: " إن اغتسل بعد الفجر كفاه غسله إلى الليل في كل موضع يجب فيه الغسل،
ومن اغتسل ليلا كفاه غسله إلى طلوع الفجر " قال: " واستظهر بعض مشائخنا المتأخرين
أن عثمان بن يزيد تصحيف عمر بن يزيد بقرينة رواية عذافر عنه " انتهى.
وقد يستدل عليه أيضا بالتعليل المتقدم في خبر زرارة (3) " بأنهما حرمتان اجتمعتا
في حرمة واحدة " قلت: والاستدلال بجميع ذلك على الاطلاق محل منع، وذلك أما
الرواية الأولى فالمتيقن منها مع قصد الجميع كما ذكرناه في تداخل الواجبة بقرينة قوله
(عليه السلام): (أجزأها) وقوله (عليه السلام): (يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها)

(1) الوسائل - الباب - 43 - من أبواب الجنابة - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الاحرام - حديث 4 من كتاب الحج
(3) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب غسل الميت - حديث 1
126

إلى آخره. ولو سلمنا عدم ظهوره فهو معارض بما دل على أن (الأعمال بالنيات ولكل
امرئ ما) وبأن نية التعيين يتوقف عليها صدق الامتثال، وبأن الامتثال متوقف
على قصده: وأيضا لو أخذ بهذا الاطلاق لكان التداخل فيها عزيمة لا رخصة، وهو
مخالف لظاهر قوله (عليه السلام): (أجزأك) ونحوه وما يقال -: إن الأغسال المندوبة
كالوضوءات المندوبة، فإن الوضوء بقصد غاية من الغايات مجز بالنسبة إلى غيرها فكذلك
الغسل المندوبي أيضا - فيه أما أولا فإنه قياس، وثانيا فالفارق موجود، وذلك لكون
المطلوب هناك شئ واحد، وهو رفع الحدث الأصغر، فبعد فرض رفعه بقصد غاية
من الغايات يجتزى به، لعدم تصور رفعه مرة أخرى، وأيضا فالتحقيق أن من توضأ
بقصد غاية من الغايات لم يصدق عليه امتثال الأمر بالنسبة إلى غيرها، نعم لو وقع
غيرها مقارنا لذلك الوضوء أعطي ثواب إيقاع تلك الغاية على طهارة، مثلا من توضأ
بقصد قراءة القرآن ولم يخطر بباله دخول المساجد مثلا بل لم يعلم باستحباب الوضوء لها
فإنه لا يعد ممتثلا بالنسبة للأمر بهذا الوضوء لهذه الغاية، لكن لو دخله متطهرا أعطي
ثواب ذلك، لما يفهم من الأدلة من استحباب دخوله على هذا الحال وإن لم يكن بقصد
الفعل له.
ثم إن ذلك كله ارتكب في مثل الوضوء لظواهر الأدلة فلا يتسرى إلى غيرها،
فما يقال -: إن المستحب مثلا إنما هو الزيارة على غسل سواء كان ذلك الغسل لها أو لغيرها -
لا يصغي إليه، إذا ليس في الأدلة ما يقتضيه، ومجرد إمكانه لا يصلح محققا لثبوته،
على أنك قد عرفت أنه خروج عن محل النزاع، ومثله ما يقال: إن المقصود من الغسل
التنظيف، وهو حاصل على كل حال، فيكون كرفع الحدث في الوضوء وذلك لعدم
ثبوته، وعلى تقديره فهو حكمة لا يخالف لأجلها ظواهر الأدلة.
وأما مرسلة جميل فهي لا جابر لسندها في خصوص المقام، بل الشهرة المركبة
الحاصلة من نفي التداخل رأسا، واشتراطه بنية الجميع على خلافها، مع إشعارها
127

بكون الغسل للجنابة، وظهور قوله (عليه السلام): (يلزمه في ذلك اليوم) في كون المجزى
عنه إنما هو الواجب، وما يقال: إنه لا معنى لذلك، لكون الأغسال الواجبة مسببات
لأسباب خاصة، ولا معنى لتقديم المسبب على السبب، وقوله (عليه السلام): (يلزم)
ظاهر في التجدد، فلا بد من حمله حينئذ على الأغسال المندوبة، فيجتزى حينئذ بالغسل
بعد طلوع الفجر عن كل ما يستحب له الغسل في ذلك اليوم وإن تجدد. وفيه - مع أنه
أيضا يلزم منه تقديم المسبب على السبب حينئذ - أنه ليس أولى من جعل ذلك قرينة على
إرادة الماضي من قوله (عليه السلام): (يلزمه في ذلك اليوم) بل يؤيده قوله (عليه السلام)
في الخبر المتقدم: (إذا اجتمعت) إلى آخره، لظهورها في شرطية الاجتزاء بالاجتماع، وهو
دال بمفهومه على العدم مع عدم الاجتماع، وهو ينافي الاجتزاء عن متجدد السبب فيها،
ومن هنا استدل بها العلامة على تداخل الأغسال الواجبة لظهور قوله (عليه السلام):
(يلزمه) فيه، ومما ذكرنا يظهر لك إنا وإن قلنا بالاجتزاء بغسل واحد عن الجميع مع
نية ذلك إلا أنه لا بد من الاجتماع، فلا نجتزي بالنسبة إلى المتجدد وإن نوى الاغتسال
عن كل ما يستحب له الغسل في هذا اليوم من الحاضر والمتجدد. ثم إنه إن سلمنا كون
الرواية المذكورة في الأغسال المستحبة فمقتضى الجمع - بينها وبين قوله (صلى الله عليه وآله):
(إنما الأعمال بالنيات) وما دل على شرطية التعيين وقصدية الامتثال ونحو ذلك - حملها
على إرادة نية الجميع.
وأما رواية عثمان بن يزيد فهي مع الغض عن سندها يجري فيها كثير مما تقدم،
لكنها أظهر من سابقتها في إرادة الأغسال المستحبة، كما هو مقتضى قوله (عليه السلام)
فيها: (إلى الليل) و (إلى طلوع الفجر) ويحمل قوله (عليه السلام): (يجب) على إرادة
الثبوت، فلا ينافي إرادة المستحب، لكن الظاهر إرادة الماضوية، فلا تفيد بالنسبة
للمتجدد كما عرفت. ومما ذكرنا يظهر لك ما في الاستناد إلى التعليل المتقدم، فلا مانع
128

من أن يراد به ذلك أيضا، وإذ قد عرفت بطلان القول بعدم التداخل مطلقا والقول
به مطلقا كان المتعين التفصيل لكن بشرط اجتماعها دون المتجدد منها، نعم قد يقال: إنه
لا يشترط نية الجميع تفصيلا، بل يكفي النية الاجمالية في الجملة.
القسم الثالث أن يكون بعضها واجبا وبعضها مستحبا، والأقوى الاجتزاء فيه
أيضا بغسل واحد مع نية الجميع، فهنا مقامات الأول التداخل مع الفرض المذكور، وبه
صرح المصنف في المعتبر، ووافقه جملة من متأخري المتأخرين، وفي ظاهر القواعد
والإرشاد وصريح جامع المقاصد كما عن صريح التذكرة عدم التداخل، لنا الاجماع المنقول
في الخلاف على الاجتزاء بغسل واحد للجنابة والجمعة مع نيتهما، وحسنة زرارة المتقدمة
ومرسلة جميل وعثمان بن يزيد المتقدمة في وجه، وهو حمل الوجوب واللزوم فيهما على
ما يشمل الواجب والمستحب، لكن فيه إشكال في خصوص خبر عثمان بن يزيد والتعليل
المتقدم (بأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة) فما يقال -: من أنه لا دليل على التداخل
وليست كالأغسال الواجبة، لأن المطلوب بها الرفع أو الاستباحة وهو أمر واحد،
بخلاف هذه - فيه ما لا يخفى، كالقول بأنهما مختلفان بالوجوب والندب، وهما متضادان
لا يجتمعان في محل واحد، والشيعة متفقون على عدمه كالواجب والمحرم وإن اختلفت
الجهة، وذلك لما تقدم لك في أول البحث أن التحقيق أن المراد بالتداخل هنا إنما هو
الاجتزاء بفعل واحد عن الفعلين، وليس هذا الفرد الموجود في الخارج الذي تحقق به
الاجتزاء مصداقا للكليين حتى يلزم ما سمعت، بل هو أمر خارج عنهما، فهو من
قبيل فرد لكلي آخر، قال الشارع: إني أجتزي به عن الواجب والمندوب، لكن
لما كان مشابها في الصورة سمي بالتداخل، وإلا فهو ليس غسل جنابة وغسل جمعة ليرد ذلك.
فإن قلت: إنا نسأل عن هذا الغسل الموجود في الخارج أهو مستحب أم واجب
أو مستحب وواجب، قلت: هو حيث يقوم مقام الأغسال الواجبة، فهو أحد فردي
الواجب المخير بمعنى أن المكلف مخير بين أن يأتي بالفعلين أو بالفعل الواحد المجزي عنهما
129

وحيث يقوم عن الواجب والمندوب فهو مندوب محضا، لأنه يجوز تركه لا إلى بدل،
وذلك لأنه بدله الواجب والمستحب جمعيا، ويجوز للمكلف الاقتصار على الواجب
فقط، وهو ليس بدلا عنه، فكان يجوز تركه لا إلى بدل، فلا يكون واجبا فينوي
حينئذ بناء على اشتراط نية الوجه الندب فيه مع نية الاجتزاء به عن الجميع الواجب والندب
وعلى عدم الاشتراط ينوي القربة مع نية الاجتزاء به عن الجميع، لا يقال: إنهم صرحوا
بأن الندب لا يجزي عن الواجب، بل لا يجوز أن يرد فيه دليل، وذلك لأن الأحكام
الشرعية عندنا معلومة لمصالح واقعية، ولا ريب في تباين المصلحتين، لأنا نقول: لا مانع
من اشتمال الندب على مصلحة الواجب لكن وجد المانع من اقتضائها الوجوب، ووجود
المانع لا ينقضها، بل هي باقية على حالها، ويكشف عن ذلك الدليل، نعم بعد فرض
عدم الدليل عليه لا نقول به، لعدم علمنا كيفية مصلحة الندب، كما يشير إلى ذلك قوله
(صلى الله عليه وآله) (1): " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك " وغيره فتأمل.
وأما ما ينقل عن بعضهم - من دفع هذا الاشكال بعدم وجوب نية الوجه - ففيه
ما لا يخفى إذ ليس الاشكال في النية إنما هو في الاجتماع في الشخصي الخارجي، وهذا
لا يرفعه، ويظهر من بعضهم دفع هذا الاشكال بأن المراد بتداخل الواجب والمستحب
تأدي إحدى الوظيفتين بفعل الأخرى، كما تؤدى صلاة التحية بقضاء الفريضة وصوم
الأيام المسنونة بقضاء الواجب ونحو ذلك، لظهور تعلق الغرض بمجرد الماهية على أي
وجه اتفق، فيكون المقصود من غسل الجمعة مثلا غسل هذه الأعضاء على الوجه المعتبر
في هذا اليوم وإن تحقق في ضمن الواجب مثل غسل الجنابة وغيره، فلا يرد أن ذلك
ممتنع لتضاد وجهي الوجوب والندب، إذا لواقع إنما هو الغسل الواجب خاصة لكن
الوظيفة المسنونة تأدت به لصدق الامتثال، ولما سمعت من الأخبار، بل عن بعضهم
التصريح أنه تحصل الوظيفة وإن لم يقصدها، ولا مانع من إعطاء الثواب بذلك، وله

(1) الوسائل الباب - 3 - من أبواب السواك - حديث 4
130

نظائر. وفيه أن ما ذكره ممكن في ذاته لكنه إن أراد أن ذلك مقتضى الأصل والظاهر
في كل ما اجتمعت فيه الأسباب الشرعية حتى يدل الدليل على خلافه كما يقضي به
تعليله بصدق الامتثال، بل عن بعضهم التصريح به، وبأن قولهم الأصل تعدد المسببات بتعدد
الأسباب كلام خال عن التحصيل. ففيه أنه مخالف لما يظهر من كلام الأصحاب في
جميع أبواب العبادات والمعاملات من البناء على تعدد المسببات بتعدد الأسباب، وادعى
بعضهم الاتفاق عليه وهو كذلك، وكان هو المتمسك لهم في كثير من المقامات،
بل يرسلونه إرسال المسلمات، ولم يخرجوا عنه إلا بدليل، بل قد يطرحون في معارضته
النصوص ويتركون الظواهر كما نقل عن بعضهم من إنكار التداخل في الأغسال، مع
ما سمعت من ورود الروايات، ومخالف لما يقضي به الاستقراء في جميع أبواب الفقه من الصلاة
والزكاة والحج والصيام والأيمان والنذور والديون والحدود وغيرها عدا النزر القليل المستند
إلى ما جاء فيه من الدليل على اختلاف في كثير من أفراده، ومخالف لما هو المتبادر من
الاختصاص المقتضي للتعدد، فإن المفهوم من قوله (صلى الله عليه وآله) (1): " إذا
تكلمت في الصلاة فاسجد سجدتي السهو " أن السجود لخصوص التكلم، وقوله (عليه
السلام): " إذا شككت بين الأربع والخمس فاسجد سجدتي السهو " أن يجب عليه سجود
آخر للشك، وإن شئت فاستوضح ذلك بمثل ما إذا قيل إن جاءك زيد فأعطه درهما،
وإن سعى لك في حاجة فأعطه درهما وقد جاءك وسعى في حاجتك فإنك لا تشك في
أنه يستحق بذلك درهمين، أحدهما بمجيئه والآخر بسعيه كما هو واضح، واستوضح
في الجعالات ونحوها، وأيضا لا إشكال في اقتضاء هذه الأسباب مسبباتها عند الافتراق
فكذا عند الاجتماع لأن الدليل الدال على سببيتها متحد الدلالة، إذ هو بعبارة واحدة
شاملة للحالين، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة عليه التي يطول الكلام بذكرها.
فإن قلت: أن نية الضمائم الراجحة التي صرح الأصحاب بعدم منافاتها للعبادة

(1) المستدرك الباب - 4 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة من كتاب الصلاة
131

كلها من هذا القبيل، قلت: لو سلمنا لقلنا أنه موقوف على الدليل أيضا، ومقصود
الأصحاب بصحتها هناك إنما هو عدم منافاتها للقربة، فلا يفسد العبادة ضمها من هذه
الحيثية لا أن المقصود جواز ضمها على كل حال، مثلا لو ضم إلى نية التقرب في الصوم
الواجب إصلاح بدنه مثلا أو كسر شهوته أو نحو ذلك كان لا بأس به، لأنه بعد
أن علم أن قصد إصلاح البدن أو كسر الشهوة يتحقق على أي حال كان في الواجب
وغيره جاز مثل ذلك فتأمل، وإن أراد أن ذلك لمكان الأدلة في المقام الدالة على الاجتزاء
بغسل واحد ففيه أن قصارى ما يستفاد منها الاجتزاء بغسل واحد للجميع وهو أعم من
ذلك، ومما ذكرنا سابقا بل ظاهر قوله (عليه السلام): (حقوق) خلافه، كظهور
قوله (عليه السلام) (أجزأها) في أن ذلك رخصة، فيفيد بقاء التعدد حينئذ، لا يقال:
إن حمل الدليل على ذلك أولى مما ذكرت، لما فيه من بقاء الامتثال وصدق الإطاعة
لتلك الأوامر ونحوها، فإنه على ما ذكرت من المراد بالتداخل ليس فيه امتثالا لتلك الأوامر
لأنا نقول: إن في كلا الأمرين مخالفة للظاهر، أما على ما ذكرنا فلعدم تحقق الامتثال
لتلك الأوامر، ولظهور الأوامر في المطلوب العيني دون التخييري، وأما على ما ذكره
الخصم فلمخالفته لظهور التعدد المستفاد منها الذي قد عرفت أنه مجمع عليه في سائر
المقامات، ولا ريب أن مراعاة هذا الظهور أولى، بل في الحقيقة الظهور الأول
يستفاد حيث لا دليل، لا إنه مفهوم لفظ بحيث يعارض الدليل بخلاف ما ذكرنا، وأيضا
قد عرفت أن ما دل على التداخل ظاهر في التعدد هنا، وأن ذلك رخصة فيجب حينئذ
الاقتصار على هذا المقدار والبقاء على مقتضاه في غيره هذا. وفي الذكرى في المقام أي
فيما لو اجتمع الواجب والندب يشكل من حيث تضاد وجهي الوجوب والندب إن
نواهما معا، ووقوع عمل بغير نية إن لم ينوهما، إلا أن يقال: نية الوجوب تستلزم نية
الندب لاشتراكهما في ترجيح الفعل، ولا يضر اعتقاد منع الترك، بل هو مؤكد للغاية
كالصلاة على جنازتي بالغ وصبي لدون ست، بل الصلاة الواجبة
132

ويقرب منه ما عن الشهيد الثاني قال بعد أن نقل عن جماعة من الأصحاب الاجتزاء
مع نية الجميع: " ولا يخلو من إشكال لتضاد الوجه واعتبار نية السبب، ويمكن سقوط
اعتبار نية السبب هنا ودخوله تحت الوجوب، كما في الأذكار المندوبة خلال الصلاة
الواجبة والصلاة على جنازتي من زاد على الست ونقص عنها " انتهى. وفيه أن دخول
العبادة المستقلة المندوبة تحت عبادة أخرى مستقلة أيضا منويا فيها الوجوب ممنوع أشد
المنع، وإن استندا في ذلك إلى الدليل رجع حينئذ إلى الاسقاط، كما أن ما ذكر من
المثال بالأذكار المندوبة خلال الصلاة الواجبة قياس مع الفارق، أما أولا فلكون
ذلك من الأجزاء لا من العبادات المستقلة، وأما ثانيا فلأنه قد يدعى أن الفرد المشتمل
على الأذكار المندوبة من جملة أفراد الواجب المخير بالنسبة إليها، وإن جاز ترك المندوب
فإنه انتقال إلى فرد آخر، فلا ينافيه نية الوجوب حينئذ، وأما ما ذكر من المثال
بالصلاة على الجنازتين ففيه أنه إن لم يدل دليل عليه محل للاشكال أيضا، ودعوى الدخول
فيه ممنوعة، كمنع ما ذكره الأول من أنه لا يضر اعتقاد منع الترك لأنه مؤكد،
إذ كيف لا يقدح مع كونه فصلا مميزا للفعل عن جائز الترك، فتأمل جيدا. وفي الذخيرة
في دفع الاشكال ما هذا لفظه: " الأقرب أن يقال لما دل الدليل على إجزاء غسل واحد
عنهما يلزم أن يقال إحدى الوظيفتين تتأتى بالأخرى بمعنى أنه يحصل له ثوابها وإن لم
يكن من أفرادها حقيقة، كما تتأدى صلاة التحية بالفريضة والصوم المستحب بالقضاء،
أو يقال: ما دل على استحباب غسل الجمعة مختص بصورة لا يحصل سبب الوجوب، والمراد
من كونه مستحبا أنه مستحب من حيث كونه غسل الجمعة مع قطع النظر عن طريان
العارض المقتضي للوجوب " انتهى. وفيه أن ما ذكره أولا مخالف لمراد أصحابه،
لتصريحهم بكونه من أفراده، وأن المراد بغسل الجمعة جريان الماء على الأعضاء قربة
وإن كان في ضمن الواجب.
ثم إنه مع نيتهما معا كما هو الفرض تأدية إحداهما بالأخرى إن كانت مخصوصة
133

فهو ترجيح بلا مرجح، وإن كانت على الابهام لا معنى له، بل لا يخفى ما في كلامه
الأخير بحيث لا يحتاج إلى بيان، نعم ربما يقال في دفع أصل الاشكال: بأنه لا مانع من
اجتماع الوجوب والندب في شئ واحد من جهتين بمعنى أن يكون فردا لكليين أحدهما
متعلق الوجوب والآخر متعلق الندب، وذلك لاختلاف متعلقهما حقيقة، لكن فيه
أن الامتثال وقع في الشخص الموجود في الخارج وهو لا تعدد فيه، وإن جاز ذلك هنا
فليجز في الواجب والمحرم كذلك، وهو ليس من مذهبنا، وإن جنح إليه بعض
المدققين من أصحابنا لهذه الشبهة، وللكلام معه مقام آخر.
وقد يقال في دفع أصل الاشكال: أنه نمنع التنافي في اجتماع الواجب والمندوب
بمعنى اشتمال الفعل على مصلحة الواجب والندب، إذ مصلحة الندب ليس مأخوذا في
مفهومها جواز الترك حتى تنافي مصلحة الواجب ولا هو من مقتضياتها، بل المراد أن الفعل
مشتمل على مصلحة لم توصله إلى حد الالزام به، فجواز الترك في المندوب من أصل
الأفعال فلا ينافي اشتماله على مصلحة توصله إلى حد الالزام بالعارض، وقول الفقهاء
إن الواجب والمندوب متنافيان يراد به ما لو كان أصل الفعل موضوعا على ذلك، أو يراد
به مع ملاحظة الحيثية، واستوضح ذلك في نية الضمائم المندوبة مع الواجب، فإنه لا يعرف
من أحد الاشكال فيها، فيكون معنى اجتماع الواجب والمندوب حينئذ أنه قد يحصل
فعل جامع للمصلحتين إحداهما مصلحة الواجب والأخرى مصلحة الندب بمعنى أنها
حيث تكون منفردة لا توصل الفعل إلى حد الوجوب والالزام فتأمل. ومما ذكرنا يظهر
لك دليل القول بعدم التداخل في الفرض وجوابه.
المقام الثاني أن ينوي الجنابة، وقيل باجزائه عنه وعن الندب، كما في الخلاف
والسرائر وعن المبسوط، واختاره جماعة ممن تأخر عنهما، بل قيل الظاهر أنه المشهور
بل يظهر من السرائر دعوى الاجماع عليه، وكأن مستنده إطلاق الأدلة، بل قد
يشعر به مرسلة جميل، وجنح إليه بعض متأخري المتأخرين معللين بما سمعت من أصالة
134

التداخل، أو لما يظهر من أدلة غسل الجمعة ونحوها أن المراد حصول جريان الماء على
هذه الأعضاء في هذا اليوم وإن كان لرفع جنابة، لكن في الكل نظر، أما الاطلاق
فلما تقدم سابقا، مع أنه غير مساق لبيان ذلك، بل هو معارض بالأصل وبمثل قوله
(عليه السلام) (1): " لا عمل إلا بنية " و " إنما الأعمال بالنيات " (2) و (ليس
للانسان إلى ما سعى) (3) ونحو ذلك، بل قد عرفت أن التداخل رخصة لا عزيمة، ومقتضاه
جواز التعدد، فيكون الفارق بين الغسل المجزي لواحد وبين ما يجزي للجميع النية،
لتوقف التعيين عليها، وقصره على نية العدم بعيد، وأما ما أشعرت به مرسلة جميل
المتقدمة ففيه مع ما عرفت من عدم وضوح متنها محمولة على إرادة نية الجميع، ومثله غيره،
والاجماع المدعى في السرائر - مع أنه ليس بصريح في ذلك - معارض بما عرفت
أيضا، كمعرفتك فساد الأصل المتقدم، وأنه ليس في الأدلة ما يقتضي كون المراد
بغسل الجمعة كذلك، بل هي ظاهرة في خلافه، ولهذا ذهب جملة من الأصحاب منهم
المصنف والفاضل والكركي في ظاهر المعتبر والقواعد والإرشاد وصريح المنتهى والتذكرة
وجامع المقاصد، وربما يشعر به غيرها، ووافقهم عليه جملة من أساطين العصر
وما قاربه كالسيد المهدي في منظومته والأستاذ المعتبر الشيخ جعفر في كشفه والآغا
في شرحه على المفاتيح على ما نقل عنه إلى عدم الاجتزاء تمسكا بما سمعت، فيبقى
الاستصحاب أي استصحاب الخطاب به سالما عن المعارض، وهو الذي يقتضيه الاحتياط
بل هو الأقوى وإن كان الأول لا يخلو من وجه، والظاهر أنه بناء على الاجتزاء
بالجنابة لا فرق بينها وبين غيرها من الواجبات كغسل الحيض ونحوه، وربما ظهر من
بعضهم كابن إدريس في السرائر والفاضل الهندي وغيرهما اختصاص ذلك بالجنابة،
ولعله لما في صدر حسنة زرارة المتقدمة، ولأن غسل الجنابة له مزية على غيره، ولما

(1) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 1 - 10
(2) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 1 - 10
(3) سورة النجم - الآية 40
135

يظهر من ابن إدريس من أن العمدة في ذلك الاجماع، لكنك خبير أنه بناء على أن
منشأ الاجزاء هو كون المراد من غسل الجمعة مثلا حصول الغسل ولو في ضمن الواجب
كالصوم في الأيام البيض، أو أنه إطلاق قوله (عليه السلام): (إذا اجتمعت) إلى
آخره ونحوه يتجه عدم الفرق بين غسل الجنابة وغيره، بل يؤيده قوله (عليه السلام)
في آخر الرواية: (وكذلك المرأة يجزيها) إلى آخره. فيحمل قوله (عليه السلام) (للجنابة)
على المثال، هذا. إلا أنك قد عرفت أن الأقوى أنه لا تداخل مع عدم النية.
المقام الثالث أن ينوي غسل الجمعة من غير تعرض للجنابة، قيل لا يجزي عن
الجنابة ولا عن الجمعة، وقيل يجزي عنهما، وقيل يجزي عن الجمعة دون الجنابة،
وهو الأقوى، أما إجزاؤه عن الجمعة فلأن الأمر يقتضي الاجزاء لصدق الامتثال،
وما يقال: إن المقصود منه التنظيف، وهو لا يحصل مع بقاء الحدث في غاية الضعف،
إذ هي دعوى عارية عن الدليل، بل قد يظهر من مشروعية غسل الاحرام للحائض
خلافها، وأما عدم إجزائه عن الجنابة فلعدم نيته كما عرفت في سائر أنواع التداخل،
والتمسك باطلاق الأدلة أو بأن المراد من غسل الجنابة غسل هذه الأعضاء على وجه
القربة بعد حدث الجنابة وإن كان في ضمن المستحب فيه من الضعف ما لا يخفى كما ظهر
لك من المباحث السابقة.
نعم قد يستدل بما ينقل عن الفقيه (4) أنه روى في أبواب الصوم " من جامع
في أول شهر رمضان ثم نسي حتى خرج شهر رمضان أن عليه أن يغتسل ويقضي صلاته
وصومه إلا أن يكون قد اغتسل للجمعة، فإنه يقضي صلاته وصومه إلى ذلك اليوم،
ولا يقضي ما بعد ذلك " مع أنه ذكر في أول كتابه أنه إنما يورد فيه ما يفتي به ويحكم
بصحته ويعتقد أنه حجة فيما بينه وبين ربه عز وجل، لكن فيه أن الخروج بمجرد هذه

(1) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب من يصح صومه - حديث 2 من كتاب الصوم
136

الرواية مع عدم الجابر لها وموافقتها لبعض مذاهب العلمة عما تقتضيه أصول المذهب
لا يليق بالفقيه، فما وقع - من بعض متأخري المتأخرين من العمل بمضمونها بل قد يظهر
من بعضهم أنه موافق للقواعد - مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وبما ذكرنا تستغني عن ذكر
مستند كل من الأقوال المتقدمة، كما أنك استغيت بعد الاطلاع على جميع ما تقدم عن
التعرض لصحة ما إذا وقع الفعل بنية امتثال سبب خاص قاصدا عدم الآخر وبطلانه على
الوجوه السابقة، وإن كان الأقوى عندنا أنه يقع لما نواه فقط، فتأمل جيدا والله
أعلم بحقائق أحكامه.
وإذ قد عرفت أن الأصل يقتضي عدم التداخل مطلقا في الواجبات والمندوبات
والمختلطات وجب الاقتصار فيما خالف الأصل على المتيقن أو بحكمه، والظاهر أنه هنا
هو الاكتفاء بغسل واحد للجميع مع نية الجميع أو بعض الجميع كالجمع بين غسلين مثلا
فقط دون الباقي. أما لو قصد التداخل كلا أو بعضا في غسل رأسه مثلا ثم أراد التفريق
في باقي الأعضاء فالظاهر عدم الصحة، وكذلك العكس، نعم لو غسل رأسه بعدد
ما عليه من الأغسال وهكذا سائر أعضائه فالأقوى في النظر الصحة، لعدم اشتراط
الموالاة، وكذا في محل الفرض لو قصد التداخل في البعض، كما لو كانت عليه ثلاثة
أغسال ثم غسل رأسه مرتين قاصدا بالأولى الاجتزاء عن اثنين وبالثانية عن الثالث حتى
تم أعضاؤه على هذا الحال، أما لو غسل رأسه مثلا مكررا غير معين ولا مداخل ثم قصد
التداخل في البواقي فالظاهر عدم الصحة.
(الفرض الثاني)
من فروض الوضوء (غسل الوجه) كتابا وسنة وإجماعا، وهو لغة على ما يظهر
من بعضهم ما يواجه به، وفي المصباح المنير أنه مستقبل كل شئ، وشرعا بمعنى المراد
الشرعي لا أنه حقيقة شرعية لبعدها، كاحتمال كون ذلك من الشارع كشف للمعنى
137

العرفي، بل عن المرتضى في الناصريات أنه لا خلاف في أن الوجه اسم لما يواجه به،
إنما الخلاف في وجوب غسل كل ما يواجه به أم لا، فيقتصر حينئذ على هذا المعنى في
خصوص المقام، ويرجع في غيره إلى العرف (وهو) أوسع مما هنا أي (ما بين منابت
الشعر في مقدم الرأس إلى طرف الذقن) بالفتح، وهو مجمع اللحيين الذي ينحدر عنه
الشعر من الجانبين، (طولا وما اشتملت عليه الابهام) بكسر الهمزة، وهي الإصبع
العظمى، والجمع الأباهم، (و) الإصبع (الوسطى عرضا وما خرج عن ذلك فليس
من الوجه) وفي المدارك أن هذا التحديد مجمع عليه بين الأصحاب، وكأنه لأنه لم يفرق
بين ما عبر به المصنف وما عبر به الأصحاب من قصاص الشعر إلى محادر شعر الذقن طولا
وما دارت عليه الابهام والوسطى عرضا، وهو كذلك لا فرق بينهما، فما عن الغنية حينئذ
والناصريات - من الاجماع على هذا التحديد، وفي المعتبر والمنتهى من أنه مذهب أهل
البيت (ع) ما في الحدائق وعن الذخيرة وغيرها الظاهر أنه لا خلاف فيه - هو الحجة على
ما ذكره المصنف، مع ما في جامع المقاصد من أن هذا التحديد مستفاد من الأخبار (1) المروية
عنهم، وما عن الذكرى أنه القدر الذي غسله النبي (صلى الله عليه وآله) بنقل أهل البيت
(عليهم السلام) (2)، مضافا إلى الصحيح على ما عن الفقيه عن زرارة بن أعين (3) أنه
قال لأبي جعفر الباقر (عليه السلام): " أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي أن يوضأ
الذي قال الله عز وجل فقال: الوجه الذي قال الله وأمر الله عز وجل بغسله الذي لا ينبغي
لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه، إن زاد عليه لم يؤجر وإن نقص منه أثم ما دارت
عليه الوسطى والابهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، وما جرت عليه الإصبعان
مستديرا فهو من الوجه، وما سوى ذلك فليس من الوجه، فقال له: الصدغ من الوجه
فقال لا " ورواه الكليني والشيخ أيضا في الحسن بإبراهيم بن هاشم عن زرارة أيضا

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 1
(2) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 1
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء
138

(قال: قلت له: أخبرني) إلى آخره إلا أنه في الكافي (وما دارت عليه السبابة والوسطى
والابهام) وكأن المراد بالضمير في روايتيهما الباقر (عليه السلام) كما يشهد له رواية
الفقيه، وما تضمنته رواية الكليني من ذكر السبابة مع الوسطى لم أعثر على من اعتبره
سوى ما ينقل عن المبسوط والناصريات أنهما ذكرا السبابة مع الوسطى في العرض، والظاهر
أنه ليس خلافا في المسألة، إذ كل ما اشتملت عليه السبابة والابهام تشتمل عليه الوسطى
والابهام لقصرها عنها غالبا، وحمل الواو في الرواية وكلاميهما على معنى أو فيحصل
حينئذ خلاف ويكون تخييرا بين الزائد والناقص في غاية البعد، بل لا معنى له عند
التأمل، ولذا لم ينقل عن أحد منهم الخلاف في ذلك، ولا تعرض له متعرض ممن
عادته التعرض لمثله، وهذه الرواية هي الأصل في الباب، وعليها بني كلام الأصحاب
بل في المدارك أنها نص في المطلوب.
وقبل الخوض في بيان كيفية دلالتها على ما ذكره الأصحاب لا بد من ذكر معاني
ألفاظ وقعت في كلامهم يتوقف عليها ذلك، (منها) النزعتان، وهي تثنية نزعة بالتحريك،
وهما البياضان المكتنفان بالناصية بلا خلاف أجده كما يتفق في كثير من الناس، وهو
معنى ما في المنتهى أنهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس متصاعدا في جانبي الرأس، و (منها)
العذار، وهو النابت على العظم الناتي الذي هو سمت الصماخ وما انحط إلى وتد الأذن
على ما في المنتهى، ويقرب منه ما عن التذكرة، وفي جامع المقاصد عن الذكرى " أنه
ما حاذى الأذن يتصل أعلاه بالصدغ وأسفله بالعارض " انتهى. ومثله عن المسالك والمحقق
الثاني في حاشيته على النافع، وهو يرجع إلى ما ذكر على ما ستعرفه من المراد بالصدغ
والعارض، ولذا جمع بينهما في المدارك، فقال: هو الشعر النابت على العظم الناتي الذي
يتصل أعلاه بالصدغ وأسفله بالعارض، كما أن ما في المصباح المنير من أن عذار اللحية
الشعر النازل على اللحيين يرجع إليه أيضا، أو يكون تفسيرا بالأعم وإلا فما ذكرناه
من تفسيره كأنه لا نزاع فيه في عبارات أصحابنا، و (منها) العارض، ففي المنتهى أنه
139

ما نزل عن حد العذار، وهو النابت على اللحيين، ويرجع إليه ما في الدروس من أنه
الشعر المنحط عن القدر المحاذي للإذن إلى الذقن وهو مجمع اللحيين، وإن كان في
صدق العارض على القريب إلى الذقن تأمل، فلذا قال في المدارك: أنه الشعر المنحط
عن القدر المحاذي للإذن، وفي كشف اللثام أنه ما تحت العذار من غير ذكر الانتهاء
إلى الذقن، وفي الصحاح أن عارضة الانسان صفحتا خديه، وقولهم فلان خفيف
العارضين يراد به خفة شعر العارضين،
و (منها) مواضع التحذيف، وهي الشعر بين
انتهاء العذار والنزعة المتصل بشعر الرأس، كما في المنتهى والروضة ونحوه عن التذكرة
والذكرى، بل لعله يرجع إليه ما في المدارك من أنها هي التي ينبت عليها الشعر الخفيف
بين الصدغ والنزعة، لأن منتهى العذار من الأعلى هو ابتداء الصدغ كما عرفت، بل
كأنه لا خلاف في تفسيرها بذلك، و (منها) الذقن وهو مجمع اللحيين الذي ينحدر منه
الشعر ويسترسل، وكأنه لا خلاف أيضا في تفسيره بذلك، ومثله في ذلك القصاص
وهو منتهى منابت شعر الرأس، و (منها) الصدغ بالضم، والمعروف في تفسيره بين
الأصحاب أنه الشعر الذي بعد انتهاء العذار المحاذي لرأس الأذن، وينزل عن رأسها
قليلا، لكن الموجود في بعض كتب اللغة أنه ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن، ويقرب
منه ما قيل ما بين الحاجب والأذن.
إذا عرفت هذا فنقول: غير خفي على الناظر في كلام الأصحاب والرواية ظهور أن
المراد بقوله (عليه السلام): " (ما دارت عليه الابهام من قصاص الشعر " إلى آخره الحد
الطولي الذي ذكره الأصحاب، وبقوله (عليه السلام): " وما جرت عليه الإصبعان "
إلى آخره الحد العرضي الذي ذكروه أيضا، ولذا قال في المدارك: أنها نص في المطلوب،
لكن فيه نظر من وجوه، (الأول) أن التحديد الأول للطول لا يناسب التعبير بقوله
(عليه السلام): (دارت) إذ ليس هو من الدوران في شئ، بل قد يقال: لا حاجة
إلى التقدير بالإصبعين في الحد الطولي، بل تحديده بأنه ما كان من القصاص إلى الذقن
140

أولى من ذلك، نعم يتجه التقدير بهما بالنسبة إلى العرض. (الثاني) قوله في التحديد
العرضي مستديرا ينافي ما ذكروه، إذ لا استدارة فيه، مع أنه كان ينبغي أن يقول
مستديرين لكونه حالا من الإصبعين على الظاهر.
(الثالث) ما قاله البهائي في الحبل المتين
أنه بناء على هذا التحديد ينبغي دخول النزعتين لكونهما تحت القصاص مع خروجهما إجماعا
وينبغي دخول الصدغين لدخولهما تحت الخط العرضي المار بقصاص شعر الناصية ويحويهما
الإصبعان غالبا مع خروجهما بنص الرواية، وأما العارضان فقد قطع بعض بدخولهما،
وبعض بخروجهما، ومثلهما العذاران ومواضع التحذيف، إلى أن قال: فظهر لك أنه
على ما فهمه الأصحاب من الرواية يقتضي خروج بعض الأجزاء عن حد الوجه مع
دخوله في التحديد كما عرفت في النزعتين والصدغين، ويقتضي دخول البعض منه مع
خروجه عن التحديد المذكور، فكيف يصدر مثل هذا التحديد الظاهر القصور الموجب
لهذا الاختلاف من الإمام (عليه السلام)، ولذلك حمل الرواية على معنى آخر، وقال:
ما حاصله أن قوله (عليه السلام): (من قصاص) متعلق بقوله: (دارت) فيراد حينئذ بيان
ابتداء التدوير من القصاص، بمعنى أن الخط المتوهم من قصاص الشعر إلى طرف
الذقن، وهو الذي يشتمل عليه الإصبعان غالبا إذا أثبت وسطه وأدير على نفسه حتى
يحصل شبه دائرة، فذلك القدر الذي يجب غسله، فيكون مبدأ الدائرة إنما هو القصاص
والذقن وهو المنتهى أيضا، وذلك لأنه يكون ما كان على القصاص على الذقن وما كان
على الذقن على القصاص، وعليه حينئذ يلتئم خروج الصدغين والنزعتين، وكذلك
مواضع التحذيف والعذارين لخروجها عن الدائرة كما يشهد به الاعتبار، وأما العارضان
فيدخل بعضهما، واستجوده بعض من تأخر عنه كالمحدث الكاشاني، وكأن الذي
دعاه إلى ذلك مضافا إلى ما سمعت اشتمال الرواية على لفظ الاستدارة.
وفيه - مع أنه من المعاني الغامضة التي لا يليق بالإمام مخاطبة عامة الناس بها،
ومناف لما يظهر من كلام الأصحاب الماهرين الذين هم الأئمة في فهم الأخبار أصحاب
141

القوى القدسية - أنه مناف لما تسمعه من التحقيق الذي يأتي على جميع ما ذكرنا وذكر
من الاشكال، وهو أن الأصحاب لم يجعلوا الابهام والوسطى معيارا للحد الطولي، بل
حددوه بكونه من القصاص إلى الذقن، نعم قد جعلوهما حدا للعرض، ومن المعلوم أن
المراد بالقصاص قصاص الناصية، ثم يؤخذ ما يسامتها من الجانبين في عرض الرأس،
فيخرج النزعتان لكونهما ليسا من الوجه قطعا، إذ التحديد مساق لبيان الوجه، وإلا
فالدائرة التي ذكرها البهائي لا تجدي في دفع الايراد بالنزعتين كما هو واضح، فيراد
حينئذ بعد تعليق الجار والمجرور بقوله (عليه السلام): (دارت) أن ما أحاطت به الابهام
والوسطى وما جرت عليه من القصاص إلى الذقن فهو من الوجه، بمعنى أن كل موضع
جرت عليه الإصبعان من هذا المكان الذي هو من القصاص إلى الذقن فهو من الوجه،
ولعل هذا أولى مما ذكره لظهور قوله (عليه السلام): (دارت عليه الابهام والوسطي من
القصاص) في كون ابتداء الدوران للاصبعين معا من القصاص، وعلى كلامه يكون
الدوران من القصاص للوسطى خاصة، لكون المفروض أن الابهام على الذقن، بل لا معنى
لجعل الذقن منتهى الدائرة لأن ابتدائها وقع من القصاص والذقن وانتهائها إليهما أيضا،
بأن يكون الابهام على القصاص والوسطى على الذقن فيكون لكل من الإصبعين نصف
الدائرة، مع أن الرواية كادت تكون صريحة في إرادة ابتداء جريان مجموع الإصبعين من
القصاص وانتهائه إلى الذقن، وهو عين ما ذكره الأصحاب، بل لا يخفى على المتأمل في
التحديد الذي ذكره إنه يخرج عنه بعض الجبينين قطعا، مع أنهما من الوجه بديهة كما هو
نص خبر إسماعيل بن مهران (1) بل قد يقال إن جميع ما تكلفه محافظة على حقيقة العبارة
لا يتم معه، لظهور قوله (عليه السلام): (ما دارت عليه الابهام والوسطى من قصاص) إلى
آخره في أن الإصبعين يدوران في جميع أجزاء الوجه من القصاص إلى الذقن فليزم
ما لا يتناهى من الاستدارة وهو لا معنى له، إذ كيف يعقل حصول الاستدارة في خط

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الوضوء - حديث - 2
142

لا سعة له كما هو واضح، وحمل اللفظ على إرادة معنى آخر ليس بأولى مما ذكرنا من
إرادة الإحاطة ثم الجريان حتى ينتهيا إلى الذقن، بل ذلك أولى من وجوه.
بل يحتمل أن يراد بالإرادة نفس الجريان، وسمي مثل ذلك إدارة لأنه يحصل منه
شبه دائرة، وبه يظهر وجه قوله (عليه السلام): (مستديرا) إذ هو حال إما من لفظ
(ما) أو من الضمير المجرور بحرف الاستعلاء، ولا فساد في شئ من ذلك، لكنه يكون
حينئذ ذكر الأصحاب للحد الطولي ليس لتضمن الرواية صريحا له، بل هو لازم للمعنى
الذي ذكرناه، مع أنه يمكن أن يجعل الأول للحد الطولي على حمل (دارت) على معنى
اشتملت وأحاطت، ويكون قوله (عليه السلام): (وما جرت) بيانا للحد العرضي،
ولا ضير فيه، ولولا مخافة إطالة الكلام لأطنبنا الكلام فيما يرد على ما ذكره، وفيما ذكرنا
الكفاية، وبه يندفع جميع ما تقدم من الاشكالات، وأما ما ذكره من خروج الصدغ
مع دخولهما في تحديد الأصحاب ففيه أولا أن الصدغ المسمى بالفارسية (بزلف) على
ما عرفت من تفسيره عند الأصحاب خارج عن التحديد المذكور كما يقضي به الاختبار،
بل قد يقال: إنه من جملة منابت الشعر، بل يرشد إلى خروجه اشتمال الرواية المتقدمة
عليه، لظهورها في عدم دخوله في التحديد، لا أنه داخل وخرج بقوله (عليه السلام):
(إنه ليس من الوجه) كما هو ظاهر عند التأمل، ومن هنا لم أعثر على قائل بوجوب
غسله سوى ما نقله في الذكرى عن أحكام الراوندي على ما قيل، مع احتمال أن يكون مراده
بعض الصدغ، بل أكثره على تفسير بعض أهل اللغة بأنه ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن.
لكنك قد عرفت أن المعروف بين الأصحاب تفسيره بخلاف ذلك، ولذا
قال في التذكرة على ما نقل عنه: الصدغان من الرأس، وفي المنتهى بعد أن عرفه بما
تقدم ذكره سابقا أنه لا يجب غسله معللا له ولغيره من النزعتين بأن التكليف بهذا شرعي،
ولا شرع يدل على التكليف بها، وفي جامع المقاصد الصدغ الذي يتصل أسفله بالعذار
ليس من الوجه قطعا، إلى غير ذلك مما عثرنا عليه من كلمات الأصحاب، فإنها مصرحة
143

بعدم وجوب غسله، بل ظاهر كثير منها كصريح البعض أنه غير داخل في التحديد
لا كلا ولا بعضا، فيكون ذلك قرينة على أن المراد بالصدغ عندهم غير المعنى المذكور
في كلام بعض أهل اللغة، على أنه بناء عليه لا تجدي البهائية في خروجه، بل يدخل
بعضه فيها ككلام الأصحاب، والتحقيق ما ذكرنا، هذا. وربما ظهر من الخوانساري
في شرحه على الدروس تسليم دخول بعض الصدغ في التحديد، واستند في خروجه
إلى الرواية، لأنه فسره بأنه المنخفض الذي ما بين أعلى الأذن وطرف الحاجب،
وكأنه (رحمه الله) غفل عما هو المعروف بين الأصحاب من معناه، فتأمل جيدا.
وأما النزعتان فقد عرفت أن عدم وجوب غسلهما إجماعي، وأن الدائرة البهائية
لا تثمر في دفع ذلك، لكنك قد عرفت أن المراد بالقصاص قصاص الناصية ثم يؤخذ
ما يسامتها لاخراج المعلوم أنه من الرأس، نعم قد يقال: بدخول ما يتفق في بعض
الرؤوس من عدم استواء القصاص فيها، مع أنه ليس من النزعة قطعا،. وأما العذار
فليعلم أولا أن خلاف الأصحاب في هذه الأمور مرجعه إلى موضوع، وهو أن
مثل هذا الموضع هل تشمله الإصبعان أولا؟ وإلا فلا شك في الخروج مع عدم الشمول
وفي الدخول معه، ولعل منشأه وقوع الاشتباه بالنسبة للمختبرين واختلاف الأيدي
والوجوه اختلافا لا يخرجه عن مستوى الخلقة، أو الاختلاف في محل الاختبار بالإصبعين
هل هو القصاص ثم يؤخذ على نسبة الحدين أو هو وسط التدوير أو أنه يجري الإصبعان
من القصاص إلى الذقن فكل ما حوته يجب غسله اتفق أو اختلف، وما يقال على الأخير:
أنه لو أعتبر ذلك لدخل ما علم خروجه من مسمى الوجه عند الاختبار قريبا من الذقن
مدفوع بأن المراد ما حوته الإصبعان من الوجه العرفي كما يشعر به قوله (عليه السلام):
(وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا) فشمولها لمعلوم الخروج غير قادح، ولعل
قوله (عليه السلام): (وما جرت عليه) بالجيم والراء يناسب على ما في بعض النسخ
144

كالموجود في بعض آخر بالحاء والواو على ما عرفت سابقا من أن المراد بالرواية ما دارت
عليه الإصبعان من القصاص إلى الذقن، إذ الاختبار بالإصبعين في كل موضع من
مواضع الوجه، فتأمل جيدا.
إذا عرفت ذلك فالعذار قيل بدخوله كما عن ظاهر المبسوط والخلاف وعن ابن
الجنيد وبه صرح الشهيد في الروضة، وقيل بخروجه، واختاره المصنف في المعتبر والعلامة
في المنتهى والتحرير وعن جملة من كتبه، بل عن ظاهر كلامه في التذكرة دعوى
الاجماع عليه، وربما قيل بالتفصيل. وهو دخول ما حوته الإصبعان منه وخروج الباقي
كما نقل عن العلامة في نهاية الإحكام، واختاره بعض من تأخر، لكن منه قد
يستظهر أن النزاع بينهم لفظي، إذ القائل بوجوب الغسل مراده ما حوته الإصبعان منه
والقائل بعدم وجوبه مراده خروج ما لم تحوه الإصبعان منه، إذ لا معنى للقول بوجوب
غسل الخارج بعد ما سمعت من التحديد. كما أنه لا معنى للقول بعدم وجوب غسل الداخل
بعده، وكأن سبب الاشتباه أن العذار وإن عرف بما سمعت من أنه الشعر المحاذي
للإذن يتصل أعلاه بالصدغ وأسفله بالعارض لكن ذلك تعريف لطوله، وأما عرضه
فلم يظهر مقداره، فلعل القائل بخروجه يقتصر على ذلك المقدار الخارج بتسمية العذار،
ومثله القول بالدخول أو يريد به بعضه، وإلا فالاصبعان لا تناله بتمامه قطعا. ودعوى
وجوب غسله من باب المقدمة مدفوعة بأن المراد دخوله في أجزاء الوجه، وإلا فهي
واجبة في سائر الحدود من غير خصوصية لذلك، على أنه يكفي بعضه كدعوى أن
شعر الخدين يجب غسله، وهو متصل به لا مفصل محسوس بينهما، وأما ما يقال:
إن أسفله متصل بالعارض مع وجوب غسله قطعا ففيه أولا إنا نمنع وجوب غسل ما لا تناله
الإصبعان كما ستسمع، وثانيا لا ملازمة بين اشتمال الإصبعين على العارضين واشتمالهما
على العذار، إذ قد يختبر بالنسبة للعارض بنحو يشمل العارضين دون العذار، وثالثا
بامكان المعارضة بأنه متصل بالصدغ الذي أجمع الأصحاب إلا نادرا على عدم وجوب
145

غسله، وظاهرهم أنه لا تناله الإصبعان، وفي الدروس وجامع المقاصد وعن الذكرى أن
غسله أحوط، ولعله خروجا عن شبهة الخلاف، فيكون لذلك مستحبا، ولا ينافيه ما في
المنتهى والتحرير أنه لا يستحب. بل في الأخير أنه يحرم إن اعتقده، لأن الظاهر إرادة
نفي الاستحباب الذاتي لا الاحتياطي.
ومما ذكرنا تعلم أنه لا إشكال في عدم وجوب غسل البياض الذي بين الأذن
والعذار، وأما العارض فقيل بدخوله كما اختاره الشهيدان، بل قطع أولهما به كما عن
ثانيهما نقل الاجماع عليه، وعن أبي على أن كلامه يعطي الدخول، وذهب العلامة
في المنتهى إلى خروجه، وعنه في النهاية التفصيل بين ما شملته الإصبعان منه وما لم تشملاه
منهما. قلت لا ينبغي الاشكال في وجوب غسل الأسفل منه لتناول الإصبعين له، وأما
أعلاه فهما ينالان شيئا من عرضه إن قلنا بتسمية ذلك عارضا ولا يشملانه تماما قطعا. وما في
المدارك - من الايراد على الاستدلال هنا بشمول الإصبعين بأن ذلك إنما يعتبر في وسط
التدوير من الوجه وإلا لوجب غسل ما تناولاه وإن تجاوز وهو باطل إجماعا - مدفوع بأنه
مناف لظاهر الرواية، بل صريحها من الاعتبار بهذا التحديد في سائر الوجه، كاندفاع
ما أورده بأن المراد ما تناولاه من أجزاء الوجه كما هو صريح الرواية، فيخرج المعلوم
منه أنه ليس منه، وأنت إذا أحطت خبرا بما قدمناه في العذار تعرف خصوص ما يتعلق
بالمقام، فلا حاجة إلى الإعادة، وأما مواضع التحذيف على ما عرفت من تفسيرها فأدخلها
بعضهم، وأخرجها آخرون، وليس ذلك من جهة شمول الإصبعين وعدمه، بل لكونها
منابت من القصاص أولا، ولعل الأظهر دخولها، لأنها كما عرفت منابت الشعر
الخفيف، والظاهر عدم دخولها في مسمى شعر الرأس، كما يشعر به سبب تسميتها
بذلك من كثرة حذف الشعر فيها من النساء والمترفين،. مع تأيده بالاحتياط، إذا
عرفت ذلك كله ظهر لك ما ذكره البهائي في دائرته وما فيه، لكن من المعلوم أنه يجب
في جميع ما ذكرنا من الحد الطولي والعرضي إدخال بعض الزائد على المحدود من باب المقدمة
146

لتحصيل العلم بغسل المأمور به سيما بالنسبة للتحديد العرضي، لأن معرفته على التحقيق
في غاية الاشكال خصوصا للأعوام، بل يكفي في إشكاله ما وقع بين العلماء كما سمعت،
فإذا أتى بالزائد احتياطا فرغت ذمته يقينا، إذ ليس عليه الوقوف على نفس الحد،
لكن يجب نية غسل الوجه المأمور به شرعا، أما لو أدخل بعض الزائد في النية على أنه
مغسول أصلي ابتداء لا في أثناء غسل العضو قوي القول بالفساد للتشريع، ويكون قوله
(عليه السلام): (فإن زاد عليه لم يؤجر) أي على وضوئه لفساده، وفيه تعريض بوضوء
العامة، ويحتمل القول بالصحة، كما لعله يشعر به قوله (عليه السلام): (لم يؤجر) أيضا
لمقابلته له بقوله (عليه السلام): (إن نقص أثم) وأولى منه في ذلك ما إذا نواه في الأثناء
أو نوى غسل الوجه في الواقع، ولكن كان بزعمه أن المجموع وجه وإن كان زعما
باطلا، فتأمل جيدا.
(ولا عبرة بالأنزع) الأصلع الذي قد انحسر الشعر عن بعض رأسه فساوى بعض
مقدم رأسه جبهته، (ولا بالأغم) المقابل للأول وهو الذي ينبت الشعر على بعض
جبهته، فلا يجب على الأول غسل ذلك المقدم، كما أنه يجب على الثاني غسل القصاص
الذي على الجبهة، فيرجع كل منهما إلى الغالب في أكثر الناس، لانصراف التحديد
إليه وإن كان في صدق اسم الوجه على الثاني محل تأمل، ويجب عليه الغسل من القصاص
إلى الذقن وإن طال وجهه بحيث خرج عن المتعارف لصدق اسم الوجه وحصول التحديد
في المستوي.
(ولا بمن تجاوزت أصابعه العذار أو قصرت عنه، بل يرجع كل منهم إلى
مستوي الخلقة) كما صرح به غير المصنف أيضا من غير تردد ولا إشكال، وكأنه
لانصراف التحديد المذكور إلى الغالب، والظاهر أنه كذلك، لكن المراد بالرجوع
إلى المستوي في عريض الوجه أو صغيره مع طول الأصابع هو أن يفرض مثلا لعريض
الوجه أصابع مناسبة على نحو أصابع المستوي لوجهه، وبمعناه أنه يقدر في المستوي ويحدد
147

بحدود ويؤخذ على نسبة تلك الحدود من غيره، لا أن معنى الرجوع إليه أنه يؤخذ
مقدار أصابع المستوي من الوجه العريض جدا، إذ على ذلك يخرج كثير من مسمى
الوجه بحيث يقطع بعدم الاجتزاء به ونحو هؤلاء في الرجوع إلى المستوي، كذلك
من لم يكن تسطيح جبهته أو خديه أو علو أنفه أو هبوطه على المتعارف، فإن الجميع
يرجع إلى المستوى على حسب ما ذكرنا.
(ويجب أن يغسل) جميع ما تقدم بيانه من الوجه مبتدء (من أعلى الوجه إلى
الذقن، ولو) خالف و (غسل منكوسا لم يجز على الأظهر) كما في صريح المبسوط والمعتبر
والمنتهى والقواعد والتحرير والإرشاد وجامع المقاصد وظاهر المقنعة والوسيلة والتنقيح،
ونسبه في المختلف إلى سلار وابن أبي عقيل وابن الجنيد، وقال: إنه رواه ابن بابويه
في كتابه، وأنه ظاهر أبي الصلاح لكن ما وصل إلي من عبارة المراسم لا ظهور فيها بذلك
كعبارة المهذب والكافي، وأما الغنية فصريحة في إرادة التحديد، ولعله لذا لم ينقل
عنهم في كشف اللثام، فلاحظ وتأمل. ونقله في التنقيح عن المرتضى في أحد قوليه
ونسبه في المدارك، وعن غيره إلى الشهرة بين الأصحاب، وفي التنقيح وعن التذكرة
إلى الأكثر، بل في بعض حواشي الألفية الاتفاق عليه، وخالف في ذلك فحكم بالصحة
ابن إدريس في السرائر، كما عن المرتضى في المصباح، ويظهر من جملة من متأخري
المتأخرين الميل إليه، بل ربما كان ظاهر من أطلق غسل الوجه، والأول هو الأقوى
لحكاية الباقر (عليه السلام) وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عدة أخبار، ففي
بعضها (1) أنه (صلى الله عليه وآله) " أخذ كفا من ماء وصبه على وجهه " وفي آخر (2)
" فأسدله على وجهه " وأظهر منهما ما في الصحيح عن زرارة (3) قال: " حكى أبو جعفر
(عليه السلام) وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدعا بقدح من ماء، فأدخل

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 7 - 6
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 7 - 6
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 10
148

يده اليمنى، فأخذ كفا من ماء، فأسدلها على وجهه من أعلى الوجه " إلى آخره. وما في
الصحيح أو الحسن عنه (عليه السلام) (1) أيضا أنه (صلى الله عليه وآله) " غرف ملأها ماء، فوضعها على
جبهته " وعن تفسير العياشي أنه " غرف غرفة فصبها على جبهته فغسل جبهته " مع أن
العلامة في المنتهى وعن الشهيد في الذكرى أنهما قالا بعد الصحيح الأول: روي عنه
(عليه السلام) (2) أنه (صلى الله عليه وآله) قال بعد ما توضأ: " إن هذا وضوء لا يقبل
الله الصلاة إلا به " وفي الوسائل عن قرب الإسناد عن أبي جرير الرقاشي (3) قال:
قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): " كيف أتوضأ للصلاة، فقال لا تعمق في
الوضوء، ولا تلطم وجهك بالماء لطما، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء
مسحا، وكذلك فامسح على ذراعيك ورأسك وقدميك " بل قد يقال: إنا في غنية
عن الأخبار البيانية، للقطع بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يغسل مبتدءا
من الأعلى لكونه إما واجبا أو راجحا مع كراهة النكس كما يقوله الخصم، وهو لا يفعل
المكروه، ولا يترك الراجح، فلما علمنا ذلك وجب التأسي بفعله، لكن في المدارك كما
عن الأردبيلي والبهائي التنظر فيه، وتبعهم عليه بعض من تأخر عنهم بأنه " من الجائز
أن يكون ابتداؤه بالأعلى لكونه أحد جزئيات مطلق الغسل المأمور به لا لوجوبه بخصوصه،
فإن امتثال الأمر الكلي يتحقق بفعل جزئي من جزئياته، ولا إجمال في غسل الوجه
حتى يكون فعله بيانا له، فيجب اتباعه، وأما النقل الذي ذكر فمرسل، وبذلك
يجاب عن الأخير، مع إمكان التزام جواز كون البدأة بالأسفل وإن كان مكروها
لبيان الجواز " انتهى.
واعترضه في الحدائق بوجوه ستة، لكن كثيرا منها بمعزل عن الورود عليه،

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 11
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 22
149

بل الأولى أن يقال: إنه وإن كان وقوع الفعل بنفسه لا يدل على الوجوب التعييني بعد
إطلاق الأمر، لكنه قد يستفاد منه ذلك في خصوص المقام، لظهور حكاية الباقر
(عليه السلام) له فيه، كظهور نقل زرارة إسدال الماء من أعلى الوجه أنه فهم منه
وجوب ذلك، بل الظاهر من الأخبار في المقام مثل قوله (ع) " ألا أحكي لكم وضوء رسول
الله) صلى الله عليه وآله " أنه تعريض في العامة من الوضوء المنكوس، بل قد يرشد إلى ذلك خبر علي
ابن يقطين المشهور (1) مضافا إلى ما سمعت من قوله (صلى الله عليه وآله): (هذا وضوء
لا يقبل الله) إلى آخره ولا يقدح فيها إرسالها، لانجبارها بما سمعت، كما لا يقدح ما في
رواية قرب الإسناد بعد الانجبار به أيضا، وبذلك كله يقيد ما يستدل به للمرتضى
(رحمه الله) من إطلاق الغسل الواقع في الكتاب والسنة المتحقق بكل منهما، مع احتمال
انصرافه إلى المتعارف من الابتداء بالأعلى، لا أقل من الشك في شمول الاطلاق لهذا
الفرد ولو لما تقدم أو الشك من جهة تعارض الأدلة، فيبقى الأصل وهو استصحاب
بقاء الحدث سالما عن المعارض، فتأمل جيدا، ومن قوله (عليه السلام) في خبر
حماد (2): " لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا " الذي فيه من الضعف ما لا يخفى، إذ
الكلام في الغسل دون المسح، وحمله على ما يشمل الغسل مجاز لا قرينة عليه، ثم الظاهر
من كلام الأصحاب أن مرادهم بالنكس في المقام الذي جعلوه مذهبا للمرتضى ومنعوه هو
عدم وجوب الابتداء بالأعلى مثلا، وأما كيفية الغسل هل تجوز منكوسة أولا بمعنى أن
القائلين بوجوب الابتداء بالأعلى هل يجوزون النكس في الغسل نفسه بأن يستقبل الشعر
فيه مثلا، إما مع الجميع بينه وبين الابتداء بالأعلى في ذلك إن أمكن، أو أنه بعد الابتداء
بشئ من الأعلى أو لا يجوزون ذلك؟ وكذلك المرتضى (رحمه الله) ومن تابعه القائلون
بجواز النكس هل يريدون الابتداء من الأسفل في مقابلة الابتداء من الأعلى من غير

(1) الوسائل - الباب - 32 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(2) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 1
150

نكس في نفس الغسل أو أنه أعم من ذلك؟ فلا دلالة في شئ من كلامهم عليه ولا تلازم
المسألتين، إلا أن الذي يظهر من ملاحظة كلام القائلين بعدم وجوب الابتداء
بالأعلى جواز النكس في نفس الغسل، كما يظهر من ملاحظة كلام بعض القائلين بوجوب
الابتداء بالأعلى أنه لا يجوز النكس في الغسل ولو بعد الابتداء بالأعلى، ولعل الوضوءات
البيانية - مع ما في بعض الأخبار (1) أنه (صلى الله عليه وآله) " أفرغ الماء على ذراعه
من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق " ومعروفية ذلك بين العامة، مع تصريح
جملة من قدماء الأصحاب بأنه لا يستقبل الشعر في الغسل، وأنه به افترق عن المسح -
يؤيد الثاني، لكن الانصاف أنه لا دليل معتبر على المداقة في ذلك بحيث لا فرق فيه بين
القليل والكثير، فلعل الأقوى في النظر عدم البأس في اليسير منه، كما أن الأقوى
البطلان فيما كثر منه بحيث صار كغسل العامة، قال في المدارك: " واعلم أن أقصى
ما يستفاد من الأخبار وكلام الأصحاب وجوب البدأة بالأعلى أعني صب الماء على أعلى
الوجه ثم اتباعه بغسل الباقي، وأما ما تخيله بعض القاصرين من عدم جواز غسل شئ
من الأسفل قبل غسل الأعلى وإن لم يكن في سمته فهو من الخرافات الباردة والأوهام
الفاسدة " انتهى، واستجوده بعض من تأخر عنه.
قلت: وحاصل الاحتمالات في المسألة أربعة (الأول) وجوب الابتداء بالأعلى
خاصة ولو كان يسيرا كأن يكون بل إصبعه وغسل شيئا من أعلى جبهته، ولا ترتيب
في الباقي. (الثاني) ما ذكره عن بعض القاصرين وهو وجوب غسل الأعلى فالأعلى وإن
لم يكن مسامتا، وعن الشهيد الثاني في شرح الرسالة أنه وجه وجيه، (الثالث) وجوب
غسل الأعلى فالأعلى في خصوص المسامت، فلا يجوز غسل الأسفل قبل الأعلى المسامت
له، ولعل ما ينقل من العلامة في مسألة من أغفل لمعة يحتمله وسابقه، قال بعد أن
نقل عن ابن الجنيد التفصيل بأنه إن كانت دون الدرهم بلها وصلى ما صورته: " ولا

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 3
151

أوجب غسل جميع ذلك العضو، بل من المواضع المتروك إلى آخره إن أوجبنا الابتداء
من موضع بعينه، والموضع خاصة إن سوغنا النكس " انتهى. (الرابع) أن يراد غسل
الأعلى فالأعلى لكن لا على التحقيق لتعسره أو تعذره، فلا تقدح المخالفة اليسيرة التي
لا يخرج بالعرف فيها عن ذلك، وهو ظاهر المنقول عن الشهيد الثاني في شرح الرسالة
واختاره بعض أصحابنا المتأخرين. أما (الأول) فهو وإن كان يقتضيه كلام كثير
من المتأخرين لكن المستفاد من أخبار الوضوءات البيانية خلافه وخلاف المحكي من وضوء
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأما (الثاني) فلا ريب في فساده لما فيه من العسر
والحرج، بل التعذر، بل ملاحظة الأخبار تشرف الفقيه على القطع بعدمه، لما
فيها من سهولة غسل الوضوء، منها الصحيح أو الحسن (1) المتضمن لحكاية وضوء رسول الله
(صلى الله على وآله) " أنه غرف ملأ كفه فوضعها على جبينه ثم قال بسم الله وسدله
على أطراف لحيته ثم أمر يده على وجهه وظاهر جبينه مرة واحدة فإنه كالصريح في
عدم ذلك، ومثله آخر (2) " أخذ كفا من ماء فأسدله على وجهه ثم مسح وجهه من الجانبين
جميعا " فإن مسح وجهه من الجانبين بعد الاسدال الأول كالصريح في بطلان تلك الدعوى
إلى غير ذلك، ويقرب من هذا الاحتمال في العسر والحرج وغيرهما الاحتمال (الثالث)
وهو وجوب غسل الأعلى فالأعلى مسامتا، بل وكذا الوضوءات البيانية تشرف الفقيه
على القطع بعدمه أيضا، على أنك قد عرفت أن العمدة في وجوب البدأة بالأعلى
انجبار تلك الأخبار بالشهرة، وهي غير معلومة في المقام، بل معلمة العدم، ومن
هنا ينقدح قوة الوجه الأول لولا ما يظهر من ملاحظة الوضوءات البيانية خلافه، ولعل
الوجه (الرابع) أو قريبا منه أقرب الاحتمالات حينئذ إليها، وأقرب منه ما في أيدي الناس
الآن من كيفية الوضوء، فإنها كلها من الكيفيات المحفوظة عنهم (عليهم السلام) وأما

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 6
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 6
152

احتمال وجوب الانتهاء بالذقن كوجوب الابتداء بالأعلى كما يقضي به بعض العبارات
كعبارة المصنف (رحمه الله) ونحوها فالظاهر عدمه، فتأمل جيدا.
وهل المراد بالبدأة بالأعلى عدم جواز النكس المنصرف في بادئ الرأي إلى
ما ينافي البدأة بالأعلى ضرورة كون أظهر أفراده ما عند القوم من الغسل منكوسا
من منتهى العضو، فلا يقدح حينئذ غسل جميع الجبهة مثلا دفعة، كما عساه يحتمل من
قول المصنف وغيره من تفريع عدم جواز النكس على ذلك، فيكون مساقا في الرد على
المرتضى، أو أن المراد وجوبه، فلا تجزي المقارنة ولا النكس، كما يقضي به قولهم وجوب
البدأة، لأنه كما ينافيه النكس ينافيها المقارنة؟ وجهان، لكن قد يشكل الثاني بأنه يلزم
منه فساد أكثر وضوءات الناس، إذ من المقطوع به أنه يغسل مع الجزء الأعلى غيره
دفعة، واحتمال القول أن المقصود غسل الأعلى ويكرر بالنسبة إلى غيره ولذلك يكرر
إمرار اليد، فيكون غسل ثان حينئذ خلاف الواقع، بل لعل فيما ذكرناه من الوضوءات
البيانية من إمرار يده مرة واحدة شهادة بخلافه، نعم قد يقال: لا يراد بالأعلى الخط
الذي ليس أعلى منه خط فقط، بل المدار فيه على صدق البدأة بأعلى الوجه، ويؤيده
الوضوء بالمطر ونحوه، وعليه فلا يجزي غسل الوجه إذا وضعه في حوض أو غيره مع
نية الغسل في آن من الآنات ما لم ينو ابتداء الغسل من الأعلى ثم يحصل غسل آخر بعد
ذلك، ولعله الأقوى في النظر.
(ولا يجب غسل ما استرسل من اللحية) كما في التحرير والقواعد والدروس طولا
أو عرضا كما نص عليه في الخلاف والمعتبر والمنتهى والمدارك وكشف اللثام وغيرها،
بل في الخلاف " إن دليلنا أصالة البراءة، وشغلها يحتاج إلى دليل، وعليه إجماع
الفرقة المحقة " إلى آخره. إذ الظاهر أن مراده نقل الاجماع على ما نحن فيه، والمراد
بالمسترسل المذكور هو الخارج عن حد الوجه كما نص عليه بعضهم، وحينئذ فالظاهر أن الاجماع منعقد على عدم وجوب غسله كما نص عليه في المدارك وكشف اللثام وغيرهما
153

لعدم دخوله في مسمى الوجه، أو لخروجه عن التحديد كما هو المفروض، فما ينقل
عن بعض العامة من وجوب غسله زاعما أنه من الوجه لبعض الاستعمالات الغير المطردة في
غاية الضعف، مع ما في المدارك عن أكثر العامة من القول بعدم الوجوب أيضا، أما
ما دخل منه في حد الوجه فالظاهر أن وجوب غسله إجماعي كما في شرح الدروس، بل
يظهر من بعضهم عدم دخوله تحت اسم المسترسل، كآخر الاستدلال عليه بصدق اسم
الوجه عليه، لكن فيه من الضعف ما لا يخفى، كالاستدلال بشمول التحديد له إذ
التحديد لما كان من الوجه.
فالأولى في الاستدلال عليه ما ستسمعه (1) من الأخبار الدالة على سقوط وجوب
غسل البشرة كقوله (عليه السلام) (2): " كل ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه
ولا يبحثوا عنه، ولكن يجري عليه الماء " فإن الظاهر رجوع الضمير المجرور إلى الشعر
فيفيد إيجاب إجراء الماء على الشعر المحيط بدلا عن البشرة فيؤخذ على ذلك الحد قبل
نبات الشعر، وبمعناه أنه لو حدد بالابهام والوسطى بعد نباته فكل ما دخل تحتهما من
الشعر وجب غسله، نعم يشكل هذا بأنه لو نقص عن الحد الأول قبل نبات الشعر
كما إذا كان الشعر كثيفا جدا لم يقتصر عليه، فالأولى مراعاة التحديد قبل نباته،
لكن الظاهر أن الواجب غسل الظاهر من الشعر، ولا يجب التبطين، لقول أحدهما
(عليهما السلام) في خبر محمد بن مسلم (3) قال: سألته " عن الرجل يتوضأ أيبطن لحيته؟
قال: لا " وفي بعضها (4) (إنما عليك أن تغسل ما ظهر) وللوضوءات البيانية، إذ
لا يخفى على من لاحظها ظهورها بل صراحتها في عدم ذلك، ففي الحقيقة حينئذ كما
يكون الشعر بدلا عن البشرة يكون بدلا عن بعضه لكونه محيطا به أيضا، فتأمل.

(1) وفي نسخة الأصل (بعد ما ستسمعه) ولا يخفى أن لفظ (بعد) زائد ومخل
(2) الوسائل - الباب - 46 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 1
(3) الوسائل - الباب - 46 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 1
(4) الوسائل - الباب - 29 - من أبواب الوضوء - حديث 6
154

وهل يستحب غسل المسترسل الخارج عن حدود الوجه كما عن الشهيد في الذكرى
ناقلا له عن أبي علي، ولعله لقول زرارة (1) في حكاية أبي جعفر (عليه السلام) وضوء
النبي (صلى الله عليه وآله): " وسد له على أطراف لحيته " ولاستحباب التخليل، لكن
في كشف اللثام ضعف الدليلين واضح، قلت: هما على ضعفهما كافيان في الحكم
الاستحبابي، بل قد يؤيده الأخبار المتكثرة الآمرة بأخذ الماء من اللحية عند الجفاف
الشاملة للمسترسل منه الظاهرة في أنه مقدم على غيره، إذ مع فرض أنه ليس مستحبا
في الوضوء يكون لا فرق بينه وبين ماء الوضوء المحفوظ في طشت ونحوه، ومنه تظهر
ثمرة للحكم بالاستحباب وعدمه زيادة على نفس الاستحباب، وإذ قد عرفت أنه يجب
غسل الشعر بدلا عن البشرة فالظاهر الاجتزاء بغسل الظاهر.
(ولا) يجب (تخليلها) كما في الخلاف (بل يغسل الظاهر) لما رواه الشيخ في الصحيح
عن زرارة (2) قال: قلت: " أرأيت ما كان تحت الشعر قال: كل ما أحاط به الشعر
فليس للعباد أن يغسلوه ولا يبحثوا عنه، ولكن يجري عليه الماء " وفي الوسائل رواه
الصدوق بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) قال: قلت له: " أرأيت
ما أحاط به الشعر فقال: كل ما أحاط به من الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا يبحثوا
عنه، ولكن يجري عليه الماء " وصحيح ابن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) (4) قال:
سألته " عن الرجل يتوضأ أيبطن لحيته؟ قال لا " وفي خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه
السلام) " إنما عليك أن تغسل الظاهر " و (إنما) تفيد الحصر، وفي الخلاف بعد أن
قال: إيصال الماء إلى ما يستره شعر اللحية وتخليلها غير واجب، قال: " دليلنا أن
الأصل براءة الذمة، وإيجاب التخليل يحتاج إلى دليل، وعليه إجماع الفرقة " وظاهر
إطلاق المصنف وغيره وما سمعت من الأخبار عدم الفرق بين الكثيفة والخفيفة كما نص

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 46 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 3 - 1
(3) الوسائل - الباب - 46 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 3 - 1
(4) الوسائل - الباب - 46 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 3 - 1
155

عليه في المعتبر والتحرير والمنتهى والإرشاد وجامع المقاصد والروضة، بل نسبه في الدروس
إلى الشهرة ظاهرا منها اختياره، بل ربما نقل عن المبسوط، وقد سمعت إطلاق كلامه
في الخلاف، وقيل إن خفت اللحية وجب تخليلها، واختاره في القواعد والمختلف
واللمعة، كما عن ظاهر ابني الجنيد وأبي عقيل والسيد في الناصريات، والمراد بالخفيف
ما تتراءى البشرة من خلاله في مجلس التخاطب، ويقابله الكثيف كما يظهر من بعضهم،
بل نص عليه في جامع المقاصد والروضة وغيرهما، لكن لا يخفى عليك ما في هذا التفسير
من الاجمال، لاختلاف المجالس وأحوال الشعر وجلوس المخاطب، فلعل إناطته بالعرف
أولى من ذلك وإن كان هو لبيانه.
وربما ظهر من بعض أن النزاع في ذلك لفظي، لأن الجميع متفقون على
وجوب غسل البشرة التي بين الشعر، وعدم وجوب غسل المستور بنفس الشعر، فلا
نزاع حينئذ، وآخر أن النزاع في خصوص المستورة، وإلا فالظاهرة بين الشعر
لا كلام في وجوب غسلها، وثالث فجعله في خصوص الظاهرة، وإلا فلا كلام في
عدم وجوب غسل المستورة، وكأن السبب في ذلك وقوع بعض عبارات من بعضهم،
فيأخذ المتخيل بها ويحكم بها على الجميع، وهو غير لائق، وإلا فيحتمل أن يكون
كلامهم في مسألة التخليل ليس لغسل البشرة، بل المراد أنه هل يجب غسل الشعر
الباطن عوض البشرة أو يجتزى بغسل الشعر الظاهر كما لعله تشعر به بعض عبارات بعضهم
أيضا؟ والتحقيق أنه لا ينبغي الاشكال في عدم وجوب التخليل في الكثيفة، للسنة
والاجماع المنقول، بل يمكن دعوى تحصيله، وأما الخفيفة فإن كانت خفة يمتنع معها
صدق اسم الإحاطة كأن تكون متباعدة المكان مثلا فلا ينبغي الاشكال في وجوب غسل
ما بين هذا الشعر، لصدق اسم الوجه واستصحاب بقاء التكليف، إذ لا دليل على
البدلية، وأما ما كان تحت هذا الشعر فيحتمل الاجتزاء بغسل الشعر، لصدق الإحاطة
وكونه مما يواجه به، وضعفهما ظاهر، ويحتمل إيجاب غسل البشرة لكون الوجه اسما
156

لها، فيستصحب بقاء التكليف بها مع الشك في شمول الأدلة لمثله إن لم نقل بظهور
العدم، وحينئذ فهل يجب غسل الشعر معها فيكون كشعر اليد؟ وجهان أيضا، أقواهما
عدم الوجوب، لعدم الدخول في مسمى الوجه، ودعوى أن كل شعرة بدل عن محل
منبتها لتعذر غسله ممنوعة، ولم لا يكون ذلك قرينة على السقوط، على أنه لا يقضي
بسقوط الغسل عن كل ما سترته كيف ما كان ولو بالاسترسال في المحل مثلا، وأما إذا لم
تكن الخفة بتلك المثابة فالأقوى في النظر عدم الوجوب مطلقا، وفاقا للمشهور نقلا به
وتحصيلا مع النظر إلى من أطلق ومن نص على الاطلاق، فيجتزى بغسل الشعر عما
تحته وعما بين الشعرات، لصدق الإحاطة لغة وعرفا، وترك الاستفصال في خبر
التبطين، مضافا إلى اطلاق الاجماع كما سمعت من عبارة الخلاف، بل قد يدعى ظهورها
في إرادة الخلال ما بين الشعر، لاقتضاء عطفه على المستور بشعر اللحية مغايرته.
وما يقال: إن التخليل لا يشمل غير المستور بنفس الشعر ممنوع، بل قد يدعى
صدق استعمال الخلال في هذا أكثر وأشيع، كل ذلك مضافا إلى الوضوءات البيانية،
وإلى ما يظهر من الأخبار من المبالغة في قلة ماء الوضوء والاكتفاء بكف واحد للوجه،
بل في خبر علي بن يقطين (1) المشهور المشتمل على المعجز ما يدل على أن التخليل من
مذهب العامة، فلاحظ وتأمل. مع أنه لو وجب غسل ما بين الشعر أو ما تحته لاحتاج
إلى كثرة ماء حتى يستيقن بحصول الغسل المطلوب شرعا، ومن هنا قيل أنه لا يحصل
له اليقين بذلك حتى يضع وجهه في حوض أو نهر أو نحوهما، وفيه من العسر والحرج
ما لا يخفى، بل كيف يعقل الفرق بين المستور بالشعر وغيره مع شدة اختلافه باختلاف
الأمكنة والأوقات وتفريق الشعر وعدمه ونحو ذلك من جلوس الرائي والمرئي، فقد
ينكشف بعض البشرة الآن ويستتر غيرها ساعة أخرى، على أنه أي ثمرة يحصل لهذا
النزاع، فإنه لا يعلم غسل ما بين الشعر من دون أن يغسل جميع البشرة، وهذا عين

(1) الوسائل - الباب - 32 - من أبواب الوضوء - حديث 3
157

الطلب والبحث المنفي بالرواية، وما في المختلف - من الجواب عن رواية التبطين أنها محمولة
على الساتر، وأيده برواية الإحاطة - ضعيف وتحكم بلا حاكم، وبما ذكرنا ينقطع استصحاب
غسل نفس بشرة الوجه، ودعوى الشك في بدلية الشعر في المقام ممنوعة، لما سمعت
من ظهور الأخبار مع إطلاق فتوى المشهور، كمنع ما سمعت من دعوى الاجماع على
وجوب غسل ما بين الشعر، مع معارضته بما سمعته عن بعضهم من أن النزاع فيه، بل
التتبع والتأمل والتروي يورث الظن القوي بل العلم بخلافه.
وأما قوله (عليه السلام) في خبر زرارة المتقدم (إنما يغسل الظاهر) فبعد
الغض عما في السند في شموله لمثل الظاهر بين الشعر الخفيف نظر، لظهور غيره منه كما
هو واضح، مع معارضته بخبر الإحاطة، نعم قد يقال: بوجوب غسل ما أحاط به
الشعر على جهة التدوير، كما لو كانت بقعة في وسط اللحية ونبت الشعر دائرا عليها،
للشك في شمول الإحاطة بمثله، بل هي ظاهرة في غيرها، فالأحوط غسلها مع الشعر،
وأما المستور بالاسترسال كما لو ستر استرسال الشارب شيئا من بشرة الوجه فالأقوى
وجوب غسل البشرة، ثم إن مقتضى الصحيح المتقدم عدم الفرق بين سائر الشعور
النابتة في الوجه كالعنفقة والشارب والحاجب وغيرها كما نص عليه بعضهم، بل في الخلاف
الاجماع على عدم وجوب إيصال الماء إلى أصل شئ من شعر الوجه، بل قد يستفاد
من ذلك الصحيح قاعدة عامة جارية في سائر الشعور بالنسبة إلى جميع الأفعال حتى يرد
المخصص كما في غسل الجنابة، فإن الواجب فيه غسل البشرة وإن كثف الشعر، لكن
لم أعثر على عامل به على عمومه، بل قد يظهر مما ذكره بعضهم من إيجاب غسل البشرة
في اليد وإن كثف الشعر خلافه، وهو وإن أمكن تعليله بشمول اسم اليد عرفا لشعرها
النابت عليها، ولذا يجب غسله مع البشرة لكنه غير خال من الاشكال، لصحة الرواية
وظهورها بل صراحتها، بل لا يبعد في النظر العمل بعمومها حتى يجئ ما يحكم عليها،
كالعمل بما يظهر منها من أن بدلية الشعر في مقام يكون كذلك بدلية حتمية لا رخصة،
158

فلا يجزي حينئذ غسل البشرة دونه، وقوله (عليه السلام): (ليس عليهم) وإن كان
ظاهرا في إرادة الرخصة، لكن الموجود في رواية الشيخ أنه (ليس للعباد أن يطلبوه)
على أنه بعد أن ما دلت الرواية على سقوط الوجوب المستفاد من الأمر الأول يحتاج إلى
دليل آخر دال على الاجتزاء به، ودعوى استفادته من الأمر الأول محل نظر، فالموافق
للاحتياط الواجب المراعاة في نحو المقام غسل الشعر، للقطع بالاجتزاء به دون غيره،
وقال الشهيد في الدروس: " يستحب التخليل وإن كثف الشعر " ولم أعثر له على دليل
يقتضيه، بل قد يظهر من ملاحظة الأدلة خلافه، نعم قد يتجه ذلك في الخفيفة خروجا
عن شبهة الخلاف، وحيث اشتملت الرواية على العموم اللغوي التي يتساوى جميع
الأفراد بالنسبة إليه لم يختلف الحال في الموافق للغالب وعدمه، فالأعم مثلا إن كان
كثيف الشعر اجتزي بغسله، وفي الخفيف ما تقدم.
(و) كذا (لو نبت للمرأة لحية لم يجب تخليلها) قطعا مع الكثافة، وفي الخفيفة
ما تقدم، وإن ظهر من بعضهم دعوى الاجماع هنا على عدم وجوب التخليل مطلقا،
لكن فيه أن المسألة من واد واحد، بل هي أولى بوجوب التخليل ولو مع الكثافة، حملا
لدليل الشعر على الغالب المتعارف، كما ينقل عن بعض العامة وإن كان ضعيفا،
لما عرفت من العموم اللغوي فيه، ولذا كان الظاهر انعقاد الاجماع من أصحابنا على
عدم وجوب التخليل في الكثيفة، وأما الخفيفة فكسابقها من لحية الرجل، وقد عرفت
أن المختار عدم الوجوب هناك، فلم يجب هنا. (وكفى إفاضة الماء على ظاهرها) كما
يكفي ذلك في الرجل.
(الفرض الثالث)
من فروض الوضوء (غسل اليدين) كتابا وسنة وإجماعا بين المسلمين، (والواجب
غسل الذراعين والمرفقين) أصالة، كما هو ظاهر التهذيب والخلاف والمعتبر والنافع والمنتهى
159

والقواعد وصريح جامع المقاصد مرجحا له بشهرته بين العلماء، ومحتمل الإرشاد
والتحرير، بل لعله الظاهر ممن غير بوجوب الغسل من المرافق كإشارة السبق والجمل
والدروس واللمعة، لدخول ابتداء الغاية فيها كما يظهر من الاستدلال على الدخول بما
تضمن الغسل من المرفق، بل يرشد إليه قول الفاضل في القواعد: " الثالث غسل
اليدين من المرفق إلى أطراف الأصابع، فإن نكس أو لم يدخل المرفق بطل " إذ تفريعه
على كلامه الأول كالصريح فيما ذكرنا، وفي كشف اللثام في شرح العبارة " إجماعا
في الثاني مما عدا زفر وداوود وبعض المالكية " انتهى. وإذ قد عرفت ظهورها في إرادة
الأصلي كان الاجماع عليها، وفي الخلاف " أن غسل المرفقين واجب مع اليدين،
وبه قال جميع الفقهاء إلا زفر - إلى أن قال -: وقد ثبت عن الأئمة (عليهم السلام) أن
(إلى) في الآية بمعنى مع " وفي المعتبر " ويجب غسل اليدين مع المرفقين - إلى أن قال -:
وعليه الاجماع خلا زفر ومن لا عبرة بخلافه " وفي المنتهى " ويجب غسل اليدين بالاجماع
والنص، وأكثر أهل العلم على وجوب إدخال المرفقين " وفي جامع المقاصد " أنه ذكر
المرتضى وجماعة من الموثوق بهم أن (إلى) هنا بمعنى مع " وعن جامع الجوامع " إن أكثر
الفقهاء ذهبوا إلى وجوب غسلهما، وهو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) " انتهى.
بل قد يؤيد ذلك أي إرادة الوجوب الأصلي جعلهم (إلى) في الآية بمعنى مع
كما في التهذيب والمعتبر والمنتهى وغيرها عند التعرض للرد على العامة، والتزام دخول
الغاية في المغيا إما مطلقا أو في خصوص المقام حيث لا مفصل محسوس، ومن العجيب
جعل الآخر في التنقيح قولا بالوجوب المقدمي، كما أنه قد يؤيده أيضا أنهم بصدد
بيان الواجب الأصلي لا المقدمي، سيما وليس من عادتهم التعرض لمثل ذلك، فما وقع
من جملة من المتأخرين كالمقداد والمحقق الثاني أن الاجماع منعقد على وجوب غسل
المرافق مع الذراعين، لكنه هل هو أصلي أو من باب المقدمة فأدخلا الاجمال في عبارات
160

الأصحاب في غير محله وإن تبعه عليهما بعض من تأخر عنهما، بل ربما ظهر من صاحب
المدارك اختيار المقدمي ناقلا له عن العلامة في المنتهى، ولم أجده فيه، بل الموجود
خلافه، كما يظهر للمتصفح لكلامه فيه. ومنه أنه جعل غسل شئ من العضد مقدمة
لادخال المرفق، كما ذكر ذلك فيما لو انقطعت يده من المرفق.
والحاصل أن التأمل في كلمات القوم يشرف الفقيه على القطع بأن مرادهم به الوجوب
الأصلي، فيدل عليه حينئذ بعد ما سمعت من الاجماعات وغيرها ظواهر الوضوءات البيانية،
ففي بعضها (1) (وضع الماء على المرفق) وفي آخر (2) (الغسل من المرفق) وهي وإن
كانت أعم من المقدمي والأصلي لكنها ظاهرة في الأخير، وما تقدم سابقا من المناقشة
في دلالتها على الوجوب قد عرفت الجواب عنه، واشتمال بعضها على لفظ (الذراع)
لا ينافي دخول المرفق معه، وقد يظهر الوجوب أيضا من خبر ابن عروة التميمي (3) قال:
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " عن قوله تعالى (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق)
فقلت: هكذا، ومسحت من ظهر كفي إلى المرفق. فقال: ليس هكذا تنزيلها،
إنما هي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق، ثم أمر يده من مرفقه إلى أصابعه "
بناء على أن ابتداء الغاية داخل فيها ليس كالغاية، ولذا نقل عمن أنكر هناك وافق
هنا، لكنه مناف لجعل (إلى) بمعنى مع في غيره كما تقدم، مع أنه قد يقال: المراد بالتنزيل
التأويل، كما يقال يمكن تنزيله على كذا، فيكون مقصوده إرادة عدم الغسل منكوسا،
أو أن (إلى) هنا بالمعنيين أو يراد بكونها بمعنى (مع) دخول المرفق، فلا ينافي جعلها بمعنى
من، كما أنه لا ينافيه ما في بعض الأخبار من جعل (إلى) غاية للمغسول لا للغسل،
إما للقول بأن الغاية داخلة مطلقا، أو في خصوص المقام حيث لا مفصل محسوس، أو
للحكم بالدخول هنا خاصة لما سمعت من الاجماعات وغيرها، هذا.

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 11
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 11
(3) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الوضوء - حديث 1
161

وقد يستدل على المطلوب أيضا بخبر علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهما السلام) (1)
" سألته عن رجل قطعت يده من المرفق كيف يتوضأ؟ قال: يغسل ما بقي من عضده " لكنه
موقوف على بيان معنى المرفق، فنقول إنه مجمع عظمي الذراع والعضد كما عن التذكرة،
وعن الصحاح والقاموس أنه موصل الذراع في العضد، وفي الحدائق " المرفق كمنبر
ومجلس المفصل، وهو عبارة عن رأس عظمي الذراع والعضد كما هو المشهور أو مجمع عظمي
الذراع والعضد فعلى هذا شئ منه داخل في العضد وشئ داخل في الذراع " انتهى. وربما
ظهر من بعضهم أنه نفس المفصل، وبالجملة هل هو طرف الساعد أو أنه طرفا الساعد
والعضد يظهر من بعض الأول، ومن آخر الثاني، وعليه يمكن الاستدلال بالرواية على إرادة
وجوب غسل ما بقي من طرف العضد لكونه من المرفق، ويكون قوله في السؤال (قطعت
من المرفق) إرادة بعض المرفق، ولعله على هذا يحمل استدلاله في جامع المقاصد على
الدخول الأصلي بقول الكاظم (عليه السلام) في مقطوع اليد من المرفق: (يغسل ما بقي)
قال: " فإن غسله لو وجب مقدمة لغسل اليد يسقط بسقوطه " قلت: لكن لم أعثر
إلا على هذه الرواية، وهي مشتملة على قوله: (ما بقي من عضده) فلم يبق احتمال أن يكون
القطع من المرفق على معنى إرادة بقاء المرفق، وكان ما ذكرناه أولى من حمل الرواية
على استحباب غسل العضد كما ستسمعه، ولعله للبناء على كون المرفق طرف الساعد
فقط، أو يراد بقوله في السؤال (قطعت من المرفق) أي تمامه، وهو لا يحصل إلا
بقطع الطرفين معا، فيكون المراد بقوله (عليه السلام): (ما بقي من عضده) بعد قطع
طرفه الذي تمام المرفق، فتأمل.
(و) يجب (الابتداء من المرفق) وإدخاله والانتهاء
إلى الأصابع، فالمراد حينئذ وجوب البدأة بالأعلى على حسب ما ذكرناه في الوجه.
(ولو غسل منكوسا لم يجز) كما هو صريح الجمل والمعتبر والنافع والمنتهى والتحرير
والقواعد والإرشاد والمختلف والدروس وجامع المقاصد وكشف اللثام وظاهر الإشارة

(1) الوسائل - الباب - 49 - من أبواب الوضوء - حديث 2
162

واللمعة وغيرها، بل في التنقيح وكشف اللثام نسبته إلى الأكثر، وحكاه في المختلف
عن الشيخ وابني حمزة وأبي عقيل وسلار، وقال: إنه رواه ابن بابويه في كتابه، خلافا
لابن إدريس في السرائر، فحكم بالكراهة، وعن المرتضى في أحد قوليه، فحكم
باستحباب البدأة من المرفق، والأصح الأول، لكثير مما تقدم في الوجه، بل هنا
أولى، لظهور كثير من الوضوءات البيانية فيه، ففي بعضها (1) أنه (صلى الله عليه وآله)
" أفرغه على ذراعيه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق " بل خبر علي بن يقطين
المشهور المشتمل على المعجزة كاد يكون صريحا في ذلك، بل هو صريح، بل قد سمعت
ما في خبر ابن عروة التميمي من التصريح بذلك، وأن الآية تنزيلها واغسلوا أيديكم من
المرافق، بل قال في السرائر: إنه جاء فيه بلفظ الحظر وإن حمله على الكراهة زاعما
أن الحكم إذا كان شديد الكراهة يجئ بلفظ الحظر، لكنك خبير أنه لا يرتكب من
دون مقتض، والأصل والآية لا يصلحان لذلك، أما الأول فلانقطاعه، وأما الآية
فإن جعل الغاية فيها للغسل كان مقتضاها إيجاب النكس، وهو باطل بالاجماع، وإن
جعلت للمغسول فغايتها الاطلاق الذي يحكم عليه المقيد، وكذا إن جعلت بمعنى مع،
بل تكون دليلا لنا إن جعلت بمعنى من، ولا عبرة بما ينقل من الاجماع في المقام بعد
تبين خطائه بمصير الأكثر إلى خلافه، وتقدم لك في الوجه من الكلام ما له نفع تام
في المقام فلا نعيده، فلاحظ وتأمل. (و) لا خلاف بل ولا إشكال في أنه (يجب
البدأة باليمنى) بل الاجماع بقسميه عليه، مضافا إلى ظاهر النصوص كما ستعرف إن شاء الله.
(ومن قطع بعض يديه) من دون المرفق (غسل ما بقي من المرفق) وما معه وجوبا
إجماعا منقولا في كشف اللثام، وهو قول أهل العلم على ما في المنتهى، قلت: وكأنه
لا خلاف فيه، ويدل عليه - مضافا إلى ذلك وإلى الاستصحاب وعدم سقوط الميسور
بالمعسور - خبر رفاعة (2) عن الصادق (عليه السلام) قال: " سألته عن الأقطع فقال:

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(2) الوسائل - الباب - 49 - من أبواب الوضوء - حديث 1
163

يغسل ما قطع منه " والحسن بإبراهيم (1) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " سألته عن
الأقطع اليد والرجل قال: يغسلهما " وخبر رفاعة (2) عن الصادق (عليه السلام) قال:
" سألته عن الأقطع اليد والرجل كيف يتوضأ؟ قال: يغسل ذلك المكان الذي قطع منه "
والمناقشة في دلالة هذه الأخبار بإرادة غسل محل القطع ضعيفة سيما بعد فهم الأصحاب،
كالمناقشة في جريان الاستصحاب هنا بكون المكلف به إنما هو غسل المجموع من حيث
المجموع وكان البعض مقدمة لتحصيل الجملة وبعد تعذر الكل لم يبق مجال للاستصحاب،
وفي قوله عليه السلام) (3): " لا يسقط الميسور بالمعسور " بأنه لا يجري في ذي الأجزاء،
نعم هو جار في ذي الجزئيات، وذلك لكون اليد مرادا بها خصوص المرفق إلى رؤوس
الأصابع مجاز فليس من مسمى الاسم حتى يتوجه فيه الاشكال، واحتمال إرادة اشتراط
المجموعية لا يقدح في جريان الاستصحاب، نعم قد يتجه ذلك في مسمى الاسم كالوجه
مثلا للمنع من عدم جريان قوله (عليه السلام): " لا يسقط الميسور بالمعسور " سيما في
خصوص المقام لمكان فتوى الأصحاب، وأما من قطعت يده من فوق المرفق سقط
الغسل إجماعا على ما في المنتهى وكشف اللثام، لسقوط الفرض بسقوط محله، ولا دليل
على البدلية، وما في صحيح علي بن جعفر المتقدم سابقا ومثله غيره من الأمر بغسل
ما بقي من العضد بعد السؤال عن القطع من المرفق قد عرفت وجهه فيما تقدم، وفي المنتهى
بعد ذكر الصحيح أنه مخالف للاجماع، فإن أحدا لم يوجب غسل العضد، فيحمل
على الاستحباب، ومثله في الحكم بالاستحباب عن نهاية الإحكام والذكرى، وقد عرفت
أن ما ذكرناه سابقا أولى وهو إرادة غسل طرف العضد بناء على أن المرفق مجموع العظمين،
ويحمل قوله: (قطعت من المرفق) على إرادة المفصل، فتأمل. ويحتمل تقديم ما ذكروه
ترجيحا لمجازية الندب على غيره، سيما بعد ظهور قوله (عليه السلام): (ما بقي

(1) الوسائل - الباب - 49 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 4
(2) الوسائل - الباب - 49 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 4
(3) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
164

من عضده) في تمامه، وكان عبارة المصنف وما ماثلها كالتحرير والمعتبر ظاهرة في
إرادة بقاء المرفق وحده أو معه شئ من الذراع، فيحمل قولهم ومن قطعت من
المرفق على إرادة دخول المرفق في القطع، بل ينبغي القطع به من نحو قول المصنف
بعد ما مر.
(فإن قطعت من المرفق سقط فرض غسلها) نعم قد يظهر من المنتهى أن المرفق
لا يدخل فيه طرف العضد، ويظهر من غيره خلافه، وإلا فاحتمال إرادتهم بقاء المرفق
وإنما سقط الغسل عنه لكون وجوبه من المقدمة بعيد، بل باطل لما عرفت، مع أن
كلام المصنف هنا بل والمعتبر والعلامة في التحرير كالصريح في إرادة الأول، قال في
الأخبار: " ولو قطع بعض يديه وجب غسل الباقي من المرفق، ولو قطعت من المرفق سقط
فرض غسلها " إذ الحكم بايجاب غسل المرفق أولا قرينة على دخوله في القطع ثانيا، اللهم
إلا أن يجعل (من) الأولى ابتدائية لكنه بعيد، وما نقله في كشف اللثام وغيره عن
المنتهى من سقوط الغسل للوجوب المقدمي لم أتحققه، بل قال في المقام: " لو انقطعت
يده من المرفق سقط غسلها لفوات محل الغسل، وللشافعي في غسل العظم الباقي وهو
طرف العضد وجهان، أصحهما عنده الوجوب، لأن غسل العظمين المتلاقيين من العضد
والمرفق واجب، فإذا زال أحدهما غسل الآخر، ونحن نقول إنما وجب غسل طرف
العضد توصلا إلى غسل المرفق، ومع سقوط الأصل انتفى الوجوب " انتهى. ولا دلالة
فيه على ما نقلوه عنه، بل كلامه سابقا كما هنا كاد يكون صريحا في كون غسل المرفق
واجب أصلي، نعم هو ظاهر في أن المرفق عنده طرف الساعد، وعلى كل حال فلا
ينبغي الاشكال في سقوط الغسل الزائد عن المرفق بعد قطعه لما عرفت، بل لا أجد
فيه خلافا إلا ما حكاه في المختلف عن ابن الجنيد، أنه قال: " إذا قطعت يده من
مرفقه غسل ما بقي من عضده، إلى أن قال: الحق عندي الاستحباب، والظاهر أن
ابن الجنيد أراده " انتهى. قلت لا يبعد إرادته الوجوب عملا بظاهر الصحيح وغيره،
165

وباطلاق الأخبار المتقدمة، لكن الأقوى خلافه، لما عرفت من الأصل والاجماع
المنقول، بل يمكن دعوى تحصيله، ولعل ابن الجنيد يريد طرف العضد بناء منه على
أنه من المرفق كما ذكرناه سابقا، والحاصل أنه لا إشكال في وجوب غسل المرفق لو
بقي وحده بناء على المختار من كون وجوبه أصليا، أما لو لم يبق منه شئ فهل يستحب
غسل العضد تماما أو يجب أو يستحب غسل مخصوص محل القطع أو مسحه؟ وجوه،
وبعضها أقوال، وقد عرفت أن القول بالاستحباب في تمام العضد لا يخلو من وجه، لظاهر
الصحيح المتقدم إلا أن الأقوى حمله على ما تقدم، فتأمل جيدا.
(ولو كان له ذراعان دون المرفق أو أصابع زائدة أو لحم نابت) أو غير ذلك
(وجب غسل الجميع) بلا خلاف أجده في ذلك، بل في شرح الدروس الاجماع عليه
على الظاهر، وفي المدارك لا ريب في وجوب غسل ما دون المرفق كله وإن لم تتميز
الزيادة، وبه صرح في المعتبر والإرشاد والتحرير والمنتهى والمختلف والقواعد والدروس
وظاهر جامع المقاصد وغيرها، وعن المبسوط على اختلاف في الأمثلة غير قادح،
ومنه يعلم حكم جميع ذلك لو كان في الوجه، وقد يستدل عليه بأنه من جملة أجزاء ما يجب
غسله أو كالجزء، فأشبه الثالول، وبالأمر بالغسل من المرفق إلى رؤوس الأصابع
ولم يستثن شيئا، وبصدق اسم اليد عرفا على مجموع ذلك، وبأنه بدل عن المحل النابت
فيه، وبان ما علاه جلد محل الفرض، ونحو ذلك مع مراعاة الاحتياط. لكنه لا يخفى
عليك ما في الجميع بالنسبة إلى بعض أفراد الدعوى.
(ولو كان) شئ من ذلك (فوق المرفق لم يجب غسله) قطعا، لأصالة البراءة
مع الخروج عن محل الفرض، ولا إشكال فيه كما في المدارك، وهو خيرة ما سمعت
من الكتب المتقدمة صريحا في بعض وظهورا في آخر، ومقتضى الاطلاق كما صرح به
بعضهم عدم الفرق بين كونها محاذية لمحل الفرض وعدمه، خلافا لما نقل عن الشافعي
من إيجاب غسل المحاذي، وهو ضعيف، كما أن قضية الاطلاق الأول وجوب غسل
166

ما كان في محل الفرض وإن تدلى على غيره أو طال حتى زاد على المحل، ولا ينافي ذلك
ما ذكره العلامة (رحمه الله) في التحرير والمنتهى من أنه " لو انقلعت جلدة من غير محل
الفرض حتى تدلت في محل الفرض وجب غسلها، وبالعكس لا يجب نافيا للخلاف في
الثاني في المنتهى " لأن الظاهر أن مراده بالانقلاع انقلاعا ممتدا بحيث انكشط بعض
ما في المحل معها، أو ما في الخارج بمعنى أنه لم يبق أصلها في محل الفرض أو في غيره بخلاف
ما نحن فيه، لكنه في كشف اللثام قال: " لو لم يخرج بالانكشاط عن المحل ولكن
تدلت في غيره وجب غسل ما بقي منها في المحل قطعا، وفي الخارج المتدلي وجهان من
الخروج ومن الاتحاد كالظفر الطويل " فيحتمل أن يجئ مثله في المقام في الصورة الأولى
وهي ما خرج بعض اللحم النابت فيما دون المرفق حتى تدلى في غير المحل، لكن الأقوى
وجوب غسل الجميع كما هو مقتضى الاطلاق، والأمر سهل. ثم إن مقتضى عبارة المصنف
وما ماثلها عدم الوجوب لو نبت شئ من الأشياء المتقدمة من المرفق، والأقوى الوجوب
لما عرفت من عدم الفرق بينه وبين ما دونه، وما يقال: إن العمدة ظهور الاجماع هناك،
وهو مفقود في المقام فيه أن التأمل في كلامهم سيما ما ذكروه من الأدلة يقضي
بالتساوي بينهما.
(ولو كان) يد (زائدة وجب غسلها) سواء كانت دون المرفق أو فوقه أو
فيه كما صرح به في المختلف، بل كاد يكون صريح الإرشاد أيضا كما عن التلخيص
ومحتمل التذكرة، ويظهر من آخرين إيجاب غسل اليد إن كانت دون المرفق
أو اشتبهت بالأصلية للتساوي في البطش والمقدار ونحو ذلك، أما إذا علم زيادتها
وكانت فوق المرفق سقط غسلها، واختاره في القواعد والتحرير والمنتهى
والدروس وظاهر جامع المقاصد، وأطلق في المعتبر كما عن المبسوط عدم وجوب
غسل اليد فوق المرفق ويمكن إرادتهما المتميزة لاطلاق اسم الزيادة عليها في المعتبر،
مع احتمال أن يريد بها الزيادة في أصل الخلقة. حجة الأول - مضافا إلى موافقته
167

للاحتياط - صدق اسم اليد بدليل تقسيمها إلى الأصلية والزائدة، فيشملها قوله تعالى:
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) (1) وبالأولى إذا لم تكن متميزة، ومقتضاه الوجوب الأصلي
لا المقدمي حجة الثاني الأصل بعد انصراف إطلاق ما دل على وجوب غسل اليد إلى المتعارف
المعهود، لكنه يجب غسلهما معا عند الاشتباه للمقدمة، أما مع عدم فيقتصر على
الأصلية، والمناقشة فيه بأن مقتضى ذلك عدم وجوب غسل اليد الزائدة إذا كانت
تحت المرفق مدفوعة بما سمعت من كونها كالجزء من المحل، ولظهور الاجماع المدعى
في ذلك المقام المؤيد بعدم العثور على مخالف فيه، وربما استدل لهم بصدق اسم اليد مع
الاشتباه، فيكون مشمولا لما دل على وجوب غسل اليد بخلاف ما إذا كانت معلومة
الزيادة، لكن لا يخفى عليك أن مقتضى الدليل الأول الوجوب المقدمي، والثاني الأصالي.
قلت لا ينبغي الاشكال في صدق اسم اليد حقيقة على المشتبهة بالأصلية، بل وعلى
بعض أفراد المعلومة الزيادة كما إذا كان لها مرفق مثلا ومساوية للأصلية في المقدار إلا
أنها أضعف بطشا مثلا على ما جعلوه معيارا لمعرفة الزيادة من الأصلية، وكأن مرادهم
بالزيادة بالنسبة للمشتبهة بالأصلية الزيادة في أصل خلقة الغالب في أفراد الانسان، وإلا
فهما متساويان بالنسبة إلى هذا البدن، غايته أنه موضوع جديد فرد نادر ليس على
قياس غالب أفراد الانسان، فحينئذ إما أن يقال إنه موضوع جديد لم يكن مشمولا
للخطابات، فيحتاج في كيفية وضوئه إلى دليل آخر، والمتيقن من حصول طهارته غسل
اليدين معا، ولعل مرادهم بالمقدمة هذا المعنى لا المقدمة بمعنى أنه مكلف بغسل يد واحدة
لكنه لم يعرفها فيجب غسلها مقدمة لتحصيلها، إذ قد لا يكون في الواقع امتياز لأحد
اليدين على الأخرى، لكن ينافيه قولهم أو مشتبهة بالأصلية، هذا إذا جعلنا لفظ
(كم) الذي أضيفت إليه الأيدي غير متناول له، أما لو قلنا بشموله له فإما أن نقول:

(1) سورة المائدة - الآية 8
168

لفظ (الأيدي) وإن كان متناولا لذلك حقيقة، لكنه لما كان الغالب في الأفراد
تثنية اليد لا تثليثها ولا تربيعها، وأن جمع الأيدي باعتبار أفراد المكلفين، وإلا فالمراد
غسل اليدين كما تضمنه السنة فحينئذ ينبغي أن نقول: إنه من باب المطلق لا المجمل، فله
أن يغسل اليدين ويترك أحدهما لصدق غسل اليدين، فلا يجب غسل الجميع حينئذ،
وإما أن نقول: أن المراد الجمعية مطلقا، فالمتجه حينئذ وجوب غسلهما معا أصالة لا مقدمة،
والذي يقوي في النظر أن اليد إن كانت معلومة الزيادة بوجه من الوجوه التي يعرف
بها ذلك على معنى معرفة اليد التي هي على أصل خلقة غالب أفراد الانسان من غيرها
كأن تكون مثلا تلك نابتة في العضد صغيرة ليست لها تلك القوة بحيث يعلم أن الأخرى
هي الموافقة لأصل الخلقة فالظاهر حينئذ عدم وجوب غسل الزائدة، لانصراف تلك
الاطلاقات إلى المتعارف في خلقة الانسان، وصدق اليد عليها حقيقة لا ينافي ذلك،
وإيجاب غسلها إذا كانت تحت المرفق ليس لذلك، بل هي كاللحم الزائد، أما إذا
لم يعلم زيادتها على ذلك النحو بأن يكون قد خلق الله تعالى له كتفين متساويين كل منهما
له عضد مستقل ومرفق وذراع وكف فالظاهر حينئذ وجوب غسل الجميع، لتناول
إطلاق الأدلة، وتثنية اليد في بعضها لا ينافي ذلك، لجريانها مجرى الغالب، أو للمقدمة
لحصول الطهارة، لعدم العلم بكيفية تكلفه، وأما ما يظهر من كلمات الأصحاب من
المقدمة لليد الأصلية فالظاهر خلافه، لمنع الحصر بالزائدة والمشتبهة، بل الحكم
بأصالتهما معا متجه.
وتظهر الثمرة في كثير من المواضع، منها أنه بناء على ظاهر كلام الأصحاب
ينبغي إيجاب المسح بهما معا مقدمة للمسح بالأصلية بخلافه على ما قلنا، بل يكتفى بالمسح
بأحدهما، وقد عرفت أن احتمال وجوب غسل أحدهما لا يخلو من وجه، لكن الأقوى
ما ذكرنا، وطريق الاحتياط غير خفي، هذا. ويجري في اليد النابتة بالمرفق مع
العلم بزيادتها ما يجري في غيرها من الأمور الزائدة، والظاهر الوجوب، وكان
169

التقييد في كلام الأصحاب بما دون المرفق لكونه أوضح في المثال للمسألة، قال في
المدارك: " إذا لم يكن اليد الزائدة لها مرفق لم يجب غسلها قطعا " ومراده خروجها
عن أصل البحث في وجوب غسل الزائدة لو كانت فوق المرفق، ولعل وجهه أن
الشارع أمر بغسل اليد إلى المرفق، وحيث لا مرفق يتعذر امتثال المأمور به، فيسقط
التكليف، وعليه حينئذ ينبغي أن يلتزم فيما لو خلقت للشخص يد واحدة ولا مرفق لها
بسقوط غسلها، اللهم إلا أن يفرق بالاجماع إن تحقق، وفيه منع، إذا الظاهر بناء
على وجوب غسل اليد الزائدة وجوبه وإن لم يكن لها مرفق، إذ التكليف بغسل اليد
ليس مبينا على الهيئة الاجتماعية، كما ينبئ عنه إيجاب غسل الباقي من المقطوع وغيره،
وحينئذ فالظاهر التقدير بالنسبة لمن لا مرفق له على ذوي المرافق، فتأمل.
(الفرض الرابع)
من فروض الوضوء (مسح الرأس) كتابا وسنة وإجماعا بين المسلمين (والواجب
منه ما يسمى مسحا) كما في الجمل والعقود والسرائر والنافع والمعتبر والتحرير والقواعد
والمنتهى والإرشاد واللمعة والروضة وظاهر جامع المقاصد وغيرها، وعن التبيان
والمجمع وأحكام القران للراوندي وروض الجنان منسوبا في الأربعة الأخيرة إلى مذهب
الأصحاب على ما حكاه في كشف اللثام، وفي المدارك أنه المشهور بين الأصحاب
وفي المختلف أن المشهور بين علمائنا الاكتفاء في مسح الرأس والرجلين بإصبع واحدة،
واختاره الشيخ في أكثر كتبه وابن أبي عقيل وابن الجنيد وسلار وأبو الصلاح وابن
البراج وابن إدريس، انتهى.
وفي كشف اللثام " أنه في المقنعة والتهذيب والخلاف وجمل السيد والغنية
والمراسم والكافي والمهذب وموضع آخر من أحكام الراوندي أن الأصل مقدار إصبع "
قلت: لعله لا نزاع بين الجميع، لأن المراد بالأصبع أقل ما يتحقق به المسمى على أن
يراد بالأصبع مقدار عرضه لا طوله، كما يشعر به عبارة المقنعة، حيث قال:: " ويجزي
170

الانسان في مسح رأسه أن يمسح من مقدمه مقدار إصبع يضعها عليه عرضا مع الشعر إلى
قصاصه " وتحتمل وجها آخر، وربما يشير إلى ذلك أيضا ما في إشارة السبق والدروس
لقولهما مسح الرأس بما يتحقق به مسماه ولا يحصل بأقل من إصبع، وقد يكون ذلك ظاهر
الخلاف أيضا، لأنه قال: ويجزي مقدار إصبع واحدة، واستدل عليه باجماع الفرقة،
وبقول أبي جعفر (عليه السلام) (1): " إذا مسحت بشئ من رأسك فقد أجزأك "
ويرشد إليه أيضا عدم ذكرهم ذلك مستقلا ممن عادته التعرض لمثل ذلك، ونقله في
المختلف عمن رأينا عبارته من الاجتزاء بالمسمى كابن إدريس، واستدلاله في المنتهى
على الاجتزاء بالمسمى برواية الإصبع التي ستسمعها، إلى غير ذلك من الأمارات الكثيرة
الدالة على كون مرادهم المشهور الذي نقلناه أولا لكن قد تأباه عبارة التهذيب، لأنه
قال في الاستدلال على ما ذكره المفيد من الاجتزاء بالأصبع: ويدل عليه آية المسح،
ومن مسح رأسه ورجليه بإصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم ويسمى ماسحا، ولا يلزم
على ذلك ما دون الإصبع، لأنا لو خلينا والظاهر لقلنا بجواز ذلك لكن السنة منعت منه.
وكيف كان فلا ريب في أن ما ذكره المصنف هو الأقوى للأصل، ولاطلاق
قوله تعالى (2): (وامسحوا برؤوسكم) مع تفسيرها بالصحيح أن المراد بها بعض
الرأس لمكان الباء، وما ينقل عن سيبويه من إنكار كون الباء للتبعيض لا يلتفت إليه،
مع أنه معارض بدعوى غيره ثبوتها في هذا المعنى، وأنها حقيقة، والمثبت مقدم على
النافي، ويؤيده مجيئها في الشعر وغيره بهذا المعنى، فليطلب من مظانه، ومثلها إطلاق
كثير من الأخبار الآمرة بالمسح على مقدم الرأس، مع ظواهر كثير من الوضوءات
البيانية في وجه، ولقول أبي جعفر (عليه السلام) (3) في خبر زرارة وبكير ابني أعين:

(1) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 4
(2) سورة المائدة - الآية 8
(3) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 4
171

" إذا مسحت بشئ من رأسك أو بشئ من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع
فقد أجزأك " وما في مرسل حماد عن أحدهما (عليهما السلام) (1): في الرجل يتوضأ
وعليه العمامة قال: " يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه فيمسح على مقدم رأسه " لصدق
إدخال الإصبع بما يتحقق به مسمى المسح ولو قدر أنملة من الرأس، كما فهمه المفيد من
رواية الإصبع بالنسبة للمرأة على ما ستسمع، وفي الوسائل بعد أن نقل هذه الرواية عن
الشيخ ذكر عن الكافي مسندا إلى حماد عن الحسين (2) قال: " قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): رجل توضأ وهو معتم فثقل عليه نزع العمامة لمكان البرد،
فقال: ليدخل إصبعه " وفي المنتهى بعد أن ذكر الرواية الأولى قال: " وهذا
الحديث وإن كان مرسلا إلا أن الأصل يعضده، على أن ابن يعقوب رواه في كتابه
عن حماد عن الحسين، ورواه السيد المرتضى في الخلاف عن حماد عن أبي عبد الله
(عليه السلام) " انتهى.
وكيف كان فالارسال على تقديره غير قادح بعد ما سمعت من الانجبار بالشهرة
والاجماع المنقول، خلافا لظاهر الصدوق في الفقيه، فإنه قال: " حد مسح الرأس
أن يمسح بثلاث أصابع مضمومة من مقدم الرأس " وللمنقول عن النهاية فإنه قال:
" والمسح بالرأس لا يجوز أقل من ثلاثة أصابع مضمومة مع الاختيار، فإن خاف البرد
من كشف الرأس أجزأه مقدار إصبع واحدة " وللمنقول عن أبي على يجزي الرجل في
المقدم إصبع والمرأة ثلاث أصابع، وكان جميع هذه الأقوال لظاهر قول أبي جعفر
(عليه السلام) في الحسن (3) كالصحيح: " المرأة يجزيها من مسح الرأس أن تمسح
مقدمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقي عنها خمارها " وخبر معمر بن عمر عنه (عليه السلام)
أيضا (4) قال: " يجزي من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع، وكذلك الرجل "

(1) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2
(2) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2
(3) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 5
(4) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 5
172

وقد يستدل أيضا بما دل على مسح المقدم من الأخبار لظهورها في استيعابه، خرج الزائد
عن الثلاث بالاجماع، فيبقى الباقي وتعرف الجواب عنها عند البحث عن المقدم إن
شاء الله تعالى. ولظاهر لفظ الاجزاء في أقل الواجب، وللجمع بين هاتين الروايتين
ورواية الإصبع المشتملة على ذكر البرد فصل الشيخ بين الاختيار وغيره، وابن الجنيد
بين الرجل والمرأة، لكنك خبير أن مثل هاتين الروايتين - مع الطعن في سند الثانية،
وقلة العامل بهما، بل الشيخ في النهاية لم يعرف أنه مذهب له، ولذلك قال ابن إدريس
أوردها ايرادا لا اعتقادا، مع احتمالها إرادة الندب فإنه يعبر عن ذلك بعدم الجواز،
واحتمال عبارة الفقيه أن ذلك حد الرأس بمعنى أنه متى مسح بأي جزء منه أجزء، كما
لعله يشعر به عبارة الهداية أن حد الرأس مقدار أربع أصابع من مقدمه، وتحتمل
الندب أيضا، مع أن ظاهر عبارة الفقيه إيجاب كون آلة المسح ثلاث أصابع، والرواية
لا تدل عليه، مع ما عرفت من الشهرة بين الأصحاب والاجماع المنقول صريحا وظاهرا -
غير صريحة في الخلاف، لاحتمال إرادة الاجزاء في الفضيلة، أو إلقاء الخمار، مع
اختصاص الرواية الأولى بالمرأة، فلذلك كان حملها على الاستحباب متجها.
فقال المصنف: (والمندوب مقدار ثلاث أصابع) مضمومة كما في المقنعة والخلاف
والجمل والعقود والسرائر والمعتبر والقواعد والتحرير والنفلية وجامع المقاصد والروضة
وغيرها، وهو المنقول عن المبسوط والغنية والمراسم والوسيلة والمهذب ومصباح السيد
والاصباح وغيرها (عرضا) كما في المقنعة والتحرير والنفلية وغيرها، والظاهر أن
المراد من المستحب مقدار عرض ثلاث أصابع، لأنه المتبادر من التقدير بالثلاث
أصابع، ويظهر من بعض أن المراد استحباب هذا المقدار في عرض الرأس، والفرق
بين هذا وسابقه أن الأول مجمل بالنسبة إلى إرادة العرض من الممسوح أو طوله، مبين
بالنسبة إلى التقدير، والثاني مجمل بالنسبة إلى المقدار، مبين بالنسبة إلى عرض
الممسوح، وأنت خبير أن الروايات خالية عن بيان ذلك، فيحتمل إرادة عرض
173

الثلاث بالنسبة إلى عرض الرأس أو طوله، ويحتمل إرادة الطول مع العرض بالنسبة
إلى عرض الرأس أو طوله، فالاحتمالات أربعة، ولعل الأظهر إرادة من
الأصابع، لأنه المعروف من التقدير بذلك، ولما كان المتعارف المسح بالنسبة إلى
طول الرأس لا يبعد إرادة عرض ثلاث أصابع من طول الرأس، ويحتمل جعله مطلقا
بالنسبة إلى عرض الرأس وطوله لا مجملا.
وكيف كان فليس للرواية دلالة على استحباب كون المسح بالثلاث، لكنك
قد عرفت أن عبارة الصدوق ظاهرة في ذلك، وفي إشارة السبق للحلبي " يستحب
جمع أصابع الكف المتوسطة الثلاثة لمسح الرأس " قلت: قد يدعى أنه المنساق من
الروايات وكلام بعض الأصحاب، مع أنه هو المتعارف في الاستعمال، واعلم أن
ظاهر المصنف هنا وغيره ممن أطلق كاطلاقه عدم الفرق في ذلك في الواجب والمستحب
بين الرجل والمرأة، لكن بعض القدماء كالصدوق والمفيد وغيرهما ذكروا أن المرأة إذا
توضأت ألقت قناعها، ومسحت موضع المسح في صلاة الصبح والمغرب، ويجزيها
في غيرهما من الصلوات أن تدخل إصبعها من تحت قناعها من غير أن تلقيه، وتمسح به
ما تناله من محل المسح ولو قدر أنملة، بل ظاهر الصدوق إيجاب ذلك، وكأنه لخبر
عبد الله بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)
عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " لا تمسح المرأة بالرأس كما يمسح
الرجال، إنما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع الخمار عنها، فإذا كان الظهر
والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها " ولقصور الرواية عن إفادة الوجوب من
وجوه كثيرة كانت محمولة على الاستحباب، وتأكده بالنسبة إلى صلاة الغداة والمغرب
كما عن المصنف، وصرح به العلامة والشهيد، وربما نقل عن بعضهم الاقتصار في
المتأكد على صلاة الصبح خاصة، ولعله للاقتصار عليه في الرواية المتقدمة، والأولى

(1) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 5
174

الأول، للخبر المروي عن الصدوق في الخصال بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر
(عليه السلام) (1) قال: " المرأة لا تمسح كما تمسح الرجال، بل عليها أن تلقي الخمار
عن موضع مسح رأسها في صلاة الغداة والمغرب وتمسح عليها، وفي سائر الصلوات تدخل
إصبعها فتمسح على رأسها من غير أن تلقي عنها خمارها " ولعل القول بأن الصبح أشد
تأكيدا ثم من بعده المغرب ثم الثلاثة الأخيرة عملا بظاهر الخبرين أولى.
ثم إنه بناء على ما هو التحقيق من الاجتزاء بالمسمى فالزائد مستحب محض إن
كان المسح تدريجيا، وإلا فهو أحد أفراد الواجب المخير، كما إذا تحقق مسح مقدار
الثلاث دفعة واحدة، أما الأول فلتحقق الواجب، فيحصل الاجزاء، فيكون الزائد
مستحبا محضا، لأنه يجوز تركه لا إلى بدل، وأما الثاني فلأن ماهية المسح تحققت
لكونه فردا من أفرادها، ولعل من أطلق القول بكونه أفضل أفراد الواجب كما نسب
في المنتهى إلى المحققين أراد الثاني، كمن أطلق كونه مستحبا أراد الأول، وما يقال:
من احتمال كونه على الأول أحد أفراد الواجب المخير لمكان قصده امتثال أمر المسح به
ضعيف، إذ لا دخل للقصد في صدق الماهية، والامتثال ترتبه عليها عقلي، نعم لو قام
دليل من خارج أن من قصد امتثال أمر المسح بالزائد كان تكليفه ذلك ولا يجزيه
حينئذ الأول وإن تحققت به الماهية لكان متجها، لكن الفرض عدمه، ونفس الأمر
بالمسح لا ينتقل منه إلى ذلك، ولقد أطال صاحب الحدائق في كون المدار على القصد،
فمن قصد امتثال أمر المسح بمقدار الثلاث مثلا لا يجزيه الأقل ما لم يعدل، ومن قصد
الامتثال بالأقل لم يكن الزائد واجبا ولا مستحبا، لعدم الدليل على الوجوب ولا على
الاستحباب، لأن ما دل عليه ظاهر في كون تأدية الواجب به مستحبا، فبعد حصول
الواجب لم يبق استحباب أصلا، بل قال: إني لا أفهم وصف الزائد بعد تحقق الامتثال
بالأقل بالاستحباب أو الوجوب، نعم هو متجه بالنسبة إلى الفردين اللذين يتحقق بهما

(1) المستدرك - الباب - 22 - من أبواب الوضوء - حديث 2
175

الواجب على معنى كون الفرد الذي مساحة المسح فيه مقدار الثلاث أفضل من الفرد الآخر،
وأطال في الاعتراض على ما ادعى ظهوره من كلمات الأصحاب من كون الزائد على
ما تحقق الواجب هل هو على الوجوب أو الاستحباب؟
قلت: أنت خبير بما فيه، إذ مراد الأصحاب أن الزائد على مقدار المسمى
هل هو مخاطب به خطاب ندبي غير خطاب الواجب، فيكون مسحين أولهما ما تحقق
الواجب والآخر مستحب محض، أو أنه مسح واحد تأدى به الوجب، فيكون المراد
أنه أفضل أفراد الواجب، والحاصل أن مسح مقدار الثلاث هل هو أفراد لتحقق ماهية
المسح، فيتأدى الواجب بأولها والباقي مستحب، أو أنه فرد واحد، فيراد باستحبابه
على معنى كونه أفضل أفراد الواجب؟ وقد عرفت أن الذي يقتضيه بادئ النظر الفرق
في ذلك بين التدريجي والدفعي، فالأول واجب ومندوب محض، والثاني أفضل
أفراد الواجب، لكن قد يقال بعد التأمل في خصوص المقام: أنه من أفضل أفراد الواجب
في كل من الدفعي والتدريجي بشرط اتصال المسح فيه، لما يظهر من العرف أنه مسح
واحد كالغسل المتصل، بل قد يدعى أنه الظاهر من قول الأصحاب (المندوب مسح
ثلاث أصابع) إذ لا ينطبق على ظاهره، لكون بعضه واجبا قطعا، بل الذي يقتضيه
الرواية فإن قوله (عليه السلام) (1): (يجزي من المسح) إلى آخره بعد حمله على الندب
لا معنى لأن يراد به الواجب والندب، فالأقوى بحسب النظر كونه أفضل أفراد
الواجب فيهما معا، لكن بشرط عدم الانفصال في المسح التدريجي، فتأمل جيدا.
وفيما تركنا وذكرنا من كلام صاحب الحدائق مواضع للنظر لا تخفى على من لاحظها
تركنا التعرض لها خوف الإطالة، وأما احتمال القول أنه في الدفعي مستحب لأنه يجوز
تركه لا إلى بدل فضعيف جدا، إذ البدل الاقتصار على الأقل.

(1) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الوضوء - حديث 5
176

ثم إن الزائد على القدر المستحب والواجب هل هو على الإباحة أو الكراهة أو
التحريم؟ وجوه، بل لعلها أقوال، والتحقيق، أنه لا ينبغي الاشكال في عدم الحرمة
في مسح الزائد الذي لم يخرج به عن مسمى البعضية مع كونه من المقدم أو الناصية،
والفرض خلوه من قصد التشريعية، بل قد يدعى في مثله أن لا تشريع لو قصد لمكان
الأمر بمسح المقدم والناصية، فمن مسح أزيد من الثلاث من مقدمه وقلنا بكونه مسحا
واحدا لا يبعد القول بأنه أحد أفراد الواجب وإن كان لا ثواب فيه زيادة على مسح
الثلاث لو اقتصر عليها، فإنه بعد أن عرفت أن الآية دلت على مسح بعض الرأس،
والسنة قيدت ذلك بالمقدم والناصية لا على إرادة إيجاب استيعابهما، وروايات الثلاث دلت
على أنه منتهى الفضل في أفراد هذا الواجب مسح الثلاث، وهو لا ينافي تأدي الواجب
بالزائد على الثلاث وإن لم يكن فيه فضل زائد عليها، نعم لو مسح مع بعض المقدم
بعضا من غيره فالأصح الحرمة إن قصد التشريع، وعدمها إن لم يقصد، ووجههما
واضح، وهل يبطل الوضوء على الأول؟ وجهان. أقواهما نعم إن قصده في ابتداء
النية بحيث نوى القربة بوضوء هكذا مسحه. ولا أن قصد التشريع في الأثناء، لعدم
دليل على إبطال ذلك، مع تحقق امتثال الأمر بالوضوء وإجزائه، أما لو مسح جميع
رأسه فلا إشكال في عدم الحرمة حيث يكون قصد الامتثال بالبعض، ووقع الباقي لا بقصد
شئ من الوضوئية، وما يظهر من بعضهم من الحكم بالكراهة لم نقف له على مستند،
ولعله من جهة التشبه بالعامة ونحوه، والأمر سهل، أما لو قصد الامتثال بالمجموع
فقد عرفت أنه لا إشكال في الحرمة، وما في الخلاف من الاجماع على بدعيته منزل عليه،
ونحوه إطلاق المنقول من القول بالحرمة، والأقوى بطلان الوضوء وإن قصد ذلك في
ابتداء النية، وإن قصده في الأثناء فيحتمل القول هنا بالبطلان وإن لم نقل به في الصورة
السابقة، لعدم صدق امتثال مسح البعض المأمور به في الآية، واستوضح ذلك في
أن السيد إذا قال لعبده. كل بعض الرغيف أو اشرب بعض الماء فأكل وشرب
177

الجميع لم يكن ممتثلا، والأقوى في النظر أنها كسابقتها في الصحة، لصدق تحقق
البعض في مسح الجميع، ولعل الأمر بايجاب مسح البعض إنما هو في مقام توهم وجوب
الجميع، فلا يفيد سوى الاجتزاء بذلك، وحرمة الجميع إنما تجئ من جهة التشريع.
وقد تظهر الثمرة في الغافل والجاهل المعذور ونحوه، فإنه يتجه الفساد على الوجه
الأول والصحة من دون حرمة على الوجه الثاني، وقد يقال بالبطلان في جميع صور
التشريع من غير فرق، بين الابتداء والأثناء، لكونه مسحا واحدا عرفا، فلا
يجتمع فيه الواجب والمحرم، نعم لو كرر المسح بأن مسح الواجب ثم مسح غيره مع
فصل بينهما اتجه القول بصحة الوضوء وإن أثم، لكن الأول أقوى، فتأمل.
(ويختص) الواجب من (المسح) والمستحب (بمقدم الرأس) فلا يجزي المسح
على غيره، كما في الفقيه والهداية والإشارة والجمل والعقود والتهذيب والخلاف والمراسم
والمعتبر والسرائر والنافع والمنتهى والإرشاد والقواعد والتحرير والدروس واللمعة
والروضة وغيرها، بل في الخلاف وكشف اللثام الاجماع عليه، كما في الانتصار مما
انفردت به الإمامية القول بأن الفرض مسح مقدم الرأس، والفقهاء يخالفون في ذلك
ولا يوجبونها ولا شبهة في أن الفرض عند الإمامية يتعلق بمقدم الرأس، ولا يجزي
سواه، ثم استدل على صحة ما ذهب إليه الإمامية بالاجماع، يدل عليه مضافا إلى
ذلك الأخبار المعتبرة المستفيضة حد الاستفاضة، ففي الحسن كالصحيح منها (1)
" امسح على مقدم رأسك " وفي آخر (2) " يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه،
فيمسح على مقدم رأسه " إلى غير ذلك من الأخبار المشتملة على ذكر المقدم من الوضوءات
البيانية وغيرها، فما في بعض الأخبار (3) من الأمر بالمسح على خلف الرأس مطرح

(1) الوسائل الباب - 25 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(2) الوسائل الباب - 22 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 6
(3) الوسائل الباب - 22 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 6
178

أو محمول على التقية قطعا، كما أنه يجب تقييد ما في البعض الآخر (1) من الأمر بمسح
الرأس وشئ منه بذلك، بل مما في كتابة أبي الحسن موسى (عليه السلام) إلى علي بن
يقطين (2) في الخبر المشهور المشتمل على المعجزة " امسح بمقدم رأسك " يستفاد الاجتزاء
بمسح بعض المقدم، فما يظهر من الخبر الأول وغيره من إيجاب مسح تمام المقدم
لا يلتفت إليه، خصوصا بعد الاجماع ظاهرا على عدم إيجاب مسح تمام المقدم حتى من
القائل بالثلث، لكن في حسنة زرارة بإبراهيم بن هاشم (3) قال: قال أبو جعفر
(عليه السلام): " إن الله وتر يحب الوتر، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات،
واحدة للوجه، واثنتان للذراعين، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك، وما بقي من بلة يمناك
ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسراك ظهر قدمك اليسرى " ما ينافي الاجتزاء بمسح
شئ من المقدم سواء كان ناصية أو غيرها، إذ المراد بالمقدم ما قابل المؤخر والجانبين،
فيكون عبارة عن الربع من قنة الرأس المسامت للجبهة، والناصية عبارة عما أحاطت به
النزعتان إلى منتهاها على ما عن العلامة وغيره، إلا أنه قد يقال: الموجود في الأخبار
وكلام الأصحاب بل هو معقد الاجماعات المسح على المقدم، ولم أعثر على غير هذه
الرواية تضمنت لذكر الناصية ورواية مسح الامرأة التي تقدمت سابقا، لكن لا صراحة
فيها، بل ولا بمن عبر من الأصحاب بذلك عدا المفيد في المقنعة، فإنه قال: " ثم
يرفع يده اليمنى بما فيها من البلل فيمسح بها من مقدم رأسه مقدار ثلاث أصابع مضمومة
من ناصيته إلى قصاص شعره مرة واحدة - مع أنه قال بعد ذلك بكلام طويل -: ويجزي
الانسان في مسح رأسه أن يمسح من مقدمه مقدار إصبع " إلى آخره. فيكون قرينة
على إرادة الاستحباب بما ذكره أولا كما يرشد إليه أيضا قوله ثلاث أصابع، كما

(1) الوسائل الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 4
(2) الوسائل الباب - 32 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(3) الوسائل الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 2
179

أن ابن إدريس في السرائر قال بعد ما نقلناه عنه من المسح على للقدم بكلام طويل:
" وأقل ما يجزي في مسح الناصية ما وقع عليه اسم المسح " ولعله أراد بها المقدم، وفي
الذكرى " يجوز المسح على كل من البشرة والشعر المختص بالمقدم لصدق الناصية - ثم
قال -: والأغم والأنزع يمسحان مكان ناصية مستوي الخلقة " والرواية مع ظهور
إعراض الأصحاب وعدم صراحتها في الوجوب لاحتمال أن يكون قوله (عليه السلام):
(وتمسح) على إضمار (أن) فيكون معطوفا على قوله (عليه السلام): (ثلاث) فلا تكون
للأمر وما ينقل عن ابن الأنباري باشتراط كون المعطوف عليه مصدرا في نحو ذلك قد
يمنع، أو يقال: إنه هنا بمنزلة المصدر لا تصلح لتقييد تلك المطلقات من النصوص وغيرها.
نعم قد يقال: المراد بالمقدم في النص والفتوى الناصية لا على جهة التقييد، بل على
دعوى أن ذلك أحد معانيه كما صرح به في القاموس على ما قيل، وعن المصباح المنير
أنه قال " الناصية قصاص الشعر، وجمعها النواصي، ونصوت فلانا قبضت على
ناصيته وقول أهل اللغة: النزعتان هما البياضان المكتنفان بالناصية، والقفاء مؤخر
الرأس، والجانبين ما بين النزعتين ومؤخر الرأس، والوسط ما أحاط ذلك به، وتسميتهم
كل موضع باسم يخصه كالصريح في أن الناصية مقدم الرأس " انتهى. وقد يظهر أيضا من
عبارة السرائر والذكرى المتقدمين. فما يظهر من بعضهم من أن المقدم عبارة عن ربع
الرأس مبتدءا به من قنته، فالربع الذي يسامت الجبهة هو المقدم لا دليل عليه، فيكون
حينئذ المقدم عبارة عن الناصية، وهي على ما عن العلامة وغيره عبارة عما أحاط به النزعتان
حتى يسامت منتهاهما، وربما ينطبق عليه ما في الهداية من أن حد الرأس مقدار أربع
أصابع من مقدمه، وما عن الناصريات " أنه قال الناصر: فرض المسح متيقن بمقدم
الرأس، والغاية إلى الناصية فكتب السيد هذا صحيح، وهو مذهبنا، وبعض
الفقهاء يخالفونا في ذلك، ويجوزون المسح على أي بعض كان من الرأس، والدليل
على صحة مذهبنا الاجماع " انتهى وكان مراد الناصر بقوله وغايته الناصية أي منتهى
180

الناصية، مع احتمال أن يريد الجبهة، لأنها أحد معانيها على ما عن القاموس فتخرج
حينئذ عن الاستشهاد، لكن مع ذلك كله والمسألة لا تخلو من إشكال، لكون المتبادر
من لفظ المقدم في النص والفتوى عرفا هو ما تقدم من الرأس، وهو أوسع من الناصية،
بل عن بعضهم عن بعض معاصريه دعوى الاجماع على ذلك، نعم الظاهر أن سطح
قنة الرأس لا يدخل في شئ منه فيه، واحتمال تقييد ذلك، الاطلاق بخبر الناصية قد
عرفت ما فيه، بل حمل الناصية فيه على المقدم أولى وإن كان مجازا، أو تحمل الرواية
على إرادة الاستحباب أو غير ذلك، إلا أن الاحتياط الاقتصار على الناصية.
(ويجب أن يكون) المسح (بنداوة الوضوء) خلافا للعامة عدا مالك، فأوجبوا
المسح بماء جديد، وهو مخالف لاطلاق الكتاب ونصوص السنة والاجماع المحصل والمنقول،
وما في بعض الروايات مما تدل بظاهره على إيجاب الاستيناف كما في خبر معمر بن
خلاد (1) " أيجزي الرجل مسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال (عليه السلام): برأسه لا،
فقلت: إيماء جديد؟ فقال: برأسه نعم " وخبر أبي بصير (2) قلت: " أمسح بما في يدي
رأسي قال: لا بل تضع يدك في الماء ثم تمسح " ونحوه غيره محمول على التقية أو غيرها قطعا.
(ولا يجوز استيناف ماء جديد له) كما في الفقيه والانتصار والمقنعة والجمل والعقود
والخلاف والسرائر والإشارة والمراسم والمعتبر والقواعد والتحرير والمنتهى والإرشاد
وغيرها من كتب المتقدمين والمتأخرين، بل في الانتصار أنه مما انفردت به الإمامية،
وأن الشيعة توجب المسح ببلة اليد، وفي الخلاف نسبته إلى الأكثر أولا ثم نقل الاجماع
عليه ثانيا، وفي المعتبر أنه مذهب الثلاثة وأتباعهم وفتوى الأصحاب اليوم، وفي
الذكرى أنه استقر إجماعنا بعد ابن الجنيد، وفي جامع المقاصد أنه استقر عليه مذهب
الأصحاب، ولا يعتد بخلاف ابن الجنيد، فلو استأنف لم يصح قطعا، إلى غير ذلك
ممن نقل الاجماع في المقام، بل قد يدعى تحصيله، بل هو حاصل، وخروج ابن

(1) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 4
(2) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 4
181

الجنيد غير قادح، على أن عبارته المنقولة في المختلف غير صريحة في ذلك، قال: " إذا
كان بيد المتطهر نداوة يستبقيها من غسل يديه مسح بيمينه رأسه ورجله اليمنى، وبيده
اليسرى رجله اليسرى، ولو لم يستبق ذلك أخذ ماء جديدا لرأسه ورجليه " إذ يحتمل
أن يكون سمى ما على محال الوضوء ماء جديدا، أو يكون ذلك لشدة حر أو حرارة
على القول بالاجتزاء.
وكيف كان فيدل عليه مضافا إلى ما سمعت الوضوءات البيانية، منها حينئذ ما في
حسنة زرارة بإبراهيم (1) " ومسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلة يساره وبقية بلة يمناه،
قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): إن الله وتر يحب الوتر، فقد يجزيك من الوضوء
ثلاث غرفات، واحدة للوجه، واثنتان للذراعين، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك،
وما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى "
وما في حسنة زرارة وأخيه بكير بإبراهيم بن هاشم أيضا (2) " ثم مسح رأسه وقدميه
ببلل كفه لم يحدث لهما ماء جديدا " وما في خبر بكير (3) " ثم مسح بفضل يديه رأسه
ورجليه " وخبر محمد بن مسلم (4) " ثم مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه " وما في خبر
أبي عبيدة الحذاء (5) " ثم مسح بفضلة الندى رأسه ورجليه " وما في خبر زرارة (6) " ثم
مسح ببلة ما بقي في يديه رأسه ورجليه، ولم يعدهما في الإناء " وفي آخر (7) " ثم
مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء " والمناقشة في الوضوء البياني قد
مضى ما فيها، لما سمعت من الرواية المرسلة المنجبرة بعمل الأصحاب، مع ظهور مثل
قول زرارة وبكير وأبي عبيدة: (لم يجدد ماء) (ولم يعدهما في الإناء) ونحو ذلك في الدلالة،
على أنهم فهموا الوجوب، مضافا إلى قوله (عليه السلام) في خبر زرارة الأول: (وتمسح

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 3 - 4
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 3 - 4
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 3 - 4
(4) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 7 - 8
(5) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 7 - 8
(6) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 10 - 11
(7) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 10 - 11
182

ببلة يمناك ناصيتك) لظهورها في الأمر وإن احتملت بعيدا غيره، بل يدل عليه مضافا
إلى ذلك حسنة ابن أذينة بإبراهيم (1) أنه " لما أسري بالنبي (صلى الله عليه وآله) إلى
السماء أوحى الله إليه ادن يا محمد (صلى الله عليه وآله) من صاد - إلى أن قال -: ثم أوحى
الله أن اغسل وجهك، فإنك تنظر إلى عظمتي، ثم اغسل ذراعيك اليمنى واليسرى
فإنك تلقى بيديك كلامي، ثم امسح رأسك بما بقي في يدك من الماء ورجليك إلى
الكعبين فإني أبارك عليك وأطؤك موطئا لم يطأه أحد غيرك " بل يدل عليه أيضا الأخبار
المستفيضة (2) الدالة على أخذ الماء من اللحية والحاجبين والأشفار عند نسيان المسح،
وفي بعضها (3) أنه " إن لم يبق من بلة وضوئك شئ أعدت الوضوء " وفي آخر (4)
" من نسي مسح رأسه ثم ذكر أنه لم يمسح رأسه فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه
وليمسح رأسه، وإن لم يكن في لحيته فلينصرف وليعد الوضوء " لكن قد يخدش
الاستدلال بها بأنه قد يكون الأمر بالإعادة لفوات الموالاة بجفاف نداوة الوضوء لا لعدم
جواز المسح بماء جديد، فتأمل.
ومع ذلك كله فلم أعثر على ما يدل على قول ابن الجنيد عدا الاطلاق، إذ ما سمعته
من الروايتين السابقتين في أولى المسألة لا يقول بهما، لمكان تضمنهما النهي عن المسح
بالنداوة الباقية، وخروج الأول عما نحن فيه، وحملهما على ما يقول مع عدم إمكانه
ليس بأولى من حملهما على التقية، بل في الإشارة برأسه في الأولى إشارة إلى ذلك،
ودعوى أن اشتمال الأولى على المسح للرجلين ينافي ذلك يدفعها أنه قد يراد بالمسح هنا
هو الغسل، لكونه يطلق عندهم على ذلك، بل قد يشعر به كونه بماء جديد أيضا،
وربما نقل عن جملة منهم القول بالاجتزاء بالمسح لكن مسح الظهر والبطن، نعم قد يستدل

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 8 - 7
(3) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 8 - 7
(4) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 8 - 7
183

له بخبر منصور (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عمن نسي رأسه حتى قام
في الصلاة قال: ينصرف ويمسح رأسه ورجليه " ومثله رواية الكناني (2) ويقرب
منهما خبر أبي بصير (3) في " رجل نسي أن يمسح رأسه فذكر وهو في الصلاة فقال: إن كان
استيقن ذلك انصرف فمسح على رأسه ورجليه واستقبل الصلاة، وإن شك فلم يدر
مسح فليتناول من لحيته إن كانت مبتلة وليمسح على رأسه، وإن كان أمامه ماء فليتناول
منه فليمسح به رأسه " لكن فيه - مع كونها أخص من الدعوى، واحتمالها إرادة
الانصراف بمعنى قطع الصلاة والمسح ببلة الشعر أو إرادة إعادة الوضوء كما يرشد إلى
ذلك جعله المسح بالماء الجديد جوابا لشرطية الشك وغير ذلك - لا تقاوم ما سمعته من
الأدلة من السنة والاجماع.
ثم إن قضية إطلاق الكتاب والفقيه والجمل والعقود والإشارة والمراسم والسرائر
والمعتبر والنافع والقواعد والتحرير والإرشاد والدروس واللمعة وغيرها عدم وجوب
كون الماسح اليد اليمنى، كما هو صريح النفلية وظاهر شرحها وصريح كشف الغطاء،
بل في الحدائق الظاهر الاتفاق على الاستحباب، لكن قد عرفت أن حسنة زرارة
ظاهرة في الوجوب، لقوله (عليه السلام) فيها: (وتمسح ببلة يمناك ناصيتك) وهو ظاهر
المفيد في المقنعة وعبارة ابن الجنيد المتقدمة وما عن القاضي في المهذب، إلا أن تقييد تلك
المطلقات من الكتاب والسنة مع فتاوى الأصحاب بمجرد هذه الرواية وإن كانت نقية
السند لا يخلو من إشكال، سيما مع ظهور إعراضهم عنها حتى من مثل صاحب المدارك
التي جرت عادته بالعمل بمضامين الأخبار الصحيحة وإن خالفت كلام الأصحاب، قال

(1) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الوضوء - حديث 2
(3) الوسائل - الباب - 42 - من أبواب الوضوء - حديث 8
184

في المقام: " أنه يستفاد من حسنة زرارة (1) أن الأولى مسح الناصية وظاهر القدم
اليمنى باليد اليمنى " إلى آخره فجعله أولى فلا يبعد حينئذ حمل الرواية على الاستحباب،
كما يحتمل ذلك أيضا في عبارة المفيد وابن الجنيد، بل في الأولى إمارات على ذلك،
وإلا فاحتمال صرف إطلاق النص والفتوى إلى المسح باليد اليمنى لكونه الفرد المتعارف
بعيد جدا، نعم المتبادر من إطلاق لفظ اليد في النص والفتوى الكف، فيكون حدها
الزند كما أشار إلى ذلك الطباطبائي في منظومته، فقال:
ولا يجوز المسح إلا في اليد * وحدها الزند إذا لم تفقد
بل مما يرشد إلى ذلك ما في بعض الأخبار المشتملة على الوضوءات البيانية كخبر
الأخوين (2) " ثم مسح رأسه وقدميه ببلل كفيه لم يحدث لهما ماء جديدا " وخبرهما
الآخر (3) " ثم مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفيه لم يجدد ماء " ولأنها هي
المتعارف في المسح، كما أن المتبادر من المسح بهما المسح بباطنها. فلا يجزي المسح بالظاهر،
ومقتضى ذلك أنه إذا تعذر المسح بالباطن لجفاف مائه لنسيان ونحوه وكانت النداوة
باقية على الظاهر بحيث لا يمكن نقلها إلى باطن اليد يجب إعادة الوضوء، لانعدام المشروط
بانعدام شرطه، نعم لو كان المسح بالباطن متعذرا لمرض أو غيره لا لجفاف ماء ونحوه
أمكن الاجتزاء بالمسح بالظاهر، إذ سقوط الوضوء من المقطوع بعدمه، لما يفهم من
الأدلة أنه لا يسقط بتعذر بعض أجزائه، واحتمال الاجتزاء به بدون مسح في غاية البعد،
لاطلاق الأمر بالمسح في الوضوء مع تمكن الامتثال به، وإيجاب المسح بالباطن مع التمكن
منه، فيبقى المطلق على حاله، ولأن " الميسور لا يسقط بالمعسور " (4) و " ما لا يدرك

(1) الوسائل الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 8 وفي المدارك (صحيحة)
بدل (حسنة)
(2) الوسائل الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 11
(3) الوسائل الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 11
(4) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
185

كله لا يترك كله " (1) وللاستصحاب ونحو ذلك، ولعله لذا قال في المدارك:
" والظاهر أن محل المسح باطن اليد دون ظاهرها. نعم لو تعذر المسح بالباطن أجزأ
الظاهر قطعا " لكن الشهيد في الذكرى قال: " والظاهر أن باطن اليد أولى، نعم لو
اختص البلل بالظاهر وعسر نقله أجزأ، ولو تعذر المسح بالكف فالأقوى جوازه بالذراع "
انتهى. وقد يظهر من حكمه بالأولوية عدم إيجاب ذلك. وعلى تقدير إرادته الوجوب
فحكمه بالاجزاء فيما إذا اختص البلل بالظاهر وعسر نقله لا يخلو من إشكال، لعدم
دليل على الاجتزاء، بل لا بد من إعادة الوضوء، نعم لو كان ذلك متعذرا في حد
ذاته لا لعدم البلل أمكن الاجتزاء به كما عرفت، والظاهر تساوي نسبة جميع أجزاء
الكف في المسح بها، لكنه في الحدائق قال: " إنهم ذكروا أن الواجب كونه بالأصابع "
قلت: لم أقف على مصرح به، ولا دليل يقتضيه، ورواية (يدخل إصبعه) ونحوها
لا ظهور فيها بذلك، ولو تعذر المسح بالكف ظاهرا وباطنا لمرض ونحوه اجتزي بالمسح
في الذراع لما عرفت، وهل يجب نقل بلة اليد إليه بناء على وجوب الترتيب في نداوة
الوضوء كما هو الأقوى أو لا يجب؟ وجهان، أولهما أحوطهما، ولو كان التعذر للجفاف
ونحوه وكان لا يمكن نقل بلة الذراع إلى الكف وجب إعادة الوضوء لما تقدم، ولعل
التعذر في عبارة الشهيد السابقة يراد به الأول، وإلا ففيه ما لا يخفى، كما أنه لا يخفى
ما في هذا الترتيب بعد أن استظهرنا من الأدلة إيجاب المسح بباطن الكف، والاجتزاء
بالمسح بغيرها عند التعذر، فالترتيب في ذلك بأن يكون أولا ظاهر الكف ثم إذا
تعذر فالذراع مثلا لم أعثر على دليل يقتضيه سوى وجوه اعتبارية، لا تصلح لأن تكون
مدركا للأحكام الشرعية، وطريق الاحتياط غير خفي، ومن المعلوم أنه يستفاد من
النظر في تلك الأدلة المتقدمة إيجاب إيصال البلة إلى الممسوح بواسطة اليد، فلا يجتزي
بتقطيرها مثلا كما نص عليه بعض الأجلة.

(1) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
186

ثم إنه هل يشترط جفاف الممسوح من الماء أولا؟ قيل نعم، كما هو خيرة
العلامة في بعض كتبه ناقلا له عن والده، وقيل لا، كما هو خيرة السرائر والمصنف
في المعتبر وبعض من تأخر عنهما، وربما ظهر من بعضهم التفضيل، فقال بالصحة مع
غلبة بلة الوضوء، وإلا فالفساد، ولعل مستند (الأول) مضافا إلى الاحتياط أن الأمر
بالمسح بالبلة ينصرف إلى الأفراد الغالبة، بل لا يصدق أنه مسح بالبلة مع امتزاجها
بغيرها. إذ لو صدق ذلك لصدق مع استئناف ماء جديد ومزجه مع بلة اليد كما يصنعه
العامة. إذ هي لا تنفك عن بلة الوضوء غالبا، وقد عرفت بطلانه سابقا، واحتمال الفرق
بين الماءين فالأول ليس مسحا بماء جديد بخلاف الثاني تحكم، ولأن المركب من الداخل
والخارج خارج، على أنه إن سلمنا أنه ليس مسحا بماء جديد لكنه ليس مسحا بالبلة
خاصة، مع ظهور الأدلة بالمسح بما بقي في اليد خاصة، مع أنه لا يقطع أيضا في مثل
ظاهر القدم باتصال تلك البلة من رؤوس الأصابع إلى الكعبين، نعم لو كان ما على
الممسوح مجرد نداوة لا يمتزج شئ منها ببلة الوضوء أمكن القول بالاجتزاء، وقد يلتزم
به أهل هذا القول وإن لم يصرحوا به، وبذلك يظهر فساد قول المفصل، إذ غلبة ما بقي
في اليد على بلل الممسوح لا يدفع ما ذكرنا، وما يتخيل من تحقق صدق المسح بالبلة حينئذ
فيه أنه من المسامحات العرفية لا من الحقائق، نعم لو كان ما على الممسوح قليل جدا
بحيث لا ينافي صدق المسح بما بقي في اليد حقيقة عرفا لاستهلاكه اتجه الجواز، ولعلهم
يقولون به وإن لم يصرحوا به أيضا.
ولعل مستند (الثاني) إطلاق المسح الصادق في مثل المقام، بل في السرائر.
أن من كان قائما بالماء وتوضأ ثم أخرج رجليه من الماء ومسح عليهما من غير أن يدخل
يديه في الماء فلا حرج عليه، لأنه ماسح بغير خلاف، والظواهر من الآيات تقتضيه
والأخبار متناولة له، وفي المعتبر " أنه لو كان في ماء وغسل وجهه ويديه ثم مسح برأسه
ورجليه جاز، لأن يديه لم تنفك من ماء الوضوء، ولم يضره ما كان على القدمين
187

من الماء " انتهى. ولأنه لا يصدق عليه في العرف أنه استأنف ماء جديدا، بل قيل
وإن حصل الجريان باجتماع البلتين، بل ولو ببلة الممسوح منفردة عند عدم القصد إلى
الغسل وإن صدق اسم الغسل عليه، ويؤيده صحيحة زرارة (1) " لو أنك توضأت
وجعلت موضع مسح الرجلين غسلا وأضمرت أن ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء "
الدالة على جواز غسل الممسوح لا بذلك القصد، على أنه لو منع مثل ذلك لكان ينبغي
المنع من الوضوء في موضع لا ينفك من العرق كالحمام ونحوه، على أن المراد بالمسح
بالبلة المسح مع نداوة اليد وإن لم يعلق شئ منها بالممسوح، وهو صادق وإن كان على
الممسوح ماء آخر.
ولعل مستند (التفصيل) صدق المسح بالبلة مع غلبتها بخلاف العكس، بل
والتساوي، والأقرب في النظر الأول وكان القول بالتفصيل يرجع إليه، ولعله
لذا نقل عن بعض نسبته إلى ظاهر الأصحاب، واحتمال أن المجوزين للمسح مع بلل
الممسوح يقولون بذلك يدفعه أن الظاهر خلافه، بل الجميع يشترطون تأثير الممسوح
بالمسح وإن لم يظهر للبصر، وأما ما ادعاه أهل القول الثاني أخيرا من الاكتفاء بالمسح
مع نداوة اليد وإن لم ينتقل أجزاء من الماسح إلى الممسوح به فممنوع كل المنع، لكون
المتبادر من إطلاق لفظ البلة ونحوها خلافه، ولعلهم أخذوه مما في بعض الأخبار من
النداوة، وإرادة، ذلك منها ممنوع أيضا، بل لا يبعد صدق اسم الجفاف معها في المفروض،
وما ينقل عن ابن الجنيد من جواز إدخال اليد تحت الماء ومسح الرجل بها مثلا لا يوافق
شيئا من الأقوال السابقة، ولعله بنى على مذهبه من جواز المسح بماء جديد وعدم إيجاب
المسح ببقية البلة، لكنك قد عرفت أن مقتضى عبارته السابقة ليس الجواز مطلقا،
والإطالة في تحقيق حاله مع القطع ببطلانه غير لائق.
ثم إنه هل يدخل في الماء الجديد الماء الباقي في اليد بعد غسلها بطريق الغمس؟

(1) الوسائل الباب - 25 - من أبواب الوضوء - حديث 17
188

كما إذا نوى غسلها بالمكث مثلا، أما لو نوى غسلها بالاخراج مرتبا في القصد إلى غسل
أجزائها حتى أخرجها فالظاهر أنه لا ينبغي الاشكال في كونه ليس ماء جديدا، نعم يقع
الاشكال فيما إذا نوى غسلها بالادخال أو بالمكث ثم أخرجها، والأقوى في النظر كونه
ماء جديدا، إذ لا يصدق بقاء شئ من بلة الوضوء، وما يقال: إن العرف شاهد على
صدق بقاء البلة وإن ذلك كله غسل واحد ممنوع، والظاهر أن المراد بما بقي في اليد
إنما هو بعد تمام الغسل وإن كرر مرارا يده على العضو استظهارا، لكون الاستظهار
مطلوبا شرعا وإن لم يكن واجبا، مع أن المعلوم من علماء الأعصار في سائر الأمصار
عدم تحديد ذلك، وعدم التربص والتأمل في تمام الغسل الواجب، بل قد يدعى أن ما يفعله
زائدا على الاستظهار الشرعي لا بأس به، فتأمل جيدا، والله أعلم.
(ولو جف ما على) باطن (يديه) أو مطلقا من الظاهر والباطن على اختلاف
الوجهين كما تقدم (أخذ من لحيته) ولو من المسترسل طولا أو عرضا (أو أشفار عينيه)
وغيرها من محال الوضوء، وتخصيص اللحية والأشفار بالذكر لكونها مظنة بقاء الماء،
وإلا فلا فرق بينها وبين غيرها من محال الوضوء، بل قد يكون غيرها أولى من مسترسل
اللحية، لما عرفت من الاشكال في الدليل استحبابه، واحتمال القول بجواز الأخذ
منه وإن لم نقل باستحباب غسله تمسكا بظواهر الأخبار في المقام وإن كان ممكنا لكنه
بعيد، لأن الظاهر منها إرادة نداوة الوضوء، وهو لا يدخل تحتها على تقدير عدم
استحباب غسله، وما يقال: إن الماء الذي على مسترسل اللحية هو ماء غسل الوجه فهو
بلل الوضوء وإن لم نقل باستحباب غسله ففيه - مع أنه لا يشمل جميع صور الدعوى إذ
قد يغسل المسترسل بماء غير ماء الوجه - أن المراد من ماء الوضوء الباقي في محاله، وإلا
فلا يجتزى بالمسح بالمجتمع من ماء الوضوء في إناء ونحوه.
والحجة فيما ذكره المصنف - بعد ظهور الاتفاق عليه سيما بين المتأخرين وما عساه
يظهر من بعض عبارات القدماء كسلار في المراسم وغيره من الخلاف في ذلك لاقتصارهم
189

في ذكر الواجب في الوضوء على المسح بالبلة الباقية في اليد ليس خلافا، إذ الظاهر أن
مرادهم من ذلك التعريض في رد ابن الجنيد والعامة، ومثله ما في الانتصار، قال:
" مما انفردت به الإمامية القول بأن مسح الرأس يجب ببلة اليد، فإن استأنف ماء
جديدا لم يجز به، حتى أنهم يقولون إذا لم يبق في اليد بلة أعاد الوضوء - إلى أن قال -:
والذي يدل على صحة هذا المذهب مضافا إلى طريقة الاجماع " انتهى. فإن الظاهر أن
مراده بقوله (أنهم يقولون) إلى آخره نفي الماء الجديد، ويحتمل أن يكون مرادهم بما
بقي في اليد إنما هو بلة الوضوء، ولعله لما ذكرنا نسب الحكم المذكور في كشف اللثام
إلى قطع الأصحاب، بل في المعتبر في بحث الموالاة نقل الاتفاق على أن ناسي المسح
يأخذ من شعر لحيته وأجفانه وإن لم يبق في يده نداوة، بل لم أجد أحدا من المتأخرين
نقل خلافا فيه ممن عادته التعرض لمثله - الأخبار المستفيضة (منها) مرسل خلف بن حماد
عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: قلت له: " الرجل ينسى مسح رأسه وهو في
الصلاة، قال: إن كان في لحيته بلل فليمسح به، قلت: فإن لم يكن له لحية قال يمسح
من حاجبيه أو من أشفار عينيه " و (منها) ما رواه في الفقيه مرسلا (2) قال: قال الصادق
(عليه السلام): " إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلة وضوئك،
فإن لم يكن بقي في يدك من نداوة وضوئك شئ فخذ ما بقي منه في لحيتك وامسح به
رأسك ورجليك، وإن لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك وأشفار عينيك وامسح به
رأسك ورجليك، وإن لم يبق من بلة وضوئك شئ أعدت الضوء " وبما تضمناه
من أخذ الماء من الحواجب والأشفار يقيد مفهوم قول الصادق (عليه السلام) في خبر
مالك بن أعين (4) أنه: " إن لم يكن في لحيته بلل فلينصرف وليعد الوضوء ".
لا يقال: إن ظاهر هذه الأخبار ينافي ما ذكرت من الدعويين السابقتين، وهما
أنه لا ترتيب بالنسبة إلى الأخذ من محال الوضوء بعد جفاف اليد، وثانيهما جواز

(1) الوسائل - الباب 21 - من أبواب الوضوء حديث 1 - 8 - 7؟
(2) الوسائل - الباب 21 - من أبواب الوضوء حديث 1 - 8 - 7؟
(3) الوسائل - الباب 21 - من أبواب الوضوء حديث 1 - 8 - 7؟
190

الأخذ من غير اللحية والحواجب والأشفار. لأنا نقول: أما ما يستفاد منها من الظهور
في ترتيب الأخذ من الحواجب والأشفار بعد أن لم يكن في اللحية بلل فلم أعثر على
من أفتى به من الأصحاب، بل جميع من وقفنا على كلامه أو نقل إلينا لم يرتب
ذلك، بل قال: أنه إن جف ما على اليد أخذ من اللحية والحواجب والأشفار، كالمفيد
في المقنعة والشيخ في المبسوط وابن إدريس والمصنف والعلامة والشهيد وغيرهم، بل
قد يظهر من بعضهم دعوى الاجماع عليه، فيكون ذلك قرينة على عدم إرادة الترتيب
في الخبرين ويكون تقديم اللحية لكونها أقرب مظنة لبقاء الماء فيها من غيرها، ويرشد
إلى ذلك الأمر بالأخذ من الحواجب إن لم يكن له لحية لامع وجودها وانتفاء البلل
عنها، على أنه لو سلمنا ظهورهما في ذلك لكنك قد عرفت أن الخبرين مرسلان لا جابر
لهما، فكيف يعمل بهما في ذلك، خصوصا مع ظهور كلمات الأصحاب في خلافهما
. وأما الدعوى الثانية وهي جواز الأخذ من غير الثلاثة فهو - مع تصريح بعض
الأصحاب وظهور آخر فيه أيضا كظهور الاقتصار في النص والفتوى على الثلاثة في
عدم إرادة التقييد منها، بل إنما ذكرت لكونها هي مظان بقاء البلل فيها - يدل عليه
قوله (عليه السلام) في الخبر المتقدم: " إن لم يبق من بلة وضوئك شئ أعدت الوضوء "
فقد علق الإعادة على عدم بقاء شئ من بلة الوضوء، ودعوى إرادة البلة في المحال
الثلاث ممنوعة، فاحتمال الاختصاص بالثلاثة كاحتمال التعدي إلى خصوص بلة الوجه
فقط بعيدان.
ثم إن الظاهر من عبارة المصنف هنا اشتراط الأخذ من اللحية ونحوها بجفاف
اليد، فلو أخذ مع عدمه بطل الوضوء، كما هو الظاهر من المقنعة والسرائر والمعتبر
والمنتهى والقواعد والتحرير والإرشاد والدروس والذكرى وعن المبسوط والتذكرة
وغيرها، لكنه قال في المدارك: " الظاهر أنه لا يشترط في الأخذ من هذه المواضع
جفاف اليد، بل يجوز مطلقا: والتعليق في عبارات الأصحاب مخرج مخرج الغالب "
191

انتهى. ومثله المنقول عن جده في المسالك والروض مستدلا عليه في الأخير باشتراك
الجميع في كونه بلل الوضوء، فلا يصدق عليه الاستئناف، وباطلاق قول الصادق
(عليه السلام) في خبر مالك بن أعين: " من نسي مسح رأسه ثم ذكر أنه لم يمسح فإن
كان في لحيته بلل فليأخذ منه ويمسح به " حيث جوز الأخذ من غير تقييد بالجفاف،
واستشكله بعض المتأخرين بمخالفته لكثير من الوضوءات البيانية، وقوله (ع): (امسح
بما بقي في يدك رأسك) وقوله (عليه السلام): (تمسح ببلة يمناك ناصيتك) والاشتراط
المتقدم في المرسل وما في بعض الوضوءات البيانية من المسح بنداوة الوضوء فهو - مع
كون الغالب المسح بما بقي في اليد ونحوه - ظاهر في إرادة النداوة الباقية فيها، على
أنه مطلق يحكم عليه غيره. وبه تعرف ما في التمسك باطلاق خبر مالك المتقدم، وأما
ما ذكره من خروج القيد مخرج الغالب فهو وإن كان ممكنا في مثل المرسل المتقدم، لكنه
بعيد في مثل عبارات الأصحاب، وكيف مع أن المعروف فيها أن مفهوم اللقب فيها
حجة فضلا عن غيره، على أن ما ذكره احتمال لا يكتفى بمثله في بيان ماهية العبادية
التوقيفية مع مخالفته الاحتياط.
لكن الانصاف أن التأمل في عبارات الأصحاب والروايات يورث الفقيه الظن بالجواز
لظهورها في إرادة المسح بما بقي عدم استئناف الماء الجديد كما هو مذهب العامة، ومما
يرشد إلى ذلك ما في المنتهى فإنه - بعد أن ذكر كما ذكر الأصحاب من أنه إن لم يكن في
يده أخذ من لحيته، واستدل عليه بالأخبار المتقدمة - قال: " ولأنه ماء الوضوء،
فأشبه ما لو كان على اليد، إذ الاعتبار بالبقية لا بمحلها " انتهى. وهو كالصريح
في عدم إرادة التقييد السابق، وما في الوسيلة قال في تعداد واجبات الوضوء:
" ومسح مقدم الرأس ببلة الوضوء " وما في الجمل والعقود، قال: " ويمسح الرأس
والرجلين ببقية نداوة الوضوء من غير استئناف ماء جديد " وما في الإشارة، قال:
192

" أقله إصبع واحدة ببقية النداوة لا بماء يستأنف " وما في بعض عبارات المقنعة، كقوله:
" لا يستأنف للمسح ماء جديدا بل يستعمل فيه نداوة الوضوء " وما في الغنية والمهذب
والكافي. قال في الأول: " الفرض الثاني أنه لا يستأنف لمسح الرأس والرجلين ماء
جديدا بدليل الاجماع المشار إليه " إلى آخره. فإن اكتفاءه بذلك وعدم ذكره إيجاب
أن يكون ببلة اليد كالصريح فيما ذكرنا، ومثله ما في الثاني " ثم يرفع يده اليمنى ببلل
الوضوء من غير أن يأخذ ماء جديدا " وكذا الثالث قال: " فإن مسح غير الجبهة أو
استأنف للمسح ماء جديدا بطل الوضوء " بل هو الذي يقضي به التدبر في عبارة الخلاف
والانتصار، فلتلاحظ. على أن ما ذكر من التعليق في كلمات الأصحاب وبعض
الأخبار لا دلالة فيه على خلاف ذلك، لأن الظاهر أن المراد منها أنه إن لم يكن في يده
ماء وجب عليه أن يأخذ من لحيته أو من أشفار عينيه، فمفهومها أنه إن كان في يده بلل
لا يجب أن يأخذ، لا أنه منهي عن الأخذ.
والحاصل أن التأمل في كلمات الأصحاب والروايات يقضي بجواز الأخذ مع
عدم الجفاف، بل فيها إمارات كثيرة على إرادة ذلك لا تخفى على من لاحظها، ولعله
الأوفق بسهولة الملة، مع أنه لم ينقل التحرز في حال المسح عن مخالطة ماء باطن اليدين
غيره من محال الوضوء، بل قد يدعى أنه لا بأس في الماء الذي على مقدمات الوضوء،
كالماء الذي يكون على الرأس مثلا مقدمة لغسل القصاص، فإنه لم ينقل عن أحد تجفيفه
حال المسح، لكن الأولى خلافه.
ثم ليعلم أنه بناء على الاشتراط المذكور فالظاهر اختصاص الحكم بالجفاف الحاصل
من النسيان ونحوه من الأعذار، أما لو جففها اختيارا فالأقوى عدم الجواز، لانصراف
إطلاق النص والفتوى إلى الأول وإن ظهر من المحقق الثاني في جامع المقاصد جوازه
عند ذكر المسح بالماء الجديد، إلا أن الأقوى خلافه، وكيف وقد احتمل بعضهم
193

اختصاص الحكم في النسياني دون غيره، لظواهر ما سمعت من الأخبار وبعض كلمات
الأصحاب، لكنه في غاية الضعف كسابقة.
(فإن لم يبق نداوة) في شئ من محال (الوضوء استأنف) الوضوء بلا خلاف
أجده بين المتقدمين والمتأخرين، ولعل ابن الجنيد، يوافق في خصوص المقام لا لعدم جواز
المسح بالماء الجديد بل لفوات الموالاة، وفي كشف اللثام أنه مقطوع به مروي قلت:
قد سمعت ما يدل عليه من الأخبار الآمرة بالانصراف وإعادة الوضوء التي لا يقدح
إرسالها بعد انجباره بفتاوى الأصحاب، لكن ظاهرها كالفتاوى حيث يكون الاستئناف
محصلا للمسح بماء الوضوء، أما إذا لم يكن كذلك كأن يكون الجفاف لشدة حر أو
حرارة أو نحوهما ولم يتمكن من حفظ نداوة الوضوء بالجلوس في مكان رطب أو إكثار
الماء على آخر جزء من وضوئه فالظاهر جواز المسح بالماء الجديد، كما في المعتبر والمنتهى
والقواعد والذكرى وجامع المقاصد والمدارك وعن غيرها أيضا، للضرورة ونفي الحرج
وصدق الامتثال واختصاص وجوب المسح بالبلل بالامكان. وفيه أن جميع ذلك لا يقضي
بالانتقال إلى الماء الجديد، بل جميعها تندفع بالمسح من دون تجديد ماء، كما لعله يظهر
من العلامة في التحرير في الموالاة، قال: " ولو جف ماء الوضوء لحرارة الهواء المفرطة
جاز البناء، ولا يجوز استئناف ماء جديد للمسح " ونحوه ما عن نهاية الإحكام، كما
أنه تندفع أيضا بالعدول إلى التيمم، بل هو قضية اشتراط المسح بالنداوة، لانعدام
المشروط بانعدام شرطه، إلا أن قصور ما دل على شرطية المسح بالنداوة عن شمولها
للمقام لظهورها في صورة الامكان مع عدم ذكرهم مثل ذلك في مسوغات التيمم يمنع العدول
إليه، على أن التتبع بالنسبة إلى تعذر كثير من أجزاء الوضوء كما في أقطع اليدين وأقطع
الرجلين ونحو ذلك يقضي بعدم سقوط الوضوء عند تعذر ذلك، كما أن استصحاب
الخطاب به وقوله (عليه السلام): (لا يسقط الميسور بالمعسور) و (ما لا يدرك كله لا يترك كله)
ونحوها قاضية به أيضا، ولعله لجميع ذلك لم أعثر على مفت بالتيمم، نعم ذكره بعضهم
194

احتمالا، وآخر جعل الاحتياط في الجمع بينهما، والأولى في الاحتياط الجمع بين
الاحتياطات الثلاثة،، وهي المسح بلا الاستئناف، واستئناف الماء الجديد، والتيمم،
واحتمال القول بوجوب الاحتياط في المقام لعدم الترجيح تحصيلا للبراءة اليقينية وإن
كان ممكنا لكن قد عرفت أن الأقوى في النظر المسح من دون وجوب استئناف،
تمسكا باطلاق ما دل على وجوب المسح فيه، ومقتضاه جواز الأخذ من الماء الجديد،
للاطلاق المتقدم، مع عدم شمول ما دل على المنع منه للمقام، وأما احتمال وجوبه فقد
عرفت ما فيه، وكونه أقرب إلى المكلف به، ونحو ذلك تعليلات اعتبارية لا تصلح لأن
تكون مدركا للأحكام الشرعية، كاحتمال إيجاب حفظ ماء الوضوء المتساقط لكونه ماء
وضوء، فتأمل جيدا والله أعلم.
(والأفضل مسح الرأس مقبلا، ويكره مدبرا على الأشبه) بأصول المذهب
وقواعده، ووفاقا للسرائر والمعتبر والنافع والمنتهى والمختلف والتحرير والإرشاد
والقواعد والألفية وجامع المقاصد والروضة وغيرها على اختلاف فيها لا يقدح في أصل
جواز النكس، وهو قضية إطلاق الهداية والجمل والعقود والإشارة والمراسم وغيرها،
والمنقول عن الاصباح والمبسوط وابن أبي عقيل والشهيد في البيان والمقداد في التنقيح
وغيرهم، ولعله لذا قال في الحدائق: أنه المشهور، وقيل لا يجوز النكس، كما هو خيرة
الصدوق في الفقيه والمرتضى في الانتصار والشيخين في المقنعة والخلاف وظاهر التهذيب بل
صريحه، وهو المنقول عن ظاهر النهاية وصريح الوسيلة، واختاره الشهيد في ظاهر
الدروس، ونسبه فيها إلى الشهرة بين الأصحاب، وفي الانتصار والذكرى إلى الأكثر،
وفي الخلاف الاجماع عليه، وفي المختلف أن المرتضى ادعى الاجماع عليه في الانتصار،
قلت: لا دلالة في عبارته، بل فيها ما يدل على خلاف ذلك كما لا يخفى على من لاحظها.
وأقصى ما يستدل به للأول الأصل في وجه، وإطلاق الأمر بالمسح في الكتاب
والسنة، وإطلاق حكايته في الوضوءات البيانية، إذ لو كان ذلك واجبا لنقله زرارة
195

وبكير وغيرهما ممن حكي لهم وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل حكاية غيره
كالبدأة بالأعلى مثلا في الوجه ونحوه وعدم حكايته تشعر بعدم وجوبه، ومثله في ذلك
مكاتبة علي بن يقطين المشهورة (1)، وقول الصادق (عليه السلام) في صحيح حماد
ابن عثمان (2): " لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا " كما رواه الشيخ في المقام كذلك،
والمحقق في المعتبر، والعلامة في المنتهى والمختلف، والمحقق الثاني في جامع المقاصد،
والسيد في المدارك، وكشف اللثام وصاحب الحدائق، وعن التنقيح وصاحب الذخيرة
وغيرهم، هو العمدة في المقام، مع اعتضاده بما سمعت من دعوى الشهرة، بل
هي محصلة.
وأقصى ما يستند إليه للثاني - مضافا إلى ما سمعت من دعوى الاجماع المعتضد
بالشهرة المدعاة من مثل الشهيد ونسبته إلى الأكثر منه ومن المرتضى، وقد سمعت ما حكاه
عنه في المختلف - أن الشغل اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، وهو ليس إلا في المسح
مقبلا، مع أن المحكي من الوضوءات وإن اشتملت على أنه مسح برأسه لكنه قطعا إنما
كان المسح مقبلا، إذ لا إشكال في كونه راجحا، فلا معنى لتركه من النبي (صلى الله
عليه وآله) وارتكاب المرجوح، بل الظاهر منها في حكايته أنه وضوؤه الذي لا زال
يفعله، واستمراره على المرجوح مما يقطع بعدمه، وإلا فلو كان كذلك لوجب القول
بوجوب المسح مدبرا، وهو مخالف لاجماع المسلمين، فحينئذ يكون المراد به المسح
به مقبلا، فيجب التأسي به، مضافا إلى قوله (صلى الله عليه آله) (3): (إن هذا وضوء
لا يقبل الله الصلاة إلا به) على أنه الفرد الشائع الذي ينصرف الاطلاق إليه، وبذلك تعرف
الجواب عن الاطلاقات، على أن جوازه من مذهب العامة، والرشد في خلافهم

(1) الوسائل - الباب - 32 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(2) الوسائل الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(3) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 11
196

وأما الصحيحة فما يضعف الاحتجاج بها أنه رواه الشيخ في مقام آخر بهذا السند (1) أنه
" لا بأس بمسح القدمين مقبلا ومدبرا " ومن المستبعد جدا تعددها، بل الشيخ
(رحمه الله) ذكر هذه الرواية في مقام الاستدلال على عدم جواز النكس في غسل اليدين،
فقال: " أما الخبر الذي رواه محمد بن يعقوب عن يونس (2) قال: " أخبرني من رأى
أبا الحسن (عليه السلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب، ومن الكعب
إلى أعلى القدم " فمقصور على مسح الرجلين، ولا يتعدى إلى الرأس واليدين " ويدل
على ذلك أيضا ما رواه الشيخ عن حماد بن عثمان (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا " فقد أخرجها شاهدا على التوسعة في مسح القدمين،
كما ورد مثل ذلك في غيرها من الأخبار (4) أن ": الأمر في مسح الرجلين موسع،
ما شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا، وأنه من الأمر الموسع " بل قد يظهر
من ملاحظة هذه وغيرها أن الحكم مقصور على الرجلين، بل في الوسائل باب جواز
النكس في المسح، ولم ينقل هذه الرواية فيه، بل نقل رواية أنه " لا بأس بمسح القدمين
مقبلا ومدبرا " فغير بعيد أن يكون هذا التغيير من النساخ، وما يقال: إنه يتم الاستدلال
برواية القدمين بالاجماع المركب، إذ لا قائل بالتوسعة فيهما دون الرأس يدفعه أنه ظاهر
الشيخ في التهذيب، بل هو صريحه، وما عن ظاهر النهاية التي هي متون أخبار، بل
نقل في كشف اللثام التوسعة في القدمين عن جمع لم ينقل الجواز عنهم في المقام، كما
أنه قد نص على الجواز في القدمين في الإشارة والمراسم، وأطلقا في المقام، فلعلهما
يخالفان أيضا، كما هو قضية حجية مفهوم اللقب في عبارة الفقهاء، وأنه به يثبت
الوفاق والخلاف. فقد ظهر لك من ذلك كله أن القول بعدم الجواز لا يخلو من قوة
وإن كان الأول أقوى، لمكان حصول التردد من جميع ما ذكرنا، وما شك في شرطيته

(1) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 3
(2) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 3
(3) الوسائل الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 3
(4) الوسائل الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 3
197

ليس شرطا عندنا سيما في مثل الوضوء، فتأمل جيدا.
وكيف كان فما ذكره المصنف من الأفضلية كما في القواعد والإرشاد بل لم أعثر
على مخالف فيه صريحا، بل يظهر من المرتضى في الانتصار أن الإمامية بين قولين
الوجوب وكونه مسنونا فلعل وجهه أنه المتبادر من الأخبار، ولحصول يقين البراءة،
والخروج من شبهة الخلاف به، وأوامر الاحتياط وتجنب الشبهات، على أن التسامح
في الاستحباب عقلي غير محتاج إلى الدليل، كما هو مبين في محله، وما ذكره من الكراهة
كما في السرائر والمعتبر والقواعد والتحرير وغيرها لعله لعكس ما ذكرنا في وجه الاستحباب
مقبلا، والأمر سهل، إذ المراد بالاستحباب والكراهة أفضل أفراد الواجب وأقلية
الثواب، لما عرفت من إيجاب المسح، والله أعلم
وكيف كان (فلو غسل موضع المسح) مجتزيا به عنه (لم يجز) كما صرح به في
المقنعة والتهذيب والسرائر والمعتبر والمنتهى والقواعد والإرشاد والدروس والذكرى
وغيرها، بل في المنتهى أنه به قال علماؤنا أجمع، وفي الذكرى وكشف اللثام لا يجزي
الغسل عن المسح عندنا، وفي الحدائق أن هذا الحكم ثابت عندنا إجماعا فتوى ودليلا
وآية ورواية، وكأن الوجه في ذلك واضح، لكون الغسل والمسح فرضين متغايرين
في نظر الشرع، فلا يجزي أحدهما عن الآخر، ولأن الله تعالى أوجب الغسل في
الوجه واليدين، والمسح في الرأس والرجلين، فمن غسل ما أمر الله بمسحه أو مسح
ما أمر بغسله لم يكن ممتثلا، باختلافهما لغة وعرفا، كما يشير إلى ذلك قول الصادق
(عليه السلام) في خبر محمد بن مروان (1): " إنه يأتي على الرجل ستون وسبعون سنة
ما قبل الله منه صلاة، قلت: وكيف ذاك، قال: لأنه يغسل ما أمر الله بمسحه " بل
اللغة والعرف والشرع كتابا وسنة صريحة في أن الغسل غير المسح، وأن الآتي بالغسل
في مقام الأمر بالمسح وبالعكس ليس ممتثلا كما هو واضح، إنما الاشكال في أنهما

(1) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الوضوء - حديث 2
198

متباينان لا يصدق أحدهما على الآخر أو بينهما عموما من وجه؟ يظهر من جملة كالمرتضى
والشيخ وغيرهم من الأصحاب الأول، وصرح بعض المتأخرين بالثاني زاعما صدق
اسم الغسل والمسح في إجراء الماء بمعونة اليد، وصدق الأول بدون الثاني في جريان
الماء بنفسه مثلا، والثاني دون الأول بما لم يكن معه جريان للماء، وعليه ينبغي التشخيص
بالنسبة إلى محل الاشتراك بالنية، فمن كان من نيته الغسل يعد ممتثلا في مقام الأمر به
كالعكس، بل لعل النية في ابتداء الوضوء كافية، فلا تقدح الغفلة عنده حينئذ،
وقد يشير إليه صحيح زرارة (1) قال: قال (عليه السلام) لي: " لو أنك توضأت
فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت أن ذلك من المفروض لم يكن ذلك بوضوء " ويراد
حينئذ بقول الأصحاب أن الغسل لا يجزي عن المسح، وما نقلوه من الاجماع عليه
الغسل الذي لا يتحقق معه مسمى المسح كجريان الماء بنفسه مثلا، أو ما كان مع إمرار
اليد وكان المقصود الغسل، وأما إذا تحقق مسمى المسح كما إذا أمر يده وكان الماء قليلا
اجتزى به وإن حصل معه الجريان الذي هو مسمى الغسل، إذ لا شك في صدق المسح
حينئذ، ولا ينافيه صدق اسم الغسل الغير القصود معه، بل ربما يظهر من بعضهم
دعوى كون ذلك ليس غسلا وإن حصل الجريان، والاكتفاء به في مثل الوجه واليدين
من دليل خارجي لا لصدق الغسل لكن المعروف بينهم الوجه الأول أي أنه لا ينافي صدق
اسم المسح صدق اسم الغسل، ويكون التقابل في الآية حينئذ باعتبار صورتي الافتراق
والتنافي بالنية والقصد، ويراد برواية ابن مروان التعريض بالعامة الذين يكتفون
بالغسل الذي لا مسح معه عن المسح، على أنه ضعيف السند، بل قد يؤيده مضافا
إلى الصدق المتقدم أنه لو وجب المسح ببلة الضوء بشرط عدم تحقق جريان ولو ضعيفا
لكان فيه من الحرج والضيق المنافيين لسهولة الملة ما لا يخفى، بل السكوت في مقام التعليم
المستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة مع غلبة تحقق الجريان في البلة الباقية في اليد مما

(1) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الوضوء - حديث 12
199

يدل على عدمه، إذ لم يرد لنا خبر بتجفيفها أو تقليلها أو نفض اليد أو نحو ذلك،
بل لم ينقل عن أحد من السلف مع توفر الدواعي إليه، بل لو ورد الأمر به لنا في المسح
بالبلة، إذ لا يكاد يحصل القطع ببقاء بلة بحيث لو مسح بها لم يجر شئ منها ولم ينتقل من
مكان إلى مكان إلا بتجفيفها جفافا يقرب إلى اليبوسة، ومعه ينتفي المسح بالبلة،
فلا يبعد أن ينزل كلام الأصحاب على إرادة ما ذكرنا، وإلا كان حينئذ للبحث
معهم مجال.
ومما ذكرنا ظهر لك وجه القول بالتباين، قلت: لا ينبغي الاشكال في تباين
حقيقة الغسل والمسح، وأنهما لا يجتمعان في فرد واحد أبدا كما هو ظاهر الكتاب
والسنة والاجماع والعرف واللغة، لكون الغسل عبارة عن جريان الماء على المغسول وانتقاله
من جزء إلى غيره سواء كان بنفسه أو بمعين من يد أو غيره، ولعل غمس العضو في
الماء منه إدخالا وإخراجا، وكذا المكث مع التحريك، وقد يصدق على مجرد الإصابة
في أماكن خاصة، كما في البواطن التابعة للظواهر وما تحت الجبيرة ونحوها، والمسح
على ما قيل عبارة عن جر الشئ على الشئ مع مماسته له مع بقائه متصلا كالماء ورطوبته،
أو مع الانفصال كالمسح باليد ونحوها وبالتراب والغبار غالبا، وكأن إيكاله
إلى العرف أولى من هذا التعريف إلا أن يراد به مطلق التصوير.
وكيف كان فما ذكروه من الفرد الذي ظنوا أنه محل اجتماع ومن جهته حكموا
بالعموم والخصوص من وجه وهو ما تحقق فيه إمرار اليد مع الجريان الضعيف فهو مما لا إشكال
في الاجتزاء به، كما قضت به تلك الأدلة التي سمعتها، وما يظهر من الانتصار من عدم
الاجتزاء به لأنه أخذ في المسح أن يكون بقدر من ماء لا يحصل معه جريان في غاية
الضعف، أو يرجع إلينا بوجه من الوجوه، لكن ذلك في الحقيقة شيئان لا شئ واحد
مصداق للكليين كما هو قاعدة العموم والخصوص من وجه، بل هما فردان متغايران
200

متباينان لكليين كذلك، فامرار اليد فرد المسح، وجريان الماء فرد الغسل، وليس
الامرار مع الجريان مسحا ولا غسلا حتى يكون ذلك محل اجتماع للكليين، فحينئذ الاجتزاء
بمثله لتحقق اسم المسح الذي لا يقدح مقارنة الغسل له كالعكس، فالتفرقة حينئذ حقيقية
لا اعتبارية، بل قد يقال: لا عبرة بنية الغسل مع عدم نية الامتثال به، والعبرة بالمسح
وإن لم يستحضر حينه النية اكتفاء بالنية التي في ابتداء الوضوء.
فالحاصل أن المكلف مع الاتيان بذلك الفرد لا يخلو إما أن يكون قصد الامتثال
بجريان الماء وانتقاله الحاصل بامرار اليد، أو يكون قصد الامتثال بنفس إمرار اليد من
غير قصد للجريان، أو مع قصده بدون قصد الامتثال به، أو لم يكن مستحضرا لشئ
من ذلك، فإن كان الأول فلا إشكال في فساد الوضوء لا لانتفاء المسح، بل لقصد
الامتثال بالغسل، وهو منهي عنه، وإن لم يقصد الامتثال به فوضوؤه صحيح على كل
حال، حتى لو قصد نفس الجريان، بل لعل في قوله (عليه السلام) في خبر زرارة:
(ثم أضمرت أن ذلك من المفروض لم يكن ذلك بوضوء) إشارة إلى ما ذكرنا، وكذا
في صورة عدم الاستحضار، لمكان النية في الابتداء، فتأمل جيدا. فإن منه ينقدح
التأمل فيما ذكره الفحول من المتأخرين من التقييد لعدم إجزاء الغسل عن المسح المستفاد
من النص والفتوى بما إذا لم يكن يصدق عليه مسمى المسح، لما عرفت أنهما لا يتحدان
في المصداق أبدا، والفساد حيث يكون الغسل مقصودا به الامتثال لأمر آخر لا لانتفاء
المسح، لكن قد يقال: إن جميع ما ذكرته يتم بالنسبة إلى نفس الغسل والمسح، ومحل
البحث المسح بالبلة، وكلامهم فيه من دعوى العموم من وجه تام، لصدق المسح بها
مع جريانها الموجب لتحقق صدق اسم الغسل، وفيه أنه لا مدخلية للبلة في ماهية المسح
بل هي شرط خارجي في الوضوء، على أن إمرار اليد مع تلك البلة مسح، ومع جريانها
غسل، فهما فردان أيضا كما ذكرناه بالنسبة لأصل المسح، والله أعلم.
(ويجوز المسح على الشعر المختص بالمقدم) (و) كذا يجوز (على) نفس (البشرة)
201

بلا خلاف أجده بين الإمامية، بل في ظاهر المعتبر وصريح المدارك والحدائق وغيرهما كما
عن ظاهر التذكرة دعوى الاجماع عليه، لصدق المسح بالرأس الموجود في الكتاب
والسنة ومعقد الاجماع على كل منهما من غير فرق بين كون البشرة مستورة بالشعر أولا،
ولا بين كون الشعر كثيفا أو خفيفا، خلافا لما ينقل عن بعض العامة من إيجاب المسح
عليه حيث تكون البشرة به مستورة، لكونه بدلا عنها مسقطا للتكليف بمسحها فيكون
كالمستور باللحية، فكما لا يجوز هناك لا يجوز هنا، وأجاب عنه في المنتهى بأنه إنما
اعتبرنا الظاهر من اللحية لانتقال اسم الوجه إليه وزواله عن البشرة، بخلاف الرأس
الذي اسمه لازم مع ستره بالشعر، فافترقا، وظاهره الموافقة على عدم الاجتزاء هناك،
وهو لا يخلو من تأمل، إذ المستند في ذلك المقام قوله (عليه السلام): (1) " كل ما أحاط
به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ولا أن يبحثوا عنه " فإن كان دالا على بدلية الشعر
وسقوط التكليف عن المبدل بحيث لا يجتزى به كوضوء الجبائر ونحوه فلا فرق بينهما أيضا،
وما ذكره (رحمه الله) من صدق الوجه بالنسبة إلى شعر اللحية دون البشرة بخلاف بشرة
الرأس فيه ما لا يخفى، وبذلك تعرف ما في التعليل المتقدم في أصل الحكم، فإن صدق
مسح الرأس لا ينافي، جعله الشعر بدلا عنه مسقطا للتكليف، سيما على رواية الشيخ من
قوله (عليه السلام): (ليس للعباد أن يطلبوه) وقد تقدم في الوجه أن الأظهر على كل من
الروايتين عدم الاجتزاء بغسل البشرة هناك، اللهم إلا أن يدعى أن الرواية في خصوص
الوجه أو خصوص الغسل، كما يرشد إليه قوله (عليه السلام): (2) (ولكن يجري عليه
الماء) وكفى بما سمعت من إجماع أصحابنا حجة على الاجتزاء بمسح كل منهما، بل قد
عرفت أن الاجتزاء بالمسح على الشعر مجمع عليه بين العامة والخاصة، بل يقرب إلى حد
الضرورة من الدين، فيراد حينئذ من البشرة في قول الصادق (عليه السلام) (3)

(1) الوسائل - الباب - 46 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(2) الوسائل - الباب - 46 - من أبواب الوضوء حديث 3
(3) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب الوضوء - حديث 1
202

" في الذي يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء: لا يجوز حتى يصيب بشرة رأسه
الماء " ما يعم الشعر كما هو واضح، فلا سبيل لأن يقال إن الرأس حقيقة في البشرة دون
الشعر، ولذلك لا يجتزى بغسله في غسل الجنابة، والمراد بالشعر المختص بالمقدم في كلام
المصنف الشعر النابت فيه الذي لا يخرج بمده عن حده.
(فلو جمع عليه شعرا من غيره) أو خرج شعره باسترساله عن جده (ومسح لم
يجز) المسح عليه في كل منهما، لعدم صدق مسح المقدم فيهما لغة وعرفا، بل الأول
حاجب كغيره من الحواجب، فيشمله ما دل على عدم الاجتزاء بمسحه من الاجماع وغيره،
وعدم صدق المقدم والناصية على الثاني واضح، ولذا صرح جمع من الأصحاب بكل
من الحكمين من غير تردد، بل هو ظاهر غيرهم، بل لا خلاف أجده فيهما، بل في
كشف اللثام الاتفاق على الأول، والمراد بعدم الاجتزاء بالمسح في الثاني المسح على القدر
الزائد على المقدم، أما ما كان منه عليه فيجتزى بالمسح عليه كما صرح به في جامع المقاصد
وغيره، بل قد يظهر من المنقول من بعضهم دعوى ظهور الاجماع عليه، ويدخل فيه
حينئذ ما لو نبت الشعر من أعلى المقدم، ثم تدلى عليه حتى انتهى بانتهائه فلا يحتاج إلى
إزالة المسترسل من الشعر عن ما تحته من منابت الشعر المحلوق، بل يمسح عليه ويجتزى
به، لكن إن لم يثبت كونه مجمعا عليه كان للنظر في صدق اسم المقدم والمسح عليه مجال،
كما أن له مجالا أيضا فيما صرح به بعضهم من أن شعر المقدم لو كان مجتمعا عليه وكان
بحيث لو مد خرج عن الحد لا يجوز المسح على ذلك الزائد التقديري، بل عن شارح
الدروس أنه مشهور بين القوم بحيث لم نعرف فيه خلافا، لصدق اسم مسح المقدم كغير
الزائد، إذ لا فرق بينهما على الظاهر، وقال الشهيد في الذكرى بعد ذكره عدم جواز
المسح على ما يخرج بالمد عن الحد: " وكذا لا يجزي المسح على الجمة، وهي مجتمع شعر
الناصية عند عقصه، نعم لو أدخل يده تحت الجمة ومسح بشرة الرأس أو أصل شعر
الناصية أجزأ " انتهى. وظاهره أن الجمة ليس من الذي يخرج بالمد عن الحد، بل
203

عدم الجواز فيه من جهة علوها وارتفاعها، وهو لا يخلو من وجه، بل لعله يحمل عليه
تصريح المصنف والعلامة بعدم جواز المسح عليها.
(وكذا لو مسح على العمامة أو غيرها مما يستر موضع المسح) كالمقنعة والقلنسوة
ونحوهما إجماعا محصلا ومنقولا على لسان جملة من الأساطين كالشيخ والمصنف والعلامة
وغيرهم، ويدل عليه - مضافا إلى ذلك، وعدم صدق المسح على المقدم - الأخبار (1)
الآمرة بادخال الإصبع تحت العمامة، وقول أحدهما (عليهما السلام) (2) في خبر محمد بن
مسلم: " لا يمسح على الخف والعمامة " والصادق (عليه السلام) (3): " لا يجوز حتى يصيب "
بشرة رأسه الماء " وغيرها خلافا لما ينقل عن بعض العامة من جواز المسح على العمامة،
وضعفه واضح، ولا فرق في الحائل بين أن يكون ثخينا يمنع نفوذ الماء أو رقيقا لا يمنع،
خلافا للمنقول عن أبي حنيفة من تجويزه المسح على الثاني، ولا بين كونه لطوخا كالحناء
ونحوها وغيره كما صرح به في المنتهى والتحرير في الذكرى وغيرها، بل هو قضية كلام
كثير من الأصحاب، بل قد يظهر من كشف اللثام أنه لا احتمال في الفرق بينه وبين
غيره من الحواجب، بل لم أعثر فيه على مخالف من الأصحاب وإن كان قد يستفاد
من الشهيد في الذكرى حيث نقل الاجماع على عدم الاجتزاء بالمسح على العمامة والشهرة
على الحناء وجود مخالف فيه.
وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في عدم جواز المسح عليه، لعدم الصدق، مع
دخوله تحت إطلاق ما دل على عدم المسح على الحائل، مضافا إلى خصوص مرفوعة ابن
يحيى المتقدمة عن الصادق (عليه السلام) " في الذي يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في
الوضوء أن يتوضأ قال: لا يجوز حتى يصيب بشرة رأسه الماء " وأما صحيح عمر بن

(1) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الوضوء
(2) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 8
(3) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب الوضوء - حديث 1
204

يزيد (1) سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " عن الرجل يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له
في الوضوء قال: يمسح فوق الحناء " وصحيح محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) (2)
أيضا " في الرجل يحلق رأسه ثم يطليه بالحناء ويتوضأ للصلاة، فقال: لا بأس بأن يمسح
رأسه والحناء عليه " فيحتملان الحمل على الضرورة، أو عدم الاستيعاب، أو كون
الحناء على البشرة تحت الشعر أو اللون والأثر خاصة سيما الأول، لأن (خضب) تأتي
بمعنى (لون) كما عن القاموس. أو على أن الخضاب والاطلاء كان بماء الحناء، والأول
مفعولية (فوق) لقوله (يمسح) على معنى مسح الأعلى الذي فوق موضع الحناء، والثاني عطف
الحناء على الرأس أي لا بأس بأن يمسح الحناء الذي عليه ثم يتوضأ، إلى غير ذلك وإن
بعد كثير منها، لكنه لا بأس بها في مثل المقام بعد ظهور إعراض الأصحاب صريحا
من بعض وظاهرا من آخرين، بل كاد يكون صريح الجميع، إذ من المستبعد جدا
بل المقطوع بعدمه أنه أطلقوا عدم الاجتراء بالمسح على الحائل، حتى حكى الاجماع عليه
بعض، وعن آخر نفي الخلاف فيه مع الفتوى بمضمون الصحيحتين، خصوصا مع عدم
إشارة ممن عثرنا على كلامه إلى استثنائه، بل ذكره أولى من الشعر، مع كون الصحيحتين
بمنظر منهم ومسمع، فاحتمال تقييد النص والفتوى بهما لا يلتفت إليه، كاحتمال دخول
المسح على الحناء تحت مصداق المسح بالرأس، لكن الشيخ في الاستبصار قال: باب
المسح على الرأس وعليه الحناء ثم ذكر الصحيحتين وقال: فأما ما رواه محمد بن يحيى وذكر
المرفوعة السابقة فأول ما فيه أنه مرسل مقطوع الاسناد، وما هذا حكمه لا تعارض به
الأخبار المسندة، ولو سلم لأمكن حمله على أنه إذا أمكن إيصال الماء إلى البشرة
فلا بد من إيصاله، وإذا لم يمكن ذلك أو لحقه مشقة في إيصاله لم يجب عليه، ويؤكد
ذلك رواية الوشا (3) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الدواء إذا كان على

(1) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(2) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب الوضوء - حديث 4 - 2
(3) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب الوضوء - حديث 4 - 2
205

يدي الرجل أيجزيه أن يمسح على طلاء الدواء؟ فقال: نعم يجزيه أن يمسح عليه "
انتهى. وقد يقضي التدبر في كلامه أنه مخالف في المسألة، إلا أنه لم أقف على أحد
أشار إلى ذلك، بل نقلوا عنه حمل الصحيحتين على الضرورة، ولعله لما ذكره بعد
التسليم، وقوله (ويؤكد ذلك)، فتأمل جيدا. هذا كله في الحائل الاختياري، وأما
الاضطراري فالظاهر جواز المسح عليه، بل عن بعضهم نقل الاتفاق عليه، ويأتي
الكلام فيه إن شاء الله.
(الفرض الخامس)
من فروض الوضوء (مسح الرجلين) إجماعا عند الإمامية محصلا ومنقولا، بل
هو من ضروريات مذهبهم، وأخبارهم به متواترة، بل في الانتصار أنها أكثر من عدد
الرمل والحصى، بل ورواه مخالفوهم أيضا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) وأنه
قال: " ما نزل القرآن إلا بالمسح " وعن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) (2)
" إن كتاب الله بالمسح ويأبى الناس إلا الغسل " ورووا أيضا كما قيل عن أوس بن أبي
أوس الثقفي (3) أنه " رأى النبي (صلى الله عليه وآله) أتى كظامة قوم بالطائف، فتوضأ
ومسح على قدميه " وعن ابن عباس أيضا (4) " أنه وصف وضوء رسول الله (صلى الله
عليه وآله) فمسح على رجليه " إلى غير ذلك من الأخبار المروية من طرق مخالفينا، بل
هو المنقول عن جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء كابن عباس وعكرمة وأنس وأبي
الغالبة والشعبي، وعن أبي الحسن البصري وابن جرير الطبري وأبي علي الجبائي التخيير
بينه وبين الغسل، وعن داود يجب الغسل والمسح معا، ونحوه عن الناصر الزائدي،
وباقي الفقهاء على ايجاب الغسل فقط.

(1) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 7
(2) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 7
(3) كنز العمال - المجلد - 5 - ص 116 الرقم - 2415
(4) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الوضوء - حديث 6
206

لنا مضافا إلى ما سمعت من الأخبار المروية من طرقهم قوله تعالى (1) (فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) بالجر في
قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة، وفي رواية أبي بكر عن عاصم، بل قيل إنها
مجمع عليها، وأنها هي القراءة المنزلة، بخلاف قراءة النصب فإنها مختلف فيها، ويؤيده
خبر غالب بن الهذيل (2) من طريق الأصحاب قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام)
عن قول الله عز وجل: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) على الخفض هي أم على النصب؟
قال: بل هي على الخفض " على أنه لو سلمنا قراءة النصب كما نقلت عن نافع وابن عامر
والكسائي، وفي رواية حفص عن عاصم فهي غير منافية لها. لحمل الأولى على العطف
على اللفظ، والثانية على المحل، ودعوى أنه ليس أولى من جعلها في النصب معطوفة
على لفظ الأيدي، وحمل قراءة الجر على جر المجاورة، كما في قولهم هذا جحر ضب
خرب يدفعه أن العطف على المحل أولى للقرب، وللفصل وللاخلال بالفصاحة من الانتقال
عن جملة إلى أخرى أجنبية قبل تمام الغرض، بل فيه إغراء بالجهل، ومنافاة للغرض،
مع أنه يقتضي حمل قراءة الجر على المجاورة كما اعترف به في السؤال، وإلا يحصل
التنافي بين القراءتين، وهو غير جائز، وارتكاب إيجاب الجمع بين الغسل والمسح كما
قال به داود فهو مع عدم وضوح ترتبه على ذلك قد استقر الاجماع على خلافه كما قيل،
كاحتمال القول بالتخيير بينهما، فلم يبق إلا التزام جر المجاورة، وهو - مع ما عن
محققي النحويين منعه، وتأويل جميع ما يتخيل فيه ذلك، بأن يراد مثلا بخرب صفة
مشبهة أي خرب جحره، ونحوه غيره، وعن بعض التصريح بعدم جواز وقوعه في
الكلام الفصيح، وأنه شاذ يقتصر فيه على بعض الألفاظ المسموعة - مشروط بعدم
وجود حرف العطف، لانتفاء المجاورة معه، وعدم اللبس كما في المثال، بخلاف ما نحن

(1) سورة المائدة - الآية 8
(2) المستدرك - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 3
207

فيه. وما يتخيل أن منه قوله تعالى (1) (وحور عين) بقراءة الجر، لكونها لا يطاف بها
يدفعه أنه على تقدير تسليم هذه القراءة عطف على (جنات النعيم) كأنه قال هم في جنات
النعيم وفاكهة ولحم ومقاربة حور عين، أو على (أكواب) لأن معناه يتنعمون بأكواب،
على أنه لا امتناع في أن يطاف بهن، فلا يعارض مثل ذلك الحمل على عطف المحل الواقع
في الكلام الفصيح شعرا ونثرا، ومن هنا التجأ بعضهم إلى ارتكاب شئ آخر وهو
أن المراد بالمسح هنا الغسل، لاشتماله عليه، وإنما عبر عنه بلفظ المسح تنبيها على وجوب
الاقتصار في صب الماء، لكون الأرجل تغسل بالصب من بين الأعضاء فهي مظنة
الاسراف، ثم جئ بقوله إلى الكعبين قرينة على إرادة الغسل، لعدم ضرب غاية للمسح
في الشرع، بل هذا التحديد قرينة على عطفه على الأيدي، لاتحادهما بذلك، ويدفعه -
مع أنهم لا يقولون به بالنسبة للرأس - ما تقدم لك سابقا من التباين بين الحقيقتين لغة
وعرفا وشرعا، ومجرد الاشتمال عليه لا يوجب صدق الاسم عليه، وإلا لوجب صدقه
على حركة اليد ونحوهما.
ثم إنه لا دليل على وجوب الاقتصار في غسل الرجلين. ولا مانع من التحديد
في المسح، إذا هو كالغسل في قابليته لذلك، بل لا مانع من عطف المحدود على غير
المحدود، كما في عطف الأيدي على الوجوه، بل الظاهر أنه أولى، لموافقة الجملة
الثانية مع الجملة الأولى بالنسبة إلى ذلك، وعن آخرين جمل قراءة الجر على طهارة ذي
الخفين، فالتزموا بالتعبير عن الخف بالرجل، وهو أشنع من الأول، ولقد أطال أصحابنا
(رحمهم الله) في البحث معهم بذلك، لكنه كما قيل:
لقد أسمعت لو ناديت حيا * ولكن لا حياة لمن تنادي
(ثم) إنه (يجب المسح) عندنا على ظاهر (القدمين من رؤوس الأصابع إلى

(1) سورة الواقعة - الآية 22
208

الكعبين) لا باطنهما، ولا الظاهر والباطن، كما نص عليه في المقنعة والإشارة والمراسم
والسرائر وغيرها، وعن الغنية والكافي، بل هو ظاهر أو هو صريح تحديد العبارة
وغيرها من عبارات الأصحاب التي منها معقد إجماع، بل نقل الاجماع عليه في
كشف اللثام، كما عن صريح شرح الدروس والرياض وظاهر الغنية أيضا، ويدل عليه -
مضافا إلى ذلك وإلى ما في صريح جملة من الوضوءات البيانية وظاهر الآية والأخبار
المشتملة على نحو تحديد العبارة - قول أمير المؤمنين (عليه السلام) (1): " لولا أني رأيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمسح ظاهر قدميه لظننت أن باطنهما أولى بالمسح من
ظاهرهما " وقول أبي جعفر (عليه السلام) (2) في صحيح زرارة: " وتمسح ببلة يمناك
ناصيتك، وما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى، وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك
اليسرى " وغيرها، فما في مرفوعة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3)
" في مسح القدمين ومسح الرأس فقال: مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس ومؤخره،
ومسح القدمين ظاهرهما وباطنهما " وخبر سماعة بن مهران عنه (عليه السلام) (4) أيضا
قال: " إذا توضأت فامسح قدميك ظاهرهما وباطنهما، ثم قال: هكذا فوضع يده
على الكعب وضرب الأخرى على باطن قدميه ثم مسحهما إلى الأصابع " مع قصور
سندهما وشذوذهما لا يبعد حملهما على التقية، كما يرشد إليه مسح المؤخر في الخبر الأول،
لما ينقل عن بعض العامة ممن يرى المسح ويقول باستيعاب الرجل، أو لأن المسح على
ما في الخبر الثاني يوهم الناس الغسل، أو غير ذلك، والأقوى إلحاق صفحتي القدمين
بالباطن، لكون المتبادر من الظهر خلافهما، ولا يقدح تبادر الباطن في خلافهما أيضا،
لأن قضيته الخروج عنهما، فلا يحصل الامتثال بمسح الظاهر.

(1) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 9
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2
(3) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 7 - 6
(4) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 7 - 6
209

ثم إن ظاهر عبارة المصنف كظاهر الهداية والجمل والعقود والإشارة والخلاف
والمراسم والنافع والقواعد والتحرير والإرشاد والمختلف والدروس كما عن عن الغنية والمهذب
والوسيلة والكافي إيجاب الاستيعاب الطولي، لظهور حرفي الخفض في ابتداء الفعل
وانتهائه، لا في تحديد الممسوح، على أنه لو أريد ذلك أيضا في كلامهم لوجب الاستيعاب
الطولي أيضا، لظهور مسح المحدود في استيعابه، فيكون حينئذ ما في الخلاف وعن
ظاهر الغنية من الاجماع حجة على وجوبه. كما صرح به في المعتبر وجامع المقاصد وكشف
اللثام، بل كاد يكون صريح المقنعة والسرائر والانتصار والمنتهى، لعدم احتمال التحديد
في كلامهم، بل في الأخيرين الاجماع على، قال في الانتصار: " مما انفردت
به الإمامية القول بأن مسح الرجلين من أطراف الأصابع إلى الكعبين - إلى أن قال -:
والدليل على صحة هذا المذهب الاجماع مضافا إلى الاجماع الذي تقدم ذكره أن كل من
أوجب من الأمة في الرجلين المسح دون غيره يوجبه على الصفة التي ذكرناها " وقال في
المنتهى: " لا يجب استيعاب الرجلين، بل الواجب من رؤوس الأصابع إلى الكعبين ولو
بإصبع واحدة، وهو مذهب علمائنا أجمع " وعن التنقيح " أما وجوب المسح إلى
الكعبين فبإجماع علماء أهل البيت " وفي الذكرى أن عليه عمل الأصحاب، فما يظهر من
بعض متأخري المتأخرين من الميل إلى عدم وجوبه ليس في محله، كظهور التردد من
الذكرى والمدارك، وكذا ما وقع من بعض المتأخرين من نسبة إيجاب الاستيعاب إلى
الشهرة المشعر بوجود مخالف في المقام.
ولقد وقع في الرياض في المقام خلل لا يغتفر، لأنه قال في مزج عبارة النافع:
" وطولا من رؤوس الأصابع إلى الكعبين إجماعا كما في الخلاف والانتصار والتذكرة
وظاهر المنتهى والذكرى " انتهى. أما أولا فلأن الموجود في الذكرى نسبته إلى عمل
الأصحاب، وهو بمعزل عما نحن فيه، ولذا كان ظاهره فيها التردد، وأما ثانيا فلأن قوله و
ظاهر المنتهى يقضي بصراحة ما قبله في الاجماع على المقام، وقد عرفت أن عبارة المنتهى هي
210

التي كادت تكون صريحة بخلاف عبارة الخلاف كما عرفت، وأما ثالثا فلجعله عبارة
التذكرة من الصريح، مع أن ظهورها في المقام محل إشكال، قال فيها: " لا يجب استيعاب
الرجلين بالمسح، بل يكفي المسح من رؤوس الأصابع إلى الكعبين ولو بإصبع عند فقهاء
أهل البيت " ومثل هذه العبارة حرفا بحرف وقعت للمصنف في المعتبر الذي هو أول من
تردد بالمقام، وكان مرادهما منها عدم إيجاب استيعاب العرض، وأن المسح من رؤوس
الأصابع إلى الكعبين ولو بإصبع واحدة مجز؟ لا أنه واجب كما نحن فيه على ما يظهر من
قولهما (يكفي).
وكيف كان فيدل عليه مضافا إلى ما سمعت أنه الظاهر المتبادر إلى الذهن من
الوضوءات البيانية، لظهور قوله (عليه السلام): (ومسح قدميه) ونحوه في الاستيعاب
الطولي والعرضي، إلا أن انعقاد الاجماع من الأصحاب على عدم وجوب الثاني قرينة
على عدمه، ودعوى صدق اسم مسح القدم بمسح جزء منه بعيدة، وفي بعضها أنه
(صلى الله عليه وآله) (مسح قدميه إلى الكعبين) واحتمال التحديد منها لا وجه له، كما
هو واضح، وفي الخبر " أخبرني من رأى أبا الحسن (عليه السلام) بمنى يمسح ظهر
قدميه من أعلى القدم إلى الكعب " وقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين) أما على قراءة النصب فواضح على كلا التقديرين إن جعلت (إلى) غاية للمسح
أو الممسوح، لما سمعت من ظهور الاستيعاب فيه أيضا، فيكون كقوله تعالى:
(إلى المرافق) ولا ينافيه قراءة الجر، لاحتمال كون (إلى) غاية للمسح فيوافق الأول،
ويحتمل كونها غاية للممسوح، فيوافقه أيضا على أحد الاحتمالين، وهو على أن يراد
بقوله تعالى: (إلى الكعبين) بيان للبعض المأمور بمسحه المستفاد من تقدير الباء، نعم
يخالفه على الاحتمال الثاني بأن يراد بكونه غاية للممسوح الاجتزاء بمسح أي جزء منه،
لكن لا مقتضي للحمل عليه، بل المقتضي على خلافه موجود، وما يقال: إن جعل (إلى)
في الآية والروايات غاية للمسح ينافي ما سيجئ من جواز النكس فيه أن خروج ذلك
211

بدليل لا ينافي ما نحن فيه، وكذا ما يقال: إنه ورد في خبر الأخوين (1) " إذا مسحت
بشئ من رأسك أو بشئ من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك "
كخبرهما الآخر في تفسير قوله تعالى (2): (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين
" فإذا مسح بشئ من رأسه أو بشئ من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع
فقد أجزأه " ما ينافي بظاهره ما ذكرت بجعل (ما) بدلا من لفظ القدمين أو غيره فإنه
يدفعه معارضته باحتمال أن يكون (ما) خبر مبتدء محذوف، أو بيانا للشئ من القدمين،
أو بدلا من لفظ شئ، فلا ينافي ما تقدم، بل يكون دليلا لنا، لاقتضاء المفهوم فيها
عدم الاجتزاء بدون ذلك، ولا ينافي الأخير تقدير الباء، فتفيد التبعيض، لمكان
دخولها في مفعول الفعل المتعدي بنفسه، لكونها في المبدل منه للالصاق قطعا فكذا
في البدل.
وأما قول أبي الحسن موسى (عليه السلام) في خبر جعفر بن سليمان (3) قلت:
" جعلت فداك يكون خف الرجل مخرقا فيدخل يده فيمسح ظهر قدميه أيجزيه ذلك؟
قال: نعم " فلا صراحة فيه بعدم الاستيعاب، بل ولا ظهور، كالأخبار (4) الدالة
على المسح من دون استبطان الشراك، لعدم معلومية الاجتزاء بمسح الشراك مع عدم
مسح غيره معه، إذ عدم استبطانه أعم منه، وعلى تقديره فأقصاه كون الشراك بدلا
عن البشرة يجزي مسحه عن مسحها كما تسمعه من بعضهم، وإلا فهو دال على
الاستيعاب ولو للبدل، فتخرج حينئذ دليلا للمطلوب، كصحيح محمد بن أبي نصر (5)

(1) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 4
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(3) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 0 -؟
(4) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 0 -؟
(5) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الوضوء - حديث 4 وهو عن أحمد بن
محمد بن أبي نصر
212

سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) " عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه
على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم، فقلت: جعلت فداك لو أن رجلا
قال بإصبعين من أصابعه هكذا فقال: لا إلا بكفه " واشتماله على خلاف المجمع عليه بين
الطائفة من إيجاب المسح بتمام الكف لا يقدح في أصل الاستدلال على ما نحن فيه، ولا يبعد
حينئذ حمله بالنسبة إلى ذلك للاستحباب، لما في المعتبر والمنتهى من الاجماع على الاجتزاء
بالمسح ولو بإصبع واحدة، ومنافاته لظواهر غيره من الأخبار وتنزيلها عليه تنزيل المطلق
على المقيد مع عدم إمكان جريانه في بعضها مشروط بالمقاومة المنتفية هنا من وجوه،
وما يظهر من إشارة السبق للحلبي من أن أقل المجزي المسح بإصبعين لم أعثر على موافق له،
ولا على ما يدل عليه، بل ولا من نقل خلافه في ذلك، وما لعله يظهر من الصدوق في الفقيه
من العمل بهذه الرواية لقوله: " وحد مسح الرجلين أن تضع كفيك على
أطراف أصابعك من رجليك وتمدهما إلى الكعبين " لا يقدح في الاجماع المتقدم، مع احتمال
أن يريد حد الفضيلة والاستحباب كما نص عليه الشيخ في جمله وعقوده والشهيدان في
النفلية وشرحها وقول الباقر (عليه السلام) في خبر معمر بن عمر (1): " يجزي من المسح
على الرأس موضع ثلاث أصابع وكذلك الرجل " المشعر بأن ذلك أقل المجزي لم أعثر
على من أفتى بظاهره، فلا يبعد أن يراد منه استحباب مسح ثلاثة أصابع من العرض
وإن انتهت بالطول إلى الكعبين.
وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في إيجاب الاستيعاب الطولي لكثرة شواهده
من الكتاب والسنة، فما يظهر من بعض المتأخرين أنه لولا الشهرة لكان القول بعدم
الوجوب متجها ليس على ما ينبغي، نعم مما ذكرنا تعلم أنه لا يجب استيعاب العرض،
بل عليه الاجماع في المعتبر والمنتهى والذكرى وعن التذكرة، كما لعله يظهر من غيرها،
مضافا إلى ظاهر كثير من الأخبار وبذلك يصرف ما لعله يظهر من بعضها من إيجابه،

(1) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الوضوء - حديث 5
213

كخبر عبد الأعلى مولى آل سام قال: (1) " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عثرت
فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا
وأشباهه من كتاب الله عز وجل قال الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) امسح
عليه " بتقريب أنه لو لم يجب استيعاب العرض لم يكن لما ذكره (ع) وجه، لبقاء محل المسح
في غيره، فيقال: إنه لا صراحة بكون المنقطع ظفر الرجل، أو يقال: إن المراد جميع
أظفاره. أو يقال: إنه عمت الجبيرة وإن كان السبب إصبعا واحدا أو يقال: إنه يجزي
المسح عليه وإن أمكن المسح على غيره، لكونه أحد أفراد الواجب المخير، وقد انتقل
إلى بدل فيقوم بدله مقامه، ولا ينحصر التكليف بالفرد الآخر، فتأمل جيدا.
ثم إنه على تقدير إيجاب استيعاب الطول فهل يجب إدخال الكعب في المسح أو لا؟
قولان، صرح بالأول في المنتهى والتحرير، واختاره في جامع المقاصد مستدلين
عليه بأن (إلى) إما أن تكون بمعنى (مع)، كما في قوله تعالى (إلى المرافق) أو بوجوب
إدخال الغاية في المغيا حيث لا مفصل محسوس، وبأن الكعب كما وقع غاية للمسح في
بعض الأدلة وقع بداية في رواية يونس (2) قال: " أخبرني من رأى أبا الحسن
(عليه السلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى
القدم " فيدخل حينئذ، فيجب أن يكون في الانتهاء كذلك، لعدم القائل بالفرق،
ولأنه يلزم اسقاط بعض ما يجب مسحه في إحدى الحالتين، وهو باطل اتفاقا، واختار
المصنف في المعتبر الثاني، وتبعه عليه بعض من تأخر عنه، لخبر الأخوين، ورد
بأنه قد يكون مستعملا فيما يدخل فيه المبتدأ، كقوله له: عندي ما بين واحد إلى عشرة،
فإنه يلزمه دخول الواحد قطعا، قلت: كان كلامهم في المقام غير محرر، لأنه إن
أريد إدخال تمام الكعب فالمتجه عدم وجوبه، بل قد يظهر من الشهيد في الذكرى دعوى

(1) الوسائل - الباب - 39 من أبواب الوضوء - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 3
214

الاجماع عليله، لنسبته إلى ظاهر الأصحاب والأخبار، ويؤيده أخبار عدم استبطان
ما تحت الشراك، وكون (إلى) بمعنى (مع) مجاز لا يصار إليه بغير قرينة، وإن أريد
إدخال جزء منه أمكن النزاع فيه، لكن لعل المتجه وجوبه إن أريد الأصالة، وإلا
فينبغي القطع بوجوبه للمقدمة، والأقوى فيه الوجوب، لخبر الأقطع المتقدم السابق،
ولظهور دخول الغاية في المغيا في مثله مؤيدا بخبر الابتداء به، وإن كان الظاهر أنه
يجري فيه ما يجري فيما بعد (إلى) وإن لم يذكروه في نزاع الغاية، ولا يخفى جريان كثير
من المباحث السابقة في مسح الرأس من المسح بالبلة وكونه بباطن الكف وصور التعذر
في الماسح والممسوح به ونحو ذلك هنا، فلا حاجة إلى الإعادة، فلاحظ وتدبر.
(وهما قبتا القدمين) كما في النافع والروضة والتنقيح ناسبا له في الأخير إلى أصحابنا
وقبتا القدمين أمام الساقين ما بين المفصل والمشط، فالكعب في كل قدم واحد، وهو
ما علا منه في وسطه على الوصف المتقدم، كما في المقنعة، بل في التهذيب الاجماع ممن
قال بوجوب المسح عليه، وهما معقد الشراك، كما في الإشارة والمراسم وعن الكافي،
والعظمان اللذان في ظهر القدمين عند معقد الشراك، كما في السرائر، والنابتان في وسط
القدم عند معقد الشراك كما في الغنية، وحكى عليه الاجماع المتقدم عن الشيخ، والعظمان
النابتان في وسط القدم كما في الخلاف والجمل والعقود وعن المبسوط، حاكيا في الأول
عليه الاجماع المتقدم، والعظمان النابتان في ظهر القدم عند معقد الشراك كما في الانتصار
وعن مجمع البيان، ومكان الظهر وسط كما في المهذب، حاكيا في الأول عليه الاجماع المتقدم
وفي الثاني نسبته إلى الإمامية، وهما ظهر القدم كما عن ابن أبي عقيل، وفي ظهر القدم دون
عظم الساق وهو المفصل الذي قدام العرقوب كما عن ابن الجنيد، والعظمان النابتان في
وسط القدم وهما معقد الشراك كما في المعتبر والمنتهى، ناسبا له في الأول إلى فقهاء أهل
البيت (عليهم السلام)، وفي الثاني إلى علمائنا، ومعقد الشراك وقبتا القدم، وعليه
إجماعنا كما في الذكرى، والعظمان اللذان في ظهر القدم كما عن النهاية الأثيرية، ناسبا
215

له إلى الشيعة، ونحوه في ذلك ما نقل عن صاحب لباب التأويل، ووافقنا عليه محمد
بن الحسن الشيباني من العامة، وخالف الباقون، فذهبوا إلى أنهما العظمان النابتان
يمين الساقين وشمالهما، كما نقل ذلك عنهم في المقنعة والتهذيب والخلاف والانتصار والمعتبر
والمنتهى وغيرها.
لكن لا ينبغي إطالة البحث معهم بعد اتفاق الفرقة المحقة على عدمه، بل كاد
يكون ضروريا من مذهبهم، كما أن أخبارهم به عن أئمتهم كادت تكون متواترة، بل
هي كذلك كما ادعاه بعضهم، بل حكى في الذكرى عن العلامة اللغوي عميد الرؤساء
في كتاب الكعب أن العقدتين في أسفل الساقين اللتين يسميان كعبا عند العامة
يسميان عند العرب الفصحاء وغيرهم جاهليهم واسلاميهم منجمين بفتح الميم والجيم،
والرهرهين بضم الراءين، وسمعت ما حكاه غيره أنهما يسميان الظنبوب أيضا.
ومن العجيب ما وقع للفاضل المقداد في التنقيح هنا أن ما عليه أكثر الجمهور واختاره
العلامة أنهما عظما الساقين، فإنه إن أراد بعظمي الساقين العقدتين فالعلامة لا يوافقهم
على ذلك، وكيف وهو قد ادعى الاجماع في المنتهى على خلافه، وأكثر من الشواهد
على بطلانه، وإن أراد مفصل الساق والقدم فهو وإن اقتضاه ما ستسمعه من بعض
عبارات العلامة لكنه ليس ذلك مذهبا للعامة، بل المعروف عنهم أنهما العقدتان كما نقل
ذلك غير واحد، ونحوه ما نقله المحقق الثاني أيضا في شرح الألفية عن العلامة أن
الكعبين عنده العقدتان، وكيف كان فقال العلامة في المنتهى بعد ما سمعت من عبارته
المتقدمة وإفساده كلام العامة: " فرع قد يشتبه عبارة علمائنا على بعض من لا مزيد
تحصيل له في معنى الكعب، والضابط ما رواه زرارة وبكير في الصحيح (1) عن الباقر

(1) الوسائل - الباب - 15 من أبواب الوضوء - حديث 3 مع اختلاف يسير
216

(عليه السلام) قلنا: " أصلحك الله فأين الكعبان قال. ها هنا يعني المفصل دون عظم الساق "
وقال في المختلف: " يراد بالكعبين هنا المفصل بين الساق والقدم وفي عبارات
علمائنا اشتباه على غير المحصل - ثم نقل جملة مما ذكرنا من العبارات - وقال: لنا
ما رواه زرارة وبكير ابنا أعين (1) وذكر الرواية السابقة، وما رواه ابن بابويه عن الصادق
(عليه السلام) (2) قال: " حكى صفة وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) - إلى أن
قال -: ومسح على رأسه وظهر قدميه " وهو يعطي استيعاب المسح لجميع ظهر القدم،
ولأنه أقرب إلى ما حدده أهل اللغة " وقال في التحرير: " إن الكعبين هما المفصلان
اللذان يجتمع عندهما القدم والساق " وفي القواعد هما حد المفصل بين الساق والقدم،
وفي الإرشاد هما مجمع القدم وأصل الساق، وعن التذكرة أنهما العظمان في وسط القدم
وهما معقد الشراك أعني مجمع الساق والقدم، ذهب إليه علماؤنا أجمع، وبه قال محمد بن
الحسن، ولقد أنكر عليه بعض من تأخر عنه كالشهيد والمحقق الثاني وغيرهما، بل
قيل إنه من متفرداته، وأنه خالف به المجمع عليه بين أصحابنا، بل الأمة من الخاصة
والعامة، لما عرفت أن مذهب الخاصة العظم الناتي، والعامة العقدتان، وأن ما ذكره
عجيب، ودعواه تنزيل عبارات الأصحاب عليه أعجب، وأنه إن أراد بكونه أقرب
إلى ما حدده به أهل اللغة لغوية العامة فهم مختلفون، وإن أراد لغوية الخاصة فهم متفقون
على خلافه " وقال في الذكرى: " انه أحسن ما ورد في ذلك ما ذكره أبو عمر الزاهد
في كتاب فائت الجمهرة، قال: اختلف الناس في الكعب، فأخبرني أبو نصير عن
الأصمعي أنه الناتي في أسفل الساق عن يمين وشمال، وأخبرني سلمة عن الفراء قال:
هو في مشط الرجل، وقال هكذا برجله، قال أبو العباس: فهذا الذي يسميه الأصمعي

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2 لكن رواه عن الباقر
(عليه السلام)
217

الكعب هو عند العرب المنجم. قال: وأخبرني سلمة عن الفراء عن الكسائي، قال:
قعد محمد بن علي بن الحسين (عليه السلام) في مجلس كان له، وقال: ها هنا الكعبان،
قال: فقالوا: هكذا، فقال: ليس هو هكذا، ولكنه هكذا، وأشار إلى مشط
رجليه، فقالوا له: إن الناس يقولون هكذا، فقال: هذا قول الخاصة، وذاك قول
العامة " انتهى. وفي جامع المقاصد " أنه ان أراد نفس المفصل هو الكعب لم يوافق مقالة
أحد من الخاصة والعامة، ولا كلام أهل اللغة، ولم يساعد عليه الاشتقاق الذي ذكروه،
فإنهم قالوا إن اشتقاقه من كعب إذا ارتفع، ومنه كعب ثدي الجارية " انتهى.
بل قيل إنه مخالف للاخبار، (منها) ما رواه الشيخ والكليني عن أحمد بن محمد
ابن أبي نصر في الصحيح عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن
المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر
القدم " بتقريب أن قوله: (إلى ظاهر القدم) بدل أو بيان. و (منها) ما رواه الشيخ عن
ميسر (2) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " ألا أحكي لكم وضوء رسول الله
(صلى الله عليه وآله) ثم أخذ كفا من ماء إلى أن قال: ثم مسح رأسه وقدميه، ثم
وضع يده على ظهر القدم ثم قال: هذا هو الكعب، قال: فأومى بيده إلى أسفل
العرقوب، ثم قال إن هذا هو الظنبوب ". و (منها) ما رواه الشيخ في الحسن أو الصحيح
قال (عليه السلام): (3) " الوضوء واحد، ووصف الكعب في ظهر القدم ". و (منها)
ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة وبكير عن أبي جعفر (عليه السلام) (4) أنه قال في
المسح: " تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك " ونحوه غيره مما دل أن عليا

(1) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الوضوء - حديث 4
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 9
(3) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(4) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب الوضوء - حديث 4
218

(عليه السلام) (1) توضأ ومسح ولم يستبطن الشراك. على أنه لا مقتضي لارتكاب التأويل
في عبارات الأصحاب مع عدم قابلية بعضها لذلك.
وأما ما ذكره من الاستدلال بخبر الأخوين ففي الأول منهما وهو العمدة في مطلوبة
لا صراحة فيه، إذ قد يراد بقوله (مفصل) أي ما يقرب إلى المفصل، بل يؤيد ذلك أنه
رواها في الكافي الذي هو أضبط من غيره بعد قوله (عليه السلام) (دون عظم الساق)
" فقلنا هذا ما هو فقال: هذا من عظم الساق والكعب أسفل " ومن المعلوم أنه إن أريد
بعظم الساق في الرواية المنجمان فالمفصل الذي ذكره العلامة قريب منه جدا فيبعد أن
يقال بالنسبة إليه أنه أسفل، واحتمال أن يراد بمعنى التحت في غاية البعد، وإن أريد
بعظم الساق الملتقي مع عظم القدم فعدم دلالتها على ما يقول واضح، نعم يحتمل أن يراد
بالمفصل فيها محل القطع للساق، فيكون مفصلا شرعيا، ويؤيده وقوع الاستدلال بهذه
الرواية من المحقق والشهيد وغيرهما على أن الكعب هو العظم الناشز، ولا يستبعد خطاب
زرارة وبكير بذلك لكونهما العارفين بكون المفصل هو محل القطع من معقد الشراك،
فيكون قوله فيها (دون عظم الساق) أي أسفل منه، بشهادة رواية الكليني لها،
واحتمال إنكار كون محل القطع ذلك لكون الوارد في بعض الأخبار هناك أنه يقطع من
الكعب، والكلام فيه كما هنا باطل، لما نقل من التصريح منهم في ذلك المقام، بل قد
يظهر من بعضهم دعوى الاجماع عليه حتى من العلامة أن محل القطع وسط القدم، وعليه
دلت أخبارهم ففي بعضها (2) أنه " يترك له ما يقوم عليه للصلاة " وفي آخر (3) أنه " يقطع
من وسط القدم " فيكون هذه ونحوها قرينة على أن المراد بالكعب في غيرها ما ذكره
الأصحاب من أنه الناشز في وسط القدم، وعن الفقه الرضوي (4) " يقطع السارق

(1) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 8
(2) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب حد السرقة - حديث 5 - 3 من كتاب الحدود
(3) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب حد السرقة - حديث 5 - 3 من كتاب الحدود
(4) لم نعثر عليه
219

من المفصل ويترك العقب يطأ عليه " وهذا ينادي بمعروفية المفصل بالمعنى المتقدم. والحاصل
أن المقطوع به على الظاهر كون محل قطع السارق كعب المشهور لا ما ادعاه العلامة (رحمه
الله)، فلا مانع حينئذ من حمل المفصل في هذه الرواية عليه، ويتجه بذلك استدلال
الشيخ والمحقق وغيرهما بها على الكعب المشهور بين الأصحاب، كنا أنه يتجه الاستدلال
أيضا بروايات القطع، لما ورد في بعضها (1) أن (محله الكعب).
وأما الرواية الثانية فيجاب عن ظاهرها المقتضي للاستيعاب أن استيعاب العرض
مجمع على عدم وجوبه، واستيعاب الطول قد حدد بغيرها من الروايات بكونه إلى
الكعب، وقد عرفت معناه عند الأصحاب فينزل عليه حملا للمطلق على المقيد، فلا
شهادة له فيها حينئذ، نعم قد يشهد له ما في خبر يونس (2) " أخبرني من رأى أبا الحسن
(عليه السلام) بمنى يمسح يظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم "
لظهوره في مغايرة الأعلى للكعب، وليس إلا المفصل، لكنه مع قصوره عن معارضة
ما تقدم محتمل لإرادة الأعلى فيه رؤوس الأصابع وإن بعد، أو غير ذلك، هذا.
ومع ذلك كله فقد وافق العلامة الشهيد في ألفيته بعد أن شدد الانكار عليه في الذكرى،
والمقداد في كنزه، والبهائي في أربعينه وحبله، وهو المنقول عن المحدث الكاشاني
والمقدس الأردبيلي، بل بالغ البهائي (رحمه الله) في التشنيع على من شنع على العلامة
مدعيا أنه ليس في كلمات الأصحاب ولا الأخبار ما ينافيه، بل في كلمات أهل اللغة
والتشريح ما هو صريح فيه.
وحاصل دعواه " أن الكعب يطلق على معان أربعة (الأول) العظم المرتفع في
ظهر القدم الواقع فيما بين المفصل والمشط، وهو الذي ذكره عميد الرؤساء من أصحابنا
اللغويين في كتابه الذي ألفه في الكعب، وصريح عبارة المفيد منطبقة عليه. (الثاني)

(1) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب حد السرقة - حديث 8 - من كتاب الحدود
(2) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 3
220

المفصل بين الساق والقدم، وهو الذي ذكره جماعة من أهل اللغة كصاحب القاموس،
حيث قال: الكعب كل مفصل العظام، وهو المفهوم من كلام ابن الجنيد، وتنطبق
عليه رواية الأخوين بحسب الظاهر. (الثالث) أحد النابتين عن يمين الساق وشماله
الذي يقال لهما المنجمين، وهذا الذي تسميه العامة كعبا، وأصحابنا مطبقون على خلافه.
(الرابع) عظم مائل إلى الاستدارة واقع في ملتقى الساق والقدم، وله زائدتان في
أعلاه يدخلان في حفرتي قصبة الساق، وزائدتان في أسفله يدخلان في حفرتي العقب،
وهو نأت في وسط ظهر القدم أعني الوسط العرضي، ولكن نتوه غير ظاهر بحس البصر،
وقد يعبر عنه بالمفصل لمجاورته له، أو من قبيل تسمية الحال باسم المحل، وهو الذي
في أرجل الغنم والبقر، وبحث عنه علماء التشريح، وبه قال الأصمعي ومحمد بن الحسن
الشيباني كما نقله عنهما العامة في كتبهم، وهو الكعب على التحقيق الذي أراده العلامة
(رحمه الله)، وعبارة ابن الجنيد والسيد المرتضى والشيخ وأبي الصلاح وابن أبي عقيل
وابن إدريس والمحقق لا تأبى الانطباق عليه، والعلامة لا ينكر أن الكعب نأت في وسط
القدم، كيف وقد فسره بذلك في المنتهى والتذكرة وغيرهما، ولكنه يقول هو ليس
العظم الواقع أمام الساق بين المفصل والمشط، بل هو العظم الواقع في ملتقى الساق والقدم.
نعم عبارة المفيد صريحة في إرادة المعنى الأول، فذكرها في المختلف في سلخ تلك العبارة
ليس على ما ينبغي، ولعله (رحمه الله) حمل المشط في كلامه على نفس القدم، وجعل
قوله أمام الساقين بالنظر إلى امتداد الغاية، لكنه محمل بعيد. وكيف كان فالكعب
عند علمائنا ما ذكرناه، ويراد بالنتو في كلامهم إنما هو النتو الذي لا يدرك بالحس، وبقولهم
في وسط القدم إنما هو الوسط العرضي، والعامة يعرف ذلك من أصحابنا فضلا عن
الخاصة، فإن كتبهم مشحونة بنقله، وهو الذي شنعوا به علينا، قال فخر الرازي
في تفسيره الكبير: " قالت الإمامية: وكل من ذهب إلى وجوب المسح أن الكعب
عبارة عن عظم مستدير مثل كعب الغنم والبقر موضوع تحت عظم الساق حيث يكون
221

مفصل الساق والقدم، وهو قول محمد بن الحسن الشيباني، وكان الأصمعي اختار
هذا القول " وقال النيشابوري في تفسيره: إن الإمامية وكل من قال بالمسح ذهبوا
إلى أن الكعب عظم مستدير تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم، والمفصل
يسمى كعبا، ومنه كعوب الرمح لمفاصله، ثم نقل في الأربعين جملة من كلمات أهل
التشريح مما يدل على ذلك، ونقل جملة من كلام أهل اللغة في تسمية المفصل كعبا،
قال في الصحاح: " كعوب الرمح النواشز في أطراف الأنابيب "، وقال في المغرب:
" الكعب العقدة بين الأنبوبتين في القصب " وقال أبو عبيدة: " هو الذي في أصل القدم
ينتهي إليه الساق بمنزلة كعاب القنا " ونقل فخر الرازي في تفسيره أن المفصل يسمى كعبا،
وقال في القاموس: " الكعب كل مفصل للعظام، والعظم الناشز فوق القدم " فظهر من
ذلك أن ما اعترض به على العلامة من أنه لم يقل به أحد من الخاصة ولا من العامة ولا من
أهل اللغة كلام خال عن الاستقامة، إلى أن قال: ثم إني والله لشديد التعجب من أولئك
الأعلام كيف زلت أقدام أقلامهم في هذا المقام حتى زعموا أن ما قاله العلامة مما لم يقل
به أحد من الخاص والعام انتهى ملخصا.
قلت والانصاف يقضي بأن التعجب منه أشد والقسم على ذلك آكد، فإن فيه
(أولا) أن كلام العلامة بمعزل عما ذكر، وكيف وقد عرفت أنه (رحمه الله) صرح تصريحا
غير قابل للتأويل بكونه عبارة عن المفصل، وقد سلم هذا المأول أنه من جملة معاني الكعب
وذكر جملة من أهل اللغة وغيرهم ممن نص عليه، وجعله ذلك من التجوز لعلاقة القرب
أو الحال أو المحل في غاية البعد، إذ لا إشارة منه في جميع كتبه إلى شئ من ذلك،
وكيف يحتمل أن العلامة يريده ويتكل على التعبير عنه بمثل ذلك اللفظ الموهم لخلاف المراد
مع أنه ليس في كتب أهل اللغة إشارة إليه، بل هو شئ ذكره أهل التشريح، كلا
إن ذلك لا يقبله من له أدنى مسكة. و (ثانيا) دعوى تنزيل كلمات الأصحاب عليه التي قد
عرفت اشتمالها على الأوصاف التي كادت تكون صريحة في عدمه من النتو، وكونه في
222

وسط القدم، وقبة القدم، ومعقد الشراك:، وظهر القدم، وحمله النتو على إرادة
النتو الغير المحسوس بالبصر والوسط على الوسط العرضي كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه،
فإن النتو الذي نقله عن أهل التشريح من كون هذا العظم المستدير له زائدتان من أعلاه،
كل واحد منهما في قصبة من قصبتي الساق مما لا يعرفه إلا من نقله عنهم، فكيف يجوز
التعريف به لعامة الخلق سيما مع إيهامه خلاف المراد، وما ذاك إلا إغراء بالجهل، وإيقاع
في الوهم، وكذلك الوسط، فإن المتبادر منه الوسط الطولي والعرضي، على أن
لفظ الظهر الموجود في بعض العبارات محكيا عليه الاجماع لم أدر على ما ذا ينزله، وكذلك
معقد الشراك، ثم إنه بناء على ذلك لا ثمرة للخلاف بيننا وبين العامة من قديم الدهر،
فإن إيصال المسح إلى المكان الذي ذكره إن لم يكن ذلك المكان فهو قريب منه جدا،
وأيضا قد سمعت جملة من الأخبار المتقدمة التي تتبرء من هذا،: سيما أخبار القطع من
الكعب، كما أنك قد عرفت اعترافه بأن عبارة المقنعة لا تقبل هذا التأويل، مع أن
الشيخ قد ادعى الاجماع في التهذيب عليها، بل قد عرفت أن المقداد في التنقيح نسب
القول بأنه قبتا القدم إلى أصحابنا.
والحاصل كان إطالة الكلام في رد هذا المحقق وبيان منافاة كلام الأصحاب له
من تضييع الوقت بما لا يفيد، ومن العجيب تعويله في ذلك على نقل فخر الرازي ونحوه
وهو لا يعلم مذهب أصحابه فضلا عن مذاهب الخاصة، بل لا يبعد أن يكون تعمد الافتراء
به عليهم قصدا للتشنيع، وكيف يعارض ذلك ما سمعت من غيره من الشيعة خلافه ممن
هو أعرف منه بمذاهب الشيعة، وبعيد عن تعمد الافتراء إلى غير ذلك، نعم يحتمل
كلام العلامة احتمالا غير بعيد بقرينة نقله الاجماع وذكره أوصاف الأصحاب في بعض
كتبه أن الكعب يبتدئ من مبدء العظم الناتي على ظهر القدم، وينتهي إلى المفصل،
والإشارة إلى المفصل في رواية الأخوين باعتبار أنه ينتهي إلى الكعب وإطلاق الكعب
على الناتي في ظهر القدم في غيرها من الروايات باعتبار كونه مبدأ الكعب، وكان جميع
223

ما تقدم من العبارات والروايات لا تأبى التنزيل على ذلك كما أشار إليه الشهيد في الذكرى،
قال: " نعم لو قيل بوجوب إدخال الكعبين في المسح إما لجعل (إلى) بمعنى (مع) وإما
لادخال الغاية في المغيا قرب مما قاله وإن لم يكن إياه، إلا أن ظاهر الأصحاب والأخبار
بخلافه، ويؤيده المسح على النعلين من غير استبطان الشراكين " انتهى. ولعله يظهر
منه أنه لا يصل المفصل، لكن الظاهر وصوله، وكيف كان فلا إشكال في الاجتزاء
بالمسح من رؤوس الأصابع إلى الكعب.
(و) الأقوى أنه (يجوز منكوسا) بأن يمسح من الكعب إلى رؤوس الأصابع
كما هو خيرة التهذيب والاستبصار والإشارة والمراسم والمعتبر والنافع والقواعد والتحرير
والإرشاد والمختلف والمنتهى والتنقيح وجامع المقاصد والروضة وغيرها من كتب المتأخرين
وعن المبسوط والنهاية والمهذب والجامع والاصباح، وحكي عن الحسن بل في الذكرى
وعن غيرها أنه المشهور، لاطلاق الأمر بالمسح، وقول الصادق (عليه السلام) في
صحيح حماد: (1) " لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا " وفي خبر آخر له (2) أيضا
أنه " لا بأس بمسح القدمين مقبلا ومدبرا " ومرسل يونس (3) قال: " أخبرني من
رأى أبا الحسن (عليه السلام) بمعنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب
إلى أعلى القدم، ويقول الأمر في مسح الرجلين موسع، من شاء مسح مقبلا، ومن
شاء مسح مدبرا، فإنه من الأمر الموسع إن شاء الله " وما في سند الثانية من الارسال
منجبر بما سمعت من الشهرة، كما أنه ينجبر به دلالتهما لو سلم عدم وضوحها في المطلوب،
لعدم ظهورها في جواز المسح مدبرا مستقلا، بل أقصى ما تدل على جوازه مجموعا مع
الاستقبال: مع ما فيه من أنه لا مجال له في ذيل رواية يونس، وخلاف الظاهر في
رواية حماد، لظهور الواو في تقدير العامل لمعطوفها، فيكون المراد لا بأس بمسح الوضوء

(1) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2 - 3
(2) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2 - 3
(3) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2 - 3
224

مقبلا، ولا بأس بذلك مدبرا، واحتمال المعية فيها المحتاج إلى القرينة هنا مناف للنهي
عن تكرار المسح، نعم قد يناقش في صدر رواية يونس بعدم وضوح المراد منها،
إذ الأعلى نفس الكعب كما عرفت من المشهور، مع ظهورها حينئذ في عدم إيجاب الاستيعاب
الطولي، إلا أن ذلك لا يقدح في الاستدلال بذيلها، بل ولا بصدرها، لظهوره على
كل حال في جواز النكس، فتأمل.
وقيل لا يجوز النكس كما هو ظاهر الفقيه والمقنعة والانتصار وصريح السرائر وعن
ظاهر أبي الصلاح وابني حمزة وزهرة، وفي الذكرى والدروس أنه أولى. لظهور
(إلى) بانتهاء المسح في قوله تعالى (إلى الكعبين) وكونه المتبادر من الوضوءات البيانية،
مع ما في بعضها (1) من المسح إلى الكعبين، مع أن الوضوء البياني الواقع من رسول الله
(صلى الله عليه وآله) إن كان الابتداء فيه من رؤوس الأصابع إلى الكعبين لم يجز العكس
وكذا العكس، لكن الثاني باطل بالاجماع، فتعين الأول، ولصحيح أحمد بن محمد (2)
سألت أبا الحسن (عليه السلام) " عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على
الأصابع ثم مسحها إلى الكعبين " ولأن الشغل اليقيني يستدعي البراءة اليقينية وهي في
المسح مقبلا. وفي الأول - مضافا إلى احتمال كون (إلى) بمعنى (مع). أو غاية للممسوح،
وعدم دلالته على وجوب البدأة بالأصابع، إذ لا تلازم بين الانتهاء إلى الكعبين والابتداء
بالأصابع - أنه يخرج عن الظهور بما ذكرنا من الأدلة، ولا ينافيه ما تقدم لنا من
الاستدلال بالآية على إيجاب الاستيعاب الطولي، إذ الخروج عن بعض المدلول لدليل
خاص لا ينافي الاستدلال بالباقي، لأن المفهوم من (إلى) أمران، كيفية المسح، وكمية
الممسوح، فيكون كالعام المخصوص كما تقدم سابقا. وفي الثاني - مضافا إلى المناقشة في دلالة
الوضوء البياني على الوجوب - أن ظاهر الفعل لا يعارض صريح القول. وفي الثالث -

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 18
(2) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الوضوء - حديث 4
225

مع احتمال السؤال عن أفضل أفراد المسح كما لعله يشعر به المسح بالكف لعدم وجوبه قطعا
كما عرفت - أنه يخرج عنه بصريح ما سمعته من الأدلة. وفي الرابع أن البراءة اليقينية
يكفي فيها المطلقات فضلا عن النص، فالأقوى حينئذ ما عليه المشهور، وليعلم أنه بناء
على المختار لا فرق بين جواز النكس في جميع العضو أو في بعضه، نعم قد يتجه احتمال
الفرق على المذهب الثاني، فيمكن القول بالصحة مثلا لو ابتدأ بالأصابع وجعل الغاية
الكعبين ولكنه لم يمسح ما بينهما مرتبا، إلا أن الظاهر من قولهم من الأصابع إلى الكعبين
إيجاب كون المسح مرتبا حتى ينتهي إلى الكعبين، وقد يفهم من هذه العبارة ونحوها
إيجاب كون المسح لا تقطيع فيه، فلو مسح شيئا مثلا ثم قطعه ثم مسح من موضع القطع
لا يجتزى به، لكن الظاهر عدم وجوب مثل ذلك كما نص عليه في التنقيح، وقد يظهر
من عبارة المصنف ونحوها أنه لا كراهة في المسح منكوسا، وهو كذلك، إذ ليس
في الأدلة ما يقتضيه، بل قوله لا بأس به يشعر بخلافه، ومجرد الخروج عن شبهة
الخلاف لا يصلح لذلك، لكنه صرح بها في جامع المقاصد، وهو أدرى بمأخذها، نعم
لا يبعد استحباب المسح مقبلا كما صرح به في المراسم، وعن المهذب وفي المختلف أنه
الأولى، لظهوره من الوضوءات البيانية، ولبعض الأوامر بالمسح من رؤوس الأصابع
إلى الكعبين، وللخبر المتقدم في كيفية المسح عليهما، وللاحتياط، وغيره مع
التسامح فيه.
(وليس بين الرجلين ترتيب) فيجوز مسح اليسرى قبل اليمنى، ومسحهما معا،
كما هو خيرة المعتبر والمنتهى والتحرير والمختلف والإرشاد والقواعد والتنقيح وظاهر
المبسوط والغنية والمهذب والوسيلة والكافي والسرائر والتذكرة، بل في المختلف والذكرى
وكشف اللثام وغيرها أنه المشهور، بل عن ابن إدريس في بعض الفتاوى لا أظن مخالفا
منا فيه، بل قد تشعر عبارة الغنية بالاجماع، لقوله فيها: " الفرض التاسع الترتيب،
وهو أن يبدأ بغسل وجهه، ثم يبدأ باليمنى، ثم اليسرى، ثم يمسح رأسه، ثم يمسح رجليه،
226

بدليل الاجماع المذكور " فإن ذكره للترتيب في غيرهما وتركه فيهما كالصريح في عدم
وجوبه، وظهور دعواه الاجماع على الجميع، وكذلك يظهر من كل من تعرض للترتيب
في غيرهما وتركه فيهما، كالشيخ في الجمل والعقود وغيره من القدماء.
ويدل عليه مضافا إلى ذلك إطلاق الكتاب والسنة وما يظهر من الوضوءات البيانية،
فإنها على كثرتها وتعرضها للترتيب في غيرهما كادت تكون صريحة في عدم وجوبه، ولأنه
لو وجب لكان ذلك شائعا، لعموم البلوى به وتكرره في كل يوم كالترتيب في غيرهما،
بل قد يظهر أيضا من خبر عبد الرحمان بن كثير الهاشمي (1) عن الصادق (عليه السلام)
قال: " بينما أمير المؤمنين (عليه السلام) جالس مع محمد بن الحنفية - والحديث طويل
قد اشتمل على الدعاء عند غسل كل عضو عضو إلى أن قال -: ثم مسح رجليه، فقال:
اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل فيه الأقدام " إلى آخره بل هو كالصريح في أنه
مسحهما معا، بل قد يشعر بعدم الاستحباب، كما لعله يشعر به خبر التوقيع على ما تسمع
وصريح المراسم، بل يقرب منها عبارة الفقيه، كصريح جامع المقاصد واللمعة والمدارك.
وظاهر الروضة الوجوب، وهو المحكي عن ابني الجنيد وأبي عقيل وعلي بن
بابويه، وفي كشف اللثام أنه يقتضيه إطلاق ابن سعيد وجوب تقديم اليمين على اليسار،
قلت: ونحوه الشيخ في الخلاف، قال: " الترتيب واجب في الوضوء في الأعضاء
كلها، ويجب تقديم اليمنى على اليسار - إلى أن قال -: دليلنا الاجماع من الفرقة " وفي
الذكرى أن العمل بالترتيب أحوط، وفي الدروس ولا يجزي تقديم اليسرى على اليمنى
ولا مسحهما معا احتياطا، وقد ترجع إليه أيضا عبارة المقنعة، قال، ثم يضع يديه جميعا
على ظاهر قدميه فيمسحهما جميعا معا، إذ لا قائل بظاهرها وهو وجوب المعية، نعم نقل
في الذكرى قولا لم نعرف قائله، وهو وجوب تقديم اليمنى أو مسحهما معا، ولا يجوز

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الوضوء - حديث 1
227

تقديم اليسرى، ولعله لرواية التوقيع التي ستسمعها، وقد تنزل على ذلك عبارة
المقنعة، فتأمل.
وكيف كان فيدل على الثاني - مضافا إلى ظاهر إجماع الخلاف المتقدم والاحتياط
ما رواه الكليني في الحسن كالصحيح عن محمد بن مسلم (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: وذكر المسح فقال: " امسح على مقدم رأسك، وامسح على القدمين،
وابتدئ بالشق الأيمن " وما رواه النجاشي بإسناده عن عبد الرحمان بن محمد بن عبيد الله بن
أبي رافع (2) وكان كاتب أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه كان يقول: " إذا توضأ
أحدكم للصلاة فليبدأ باليمين قبل الشمال من جسده " وما روي عن النبي (صلى الله عليه
وآله) (3) " أنه كان إذا توضأ بدأ بميامنه " وبأن الوضوء البياني إن وقع فيه الترتيب
فوجوبه ظاهر، وإلا لزم وجوب مقابله، والثاني باطل اتفاقا، فيجب الأول،
لأن بيان الواجب واجب ولقوله (صلى الله عليه وآله): (4) " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة
إلا به " وما يقال: إنه يجوز أن يكون الواقع منه خلاف الترتيب وعدم وجوبه للاجماع
مدفوع بأن في ذلك تخصيصا لقوله (صلى الله عليه وآله): (هذا وضوء لا يقبل الله)
إلى آخره وهو خلاف الأصل، وما لزم منه خلاف الأصل خلاف الأصل، وبهذا الأخير
اعتمد في جامع المقاصد على القول بالوجوب، وربما تبعه عليه بعض من تأخر عنه،
وهو عجيب، وضعفه واضح، ويظهر منه وعن غيره ممن تقدمه كالمحقق والعلامة والشهيد
عدم عثورهم على الحسنة المتقدمة، كما اعترف به في المنتهى، ولا على رواية النجاشي،
لعدم ذكرهما في أدلة القول بوجوبه، بل ذكروا له أدلة ضعيفة، بل ولا ذكروها في
أدلة الاستحباب، وهو أعجب، مع وجود تلك الحسنة في الكافي في باب الوضوء،

(1) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب الوضوء - حديث 4 - 3
(3) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب الوضوء - حديث 4 - 3
(4) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 11
228

ومن هنا كان القول بالوجوب لا يخلو من قوة، وأنه لا معنى لتوهين الحسنة باعراض
المشهور بعد ظهور عدم العثور، وإن كان الأول أقوى، لأن الظاهر أن إجماع
الخلاف ليس على ما نحن فيه كما لا يخفى على من لاحظه، بل لعل مراده باليمنى اليد اليمنى،
والاحتياط يخرج عن وجوبه بالمطلقات المتقدمة، والحسنة مع عدم صراحتها بايجاب
مسح تمام الشق الأيمن قبل مسح الشق الأيسر معارضة برواية التوقيع المشتملة على جواز
المعية، مع أنها أعلى منها سندا، ومعتضدة بفتوى من عرفت، وإطلاق الكتاب
والسنة وظهور الوضوءات البيانية وغيرها على كثرتها كما تقدم في عدمه، بل الأخبار
المشتملة على ذكر الترتيب لم يتعرض في شئ من الجميع للترتيب فيهما، مع شدة الحاجة
إليه وعموم البلوى به، واستبعاد خفائه لتكرر وقوعه، ونحو ذلك من المؤيدات الكثيرة،
فلا يبعد حمل الأمر على الاستحباب، كما صرح به في المعتبر والمنتهى والنفلية وغيرها،
بل نسبه في التنقيح إلى نص الأصحاب، وكذا الخبر الثاني مع احتمال لفظ اليمنى فيه
لليد اليمنى بقرينة ذكر الشمال، وكذا الثالث على ضعفه، بل فيه تأييد للحكم بالمستحب،
لمكان دلالته على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يبدأ بالميامن في وضوئه، ومع
هذا لم يحكه الباقر (عليه السلام) في حكاية وضوئه (صلى الله عليه وآله) وما ذاك إلا أنه
كان يريد حكاية الواجب.
وأما رواية التوقيع (1) التي ذكرت مستندا للثالث فقد رواها في الوسائل عن
الطبرسي في الاحتجاج من التوقيع الخارج من الناحية المقدسة في جملة أجوبة مسائل
الحميري، حيث سأل " عن المسح على الرجلين يبدأ باليمنى أو يمسح عليهما جميعا؟ فخرج
التوقيع يمسح عليهما جميعا، فإن بدأ بإحداهما قبل الأخرى فلا يبدأ إلا باليمنى " فهي -
مع عدم شهرتها بين الطائفة رواية وفتوى، بل قد يدعى الاجماع المركب على خلافها،
ومعارضتها بما سمعت من أدلة القول الثاني - لا تصلح لأن تكون حاكمة على إطلاق الكتاب

(1) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب الوضوء - حديث 5
229

والسنة، بل قد عرفت أن أخبار الوضوءات البيانية وغيرها كادت تكون صريحة في
عدم وجوب الترتيب، نعم من المحتمل قويا الجمع بين هذه الرواية وما تقدم من الأخبار
بالحكم باستحباب الجمع بينهما أو الابتداء باليمين، لكن لم أعثر على مصرح به، كما أنه
يستفاد كراهة مسح اليسرى ولم يصرح بها أيضا.
ثم إنه هل يجب المسح باليدين أو تكفي يد واحدة؟ وعلى الأول فهل تجب اليمنى
لليمنى واليسرى أو يجزي الاختلاف؟ قد يظهر من جملة من الوضوء البياني
المسح بهما معا، بل في حسنة زرارة بإبراهيم بن هاشم (1) " وتمسح ببلة يمناك ناصيتك،
وما بقي من بلة يمينك ظهر قدمك اليمنى وتمسح ببلة يسارك ظهر قدمك اليسرى " إلا
إني لم أعثر على من نص على الوجوب، نعم قد يظهر من بعض عبارات القدماء ذلك،
كالحلبي في إشارة السبق. وقد عرفت حمل هذا الأمر بالنسبة إلى الناصية على الاستحباب،
ولعله يكون قرينة على ذلك فيما نحن فيه، إذ تقييد النصوص والفتاوى بما يظهر من
الوضوءات البيانية لا يخلو من إشكال، فلا يبعد حينئذ الاكتفاء بمسح يد واحدة لهما،
وبمسح اليمنى باليسرى وبالعكس، نعم قد يقال باستحباب ذلك، كما نص عليه الشهيد
في النفلية، وفي التنقيح " يجب أن يكون المسح باليد في الموضعين أعني الرأس والرجلين
ولو بيد واحدة " وهو مما يؤيد ما ذكرنا.
(وإذا قطع بعض موضع المسح) من القدم (مسح) وجوبا (على ما بقي) منه ومن
الكعب، ولا ينتقل بذلك إلى التيمم، كما مر في أقطع اليد، والدليل الدليل.
(ولو قطع من الكعب) مع دخول ما بعد في القطع (سقط المسح على القدم) وكذا
لو قطع من فوقه ولا يسقط بذلك الوضوء كما تقدم في اليد بلا خلاف أجده في شئ من
الحكمين، بل قد يظهر ممن تعرض لهذا الحكم كالمصنف والعلامة والشهيد والمحقق الثاني
والفاضل الهندي وغيرهم كونه من المسلمات، ولعله كذلك، أما لو بقي الكعب فعلى

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2
230

القول بوجوب مسحه تماما أو بعضه أصالة وجب المسح، وعلى المقدمي لا يجب كما تقدم
في المرفق، وفي خبر رفاعة عن الصادق (عليه السلام) (1) سألته " عن الأقطع فقال:
يغسل ما قطع منه " ولعل المراد بالأقطع في السؤال أقطع اليد والرجل، وجواب الإمام (ع)
بالغسل للتغليب كما ينبئ عنه خبر الآخر عنه (عليه السلام) (2) أيضا قال: (سألته
عن الأقطع اليد والرجل قال يغسلهما " وترك الاستفصال عن بقاء شئ. محل
الفرض وعدمه وإن قضى بخلاف ما يظهر من الأصحاب إلا أنه لما لم يظهر مخالف في الحكم
في المقام بل كأنه متفق عليه بينهم وجب تنزيلها على بقاء شئ من محل الفرض، وقد
تقدم في أقطع اليد ماله نفع تام في المقام، فلاحظ وتدبر.
وهل يستحب مسح موضع القطع مع عدم بقاء شئ من محل الفرض كما تقدم مثله
في اليد أو لا؟ قد اعترف الشهيد في الذكرى بعدم عثور على نص يقتضيه كما في اليد،
قال: إلا أن الصدوق (رحمه الله) لما روى عن الكاظم (عليه السلام) (3) غسل الأقطع
عضده، قال، وكذلك روي في أقطع الرجلين، لكنه في الدروس أفتى باستحبابه،
ولعله لذلك أو لغيره، والأمر فيه سهل.
ولو قطع الماسح الاختياري والاضطراري فهل يسقط المسح أو ينتقل إلى مسح
غيره ببلة وضوئه؟ وجهان، أقواهما السقوط، لعدم الدليل على الانتقال، وربما
تسمع له تتمة إن شاء الله في وجوب المباشرة، فتأمل. وما تقدم من البحث في المسح
بالبلة جاء في المقام، فلا يحتاج إلى الإعادة، ولعلهم اكتفوا بذكر البحث في اليد الزائدة
عن القدم الزائدة، فإن الظاهر كون الحكم فيهما واحدا، فلا يجب مسحها حيث تعلم
زيادتها وكانت في غير محل الفرض، وكذا لو كانت فيه ولم يكن المسح على ما يقابلها،
لعدم إيجاب استيعاب العرض في المسح، وبه يفترق عن يفترق عن الغسل، ومثلها كل لحم زائد
في محل الفرض من الثالول وغيره، أما لو كانت أصلية أو مشتبهة بها فالظاهر وجوب

(1) الوسائل - الباب - 49 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 3 - 2؟
(2) الوسائل - الباب - 49 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 3 - 2؟
(3) الوسائل - الباب - 49 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 3 - 2؟
231

مسحهما معا، بناء على وجوب ذلك في نحو اليدين، وفي الذكرى " أن القول في
مسح الرجل الزائدة كما قلناه في اليد بحسب الأصالة والزيادة، ولو كانت تحت الكعب
فالأقرب المسح عليها للعموم، ويمكن الاجتزاء بالتامة منهما، فإن استويا تخير، لأن
المسح لا يجب فيه الاستيعاب طولا وعرضا " انتهى. وفيه ما لا يخفى، لما تقدم من
وجوب الاستيعاب الطولي، وأنه لا ينبغي الاشكال فيه، اللهم إلا أن يريد أنهما لا يجبان
معا، فتأمل جيدا.
(ويجب المسح على بشرة القدمين) كما في القواعد والإرشاد والتحرير والدروس
والروضة، وعندنا على ما في كشف اللثام، وأجمع علماؤنا على وجوب المسح على
بشرة القدمين كما في المدارك، (ولا يجوز على حائل) يستر موضع الفرض من ظهر
القدم (من خف أو غيره) مع الاختيار، وهو مذهب فقهاء أهل البيت (عليهم السلام)
كما في المعتبر، ومذهب أهل البيت (عليهم السلام) كما في المنتهى، وإجماعا منا كما
في الذكرى، ونحوهم غيرهم، بل الاجماع عليه محصل، ولا ينافيه اشتمال عبارة القدماء
على لفظ الخف والجرموق والجورب والشمشك، لظهور إرادتهم من ذلك التمثيل كما
لا يخفى على من لاحظ كلامهم فيه كالأخبار، فإنها وإن كانت تقرب إلى التواتر
في النهي عن المسح على الخف لكن الظاهر من فحاويها التعميم لكل حائل، لوقوع
الاستدلال فيها على ذلك بالآية الكتابية، وأنه سبق الكتاب المسح على الخفين، ونحو
ذلك، وفي خبر الكلبي النسابة (1) قلت له (عليه السلام)،: " ما تقول في المسح على
الخفين؟ فتبسم، ثم قال: إذا كان يوم القيامة ورد الله كل شئ إلى شيئه ورد الجلد
إلى الغنم فترى أصحاب المسح أين يذهب وضوؤهم؟ " فلا ينبغي الاشكال في أن

(1) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 4
232

ملاحظة الأخبار في خصوص الخفين والوضوءات البيانية تشرف الفقيه إلى القطع بإرادة
التعميم لكل حائل كما ادعاه من عرفت، ومن العجب أن العامة العمياء يجتزون بالمسح
على الخف ولا يجتزون به على الرجل، بل يوجبون الغسل، وأصل إضلالهم في ذلك
عمر، كما ينبئ عنه خبر رقية بن مصقلة (1) قال: " دخلت على أبي جعفر (عليه
السلام) فسألته عن أشياء، فقال: إني أراك ممن يفتي في مسجد العراق، فقلت:
نعم، فقال لي: من أنت؟ فقلت ابن عم لصعصعة، فقال: مرحبا بابن عم صعصعة،
فقلت: ما تقول في المسح على الخفين؟ فقال: كان عمر يراه ثلاثا للمسافر ويوما وليلة
للمقيم، وكان أبي لا يراه في سفر ولا في حضر، فلما خرجت من عنده فقمت على
عتبة الباب فقال: أقبل يا ابن عم صعصعة، فأقبلت عليه، فقال: إن القوم كانوا
يقولون برأيهم فيخطؤون ويصيبون، وكان أبي لا يقول برأيه " قلت: ومن العجيب
أن عمر قد نبهه أمير المؤمنين (عليه السلام) ولم ينتبه، فإنه روى زرارة (2) عن أبي جعفر
(عليه السلام) قال: " سمعته يقول جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)
وفيهم علي (عليه السلام) وقال: ما تقولون في المسح على الخفين؟ فقام المغيرة بن شعبة
فقال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمسح على الخفين، فقال علي (عليه السلام):
قبل المائدة أو بعدها فقال: لا أدري، فقال علي (عليه السلام): سبق الكتاب المسح
على الخفين، إنما نزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة " فإن تنبه ولما يرجع
فهو أعجب، فكيف وهو المرجع له في كل ملمة، حتى قال: (لولا علي لهلك عمر) (3)

(1) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 10 - 6
(2) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 10 - 6
(3) الغدير للأميني طبعة طهران المجلد 6 الصحيفة 110 عن النضرة ج 2 ص 196
وذخائر العقبى ص 80 ومطالب السؤل ص 13 ومناقب الخوارزمي ص 47 وأربعين
الرازي ص 466
233

مع أنه قد اعترف أن كل الناس أفقه منه حتى المخدرات (1) وكيف كان فالمسألة مفروغ
منها بين الشيعة.
نعم الاشكال في مقامين (الأول) أنه هل الشعر الخاص في ظهر القدم من الحائل
فلا يجتزى بالمسح عليه أو لا؟ قلت: قد يظهر من المصنف وغيره ممن عبر بلفظ البشرة
الأول، بل كاد يكون صريح المصنف ومن حذا حذوه، لقوله في الرأس: " ومسح
مقدم الرأس أو شعره " فإن تنصيصه هناك على ذلك قرينة على عدم دخول الشعر تحت
اللفظ الأول، بل هنا أولى، وهو الذي يقتضيه عموم معقد الاجماع على عدم جوازه
على كل حائل، وقد سمعت معقد إجماع المدارك، وقد نص عليه في كشف اللثام:
كما عن الشهيد الثاني وغيره من متأخري المتأخرين، بل في الحدائق ظاهر كلمة الأصحاب
الاتفاق على أن من الحائل الذي لا يجزي المسح عليه اختيارا الشعر، قلت: لكن
الثاني لا يخلو من وجه، لعموم قوله (عليه السلام): (كل ما أحاط به الشعر) مع صدق
اسم مسح الرجل بمسحه مع كثرته وإحاطته، وما يقال: إن نبات الشعر على موضع القدم
من الأفراد النادرة فلا يشمله الاطلاق يدفعه كون الخبر من قبيل العموم اللغوي لا يتفاوت
فيه النادر من غيره، كما يشعر به إلحاقهم لحية الامرأة بلحية الرجل، بل ربما وقع
من بعضهم منع ندرته، بل دعوى الغلبة، فتأمل. ومن المحتمل قويا إيجاب مسح
البشرة مع الشعر كما ينبئ عنه إيجاب بعضهم غسل ما كان منه على اليد مع اليد، وكونها
يجب فيها الاستيعاب بالغسل بخلاف القدم لا يصلح أن يكون فارقا بعد القول بوجوب
الاستيعاب الطولي، لأن المراد مسح ما كان منه على الخط الطولي، وما ذكرنا هناك
من التعليل جار هنا، ولعله لا ينافي هذين الوجهين ما تقدم من لفظ البشرة، ودعوى
الاجماع على مطلق الحائل من الخف وغيره، لاحتمال إرادة الأول بها ما يشمل الشعر،
وإرادة الثاني ما عداه، لعدم ظهور دخوله في اسم الحائل حينئذ، وينبئ عنه استدلالهم،

(1) الغدير للأميني طبعة طهران المجلد 6 الصحيفة 98 عن أربعين الرازي ص 467
234

فلاحظ وتأمل، وكان أوسط الوجوه أقواها إن لم ينعقد إجماع على خلافه.
(الثاني) يظهر من بعض الأصحاب أنه يستثنى من الحائل المسح على شراك النعل
العربي، وهو الذي يظهر من المنقول عن العلامة في التذكرة، قال: " وهل ينسحب
إلى ما يشبهه كالسير في الخشب؟ إشكال، وكذا لو ربط رجليه بسير للحاجة، وفي
العبث إشكال " انتهى. وكذا المنقول عن المبسوط وابن حمزة، لتصريحهم باختصاص
الحكم بالنعل العربي دون غيره، بل يحتمله عبارة التحرير لقوله: " يجوز المسح على
النعل العربية وإن لم يدخل يده تحت الشراك " انتهى. بل نسبه في المنتهى إلى ظاهر
قول الأصحاب، وكأن وجهه ما في خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) (1) " إن
عليا (عليه السلام) مسح على النعلين ولم يستبطن الشراكين " وما في صحيحه الآخر مع
أخيه بكير عن الباقر (عليه السلام) (2) أيضا قال في المسح: " تمسح على النعلين ولا تدخل
يدك تحت الشراك " وما في المرسل (3) " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) توضأ ثم
مسح على نعليه ولم يدخل يده تحت الشراك، فقال له المغيرة: أنسيت يا رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فقال له: بل أنت نسيت، هكذا أمرني ربي " لكن فيه - مع منافاته
لعموم معقد الاجماع في كثير من العبارات وغيره من الأدلة الدالة على المسح على البشرة -
أنه لا صراحة فيها بالدعوى، إذ عدم الادخال وعدم استبطان ما تحت الشراك قد يكون
لحصول الغرض وكذا قوله المسح على النعلين، فإنه - مع ظهور أن المرا منه عدم
الاستبطان كما ينبئ اقترانه - لا ينافي مسح محل الفرض مع المسح عليه، ولذا قال
ابن إدريس: " وأما النعال فما كان منها حائلا بين الماء والقدم لم يجز المسح عليه، وما لم
يمنع من ذلك جاز المسح عليه سواء كان منسوبا إلى العرب أو العجم " وهو صريح
المنتهى وظاهر المعتبر، لتعليله جواز المسح من غير استبطان بعدم المنع عن مسح محل

(1) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 11 - 13
(2) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 4
(3) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 11 - 13
235

الفرض، ونحوه يظهر من الشهيد في الذكرى، ولعله على ذلك ينزل اختصاص حكم
المسح على النعل بالعربية كما تقدم نقله عن المبسوط والوسيلة، لعدم منعها عن مسح
الفرض كما يرشد إليه كلام الشيخ في التهذيب، قال بعد الرواية الأولى: " نعني
إذا كانا عربيين، فإنهما لا يمنعان وصول الماء إلى الرجل بقدر ما يجب عليه المسح "
انتهى. نعم قد يقال بناء على وجوب المسح إلى المفصل: بالاجتزاء بالمسح على الشراك
عما تستره، لظاهر هذه الأخبار، إلا أن الأولى اخراج هذه الروايات شاهدة على
فساد هذه الدعوى لاطلاق الأصحاب عدم جواز المسح على حائل، بل قد عرفت أن
معقد إجماعاتهم كل حائل، ولم يستثني أحد منهم صريحا ذلك، بل ذكروه معللين له
بما سمعت مع النص من بعضهم كما عرفت، فلا ريب أن حملها على ما يوافق كلام الأصحاب
أولى من غيره، فتأمل جيدا.
وكيف كان فلا يجوز المسح على كل حائل يستر محل الفرض أو شيئا منه (إلا
لتقية) فيجوز حينئذ على الخف ونحوه بلا خلاف أجده بين أصحابنا، بل في صريح
المختلف الاجماع عليه، وكذا غيره نصا وظاهرا، بل هو محصل عليه فضلا عن المنقول
للأخبار التي (1) كادت أن تكون متواترة في الأمر بها، وأنها دين آل بيت محمد،
(عليهم السلام) بل أصل التقية من ضروريات مذهب الشيعة، ويدل عليه - مضافا إلى
ذلك وإلى نفي الحرج في الدين ونحوه - خصوص خبر أبي الورد، (2) قال: " قلت لأبي
جعفر (عليه السلام): إن أبا ضبيان حدثني أنه رأى عليا (عليه السلام) أراق الماء ثم
مسح على الخفين، فقال: كذب أبو ضبيان، أما بلغك قول علي (عليه السلام) فيكم:
سبق الكتاب الخفين، فقلت: هل فيهما رخصة؟ فقال: لا إلا من عدو تتقيه أو ثلج تخاف
على رجليك " ولا ينافيه ما في صحيح زرارة (3) قال: " قلت له: هل في المسح على الخفين
تقية؟ فقال: ثلاثة لا أتقي فيهن أحدا شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج " كغيره

(1) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 5 - 3
(2) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 5 - 3
(3) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 5 - 3
236

من الأخبار كما خبر أبي عمر الأعجمي (1) قال: " قال الصادق (عليه السلام): يا أبا
عمر أن تسعة أعشار الدين في التقية، لا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شئ إلا في
النبيذ والمسح على الخفين " وفي خبر زرارة (2) عن غير واحد قال: " قلت للباقر (عليه
السلام): في المسح على الخفين تقية، قال: لا يتقى في ثلاث، قلت: وما هن؟ قال:
شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج " إما لما زاد في آخره في الكافي، قال
زرارة: " ولم يقل الواجب عليكم ألا تتقوا فيهن أحدا " فإنه كالصريح في أن زرارة
فهم عن مراد الإمام (عليه السلام) أن ذلك حكم خاص به، وهو أدرى بتكليفه،
وإما لأن المراد بنفي التقية فيه مع المشقة اليسيرة التي لا تبلغ إلى الخوف على النفس أو المال
كما تأوله الشيخ بذلك، أو لأن المراد لا أتقي أحدا في الفتوى بها، لأن ذلك معلوم
من مذهبه، فلا وجه للتقية فيها، وإما لأن هذه الثلاثة لا يقع الانكار فيها من العامة
غالبا، لأنهم لا ينكرون متعة الحج وحرمة المسكر ونزع الخف مع غسل الرجلين،
والغسل أولى منه عند انحصار الحال فيهما على ما نص عليه بعضهم، أو لأن المراد أنه
لا تقية حيث لا ضرر، لأن مذهب علي (عليه السلام) فيه معروف عندهم، أو لغير
ذلك من الوجوه، ولذا لم نعثر على عامل بهذه الرواية، أو من استثنى ذلك من
عمومات التقية، نعم قد يظهر من الهداية والفقيه العمل بها، لما فيهما أنه روي عن العالم
(عليه السلام) (3) أنه قال: " ثلاثة لا أتقي " إلى آخره. مع أنه في الفقيه ذكر ذلك بعد
أن حكم بجواز المسح على الخف للتقية، فلعل المراد ذكر الرواية على أحد الوجوه لا العمل بها

(1) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الأمر والنهي - حديث 3 - من كتاب
الأمر بالمعروف
(2) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 1 لكن فيه (عن زرارة
قال: قلت له: في مسح الخفين تقية، فقال: ثلاثة لا أتقي فيهن أحدا) إلى آخره
(3) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 1
237

فظهر أنه لا ينبغي الاشكال في جوازه للتقية، وأن الرواية بعد ظهور انعقاد الاجماع
من الأصحاب والعمومات وخصوص خبر أبي الورد وغير يجب تنزيلها على وجه
من الوجوه.
وهل يشترط في التقية عدم المندوحة أولا؟ وجهان بل قولان، اختار أولهما
في المدارك، لانتفاء الضرر مع وجودها، فيزول المقتضي، والاقتصار على المتيقن،
فيبقى ما دل على التكليف الأول سالما، ولا يخرج عن العهدة إلا به، واختار ثانيهما
المحقق الثاني، وهو المنقول عن الشهيدين، واختاره الطباطبائي في منظومته، فقال:
وفي اشتراط عدم المندوحة * قول ولكن لا أرى تصحيحه
لاطلاق ما دل (1) على الأمر بها، ولما يشعر به الأخبار الواردة في استحباب
الجماعة (2) مع المخالفين والحث العظيم عليها، بل وغيرها أيضا، ولعله هو الأقوى.
وربما نقل عن بعض التفصيل بين ما إذا كان المأمور به للتقية بالخصوص، فيصح
ولو مع المندوحة، وبين ما كان بطريق العموم فيشترط عدم المندوحة، ولا أرى له وجها
صحيحا، نعم يحتمل التفصيل بين ما نحن فيه من المسح على الخف والأمرين الأخيرين
وبين غيرها، فلا يجوز الثلاثة مع المندوحة ويجوز غيرها ولو معها، بل لعله على هذا
تنزل ما سمعت من رواية زرارة وغيرها، بل قد يشعر به خبر أبي الورد المتقدم، كما
قد يرشد إليه نص جماعة أنه متى أمكن تأدية التقية بالغسل كان الغسل أولى كما في
الذكرى وعن التذكرة، وتعين الغسل كما عن الروض، ووجب الغسل كما عن البيان،
وفي المدارك قطع الأصحاب بجواز المسح على الحائل للتقية إذا لم تتأد بالغسل، وفي
الحدائق صرح جملة من الأصحاب بتعين الغسل وأنه لا يجزي غيره، بل عن صاحب
الذخيرة نسبة وجوب الغسل للأصحاب، ولعله لكونه أقرب إلى المأمور به، لما فيه

(1) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الأمر والنهي من كتاب الأمر بالمعروف
(2) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب صلاة الجماعة من كتاب الصلاة
238

من الالصاق، وكون الرجل من أعضاء الوضوء بخلاف الخف، وهو كما ترى يراد
به التأييد لا الاستدلال، وإلا كان للنظر فيه مجال، إذ وجوب الالصاق ونحوه إنما
كان مقدمة للمسح الواجب التي تسقط بسقوطه، ولأن تقييد النص والفتوى بل معقد
ما سمعت من الاجماعات على جواز المسح على الخف للتقية بأمثال هذه التعليلات لا يخلو من
إشكال ما لم يثبت إجماع، والظاهر عدم ثبوته، لكون المتعرض للمسألة بعض المتأخرين
على أنه قد عرفت أن العلامة وغيره ذكروا أنه أولى، وهو ليس صريحا بالوجوب،
بل ظاهره العدم كما فهمه منه بعض المتأخرين، نعم نقل عن الأستاذ في شرحه على
المفاتيح أنه نسب تقديم الغسل على المسح إلى الفهم من الأخبار، لكن لم أعثر على ما يفهم
منه ذلك، اللهم إلا أن يريد ما ذكرنا، فالأولى بناء المسألة على أن مباشرة اليد لبشرة
الرجل بالنداوة واجبة بالأصالة أو للمقدمة، فإن كان الأول اتجه الوجوب، وإلا
فلا، ولعله عند الشك يبنى على الوجوب الأصلي، فتأمل جيدا.
ثم الظاهر أنه حيث يجوز المسح للتقية يجب أن يراعى في المسح على الخف ما كان
يراعى في المسح على البشرة من المسح على الظاهر دون الباطن، وبالنداوة، والاستيعاب
الطولي، فيقام الخف مقام بشرة الرجل، وقد يشعر ببعض ما ذكرنا ما في المنتهى " أنه
لو مسح أسفل الخف دون أعلاه لم يجز عندنا في ضرورة الجواز، وهذا مذهب عامة
أهل العلم إلا ما نقل عن بعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب مالك " انتهى. وإذ
قد عرفت أن الشارع في مقام التقية أقام المسح على الخف مثلا مقام المسح على البشرة
ظهر أنه لو خالف مقتضى التقية فجاء بالتكليف الأصلي لم يكن مجزيا، لكونه ليس
مأمورا به في ذلك الحال، بل منهيا عنه، فكيف يقع به امتثال، وما يقال: إن النهي
لوصف خارج فلا يقدح بالصحة فيه ما لا يخفى بعد ما عرفت من ظهور أدلة التقية في كون
تكليفه حالها ذلك، ولذا صرح بالبطلان في مقام يجب الغسل للتقية فخالف ومسح جماعة من
الأصحاب، وهما من واد واحد، ومن المعلوم أنه لا فرق فيما ذكرنا من الأحكام بين
239

الخف وغيره مما يدخل المسح عليه تحت عنوان التقية.
والظاهر أنه لا يجب تخفيف ما على القدم لو كان متعددا، وكونه أقرب إلى
المأمور به لا يصلح لايجابه، نعم قد يقال: إن المتيقن من البدلية المستفادة من الأدلة في
غير المتعدد، إلا أن الأخذ بالاطلاق أو العموم لا يخلو من قوة، هذا. وفي التقية
مباحث جليلة ليس المقام مقام ذكرها.
وإذ عرفت أنه يجوز المسح على الخف للتقية فكذلك يجوز لغيرها مما أشار إليه
المصنف بقوله: (أو الضرورة) كما في المعتبر والمنتهى والمختلف والتحرير والإرشاد
والقواعد والذكرى والدروس وغيرها، وهو الظاهر من عبارة الفقيه وصريح الناصريات،
بل قد يظهر من الأخير دعوى الاجماع عليه، كما هو صريح المختلف، وفي الحدائق أن
ظاهر الأصحاب الاتفاق عليه، بل قد يظهر من عبارة التذكرة الاجماع عليه أيضا،
قال: " لا يجوز المسح على الخفين ولا على ساتر إلا لضرورة أو التقية، ذهب إليه
علماؤنا " ومثلها عبارة الذكرى، بل هو الذي يظهر من كلام بعضهم في وضوء الجبائر
كما ستسمع إن شاء الله، ويدل عليه مضافا إلى ما سمعت عموم ما دل (1) على نفي الحرج
في الدين، وهو وإن كان أعم من إيجاب المسح على الخف ومن سقوطه ومن التيمم،
إلا أنه قد يظهر وجه دلالتها من خبر عبد الأعلى مولى آل سام (2) قال: " قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع
بالوضوء؟ قال (عليه السلام): يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل، قال الله
تعالى: (ما جعل الله عليكم في الدين من حرج) امسح عليه " وفحوى أخبار الجبائر (3)
وخصوص خبر أبي الورد المتقدم، وما في السند من يتأمل فيه سوى أبي الورد، مع

(1) سورة الحج - الآية 77
(2) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 0 -
(3) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 0 -
240

أنه نقل عن المجلسي في وجيزته وأبي الحسن في بلغته أنه ممدوح، وفي السند من
أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، فلا يقدح ضعف من بعدهم على وجه، على
أنا في غنية عن ذلك، لانجبار السند بما سمعت كانجبار الدلالة، إذ الأصحاب لم
يقتصروا على الثلج، بل أطلقوا الضرورة، وكأنهم فهموا منه أنه مثال، وبذلك كله
يقيد ما دل على النهي (1) عن المسح على الخف، وأنه لا رخصة في المسح عليه، فما في
المدارك - من أن أبا الورد مجهول، والانتقال إلى التيمم والحال هذه محتمل، لتعذر الوضوء
المتحقق بتعذر جزئه، والمسألة محل تردد - لا يخفى عليك ما فيه، على أنك قد عرفت
من تتبع كثير من أدلة هذا الباب أنه لا يسقط الوضوء بتعذر شئ من الأجزاء كما عرفته
في الأقطع وغيره، بل ربما يظهر أن ذلك قاعدة في كل ما يستفاد وجوبه من الأمر ونحوه
لتقييده بالقدرة قطعا حينئذ، فتخص بذلك قاعدة سقوط الكل بتعذر الجزء، على
أن شمول أدلة التيمم لمثل المقام ممنوع، لا أقل من الشك، ولا ريب أن الترجيح لما
نحن فيه من الاجماع وغيره، فتأمل جيدا. نعم قد يقال بايجاب الجمع بينهما مع الغض
عن الترجيح بما ذكرنا من الأدلة.
ثم قد عرفت أن كلمة الأصحاب مطلقة في الضرورة، بل هي معقد ما سمعت
من الاجماع الذي لا ينافيه قول البعض عقيب لفظ (لضرورة) كالبرد وشبهه، لظهور
إرادته من ذلك التمثيل لا لاقتصار على هذا الصنف من الضرورة، فحينئذ ينبغي القول
بالاكتفاء بالمسح على الخف مخافة عدو دنيوي أو ضيق وقت أو نحو ذلك، بل لعل
قوله (عليه السلام) في الرواية: (إلا من عدو) يشمل الدين والدنيا، فيكون الأول
من قسم التقية، والثاني من الضرورة، وإن كان العمدة في تعميم مسمى الضرورة
إطلاق معقد الاجماع المنقول، وإلا فاستفادة ذلك من النص في غاية الاشكال، ولذا
كان الاحتياط بالتيمم مع الوضوء في غير الضرورة التي اشتمل عليها النص متجها.

(1) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب الوضوء
241

(وإذا زال السبب) المسوغ للمسح على الخف بعد أن وجد قطعا (أعاد الطهارة
على قول) اختاره في المعتبر والمنتهى وعن المبسوط والتذكرة والايضاح وبعض متأخري
المتأخرين، وهو ظاهر كشف اللثام. (وقيل: لا تجب إلا لحدث) واختاره في المختلف
والذكرى والدروس وجامع المقاصد والمدارك والمنظومة كما عن الجامع والروض، بل ربما قيل إنه المشهور، وفي التحرير في الإعادة نظر، وفي القواعد إشكال، وكيف كان فالأقوى
في النظر الثاني، لكونه مأمورا بذلك، والأمر يقتضي الاجزاء، ولاستصحاب
الصحة، ولما دل (1) على أن " الوضوء لا ينقضه إلا حدث " وارتفاع الضرورة ليس
منه، ولأنه حيث ينوي بوضوئه رفع الحدث يجب حصوله لقوله (صلى الله عليه وآله) (2):
(لكل امرئ ما نوى).
وما يقال: إن الضرورة تقدر بقدرها فيه أنه إن أريد عدم جواز الطهارة كذلك
بعد زوال الضرورة فحق، وإن أريد به عدم إباحتها فلا، لأن المقدر هي لا إباحتها،
وهو محل النزاع، وكذا ما يقال: إنا نمنع حصول رفع الحدث بالوضوءات الاضطرارية،
وإنما هي مجرد إباحة، كوضوء المسلوس والمبطون ونحوهما، فيقتصر في الإباحة على التيقن،
وهو ما دامت الضرورة موجودة. إذ فيه (أولا) أن الظاهر مخالفته الاجماع، وإلا
لوجب اقتصار المضطر بالنسبة إلى كل ما يشترط فيه الوضوء من مس كتابة القرآن وغيره
على ما يرتفع به الضرورة، فلا يجوز لذي الجبيرة أن يمس مثلا كتابة القرآن مع الاختيار
ونحو ذلك. فإن قيل: أن البدلية سوغت ذلك، قلنا: مقتضاها أيضا أن لا ينقض إلا بحدث
وهو المطلوب، لا يقال: إنه ليس بأولى من بدلية التراب عن الماء، بل هي أقوى
مما هنا بمراتب، ومع ذلك متى وجد الماء وجب الوضوء. لأنا نقول أنه قياس لا نقول
به، فإن الفارق بينهما الدليل، ومن وجوده هناك علم أن التيمم مبيح لا رافع،

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4
(2) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 10
242

واحتمال القول هناك أنه رافع إلى أن يوجد الماء ضعيف لا يلتفت إليه. و (ثانيا) أن
المقتضي لرفع الوضوء الحدث مع مسح البشرة من قوله: " لا ينقض الوضوء إلا حدث "
ونحوه موجود هنا، لمكان وجود الأمر في كل من المقامين، ومجرد كون الثاني في
مقام خاص هو الضرورة لا يصلح للفرق، لأنه بمنزلة أن يقول: امسح في وضوئك مثلا
على البشرة إلا في هذا المقام فامسح على الخف، فهو في الحقيقة تكليف أولي واقعي
بالنسبة إلى هذا الموضوع مع ملاحظة وصف الضرورة مشخصا له. لا يقال: إنا لا نسلم
دخول مثل ذلك تحت مسمى الوضوء حتى يكون مشمولا للأدلة. لأنا نقول: إنه
لا إشكال في كونه مشمولا للفظ الوضوء، إذ هو من قبيل المتواطئ بالنسبة إلى سائر
أفراده، بل وضوء المسلوس والمبطون وضوء حقيقة، إذ لم يؤخذ في ماهية الوضوء شرعا
مباشرة البشرة مطلقا قطعا، وإلا لجرى ذلك في جميع مسميات أسماء العبادات، وهو
معلوم الفساد. وما يقال -: إن اقتضاء الأمر الاجزاء معناه الخروج به عن عهدة الأمر
المتعلق به، وهو هنا اقتضاه، إنما الكلام في وجوب وضوء آخر ليس هو بإعادة
للأول حتى يكون منافيا للاجزاء - فيه - مع أن ذلك هدم لتلك القاعدة - أنه كيف
يتصور وجوب وضوء على المتوضئ مع تصريح الأدلة بعدم وجوبه عليه.
وما يقال - إن دليل الإعادة الآية (1) لاقتضائها وجوب الوضوء عند كل صلاة خرج
ما خرج وبقي الباقي - فيه (أولا) أنه منقوض بما إذا توضئ لصلاة خاصة وضوء المضطر
ثم قبل فعلها زالت الضرورة. و (ثانيا) قد عرفت سابقا نقل الاجماع على أن المراد
بقوله عز وجل: (إذا قمتم) أي وأنتم محدثون، أو من النوم لا مطلقا، على أن عمومها
ليس عموما وضعيا يصلح لشمول المقام، بل هو منصرف إلى الأفراد المتعارفة. وما يقال -:
إن العمل بقاعدة الاجزاء على الوجه الذي ذكرت ينافي قاعدة واقعية الشرائط وغيرها
من القواعد، فينبغي الحكم بصحة صلاة من زعم الطهارة أو الوقت أو نحو ذلك - فيه أنه

(1) سورة المائدة - الآية 8
243

فرق ظاهر بين الأمر الحقيقي واقعا لكنه في مقام خاص كما نحن فيه وبين تخيل وجود
الأمر، كجهل الموضوع وجهل الحكم حيث يكون معذورا وإن اشتبه فيه بعض الأعلام
وحكم بالصحة مع الجهل حيث يكون معذورا ولو جاء بصورة مضادة لصورة الصلاة،
وهو عجيب. وما يقال -: إنه في المقام قد تعارض أصالة الصحة مع أصالة بقاء يقين
اشتغال الذمة بالمشروط بالطهارة، لعدم ثبوت أزيد من الاستباحة من الخبر المجوز له
للضرورة، وهي تتقدر بقدرها - فيه أنك قد عرفت أن الصحة فيما نحن فيه مستفادة من ظاهر
الأدلة، فلا يعارضها أصالة بقاء الشغل، وبعد التسليم فاستصحاب الصحة قاطع لأصالة
الشغل، لأنه في الحقيقة استصحاب لمقطوعيته، فتأمل جيدا.
ومن العجيب ما عن الفخر (رحمه الله) في توجيه الاستئناف، قال بعد أن ذكر
احتمالي رفع الحدث بهذا الوضوء وعدمه: " والأقوى عندي وجوب الاستئناف على
كل حال، لأن صورة الفعل مقصودة، لأن القصد ليس رفع الحدث وحكمه خاصة،
بل نفس الفعل أيضا، والضرورة أسقطته " انتهى. وهو عجيب لم يسبقه إليه أحد
ولا لحقه، وفساده واضح، كما أنه في المقام كلام لبعض المتأخرين في المناقشة بجريان
الاستصحاب وغيره خال عن التحصيل، ومما ذكرنا تعرف وجه الاستدلال للأول بل
تعرف تسرية الكلام في غير المقام، ومما يؤيد ما اخترناه اتفاقهم على ما قيل إن من غسل
رجليه عوض المسح للتقية ثم ارتفعت لم يجب إعادة الوضوء، وهما من واد واحد،
قال في جامع المقاصد في شرح قول العلامة في القواعد: (ولا يجزئ الغسل عنه إلا للتقية)
ما لفظه: " ولا يجب الإعادة بزوالها قولا واحدا فيما أظنه " انتهى. واحتمال الفرق
بين المقام وبين الغسل للتقية - مع أنه من بعض ما نحن فيه المسح على الخف للتقية - بعيد،
لكن قد يظهر من العلامة في المنتهى الفرق بينهما، حيث حكم بوجوب الاستئناف في
المقام مع زوال الضرورة بخلافه مع الغسل للتقية، ولعله لأنه فهم من الأدلة كون التقية
تكليفا واقعيا، بخلاف غيره فإنه عذري، وكأنه إنما فرق بين التقية أي تقية المسح
244

على الخف وتقيته لأن الأولى جوازها لكونها من أفراد الضرورة بخلاف الثانية، والذي
يظهر من غيره بل منه أيضا في التذكرة عدم فرقه بين الغسل للتقية والمسح على الخف في
وجوب الإعادة مع الزوال، بل يظهر من غيره عدم الفرق بين المقام وغيره من ذوي
الأعذار، وهو كذلك، ومما يؤيد المختار أيضا ما تقدم منا سابقا من عدم اشتراط
تعذر المندوحة في التقية.
ثم اعلم أنه لا فرق بناء على ما ذكرنا بين زوال الضرورة بعد تمام المسح على الخفين
بمدة بحيث حصل الجفاف وتعذرت الموالاة لو مسح على البشرة وبين زوالها قبل فواتها
وبين زوالها بعد مسح إحدى الرجلين أو غير ذلك، كله قضاءا لما سمعت من الأدلة،
نعم يتجه التفصيل في ذلك على المذهب الآخر من أنه إن زالت الضرورة وأمكن المسح
على البشرة مع بقاء الموالاة اكتفى بالمسح، وإلا أعاد الوضوء، هذا. وقد نص
جماعة كالمصنف والعلامة والشهيد وغيره على إلحاق مسح الرأس بالرجلين، فيجزئ على
الحائل مع الضرورة، بل عن شارح الدروس نسبته إلى الأصحاب، كما في الحدائق
أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على جواز المسح على الحائل في الرأس والرجلين للضرورة
كالتقية والبرد الشديد، بل قد سمعت سابقا أن جماعة حملوا صحيح محمد بن مسلم عن
الصادق (عليه السلام) (1) " في الرجل يحلق رأسه ثم يطليه بالحناء ويتوضأ للصلاة فقال:
لا بأس بأن يمسح رأسه والحناء عليه " وصحيح عمر بن يزيد (2) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الرجل يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء، قال: يمسح
فوق الحناء " على الضرورة كالتداوي ونحوه، ومقتضاه كون ذلك مسلما، بل الظاهر
أنه كذلك وإن احتمل بعض المتأخرين الانتقال إلى التيمم، مع أنه لا وجه له حيث
تكون الضرورة تقية لعموم أدلتها، بل تقدم لك من الأدلة ما يظهر لك الحكم في غيرها،
بل قد يفهم من فحوى أدلة وضوء الجبائر تعميم الحكم لما نحن فيه كما ستسمعها إن شاء الله،

(1) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب الوضوء - حديث 4 - 3
(2) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب الوضوء - حديث 4 - 3
245

بل الظاهر أن الحائل في المغسول والممسوح إذا كان اختياريا وعسر قلعه كالقير ونحوه
ينتقل إلى غسله والمسح عليه، ولا ينتقل إلى التيمم، بل قد عرفت أنه يمكن جعل
ذلك قاعدة في كل ما استفيد وجوبه من أمر لتقييده بالقدرة، كما أنه قد سمعت في
وضوء الأقطع ما يفيدك في المقام، وكذا خبر المرارة، بل ونحو قوله (ع): " لا يسقط الميسور
بالمعسور " على إشكال فيه، ولا يخفى عليك جريان كثير مما ذكرنا في الأغسال ونحوها،
والاحتياط بالجمع بين الوضوء والتيمم في الجميع حسن، ولذا قال المصنف في المقام:
(والأحوط الأول) أي إعادة الوضوء عند زوال الضرورة، وأحوط منه نقضه
بحدث ثم الوضوء، خروجا من شبهة احتمال الجزم برفع الوضوء الحدث، فتأمل.
(مسائل ثمان)
((الأولى) الترتيب واجب في الوضوء) إجماعا محصلا ومنقولا مستفيضا كاد يكون
متواترا كالسنة، بل قيل يدل عليه في الجملة أيضا الكتاب قضاءا للفاء في قوله تعالى (1):
(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) ويتم بضم عدم القول بالفصل، لكن لا يخلو من نظر،
والمراد به (غسل) تمام (الوجه) بما يسمى غسلا عرفا (قبل) غسل جزء من اليد (اليمنى و)
غسل اليد (اليسرى بعدهما) أي بعد تمام غسل الوجه واليمنى (ومسح الرأس ثالثا)
على حسب ما ذكر، لعدم عده غسل اليمنى مستقلا (و) مسح (الرجلين أخيرا) ولا ترتيب
فيهما على الأقوى كما عرفت.
(فلو خالف) بأن قدم المؤخر أو أخر المقدم أو غسلهما معا دفعة أو غير ذلك
(أعاد الوضوء) من رأس (عمدا كان أو نسيانا) لكون الترتيب ركنا في الوضوء على
ما يستفاد من أدلة إيجابه (إن كان قد جف) ما على الأعضاء من ماء (الوضوء و) أما
(إن كان البلل باقيا أعاد على ما يحصل معه الترتيب) بإعادة غسل اليمنى فقط فيما إذا

(1) سورة المائدة - الآية 8
246

غسلها مع الوجه دفعة، أو غسلهما مقدما لليمنى عليه، أو بإعادة غسل اليسرى فقط
فيما إذا ابتدأ بغسل الوجه ثم غسل اليدين دفعة أو مقدما لليسرى، فإنه يحصل بإعادتها
فحسب. وهكذا، ولو غسل الوجه واليدين دفعة حصل له الوجه فقط، فلو أعاد
هذا الدفعي ثانيا حصلت له اليمنى، ولو أعاده ثالثة حصلت له اليسرى. وكذا المسح،
ولو نكس الوضوء من آخره إلى أوله لم يحصل له إلا غسل الوجه، ولو فعل ذلك مرة
ثانية حصلت اليد اليمنى، وثالثة يحصل اليسرى، ورابعة يحصل المسح الرأس،
وخامسة مسح الرجلين، وحيث نوجب الترتيب فيهما يتم بالسادسة، نعم يحصل الاشكال
من جهة المسح بماء جديد، فلو كرر النكس بالمسح فقط من بعد حصول اليسرى صح
وضوؤه، ولا يشكل صحة الوضوء في صورة النكس وغيره بعدم حصول النية عند غسل
الوجه، أما أولا فلابتنائه على كون النية الاخطار، وثانيا فلأنه يكفي في تصوير
الصحة حيث تحصل النية عند غسل الوجه أو غسل اليدين بناء على جواز تقديمها، ولا يقدح
وجود الفاصل بأجنبي لتحقق الامتثال، فيخرج عن العهدة، ولو ارتمس ناويا صح
الوجه، فإن أخرج اليدين مرتبا صحتا، ولو أخرجهما معا فاليمنى إذا قصد بالاخراج
الغسل، ولو كان في جار وتعاقبت الجريات ناويا صحت الثلاثة، بل في الذكرى الأقرب
أن هذه النية كافية في الواقف أيضا، لحصل مسمى الغسل مع الترتيب الحكمي، ويمسح
بماء الأولى، وهو متجه فيما تتعاقب فيه أزمنة النية مع حصول التحريك الذي يحصل به
مسمى الغسل، وإلا فمجرد الترتيب في النية لا يكفي، لعدم صدق الامتثال، وحمله
على الغسل على تقدير القول به هناك قياس لا نقول به، وأيضا فآنات المكث ليست
غسلا، فلو فرض اتحاد وضعهما في الماء مع نية الغسل لليمنى لم يصلح بعد نية غسل
اليسرى، إذا ليس هو إلا مكثا لا غسلا غير الغسل الأول، وما يقال: إن السيد إذا
قال لعبده: اغسل يدك وكانت يده في الماء لم يحتج إلى اخراجها في صدق الامتثال ممنوع،
مع أن العرف أكمل شاهد على عدم صدق غسل اليمنى قبل اليسرى في الفرض، ثم
247

إن قوله يمسح بماء الأولى ظاهر في أنه يكتفى باليد الواحدة للرأس والرجلين، وأنه
لا يشترط في صدق المسح بنداوة الوضوء بالنسبة لليد اليمنى، وكلاهما محل للاشكال فتأمل.
لكن ربما يستدل على الاجتزاء بالترتيب الحكمي بخبر علي بن جعفر (1) عن أخيه
موسى (عليهما السلام) قال: " سألته عن الرجل لا يكون على وضوء فيصيبه المطر حتى
يبتل رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه هل يجزؤه ذلك من الوضوء؟ قال: إن غسله
فإن ذلك يجزئه " وفيه أن ظاهره مخالف لوجوب الترتيب في الوضوء، وصرفه إلى الترتيب
الحكمي ليس بأولى من صرفه إلى إرادة الترتيب الحقيقي، ويكون قوله (عليه السلام):
(إن غسله) على مقتضى ترتيب الوضوء، بل يحتمل أن يجعل الفاعل الشخص، أي فإن
دلكه بعد انصباب المطر أجزأه، وأيضا هو مناف لما دل على تجفيف الممسوح، لعدم
الأمر به فيه، على أن الترتيب الحكمي بالنسبة إلى المكث إنما هو باعتبار تعدد آنات
المكث، وهو غير متجه هنا، لأنه بحسب النية صرفا، وكأنه لا يقول به (رحمه الله).
ثم إن ما ذكرناه من حصول الترتيب بإعادة غسل ما حقه التأخير من غير حاجة
إلى إعادة غسل السابق هو الذي صرح به المصنف والعلامة والشهيد وغيرهم من المتأخرين،
بل لا أجد فيه خلافا، لصدق امتثال ما دل على الترتيب والبدأة ونحوهما بذلك، ولما
رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب النوادر لأحمد بن محمد بن أبي
نصر في الموثق بعبد الكريم عن ابن أبي يعفور (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" إذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك ورجليك ثم استيقنت بعد أنك بدأت
بها غسلت يسارك ثم مسحت رأسك ورجليك " وما في خبر منصور بن حازم عن أبي

(1) الوسائل - الباب - 36 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 14
248

عبد الله (عليه السلام) (1) في حديث تقديم السعي على الطواف قال: " ألا ترى أنك
إذا غسلت شمالك قبل يمينك كان عليك أن تعيد على شمالك " لكن في الفقيه (روي (2)
" في من بدأ بغسل يساره قبل يمينه أنه يعيد على يمينه ثم بعيد على يساره " وقد روي (3)
" أنه يعيد على يساره ") انتهى. ولعل المراد أنه إن ذكر قبل غسل يمينه غسل يمينه
ثم غسل يساره، وإن ذكر بعد غسل يمنيه لم يكن عليه سوى غسل يساره، وهو أولى
من الجمع بالتخيير وإن كان ربما ظهر من عدم ترجيح الفقيه، وعليه حينئذ ينزل ما في
صحيح زرارة (4) قال: " سئل أحدهما (عليهما السلام) عن رجل بدأ بيده قبل وجهه،
وبرجليه قبل يديه، قال: يبدأ بما بدأ الله به، وليعد ما كان " وصحيح منصور
ابن حازم عن الصادق (عليه السلام) (5) " في الرجل يتوضأ فيبدأ بالشمال قبل اليمين،
قال: يغسل اليمين ويعيد اليسار " وخبر أبي بصير عنه (عليه السلام) (6) أيضا قال:
" إن نسيت فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعيك بعد
الوجه، فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد غسل الأيمن ثم اغسل اليسار "
والمروي عن قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) (7)
قال: " سألته عن رجل توضأ فغسل يساره قبل يمينه كيف يصنع؟ قال (عليه السلام):
يعيد الوضوء من حيث أخطأ يغسل يمينه ثم يساره ثم يمسح رأسه ورجليه " فيراد فيها
جميعا أنه ذكر قبل غسل اليمين مثلا، وإن كان لولا ظهور عدم المخالف في هذا الحكم
لأمكنت المناقشة فيه أخذا باطلاق ما سمعت من الأخبار، سيما مع اشتمالها على لفظ
الإعادة التي كادت تكون كالصريح في حصول الغسل لهما معا، وإلا لم يصدق لفظ
الإعادة، وظهور الخبر الأخير في وقوع الذكر بعد التمام، وسيما مع عدم الصراحة

(1) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 10
(2) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 10
(3) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 11 - 1 - 2
(4) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 11 - 1 - 2
(5) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 11 - 1 - 2
(6) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 15
(7) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 15
249

المروي في السرائر، بل وصلاحيته أيضا بنفسه للحكم عليها كمرسل الفقيه. مع معارضته
بمثله، على أنه قد يمنع صدق اسم البدأة في نحو المقام، وكون غسل اليسار فاسدا مثلا
لا يمنع من أن يفسد غيره أيضا لكونه سببا حينئذ في عدم صدق البدأة حينئذ، باليمين،
خصوصا فيما سمعت من صور النكس أول المبحث، وأيضا كما هو ينهى عن تقديم ما حقه
التأخير كذلك ينهى عن تأخير ما حقه التقديم، على أن ما ذكروه من صور النكس إنما
هي صور تخريجية لا تصلح الأدلة لشمولها، وقد يجئ نحو ما ذكروه بالنسبة إلى العضو
نفسه حيث نوجب فيه الابتداء بالأعلى، فمن غسل وجهه منكوسا ثم أعاده كذلك
صح وضوؤه. لحصول غسل الأعلى بالأعلى وما بعده بالثاني، إلا إذا قصد التشريع،
فإنه يفسد، وكذا فيما تقدم من الترتيب في الأعضاء، لكن التأمل يقضي ببعده وعدم
صدق الامتثال معه.
ثم إن ما ذكره المصنف من التفصيل بين الجفاف وعدمه من غير فرق بين العمد
والنسيان هو الظاهر من المعتبر والمنتهى والقواعد وغيرها من كتب المتأخرين، ووجهه
واضح، لبقاء الموالاة في الأول دونه في الثاني، لكن الذي يظهر من العلامة في
التحرير أن التفصيل في صورة النسيان، وإلا ففي العمد يجب إعادة الوضوء من رأس
جف أو لم يجف، وكان وجهه ما تعرف من مذهبه في الموالاة أنها المتابعة مع الاختيار،
ومراعاة الجفاف مع الاضطرار، نعم ما حكي عنه في التذكرة من عكس ذلك لا أعرف
وجهه، ولا ينافي المختار ما في بعض الأخبار (1) من إطلاق الإعادة عند مخالفة الترتيب،
إذ هو محمول على صورة الجفاف أو على عدم حصول جزء صحيح أو غير ذلك جمعا بين
الأدلة، والمراد ببقاء البلل المذكور في العبارة بلل غسل جزء صحيح، وإلا فلا يثمر
بقاء البلل على الجزء الذي حقه التأخير، كما هو واضح.
ولا فرق في ظاهر كلمات الأصحاب في مخالفة الترتيب بين تقديم ما حقه التأخير

(1) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء
250

وبين ترك غسل العضو من رأس في أنه يجري عليه التفصيل المتقدم، فإن كانت رطوبة
باقية أعاد المنسي وما بعده وإلا استأنف الوضوء، وبه نطقت الأخبار، ففي حسنة
الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (1) " إذا نسي الرجل أن يغسل يمينه فغسل شماله ومسح
رأسه ورجليه وذكر بعد ذلك غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه، وإن كان إنما
نسي شماله فليغسل الشمال. ولا يعيد على ما كان توضأ " وكذا غيره وهو وإن كان ظاهره
النسيان خاصة ولم يفصل بين الجفاف وعدمه إلا أنه يجب تنزيله على ذلك، لمكان غيره
من الأدلة وما تسمعه، من أدلة الموالاة، وكذا لا فرق في جميع ما تقدم بالنسبة إلى مخالفة
الترتيب بين تمام العضو وبعضه فمن ترك شيئا من الوجه مثلا وجب عليه إعادته وما بعده
إن لم يجف الوضوء، وإلا استأنف، وما عن ابن الجنيد أنه إذا كان المنسي لمعة دون
سعة الدرهم كفى بلها من غير إعادة على ما بعد ذلك العضو لم نقف له على دليل يعتد به،
بل قد يظهر عن بعضهم دعوى الاجماع على خلافه، وما نقله هو من أنه روى توقيت
الدرهم ابن سعيد عن زرارة عن أبي جعفر (ع) وابن منصور عن زيد بن علي ومنه حديث
أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) لم نتحققه، فلا يجوز هدم تلك القواعد وتخصيص
تلك الأدلة بنحو هذه المراسيل، كما لا يجوز ذلك لما رواه الصدوق (2) عن الكاظم
(عليه السلام)، ونحوه عن كتاب عيون الأخبار مسندا إلى الرضا (عليه السلام) (3) " أنه
سئل عن الرجل يبقى من وجهه إذا توضأ موضع لم يصبه الماء، فقال: يجزؤه أن يبله
من جسده " لعدم وضوح دلالته على ما قاله ابن الجنيد، ومناف بظاهره لما عليه
الأصحاب، فتنزيله على إرادة أنه يبله من جسده ثم يعيد على ما بعده إذا ذكر ذلك
قبل غسل اليدين وإن بعد أولى من هدم تلك القواعد وتخصيص الأخبار الكثيرة،
واحتمال كون الصدوق عاملا به لعدم رده ولا تأويله لا يصيره صالحا لذلك، والله أعلم.

(1) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 9
(2) الوسائل - الباب - 43 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(3) الوسائل - الباب - 43 - من أبواب الوضوء - حديث 1
251

المسألة (الثانية) الموالاة واجبة) في الجملة وجوبا شرطيا إجماعا محصلا ومنقولا وإن
اختلف في المراد منها، فقيل إنها (هي أن يغسل كل عضو قبل أن يجف ما تقدمه)
ولا يجب غير ذلك لا شرطا ولا شرعا، كما هو خيرة الجمل والعقود والمراسم وموضع
من السرائر وإشارة السبق والنافع واللمعة والدروس والذكرى والألفية وجامع المقاصد
والروضة والمدارك وغيرها من كتب متأخري المتأخرين وعن ابن الجنيد والمرتضى في
شرح الرسالة وظاهر ابن البراج في المهذب والكامل وابن حمزة في الوسيلة وأبي الصلاح
وابن زهرة والكيدري، وهو الأشهر كما في الروضة، والمشهور كما في غيرها، بل
قد يظهر من الذكرى انحصار الخلاف في المفيد، لموافقة الشيخ للأصحاب في الجمل،
قال: " ولو حمل قول المفيد: (ولا يجوز) على الكراهة انعقد الاجماع ".
(وقيل: بل هي المتابعة بين الأعضاء مع الاختيار) بأن يغسل كل عضو بعد
سابقه من غير فاصلة يعتد بها عرفا (ومراعاة الجفاف مع الاضطرار) كنفاد الماء ونحوه،
كما هو خيرة المقنعة والخلاف وعن النهاية والمبسوط وعن موضع آخر من السرائر، قال:
" والموالاة أن يوالي بين الأعضاء من غير تراخ، فيصل غسل اليدين بغسل الوجه
ومسح الرجلين بمسح الرأس، وليتعمد أن يكون فراغه من مسح رجليه وعلى أعضائه
المغسولة والممسوحة نداوة الماء، ومن فرق وضوءه لعذر أو باختياره وجب عليه
الاستئناف للوضوء من أوله أو من حيث جف، وإن كان التفريق لم يجف معه ما تقدم
وصل من حيث قطع " ولعل مراده بقوله: (من غير تراخ) حصول الجفاف، فلا يكون
منافاة بينه وبين ما في الموضع الأول منها، وظاهر الكتب الثلاثة الأول كصريح المبسوط
البطلان مع الاخلال بها في الاختيار، وتحتمل أيضا الوجوب الشرعي مع الشرطي،
لقوله في المقنعة: (ولا يجوز التفريق بين الوضوء) وفي الخلاف " عندنا أن الموالاة واجبة
وهي أن تتابع بين أعضاء الطهارة ولا يفرق بينها إلا لعذر " إلى آخره. وعن النهاية ما نصه
" والموالاة واجبة أيضا في الطهارة، ولا يجوز تبعضها إلا لعذر " كما في المبسوط " والموالاة
252

واجبة في الوضوء، وهي أن يتابع بين الأعضاء مع الاختيار، فإن خالف لم يجزه "
إلى آخره. لكنه بعيد، لظهور إرادة الوجوب الشرطي في مثل هذه المقامات كما في غيرها
من الشرائط والأجزاء، والذي اختاره المصنف في المعتبر والعلامة في المنتهى والتحرير
والمختلف بل عنه في سائر كتبه إيجاب المتابعة شرعا لا شرطا، فمن أجل بها مع الاختيار
أثم، ووضوؤه صحيح ما لم يحصل الجفاف، وقد يحتمله بعض عبارات القدماء، وبذلك
تكون الأقوال ثلاثة، لكن يظهر من المحقق الثاني إنكار ذلك زاعما أنه لم يقل أحد
بالبطلان للمتابعة، فم يبق معنى لوجوبها سوى التعبد الشرعي، ويؤيده ما في التنقيح
من أنه " اتفق الكل على أنه لو أخر ولم يجف ما تقدم لم يبطل وضوؤه، بل فائدة
الخلاف تظهر بالإثم وعدمه " انتهى. إلا أنك قد عرفت من صريح المبسوط كظاهر
غيره البطلان، ويؤيده أن من نقل هذا القول كالمصنف وابن إدريس وغيرهما
فهم منه إرادة ذلك، نعم إنما ذلك أي الوجوب الشرعي فقط اختيار في المسألة، بل
أول من صرح به المصنف في المعتبر، وتبعه عليه العلامة، مع أن أدلتهما عليه تقضي
بالوجوب الشرطي كما ستعرف إن شاء الله، فدعوى اتفاق الجميع على ذلك في غاية
الغرابة، والظاهر أن مرادهم بالوجوب الشرعي أنه لو جاء بوضوء غير متابع فيه يأثم،
لا أنه يأثم وإن ترك الوضوء من رأس أو أفسده بحدث ونحوه، فظهر من ذلك كله
أن الأقوال في المسألة ثلاثة.
بل قد يظهر من بعض المتأخرين وجود قول رابع، وهو ما يظهر من الصدوقين
من أن الواجب في الوضوء أحد أمرين، مراعاة الجفاف أو المتابعة، قال في الفقيه:
" قال أبي في رسالته إلي: إن فرغت من بعض وضوئك وانقطع بك الماء من قبل أن تتمه
فأتيت بالماء فتمم وضوءك إذا كان ما غسلته رطبا، وإن كان جف فأعد وضوءك
وإن جف بعض وضوءك، قبل أن تتمم الوضوء من غير أن ينقطع عنك الماء فاغسل ما بقي
جف وضوؤك أو لم يجف " انتهى. بل اختاره بعض متأخري المتأخرين، وقواه آخر،
253

وفيه أنه لا صراحته في العبارة بذلك، سيما بعد قوله (رحمه الله): (وإن جف بعض
وضوئك) إذ قد يكون مراده أن جفاف البعض لا يقدح في الصحة، نعم قد يظهر منه
اختصاص البطلان بالجفاف للتفريق من جهة نفاد الماء خاصة، بل قد يقال: إن ما استظهروه
منه من أن الواجب أحد أمرين إما المتابعة أو مراعاة الجفاف ليس مخالفا لأصحاب
القول بأن الموالاة مراعاة الجفاف، لظهور أن مرادهم بالجفاف المبطل إنما هو الحاصل
بالتفريق حتى يجف.
قال في الجمل والعقود: " الموالاة أن توالي بين غسل الأعضاء، ولا تؤخر
بعضها عن بعض بمقدار ما يجف ما تقدم " وقال في موضع من السرائر: " حد الموالاة المعتبر
عندنا على الصحيح من أقوال أصحابنا المحصلين هو أن لا يجف غسل العضو المتقدم في
الهواء المعتدل، ولا يجوز التفريق بين الوضوء بمقدار ما يجف غسل العضو الذي انتهى
إليه وقطع الموالاة منه في الهواء المعتدل " وقال في إشارة السبق بعد أن ذكر الفساد
بمخالفة الترتيب: " وكذلك إن لم يتابع بعضه ببعض بحيث يجف غسل عضو قبل موالاته
بغسل العضو الآخر " وقال في الوسيلة: " هي أن يوالي بين غسل الأعضاء، ولا يؤخر
بعضها عن بعض بمقدار ما يجف ما تقدم " وقال الكيدري على ما في الذكرى في سياق
الواجب: " وأن لا يؤخر غسل عضو إلى أن يجف ما تقدم مع اعتدال الهواء " وقال أبو
الصلاح في الكافي: " هي أن يصل توضئة الأعضاء بعضها ببعض، فإن جعل بينها مهلة
حتى جف الأول بطل الوضوء " وعن ابن زهرة " أنها هي أن لا يؤخر بعض الأعضاء
عن بعض ما يجف ما تقدم في الهواء المعتدل " وقال في الكامل على ما في الذكرى:
" وهي متابعة بعض الأعضاء ببعض، فلا يؤخر المؤخر عما يتقدم بمقدار ما يجف المتقدم
في الزمان المعتدل " إلى غير ذلك من عباراتهم الظاهرة في أن المراد بالموالاة مقدار
للزمان لا خصوص بقاء البلل، فيكون الجميع حينئذ قائلين بالصحة في الصورة التي تخيل
انفراد الصدوقين بها، وهي ما إذا تابع في وضوئه واتفق حصول جفاف ولو اختياري
254

لكنه لم يمض زمان بحيث لو بقي لجف. وما في بعض العبارات كالمراسم ونحوها من
ظهور أن المراد بالموالاة بقاء بلل حسي لا تقدير للزمان منزلة على ما عرفت من تلك
العبارات، بل يظهر للمتأمل في كلماتهم دعوى الاجماع عليه، وما في بعض عبارات
بعض متأخري المتأخرين من الاجماع على البطلان مع الجفاف مما ينافي باطلاقه ما سمعت
يراد به الجفاف المذكور في كلام الأصحاب، وقد عرفت أنه عبارة عن مقدار الجفاف،
وإلا كان هذا الاجماع مما تبين خطأه، فلا يكون معتبرا.
لا يقال: إنه لا معنى حينئذ لاستثناء ضرورة الحر أو الحرارة كما وقع في كلام
جملة من أصحابنا، إذ بناء على أن المراد بالموالاة تقدير زماني لا بلل حسي لا يتفاوت
الحال بين الحر وغيره. لأنا نقول: إن الواقع في كلام القدماء من أصحابنا التقيد بالزمان
المعتدل والهواء المعتدل ونحو ذلك، وهو لا منافاة فيه بل يؤكد إرادة تقدير الزمان،
ولا استثناء في كلامهم حتى يسقط اعتبار شرطية الموالاة في شدة الحر ونحوها، وإلا لو
كان المراد سقوط شرطية الموالاة في شدة الحر والحرارة لقضى بجواز التفريق مدة مديدة
ما لم يتخلل حدث بالأثناء، إذ لا مراعاة للجفاف حينئذ، وهو معلوم البطلان.
لا يقال: إنه لو كان المراد التقدير الزماني لما اكتفى الشهيد في الذكرى ومن تأخر
عنه ببقاء البلل في الهواء الرطب جدا أو المكان كذلك ولو مدة مديدة، فإنه إذا كان
المدار على التقدير الزماني بالنسبة للزمان المعتدل كما ينبئ عنه تقييدهم بالزمان المعتدل
ونحوه لم يكن لذلك وجه. لأنا نقول: إنه قد يكون فهم من تقييد الأصحاب بالاعتدال
بالنسبة للجفاف بشدة الحر لا لبقاء الرطوبة، وهو أمر آخر غير ما نحن فيه، على
أنه لا يخلو من نظر كما ستسمع إن شاء الله.
وكيف كان فالأقوى في النظر هو القول الأول في الموالاة، وهو يشتمل على
دعويين، الأولى حصول البطلان بالجفاف على حسب ما تقدم، والثانية عدم البطلان
والإثم بغيره
255

أما (الأولى) فيدل عليها - مضافا إلى استصحاب حكم الحدث واستدعاء الشغل
اليقيني البراءة كذلك - الاجماع محصلا ومنقولا على لسان جملة من الأساطين من
المتقدمين والمتأخرين، وخصوص صحيحة معاوية بن عمار (1) قال: " قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): ربما توضأت فنفد الماء فدعوت الجارية فأبطأت علي بالماء فيجف
وضوئي قال: أعد " وموثقة أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (2) أيضا قال:
" إذا توضأت بعض وضوئك فعرضت لك حاجة حتى يبس وضوؤك فأعد وضوءك،
فإن الوضوء لا يبعض " وإذا ثبت ذلك مع الضرورة فبدونها بطريق أولى، بل ربما
استدل عليه بما دل على إعادة الوضوء عند نسيان مسح الرأس والرجلين إذا لم يبق شئ
من نداوة الوضوء، إلا أنه لا يخلو من نظر، إذ لعله لعدم جواز المسح بماء جديد،
ولكن فيما تقدم كفاية، ولا ينافيه ما رواه الشيخ عن حريز (3) بل عن مدينة العلم
إسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في الوضوء، قال: " قلت: فإن جف الأول
قبل أن أغسل الذي يليه قال: جف أو لم يجف اغسل ما بقي، قلت: وكذلك
غسل الجنابة، قال: هو بتلك المنزلة، وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك، قلت:
وإن كان بعض يوم، قال: نعم " إذ قد يكون المراد منه مع المحافظة على زمان
الموالاة في الأول، أو تحمل على التقية،، أو يراد مع بقاء بلل على العضو السابق،
أو غير ذلك، فتأمل جيدا.
وأما الدعوى (الثانية) فهي موقوفة على ذكر أدلة المخالف وإفسادها، ومنه
يتضح الحال، فنقول: أقصى ما يستدل به على شرطية المتابعة مع الاختيار - مضافا
إلى قاعدة الشك والوضوء البياني - حسنة زرارة بإبراهيم بن هاشم (4) قال: " قال

(1) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 2 - 4
(2) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 2 - 4
(3) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 2 - 4
(4) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب الوضوء - حديث 1
256

أبو جعفر (عليه السلام): تابع بين الوضوء كما قال الله عز وجل ابدأ بالوجه ثم باليدين "
إلى آخره. والحسن الآخر كذلك عن الصادق (عليه السلام) (1) في حديث قال: " اتبع
وضوءك بعضه بعضا " والتعليل المتقدم في موثقة أبي بصير (2) بأن " الوضوء لا يبعض "
وكون الأمر بالغسل والمسح للفور، واقتضاء الفاء في قوله تعالى (3) (إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم) التعقيب بلا مهلة، والأمر بإعادة غسل الوجه عند مخالفة الترتيب
في خبري زرارة وأبي بصير (4) المتقدمين في بحث الترتيب، إذ لولا وجوب المتابعة
لما حكم بوجوب إعادة غسل الوجه، وإجماع الخلاف.
وفي (الأول) بعد تسليم أن ما شك في شرطيته شرط أنه لا شك في خصوص المقام
لاطلاق الكتاب والسنة، مع قلة القائل صريحا بالشرطية، بل قد عرفت أن المحقق
الثاني أنكره، والمقداد ادعى الاتفاق على عدم البطلان، كما أن (الثاني) بعد تسليم
حجيته لا دلالة فيه على إيجاب المتابعة، إذ لعل الاتصال الواقع في فعله كان لأجل إرادة
بيان تمام الوضوء في تلك الساعة للمخاطب، ولذا لم يحك عنه الراوي أنه والى في وضوئه
وإلا لوجب أن يضبط مقدار الزمان الذي وقع فيه، بل و (الثالث) لظهور أن المراد
بالمتابعة فيه الترتيب، كما يشعر به قوله (ع): (كما) إلى آخره، بل ربما قيل إنه صريح فيه. مع
أنه يكفي فيه الاحتمال، بل قد يقال بقرينة الأخبار الأخر المنجبرة بفتوى المشهور يراد
المتابعة فيه الفعل قبل حصول الجفاف، كما يظهر من تفسيرها بذلك في بعض كلمات
الأصحاب، وبما ذكرنا تعرف المناقشة في (الرابع) على أن ظهور مثل هذا الأمر في
الشرطية ما لم ينجبر بفتوى الأصحاب محل نظر، وكيف والأصحاب على خلافه،
لما عرفت من قلة القائل بها صريحا، وكذا (الخامس) إذ الظاهر أن المراد بالتبعيض
الجفاف، وإلا لو أريد به مطلق التفريق لما قيد (حتى بيس وضوؤك) الظاهر في أنه إن لم

(1) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2
(2) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2
(3) سورة المائدة - الآية 8
(4) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 1 و 8
257

ييبس صح ولا تبعيض فيه، على أنه يجري ذلك في صورة الاضطرار مع الاتفاق على
أن الموالاة فيها مراعاة الجفاف، وأما (السادس) فالتحقيق عدم اقتضاء الأمر للفور،
وعلى تقديره هنا فهو لا يفيد الشرطية، ومن العجيب دعوى بعضهم الاجماع على إرادة
الفورية في خصوص المقام، مع ما عرفت من أن المشهور بين الأصحاب مراعاة الجفاف،
وإن أريد بالفورية ما يشمل مثل ذلك فهو مسلم، إذ لا قائل بجواز التراخي إلى آخره،
بل أقصاه مراعاة الجفاف، فمع فرض أنه لا ينافيها عرفا لا وجه للاستدلال به حينئذ،
على أن إرادة الفورية بمعنى الايجاب الشرعي ممنوعة، لأنه وإن سلمنا أن مراعاة الجفاف
لا ينافيها لكن ذلك إنما هو على سبيل الشرطية صحة في الوضوء لا الوجوب الشرعي،
نعم يتحقق الوجوب عند ضيق الوقت من جهة تضيق الأمر بالوضوء، فتأمل. وفي
(السابع) أن الفاء هنا هي الرابطة التي لا قضاء للتعقيب فيها، بل ذلك في العاطفة، وإلا
لاقتضى وجوب الفورية بمجرد إرادة القيام والتهيؤ للصلاة، ولم يقل به أحد، بل قد
يرشد إلى عدم إرادة الفورية فيها بمعنى المتابعة عطف قوله تعالى (وإن كنتم جنبا) عليه،
إذ لا شك في عدم اعتبار الموالاة فيه، وأما (الثامن) فهو - مع احتمال الأمر فيه بالإعادة
لمكان الجفاف أو لعدم غسل الوجه، وإطلاق لفظ الإعادة حينئذ من جهة الجزء الآخر،
ومع أنه وارد في صورة النسيان، وعندهم أنه من الضرورة - معارض بغيره مما دل (1)
على إعادة غسل اليد اليسرى فقط إن كان قد غسلهما، وبقول الصادق (عليه السلام) (2)
في صحيح منصور بن حازم المتقدم سابقا في من توضأ وبدأ بالشمال قبل اليمين: " يغسل
اليمين ويعيد اليسار " لشموله العامد والناسي، مع ما فيه من ترك المتابعة، وأما (التاسع)
فالظاهر أن إجماعه ليس على ما نحن فيه، قال في الخلاف: " عندنا أن الموالاة واجبة،
وهي أن تتابع بين أعضاء الطهارة، ولا يفرق إلا لعذر، ثم يعتبر الجفاف، ثم نقل
قول الشافعي، - إلى أن قال -: دليلنا أنه لا خلاف في الصحة إذا والى، وإن لم

(1) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 2
(2) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 2
258

يوال فيه خلاف، وأيضا فقد ثبت أنه مأمور بايقاع الوضوء في كل عضو عضو، والأمر
يقتضي الفور، وترك الموالاة ينافيه، وعليه إجماع الفرقة " انتهى. وهو غير صريح
في إرادة الاجماع على شرطية المتابعة، على أنه إن أراد ذلك كان من المتبين خطاؤه،
لما عرفت أنه كاد يكون الاجماع على خلاف ذلك.
وبما سمعت من الأدلة يستدل على القول بالوجوب التعبدي كما وقع للمصنف
والعلامة، لكن قد عرفت ما فيها، ومن العجيب استدلالهم بها على ذلك مع قضاء
بعضها الشرطية، كما أنه من العجيب الاستدلال بها على الشرطية مع قضاء بعضها
الوجوب الشرعي.
وبذلك كله يتضح لك الدعوى الثانية من المختار أنه لا إثم في ترك المتابعة ولا
بطلان، بل صحيح معاوية بن عمار (1) وموثق أبي بصير (2) ظاهران في عدم الإثم،
وإلا لو كانت المتابعة واجبة شرعا لوجب عليه المسارعة، لا استدعاء الجارية ولا انتظارها
حتى جف وضوؤه، وأيضا إطلاق الحاجة في موثق أبي بصير مع أنه قد تكون ضرورية
وقد تكون غيرها مما كاد أن يكون كالصريح في أن المدار في صحة الوضوء على مراعاة
الجفاف، وأنه لا إثم بالتأخير ولا بطلان، وكأن سبب الوهم هنا حتى قيل بالوجوب
الشرعي إطلاق لفظ الوجوب وقولهم لا يجوز ونحو ذلك، إلا أن الظاهر إرادة حصول
البطلان للوضوء به لا الوجوب الشرعي كما في غيره من الأجزاء والشرائط، ومن
هنا يظهر لك أنه لا إثم عليه لو أخر حتى جف وإن بطل وضوؤه، كما عن الروض
حكايته عنهم لما عرفت، مع أصالة البراءة السالمة عن المعارض سوى ما يقال من النهي
عن إبطال العمل، والأخذ باطلاقه في الأعمال المستحبة والواجبة يقضي إلى مخالفة
المقطوع به من الشريعة، بل الظاهر أن ذلك مخصوص في الصلاة خاصة، بل قد يدعى
أن المراد منه النهي عن إبطال العمل بالكفر ونحوه، وحرمة القطع في الصلاة من دليل

(1) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 2
(2) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 2
259

خارجي، ومن العجيب ما في الدروس بعد اختياره أن الموالاة مراعاة الجفاف. قال:
" ولو فرق ولم يجف فلا إثم ولا إبطال إلا أن يفحش التراخي، فيأثم مع الاختيار "
ومثله عن البيان، ولم أعثر لغيره على ذلك، كما أنه لا دليل عليه، فالأقوى حينئذ
أن مراعاة الجفاف شرط الصحة، ولا إثم إلا عند ضيق الوقت وفوات الواجب بذلك
كما في غيره من الشرائط والأجزاء، ولا أعرف وجها لذكرهم ذلك هنا ولم يذكروه في
غيره من الشرائط والأجزاء من الترتيب وغيره، فإن كان ظواهر الأوامر فهي في
الجميع، وإن كان غير ذلك فلم نجده.
ثم إنه بناء على المختار قد عرفت أن جملة من الأصحاب قيدوا ذلك بالهواء المعتدل والزمان
المعتدل ونحو ذلك، بل نسب هذا القيد في الذكرى إلى الأصحاب، وقال: " إن المقصود
به اخراج طرف الافراط بالحرارة الأطرف الافراط في البرودة، فلو كان الهواء
مثلا رطبا جدا أو المكان كذلك وأخر إلى وقت بحيث لو كان معتدلا لجف لم يقدح
ذلك في الصحة لمكان وجود البلل حسا، وكذا لو أسبغ الماء بحيث لو اعتدل لجف "
ومقتضاه جواز ذلك وإن طالت المدة جدا، واستجوده جماعة ممن تأخر عنه، وكأنه
لمكان تعليق البطلان على الجفاف، وهو لا يشمل التقديري، ولكنه قد يشكل ذلك
بأن شرط الصحة عدم الجفاف، وهو لا يشمل التقديري، والتمسك بالضرورة ونفي
الحرج يندفع بالرجوع إلى التيمم أو الاستئناف.
قلت: ينبغي أن يعلم (أولا) أن مراد الأصحاب بقيد الاعتدال إنما هو بالنسبة
إلى ما مضى من الأزمنة، وليس المراد منه الفصل المعتدل من فصول السنة، فيدخل
ما كان في شدة مربعا نية الصيف تحت الاعتدال إلا أن يتفق فيها شدة حر خارج عن
غالب الأزمنة، لعدم الدليل على إرادة الاعتدال بالمعنى الثاني، بل ترك الاستفصال
في صحيحة ابن عمار وإطلاق اليبس في موثقة أبي بصير ينافيه، إذ قد يكون ذلك في
شدة الصيف، أو في مكان غير محجوب عن هواء السموم ونحو ذلك، ويعلم (ثانيا)
260

أنه لا كلام عند الأصحاب في عدم الرجوع إلى التيمم عند إفراط الحر، بل يجب عليه
الوضوء وإن حصل الجفاف، ولعله للاستصحاب في بعض الأحوال ولعدم شمول أدلة
التيمم لنحو المقام.
ثم إنه قد عرفت أن الظاهر من عبارات الأصحاب كما لا يخفى على من أعطى النظر
حقه فيها وفيما اشتملت عليه من لفظ المقدار ونحوه أن الموالاة بمعنى مراعاة الجفاف إنما
هو تقدير زماني لجواز التفريق، بمعنى أنه للمكلف التأخير هذا المقدار، فلا مدخلية
لبقاء البلل وذهابه، ولذا كان لا يجب عليه تطلب المكان أو إكثار الماء لأجل حفظ
البلل حيث يكون الحر مفرطا، لمكان كون المدار على الزمان لا على بقاء البلل، إلا
أن هذا التقدير لما كان يختلف بالنسبة إلى إفراد الحر والبرد أرادوا بيان ذلك، فقدروا
بالزمان المعتدل، فافراط الحر يقدر فيه الاعتدال كافراط البرد، والمراد بالاعتدال
على حسب ما ذكرنا، وإلا لو أريد بالموالاة بمعنى مراعاة الجفاف بقاء البلل حسا من غير
مدخلية للزمان فهو مع منافاته لاستصحاب الصحة لا دليل عليه، كما أنه لا دليل على
التقدير عند إفراط الحر، بل ينبغي القول بالرجوع إلى التيمم أو بسقوط هذا الشرط
في مثل هذا الحال، فلا يقدح التأخير حينئذ يوما أو أياما، إذ لا دليل على التقدير
بعد فهمهم من الأدلة وجود البلل حسا، بل لا معنى له، إذ كما يزول بنفسه يزول
بتجفيف مجفف ونحو ذلك، فتأمل جيدا.
ثم إنه بعد البناء على هذا الزمان لا نشترط في إفراط الحر مثلا التتابع الحقيقي،
بل له التأخير زمانا بحيث لو كان الزمان على الغالب لم يجف فيه الوضوء، فما عساه
يظهر من صاحب المدارك وبعض من تأخر عنه اشتراط ذلك لا يخلو من نظر، قال فيها:
" لو والى فاتفق الجفاف أو التجفيف لم يقدح ذلك في صحة الوضوء، لأن مورد الأخبار
المتضمنة للبطلان مع الجفاف باعتبار التفريق، كما يدل عليه قوله (عليه السلام) في صحيحة
261

معاوية بن عمار (1) " ربما توضأت ونفذ الماء فدعوت الجارية فأبطأت علي بالماء فيجف
وضوئي " وكلام الأصحاب لا ينافي ذلك، فما ذكره الشهيد في الذكرى من أن الأخبار الكثيرة بخلافه غير واضح " انتهى. وفيه إشعار بما ذكرنا من التقدير الزماني، لكن
ما يظهر من قوله: (لو والى) من اشتراط ذلك بها قد عرفت أن الأقوى سقوطه بناء
على مراعاة التقدير الزماني، لا يقال: إنه ينافي إرادة التقدير الزماني الأمر بالإعادة عند
حصول الجفاف الشامل لصورة التجفيف، لصدق الجفاف عليه حينئذ، لأنا نقول:
أن الظاهر من قوله (جف وضوئي) و (يبس وضوؤك) حصول ذلك بنفسه، لا بتجفيف
مجفف، وكذا لا يقال: إنه ينافيه ما وقع من الخلاف في أن المعتبر في الجفاف هل هو
جميع ما تقدم من الأعضاء كما هو ظاهر كثير من عبارات القدماء وصريح جماعة من
المتأخرين كالمصنف والعلامة وغيرها، بل قيل عامتهم، أو أي عضو منه كما عن ابن
الجنيد، أو قبل كل عضو متلوه كما هو خيرة السرائر وإشارة السبق وعن الناصريات
والمهذب البارع؟ وإن كان الأقوى الأول، للأصل أي استصحاب الصحة،
وإطلاق الكتاب والسنة، وظهور ما دل على البطلان بجفاف الجميع، كقوله (جف وضوئي)
وقوله (ع): (حتى يبس وضوؤك) وللاتفاق ظاهرا على جواز الأخذ من اللحية والحواجب
وأشفار العينين عند نسيان مسح الرأس والرجلين، كما دلت عليه الروايات المتقدمة
سابقا، واحتمال اختصاص ذلك لصورة النسيان يدفعه عدم القول بالفصل إن لم يفهم
العموم في جوابها، بل لم نعثر للقولين الأخيرين، على حجة يعتمد عليها. لأنا نقول:
أنه لا مانع من تطبيق هذا الخلاف أيضا على إرادة التقدير الزماني، فيكون المراد حينئذ
مضي زمان تجف فيه جميع الأعضاء المتقدمة أو بعضها أو السابق أو يكون هذا النزاع
مخصوصا في صورة وجود الماء على الأعضاء، وليعلم أنه بناء على ما هو الأقوى من أن
المدار على جفاف الجميع كما سمعت فالمراد أنه يشترط في الصحة عند الشروع في غسل

(1) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب الوضوء - حديث 3
262

العضو اللاحق وجود بلل على شئ مما تقدم، ولا يشترط بقاؤه إلى تمام الغسل، بل
الظاهر أنه يكتفى بالبلل المستحب، فلو كان على مسترسل اللحية شئ من البلل اكتفي
به لما سمعت من أدلة نسيان مسح الرأس.
ثم على قول المرتضى وابن إدريس فهل يجري بالنسبة للأجزاء الممسوحة فيشترط
في مسح الرجل اليمنى مثلا بقاء بلل على الرأس أولا؟ وجهان، وعن السرائر النص
على ذلك، وظاهر غيره العدم، ولعله الأقوى، هذا. وينبغي أن يعلم أنا وإن لم
نقل بعدم وجوب الموالاة بمعنى المتابعة إلا أنه لا ينبغي الاشكال في استحبابها، لرجحان
المسارعة، والاستباق إلى الخير، وللخروج عن شبهة الخلاف، فحينئذ لا إشكال في
صحة نذرها والعهد واليمين ونحو ذلك، وكذا لو قلنا بوجوبها، لما ستعرفه في النذر
إن شاء الله من صحة انعقاده على الواجب، إنما الاشكال فيما لو خالف ذلك، فهل
يبطل الوضوء أولا؟ وكلام الأصحاب لا يخلو من إجمال واضطراب.
وكشف الحال أن نقول: إن النذر إن تعلق بالموالاة في وضوء من الوضوءات
من غير تشخيص له بزمان مخصوص مثلا فلا كلام في صيرورته ذلك من الواجبات
الموسعة، كسائر ما تعلق به النذر لا يتضيق إلا بظن الفوات أو الحصول إلى حد التهاون
عرفا على اختلاف الوجهين، كما أنه لا ينبغي الاشكال في صحة ما يقع منه من الوضوءات
في هذه المدة إذا لم يقصد بها وفاء عن ذلك الواجب، وكذلك لو تضيق وقصد المكلف
العصيان بوفاء النذر وجاء بوضوء لا متابعة فيه، واحتمال أنه بالتضيق صار مخاطبا من
الشارع أن يتابع في هذا الوضوء الخاص فلما لم يفعل لم يقع ذلك صحيحا يدفعه أولا أن
التضيق لا يصير الخطاب الشرعي بهذا الخاص بخصوصه بل أقصى ذلك أنه يوجب
على المكلف أن يوجد الكلي الذي في ذمته في هذا الفرد، فحيث عصى في ذلك بقي
الواجب في ذمته، وكان هذا الوضوء صحيحا لرجحانية في نفسه لأحد أسبابه،
وثانيا أن التضيق لا يزيد على نذرها في وضوء معين، وستعرف إن شاء الله أنه لا يبطل
263

الوضوء بذلك، أما لو جاء بوضوء قاصدا فيه النذر ومع ذلك لم يتابع فيه قبل التضيق
أو حينه فقد يظهر من بعضهم بطلان الوضوء بذلك، وبقاء النذر في ذمته، أما الثاني
فواضح، وأما الأول فلعدم النية، لأن ما نواه لم يقع، وما وقع لم ينو، فيكون
فاسدا، وقد يفرق بين نذر الموالاة في الوضوء وبين نذر الوضوء الموالي فيه، فيصح
في الأول ويفسد في الثاني، وكان وجهه اختصاص جريان ما سمعته من التعليل فيه
دون الأول، والأقوى الصحة فيهما معا، أما في النحو المقام وهو ما إذا نذرت الموالاة
فلعدم مدخلية قصده وفاء نذر خارجي في الصحة والبطلان، وعدم توقف نية الوضوء،
أقصاه أنه كان قاصدا لأن يجمع تكليفين، فعدل عن ذلك القصد، فلا حرمة حيث
يكون الأمر موسعا، ولا بطلان فيه ولا في المضيق، وأما إذا كان المنذور الوضوء
المتابع فيه فلوجود المقتضي وارتفاع المانع، وما يقال: إنه لا تطابق بين النية والفعل فيه
أن هذا الاختلاف لا يقدح في أصل نية القربة بالوضوء، إذ الفرض كونه راجحا في
نفسه لغاية من غاياته حتى يكون متعلقا للنذر، وتشخيص كلي الوضوء بهذا الفرد لا يمنع
العدول منه إلى فرد آخر، إنما الممنوع العدول من صنف إلى صنف آخر مختلفين بالأمر
وإلا لزم أن يفسد من نوى الصلاة بالفرد الجامع للمستحبات، أو شخصها بمستحبات
خاصة ثم إنه تركها، بل ينبغي القول بالفساد لو تركها سهوا أو نسيانا أو غير ذلك،
لمكان الاختلاف المذكور، وهو ظاهر الفساد.
لا يقال: بالفرق بينهما بأن ناوي الفرد الجامع للمستحبات يكفي في صحة فعله لو جاء
بالفاقد لمكان نية صفة الاستحباب القاضية بالاختيار إلى المكلف. لأنا نقول: إنه مع عدم
صلاحيته للفرق عند التأمل جار فيما نحن فيه أيضا، لأن المكلف قصد إتيان وضوء
مستحب فيه التتابع يقع وفاء عن نذر الوضوء الكلي الذي في الذمة، والحاصل قصد
الوفاء به عن النذر إنما هو بعد قصد القربة بالوضوء المتابع فيه، فعدم حصول الأول
264

لا يقضي بعدم وقوع الثاني كما هو واضح، واحتمال القول أنه بالنذر يحصل الاختلاف
الذي يمنع العدول في غاية الضعف، إذ بعد فرض أن المنذور عليه ليس سببا للاختلاف
في نفسه فالنذر لا يصيره كذلك، واستوضح في ذلك في الواجب بالإجارة بالنسبة إلى
بعض مستحبات الصلاة، فإن التارك لها عمدا مع نية الأولى بأنه وفاء الإجارة لا يفسد
العمل، نعم لا يقع مجزئا عن المستأجر عليه، فتأمل.
وأما إذا كان المنذور الموالاة في وضوء خاص فهو وإن كان يعلم حكمه مما ذكرنا
عند التأمل لكن لا بأس بذكره على التفصيل، فنقول: أما ما كان مقيدا بشهر أو بيوم
ونحو ذلك فهو كالسابق، وأما إذا كان مشخصا بمشخصات لا يتعدد معها كهذا الوضوء
ونحوه فالظاهر أيضا صحة الوضوء من غير فرق بين نيته الوفاء عن النذر وعدمها، لوجود
المقتضي من جامعية الشرائط وفاقدية الموانع، وما يقال: إنه لم يأت بالمأمور به على وجهه
فيه أنه إن أريد بذلك الوجه المستفاد من النذر فهو مسلم، لكن أقصاه عدم الاجتزاء
عن النذر، ولا تلازم، وإن أريد غير ذلك فهو ممنوع، لا يقال: إن المولاة بالنذر
تكون من قبيل شرط الوضوء فيبطل بفواتها، لأنا نقول: إن النذر أقصى ما يفيد
أحكاما شرعية من الوجوب ونحوه لا أحكاما وضعية، فلا يصير غير الشرط شرطا
ولا العكس، كما هو واضح وكونه مقتضيا للوجوب لا يلزم أزيد من تحقق الإثم
بالفوات، مع أن صيغة النذر لا دلالة فيها على الشرطية، وأما إذا كان المنذور وضوءا
متابعا فيه فهو كالسابق في أن الأقوى الصحة في جميع الصور وإن وجبت الكفارة في
بعضها، وهي فيما لم يبق محل للوفاء بالنذر، كما أنه في الصور السابقة كذلك، فتأمل.
لكن أطلق العلامة في القواعد فقال: " وناذر الوضوء مواليا لو أخل بها فالأقرب الصحة
والكفارة " والأظهر أن مراده من نذر جميع وضوءاته مواليا، أو يراد به حيث يتعين
المنذور عليه، لكن وجوب الكفارة بالنسبة إلى الصورة الأولى موقوف على الصحة،
265

إذ مع احتمال البطلان لا تجب الكفارة، لعدم مجيئه بوضوء صحيح لا موالاة فيه، اللهم
إلا أن يفهم من النذر دخول الوضوء الذي يكون فساده من جهة مخالفة النذر فيجب عليه
الكفارة حينئذ، وللمحقق الثاني وصاحب المدارك كلام لا يخلو من نظر يعرف مما
قدمنا، أعرضنا عنه خوف الإطالة، فلاحظ وتأمل.
وليعلم أنه لا فرق في جميع ما ذكرنا بين القول باستحباب الموالاة والقول بوجوبها
التعبدي من غير بطلان، بل هو أولى على الثاني، لعدم زيادة الواجب بالنذر على
ذلك الوجوب، فقول العلامة: الأقرب الصحة مع قوله: بالوجوب التعبدي سابقا
من غير تردد لا يخلو من تأمل، واحتمال أن صيغة النذر تقضي بالشرطية واضح الفساد،
وكذلك لو قلنا بالوجوب الشرطي مع الوجوب التعبدي لا يفسد الوضوء بغير ما كان يفسد
به سابقا قبل النذر من تركها مع الاختيار، فتأمل جيدا، والله أعلم.
المسألة (الثالثة) وهي أن (الفرض في الغسلات) أي غسلة الوجه واليمنى واليسرى
(مرة واحدة) قولا واحدا عندنا، بل نسبه في المنتهى إلى علماء الأمصار إلا ما نقل
عن الأوزاعي وسعيد بن مسيب من التثليث، ويدل عليه مضافا إلى ذلك وإلى
إطلاق الأمر بالغسل في الكتاب والسنة المتحقق بالمرة الواحدة وإلى الوضوءات البيانية
أصالة وحكاية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1) وأمير المؤمنين (عليه السلام) (2) -
ما كاد يقرب من التواتر المعنوي في أخبارنا من كون الواجب من الغسل مرة واحدة، وقد
تسمع بعضها فيما يأتي. (و) الأقوى أن الغسلة (الثانية سنة) كما هو خيرة المقنعة والانتصار
والتهذيب والاستبصار والخلاف والجمل والعقود والإشارة والمراسم والسرائر والمعتبر
والنافع والمنتهى والمختلف والقواعد والإرشاد والتحرير والذكرى واللمعة وغيرها من
كتب المتأخرين، بل وعن كتب المتقدمين من المبسوط والغنية والوسيلة والمهذب وغيرها،
بل في الانتصار والسرائر وعن الغنية دعوى الاجماع عليه، وفي الاستبصار لا خلاف

(1) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 7
(2) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 7
266

بين المسلمين أن الواحدة هي الفريضة، وما زاد عليه سنة، ونسبه في المنتهى إلى أكثر
أهل العلم، ويدل عليه مضافا إلى ذلك صحيحة زرارة عن الصادق (عليه السلام) (1)
قال: " الوضوء مثنى مثنى، من زاد لم يؤجر عليه " ونحوه صحيح معاوية بن وهب (2)
وصحيح صفوان (3) ومرسل أبي جعفر الأحول عن الصادق (عليه السلام) (4) أيضا
قال: " فرض الله الوضوء واحدة واحدة، ووضع رسول الله (صلى الله عليه وآله)
للناس اثنتين اثنتين " ومرسل عمرو بن أبي المقدام عن الصادق (عليه السلام) (5) أنه
قال: " إني لأعجب ممن يرغب أن يتوضأ اثنتين اثنتين وقد توضأ رسول الله (صلى الله
عليه وآله) اثنتين اثنتين " وخبر الفضل بن شاذان (6) عن الرضا (عليه السلام) أنه قال
في كتاب إلى المأمون: " إن الوضوء مرة فريضة، واثنتان إسباغ " ومفهوم قول
الصادق (عليه السلام) (7) في خبر عبد الله بن بكير: " من لم يستيقن أن واحدة من
الوضوء تجزؤه لم يؤجر على اثنتين ".
وخبر داود الرقي (8) على ما نقل عن الكشي في كتاب الرجال قال: " دخلت
على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت له جعلت فداك كم عدة الطهارة؟ فقال: أما ما أوجبه
الله فواحدة، وأضاف إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) واحدة لضعف الناس،
ومن توضأ ثلاثا فلا صلاة له، أنا معه في ذا حتى جاء داود بن زربي، فسأله عن عدة
الطهارة فقال له ثلاثا من نقص عنه فلا صلاة له، قال فارتعدت فرائصي وكاد أن يدخلني
الشيطان، فأبصر أبو عبد الله (عليه السلام) إلي وقد تغير لوني، فقال أسكن يا داود،
هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق، قال: فخرجنا من عنده، وكان ابن زربي إلى

(1) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 28 - 29
(2) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 28 - 29
(3) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 28 - 29
(4) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 15 - 16
(5) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 15 - 16
(6) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 23 - 4
(7) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 23 - 4
(8) الوسائل - الباب - 32 - من أبواب الوضوء - حديث 2
267

جوار بستان أبي جعفر المنصور، وكان قد ألقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي،
وأنه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمد (عليهما السلام) فقال أبو جعفر المنصور: إني مطلع
إلى طهارته، فإن هو توضأ وضوء جعفر بن محمد (عليه السلام) فإني لأعرف طهارته حققت عليه القول
وقتلته، فاطلع وداود يتهيأ للصلاة من حيث لا يراه فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثا
كما أمره أبو عبد الله (عليه السلام) فما أتم وضوءه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور،
فدعاه، قال: فقال داود: فلما أن دخلت رحب بي، وقال: يا داود قيل فيك
شئ باطل، وما أنت كذلك، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة
فاجعلني في حل، وأمر له بمائة ألف درهم، قال: فقال داود الرقي: التقيت أنا وداود
ابن زربي عند أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: فقال داود بن زربي: جعلت فداك
حقنت دماءنا ونرجوا أن ندخل بيمنك وبركتك الجنة فقال أبو عبد الله (عليه السلام):
فعل الله ذلك بك وباخوانك من جميع المؤمنين، فقال أبو عبد الله (عليه السلام)
لداود بن زربي: حدث داود الرقي بما مر عليكم حتى تسكن روعته، قال فحدثته بالأمر
كله قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لهذا أفتيته، لأنه كان أشرف على
القتل من يد هذا العدو، ثم قال: يا داود بن زربي توضأ مثنى مثنى، ولا تزدن عليه،
فإن زدت فلا صلاة لك ".
وخبر محمد بن الفضل (1) على ما في إرشاد المفيد " أن علي بن يقطين كتب إلى أبي
الحسن موسى (عليه السلام) يسأله عن الوضوء. فكتب إليه أبو الحسن (عليه السلام) فهمت
ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثا وتستنشق
ثلاثا وتغسل وجهك ثلاثا، وتخلل شعر لحيتك، وتغسل يديك إلى المرفقين ثلاثا، وتمسح
رأسك كله، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا،
ولا تخالف ذلك إلى غيره، فلما وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب مما رسم له

(1) الوسائل الباب 32 من أبواب الوضوء حديث 3
268

أبو الحسن (عليه السلام) فيه مما جميع العصابة على خلافه، ثم قال: مولاي أعلم بما
قال، وأنا أمتثل أمره، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ويخالف ما عليه
جميع الشيعة امتثالا لأمر أبي الحسن (عليه السلام)، وسعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد
وقيل إنه رافضي، فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر، فلما نظر إلى وضوئه ناداه
كذب يا علي بن يقطين من زعم أنك من الرافضة، وصلحت حاله عنده، وورد
عليه كتاب أبي الحسن (عليه السلام) ابتدئ من الآن يا علي بن يقطين، وتوضأ كما
أمرك الله تعالى، اغسل وجهك مرة فريضة، وأخرى إسباغا، واغسل يديك
من المرفقين كذلك، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك،
فقد زال ما كنا نخاف منه عليك ".
وهما صريحان في المطلوب، ونقلناهما بطولهما لما فيهما من الاعجاز ونحوه، إلى غير ذلك
من الأخبار، كالمنقول من كتابة القائم (عجل الله فرجه) إلى العريضي من أولاد الصادق
(عليه السلام) " الوضوء كما أمر به غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين واحد،
واثنان إسباغ الوضوء، وإن زاد على الاثنين أثم " وغيره، وما في بعضها من الضعف
في السند غير قادح، لأنها مع كثرتها وتعاضدها وموافقتها للصحاح وكون الحكم
استحبابيا يتسامح فيه منجبرة بما سمعت من الاجماعات المنقولة والشهرة التي كادت
تكون إجماعا، إذ لم ينقل الخلاف في ذلك إلا من الصدوق والكليني والبزنطي
(رحمهم الله) فإنهم قالوا: بعدم الأجر، واختاره بعض المتأخرين كالفاضل الهندي
وغيره، واضطرب الأمر على متأخري المتأخرين حتى لا يدري أحدهم كيف يصنع،
فأكثروا من الكلام بما هو بعيد من الصواب في المقام، وربما فهم بعضهم من المشائخ
الثلاثة القول بالحرمة، وهو بعيد كما ستعرف، نعم يظهر من الخلاف والسرائر وجود
قائل من أصحابنا بكون الثانية بدعة، إلا أنا لم نعثر عليه، واحتمال إرادة الصدوق
269

بذلك لكونه المعروف في الخلاف يبعده ما ستسمعه من عبارته وما نقل عنه في الأمالي من
أنه صرح بجواز المرتين بل نسبه إلى عقائد الإمامية.
وقال في الفقيه بعد أن ذكر بعضا من الوضوءات البيانية الدال على الغسل مرة:
" وقال الصادق (عليه السلام) (1): " والله ما كان وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله)
إلا مرة مرة، وتوضأ النبي (صلى الله عليه وآله) مرة مرة، وقال هذا وضوء لا يقبل
الله الصلاة إلا به " وأما الأخبار التي رويت في أن الوضوء مرتين فأحدها باسناد منقطع
برواية أبي جعفر الأحول (2) وذكر الخبر المتقدم، وحمله على الانكار على معنى أنه حد
الله حدا فتجاوزه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعداه، وقد قال الله عز وجل (3):
(ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) وقد روي (4) أن " الوضوء حد من حدود الله ليعلم
الله من يطيعه ومن يعصيه وأن المؤمن لا ينجسه شئ وإنما يكفيه مثل الدهن " وقال الصادق
(عليه السلام) (5): " من تعدى في وضوئه كان كناقضه " ثم قال: وفي ذلك حديث
آخر باسناد منقطع رواه عمرو بن أبي المقدام، ثم ذكر الخبر المتقدم وحمله على إرادة تجديد
الوضوء، قال: فإن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يجدد الوضوء لكل فريضة، قال:
والخبر الذي روي (6) أن " من زاد على مرتين لم يؤجر " يؤكد ما ذكرته، ومعناه
أن التجديد بعد التجديد لا أجر له وكذلك ما روي (7) أن " مرتين أفضل " معناه التجديد
وكذلك ما روي (8) في مرتين أنه (إسباغ) إلى أن قال: وقد فوض الله عز وجل
أمر دينه إلى نبيه صلى الله عليه وآله ولم يفوض إليه تعدي حدوده، وقول الصادق (عليه السلام) (9):

(1) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 11 - 15
(2) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 11 - 15
(3) سورة الطلاق - الآية 1
(4) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 12 - 13 - 18
(5) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 12 - 13 - 18
(6) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 12 - 13 - 18
(7) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 19 - 20 - 14
(8) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 19 - 20 - 14
(9) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 19 - 20 - 14
270

" من توضأ مرتين لم يؤجر " يعني أنه أتى بغير الذي أمر به ووعد الأجر عليه فلا
يستحق به أجرا، وكذلك كل أجير إذا فعل غير ما استؤجر عليه لم يكن له أجرة "
انتهى. وعنه في موضع آخر الوضوء مرة مرة، ومن توضأ مرتين لم يؤجر، كما قال
في الهداية: " ومن توضأ مرتين لم يؤجر، ومن توضأ ثلاثا فقد أبدع " ولا صراحة في
هذه العبارات بالحرمة، ولذا نقل عنه بعض المتأخرين أنه قال: لا أجر عليها واختاره،
لكن قد يقال إنه يفهم من حمله رواية عمرو بن أبي المقدام على ما تقدم الحرمة، بل وقوله
لا أجر عليها، لعدم تصور الإباحة في جزء العبادة، كتفسيره قول الصادق (عليه السلام)
" من توضأ مرتين لم يؤجر " بما سمعته من إرادة التبرع لعدم الإذن، وإن كان لا يخلو
من بحث، إلا أن تحقيق حاله ليس بمهم.
وقال الكليني بعد ذكره خبر عبد الكريم سألت أبا عبد الله (عليه السلام) (2)
" عن الوضوء، فقال: ما كان وضوء علي (عليه السلام) إلا مرة مرة ": " هذا دليل
على أن الوضوء مرة، لأنه كان إذا ورد عليه أمران كلاهما طاعة لله أخذ بأحوطهما
وأشدهما على بدنه، وأن الذي جاء عنهم (ع) أنه قال: الوضوء مرتان لمن لم يقنعه مرة
واستزاده فقال: مرتان، ثم قال: ومن زاد على مرتين لم يؤجر، وهذا غاية الحد
في الوضوء الذي من تجاوزه أثم ولم يكن له وضوء، وكان كمن صلى الظهر خمس ركعات،
ولو لم يطلق (عليه السلام) في المرتين لكان سبيلها سبيل الثلاث " انتهى. وعبارته
كالصريحة في كون الثانية مباحة، فمن العجيب ما فهم منه صاحب الحدائق من الحرمة،
وقال البزنطي في نوادره على ما قيل: " واعلم أن الفضل في واحدة، ومن زاد على
اثنتين لم يؤجر " وهو كذلك كالصريح في الإباحة، بل قد يدعى أنه يفهم منه
الاستحباب، إلا أن الأفضل الاقتصار على الواحدة.
وكيف كان فحاصل ما يمكن أن يعارض به ما تقدم من الأخبار الدالة على الاستحباب

(1) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 7
271

هو الوضوءات البيانية، ما في بعضها أنه (عليه السلام) قال بعد الفراغ (1): " هذا وضوء من لم
يحدث حدثا " يعني به التعدي في الوضوء. وما ورد أن (الوضوء واحدة واحدة) (2)
وأنه (ما توضأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا مرة مرة) (3) و (ما كان وضوء علي
(عليه السلام) إلا مرة واحدة) (4) وخبر السكوني عن الصادق (عليه السلام) أيضا (5)
أن " من تعدى في الوضوء كان كناقضه " ومرسل ابن أبي عمير عنه (عليه السلام) (6)
أيضا قال: " الوضوء واحدة فرض، واثنتان لا يؤجر، والثالثة بدعة " ومرسل
الفقيه المتقدم أنه " من توضأ مرتين لم يؤجر " ومرسله الآخر أنه " توضأ النبي (صلى
الله عليه وآله) مرة مرة فقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " وخبر ابن أبي
يعفور المنقول عن نوادر البزنطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (7) في الوضوء قال:
" اعلم أن الفضل في واحدة، ومن زاد على اثنتين لم يؤجر " لكن هذه الأخبار
مع عدم ما في بعضها من المنافاة كالوضوءات البيانية لظهور أن المراد منها حكاية الواجب
كما يقضي به ترك كثير من المستحبات فيها كما أن المراد بقوله (عليه السلام) بعد أحدها (هذا وضوء
من لم يحدث حدثا) التعريض على العامة الذين أدخلوا في الوضوء أشياء لم يأمر بها الله،
وإلا فليس المراد عدم جواز التعدي عن هذه الكيفية بفعل بعض المستحبات كالمضمضة
والاستنشاق والتسمية ونحو ذلك قطعا، بل وكذا ما دل على أن الوضوء واحدة واحدة
وأن التعدي في الوضوء كالنقصان، لعدم ثبوت كون ذلك من التعدي واشتراك
الآخر بالضعف والارسال ومخالفة المشهور بين الأصحاب بل المجمع عليه كما سمعته
لا تعارض تلك الأخبار الصحيحة الصريحة في الجملة، ومع ذا فلا صراحة فيه، أما
ما دل على أنه ما كان وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) إلا

(1) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 1 - 10 - 7
(2) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 1 - 10 - 7
(3) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 1 - 10 - 7
(4) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 1 - 10 - 7
(5) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 24 - 3 - 27
(6) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 24 - 3 - 27
(7) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 24 - 3 - 27
272

مرة مرة فلعل المراد بها الغرفة، أو أن استحباب الغسل بالنسبة إلى غيرهم كما يشعر
بذلك الخبر " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضع الثانية لضعف الناس " وكان وجهه
ما نقل عن ابن أبي عقيل أن الاثنتين سنة لئلا يكون قد قصر المتوضئ في المرة، فتأتي
الثانية على تقصيره، وهم منزهون عن احتمال ذلك، فيكون الاستحباب بالنسبة إلى
غيرهم، على أنه معارض بما سمعت في خبر عمرو بن أبي المقدام " أن رسول الله (صلى
الله عليه وآله) توضأ اثنتين اثنتين " وحمله على إرادة التجديد كما سمعته من الفقيه في غاية
البعد، لتكرر لفظ اثنتين مرتين، مع أن كون التجديد ليس منحصرا في واحدة،
بل متى قام احتمال الحدث مثلا أو طال زمان استحب التجديد، مع أن الراغب عن
التجديد غير مأنوس حتى تكون الرواية تعريضا به، ومن هنا تعرف ما في حمل الأخبار
الأخر الدالة على أن الوضوء مثنى مثنى على التجديد أيضا، خصوصا ما اشتمال بعضها
على قوله (عليه السلام): (ومن زاد فلا أجر له).
فالأوجه الجمع بين هذه الرواية ورواية المرة بأن عادته (عليه السلام) كانت المرة،
لكون الثانية مستحبة بالنسبة إلى غيره، إلا أنه اتفق له فعلها يوما من الأيام لغرض من
الأغراض، الصحيحة، كعدم تنفر الناس عنها بتركها ونحوه، فتكون مستحبة بالنسبة
إليه بالعارض، وأما ما دل على عدم الأجر بالثنتين كما في مرسل ابن أبي عمير وغيره
فقد يكون المراد منه أن من لم يستيقن أن الواحدة تجزؤه لا أجر له على الثانية، بمعنى
يحبط الله أجره عليها كما يومي إليه خبر عبد الله بن بكير المتقدم، بل لعله مقتضى الجمع
بين المطلق والمقيد.
إذا عرفت ذلك كله علمت أن المتجه ما عليه الأصحاب من حمل الغسلة الأولى
على الوجوب، وحمل الثانية على الاستحباب، وما عن بعض المتأخرين من حمل روايات
مثنى مثنى على التقية مدعيا أن العامة تنكر الوحدة، وتروي في أخبارهم التثنية ضعيف،
وهو مع عدم إمكان جريانه في جميع ما سمعت من الأخبار بل قد يظهر من رواية داود
273

وابن زربي ومكاتبة علي بن يقطين أن المعروف عندهم التثليث لا التثنية، وأن في بعضها
(من زاد فلا أجر له) مما لا يقولون به ليس بأولى مما ذكره الأصحاب، وكذا ما نقل
عن بعضهم من أن المراد بقوله (عليه السلام): مثنى مثنى أي غسلتان ومسحتان، وكأن الذي
دعاه إلى ذلك ما في بعضها أن الصادق (عليه السلام) قال: " الوضوء مثنى من زاد لم
يؤجر عليه وحكى لنا وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فغسل وجهه مرة واحدة
وذراعيه مرة واحدة " إلى آخره. لظهور المنافاة بين حكايته وقوله، فلا بد من حمل التثنية
على ذلك حتى يحصل الاتفاق، لما فيه - مع عدم إمكان جريانه في كثير مما تقدم
من الأدلة أنه محتاج إلى التجويز بجعل اليدين عضوا واحدا، وكذا الرجلين حتى
تحصل الاثنينية، وكذا ما يظهر من صاحب المدارك من حمله رواية الاثنين على نهاية
الجواز، إذ هو - مع عدم جريانه في كثير مما سمعت أيضا - مناف لاعتبار الرجحان
في جزء العبادة، اللهم إلا أن يدعي أنه رخصة من الشارع، وليس جزء عبادة، وهو
في غاية البعد، لاستلزامه تخصيص ما دل على المسح بماء الوضوء وغيره بذلك، وكذا
ما ذكره بعضهم من حمل أخبار التثنية على الغرفتين، وأخبار المرة على الغسلة، فيكون
المستحب الغسلة الواحدة بغرفتين، وادعى أنه بذلك تتجه الأخبار، واستدل عليه
بحديث زرارة وبكير (1) قلنا: " أصلحك الله تعالى فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة
للذراع، فقال (عليه السلام): نعم، واثنتان تأتيان على ذلك كله " وفيه - مع
مخالفته أيضا لكثير من الوضوءات البيانية، وعدم إمكان جريانه في نحو رواية داود
ابن زربي ومكاتبة علي بن يقطين وغيرهما - أنه تحكم في الأخبار، وحمل لها على ما تشتهي
النفس من غير مرشد، وما ذكره من الخبر لا إشعار فيه بذلك فضلا عن الظهور، فتأمل.
وليقض العجب مما في الحدائق من اختياره حرمة الثانية وأنها تشريع، وجمعه
بين الروايات بأن مدارها جميعا على استحباب الاسباغ، أي الاتيان بالغسل الواجب

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 3
274

بماء كثير، فيكون المجزئ منه ما كان مثل الدهن، والمستحب ما اشتمل على الاسباغ
وهو يحصل إما بغرفة واحدة ملأ الكف مع البلاغة فيها، أو يحصل بغرفتين بدون
المبالغة، وجمع بذلك بين جميع الروايات حتى الوضوءات البيانية. إذ هو - مع أنه
مناف للاجماع من جواز الثانية وأنها ليست بمحرمة، وما ادعاه من حمل كلام الصدوق
عليه والكليني قد عرفت أنه لا صراحة فيهما بذلك سيما الثاني، بل والأول أيضا،
لما عنه في الأمالي أنه نسب الجواز إلى اعتقاد الإمامية - لا يتجه بالنسبة إلى رواية داود
ابن زربي ولا رواية علي بن يقطين، لكونهما كالصريحتين في إرادة الغسل، بل وكذا
غيرهما كخبر الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) المتقدم سابقا، ونحوه ما صدر
من بعض متأخري المتأخرين مما ينافي بظاهره الجمع، ومنشأه سوء الطريقة والاعراض
عن كلمات أصحابنا الماهرين الذين هم أعلم بمضامين أخبار الأئمة المعصومين (عليهم السلام)
وإلا فلولاه لأمكن الجمع بين الروايات بأمور أخر، منها أن يقال: إن المستحب الغسلة
الواحدة، فمن غسل مرتين كان ناقص الأجر، على معنى أن للمستحب فردين،
أشقهما أقلهما ثوابا كما يشعر به خبر البزنطي المتقدم سابقا، وغير ذلك من الوجوه،
والله أعلم.
ثم اعلم أن ظاهر الأصحاب استحباب الغسلة الثانية، فلا يجوز حينئذ جعل الأولى
مستحبة، والثانية واجبة، ولعله كذلك، لكونه المتبادر من النصوص، كما أن الظاهر
المتبادر استحباب الثانية بعد تمام الغسلة الأولى، وإلا فمتى كان العضو ناقصا لم يحصل
الاستحباب، بل الظاهر عدم الاكتفاء بالتبعيض على معنى غسل بعض العضو ثم يغسله
ذلك مرة أخرى ثم يتم الأول ثم الثاني، نعم الظاهر جواز التبعيض بالنسبة إلى الأعضاء
على معنى غسل الوجه مرتين دون اليدين مثلا، والمرجع في تحقق الغسلة الثانية العرف،
فلا يصدق على آنات المكث بالنسبة للوضوء بالارتماس أنه غسل ثان أو ثالث، وكذا
ما يحصل للانسان من إمرار اليد على العضو مرات زائدة على مقدار الواجب، لكن لعل
275

عدم الحكم بالنسبة للأخير لكونه غير مقصور به غسلا ثانيا أو ثالثا، وإلا لو قصد حصل
بخلاف آنات المكث، فإنه وإن قصد لم يحصل، لعدم الصدق عرفا، فتأمل جيدا.
(و) الغسلة (الثالثة) بنية أنها من الوضوء (بدعة) كما في الخلاف والسرائر
والمعتبر والنافع والمنتهى والمختلف والتحرير وظاهر الهداية، بل عن صريح المبسوط
وظاهر المقنع أنها عندنا بدعة، ونسبه في المختلف إلى أكثر علمائنا، والظاهر أن
المراد بالبدعة في كلامهم الحرمة التشريعية، فيكون مضافا إلى ما سمعت خيرة الكافي
والقواعد والذكرى والدروس والتنقيح وجامع المقاصد وغيرهم، كما هو ظاهر الانتصار
والمراسم وغيرها مع اعتقاد المشروعية كصريح الوسيلة على ما نقل عنها، وفي المدارك
لا ريب في تحريم الثالثة.
قلت: تفصيل الحال أن يقال إما أنها ليست مستحبة فالاجماع محصل عليه فضلا
عن المنقول، وإما كونها محرمة فهو المشهور نقلا وتحصيلا شهرة كادت تكون إجماعا،
بل هي إجماع في الحقيقة، لعدم قدح خلاف المفيد فيه، كالمنقول عن ابن الجنيد،
قال في المقنعة: " وتثليثه تكلف، ومن زاد على ثلاث أبدع وكان مأزورا " وابن
الجنيد: " الثالثة زيادة غير محتاج إليها " مع عدم صراحة الثاني بعدم الحرمة، كالمنقول
عن ابن أبي عقيل أنه إن تعدى المرتين لا يؤجر عليه، ويدل عليه - مضافا إلى ما دل على
حرمة إدخال ما ليس من الدين في الدين - خصوص مرسلة ابن أبي عمير (1) عن الصادق
(عليه السلام): " والثالثة بدعة " منضما إلى قوله (عليه السلام) في خبر عبد الرحيم
القصير (2): " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة
في النار " ومع الباقر (عليه السلام) في خبر الفضل بن شاذان (3) مرفوعا نحو ذلك،

(1) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(2) أصول الكافي - كتاب فضل العلم - باب البدع والرأي - حديث 12 - 8
(3) أصول الكافي - كتاب فضل العلم - باب البدع والرأي - حديث 12 - 8
276

مؤيدا بما روي (1) " أن الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه "
ولا ريب أن من زاد في الوضوء فقد تعدى، كما يقضي به بعض الأخبار، لقوله
(عليه السلام) (2) فيها بعد أن فرغ من الوضوء: " هذا وضوء من لم يحدث حدثا "
وقال الصادق (3) (عليه السلام) (3) في خبر السكوني: " أن من تعدى في الوضوء كان
كناقضه " بل قد يستدل عليه بقول الصادق (عليه السلام) (4) لداود بن زربي: " توضأ
مثنى مثنى، ولا تزدن عليه، فإن زدت عليه فلا صلاة لك " وبقوله (عليه السلام)
في صدر هذا الخبر: إن " من توضأ ثلاثا فلا صلاة له " وإن كان قد يناقش في الأخير
بأنه لا يدل إلا على البطلان، وهو أعم من الحرمة، بل يمكن المناقشة في النهي المتقدم
عن الزيادة بأن النواهي والأوامر في بيان الواجب والمستحب لا تفيد إلا الايجاب الشرطي
وإن كانت حقيقة في الوجوب بالمعنى المصطلح، كما يشهد بذلك كثرة ورودها في المعاملة
ونحوها.
وربما استدل أيضا على الحرمة بأن فيها تفويتا للموالاة، وقد عرفت وجوبها،
وفيه أنه على تقدير التسليم لا يفيد حرمة الفعل، بل يقضي بحرمة الترك، والأمر بالشئ
ليس نهيا عن ضده، على أنه ليس مناف للمتابعة العرفية، وأيضا قد عرفت عدم
وجوبها بمعنى المتابعة، وذلك لا يتم إلا عليها، ودعوى أنه يتم أيضا على القول بمراعاة
الجفاف، لأن الغسل الثالث مذهب ومزيل لماء الوضوء الأول مدفوعة بما سمعت
من أن المراد بمراعاة الجفاف تقدير زماني، وأيضا فالحكم معلق على الجفاف، وهو غير
صادق في المقام، على أن رطوبة الوضوء باقية وإن امتزج معها غيرها، وكيف كان
ففي الأدلة المذكورة كفاية، ولم نعثر على ما يدل على قول المخالف سوى الأصل، وقوله

(1) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 12
(2) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 24
(3) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 24
(4) الوسائل - الباب - 32 - من أبواب الوضوء - حديث 2
277

(عليه السلام) في رواية زرارة (1): " الوضوء مثنى مثنى، من زاد لم يؤجر عليه "
والأصل مقطوع بما سمعت، والخبر أعم من الإباحة، بل قد يدعى أن ذلك كناية
عن الحرمة، لعدم تصور الإباحة في جزء العبادة.
وأما المناقشة فيما ذكرناه من الأدلة بأن اللازم منه تحريم اعتقاد ندبيتها لا فعلها
بدون ذلك الاعتقاد، بل ومع الاعتقاد أيضا، والكلام في حرمة الفعل لا الاعتقاد،
بل قد يناقش في حرمة ذلك الاعتقاد، لأنه قد يكون ناشئا من اجتهاد أو تقليد،
فلا إثم حينئذ وإن كان خطاءا، ودعوى أن ذلك من الضروريات ممنوعة، وإلا لقضي
بكفر المعتقد ولا قائل به، بل قد يمنع تصور الاعتقاد مع العلم بعدم المشروعية. ففيها
أن المراد بحرمة غسل الثالثة إذا جئ بها على جهة المشروعية، كما هو الظاهر من الأدلة
لأن مساقها الرد على العامة المبدعين استحبابها، فالاتيان بها حينئذ لا على هذا الوجه بل
كان لغرض من الأغراض كالتبريد ونحوه أو عبثا خارج عن محل الفرض، ولا حرمة
فيه من جهة التثليث، نعم قد تحصل الحرمة حينئذ من أمور أخر كاستلزامها فوات
الموالاة بمعنى المتابعة إن قلنا بوجوبها، أو بطلان الوضوء لمكان المسح بالماء الجديد إن
قلنا بحرمة قطع العمل، وأما دعوى عدم حرمتها حتى لو جئ بها على جهة المشروعية
زعما منه أن المحرم الاعتقاد دون الفعل فهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، بل يمكن دعوى
الاجماع على خلافه، كما أن الظاهر أن التشريع ليس مخصوصا بالجاهل الذي يتصور
منه الاعتقاد، بل يجري فيه وفي العالم، لأن المحرم هذه الصورة والنية الجعلية، سيما
في الرئيس ذي الأتباع كأبي حنيفة ومالك، ومن العجيب قوله آخرا: إنه قد يناقش
في حرمة ذلك الاعتقاد إلى آخره، إذ الكلام في التشريع المحرم، وهو عبارة عن
إدخال ما ليس من الدين في الدين، إما من العالم بعدم مشروعيته، أو من الجاهل
الغير المعذور، ويكفي في الحرمة تلك الصورة، كل ذلك مع ما عرفت من ظواهر

(1) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 5
278

الأدلة من كون الثالثة بدعة ونحوه القاضية بحرمة الفعل كما هو واضح.
ثم إنه بعد البناء على الحرمة فهل يفسد الوضوء بفعلها أولا؟ أقوال أربعة: (الأول)
الفساد مطلقا كما هو ظاهر إشارة السبق وعن كافي أبي الصلاح، (الثاني) الصحة مطلقا،
واستوجهه المصنف في المعتبر، و (الثالث) الفساد إن مسح بمائها، لكونه ماء جديدا
و (الرابع) تخصيص البطلان بغسل اليسرى ثلاثا، لكونه المستلزم المسح بماء جديد دون
غيره، وكان مستند (الأول) قوله (عليه السلام) في صدر خبر داود المتقدم: " ومن توضأ ثلاثا فلا
صلاة له " وفي آخره " توضأ مثنى مثنى، ولا تزدن فإن زدت فلا صلاة لك " وقول
الصادق (عليه السلام) في خبر السكوني " إن من تعدى في الوضوء كان كناقضه " مضافا
إلى قوله (صلى الله عليه وآله) في غير المشتمل على الثلاث " إن هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة
إلا به " وأنه لم يأت بالمأمور على وجهه، لكون المفروض أنه مأمور به مرة مرة واجبا
ومثنى مثنى مستحبا، والتثليث مناف للكيفيتين، وقد تكون الاثنينية فقط لها مدخلية
في الصحة، سيما على القول بأن ألفاظ العبادات اسم للصحيح، أو لم يعلم أنه له أو
للأعم، وشغل الذمة اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، مع استصحاب حكم الحدث
السابق، وينبغي القطع بصحة هذا القول فيما لو كان التشريع في أصل النية، بأن
يكون قد نوى التقرب بوضوء مشتمل على ثلاث غسلات، لأنه نوى القربة بما ليس
مقربا، والمقرب الحقيقي لم ينوه، بل الظاهر حصول البطلان في نحو الفرض وإن لم
يفعل الفعل المشرع به، أما لو لم يأخذه بالنية إما بأن يكون نوى القربة بالوضوء الحقيقي
لكنه قصد التشريع في الأثناء، أو أنه نوى القربة بالوضوء الواقعي وكان يزعم أن
المشتمل على الثلاث من جملته فالظاهر عدم حصول البطلان، لكونه نهيا عن شئ خارج
عن العبادة، وبطلان الصلاة بنحو ذلك دليل خاص من إجماع أو غيره أو لكون الظاهر
من الأدلة أنها هيئة اجتماعية مترتبة تقدح فيها الزيادة والنقيصة، بخلاف الوضوء كما
يظهر من الاجماع على عدم البطلان فيما لو كرر المسح مشرعا أو خالف الترتيب ولما يحصل
279

الجفاف ونحو ذلك، واحتمال القول بالبطلان لا للتشريع بل للاستظهار مما سمعت من
الأدلة السابقة وإن كان ممكنا إلا أن أقواها خبر داود، وهو لا جابر له في خصوص
ذلك، بل موهون بمصير المشهور إلى خلافه، وكذا قوله (عليه السلام): (من تعدى في الوضوء كان
كناقضه) بل لعلهما محمولان على إرادة الادخال في أصل النية كما عرفت، بل قد يظهر
من بعضهم أن داود القائل بالبطلان إنما هو إذا استلزم المسح بمائها فلا مخالف حينئذ.
ومما يرشد إلى عدم البطلان مضافا إلى ما سمعت قول الصادق (عليه السلام) (1) في
خبر زرارة: " الوضوء مثنى مثنى، من زاد لم يؤجر عليه " فكان القول بالبطلان
حينئذ إنما يكون من شئ خارجي غير زيادة الثالثة، فنقول حينئذ لا نرى وجها للفساد
بفعلها سوى ما يقال إن فيه تفويتا للموالاة وقد عرفت ما فيه. وسوى ما يقال إنه مستلزم
للمسح بماء جديد، وهو حق حيث يستلزم، فلا فساد لو غسل الوجه حينئذ وحده،
أو مع اليمنى من دون غسل اليسرى ثلاثا، لكن بشرط مباشرة غسلها باليمنى، ليكون
الباقي في اليمنى نداوة وضوء حينئذ، أو قلنا بجواز مسح الرأس والرجلين باليد اليسرى،
فإنه لا يقدح حينئذ غسل اليمنى ثلاثا، ولم يباشر بها غسل اليسرى، لكون المسح خاصة
باليسرى، وبه يظهر أنه لو غسل اليسرى ثلاثا أيضا ولم يغسل اليمنى كذلك لم يبطل
الوضوء إن جوزنا مسح الرأس والرجلين باليمنى خاصة، وكذا لو غسلهما معا ثلاثا ولم
يغسل الوجه كذلك وقلنا بجواز تجفيف الكف وأخذ ما على أعضاء الوضوء من ماء الوضوء
اختيارا، كما ظهر لك قوته سابقا، فكان المدار حينئذ على وقوع المسح بمائها من غير
إمكان التدارك لوجه من الوجوه، وأما ما في المعتبر من أنه لا يبطل وإن مسح بمائها
زعما منه أن اليد لا تنفك عن نداوة الوضوء فيجتزى بالمسح حينئذ ففيه ما عرفت سابقا
من أن المتبادر أنه يجب المسح بها خالصة، على أن المركب من الخارج والداخل خارج

(1) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 5
280

مع أنه لا يصدق على تمام مسح طول الرجل مثلا بنداوة الوضوء، هذا إن لم نقل بعدم
صدق اسم النداوة مع الغسلة الثالثة، وإلا لجاز أخذ ماء جديد ومزجه مع ما في اليد
والمسح به، وصريح الروايات وكلام الأصحاب ينفيه. فظهر لك حينئذ من هذا أنه
لا وجه لاطلاق القول بالبطلان لمكان المسح بمائها، لما عرفت من أنه لا تلازم بين فعلها
والمسح بمائها، نعم هو متجه في بعض الأفراد. ولذا قال في الدروس: ويبطل إن
مسح بمائها، ونحوه عن الذكرى والبيان، وفي المدارك ينبغي القطع ببطلان الوضوء
إن مسح ببلتها.
ثم اعلم أنه قد يظهر من المدارك والمنتهى وكذا المعتبر الفرق بين ما نحن فيه من
الغسلة الثالثة وبين من زاد ثانية معتقدا وجوبها بأنه لا يبطل الوضوء وإن مسح بمائها،
لعدم خروجه بذلك عن ماء الوضوء بخلاف الثالثة، نعم في المعتبر جواز المسح بماء الثالثة
لحصول بلة الوضوء لا لكون مائها ماء وضوء، لكن قد يختلج في بادئ الرأي الاشكال
في هذا الفرق، ولذا قال في التذكرة: " لو اعتقد وجوب المرتين أبدع وأبطل وضوءه،
لأن المسح بغير ماء الوضوء لعدم مشروعيته على إشكال " انتهى. قلت: ولعل الوجه
في الفرق أن نية الوجوب في مقام الندب مع تشخص الفعل غير قادحة كالعكس، لكن
اللازم من ذلك حينئذ عدم سقوط الأجر عليها مع تصريحهم بسقوطه، ولعله لقوله
(عليه السلام): " من لم يستيقن أن واحدة في الوضوء تجزؤه لم يؤجر على الثنتين "
وربما تخرج هذه الرواية دليلا على وجوب نية الوجه، إلا أن اللازم من العمل بهذه
الرواية في خصوص المقام هو ما قاله في التذكرة، فالجمع حينئذ بين القول بكون مائها
ماء وضوء مع عدم الأجر عليها لمكان هذه الرواية مما لا يخلو من إشكال، سيما مع البناء
على اشتراط نية الوجه، فتأمل جيدا.
(وليس في المسح) وجوبا ولا استحبابا (تكرار) بلا خلاف، أجده وهو
مذهب الأصحاب كما في المعتبر، ومذهب علمائنا أجمع كما في المنتهى والتحرير والمدارك
281

وعن التذكرة، بل في الخلاف تكرار مسح الرأس بدعة مدعيا عليه إجماع الفرقة،
وفي السرائر لا تكرار في مسح العضوين، فمن كرر ذلك كان مبدعا، وعن ابن حمزة
أنه من التروك الواجبة، وكان مراد الجميع أنه محرم مع قصد المشروعية، وأما بدونها
فلا، نعم في الدروس وعن البيان أنه مكروه، بل نسبه في الحدائق إلى الشهرة بين
الأصحاب، ولم أعثر له على دليل خاص، لكن لمكان التسامح فيه يمكن الاكتفاء
بفتوى من عرفت، وبما ذكر له من التعليل من أنه كلفة غير محتاج إليها، وللخروج
من شبهة إطلاق المحرمين ونحو ذلك، مع ما عن شارح الدروس أنه لا بأس بالقول بالكراهة
للشهرة بين الأصحاب، بل الاجماع ظاهرا انتهى، وفي الخلاف " أنه روى أبو بصير
عن أبي عبد الله (عليه السلام) في مسح الرأس والقدمين واحدة " قلت: الموجود في
رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) في مسح القدمين ومسح الرأس
فقال: " مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس ومؤخره، ومسح القدمين ظاهرهما
وباطنهما ".
وكيف كان فيدل على الاكتفاء بالمرة - مضافا إلى ما تقدم - الوضوءات البيانية
وإطلاق الأمر في الكتاب والسنة المتحقق بها، وبما سمعت من الاجماعات وغيرها يعلم
أن المراد بقولهم (عليهم السلام) (الوضوء مثنى مثنى) ما لا يشمل المسح، وأما ما في خبر
يونس (2) قال: " أخبرني من رأى أبا الحسن (عليه السلام) بمنى يمسح ظهر قدميه
من أعلى القدم إلى الكعب، ومن الكعب إلى أعلى القدم " بل عن ابن الجنيد الفتوى
بمضمونه فلعل المراد منه أنه كرر استظهارا للاستيعاب الطولي، كما لعله يظهر من عبارة
ابن الجنيد، وأن المراد فعل ذلك مرتين في وضوءين كما يرشد إليه قوله (عليه السلام) فيه: " الأمر
في مسح القدمين موسع، من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا، فإنه من الأمر

(1) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الوضوء - حديث 7
(2) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الوضوء - حديث 3
282

الموسع إن شاء الله " وعلى كل حال فإن كرر بقصد المشروعية لم يبطل الوضوء بلا خلاف
كما في السرائر وإجماعا في المدارك، وهو متجه إن لم يدخله في ابتداء النية كما عرفت
سابقا، والله أعلم.
المسألة (الرابعة) يجزئ في) امتثال الأمر (بالغسل ما يسمى به غاسلا) عرفا (وإن
كان مثل الدهن) كما في سائر الألفاظ التي ليست لها حقيقة شرعية، مع أنه ليس في
اللغة ما ينافي المعنى العرفي هنا، والظاهر أخذ الجريان في مفهومه عرفا، كما في الانتصار
والسرائر والمنتهى والقواعد والذكرى والدروس وجامع المقاصد والتنقيح وكشف اللثام
والناصريات والمبسوط والمهذب والبيان وروض الجنان، بل في السرائر أنه الموافق
للسان الذي أنزل به القرآن، وفي كشف اللثام أنه يشهد به العرف واللغة، وعن
الروض أنه في اللغة إجراء الماء على الشئ على وجه التنظيف والتحسين وإزالة الوسخ
ونحوها، وعن مجمع البحرين أن غسل الشئ إزالة الوسخ ونحوه باجراء الماء عليه،
وعن حاشية المجلسي على التهذيب " إن ظاهر الأصحاب اتفاقهم على لزوم الجريان في
غير حال الضرورة، وإن الأصحاب حملوا أخبار الدهن على أقل مراتب الجريان مبالغة "
انتهى. وفي التنقيح تحديد أقل الغسل أن يجري جزء من الماء على جزءين من البشرة
إما بنفسه أو باجراء المكلف له، كما عن المحقق الثاني والشهيد الثاني، لكن نظر في دلالة
العرف عليه في المدارك، كما أنه في الحدائق استشكل في أصل اعتبار الجريان في مفهوم
الغسل ناقلا عن بعض تحقيقات الشهيد الثاني، أنه قال: " إن ذلك غير مفهوم في كلام
أهل اللغة، لعدم تصريحهم باشتراط جريان الماء في تحققه، وإن العرف دال على ما هو
أعم، إلا أنه المعروف من الفقهاء سيما المتأخرين والمصرح به في عباراتهم " انتهى.
قلت: لا ينبغي الاشكال في عدم صدق اسم الغسل على مجرد إصابة نداوة اليد لغيرها
من الجسد بحيث علقت أجزاء لا قابلية لها للجريان لا بنفسها ولا بمعين، واستوضح ذلك
بالنسبة إلى تطهير المتنجسات، بل عليه متى تحقق المسح بالنداوة لا بد أن يتحقق معه
283

غسل إلا إذا لم تعلق منها أجزاء، وفي تحقق المسح بها حينئذ إشكال كما تقدم سابقا،
نعم قد يقال إن الغسل يختلف صدقه بالنسبة إلى العرف، فمنه، ما لا يتحقق إلا بالجريان،
ومنه ما يتحقق بالإصابة كما في الغسل بالنسبة إلى المطر أو وضع المغسول في الماء، كما ينبئ
عنه اكتفاؤهم في غسل المجبر بوضعه في إنا فيه ماء حتى يصل الماء إلى البشرة، وظاهرهم
هناك أن ذلك لأنه غسل لا تعبد شرعي
وكيف كان فالذي يدل على عدم الاكتفاء بماء لا جريان فيه مضافا إلى ما سمعت
من عدم صدق اسم الغسل ظواهر الوضوءات البيانية وخبر زرارة (1) " الجنب
ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه " ولا قائل بالفرق بين الغسل
والوضوء، وقوله (عليه السلام) في صحيحه (2) أيضا " كل ما أحاط به الشعر فليس
للعباد أن يطلبوه ولا يبحثوا عنه، ولكن يجري عليه الماء " وصحيحة علي بن جعفر (3)
عن أخيه (عليهما السلام) قال: " سألته عن الرجل لا يكون على وضوء فيصيبه المطر حتى
يبتل رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه، هل يجزؤه ذلك من الوضوء؟ قال إن
غسله فإن ذلك يجزؤه) ولأنه لو لم يأخذ الجريان في مفهومه لم يحصل الفرق بين الغسل
بالماء والمسح به، مع أن كون الوجه واليدين في الوضوء من المغسولات والرأس والرجلين
من الممسوحات مما كاد يكون من الضروريات. وعلى ما تقدم يمكن أن يكون جميع أجزاء
الوضوء من الممسوحات، وهل هذا إلا من الخرافات، وكيف وقد ورد (4) أنه
" يأتي على الرجل ستون أو سبعون سنة ما قبل الله منه صلاة، قلت: وكيف ذلك؟
قال: لأنه يغسل ما أمر الله بمسحه " هذا مع أن تغايرهما من الواضحات التي لا تقبل

(1) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الجناية - حديث 3
(2) الوسائل - الباب - 46 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(3) الوسائل - الباب - 36 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(4) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الوضوء - حديث 2
284

التشكيك، وكأن الذي أدخل الشك على بعض الأعلام أخبار الدهن، لكن لا ينبغي
لذلك ارتكاب ما هو بديهي البطلان.
ومن هنا عدل بعض المتأخرين عن تلك الدعوى. وادعى أنه يمكن القول
بالاجتزاء بها لاعتبار أسانيد بعضها لا لأنه غسل، بل لأنه أمر اكتفى به الشارع وإن لم
يسمى غسلا، فيكون الواجب بالنسبة إلى الوجه واليدين أحد أمرين الغسل أو الدهن،
وتحمل حينئذ جميع الأوامر الواردة في الكتاب والسنة التي كادت تكون صريحة، بل
هي صريحة في إرادة الوجوب العيني، لمقابلته بالمسح على إرادة التخيير، وكذا نحو
قوله (1): (الوضوء غسلتان ومسحتان) على إرادة الوضوء غسلتان أو دهنتان،
أو أربع مسحات إن قلنا أن الدهن مسح على ما هو الظاهر، وذلك مما
لا يرتكبه من له أدنى معرفة في الفقه، بل الظاهر أنه مخالف للاجماع، ومن هنا أشار
المصنف وغيره كابن إدريس والعلامة والشهيد إلى تأويل هذه الروايات بإرادة أنه يجزئ
من الغسل ما كان باجراء المكلف كالدهن بحيث تنتقل من محل إلى آخر، وفي الذكرى
" أن أهل اللغة يقولون دهن المطر الأرض إذا بلها بللا يسيرا " وقد تحمل الروايات
عليه، وليس فيها ما ينافي ذلك، فمنها قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة ومحمد بن
مسلم (2): " إنما الوضوء حد من حدود الله تعالى ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه، وإن
المؤمن لا ينجسه شئ، إنما يكفيه مثل الدهن " وقوله (عليه السلام) في رواية محمد بن
مسلم (3): " يأخذ أحدكم الراحة من الدهن، والماء أوسع من ذلك " وقوله (عليه السلام) (4)
في الغسل والوضوء: " ويجزئ منه ما أجري من الدهن الذي يبل الجسد " بل الرواية
الأخيرة كادت تكون كالصريحة فيما ذكرنا من التأويل، وكأن هذه الأخبار يراد منها

(1) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الوضوء - حديث 9
(2) الوسائل - الباب - 52 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 5
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 7
(4) الوسائل - الباب - 52 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 5
285

المبالغة في عدم احتياج الوضوء إلى ماء كثير، وأنه لا ينبغي الاسراف فيه زيادة
على الاسباغ.
وكون هذه الأخبار حينئذ لم تفد لنا حكما جديدا يدفعه - مع أنه ليس في ذلك
بأس - قد يقال لولا هذه الأخبار لأمكن القول بعدم إجزاء مثل هذا الفرد من الغسل
لكونه من المطلق الذي ينصرف إلى الفرد الشائع منه، وليس منه ذلك قطعا، بل كان
ملاحظة الوضوءات البيانية ونحوها مما يشرف الفقيه إلى القطع بعدم جوازه، فيكون
هذه الروايات أفادت الاكتفاء بأقل أفراد مسمى الغسل الذي هو كالدهن، واحتمال
القول ببقاء الدهن فيها على حقيقته لكن العرف في ذلك الزمان غيره في هذا الزمان في
غاية البعد جدا، بل لا ينبغي أن يلتفت إليه، إذ المرتضى (ره) في زمنه ادعى أخذ
الجريان في مفهومه، وهو قريب من زمانهم (عليه السلام) كحملها على إرادة الاجتزاء بمثل
الدهن عند الضرورة، وأنه يقدم على التيمم، وقد يظهر ذلك من كلام الشيخين في
باب غسل الجنابة سيما المفيد في المقنعة، إذ هو بعيد جدا من مضامين تلك الروايات،
لظهور كثير منها إرادة الاجتزاء بها في الاختبار.
وربما أيد ما ذكراه بما قيل من صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليهم السلام) (1)
حيث سأله " عن الرجل الجنب أو على غير الوضوء لا يكون معه ماء وهو يصيب ثلجا
وصعيدا أيهما أفضل أيتيمم أو يمسح بالثلج؟ قال: الثلج إذا بل جسده ورأسه أفضل،
وإن لم يقدر على أن يغتسل به فليتيمم " قيل ونحوها رواية معاوية بن شريح (2) وفيه -
مع اشتماله على خلاف المدعى من التخيير بينه وبين التيمم عند الضرورة - أنه يحتمل أن
يريد المسح مع الجريان والأفضلية، إما في ضمن الوجوب أو للمشقة التي تجوز التيمم.
وكيف كان فالذي يظهر من الأدلة وكلام الأصحاب أنه لا فرق في حال الضرورة
والاختيار، وذلك للاجتزاء بأقل مسمى الغسل فيهما، وعدم الاجتزاء بدونه فيهما بل ينتقل

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب التيمم - حديث 3 - 2
(2) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب التيمم - حديث 3 - 2
286

إلى التيمم، وأخبار الدهن قد عرفت انسياقها إلى ما سمعت، نعم إناطة مصداق الغسل
بالعرف من دون تحديد له بانتقال جزء إلى جزءين أو إلى جزء أو نحو ذلك متجه. والله أعلم
ولا ينبغي الاشكال في عدم دخول الدلك في ماهية الغسل لغة ولا عرفا. كما أنه ليس بواجب
آخر معه، لعدم الدليل عليه، بل عن الناصريات دعوى الاجماع على عدم وجوبه. كما
أنه في المعتبر في باب الغسل قال: " إن إمرار اليد على الجسد مستحب، وهو اختيار
فقهاء أهل البيت (عليه السلام) وقال مالك: هو واجب " انتهى والظاهر أنه لا فرق بين الوضوء
والغسل، ولذا قال في المنتهى: " إمرار اليد ليس بواجب في الطهارتين، لكنه
مستحب، وهو مذهب أهل البيت (عليهم السلام) انتهى. فما عن ابن الجنيد من
إيجاب اتباع اليد بجريان الماء مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، مع أنه نقل عنه في الذكرى
في موضع آخر ما يلوح منه موافقة الأصحاب، وما في بعض الوضوءات البيانية من
إمرار اليد مع معارضته بأن ملاحظة كثير منها ومن غيرها يظهر منه أن الواجب إنما هو
الغسل فقط، كقوله: (الوضوء غسلتان ومسحتان) ونحو ذلك لا دلالة فيه على الوجوب
لكون الغسل فيها إنما كان بالصب، ويستبعد حصول اليقين بالاستيعاب بدون ذلك،
بل لولا ما سمعت من دعوى الاجماع على الاستحباب كما سمعت لأمكن المناقشة في دليله
فضلا عن الوجوب.
(ومن كان في يده خاتم أو سير) أو نحوهما مما يعلم منه عدم وصول الماء أو شك
(فعليه إيصال الماء إلى ما تحته) على وجه الغسل إما بنزعه أو بتحريكه أو بغيرهما، فما
في المقنعة والمراسم وغيرهما من الأمر بنزعه لا يراد به إيجاب خصوص ذلك قطعا،
(وإن كان واسعا استحب له تحريكه) كما هو نص السرائر والمعتبر والمنتهى والذكرى
وغيرها، وظاهر المقنعة والمراسم، وتحرير المسألة في الحاجب الذي لم يدل الدليل
على الاجتزاء بغسله أو مسحه عوضا عن المحجوب كالشعر بالنسبة للوجه والناصية، بأن
يقال: إنه لا يخلو إما أن، يعلم عدم وجوده أو يشك فيه، وإما أن يعلم وجوده ويشك
287

في صفته وهي الحجب أو معلوما حجبه. أو معلوما عدمه، فإن كان الأول فلا إشكال
كصورة الشك لاستمرار السيرة التي يقطع فيها برأي المعصوم على أنه لا يجب على المتوضئ
والمغتسل ونحوهما اختبار أبدانهما من الحواجب، مع قيام الاحتمالات غالبا مع عدم نص
أحد من الفقهاء على إيجاب شئ من ذلك في الوضوء أو في الغسل، مع أنه كان أولى الأشياء
بالنص، لمكان قذي البراغيث والقمل ونحوهما من العوارض الغالبة على البدن، فحينئذ
يتمسك في نفيه بالأصل، وإن كان الاعتماد عليه من دون نظر إلى ما قدمنا لا يخلو من
تأمل، لمعارضته بأصالة عدم الفراغ من التكليف، وإصالة عدم وصول الماء إلى البشرة.
وإن كان الثالث أي ما علم وجوده وشك في صفته فالظاهر وجوب العلم بوصول
الماء إلى البشرة بإزالته أو تحريكه أو غيرهما، لعدم قيام السيرة في مثل ذلك، والاعتماد
على أصالة عدم وجود الصفة بعد تسليم صحته معارض بأصالة عدم وصول الماء وعدم
الفراغ، ويشير إليه قول الكاظم (عليه السلام) في صحيح أخيه (1) قال: " سألته
عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحته أم لا كيف
تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال: تحركه أو تنزعه حتى يدخل الماء تحته، وعن
الخاتم الضيق لا يدري يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا كيف يصنع؟ قال: إن علم أن
الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضأ " وعن الشيخ روايته مقتصرا على المسألة الثانية، إلا
أنه قال: (الرجل عليه الخاتم الضيق) إلى آخره. لا يقال: إن مفهوم شرط العلم فيه معارض
لما دل عليه صدر الرواية، لأن المنطوق أقوى دلالة، بل الأول من قبيل المقيد، والثاني
من قبيل المطلق، لشمول عدم العلم لصورتي عدم العلم بالوصول والعلم به، والأول
خاص بالأول كما هو واضح، ولعله لذا قال الشهيد في الذكرى: " ويجب تحريك
الخاتم والسوار والدملج أو نزعه إذا لم يعلم جري الماء تحته، لصحيح علي بن جعفر

(1) الوسائل - الباب - 41 - من أبواب الوضوء - حديث 1
288

عن أخيه الكاظم (عليه السلام) في الثلاثة، وحكم غيرها حكمها " انتهى. إذ قد
عرفت اختلاف دلالتها بالنسبة إلى الثلاثة، لكن ما وقفنا عليه من عبارات الأصحاب
عدا ما سمعته من الذكرى كالشيخ في المبسوط وسلار وابن إدريس والمصنف في المعتبر
وغيرهم لا دلالة فيها على حكم الشك، لاقتصارهم فيها على بيان الواقع، فقالوا: إنه
إن امتنع وجب تحريكه أو نزعه، وإلا فلا، نعم قد يستظهر من عبارة المصنف هنا
حكم الشك، وأنه يجب العلم بوصول الماء كما عن القاضي في المهذب، قال ما نصه: " وإذا
كان في إصبعه خاتم أو في يده حلي إن كان امرأة وجب عليه تحريكه أو نزعه ليضل الماء
إلى ما تحته من ظاهر الجسد " انتهى. هذا إذا كان الشك في حال الوضوء قبل الفراغ
منه، أما لو كان الشك بعده لغفلته عنه في حال الوضوء أو لأنه كان قاطعا بعدم منعه
ثم شك بعد الوضوء أو غير ذلك فالأقوى الصحة وعدم الالتفات إلى ذلك، لأنه من
الشك بعد الفراغ، وحملا لفعل المسلم على الوجه الصحيح على إشكال في الأول بالنسبة
لما علم من حاله أنه لو كان متنبها حال الوضوء لكان شاكا، للشك في شمول أدلة الفراغ
لمثله، وكذا الظاهر الصحة فيما لو علم بوجود الحاجب ولما يعلم سبقه بالوضوء أو بالعكس
من غير فرق بين ضبط تأريخ أحدهما وعدمه، تحكيما لما دل على عدم العبرة بالشك بعد
الفراغ، وبها ينقطع الاستصحاب.
وقد يرشد إليه في الجملة موثق عمار (1) سأل أبا عبد الله (عليه السلام) " عن
الرجل يجد في إنائه فأرة وقد توضأ في ذلك الإناء مرار أو اغتسل منه أو غسل ثيابه
وقد كانت الفأرة متسلخة، فقال: إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضأ
أو يغسل ثيابه ثم فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما
أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة، وإن كان إنما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله

(1) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1
289

فلا يمس من الماء شيئا، وليس عليه شئ، لأنه لا يعلم متى سقطت فيه؟ ثم قال:
لعله أن يكون إنما سقطت فيه تلك الساعة " بناء على مساواة الحائل لنجاسة الماء، وقد
يلحق به أيضا الشك في تطهير المحل أيضا، فتأمل. بل وكذا لو شك في علاج الحاجب
بعد الوضوء كالخاتم الذي علم أنه حاجب وشك بعد الوضوء أنه عالجه فأوصل الماء تحته
أولا، لما سمعته، وحملا لفعل المسلم على الصحة، ويشير إليه قوله (عليه السلام) (1):
(أنت في تلك الحال أذكر) وكذا لو شك في صفة الحجب قبل الوضوء ثم نسي العلاج
فذكر بعد الوضوء، فإن الأقوى أيضا الصحة، لرجوعه أيضا إلى الشك بعد الفراغ،
واكتفاءا بصحة فعل المسلم باحتمال المصادفة للواقع، لكنه في غاية الاشكال، وقد
يستأنس لحكم الصحة فيه بما رواه الحسين بن أبي العلاء (2) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الخاتم إذا اغتسلت قال: حوله من مكانه، وقال في الوضوء تديره،
فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة " وقال في الفقيه (3): " إذا
كان مع الرجل خاتم فليدوره في الوضوء، ويحوله عند الغسل وقال الصادق (عليه السلام)
وإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة " انتهى. لظهور الأمر
بالتحويل والإرادة في الوجوب، وهو لا يكون إلا عند الشك في حجبه والعلم به،
والثاني غير مراد قطعا، إذ لا معنى لعدم الأمر بإعادة الصلاة في صورة النسيان مع العلم
بعدم غسل ما تحت الخاتم كما هو الفرض، فلم يبق إلا صورة الشك، بل قد يدعى أنها
هي المتعارف في السؤال عنها، وهو أولى من حملها على الاستحباب مطلقا أو مع حمل
الخاتم على إرادة الواسع، كما وقع من بعض متأخري المتأخرين، بل قد تحمل عبارة
الصدوق عليه أيضا، وأما القسمان الأخيران فحكمهما واضح، إلا أنه ذكر المصنف
وجمع من الأصحاب الاستحباب فيما علم فيه سعة الخاتم ونحوه، بل قد يظهر من

(1) الوسائل - الباب - 42 - من أبواب الوضوء - حديث 7
(2) الوسائل - الباب - 41 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 3
(3) الوسائل - الباب - 41 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 3
290

المصنف في المعتبر دعوى الاجماع حيث قال: ويحرك ما يمنع وصول الماء إلى البشرة
ولو لم يمنع حركه استحبابا، وهو مذهب فقهائنا، وعلله مع ذلك بالطلب للاستظهار
في الطهارة، ولا بأس به في مقام الاستحباب هذا.
والظاهر أنه لا فرق فيما تقدم بين الخاتم وغيره من الحواجب لما يجب غسله من
ظاهر البشرة، ومنه الوسخ تحت الأظفار إذا تجاوزت المعتاد وكان ساترا لما لولاه
لكان ظاهرا فإنه يجب إزالته إذا لم يكن في ذلك عسر وحرج، واحتمال القول أنه
ساتر عادة وكان يجب على النبي (صلى الله عليه وآله) بيانه، ولأنه كالذي يستره الشعر
من الوجه في غاية الضعف، وكفى من النبي (صلى الله عليه وآله) بيانا ما دل على وجوب
غسل البشرة واليد ونحو ذلك، وجعله كالشعر قياس. فمن هنا نص المصنف في المعتبر
والعلامة في القواعد والشهيد في الذكرى والمحقق الثاني وغيرهم على وجوب إزالته،
وجعله في المنتهى أقرب، لما سمعته من الاحتمال، ولا ريب في ضعفه.
((الخامسة) من كان على بعض أعضاء طهارته جبائر) جمع جبيرة، وهي الألواح
والخرق التي تشد على المكسور من العظام، وفي شرح الدروس أن الفقهاء يطلقونها
على ما يشد به القروح والجروح أيضا، ويساوون بينهما في الأحكام، قلت: ولعله
الظاهر من المصنف والعلامة وغيرهما، لاكتفائهم بذكر الجبيرة عن حكم ما يشد على
الجروح والقروح، ومن المستبعد عدم تعرضهما لذلك وكيف كان (ف‍) هي (إن) كانت
في محل الغسل و (أمكنه نزعها) وغسل البشرة أو غمس العضو في الماء أو (تكرار الماء
عليها حتى يصل البشرة وجب) مخيرا بينهما، كما هو ظاهر التحرير والقواعد والإرشاد
والذكرى والدروس وصريح جامع المقاصد وكشف اللثام وغيرهما، ويقتضيه إطلاق
المعتبر والمنتهى، وعن التذكرة إيجاب النزع والغسل إن أمكن، وإلا فالمسح على نفس
البشرة، فإن تعذرا فايصال الماء بالتكرير أو الغمس، وفيه مخالفة لما ذكرنا من وجهين،
الأول عدم التخيير بين النزع والتكرير، والثاني تقديم المسح على البشرة عليه أيضا،
291

وظاهر الأولين عدم تقديمه على المسح على الجبيرة فضلا عن التكرير الذي هو غسل عندهم.
ولا ينبغي الاشكال في ترجيح ما ذكره الأصحاب من التخيير مع كون التكرير
أو الغمس محصلين للإصابة مع الجريان الذي يتحقق بهما الغسل عرفا، لصدق الامتثال
مع عدم الدليل على اشتراطه بشئ آخر، وما في الصحيح أو الحسن (1) من أمر
الرجل الذي في ذراعه القرحة المعصبة بالنزع والغسل إن كان لا يؤذيه الماء، مع عدم
كونه في الجبيرة يراد عدم الاجتزاء بالمسح على الخرقة، لا عدم الاجتزاء بالغسل بغير
النزع، كما هو واضح لمن لاحظه. على أنه معارض بالموثق (2) عن الصادق (عليه السلام)
سئل " عن رجل ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر أن يحله لحال
الجبر إذا جبر كيف يصنع؟ قال: إذا أراد أن يتوضأ فليضع إناءا فيه ماء، ويضع
موضع الجبر في الماء حتى يصل الماء إلى جلده، وقد أجزأه ذلك من غير أن يحله "
لظهوره سيما ذيله في أنه يجزؤه ذلك وإن تمكن من حله، وأما إذا حصل من التكرير
إصابة من غير تحقق للجريان الذي بدونه لا يتحقق الغسل فيشكل التخيير بينه وبين
الغسل مع النزع، واحتمال تحقق مسمى الغسل في خصوص الجبيرة بمجرد الإصابة
لاختلافه بالنسبة إلى المغسول فيه - مع امكان منعه واحتمال تسليمه في خصوص غمس
العضو لا التكرير - إنما يتم مع تعذر النزع والغسل لا مع المكنة منهما، وإلا لاجتزئ
بنحو ذلك في الاختيار، ولا يرتكبه ذو مسكة، وأما احتمال الاستناد إلى خصوص
ما سمعته من الموثق الدال على الاجتزاء به بمجرد الوصول إلى الجلد جرى أو لم يجر وإن
لم يدخل تحت مسمى الغسل ففيه أولا أن الذي يظهر من تعليل القائلين بالتخيير أن ذلك
لكونه غسلا، فكأنهم فهموا من الخبر أنه مبني على إرادة الغسل، لتصريحهم في غير
المقام أنه مأخوذ فيه الجريان من غير استثناء لحال الجبيرة، وثانيا أنه لا يجسر على تقييد

(1) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 7
(2) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 7
292

الأوامر بالغسل في الكتاب والسنة حتى علم أن الوضوء غسلتان ومسحتان بمثل هذا
الموثق الذي لم يعلم عمل الأصحاب به على هذا الوجه، بل الظاهر خلافه، نعم يمكن
أن يقال: يجتزى به ويقدم على المسح على الجبيرة عند تعذر النزع والغسل لكونه
أقرب إلى المأمور به، أو لأن مباشرة الماء للجسد واجبة للأمر بالصب ونحوه، والغسل
واجب آخر، وتعذر الثاني لا يسقط الأول إذ (لا يترك الميسور بالمعسور) و (ما لا يدرك
كله لا يترك كله).
(وإلا) أي وإن لم يمكن النزع لا التكرير ولو لنجاسة المحل بنجاسة لا يمكن
تطهيرها كما نص عليه بعضهم، من غير فرق بين حصول التضاعف للنجاسة بالغسل
وعدمه وإن كان قد يظهر من بعضهم إيجاب الغسل في الثاني، لأصالة عدم الانتقال
من الغسل إلى المسح، واستنهض عليه الاطلاق في نحو العبارة، لكن لا ريب في ضعفه،
لما دل على اشتراط طهارة ماء الوضوء، والمشروط عدم عند عدم شرطه، فيكون غير
متمكن من الغسل، لأن الممنوع شرعا كالممنوع عقلا، فيدخل في معقد إجماع بعضهم
أنه إن لم يتمكن من الغسل أجزأه المسح على الجبيرة، وبذلك يرتفع إطلاق العبارة
ونحوها، على أن هذا الاطلاق لم يكن مساقا لذلك حتى يستدل به عليه، (أجزأه المسح
عليها) عن غسل البشرة بلا خلاف أجده بين القدماء والمتأخرين، بل في صريح الخلاف
والمنتهى والتذكرة وظاهر المعتبر وغيره دعوى الاجماع عليه، وهو الحجة، مضافا إلى
خبر كليب الأسدي (1) سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " عن الرجل إذا كان كسيرا
كيف يصنع بالصلاة؟ قال: إن كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره " والمرتضوي
المروي عن تفسير العياشي (2) قال (عليه السلام): " سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن
الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ صاحبها؟ وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال (صلى
الله عليه وآله): يجزؤه المسح عليها في الجنابة والوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف

(1) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 11
(2) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 11
293

على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده، فقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1) (ولا تقتلوا
أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) " وفحوى الصحيح أو الحسن (2) عن أبي عبد الله (عليه
السلام) أنه سئل " عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من مواضع الوضوء
فيعصبها بالخرقة ويتوضأ ويمسح عليها إذا توضأ، فقال (عليه السلام): إن كان يؤذيه
الماء فليمسح على الخرقة، وإن كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثم ليغسلها، قال:
وسألته عن الجرح كيف أصنع به في غسله؟ قال (عليه السلام): اغسل ما حوله " بل
يحتمل أن يكون ذلك من الجبيرة بناء على تعميمها لما يشد على القرحة ونحوها في الروايات
فتأمل. كفحوى ما دل (3) على المسح على الطلاء للدواء وغيره.
ثم إن ظاهر العبارة وغيرها الانتقال بمجرد تعذر الفردين إلى المسح على الجبيرة
سواء تمكن من المسح على البشرة أولا، خلافا للتذكرة وبعض من تأخر عنها، فأوجبوا
المسح عليها مقدما على المسح على الجبيرة، ولعله للأولوية القطعية، ولكونه أقرب إلى
المأمور به، وهو لا يخلو من وجه، لانصراف كثير من عبارات النصوص والفتاوى
المتضمنة للمسح على الجبيرة إلى عدم التمكن من حلها، على أنه من الأفراد النادرة التي
لا يشملها الاطلاق، إذ التمكن من المسح على الجبيرة بالماء على وجه بحيث لا يتمكن معه
من الاتيان بأقل أفراد الغسل الذي هو كالدهن في غاية الندرة، ومن ذلك يظهر
قوة خلافه، لعدم القطع بأولويته من المسح على الجبيرة، إلا إذا قلنا بجواز مثل ذلك
فيها أي المسح على الجبيرة برطوبته، لا قابلية بها للانتقال من جزء إلى آخر بل ولو
قلنا به، لأن أحكام العبادات غير معروفة الحكم والمصالح، فلا سبيل للقطع بذلك.
ومنه ينقدح الاشكال في الاجتزاء به أي المسح على البشرة فضلا عن وجوبه وتعينه،
وطريق الاحتياط غير خفي، ومن العجيب ما يظهر من بعضهم من تقديم المسح على البشرة

(1) سورة النساء - الآية 33
(2) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الحيض - حديث 2 - 9
(3) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الحيض - حديث 2 - 9
294

على المسح على الجبيرة حتى لو كانت البشرة نجسة مع عدم إمكان التطهير، وفيه - مع
ما تقدم واستلزامه تضعيف النجاسة - أنه مناف لاشتراط طهارة محال الوضوء.
ثم إن ظاهر الأصحاب جميعا تعين المسح على الجبيرة والحال هذه، ولم تعرف
المناقشة في ذلك بينهم إلى زمن الأردبيلي، فإنه قال على ما نقل عنه: إنه يمكن الاستحباب
والاجتزاء بغسل ما حولها، إلا أن يثبت إجماع أو نحوه، وتبعه في ذلك صاحبا المدارك
والذخيرة، قال في الأول: " ولولا الاجماع المدعى على وجوب مسح الجبيرة لأمكن
القول بالاستحباب، والاكتفاء بغسل ما حولها، لصحيحة عبد الرحمان بن الحجاج (1)
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكسير تكون عليه الجبائر أو يكون به
الجراحة، كيف يصنع بالوضوء وعند غسل الجنابة وغسل الجمعة؟ قال: يغسل ما وصل
إليه الغسل مما يظهر مما ليس عليه الجبائر، ويدع ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله،
ولا ينزع الجبائر، ولا يعبث بجراحته " ورواية عبد الله بن سنان (2) قال: " سألته
عن الجرح كيف يصنع به صاحبه؟ قال: يغسل ما حوله " وينبغي القطع بالسقوط في
غير الجبيرة، أما فيها فالمسح عليها أحوط " انتهى. قلت: وقد سمعت أيضا ما في
الحسن أو الصحيح المتقدم من الأمر بغسل ما حول الجرح أيضا، وربما استظهر ذلك
من الصدوق (رحمه الله)، لأنه قال بعد أن ذكر ما ذكره الأصحاب من المسح على
الجبيرة: " وقد روي في الجبائر عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:
يغسل ما حولها " لما ذكره في أول كتابه أنه لا يذكر فيه إلا ما يعتقده، ويعلم أنه حجة
بينه وبين ربه، ولا ينبغي الشك في ضعف هذه المناقشة، إذ حمل الأمر بالمسح فيما سمعت
من الأخبار وخبر المرارة ولفظ الأجزاء الوارد في عدة أخبار منها روايتا الطلاء وغيرها

(1) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 1 وهو مروي عن
الرضا (عليه السلام)
(2) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 3
295

على إرادة الاستحباب بعيد جدا، وكذا حملها على إرادة الوجوب التخييري، بل
هو باطل، لما فيه من التخيير بين الفعل وتركه، على أنه لا صراحة في المعارض،
لأن الأمر بغسل ما وصل إليه الغسل وترك ما لا يصل إليه لا يقضي بعدم وجوب المسح،
بل أقصاه سقوط الغسل عما تحته الجبيرة، وكذا رواية الجرح، مضافا إلى عدم
معلومية كونه مكشوفا أو مجبرا، وأيضا هو لا يثبت في غير الجرح من الجبيرة إلا بضميمة
فتاوى الأصحاب من عدم الفرق بينهما، والموجود فيها الوجوب، كل ذلك مع
الاجماع المنقول المستفيض، بل والمحصل المؤيدين بالاحتياط وغيره، وما سمعته من
عبارة الصدوق (رحمه الله) لا ظهور فيها في تلك، بل هي ظاهرة في عدمه، على أنها
رواية غير عامل بها، لذكره أولا ما أفتى به، ولذا لم ينسب إليه أحد الخلاف في ذلك،
مع أن خروجه غير قادح في الاجماع.
ثم إن ظاهر ما سمعته من الأدلة من الاجماع وغيره الاكتفاء بمسح الجبيرة،
وأنه لا يجب غسلها مع التمكن منه، بل عدم الاجتزاء به لو وقع من دون مسح أو معه
بدون قصده فضلا عن وجوبه، وعن العلامة في نهاية الإحكام احتمال إيجاب أقل
مسمى الغسل، واستجوده بعض من تأخر عنه. قلت: وكأنه لمكان قيام الجبيرة
مقام البشرة، فيجب فيها ذلك، وما في الروايات من الأمر بالمسح يراد به المسح
اللغوي، أي يمر يده بعد أن يبلها بالماء بما يتحقق به ذلك على الجبيرة، ولا يجب عليه
تطلب ما تحت الجبيرة، بل يصدق على هذا الفرد من الغسل أنه مسح عرفا، لكن مراده
لا يخلو من إجمال، لعدم العلم بأن مراده بايجاب أقل مسمى الغسل عدم الاجتزاء بالمسح
وبغيره من أفراد الغسل أيضا، لأنه أقرب إلى المسح من غيره، أو يريد أن ذلك
أقل الواجب، وإلا فيجزئ غيره، وجهان، وكذا كلام من تسمعه ممن مال إلى مقالته،
ولقد أطال الأستاذ الأكبر في شرح المفاتيح في تأييد هذا القول وتسديده، ومما قال:
296

" إنه ليس المراد من قوله (عليه السلام): ويمسح على الجبائر ونحو ذلك سوى أنه يمر يده
على الجبائر مكان إمراره على البشرة عوضا عنها، وليس المراد منه أنه يجفف يده عن
الرطوبة الزائدة فيها كي لا يقع جريان أصلا، إذ قد تكون الجبيرة في وسط الذراع مثلا،
فيلتزم المكلف حينئذ بغسل اليد من المرفق إلى الجبيرة ثم إنه يجفف يده لمسح الجبيرة
ثم يأخذ بعد ذلك ماءا جديدا ويغسل به بقية اليد، ولعل القطع حاصل بعدم إرادة
ذلك، بل لا يكاد يتحقق مسح في مثل الرأس والرجلين خال عن ذلك، فضلا عن
هذا المسح الذي يظهر من الأخبار أن المراد عدم كونه تحت الجبيرة، لا أنه ينتقل الوضوء
حينئذ، ويجعل غسله مسحا من دون مانع من الغسل أصلا نعم مع المانع لا مانع منه،
ولعل مراد الفقهاء ما ذكرنا، لعدم إشارة أحد منهم إلى ذلك - إلى أن قال -: بل
نقول: المراد من قوله (عليه السلام) في صحيح ابن الحجاج المتقدم: (يغسل ما وصل إليه الغسل) إلى آخره
ما هو أعم من البشرة والجبيرة، وهو أنسب بعموم كلمة (ما) ولعل عدوله عن قوله
(عليه السلام): (اغسل ما حولها) لهذه النكتة، قال: ولو قلنا أن الرواية ليست ظاهرة
في ذلك لوجب حملها على هذا المعنى، لئلا تحصل المنافاة بينها وبين غيرها من الروايات.
لظهورها بدون ذلك في الاكتفاء بغسل ما حول الجبيرة، ثم أيده بقوله (عليه السلام):
(لا يسقط الميسور بالمعسور) ونحوه - ومما قال أيضا -: إن أخبار المسح لو كانت تدل
على عدم الجريان أو وجوب قصد عدم مدخليته تصير معارضة لما دل على وجوب الغسل
من الكتاب والسنة، ومن المعلوم أنه إذا تعذرت الحقيقة فالحمل على أقرب المجازات،
فحينئذ تحمل أخبار المسح على ما ذكرنا، أو يراد بها أنها إذا تضرر بغير المسح حتى فيما
ذكرناه " انتهى.
ولا يخفى عليه ما فيه، وكأن الذي دعاه إلى ذلك تخيل أن القول بالمسح ينافيه
ما يحصل لبعض أجزاء الماء من الانتقال الذي يتحقق به الغسل، وهو معلوم الفساد وإن
ظهر من بعض كلمات بعضهم، بل التحقيق أن المسح بالماء في المقام يتحقق وإن حصل
297

ذلك، نعم نحن لا نوجبه، لأنه من المستبعد بل من المقطوع بعدمه إرادة الغسل من
لفظ المسح المتكرر في النصوص والفتاوى ومعاقد الاجماعات، بل السيرة والطريقة على
خلافه، فإن استيعاب الجبيرة بالماء على وجه بحيث ينتقل كل جزء منه إلى جزء أو
جزءين منها مع أن الغالب فيها أن تكون من الخرق التي يتعسر جدا فيها مثل ذلك
لحصول جفاف الأجزاء المائية بمجرد وقوعها عليها غالبا مما لا ينبغي أن يصغى إليه، مع
منافاته مشروعية المسح على الجبائر من التخفيف والسهولة ونحوها، بل التحقيق أن المراد
في النصوص والفتاوى أنه يجزؤه أن يمسح بالماء جبائره عوضا عن البشرة، سواء حصل
انتقال لبعض الأجزاء المائية بحيث يتحقق به مسمى الغسل أولا، نعم قد يقال: إنه
لا يجب عليه نية كونه مسحا أو غسلا كما في غيره من أعضاء الوضوء، إذ الظاهر من
الروايات أن هذا المعنى مجز عن غسل البشرة ما شئت فسمه، بخلاف المسح في نحو الرأس
والقدمين الواجب فعلهما باعتقاد المسحية أو الغسلية كما تقدم سابقا، نعم قد يقال: إنه
لا يجتزى بالمسح في نداوة اليد ولو قلنا بالاجتزاء به في الرأس والقدمين، بل الظاهر
أنه لا بد من المسح بالماء، والفارق بينهما الدليل.
ثم إنه هل يشترط في هذا المسح أن يكون بالكف بل بباطنها لكونه المتبادر من
آلته أو لا؟ لا يبعد الثاني، لعدم وجوب العمل بمثل هذا التبادر، وكيف كان فالظاهر
من النصوص والفتاوى إيجاب استيعاب الجبيرة بالمسح، وبه صرح في الخلاف والمعتبر
والتذكرة ونهاية الإحكام والرياض وكشف اللثام والدروس والذخيرة والحدائق وشرح
المفاتيح والرياض، بل في الأخير أنه لا ريب فيه، قلت: ولا أجد فيه خلافا سوى
ما عساه يظهر من الشيخ في المبسوط، قال: والأحوط أن يستغرق جميعه، واستحسنه
في الذكرى بعد أن أشكل وجوب الاستيعاب بصدق المسح عليها بالمسح على جزء منها
لصدق المسح على الرجلين والخفين عند الضرورة، والأقوى الأول لأنه المنساق إلى
الذهن من الأخبار، كانسياق بدلية الجبيرة عن ما يلزم فيه ذلك، مع استصحاب حكم
298

الحدث والشغل اليقيني، وما ذكره من الصدق المتقدم، ممنوع، لكون الجبيرة اسما للمجموع
فالمسح عليها قاض باستيعابها سيما في المقام، وما عساه يظهر من بعض الاستعمالات كالمسح
على الظهر ونحوه مما ينافي ذلك فهو للقرينة، وما ذكره من الاجتزاء بالبعض في القدم
ونحوه إنما هو لمكان دخول الباء في الممسوح، كما دلت عليه الرواية السابقة، بل
مقتضاها أنه لولا الباء لكان اللازم الاستيعاب، وتفاوت مراتب الظهور في الاستيعاب
في مثل مستحب الجبيرة دون المسح على الجبيرة لا ينافي ما ذكرنا، فلا ريب حينئذ في
لزوم الاستيعاب، بل لعل مراد الشيخ بالاحتياط الواجب في نحو المقام أو لاستغراق
المحتاط فيه أي استغراق ما فيها من الفرج والثقوب ونحو ذلك، فإن الظاهر عدم وجوبه
لما فيه من العسر والحرج، مع عدم ظهور قوله (عليه السلام): امسح عليها ونحوه فيه، كما هو واضح،
ومما عرفت من انسياق بدلية الجبيرة يجري فيها حينئذ ما كان يجري في المبدل منه من
التثنية والابتداء من المرفق ونحوهما على إشكال في البعض، لعدم ثبوت البدلية في منطوق
الأدلة، ولعله بناء على ما ذكرنا من أن الموالاة تقدير زماني يندفع الاشكال فيها بالنسبة
إليها، والظاهر الاكتفاء بالمسح ببلة الجبيرة ونداوتها لو كانت على الماسح، فتأمل.
ولا فرق حيث يمسح على الجبيرة بين كون المحل طاهرا أو نجسا ولذا نص المصنف
عليه بقوله: (سواء كان ما تحتها طاهرا أو نجسا) بلا خلاف أجده بين أصحابنا لاطلاق
الأدلة من الروايات والاجماعات، بل قد يظهر من المعتبر دعوى الاجماع عليه، خلافا
للشافعي من الحكم بالإعادة حيث يكون نجسا، ولا فرق في نجاسة ما تحتها بين البشرة
وغيرها من أجزاء الجبيرة الباطنة، وإطلاق المصنف كالعلامة وغيره يقتضي عدم الفرق
بين كونها في محل المسح أو الغسل، وهو متجه في غير التكرير أو الغمس ونحوهما،
فإن الظاهر عدم وجوبهما في المسح وإن تمكن منهما، للفرق بينه وبين الغسل باشتراط
مباشرة الماسح للممسوح مع إمراره عليه في حصول حقيقته دون الغسل، واحتمال
299

الايجاب لعدم سقوط الميسور بالمعسور ونحوه ضعيف، لعدم جريانه في نحو المقام كما بين
غير مرة.
وهل يجب تخفيف الجبيرة لو كانت خرقا متعددة مثلا؟ الأقوى عدمه، لاطلاق
الأدلة ولأنه لا يرتفع بذلك عن الحائل، وكذا لو كانت جبائر متعددة، كأن جبر
فوق الجبر، فما عن نهاية الإحكام من الاشكال في المسح على الظاهر من الجبائر لو
كانت متكثرة ليس في محله، ولو كان ظاهر الجبيرة نجسا لا يمكن تطهيره ولا إزالته
وإخراج ما تحته فالظاهر وجوب وضع خرقة طاهرة عليه وضعا تكون به من أجزاء الجبيرة
بل في المدارك أنه لا خلاف فيه، لكن في الذكرى بعد أن استقرب ذلك قال: " ويمكن
إجراؤه مجرى الجرح في غسل ما حولها " انتهى. وهو ضعيف، وأضعف منه الاجتزاء
بمسحها مع نجاستها للاطلاق، إذ هو غير مساق لبيان ذلك، وإلا لاقتضى الاجزاء
مع التمكن من التطهير، واحتمال الرجوع بسبب ذلك للتيمم لا يخلو من وجه تعرفه إن
شاء الله فيما يأتي، لأنها في حكم الكسر المكشوف، ولو كان ظاهر الجبيرة
مغصوبا لم يجز المسح عليه قطعا، وفي وجوب وضع المحلل عليه وجهان ينشئان من أن
الغصب في الباطن من الجبيرة كالظاهر أولا، ولو مسح على المغصوب لعذر شرعي من
جهل به ونحوه اجتزئ به، أما لو كانت الجبيرة محرمة بغير الغصب كالحريرية مثلا
أو كونها من لباس الذهب للذكر فلا بأس بالمسح عليها، لأن الحرمة خارجية، ويمسح
على الجبيرة الساترة لشئ من الصحيح إذا كان ستره من المقدمات العادية واللوازم
العرفية لمثل هذا الجرح، إذ التدقيق في نحو ذلك مناف لأصل مشروعيتها من التخفيف،
وقد ظهر لك من الأدلة السابقة أنه لا فرق بين ما يشد به الكسر أو الجرح أو القرح،
بل قد سمعت ما في شرح الدروس من نسبته إرادة الأعم من الجبيرة إلى الفقهاء المؤيد
بما تقدم، وبخبر العصابة للقرحة، بل في المنتهى " أن الجبائر تنزع مع المكنة، وإلا
مسح عليها، وكذا العصائب التي تعصب بها الجرح والكسر، وهو مذهب علمائنا
300

أجمع " انتهى. وفي خبر عبد الأعلى مولى آل سام (1) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟
قال (عليه السلام): يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى (2)
(ما جعل عليكم في الدين من حرج) امسح عليه " ما يدل على ذلك أيضا، بل يستفاد
منه عدم الفرق في المشدود بين كونه من الخرق أو غيره، ومثل الجبائر والعصائب
ما يطلى به الأعضاء للدواء، كما صرح به جماعة من الأصحاب، بل لا أجد فيه خلافا،
لحسنة الوشا (3) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الدواء إذا كان على يدي
الرجل أيجزؤه أن يمسح على طلاء الدواء؟ فقال: نعم يجزؤه أن يمسح عليه " وقد عرفت
سابقا أنهم حملوا ما دل على المسح على الحناء في صحيح ابن مسلم (4) عن أبي عبد الله
(عليه السلام) " في الرجل يحلق رأسه ثم يطليه بالحناء ثم يتوضأ للصلاة فقال (عليه السلام):
لا بأس بأن يمسح رأسه والحناء عليه " وخبر عمر بن يزيد قال (عليه السلام): " يمسح
فوق الحناء " على الضرورة، بل هو مشعر بكون ذلك من المسلمات عندهم، وقد يستفاد
من مجموع هذه الأخبار وغيرها كفحوى أخبار الجبائر خصوصا قوله (عليه السلام): (إن
كان يؤذيه الماء) ونحوه جواز المسح على كل حائل من شداد وغيره وضع على العضو
لدفع ضرره أو زيادته ونحو ذلك من غير تفصيل بين كون ذلك المرض كسرا أو جرحا
أو قرحا أو صليلا وغيرها، كما يقضي به ترك الاستفصال في الدواء المطلي عن ذلك
الداء، وما سمعته من خبر المرارة ونحوهما.
والظاهر أنه للمكلف أن يجعل ذلك الحائل وإن لم ينحصر الدواء فيه من غير

(1) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 5
(2) سورة الحج - الآية 77
(3) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 4 - 3
(4) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 4 - 3
(5) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 4 - 3
301

فرق بين حصول الخطاب بالوضوء وعدمه، وما في موثقة عمار (1) سأل أبو عبد الله
(عليه السلام): " عن الرجل ينقطع ظفره هل يجوز له أن يجعل عليه علكا؟ قال: لا،
ولا يجعل عليه إلا ما يقدر على أخذه عنه عند الوضوء. ولا يجعل عليه ما لا يصل إليه الماء "
محمول على عدم حصول نفع به، على أن في سنده عمارا وقد طعن فيه بأنه متفرد برواية
الغرائب، وإلا فاحتمال على عدم الانحصار في التداوي بذلك بعيد لأن الظاهر
جوازه وإن لم ينحصر به، كما يقضي به ترك الاستفصال فيما سمعت وغيره، مع ما في
ذلك من الحرج، نعم يحتمل حمله على الكراهة مع عدم الانحصار.
ولو وضع الحاجب مع عدم الضرورة أو اتفق فلم يستطع إزالته ففي إجرائه مجرى
الجبائر في المسح عليه وعدمه وجهان، رجح بعضهم الأول، والمهم تحرير الأصل في
مثل ذلك وغيرها مما لم يظهر من الأدلة بيان حكمه، فقد يقال: إن الأصل يقضي في
الوضوء وما جرى مجراه أنه متى تعذر غسل بعض الأعضاء الواجبة فيه لحاجب بسقوط
الوضوء والرجوع إلى التيمم، لانتفاء المركب بانتفاء أحد أجزائه، وما يقال: إن
الأصل يقضي بالرجوع إلى البدل، وذلك لاستصحاب خطاب الوضوء، فبعد فرض
الخطاب به والحال هذه ينتقل منه إلى البدل، لعدم التكليف بما لا يطاق، ولأن المنصرف
من الخطاب لمثل هذا المكلف ذلك. يدفعه أن الاستصحاب لا يصلح لاثبات حكم
شرعي، مع معارضته بظاهر أدلة الوضوء، كالقول إنه يستفاد من خبر المرارة أن
الأصل في مثل ذلك الرجوع إلى مسح البدل مطلقا، لأنه مع الغض عما في سنده
إذ لم أقف على توثيق لعبد الأعلى - لا صراحة فيه بذلك، إذ قد يكون المراد منه
الاستدلال على سقوط غسل المتعذر غسله، وهو لا كلام فيه، إنما الكلام في الحكم
بعد ذلك هل هو سقوط الوضوء أو غيره؟ نعم قد يقضي التأمل فيه وفي جميع أخبار
الباب وخبر الخف وغيره بانتقال حكم المحجوب إلى الحاجب في سائر أنواع المرض التي

(1) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 6
302

هي سبب في الحجب به، دون ما لا يكون كذلك من الحواجب.
وكذا ما يقال: إن الأصل يقضي بالسقوط فيما تعذر غسله للأصل، واشتراط
وجوبه بالقدرة مع وجوب غسل الباقي لقوله (عليه السلام) (1): (لا يسقط الميسور
بالمعسور) ولاستصحاب الوجوب فيه. إذ يدفعه أن ما ادعاه من المشروطية بالقدرة
لو سلم فأقصى ما يسلم بالنسبة إلى الشرائط الخارجة التي لا مدخلية لها في صدق اسم المسمى
إذا استفيدت من صيغة أمر ونحوها. أما مثل الأجزاء التي يستفاد من نحو قوله: (الوضوء
غسلتان) ونحو ذلك فممنوع إذ لا مدخلية للقدرة في الأحكام الوضعية، وأما قوله
(عليه السلام): (لا يسقط الميسور) ونحوه فهو وإن سلم الاستدلال به في نحو الأجزاء لكنه
موقوف على الانجبار بفهم الأصحاب، وإلا لو أخذ بظاهره في سائر التكاليف لأثبت
فقها جديدا لا يقول به أحد من أصحابنا، وأما الاستصحاب ففيه - مع ما سمعته من
عدم صلوحه لاثبات الأحكام الشرعية - أنه معارض بقاعدة انتفاء الكل بانتفاء جزئه،
فلا يستصحب حكم الجزئية، وبذلك يفرق بين الأجزاء والجزئيات، وكذا ما يقال: إن
الأصل يقضي بالجمع بين التيمم والوضوء بمسح البدل، لأن الشغل اليقيني محتاج إلى الفراغ
اليقيني يدفعه أنه لا معنى له بعد الاستظهار من الأدلة أنه ينتفي بانتفاء جزئه، إذ هي
تفيد حينئذ أنه لا وضوء واقعا، فينتقل حينئذ إلى التيمم، لا يقال: إنه ليس في أدلة
التيمم عموم يفيد ذلك، لأنا نقول: إن الاجماع على أنه متى تعذرت المائية عقلا أو شرعا
انتقل إلى التيمم كاف في إثباته، فيثبت حينئذ أن الأصل في كل ما لم يعلم حكمه من
نحو ما سمعت الانتقال فيه إلى التيمم، وبه يظهر الحكم المتقدم إن لم يفهم من الأدلة
خلافه، لكن ومع ذلك كله فلا يخلو الحكم بهذا الأصل من نظر وتأمل، سيما مع
ملاحظة كلامهم في باب التيمم من عدم سقوطه بالحائل في مواضع المسح أو محل الضرب،
بل لعل الأقوى في النظر قيام مطلق الحاجب مقام محجوبه مع تعذر الإزالة، لخبر

(1) غوالي اللئالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
303

المرارة وفحوى حكم الجبائر بعد إلغاء خصوصية المرض، وللقطع بفساد القول بوجوب
التيمم بدل الغسل والوضوء لمن كان في بدنه قطعة قير مثلا مدى عمره، وغير ذلك
مما يظهر بالتأمل، والاحتياط لا ينبغي أن يترك، بل لعله كاللازم في أمثال المقام،
تحصيلا للبراءة اليقينية.
ولنعد إلى ما كنا فيه، فنقول: إن جميع ما ذكرنا مما تقدم إنما هو في حكم
الجبيرة وما يجري مجراها من شداد القرح والجرح واللطوخ ونحوها، دون المكشوف
منها، أي الذي ليس عليه جبيرة ونحوها من الجرح ونحوه، قال الخوانساري في
شرح الدروس: " إن الأصحاب ألحقوا الكسر المجرد عن الجبيرة أيضا بالجرح في
الحكم، وكذا كل داء في العضو لا يمكن بسببه إيصال الماء إليه، وظاهره الاجماع على
ذلك، وتفصيل الحال أن الجرح إن كان مكشوفا وأمكن غسله بحيث لا ضرر بتسخين
ماء ونحوه فلا إشكال في وجوبه، وإلا فإن تمكن من المسح عليه مباشرة فعن المصنف
في المعتبر والعلامة في التذكرة والنهاية والشهيد في الدروس وغيرهم من علمائنا المعاصرين
إيجابه، لكونه أقرب إلى المأمور به، وأولى من مسح الجبيرة، واستشكله جماعة
من متأخري المتأخرين، بل في المدارك أنه ينبغي القطع بالاكتفاء بغسل ما حوله، بل
في جامع المقاصد في باب التيمم نسبة ذلك فيه وفي الكسر الذي لا جبيرة عليه إلى نصهم
وورود الأخبار مشعرا بدعوى الاجماع عليه، ولعله لخبر عبد الله بن سنان عن الصادق
(عليه السلام) (1) قال: " سألته عن الجرح كيف يصنع به صاحبه؟ قال (عليه السلام)
يغسل ما حوله " كذيل الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (2)
أيضا بعد أن سئل " عن الرجل تكون القرحة في ذراعه وفي نحو ذلك من مواضع الوضوء
فيعصبها بالخرقة يتوضأ ويمسح عليها إذا توضأ، فقال (عليه السلام): إن كان يؤذيه

(1) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 2
(2) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 2
304

الماء فليمسح على الخرقة، وإن كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثم ليغسلها قال:
وسألته عن الجرح كيف أصنع به في غسله؟ قال (عليه السلام): اغسل ما حوله " وما يقال:
من شمولهما للمكشوف وغير المكشوف وهو مخالف لما عند الأصحاب يدفعه أنهما ظاهران
فيه بقرينة قوله: (اغسل ما حوله) إذ هو مستور معها، مع أن خبر الحلبي كاد يكون
صريحا فيه، سلمنا لكنهما حينئذ من باب المطلق الذي قيد، فلا تخرج بذلك عن الحجية،
نعم قد يدعى ظهورهما في عدم وجوب غسل الجرح خاصة لا مسحه، بل يحتمل إرادة
ترك ما كان منه من الباطن دون الظاهر المعبر عنه بما حوله وغير ذلك، فلعل الأقوى
الأول حينئذ، وأما احتمال وجوب وضع خرقة مثلا عليه في مثل الحال لظهور الأدلة
في بدلية المسح عليها عن الغسل دون المسح على البشرة فينبغي القطع بعدمه، لوضوح
الأولوية وغيره، كالقطع بفساد الانتقال إلى التيمم معه، لظهور اتفاق الأصحاب
هنا على عدمه.
نعم إذا تعذر المسح على البشرة فهل يجب وضع لصوق أو شد خرقة ونحو ذلك
مما يدخل به تحت ذي الجبيرة وما يحكمه ويمسح عليه أو لا؟ قولان ينشئان من الأصل،
وظاهر ما سمعته من الروايات، واستلزام ستر شئ من الصحيح والمعلوم من العفو فيها
إنما هو في السابقة دون اللاحقة. ولأن المتيقن من أدلة الجبائر الموضوعة لا للوضوء، ومن
قوله (عليه السلام) في خبر الحلبي: (فيعصبها) لظهوره في التعصيب للوضوء، سيما مع ترك الاستفصال،
ولأن ما دل على حكم الجبائر شامل للجبيرة السابقة والموضوعة للوضوء، لصدق اسم
الجبيرة، ومما يؤكده ما قيل من اتفاق الفتاوى على أنه لو كان ظاهر الجبيرة نجسا وضع
عليها خرقة طاهرة ومسح، بل قد سمعت نفي الخلاف فيه في المدارك، وهو من قبيل
ما نحن فيه، إذ دخول هذه الخرقة الجديدة تحت اسم الجبيرة يقضي به هنا، بل قد يقال:
إن المراد بالمسح على الجبائر إنما هو المسح على خرقة الجبيرة وإن لم تكن جبيرة بالفعل،
305

وأيضا أن قوله (عليه السلام) في خبر كليب الأسدي (1) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الرجل إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟ قال (عليه السلام):
إن كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره وليصل " دال على ما نحن فيه، لأن
الأصل في الواجب أن يكون مطلقا، فيجب تحصيلها إن لم تكن موجودة، على أنه
ليس في السؤال ذكر للجبيرة، وأيضا قد يستفاد من مجموع الأدلة سيما خبر المرارة
ونحوه أن الحائل بدل عند تعذر غسل البشرة، فيجب تحصيله، وخبرا الجرح (2)
لا منافاة فيهما لوجوب المسح على الجبيرة بعد دلالة الدليل عليه، سيما بعد ورود مثل
ذلك في الجبائر مع أن الحكم مسلم فيها، كل ذلك مع استبعاد الفرق جدا بين ما تكون
الجبيرة موضوعة مع عدم التأذي بحلها وبين ما لم تكن كذلك، على أن شد الجروح
والقروح لا ضابطة له معلومة مختلف بالنسبة للأشخاص والأوقات وغيرها، على أنه
في وقت الخطاب بالوضوء تارة يتفق أن الجرح مشدود، وأخرى ليس مشدودا،
فهل المدار على أول الوقت أو حين الفعل، كل ذلك مع أن الشغل اليقيني يستدعي
البراءة اليقينية، وهو منحصر فيما نقوله، لأن احتمال التيمم في المقام في غاية الضعف،
ومما ذكرنا تعرف وجوب وضع الجبيرة وإن لم نقل بوجوب مسح الجرح مع إمكانه،
كما احتمله في الذكرى أيضا، وكيف كان فالقول بالوجوب لا يخلو من قوة وإن كان
للنظر في كل واحد مما سمعت من الأدلة مجال، لكن مجموعها يفيد الفقيه قوة ظن بذلك.
ثم إنه إذا تعذر وضع الجبيرة بعد البناء على الوجوب فهل ينتقل إلى التيمم أو
يكتفى بغسل ما حول الجرح؟ الظاهر الثاني، عملا بما سمعت من الأخبار، بل قد
يدعى مثل ذلك في الجبائر المشدودة سابقا، وبه يجمع بين ما دل على المسح على الجبيرة
وما دل على غسل ما حولها فيها كما سمعته سابقا، لكن نقل عن الذخيرة أنه نسب القول
بالتيمم في المسح على الجبائر إلى الأصحاب، مشعرا بدعوى الاجماع عليه، وفي

(1) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 2 و 3
(2) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء - حديث 8 - 2 و 3
306

الذكرى بعد أن ذكر احتمال وجوب الوضع واعترف أن الرواية مسلطة على فهم عدم
الوجوب قال: " وأما الجواز فإن لم يستلزم ستر شئ من الصحيح فلا إشكال فيه،
وإن استلزم أمكن المنع لأنه ترك للغسل الواجب، والجواز عملا بتكميل الطهارة بالمسح "
انتهى. وظاهره بل صريحه أنه لا إشكال في الجواز والمسح عليه مع عدم الستر لا الوجوب.
لكن قال في الرياض: " إنه إن تعذر مسح الجرح والقرح والكسر المجرد
فالأحوط بل اللازم وضع جبيرة أو لصوق تحصيلا للأقرب للحقيقة، بل قيل لا خلاف
فيه ما لم يستر شيئا من الصحيح كما عن الذكرى " انتهى. وفيه أن الموجود في الذكرى
ما سمعته من الجواز لا الوجوب، والاحتياط في المقام الجمع بين ما تقدم والتيمم، فإنه
وإن لم أعثر على من أفتى به في خصوص المقام، لكن نقل عن العلامة في النهاية أنه
احتمل سقوط الوضوء، والظاهر أنه يريد إيجاب التيمم مع ما تسمع من الكلام، وهو
أن الأصحاب في خصوص المقام قد عرفت أن الجروح والقروح ملحقة عندهم بالكسر،
فالمشدود من الجميع يمسح عليه، والمكشوف منها فيه ما سمعت من المسح على نفس البشرة،
فإن تعذر فالوضع أو الاكتفاء بغسل ما حولها، ولم نعثر في المقام على مفت بالخصوص
في التيمم، لكن جماعة جعلوا في باب التيمم من جملة أسبابه خوف استعمال الماء لمكان
جرح أو قرح، ولم يفرقوا بين المشدود منها وغير المشدود، على أن الاشكال في كل
منهما، لما عرفت أنهم هنا لم يوجبوا التيمم أيضا.
بل قد صدر ذلك من المصنف الواحد كالشيخ في المبسوط على ما نقل لنا من
عبارته في المقامين، فإنه قال في المقام: " إن كان على أعضاء الطهارة جبائر أو جرح
وما أشبههما وكانت عليه خرقة مشدودة فإن أمكنه نزعها نزعها، وإن لم يمكنه مسح على الجبائر
إلى أن قال -: ومتى أمكنه غسل بعض الأعضاء وتعذر في الباقي غسل ما يمكنه غسله،
ومسح على حائل مما لا يمكنه غسله " إلى آخره وقال في باب التيمم: " ومن كان في
بعض جسده أو بعض أعضاء طهارته ما لا ضرر عليه والباقي عليه جراح أو عليه ضرر
307

في إيصال الماء جاز له التيمم، ولا يجب عليه غسل الأعضاء الصحيحة، وإن غسلها
وتيمم كان أحوط، سواء كان الأكثر صحيحا أو عليلا " وقال في النهاية في المقام:
" ما حاصله إن كان على أعضاء الطهارة جبائر أو جرح وشبهه وكان عليه خرقة مشدودة
نزع إن أمكن وإلا مسح، وإن كان جراحا غسل ما حولها " وقال في بحث التيمم:
" المجروح وصاحب القروح والمكسور والمجدور إذا خافوا على نفوسهم استعمال الماء
وجب عليهم التيمم " وربما جمع بينهما بالفرق بين المكشوف والمشدود، أو بالحمل على
التخيير بين التيمم والمسح على الجبيرة أو الشداد، كما يشعر به قوله جاز له التيمم،
وفي خصوص عبارة النهاية بوجه ثالث باختصاص التيمم بما لا يتمكن من استعمال
الماء أصلا.
وقال المحقق الثاني في شرح القواعد في شرح قوله: " ويتمم من لا يتمكن
من غسل بعض أعضائه ولا مسحه بجرح أو نحوه " إلى آخره: " واعلم أن هذا الحكم
لا يتمشى على ظاهره، لأن الجرح الذي لا لصوق عليه والكسر الذي لم يوضع عليه
جبيرة إذا تضرر بالماء يكفي غسل ما حوله كما نصوا عليه ووردت به الأخبار، فكيف
يجوز العدول إلى التيمم، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الذي يسقط غسله ولا ينتقل
بسببه إلى التيمم ما إذا كان الجرح ونحوه في بعض العضو، ولو استوعب عضوا كاملا
وجب الانتقال إلى التيمم، ويمكن الجمع بأن ما ورد النص بغسل ما حوله مع تعذر غسله
وهو الجرح والقرح والكسر لا ينتقل عنه إلى التيمم بمجرد تعذر غسله وإن كثر، بخلاف
غيره كما لو كان تعذر الغسل لمرض آخر، فإنه ينتقل إلى التيمم، ثم استقرب الوجه
الأول مدعيا أن الثاني تأباه عبارات الأصحاب " انتهى. ولقد أطنب بعض متأخري
المتأخرين في نقل جملة من عبارات العلامة في المنتهى والنهاية والتذكرة في المقام والتيمم،
والذي يظهر بعد ملاحظة كلماتهم أن مرادهم بالانتقال إلى التيمم في الجرح ونحوه إنما
هو مع تعذر ما ذكروه في الجبيرة إما بعدم التمكن من المسح على الجبيرة، أو بعدم التمكن
308

من وضعها بناء على وجوبه مع عدم التمكن من غسل ما حوله، ونحو ذلك، ويرشد إليه
ما ذكره العلامة في المنتهى في باب التيمم بعد أن ذكره للجرح، قال: " ولو كان
الجرح مما يتمكن من شده وغسل باقي العضو ومسح الخرقة التي عليه بالماء وجب ولا يتيمم،
وإن لم يتمكن من ذلك يتيمم، ونحوه كلامه في النهاية، ويقرب منهما ما في التذكرة،
نعم يظهر منه في الأولين أنه إن تعذر وضع الجبيرة عليه أو تعذر مسحها لا يكتفى بغسل
ما حوله، بل لا بد من الانتقال إلى التيمم، بخلافه في التذكرة، فإنه يفهم منه أنه
يكتفى حينئذ بغسل ما حوله، وهي مسألة أخرى، بل قد عرفت أنه يظهر من جماعة
أنه يكتفى بغسل ما حوله وإن تمكن من وضع الجبيرة.
وأما ما يقال: من الفرق بين المستوعب وغيره في الجبائر، ولذا نص بعضهم على
عدم الفرق فالظاهر فساده، لاطلاق الأدلة، نعم قد يتجه في نحو الجرح المكشوف
الذي لا يتمكن من وضع جبيرة عليه، أو لا يتمكن من مسح الجبائر في المشدود أنه
ينتقل إلى التيمم إذا كان مستوعبا، لأن الوضوء لا يتبعض، ولظهور قوله (عليه السلام):
(اغسل ما حوله) في أجزاء العضو لا الأعضاء، وكيف مع أن الغالب في جبيرة الكسر
أن تكون مستوعبة ولا تبعيض فيها لمكان المسح على البدل، وكان مراد الأصحاب
في تعرضهم للتيمم في الجرح ونحوه الرد على العامة حيث أوجبوا الوضوء وإن تضرر،
فمقصودهم الايجاب الجزئي، وهو أنه يجوز التيمم للجرح في الجملة في مقابلة السلب الكلي
كما ينبئ عن ذلك ملاحظة كلام الشيخ في الخلاف ونحوه، وبنحو ما سمعت من الجمع
في كلمات الأصحاب يجمع بين ما سمعت من أخبار الجبائر (1) والجروح والقروح ونحوها
والأخبار (2) المتكثرة جدا الواردة في غسل الجنابة المشتملة على الأمر بالتيمم للمجروح
والمقروح والمكسور والمجدور.

(1) الوسائل - الباب - 39 - من أبواب الوضوء
(2) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب التيمم
309

وما قيل من الجمع بينهما بالفرق فيها بين الوضوء والغسل فيجري حكم الجبيرة في
الأول دون الثاني واضح الفساد، أما أولا فلاشتمال بعض أخبار الجبائر على الوضوء
وغسل الجنابة والجمعة فضلا عما فيها من الاطلاق، وأما ثانيا فللإجماع المنقول في المنتهى
وغيره على عدم الفرق في ذلك بين الطهارتين، ونحوه في الفساد احتمال الجمع بينهما كما
في تيمم كشف اللثام بالتخيير بينه وبين التيمم، وذلك - لأنه - مع عدم الشاهد عليه -
من المعلوم الذي لا خفاء فيه على من له أدنى ملاحظة لأخبار التيمم أن التيمم من الطهارات
الاضطرارية لا يشرع إلا عند تعذر المائية، وكيف وهو بدل عنها كما هو واضح، ونحوهما
الفرق بين المستوعب وغيره كما قد عرفت، نعم قد يتجه في الاستيعاب لجميع الأعضاء
ولجميع البدن، لحصول الشك في مثل هذا الوضوء والغسل، سيما الثاني مع القول وجوب
وضع شئ على المكشوف، فإنه في كل آن يتمكن من وضع لحاف ونحوه ثم المسح عليه،
من إطلاق الأخبار بالرجوع إلى التيمم، فتأمل جيدا. على أن الذي يظهر من ملاحظة
تلك الأخبار أن الأمر فيها بالتيمم لمكان التضرر بالغسل بالبرد ونحوه، والله أعلم.
(وإذا زال العذر) الذي كان سببا في سواغ المسح على الجبيرة فلا يعيد الصلاة
إجماعا كما في المنتهى وغيره، و (استأنف الطهارة) للمتجدد من الصلاة كما عن المبسوط ومال
إليه في المعتبر، وتبعه بعض متأخري المتأخرين، (على تردد) كما هو ظاهر المنتهى
والتذكرة ينشأ من أنها طهارة اضطرارية، والضرورة تقدر بقدرها، كانتقاض التيمم
برؤية الماء ونحوه، ولأنه يجب عليه الصلاة بطهارة يجب فيه الغسل وقد تمكن منه، ومن
أنه مأمور والأمر يقتضي الاجزاء، ولاطلاق ما دل على الاجتزاء بالمسح عليها،
ولارتفاع حدثه فلا يعود وللاستصحاب، والحمل على التيمم قياس لا نقول به، والمراد
بتقدر الضرورة قدرها على عدم فعل الوضوء كذلك مع عدمها، لا بقاء أثره، والأخير
مصادرة، ولذا كان الأقوى عدم الإعادة كما تقدم البحث فيه مفصلا سابقا في المسح
للتقية والضرورة، بل الظاهر أنه لا يعيد وإن ارتفعت في أثناء الوضوء بعد المسح عليها
310

أو على بعضها على تأمل سيما في الأخير، نعم يتجه الإعادة فيما لو ظهر سبق البرء وكان
لا يعلم به، وطريق الاحتياط غير خفي.
(السادسة) لا يجوز أن يتولى وضوءه) أي الغسل كلا أو بعضا (غيره) بحيث
يسند الفعل إلى ذلك الغير (مع الاختيار) إجماعا كما في الانتصار والمنتهى، ومذهب
الأصحاب كما في المعتبر، ويدل عليه مضافا إلى ذلك وإلى ظاهر الوضوءات البيانية
واستصحاب حكم الحدث - أن ظاهر الأوامر بالغسل والمسح تقتضي المباشرة، وإرادة
كون الفعل مستندا إليه، وما يقال: إن ظاهرها لا يقتضي سوى كونه مأمورا بذلك،
وأما الشرطية فلا دلالة فيها عليه، فحينئذ يبقى عمومات الوكالة والنيابة محكمة يصح إثبات
المشروعية بها، ولا تعارض بينها، فيكون الأصل جواز الوكالة والنيابة في
سائر العبادات إلا ما خرج بالدليل ضعيف جدا في مثل ما نحن فيه من الأوامر التي هي
عبادة، لظهورها في إرادة التعبد الظاهر في المباشرة، نعم قد يسلم ذلك في الأوامر
التي علم أنها ليست عبادات، ولا يشترط فيها نية القربة، وأما ما علم فيها ذلك ولو
بالأصل المقرر في الأوامر فغير متجه كما هو واضح، ومن هنا ظهر لك وجه تطلب
الأصحاب الدليل الخاص في كل مقام من مقامات العبادات على جواز النيابة فيها فتأمل.
خلافا لظاهر المنقول عن ابن الجنيد من أنه يستحب للانسان أن لا يشرك في وضوئه
غيره بأن يوضئه أو يعينه عليه. وضعفه واضح، على أنه غير صريح المخالفة، ولا فرق
في الغير الموجود في عبارة المصنف وغيرها بين أن يكون إنسانا مكلفا أو غيره، بل
إنسانا وغيره، إذ المدار على تحقق النسبة وإسناد الفعل على وجه الحقيقة عرفا، فمتى
حصل ذلك من المكلف صح وضوؤه، ولذا كان لا يقدح في صحة الوضوء صب الماء.
في الكف ونحوه، إذ لا مدخلية له في نسبة الفعل إلى المكلف، فمتى حصل ذلك
الاسناد إلى الغير بطل الوضوء قطعا كما عرفت، وكذا لو أسند إليهما مع الجزئية لكل
منهما بحيث لا يسند الفعل إلى واحد مستقلا، لعدم حصول النسبة العرفية للمكلف،
311

نعم لو حصل الاسناد إلى كل منهما مستقلا بالنسبة للغسل الواحد اتجهت الصحة، لما
عرفت أنه يكفي فيها تحقق النسبة، ولا يقدح فيها تحققها للغير مع تسليم صحة الفرض،
وبعد أن عرفت ذلك المدار فلا حاجة للإطالة والاكثار في الأمثلة في المقام من صب
الانسان والحيوان المعلم وغير المعلم ومن إراقة الانسان الماء من ميزاب أو نحوه إلى غير
ذلك، فتأمل جيدا.
ثم إن الظاهر من عبارة المصنف وغيرها في بادئ الرأي حرمة تولي الغير الوضوء
إلا أن التأمل فيها يقضي بأن مرادهم من ذلك الفساد وعدم الجواز لو اكتفي بالصلاة فيه
أو قصد التشريع أو نحو ذلك، وأما الحرمة الذاتية فلا أعرف دليلا عليها، وظاهر
هذه العبارات لا وثوق به في نحو هذه المقامات، ويمكن الاستدلال عليه مع أصل
المسألة من عدم جواز التولية بخبر الحسن بن علي الوشا (1) قال: " دخلت على الرضا
(عليه السلام) وبين يديه إبريق يريد أن يتهيأ للصلاة، فدنوت منه لأصب عليه، فأبى
ذلك، فقال: مه يا حسن، فقلت: لم تنهاني أن أصب على يديك، تكره أن أوجر،
قال (عليه السلام): تؤجر أنت وأوزر أنا، فقلت: وكيف ذلك؟ فقال (عليه السلام):
أما سمعت الله عز وجل يقول (2): (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك
بعبادة ربه أحدا) وها أنا إذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة فأكره أن يشركني فيها
أحد " لقوله فيها: (وأوزر أنا) بحمل الصب فيها على الصب على أعضاء الوضوء، ويحتمل
قويا أن يراد بالصب الصب في الكف، لكونه المتبادر المتعارف في مثل ذلك سيما
بالنسبة للوجه، ويحمل قوله: (أوزر) على شدة الكراهة بقرينة قوله في آخرها: (فأكره) مع
أن المكروه بالنسبة إليه كالوزر، ويؤيده - مع فهم الأصحاب منها ذلك كما قيل - المرسل (3)
(3) الوسائل - الباب - 47 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2

(1) الوسائل - الباب - 47 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2
(2) سورة الكهف - الآية 110
312

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) " أنه كان لا يدعهم يصبون الماء عليه، ويقول:
لا أحب أن أشرك في صلاتي أحدا " لظهور قوله: (لا أحب) في الكراهة، على أنه لو
سلم فيحتمل أن يكون قوله: (أوزر أنا) يعني إن صليت بهذا الوضوء واكتفيت به، فلا
يدل على الحرمة حينئذ في ذاته، فتأمل.
(ويجوز) بل يجب ولو ببذل أجرة لا تضر بالحال (مع الاضطرار) بل خلاف
أجده، بل عليه اتفاق الفقهاء كما في المعتبر، والاجماع كما في المنتهى، وقد يرشد
إليه مضافا إلى ذلك خبر عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) في حديث
" إنه كان وجعا شديد الوجع فأصابته جنابة وهو في مكان بارد، قال (عليه السلام):
فدعوت الغلمة فقلت لهم: احملوني فاغسلوني، فحملوني ووضعوني على خشبات ثم صبوا
الماء علي فغسلوني " لعدم الفرق بين الوضوء والغسل، ونحوها الأمر بالتولية في تيمم
المجدور في المعتبرة كما سيأتي مع عدم الفرق وكون التراب كالماء، وربما يرشد إليه
أيضا ما ورد في كثير (2) من الأخبار على أقوى الوجهين فيها أنه (كل ما غلب الله عليه
فهو أولى بالعذر) و (أنه ليس عليه شئ) حتى أنه ورد (3) في بعضها أن (هذه من
الباب التي ينفتح منها ألف باب) كل ذلك مع أنه يمكن أن يقال: إن الخطابات بالوضوء
شاملة للمقام، وما دل على الاشتراط إنما هو مع المكنة، لكونه بواسطة الأوامر
المقيدة بالقدرة. ولوضوح هذا الحكم وعدم الخلاف فيه من أحد وقع من بعض الأصحاب
الاستدلال عليه بأمور نظر بها بعض المتأخرين، منها ما وقع للمصنف في المعتبر من
التعليل بأنه توصل إلى الطهارة بالقدر الممكن، مع أنه يمكن أن يريد ما سمعته، ومنها
ما وقع لغيره من أنه عند تعذر الحقيقة يصار إلى المجاز مع أنه قد يريد أن خطابات الوضوء
لشمولها لنحو المقام لا بد من حملها على المجاز، والأمر سهل، واعلم أنه لا فرق حينئذ

(1) الوسائل - الباب - 48 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب قضاء الصلوات - حديث 0 - 8
(3) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب قضاء الصلوات - حديث 0 - 8
313

في المتولي بين أن يكون مكلفا أو غيره، لكون المنوب فيه إنما هو من مقدمات الوضوء
وإلا فالوضوء وضوء المضطر، والعبادة عبادته، والنية نيته، وهو المتقرب إلى الله
بهذا الوضوء السائغ في حقه، فما في المدارك من أن النية تتعلق بالمباشر، لأنه الفاعل
للوضوء حقية فيه ما لا يخفى.
((السابعة) لا يجوز للمحدث) أي غير المتطهر شرعا (مس كتابة القرآن) كما في
الخلاف والتهذيب وظاهر الفقيه وعن الكافي وأحكام الراوندي وابن سعيد، واختاره
في النافع والمنتهى والمختلف والقواعد والإرشاد والذكرى والدروس والتنقيح وجامع
المقاصد وغيرها من كتب متأخري المتأخرين، بل هو المشهور نقلا وتحصيلا، بل في
الخلاف الاجماع عليه، كما عن ظاهر التبيان ومجمع البيان، خلافا للشيخ في المبسوط
على ما نقل عنه، وعن ابني إدريس والبراج من الحكم بالكراهة، بل هو قضية المنقول
عن ابن الجنيد، ومال إليه جماعة من متأخري المتأخرين، استضعافا لما تسمعه من أدلة
التحريم، والأقوى الأول لقوله تعالى (1): (وأنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون،
لا يمسه إلا المطهرون. تنزيل من رب العالمين) وهي وإن كانت ليست صريحة في المطلوب
لاحتمال رجوع الضمير إلى الكتاب ويكون المراد بالمطهرين الملائكة لكنها ظاهرة فيه،
لظهور رجوع الضمير إلى القرآن، لكونه المحدث عنه فيها، ولأن ما قبله وما بعده صفة
للقرآن، ولما عن التبيان ومجمع البيان أن الضمير راجع للقرآن عندنا، بل في الأخير
عن الباقر (عليه السلام) (2) على ما حكاه عنه في كشف اللثام أن المعنى المحدثون المطهرون
من الأحداث والجنابات، وأنه لا يجوز للجنب والحائض والمحدث مس المصحف، ولأن
في إرجاع الضمير إلى الكتاب تقييدا للمكنون، والأصل عدمه، على أنه قد يقال:
إن الامساس حقيقة في الامساس البدني، هذا مع ما يظهر من بعض الأخبار أن الضمير

(1) سورة الواقعة - الآية 76
(2) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب الوضوء - حديث 5
314

فيها راجع إليه، كخبر إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليه السلام) (1) قال:
" المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا، ولا تمس خطه، ولا تعلقه، إن الله تعالى
يقول: (لا يمسه إلا المطهرون) " واشتمال الروايات على ما لا يقول أحد به من حرمة التعليق
ونحوه لا يقدح في المطلوب، مع أنه ربما نقل عن السيد العمل بمضمونها، وإلا فإن
اقتضى ذلك الكراهة فليقتض اشتمالها على حكم المعلوم حرمته بالحرمة، ولعل التعليل
بالآية إنما هو للمس خاصة، فتأمل. وبها يظهر رجوع الضمير إلى القرآن وأن الطهارة
بالمعنى المصطلح، كما سمعته في الرواية السابقة، على أنه بعد إرجاع الضمير إلى القرآن
لا مجال لحمل النفي فيها على غير النهي، وحينئذ لا يتجه أن يراد بالطهارة غير المعنى المصطلح
لعدم القول بحرمته من أحد، هذا. مع أنه قد يدعى ثبوت الحقيقة الشرعية في لفظ
الطهارة بهذا المعنى، واستعمالها في المعنى اللغوي كما في قوله (المؤمن طاهر) و (أناس
يتطهرون) (2) و (أزواج مطهرة) (3) أي لا يحضن، ونحو ذلك لا ينافي ما ذكرنا.
ومما يدل على المطلوب مضافا إلى ما سمعته من الآية والرواية والاجماع - مرسل
حريز عن الصادق (عليه السلام) (4) أنه قال لولده إسماعيل: " يا بني اقرأ المصحف،
فقال: إني لست على وضوء، فقال (عليه السلام): لا تمس الكتابة ومس الورق
واقرأه " وخبر أبي بصير (5) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام): عمن قرأ في
المصحف وهو على غير وضوء، قال: (عليه السلام): لا بأس ولا يمس الكتاب " ولا يقدح
ما في السند من ضعف لو سلم لانجباره بالشهرة والاجماع المنقول، بل قد يدعى الاجماع
المحصل، لحمل لفظ الكراهة في كلام الشيخ وابن الجنيد على إرادة الحرمة، على أن

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(2) سورة الأعراف الآية - 80
(3) سورة البقرة الآية - 23
(4) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 1
(5) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 1
315

رواية أبي بصير إما أن تكون صحيحة أو موثقة على الكلام في الحسين بن المختار،
وخبر حريز وإن كان مرسلا إلا أنه في السند حماد، وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح
ما يصح عنه، فلا يقدح ضعف من بعده على أحد الوجهين في تفسيرها، وبذلك كله
مع المناسبة لتعظيم الكتاب ينقطع الأصل المتمسك به لنفي الحرمة، مع حمل ما سمعت
من الأدلة على الكراهة لمكان ضعفها، ولم أعثر على دليل لهم سوى ذلك، وفيه
من الضعف ما لا يخفى.
والأقوى إلحاق لفظ الجلالة به، بل سائر أسمائه المختصة به، لظهور النهي
عن المس للقرآن في التعظيم، بل كاد يكون صريح الآية، ولا ريب أن لفظ الجلالة
ونحوه أحق بالتعظيم من سائر ألفاظ القرآن كما هو واضح لا يحتاج إلى بيان، لأنه خير
الأسماء، ولذا اختص به، وكذا الأسماء الحسنى، ومن العجيب من بعض المتأخرين
كالخوانساري أنكر ذلك، متمسكا بالأصل، وإن أقصى ما يستفاد من الأدلة القرآن
خاصة وما في خبر أبي الربيع (1) " في الجنب يمس الدراهم وفيها اسم الله تعالى واسم
رسوله (صلى الله عليه وآله) قال (عليه السلام): لا بأس ربما فعلت " فهو - مع الغض
عما في السند ومعارضته بغيره محمول على عدم كون المس للاسم، وكونه عليه لا يلزم
ذلك، وهل يلحق بذلك أسماء الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)؟ وجهان.
ثم إن ظاهر ما سمعته من الأدلة اختصاص الحكم بالمكلفين، كما في غيره من
التكاليف، فلا يحرم على الصبيان ونحوهم قطعا، لكن هل يحرم على الولي أو غيره
تمكينهم من ذلك، ويجب عليه منعهم منه لو حصل، أولا؟ قولان، فظاهر المعتبر
والمنتهى والتحرير أنه يجب عليه منع الصبي من المس، واستقر به في الذكرى قبل الوضوء،
وجعله وجها بعد الطهارة، لعدم ارتفاع حدثه، ولعل مستندهم أن عدم المنع مناف
للتعظيم، كعدم المنع من إلقاء النجاسات ونحوها، وأن قوله: (لا يمسه إلا المطهرون)

(1) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب الجنابة - حديث 4
316

بعد تعذر الحقيقة تحمل على أقرب المجازات، فيراد منها حينئذ أنه لا يقع المس من غير
الطاهر، فالكل مكلفون بذلك لأنفسهم وغيرهم، إلا أن الأقوى العدم للأصل،
مع المنع من كونه منافيا للتعظيم عرفا، سيما بعد فرض كون المس كالبهيمة، ولا شرعا
لعدم ما يدل عليه، على أنه لا دليل على وجوب أكمل التعظيم، نعم تحرم الإهانة
والاستحقار، وهما غير متلازمين، ودعوى أن مس الطفل المحدث ونحوه من المجنون
وغيره منه ممنوع، وظهور قوله: (لا يمسه إلا المطهرون) بعد صرفه عن ظاهره في إرادة
التكليف للبالغ مثلا نفسه كما في غيره من التكاليف، مع السيرة القاطعة في سائر الأعصار
على خلافه، بل الأمر بتعليم الأطفال قراءة القرآن مما يشعر بالجواز، لكونه من
ضرورياته عرفا، سيما مع القول بأن طهارتهم تمرينية لا شرعية، ومن هنا اختار بعض
المتأخرين عدم الحرمة، لكن في الحدائق أن القول بالحرمة لا يخلو من قوة، نظرا إلى
عموم الأدلة على التحريم، وعدم توجه الخطاب فيها إلى الطفل لما ذكرنا لا ينافيه التوجه
إلى وليه، وفيه أن عدم المنافاة لا يقتضي بالتوجيه، والكلام في الثاني، واحتمال
عموم الأدلة بهذا المعنى مما لا وجه له، وإلا لجرى في غيره من التكاليف كالكذب
والغيبة ونحوهما.
ثم المدار في المس على العرف كما في غيره من الألفاظ، والظاهر تحققه بمباشرة
بعض أجزاء البدن من يد أو غيرها مما حلته الحياة أولا، نعم يمكن استثناء الشعر سيما
إذا كان مسترسلا جدا، كما أن الظاهر أنه لا فرق بين الظواهر من البدن والبواطن،
وكل ما شك في كونه فردا للمس لشك في المفهوم فالأقوى وجوب اجتنابه للمقدمة،
وأما المس بخارج البدن كالثياب ونحوها فلا حرمة فيه قطعا، وإجماعا محصلا ومنقولا،
والمدار في الممسوس على ما يسمى قرآنا أي مقروءا، تحققت فيه الكتابة كما في أكثر
الأفراد أولا، كما إذا صنع بالمقراض أو بالنسج ونحو ذلك، فإن الظاهر عدم تسمية
مثل ذلك كتابة، ولا ينافيه وجود النهي عن الكتابة، لعدم التعارض، واحتمال
317

جعل النهي عن مس القرآن من المطلق الذي ينصرف إلى الشائع من الأفراد ضعيف
مناف للمستفاد من سياق الآية وغيرها من كون المنشأ في ذلك التعظيم، وبذلك يظهر
أنه لا فرق في المكتوب بين المستقيم والمقلوب والمنقوش وغيرها. كما أن الظاهر أنه
لا فرق في المجتمع. منها والمفرق، فيجري الحكم على الآيات المكتوبة في كتب الفقه الحديث
وغيرها مما كان على سلاح أو إناء ونحوهما، وما في بعض الأخبار (1) من المصحف
لا دلالة فيه على اشتراط النهي عنه بذلك، على أن المس فيه إنما يقع على البعض، وخبر
محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (2) كما نقله عن جامع البزنطي قال: " سألته
هل يمس الرجل الدرهم الأبيض وهو جنب؟ فقال (عليه السلام): والله إني لأوتي
بالدرهم، فأخذه وإني لجنب، وما سمعت أحدا يكره من ذلك شيئا إلا أن عبد الله بن
محمد كان يعتبهم عتبا شديدا، يقول: جعلوا سورة من القرآن في الدرهم، فيعطى الزانية
وفي الخمر، ويوضع على لحم الخنزير " لا دلالة فيه على الجواز مس السورة إذا كانت
مكتوبة على الدرهم، إلا أن الشهيد في الذكرى (رحمه الله) رواها على وجه فيه دلالة،
ثم احتمل أن الوجه في ذلك سلب اسم المصحف أو الكتاب عنه أو لزوم الحرج بلزوم
تجنب ذلك، قلت: والأولى خلافه، والظاهر أنه لا فرق بين مصطلحات الكتاب
بعد صدق الاسم من الكوفية والعربية والفارسية وغيرها، نعم لو حصل بابداع خاص
لم يعرف كونه من الكتابة فالظاهر عدم جريان الحكم، كالذي يحصل من تفطير الأرض
وسفيان الرياح، فإنه تركيب للواهمة التي لا تقف تركيباتها على حد.
وأما المشترك منه فالظاهر أن المدار فيه على قصد الكاتب، ومع عدم العلم به
فالأصل عدمه، وهل يجري نحو ذلك منه في الكلمات والحروف وأبعاضها؟ إشكال،
سيما في الأخيرين، وسيما مع العدول عنه وجعله جزء كلمة أخرى أو كلام آخر، والظاهر

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب الوضوء - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب الجنابة - حديث 3 مع تقطيع في الوسائل
318

قصر الحرمة على الحروف والكلمات من القرآن، وكذا المد والتشديد، وأما الحركات
الاعرابية والبنائية ونحوهما فقد صرح بعضهم بخروجها، لصدق اسم الكتاب والقرآن
بدونها، ويحتمل قويا الالحاق، لكونها بعد وجودها صارت أجزاءا أو كالأجزاء،
وكونها رسوما لا تدل على حرف لا ينافي ذلك، فإن الألف التي تكتب بعد واو الجماعة
لا دلالة فيه على حرف مع أنها من الكتابة قطعا، فتأمل. نعمم لا يجري الحكم فيما يكتب
في القرائين من الأجزاء والأحزاب والأعشار ونحوها، لكونها ليست من القرآن قطعا
وكذا أسماء السور ما لم تك من القرآن، ولا فرق فيه بين منسوخ الحكم وعدمه إذا لم
تنسخ التلاوة، وأما منسوخها فقد صرح بعضهم بعدم جريان الحكم فيه من غير فرق بين
المنسوخة قبل آية التحريم وبعدها، ولقد أطال الأستاذ في كشف الغطاء في كثرة
التفريع في المقام، من أراده فليراجعه، وكيف كان فقد بان لك أنه لا إشكال في
أنه يجوز له أن يمس ما عدا الكتابة للأصل وغيره.
((الثامنة) من به السلس) أي الداء الذي لا يتمسك بسببه بوله كما عن مجمع البحرين
وصرح به غير واحد من الأصحاب، (قيل يتوضأ لكل صلاة) عندها، فلا يجمع
بين صلاتين فما زاد بوضوء، كما هو خيرة الخلاف والمعتبر والإرشاد والقواعد والتحرير
والدروس والذكرى والتنقيح وجامع المقاصد وغيرها، واستحسنه المصنف في النافع
وهو الظاهر من المختلف أيضا، وفي السرائر أن سلس البول على ضربين، الأول
أن يتراخى فيه زمان الحدث فليتوضأ للصلاة، فإذا بدره الحدث وهو فيها خرج وتوضأ
وبنى، الثاني أن يخرج على التوالي من غير تراخ بين الأحوال فليجدد الوضوء لكل
صلاة، ولعل مختاره أيضا ما ذكرنا، وكيف كان فهذا القول هو المشهور بين الأصحاب
نقلا وتحصيلا، بل قد يظهر من الخلاف دعوى الاجماع عليه. وقيل يصلى بوضوء
واحد صلوات إلى أن يحدث حدث آخر كما عن المبسوط، ومال إليه بعض متأخري
المتأخرين وهو وإن كان كلامه محتملا لرفع ناقضية البول أصلا في خصوص المقام إلا أن
الأظهر كون مراده رفع ناقضية ما يخرج منه بلا قصد واختيار، وأما ما خرج منه بالقصد
319

على حسب سائر الناس فهو ناقض، أو يريد رفع حكم هذه القطرات ما دام الداء،
وتظهر الثمرة فيما لو ارتفع الداء بعد فعل الوضوء، فتأمل. وقيل يصلي الظهر والعصر
بوضوء، والمغرب والعشاء بوضوء، والصبح بوضوء. كما هو خيرة العلامة في المنتهى،
وربما مال إليه بعض متأخري المتأخرين أيضا.
حجة (الأول) عموم ما دل على ناقضية البول، والضرورة تتقدر بقدرها،
فيقتصر على الصلاة الواحدة. وما دل على الأمر بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، خرج
ما خرج وبقي الباقي، ولأنه إن اقتضى تكرير الحدث إيجاب الطهارة فهو المطلوب، وإلا
فلا يقتضي في المستحاضة لكونه تكريرا، واللازم باطل فالملزوم مثله.
وحجة (الثاني) ما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق (1) قال: " سألته عن
رجل أخذه تقطير في فرجه إما دم أو غيره، قال: فليضع خريطة وليتوضأ وليصل،
فإنما ذلك بلاء ابتلي به، فلا يعيدن إلا من الحدث الذي يتوضأ منه " فإن الظاهر أن
المراد بالحدث الذي يتوضأ منه ما كان خارجا على حسب المعتاد، فلا يعتد بالتقطير
الذي اعتراه من المرض ونحوه لا نجاسة ولا حدثا، ولعل التعليل فيها إشارة إلى ما ورد من
الأخبار الكثيرة أنه (كل ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر). وفي بعضها أنه (ليس
على صاحبه شئ) وقد ورد في حقها (إنها من الباب التي ينفتح منها ألف باب، ومما
سمعت تصح دلالتها على كون المراد منها أن كل ما غلب الله من الشرط أو المانع أو الجزء
أو الكل فالله أولى بالعذر فيه، بمعنى يسقط حكم المغلوب عليه، ويبقى الباقي. فيكون
المعنى أن الله غلب عليه بهذا الاخراج من البول مثلا، فيسقط حكمه من الناقضية لهذا
الوضوء، ونحوه، فتأمل. وبما رواه في الكافي في الحسن عن منصور بن حازم (2) قال:

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 9
(2) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2
320

" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يقطر منه البول ولا يقدر على حبسه،
فقال (عليه السلام): إذا لم يقدر على حسبه فالله أولى بالعذر، يجعل خريطة " وقد
يشعر به ترك الأمر بالتجديد في خبر الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1) قال:
" سئل عن تقطير البول، قال (عليه السلام) يجعل خريطة إذا صلى " وخبر عبد
الرحمان (2) قال: " كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) في خصي يبول، فيلقى
من ذلك شدة، ويرى البلل بعد البلل، قال (عليه السلام): يتوضأ ثم ينتضح ثوبه
في النهار مرة " كل ذلك من استصحاب حكم الوضوء الأول، والشك في شمول ما دل
على ناقضيته لمثل ما نحن فيه. ولو سلم فهي من قبيل المطلق والمقيد أو العام والخاص،
فيحمل عليه وإن كان الخاص ذا أفراد، فلا وجه لحمله على بعض الأحوال دون بعض
والحمل على المستحاضة قياس لا نقول به.
ومستند (الثالث) صحيح حريز بن عبد الله (3) عن الصادق (عليه السلام) قال:
" إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم إذا كان حين الصلاة اتخذ كيسا وجعل فيه قطنا
ثم علقه عليه وأدخل ذكره فيه ثم صلى يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر يؤخر الظهر
ويعجل العصر بأذان وإقامتين، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء بأذان وإقامتين، ويفعل
ذلك في الصبح " إذ لو لم يكن ذلك للاكتفاء بالوضوء الواحد لم يكن للجمع فائدة، ومنه
يعلم عدم الجواز في الزيادة أيضا، قلت: قد يقال: إنه مع الشهرة التي كادت تبلغ
الاجماع بل قد عرفت إشعار عبارة الشيخ في الخلاف بالاجماع على التجديد لكل صلاة
يضعف تحكيم ما سمعت من الأخبار المذكورة للمبسوط على العمومات، على أنها غير
صريحة في المقام، لاحتمال الأول منها غير البول، والمراد رفع الحكم عن مانعية النجاسة

(1) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 8 عن عبد الرحيم
(3) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 1
321

للصلاة، مع أنه لا تعرض فيه لعدم إيجاب الوضوء كالثاني، وكون الله أولى بالعذر
لا دلالة فيه على ما نحن فيه، لكونه متمكنا منه بالنسبة إلى كل صلاة، وجعل الخريطة
في الثالث لا ينافي ذلك، واحتمال خبر الخصي البلل المشتبه، وكذلك خبر العلامة،
فإنه يحتمل أن يكون الفائدة في الجمع للنجاسة واستمرار الحدث لا بالنسبة إلى عدم تجديد
الوضوء، وبهذا يظهر قوة كلام المشهور.
لكن يبقى الاشكال في تقرير القاعدة بالنسبة إلى جميع أفراده فنقول: إن المسلوس
الذي حدثه مستمر بحيث لا تسلم له طهارة يفعل معها بعض الصلاة بل كان متواليا فالأصل
الأول يقتضي سقوط الصلاة بتعذر شرطها كفاقد الطهور إلا أن الاجماع بحسب الظاهر
على عدم سقوطها كالاجماع على وجوب هذه الصورة من الوضوء للصلاة الأولى، وأما
بالنسبة إلى غيرها من الصلاة فلا إجماع، لما عرفته من مخالفة الشيخ. اللهم إلا أن
يقال: إن الشغل اليقيني موجب للبراءة اليقينية وهي منحصرة في ذلك، أو يقال: إن
الأدلة قاضية بوجوب الوضوء لكل صلاة وإن لم يكن طهارة أي رافعا، أو يقال: إن
البول مثلا موجب للوضوء سقط محل الاضطرار فيبقى الباقي، لكنه في الأخيرين محل
منع، والأول مبني على شرطية ما شك فيه.
وأما المسلوس الذي له فترات يتمكن فيها من فعل الطهارة وبعض الصلاة فهل
الأصل بعد الاجماع على عدم سقوط الصلاة يقتضي سقوط حكم الحدث الواقع في الأثناء
أو يقتضي فعل الطهارة في أثناء الصلاة ثم البناء على ما مضى في صلاته؟ واحتمال القول
أن الاجماع منعقد على عدم الحاجة في نحوه إلى الطهارة في الأثناء فيه أن أقصى ما هناك
أن الاجماع منعقد على الصحة وعدم البطلان بوقوع الحدث في الأثناء لا عدم الحاجة إلى
التجديد، وإلا فقد عرفت من ابن إدريس وجوب الطهارة في الأثناء في نحو ذلك،
بل ربما ظهر من جماعة أن له حكم المبطون حينئذ، وستعرف أن ذلك حكمه لمكان،
الأخبار، وما في المعتبر في المقام من الاتفاق على العفو على الحدث بالنسبة إلى الصلاة
322

الواحدة لعله في غير المقام، فتأمل.
والحاصل لا أعرف أصلا يرجع إليه في ذلك، إذ كما أن القول بعدم الالتفات
إلى هذا الحدث وفعل الصلاة من غير تجديد مخالف للضوابط كذلك فعل الطهارة في
أثناء الصلاة، اللهم إلا أن يقال: إنه لما قام الاجماع على الصحة مع تخلل الحدث فحكمها
مستصحب، لأصالة براءة الذمة من الوجوب في الأثناء، على أنه مخالف لما دل من
مانعية الفعل الكثير، بل قد يكون ماحيا، ولكن يمكن ترجيح الأول بموافقة أخبار
المبطون (1) وبكونه أقرب إلى قوله (عليه السلام): (2) (لا صلاة إلا بطهور) وسقوط
الاستمرار بعد تسليم الدليل شموله لمثل المقام لا يمنع من ذلك، فلعل ذا هو الأقوى ما لم
يكن في التكرير عسر وحرج، والقول بوجوب فعل صلاتين بالكيفيتين تحصيلا للبراءة
اليقينية لا يخلو من وجه، كما أنه يحتمل أن يقال: المراد بالمسلوس في كلام الأصحاب
ما لا يشمل نحو هذه الصورة، وإلا فهو في هذه مساو للمبطون كما يظهر من الشهيد في
الدروس وغيره، لكن فيه أنه لم يستثن في كلامهم سوى من كانت له فترة تسع الطهارة
والصلاة، والغرض من هذا الكلام أنه بعد إعراض المشهور عن ما سمعت من الأخبار
رجعوا إلى ما تقتضيه القواعد، إلا أنه في انطباق جميع ما ذكروه على مقتضاه بالنسبة
إلى سائر الأفراد لا يخلو من تأمل كما عرفت وعليك بإمعان النظر فيما ذكرنا من تنقيح
الأصل في المقام، لينفعك في غير محل النص، كمسلوس الريح إن لم نقل بدخوله تحت
المبطون ومسلوس النوم وغيرهما، ولعل كلام الشيخ في المبسوط هنا لا يخلو من قوة،
لأن جميع ما سمعته من المناقشات ليست سالمة من مثلها.
ثم اعلم أن مقتضى ما تقدم من الأخبار وجوب الاستظهار على المسلوس بمنع تعدي
النجاسة بأن يضع خريطة أو كيسا كما صرح به جماعة من الأصحاب، بل في جامع

(1) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب نواقض الوضوء
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الوضوء - حديث 1
323

المقاصد نسبته إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الاجماع عليه، ويؤيده مع ذلك الاحتياط
في العبادة، نعم الظاهر المنع بالممكن بوضع القطن، فلا يتعين نحو الكيس وإن أمكن
القول بوجوبه مع إمكانه، لاحتمال أنه أقرب إلى صيرورته من قبيل الأجزاء الباطنة،
إلا أني لم أقف على كلام لهم في وجوب خصوص ذلك، بل أوجبوا الاستظهار الشامل
له ولغيره، وهل يجب تغييرها عند كل صلاة أو التطهير اقتصارا على المتيقن؟ ليس في
الأخبار إشعار بذلك، بل الظاهر منها العدم، وليعلم أيضا أنه بناء على المشهور من
نقض الحدث المتكرر للطهارة وأنه مبيح للصلاة ينبغي أن يقتصر في إباحته على محل اليقين،
فليس له أن يمس الكتاب مثلا ولو حال الصلاة، لكن يمكن إلحاق الواجب المشروط
بالطهارة بها على إشكال، إذ لم يعلم وجوبها في حال تعذر الشرط، ولا إجماع والتنقيح
لا منقح له، ومنه يظهر الاشكال في المستحبات المشروطة بها، لكن قد يقال به بالنسبة
للنوافل خاصة، لاطلاق قوله (يصلي) ونحوه، فتأمل. فإن المسألة من المشكلات،
ولم أعثر على من حررها، ولعل ذلك كله يرجح قول الشيخ من عدم الالتفات إلى
حكم هذا الحدث.
ثم إن الحكم في المسلوس ما سمعت ما لم يكن له فترة تسع الطهارة والصلاة، وإلا
وجب الانتظار كما صرح به جمع من الأصحاب، بل لا أجد فيه خلافا هنا سوى
ما ينقل عن الأردبيلي من احتمال عدم الوجوب، لاطلاق الأدلة، وحصول الخطاب
بالصلاة، فيقع الفعل بحسب الامكان في ذلك الوقت، لأنه من قبيل انقلاب التكليف،
والمسألة سيالة في جميع ذوي الأعذار، لكن يمكن منع شمول الاطلاق لنحو المقام،
كمنع الخطاب بالصلاة على هذا الحال مع العلم بالتمكن من الشرط في ثاني الأوقات، ولعل
التفصيل في الأعذار بين ما يستظهر منها أنها من قبيل انقلاب التكليف وصيرورتها تكليفا
ثانيا وبين ما يستظهر منها أنها اضطرارية محضة كصلاة المكتوف ونحوه لا يخلو من قوة،
فيجوز في الأول دون الثاني، والمشكوك فيه من قبيل الثاني ما لم يظهر خلافه، بل لعله
324

لا يجوز في الثاني مع احتمال زوال العذر حتى يضيق الوقت، ليتحقق مناط الجواز، وهو
الضرورة، إذ بدونه لا يحصل العلم بالاضطرار، نعم قد يقال: إن له التمسك
باستصحاب عدم التمكن فيبادر، إلا أنه متى ارتفع العذر وجب عليه الإعادة، إذ
اقتضاء الأمر الاجزاء في نحو ذلك ممنوع كما قد عرفته غير مرة، وكان ما نحن فيه
من قبيل الثاني، فلذا صرح الأصحاب بوجوب الانتظار عليه. لكن هل يجب عليه
انتظار زمن الخفة؟ إشكال، ولو أمكن التحفظ عن الحدث بالصلاة جالسا أو موميا أو
نحوهما قيل يجب، وفيه أنه مخالف لاطلاق الأدلة، على أنه تخلص عن الضرورة
بالأضر منها في بعض الأحوال، فتأمل جيدا.
(وقيل من به البطن) بالتحريك أي من به إسهال أو انتفاخ في بطن أو من
يشتكي بطنه كما عن مجمع البحرين، وفي المعتبر وعن التذكرة أن المبطون هو الذي به البطن
وهو الذرب، (إذا تجدد حدثه في الصلاة يتطهر ويبني) كما في الوسيلة ومحتمل النهاية
والمعتبر والنافع والمنتهى والذكرى والدروس واللمعة والروضة وغيرها من كتب متأخري
المتأخرين وعن الجامع والاصباح، بل هو المشهور نقلا وتحصيلا، وظاهر المصنف وجماعة
كصريح غيره أن المراد به من كانت له فترات يتمكن معها من فعل بعض الصلاة بطهارة لا من
كان حدثه متواليا متواترا، فإن الظاهر فيه أنه يتوضأ مرة واحدة لكل صلاة كالمسلوس
الذي هو كذلك كما صرح به بعضهم، ولظهور ما تسمعه من أدلة المبطون في خلافه.
وكيف كان فالذي يقوى في نظري بعد كمال التأمل في كلمات الأصحاب أن
محل النزاع في المقام ما سمعته من الصورة، لا ما إذا كان متواليا ولا ما إذا كانت له فترة
تسع الطهارة والصلاة وإن احتمل بعضهم كون النزاع فيه، لكن ينافيه التأمل في مطاوي
كلماتهم بل تصريح بعضهم، فنقول حينئذ أن المشهور فيه ما تقدم، وقال العلامة في
المختلف والقواعد والإرشاد وعن التذكرة ونهاية الإحكام أنه إن كان يتمكن من حفظ
نفسه بمقدار الصلاة تطهر واستأنف الصلاة من رأس، وإن لم يكن متمكنا من ذلك بأن
325

كان دائما لا ينقطع بنى على صلاته من غير تجديد في الأثناء كصاحب السلس، إذ لا فائدة
في التجديد، لأن هذا المتكرر إن نقض الطهارة نقض الصلاة، لما دل على اشتراط
الصلاة باستمرارها، وفيه - بعد تسليم شمول دليل الشرطية لنحو المقام على وجه يرتفع
به الاستدلال عن المصادرة في المقام - أنه اجتهاد في مقابلة النص المعتضد بفتوى المشهور،
بل لم يعرف فيه مخالف قبله، ففي موثق ابن مسلم عن الباقر (عليه السلام) (1) قال:
" صاحب البطن الغالب يتوضأ ثم يرجع في صلاته فيتم ما بقي " وفي صحيحة عنه
(عليه السلام) أيضا (2) قال: " صاحب البطن الغالب يتوضأ ويبني على صلاته " وعليهما
يحمل صحيحه الآخر (3) قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المبطون، فقال:
يبني على صلاته " بل قد يشعر به أيضا صحيح الفضيل بن يسار (4) قال: " قلت لأبي
جعفر (عليه السلام): إني أكون في الصلاة فأجد غمزا في بطني أو أذى أو ضربانا، فقال:
انصرف ثم توضأ وابن علي ما مضى من صلاتك ما لم تنقض الصلاة بالكلام متعمدا،
وإن تكلمت ناسيا فلا شئ عليك، فهو بمنزلة من تكلم في الصلاة ناسيا، قلت: وإن
قلب وجهه عن القبلة قال: نعم وإن قلب وجهه عن القبلة " وخبر أبي سعيد القماط (5)
أنه " سمع رجلا يسأل الصادق (عليه السلام) عن رجل وجد غمزا في بطنه أو أذى أو
عصرا من البول وهو في الصلاة المكتوبة في الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة
فقال (عليه السلام): إذا أصاب شيئا من ذلك فلا بأس بأن يخرج لحاجته تلك فيتوضأ ثم
ينصرف إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه، فيبني على صلاته من الموضع الذي خرج منه
لحاجته ما لم ينقض الصلاة بكلام " وهما وإن كانا لا صراحة فيهما فيما نحن فيه إلا أن تنزيلهما

(1) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4
(2) الفقيه - ج 1 - ص 237 - من طبعة النجف
(3) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 3
(4) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب قواطع الصلاة - حديث 9 - 11
(5) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب قواطع الصلاة - حديث 9 - 11
326

على ما ذكرنا من الأخبار أولى من غيره إن لم نقل أن التمسك باطلاقهما، وما وقع من
كاشف اللثام تبعا للعلامة في التذكرة من الطعن في دلالة جميع ما سمعت من الأخبار لمكان
الاحتمالات البعيدة مما لا يصغى إليه، لما فيه من انسداد باب العمل بظواهر الكتاب والسنة
بمجرد الاحتمال، على أن ارتكاب التأويل فيها مما لا باعث عليه سوى ما سمعته من التلازم بين
نقض الطهارة ونقض الصلاة، وفيه مع إمكان منع شموله للمقام أن تجديد الطهارة في
الأثناء أقرب للضوابط من الاستمرار على الحدث، واحتمال عدم نقض الطهارة بمثل
هذا الحدث كما هو مذهب الشيخ في المبسوط فيه ما عرفته سابقا من المخالفة للمشهور،
بل هذا القائل لم يوافقه عليه هناك، والمنافاة للأدلة الكثيرة الظاهرة كمال الظهور في
ناقضية طبيعة البول، ودعوى أن الاستمرار على الحدث أولى من فعل الطهارة في الأثناء
ثم الاتمام فيه ما عرفته سابقا في المسلوس.
ومن هنا اتجه إلحاق المسلوس الذي يكون حاله كحال المبطون في الفترات بالمبطون
كما صرح به جماعة، ولا ينافيه كلام آخرين، نعم قد يظهر من بعضهم اختصاص
هذا الحكم بالمبطون دون المسلوس، والأقوى خلافه، وإن كان فعل الصلاتين على
الحالين أوفق بالاحتياط، كما أن الظاهر أن المبطون الذي يكون حاله كحال المسلوس
الذي لا فترة له بحيث لا يسعه الطهارة والصلاة ولو بالتكرير يستمر ولا يحتاج إلى تجديد
في الأثناء، لظهور النصوص والفتاوى في من تمكن من فعل الصلاة بطهارة ولو مع
التكرير، كما لا يخفى على المتأمل، والظاهر أنه لا يقتصر على التكرير مرة واحدة وإن
تجدد الحدث بعدها، بل يفعل أيضا وهكذا ما لم يكن مستمرا للحدث بحيث يتعذر
التكرير أو يتعسر لعدم سعة زمن الفترة.
ثم إنه إذا كان الثاني فهل يترك التكرير من أول الأمر أو إلى أن يصل إلى حد
الحرج؟ وجهان، منشأهما تقدير الضرورة بقدرها واحتمال وجوب تقليل الحدث مهما
أمكن، ومن أن التكليف الحرجي لا يلحظ فيه نحو ذلك كما في كثير من أفراده، وبما
327

ذكرنا يتضح لك الحكم في مستمر الحدث غير السلس والبطن كالنوم مثلا، وحاصل
الكلام في الجميع أنه إن كان له زمان يسع الطهارة والصلاة وجب الانتظار على المشهور،
وإن لم يكن كذلك فإما أن يكون مستمرا متواليا ليست له فترات أولا، فإن كان
الأول توضأ لكل صلاة على ما عرفت، لكن يجب أن يكون عندها لا مقدما عليها،
وإن كان الثاني فإن لم يكن في التكرير عسر وحرج وجب، وإلا سقط رأسا أو إلى
أن يصل إلى ذلك على الوجهين.
(وسنن الوضوء)
و (هي وضع الإناء على اليمين) كما في المقنعة والمبسوط والوسيلة والمراسم والمهذب
والكافي والجامع والنافع والمعتبر والمنتهى والقواعد والتحرير والإرشاد والدروس
والذكرى والنفلية وشرحها وجامع المقاصد وغيرها، بل في المعتبر والذكرى وغيرهما
نسبته إلى الأصحاب مشعرين بدعوى الاجماع عليه، وكفى به دليلا لنحو المقام
إذ هو من السنن التي يتسامح فيها، للرجحان العقلي في فعل ما يحتمل استحبابه احتمالا
معتبرا، مضافا إلى ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) (1) " أنه كان يحب التيامن
في طهوره وتنفله وفي شأنه كله " وإن كان الظاهر أنها رواية عامية، والمروي (2)
عند الخاصة عن النبي (صلى الله عليه وآله) " إن الله يحب التيامن في كل شئ " لكن
مقتضاه ثبوت الاستحباب في غير المقام، مع أنا لم نعثر على من نص عليه بالنسبة إلى
غسل النجاسات ونحوها، ولا ينافيه ما في بعض أخبار الوضوءات البيانية أنه (عليه
السلام) (3) " دعا بقعب فوضعه بين يديه " لصدقه على ما إذا كان عن يمينه، وربما
علله بعضهم بأنه أمكن في الاستعمال وأدخل في الموالاة، وكأنه إشارة إلى ما ورد في

(1) صحيح البخاري - باب التيمن في الوضوء والغسل - من كتاب الوضوء
(2) المستدرك - الباب - 30 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2
328

الأخبار على ما قيل " إن الله يحب ما هو الأيسر والأسهل " وهو بوضعه على اليمين
لما ستعرفه أن الوضوء بالاغتراف بها، ولعله لذا جعله بعضهم أدبا إن قلنا بالفرق بينهما
بأن يراد بالثاني ما يستفاد مطلوبيته ورجحانه من ممارسته مذاق الشرع وإن لم يرد به دليل
بالخصوص، فتأمل. ولعله لما سمعت من التعليل خص جملة من الأصحاب الاستحباب
بما إذا كان الوضوء من إناء يغترف منه، أما إذا كان ضيق الرأس فالمستحب وضعه
على اليسار، لأنه أمكن في الاستعمال، قلت: ولعل إطلاق كثير منهم استحباب
وضعه على اليمين مبني على استحباب كون إناء الوضوء مما يغترف منه، لأنه المستفاد
من الوضوءات للبيانية، والظاهر قصر الاستحباب على ما إذا كان الوضوء من إناء ونحوه
لا ما كان من حوض أو نهر ونحوهما، مع احتمال ذلك فيهما بوضعهما على جهة اليمين،
أو جعل للناحية التي يغترف منها عليه، كما أن الظاهر قصره على نفس المباشر، فلا
يجري بالنسبة إلى النائب ونحوه، ولا فرق في الاستحباب بين كون الرجل أيمنا أو
أيسرا، واحتمال جعل يسار الأيسر يمينا بالنسبة إليه ضعيف.
(والاغتراف بها) كما في كثير من الكتب المتقدمة، بل في المعتبر والذكرى
نسبته إلى الأصحاب، ويدل عليه - مضافا إلى ذلك إلى ما سمعته في سابقه - بعض
الوضوءات البيانية، وفي صحيحة (1) أو حسنة ابن أذينة أنه " لما دنا رسول الله (صلى
الله عليه وآله) من صاد وهو ماء يسيل من ساق العرش الأيمن فتلقى رسول الله (صلى الله
عليه وآله) الماء بيده اليمنى، فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمين " إلى آخرها قلت: بل
ينبغي القطع به بالنسبة إلى غير غسلها، وأما ما هو فالمستفاد من كثير من الوضوءات البيانية
الاغتراف باليسرى لغسل اليمنى، واحتمال الجمع بينهما بالحمل على التخيير فلا استحباب
حينئذ بعيد، كالحمل على استحباب الاغتراف بها لغير غسلها، وإلا فالمستحب الأخذ
باليسرى، مع ما في الأخير من منافاة إطلاق كثير من الأصحاب كالمصنف وغيره،

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 5
329

بل صريح بعضهم وصريح بعض الوضوءات البيانية (1) أنه " أخذ كفا آخر بيمينه فصبه
على يساره، ثم غسل به ذراعه الأيمن " نعم يحتمل في الجميع أنه لم يقصد منها بيان
المستحب، بل المراد بيان الواجب، فلا يستدل بشئ منها على المقام، فيرجع إلى
غيرها من الأدلة، وهي تقضي باطلاق الاستحباب حتى في غسلها، كقوله (عليه السلام):
(فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمين) وغيره، ويكتفى حينئذ بالاستدلال بها على المطلوب.
(والتسمية) بلا خلاف أجده، بل في الغنية والمعتبر والمنتهى والذكرى وغيرها
الاجماع عليه، وهو الحجة، مضافا إلى المعتبرة المستفيضة التي ستسمع بعضها، فما في
مرسل ابن أبي عمير عن الصادق (عليه السلام) (2) " إن رجلا توضأ وصلى، فقال له
النبي (صلى الله عليه وآله): أعد وضوءك وصلاتك، حتى فعل ذلك ثلاث مرات،
فشكى ذلك إلى علي (عليه السلام)، فقال له: هل سميت حيث توضأت؟ فقال: لا،
قال: سم على وضوئك، فسمى وتوضأ فلم يأمره بالإعادة " مع موافقته للتقية محمول
على تأكد الاستحباب كما حمله بعض الأصحاب، إلا أنه يشكل العمل بمضمونه بالنسبة
إلى مشروعية إعادة الوضوء والصلاة لترك هذا المستحب، وربما ارتكبه بعضهم،
ولا يخلو من تأمل، بل الأولى حمله على التقية، أو يراد بترك التسمية النية كما حمله
الشيخ عليه.
(والدعاء) بالمأثور عندها كما صرح به جملة من الأصحاب، ففي المرسل (3)
" كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا توضأ قال: بسم الله وبالله وخير الأسماء لله
وأكبر الأسماء لله، وقاهر لمن في السماء، وقاهر لمن في الأرض، الحمد لله الذي
جعل من الماء كل شئ حي، وأحيى قلبي بالايمان، اللهم تب علي وطهرني، واقض
لي بالحسنى، وأرني كل الذي أحب، وافتح لي بالخيرات من عندك يا سميع الدعاء "

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 7
(2) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 7
(3) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 7
330

وفي المروي عن الخصال عن علي (عليه السلام) (1) أيضا قال: " لا يتوضأ الرجل حتى
يسمي، يقول قبل أن يمس الماء: بسم الله وبالله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني
من المتطهرين " وفي كثير من الأخبار (2) إن " من ذكر اسم الله على وضوئه طهر جسده
كله " وفي بعضها (3) (فكأنما اغتسل) " ومن لم يذكر اسم الله على وضوئه طهر من
جسده ما أصابه الماء " (4) بل في جملة منها ما يستفاد منها مرجوحية تركها، لاشتمالها
على أن " من لم يسم على وضوئه كان للشيطان فيه شرك " (5) ولاطلاق الأمر بالتسمية
في النص والفتوى يستفاد استحبابها وإن لم يأت بالدعاء، إلا أن الأظهر الاتيان بلفظ
بسم الله لكونه المتبادر من التسمية، بل قد يدعى أنه المتبادر منها بسم الله الرحمان الرحيم
لكن ينافيه ما سمعت من الأخبار الواقع فيها بيانها، نعم احتمال القول باستحباب ذكر
لفظ الجلالة عند الوضوء وإن لم يكن بلفظ التسمية لا يخلو من وجهه، لما سمعته عن
الصادق (عليه السلام) (6) أنه قال: " من ذكر اسم الله على وضوئه فكأنما اغتسل "
لظهوره في إرادة الاسم من التسمية، ويؤيده ما في خبر معاوية بن عمار (7) عن الصادق
(عليه السلام) " فإذا توضأت فقل: أشهد أن لا إله إلا الله، اللهم اجعلني من التوابين،
واجعلني من المتطهرين، والحمد لله رب العالمين " فإنه لم يذكر فيه لفظ التسمية، إلا
أن ظاهر غيرهما من النص والفتوى استحباب لفظ التسمية، والأولى الاقتصار عليه
لكونه المتيقن، فلا يكتفى بالمشكوك فيه مع وجوده، بل قد يدعى أنه لا يصح إتيانه
بعنوان التقرب لاحتمال الموافقة وإن جوزناه في الأمر الدائر بين الاستحباب والإباحة،

(1) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الوضوء - حديث 10
(2) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الوضوء - حديث 8 و 11
(3) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 11
(4) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الوضوء - حديث 3 - 11
(5) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الوضوء - حديث 12 - 9 - 1
(6) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الوضوء - حديث 12 - 9 - 1
(7) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الوضوء - حديث 12 - 9 - 1
331

لأن مبنى الجواز فيه الاحتياط الذي رجحه العقل، وهو مفقود مع وجود الفرد المتيقن
لأن الاحتياط فيه.
ثم إن الذي يظهر من النصوص والفتاوى كون وقت التسمية عند الشروع في
الوضوء، نعم قد يدخل فيه بعض أجزاء الوضوء المستحبة، لكن قال في الحدائق:
" الظاهر امتداد وقتها من حين الوضع أو الصب للاستنجاء إلى الشروع في غسل الوجه "
وهو بعيد جيدا، وكأن منشأ وهمه استحباب التسمية عند الاستنجاء، ثم الدعاء بقوله
اللهم اجعلني من التوابين، إلى آخره. مع استبعاد استحباب التسمية، وفيه أنه لا مانع
من الحكم باستحبابهما معا بعد ظهور الأدلة فيه، وهل يستحب ذكرها في الأثناء لو تركها
عمدا أو نسيانا كما صرح به جماعة، بل في الحدائق نسبته إلى الأصحاب، لقوله
(عليه السلام): (لا يترك الميسور) ولكونه أقرب إلى المشروع، ولأنه كالأكل،
وفي الجميع نظر واضح، أو لا يستحب لعدم الدليل؟ ولعله الأقوى، لظهور التسمية
على الوضوء في وقوعها في أوله، ولما سمعته في مروي الخصال المتقدم، ولما في الوضوء
البياني أنه (صلى الله عليه وآله) (1): " غرف ملأها ماء فوضعها على جبينه، ثم قال:
بسم الله وسدله " فما في الذكرى من استحباب ذكرها في الأثناء ولو مع الترك العمدي
لا يخلو من نظر، نعم الظاهر من الأخير تأخر التسمية عن الوضع، بخلاف مروي
الخصال المتقدم " لا يتوضأ الرجل حتى يسمي يقول قبل أن يمس الماء " إلى آخره لكن
يحتمل جواز كل من الأمرين جمعا بينهما.
(و) من سننه (غسل اليدين) من الزندين على الأظهر (قبل إدخالهما الإناء)
الذي يغترف منه (من حدث) مسمى (النوم أو البول مرة، ومن الغائط مرتين)
كما في الخلاف والمبسوط والجمل والعقود والغنية والكافي والجامع والسرائر والمعتبر والمنتهى
وغيرها من كتب المتأخرين، بل لا أجد فيه خلافا سوى ما تسمعه من الشهيد في لمعته

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 2
332

ونفليته، بل في الغنية وظاهر المعتبر وغيره الاجماع عليه، وهو الحجة، مضافا إلى
صحيحة الحلبي (1) قال: " سألته عن الوضوء كم يفرغ الرجل على يده اليمنى قبل أن
يدخلها في الإناء؟ قال: واحدة من حدث البول، واثنتان من حدث الغائط، وثلاثة
من الجنابة " ونحوه في الدلالة على البول والغائط، وأما النوم ففي الصحيح أو الحسن
عن حريز عن الباقر (عليه السلام) (2) قال: " يغسل الرجل يده من النوم مرة،
ومن الغائط والبول مرتين، ومن الجنابة ثلاثا " وفي الفقيه أنه قال الصادق (عليه
السلام) (3): " اغسل يدك من النوم مرة " وقد يستدل على حكم البول والنوم باطلاق
الأمر بالغسل في خبر عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (4) قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الرجل يبول ولم يمس يده اليمنى شئ أيدخلها في وضوئه قبل أن
يغسلها؟ قال: لا حتى يغسلها، قلت: فإن استيقظ من نومه ولم يبل أيدخل يده في
وضوئه قبل أن يغسلها؟ قال: لا، لأنه لم يدر حيث باتت يده، فليغسلها " وأطلق
في اللمعة المرتين، كما أطلق في النفلية المرة، وهو مع عدم دليل عليه بالنسبة للنوم في
الأول والغائط في الثاني ضعيف، لمخالفته لما سمعت من الأدلة، وما يقال من التمسك
للأول بقول الباقر (عليه السلام) المتقدم: (ومن الغائط والبول مرتين) فهو مع عدم
شموله لتمام الدعوى يجب تنزيله على التداخل، كما نسب إلى الأصحاب جمعا بين الروايات
مع أن الغالب خروج البول مع الغائط، ومنه ينقدح صحة التداخل في المقام وإن لم نقل
بموافقته للأصل، فيكتفى بالمرة مع اتحاد موجب الأسباب، ويدخل الأقل في ضمن
الأكثر مع اختلافها من غير خلاف أجده فيه في المقام، ولعله لما سمعت من الخبر مع
عدم القول بالفصل وكون الحدث كالخبث، بل قد يظهر مما سمعته من خبر النوم أن
غسلها من جهة احتمال النجاسة، فتأمل جيدا.

(1) الوسائل - الباب - 27 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2
(2) الوسائل - الباب - 27 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2
(3) الوسائل - الباب - 27 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 3
(4) الوسائل - الباب - 27 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 3
333

ولعل المراد باليد في النص والفتوى من الزند كما في التيمم والدية وغيرهما على
ما صرح به في المنتهى والروضة وكشف اللثام وغيرها، ونسبه في الحدائق إلى الأصحاب
لكونه المتبادر سيما من نحو قوله: (قبل أن يدخلها في الإناء) وربما علل ذلك بالاقتصار على
المتيقن، وفيه ما لا يخفى، إذ الاحتياط في المستحب يقتضي خلافه، سيما بعد اشتمال
الرواية على غسلها للجنابة ثلاثا، وهي فيها من المرفق كما سيأتي، ولعل ما سمعت من
الاجماعات المنقولة تكفي في الدلالة على استحباب ما ذكره الأصحاب من غسل اليدين،
وإلا فاستفادته من الروايات لا يخلو من تأمل، وكيف مع اشتمال الصحيحة الأولى على
اليمنى، مع أنك قد سمعت سابقا أنها هي التي تدخل في الماء يغترف بها لجميع أعضاء
الوضوء.
ثم إن ظاهر النص والفتوى قصر الحكم على ما إذا كان الوضوء بادخال اليد،
أما إذا كان بطريق الصب ونحوه فلا، واحتمال القول به فيه أيضا من جهة كونه
من آداب الوضوء أو لأن مشروعيته من جهة احتمال نجاسته كما يشعر به قوله (عليه السلام):
(فإنه لا يدري بها حيث باتت) ضعيف جدا، لأن الثابت من أدبيته إنما هو هذا
المقدار، وكون مشروعيته من جهة احتمال النجاسة على تقدير تسليمه لا يجدي، لجواز
كون هذا الاحتمال موجبا لاستحباب الغسل إذا كان الوضوء بطريق الادخال، أيضا
فالظاهر منها قصر الحكم على ما إذا كان الماء قليلا، أما إذا كان كثيرا فلا يجري
الحكم المذكور، كما أن الظاهر أن الغسل المذكور تعبدي لا يدور مدار توهم النجاسة،
بل لو قطع بطهارة اليد استحب ذلك أيضا، أخذا باطلاق النص والفتوى، وما يشعر
به خبر النوم لا يصلح مخصصا، على أن التعليل المذكور لا يمنع من وجود غيره، نعم قد
يقوى في النظر أن الغسل المذكور كغسل الخبث لا يحتاج إلى نية، بل لو انغسلت يده
مع عدم العلم بها اكتفى به، مع احتمال توقف صحته على نية القربة، ثم إن ما احتمله
بعضهم أن ذلك ليس من آداب الوضوء بل هو من آداب الماء في غاية الضعف، لمخالفته
334

كلمات الأصحاب وبعض الأدلة المذكورة، نعم يقتصر في الحكم المذكور على الاحداث
المتقدمة، فلا يجري الحكم في نحو الربح، إذ هو قياس لا نقول به.
(و) من سننه (المضمضة والاستنشاق) لا واجبان فيه كما عن إسحاق وأحمد،
للأصل والوضوءات البيانية، وللإجماع المحصل والمنقول، والسنة التي كادت تكون
متواترة، بل هي كذلك بالنسبة إليه، نعم هما مسنونان بلا خلاف أجده فيه بين
أصحابنا المتقدمين منهم والمتأخرين عدا ما نقل عن ابن أبي عقيل من أنهما ليسا عند آل
الرسول (صلى الله عليه وآله) بفرض ولا سنة، وهو ضعيف جدا، للاجماع المحكي صريحا وظاهرا الذي
يشهد له التتبع لكلمات الأصحاب، وللأخبار المعتبرة المستفيضة حد الاستفاضة،
منها ما رواه ابن سنان عن الصادق (عليه السلام): (1) " المضمضة والاستنشاق مما سن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) كمضمرة سماعة (2) " هما من السنة، فإن نسيتهما لم
يكن عليك إعادة " وخبر أبي بصير (3) " سأل الصادق (عليه السلام) عنهما فقال:
هما من الوضوء، فإن نسيتهما فلا تعد " وخبر السكوني (4) عن الباقر عن آبائه (عليهم
السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) " ليبالغ أحدكم في المضمضة والاستنشاق فإنه غفران
لكم ومنفرة للشيطان " إلى غير ذلك من الأخبار التي يطول الكتاب بذكرها، على أن
المنقول عنه غير صريح المخالفة، لاحتمال إرادته أنهما ليسا من السنة الحتمية في مقابل
الفرض أي الواجب بغيرها، كقول أبي جعفر (عليه السلام) (5) في خبر زرارة: " ليس
المضمضة والاستنشاق فريضة ولا سنة، وإنما عليك أن تغسل ما ظهر " إذ المراد به ليس
مما علم وجوبه بالسنة، وهو معنى معروف التأدية بمثل هذا اللفظ تعريضا للرد على ما سمعته من

(1) الوسائل - الباب - 29 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2
(2) الوسائل - الباب - 29 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2
(3) الوسائل - الباب - 29 - من أبواب الوضوء - حديث 4 - 6
(4) الوسائل - الباب - 29 - من أبواب الوضوء - حديث 11 لكن رواه عن
جعفر بن محمد (عليهما السلام)
(5) الوسائل - الباب - 29 - من أبواب الوضوء - حديث 4 - 6
335

بعض العامة، كالأخبار المستفيضة جدا الدالة على أنهما ليسا من الوضوء بل هما من
الجوف، أي أنهما ليسا من واجباته، واحتمال الجمع بينها وبين غيرها من الروايات
بالحكم باستحبابهما في ذاتهما لا للوضوء كما لعله يظهر من الهداية ضعيف جدا مناف لظاهر
النص والفتوى بل الاجماعات المنقولة وغيرها، نعم لا يبعد الحكم باستحبابهما في ذاتهما
وللوضوء كما لا يخفى على من لاحظ روايات الباب، مع عدم منافاته لكلمات الأصحاب.
ويرجع فيهما إلى العرف كما هو في غيرهما من الألفاظ، لتقدمه على اللغة،
أو لعدم ظهور المخالفة بينهما، بل ملاحظة المنقول عن أهل اللغة من معناهما يرشد إلى
إحالتهما عليه، نعم ينبغي الاقتصار في التعبد على غير الفرد المشكوك في كونه منهما،
بل لعل الظاهر أنه لا يجوز التقرب بمثله، لمكان التشريع، ولا احتياط مع وجود
الفرد المعلوم براءة الذمة به، ونحوه يجري في الواجبات أيضا، والأقوى أنهما في
العرف إدارة الماء في الفم واجتذابه بالأنف من غير اشتراط للمج في الأول والاستنشار
في الثاني كما وقع من بعضهم، كما أن الظاهر أنه لا يعتبر في الأول إدارة الماء في جميع
الفم، ولا في الثاني جذب الماء إلى الخياشيم لغير الصائم، نعم قد يستفاد استحبابهما
فيهما لأنها من المبالغة المأمور بها، كما أنه قد يستفاد استحباب المج ونحوه، لأنهما
لإزالة القذرات التي ينبغي اخراجها، ولكونه المعروف في فعلهما، ومما ينبغي القطع
بعدم اعتباره اشتراط الاخراج بمعنى عدم الاكتفاء بالخروج لنفسه، كما أنه ينبغي القطع
بعدم اعتبار إدخال الماء للفم في المضمضة، بل يكفي الدخول، نعم يمكن اعتبار
الجذب في الاستنشاق، وإلا كان سعوطا لا استنشاقا، وينبغي القطع أيضا بعدم اعتبار
الثلاث في معناهما كما هو ظاهر، بل ولا في استحبابهما كما عساه يظهر من بعضهم لأخذ
ذلك في الكيفية، وآخر حيث أخذه حالا، قال في تعداد المستحبات: المضمضة والاستنشاق
336

ثلاثا ثلاثا، إلى أن قال: كل ذلك بالاجماع كما في الغنية، بل في المبسوط التصريح
بأنهما لا يكونان أقل من ثلاث.
والأقوى أنه مستحب في مستحب كما هو صريح اللمعة وغيرها كظاهر التذكرة
وغيرها، تمسكا بالمطلقات التي كادت تكون من المتواترة، بل ظاهر الوضوء المحكي
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) عدم التثليث، وما في خبر أبي إسحاق الهمداني (2)
المنقول عن أمالي ولد الشيخ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده إلى محمد بن أبي بكر
لما ولاه مصرا إلى أن قال: " وانظر إلى الوضوء، فإنه من تمام الصلاة، تمضمض
ثلاث مرات، واستنشق ثلاثا " وما عن الكاظم (عليه السلام) (3) أنه كتب إلى علي
ابن يقطين " تمضمض ثلاثا، واستنشق ثلاثا " لا يصلح لتقييد تلك المطلقات تقييدا بحيث
يكون الفاعل للواحد أو لاثنين شرعا آثما، وكيف وفي أصل حمل المطلق على المقيد في
المستحب ما هو غير خفي، فضلا عن حمل هذا المطلق على نحو هذا المقيد، بل قد يدعى
أن نحو ذلك في الواجب لا يفيد اشتراط هيئة العدد، بل هو من قبيل الأوامر المتعددة،
وما في بعض كلمات الأصحاب من ظهور التقييد بادئ بدء يجب تنزيله على ذلك كما هو
واضح، نعم قد ظهر لك من الروايتين المذكورتين استحباب التثليث كما أفتى به الأصحاب،
فما وقع من بعض متأخري المتأخرين من إنكار مستنده ليس في محله، نعم ما ذكره
بعضهم من كون الثلاث بثلاث أكف ومع إعواز الماء يكفي الكف الواحدة لم أقف له على
مستند بالخصوص، بل عن مصباح الشيخ ومختصره ونهايته والمقنعة والوسيلة والمهذب
والإشارة الاقتصار على كف لكل منهما، وعن ظاهر الاقتصاد والجامع الاكتفاء بكف
لهما، كما هو مقتضى الاطلاقات مع التأييد بالنهي عن السرف في ماء الوضوء، وفي

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 19
(3) الوسائل - الباب - 32 - من أبواب الوضوء - حديث 3
337

المبسوط لا فرق بين أن يكونا بغرفة واحدة أو بغرفتين، وعن المصباح يتمضمض ثلاثا،
ويتنشق ثلاثا بغرفة أو بغرفتين، لكن لا بأس بمتابعتهم على ذلك، للتسامح في
أدلة السنن.
وهل يشترط تقديم المضمضة على الاستنشاق كما هو ظاهر الوضوء عن أمير المؤمنين
(عليه السلام) (1) لقوله (عليه السلام): (ثم استنشق) ويشعر به تقديم المضمضة عليه
في سائر الأخبار (2) المتعرضة وإن لم نقل بأن الواو للترتيب، أو لا يشترط شئ
من ذلك، فيجوز تقديم تمام الاستنشاق على تمام المضمضة، والبعض على البعض،
أو أنه يجب البدأة بالمضمضة وإن جاز الاستنشاق بين المضمضات؟ ولعل الأقوى في
النظر أنه مستحب في مستحب كما عن ظاهر الوسيلة والتحرير والتذكرة ونهاية الإحكام
والذكرى والنفلية، وربما ينزل عليه ما وقع في كلام بعض الأصحاب من عطف
الاستنشاق بثم كما عن المقنعة والمصباح ومختصره والمهذب والبيان، لعدم الدليل على
اشتراط الاستحباب بتقديم المضمضة على الاستنشاق، والمنقول من فعل أمير المؤمنين
(عليه السلام) أعم من ذلك، مع أن المنقول عن الكافي الذي هو أضبط كتب
الأخبار ذكر الخبر مقدما للاستنشاق على المضمضة، نعم لمكان فتوى من عرفت
بالاستحباب أمكن جعله حجة على ذلك، إلا أنه قد يفهم من الخبرين المتقدمين التوالي
في المضمضات، وكذا الاستنشاق، فلا يفصل بينهما بشئ منهما، فتأمل جيدا،
والاحتياط في إتيان الوظيفة لا ينبغي تركه، والله أعلم،
(و) يستحب (الدعاء) بالمأثور (عندهما) بأن يقول عند المضمضة (اللهم لقني
حجتك يوم ألقاك، وأطلق لساني بذكرك) على ما عن الفقيه والتهذيب، وعن نسخة
من الكافي (اللهم أنطق لساني بذكرك، واجعلني ممن ترضى عنه) ويقول عند الاستنشاق

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 29 - من أبواب الوضوء
338

(اللهم لا تحرم علي الجنة، واجعلني ممن يشم ريحها وروحها وطيبها) كما عن التهذيب
والفقيه، وعن نسخة من الكافي تبديل الروح بالريحان مع تقديم الطيب عليه (و)
الكل حسن
كما أنه يستحب الدعاء أيضا (عند غسل الوجه) بأن يقول: (اللهم بيض
وجهي يوم تسود فيه الوجوه، ولا تسود وجهي يوم تبيض فيه الوجوه) (و) عند غسل
(اليدين) اليمنى (اللهم أعطني كتابي بيميني، والخلد في الجنان بيساري، وحاسبني
حسابا يسيرا) واليسرى لا تعطني كتابي بشمالي، ولا تجعلها مغلولة إلى عنقي، وأعوذ
بك من مقطعات النيران).
(وعند مسح الرأس) (اللهم غشني برحمتك وبركاتك) (و) عند مسح (الرجلين)
(اللهم ثبتني على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، واجعل سعيي فيما يرضيك عني) كما
روى جميع ذلك عبد الرحمان بن كثير عن الصادق عن أمير المؤمنين (عليهما السلام) (1)
ويستحب أن يقول عند الفراغ: (الحمد لله رب العالمين) لخبر زرارة (2) وعن
الفقيه (3) " زكاة الوضوء أن يقول المتوضئ: (اللهم إني أسألك تمام الوضوء وتمام
الصلاة وتمام رضوانك والجنة) " وعن المجلسي في البحار عن الفقه الرضوي (4) " أيما
مؤمن قرأ في وضوئه إنا أنزلناه في ليلة القدر خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " وروى
أيضا عن كتاب اختيار السيد ابن الباقي وكتاب بلد الأمين (5) " أن من قرأ بعد إسباغ
الوضوء إنا أنزلناه في ليلة القدر وقال: اللهم إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام
رضوانك وتمام مغفرتك لم يمر بذنب أذنبه إلا محقه " وروى فيه أيضا عن كتاب جامع
الأخبار (6) قال: " قال الباقر (عليه السلام): من قرأ على أثر وضوئه آية الكرسي

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الوضوء - حديث 2
(3) البحار - المجلد - 18 - باب التسمية من الوضوء
(4) البحار - المجلد - 18 - باب التسمية من الوضوء
(5) البحار - المجلد - 18 - باب التسمية من أبواب الوضوء
(6) البحار - المجلد - 18 - باب التسمية من أبواب الوضوء
339

مرة أعطاه الله تعالى ثواب أربعين عاما، ورفع له أربعين درجة، وزوجه الله تعالى
أربعين حوراء، وقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي (عليه السلام) إذا توضأت فقل
بسم الله، اللهم إني أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام رضوانك وتمام مغفرتك
فهذا زكاة الوضوء ".
(و) يستحب (أن يبدأ الرجل بغسل ظاهر ذراعيه) في الغسلة الأولى (وفي
الثانية بباطنهما والمرأة بالعكس) أي تبتدئ في الأولى بالباطن وفي الثانية بالظاهر كما
في المبسوط والغنية والتذكرة والقواعد والإرشاد والتحرير والبيان واللمعة وظاهر الدروس
وعن النهاية والاصباح والإشارة والكيدري بل في الغنية والتذكرة الاجماع عليه، لكن
في السرائر بدل الغسلتين الكفين، ولعله يريد بهما ذلك، والمنقول عن أكثر الأصحاب
إطلاق استحباب بدأة الرجل بالظاهر والمرأة بالباطن، والظاهر أنه كذلك،
وفي المنتهى بعد أن ذكر غير مفصل قال: وهو اتفاق علمائنا، لكن يحتمل أنه يريد
بالضمير أصل الاستحباب كما في المعتبر، وكيف كان فقد اعترف متأخروا المتأخرين
بعدم الوقوف على مستند للتفصيل المتقدم بل إطلاق قول أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في خبر
محمد بن إسماعيل بن بزيع (1) قاض بخلافه، لأنه قال: " فرض الله على النساء في
الوضوء أن يبدأن بباطن أذرعهن، وفي الرجال بظاهر الذراع " اللهم إلا أن يستند
فيه إلى الاجماعين المتقدمين، ولا منافاة فيهما للخبر، بل قد يحمل قوله (عليه السلام):
(يبدأن) على إرادة البدأة بالنسبة للغسلتين، فيدل حينئذ على كون الثانية بعكسها وإلا لم تكن
بدأة، وأما الخنثى المشكل فقد ذكر بعض الأصحاب أن حكمها التخيير، وكان مراده
أنه لا حكم استحبابي بالنسبة إليها، وهو كذلك، نعم بناء على القول الثاني يحتمل
تحصيلها الاستحباب بواسطة الغسلتين، واحتمال استحباب الجمع بين العملين لتحصيل
الاستحباب على الأول بعيد، ثم إن الظاهر من الرواية المتقدمة كون المستحب البدأة

(1) الوسائل - الباب - 40 - من أبواب الوضوء - حديث 1
340

بالظهر، فيجزئ غسل شئ منه ابتداءا، مع احتمال أن يراد الابتداء بغسل تمام الظهر
كما يقضي به لفظ الظهر، إلا إن الأول أقوى، للصدق العرفي، مع استبعاد حصول
الغسل لتمام الظهر من دون غسل شئ من الباطن، اللهم إلا أن لا يقصد بالغسل المقارن
له أنه المراد منه شرعا، لكن عمل العلماء في سائر الأعصار والأمصار على خلافه.
(و) من السنن (أن يكون الوضوء بمد) بلا خلاف أجده فيه، بل حكي عليه
جماعة الاجماع، فلا إشكال في عدم وجوبه كما ينقل عن بعض العامة، كما أنه لا إشكال
في رجحانه لما عرفت، وللأخبار المستفيضة المشتمل جملة منها على أنه كان رسول الله
(صلى الله عليه وآله) يتوضأ بمد ويغتسل بصاع، وفي المرسل (1) قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله): " الوضوء مد، والغسل صاع، وسيأتي أقوام بعدي يستقلون
ذلك، فأولئك على خلاف سنتي، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس " وفي
خبر سليمان بن حفص المروزي (2) قال: " قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام):
الغسل بصاع من ماء، والوضوء بمد من ماء " والمراد بالمد مائتان واثنان وتسعون
درهما ونصف على الظاهر، ونسبه في الذكرى إلى الأصحاب، لأن المد رطل ونصف
بالمدني، فيكون رطلين وربعا بالعراقي، والرطل العراقي مائة وثلاثون درهما على المشهور
كما قيل، وما في بعض الأخبار (3) أن المد مائتان وثمانون درهما، وقد أفتى به بعض
القدماء كما عن الصدوق (رحمه الله) ضعيف، كاشتمالها على كون الصاع خمسة أمداد مع
أن الظاهر أنه أربعة أمداد، ويأتي تحقيقه إن شاء الله في زكاة الفطرة، وقال الشهيد
في الذكرى: هذا المد لا يكاد يبلغه الوضوء، فيمكن أن يدخل فيه ماء الاستنجاء،
لما تضمنته رواية ابن كثير عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (4) حيث قال: أتوضأ للصلاة

(1) الوسائل - الباب - 50 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 3 - 3
(2) الوسائل - الباب - 50 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 3 - 3
(3) الوسائل - الباب - 50 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 3 - 3
(4) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الوضوء - حديث 1
341

ثم ذكر الاستنجاء، ولما في خبر الحذاء (1) أنه " وضأت الباقر (عليه السلام) بجمع،
فناولته ماءا فاستنجى، ثم صببت على يده فغسل وجهه " إلى آخره. بل ربما يؤيده ما دل
على المبالغة في قلة ماء الوضوء (2) وإن " لله ملكا يكتب سرف الوضوء كما يكتب
نقصانه " (3) وما ورد (4) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) " ما كان وضوؤه إلا مرة
مرة " وما قيل إن العامة اعترضت علينا أن الوضوء بمد ينافي ما هو عندكم من الوضوء، إذ
ليس معه غسل الرجلين وأجيب عنه بدخول ماء الاستنجاء، إلا أن ذلك إن سلم إمكانه
في الروايات فهو ممنوع بالنسبة إلى كلمات الأصحاب وإجماعاتهم. فلعل الظاهر أن المراد
بهذا المد للوضوء إنما هو مع سائر مستحباته حتى الاسباغ من غسل الكفين والمضمضة
والاستنشاق مع تثليث كل منهما بثلاث أكف وتثنية الغسلات، فإنه يكون حينئذ
تقريبا من أربعة عشر كفا، والمد لا يزيد على ذلك بحسب الظاهر، إذ هو - كما عرفت أنه
مائتان واثنان وتسعون درهما ونصف - عبارة عن ربع المن التبريزي كما قيل، على أنه
لا ظهور في الروايتين المتقدمتين لدخول الاستنجاء تحت اسم الوضوء، إذ قد يكون
طلب الماء للوضوء، ثم بدا له الاستنجاء، على أنه من كلام الراوي، فلا يكون حجة،
بل قد يقال: إن التحديد يراعى فيه أقصى الأفراد.
ثم إن الظاهر من كلام الأصحاب كون المستحب مقدار المد، فمتى زاد أو نقص
فلا أجر، واحتمال القول بتبعيض السنة حيث يأتي بزائد على الواجب مع النقصان عن
المد ضعيف، كاحتمال الاتيان بالسنة مع الزيادة على المد، وإن خالف في الزيادة،
ولولا ظهور اتفاق الأصحاب على الاستحباب لأمكن القول أن المستفاد من الروايات

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الوضوء - حديث 8
(2) الوسائل - الباب - 52 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 2 مع
اختلاف في الثاني
(3) الوسائل - الباب - 52 - من أبواب الوضوء - حديث 0 - 2 مع
اختلاف في الثاني
(4) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الوضوء - حديث 10
342

مجرد رخصة في صرف هذا المقدار من الماء للوضوء في التعريض للرد على العامة الذي
يحتاجون في وضوئهم إلى أزيد من ذلك، للنهي عن السرف في ماء الوضوء، والظاهر
أن له صرف المد في الواجب من الوضوء حيث لا سرف عرفا، كما إذا احتاج ذلك
لشدة حر ونحوه.
ولما فرغ المصنف من ذكر المسنونات في الطهارة شرع في ذكر المكروهات،
فقال: (ويكره أن يستعين في طهارته) كما في المبسوط والمعتبر والنافع والمنتهى والإرشاد
والقواعد والدروس وغيرها، بل لا أجد فيه خلافا من أحد سوى ما يظهر من صاحب
المدارك من التوقف في هذا الحكم، لمكان ضعف دليله، وهو ضعيف مبني على أصله
من عدم التسامح في أدلة السنن، وعدم الانجبار بالشهرة، بل في المدارك أنه المعروف
بين الأصحاب، لخبر الوشا (1) قال: " دخلت على الرضا (عليه السلام) وبين يديه
إبريق يريد أن يتهيأ للصلاة، فدنوت منه لأصب عليه، فأبى ذلك، فقال: مه؟؟
يا حسن، فقلت لم تنهاني؟ أتكره أن أوجر؟ قال: توجر أنت وأوزر أنا، فقلت:
وكيف ذلك؟ فقال: أما سمعت الله يقول: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا
ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) وها أنا ذا أتوضأ للصلاة، وهي العبادة، فأكره أن
يشركني فيها أحد " وللمرسل في الفقيه (2) قال: " كان أمير المؤمنين (عليه السلام)
إذا توضأ لم يدع أحدا يصب عليه، فقيل يا أمير المؤمنين (عليه السلام) لم لم تدعهم
يصبون عليك الماء؟ فقال: لا أحب أن أشرك في صلاتي أحدا " وقرأ الآية. والمروي
عن الخصال عن السكوني عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) (3) قال: " قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله): خصلتان لا أحب أن يشاركني فيهما أحد، وضوئي فإنه من
صلاتي، وصدقتي فإنها من يدي إلى يد السائل، فإنها تقع في يد الرحمان " وعن إرشاد

(1) الوسائل - الباب - 47 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2
(2) الوسائل - الباب - 47 - من أبواب الوضوء - حديث 1 - 2
(3) الوسائل - الباب 47 - من أبواب الوضوء - حديث
343

المفيد (1) قال: " دخل الرضا (عليه السلام) يوما والمأمون يتوضأ للصلاة والغلام يصب
على يده الماء فقال: لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربك أحدا، فصرف المأمون الغلام
وتولى تمام الوضوء بنفسه " وبهذا الخبر مع سابقيه وما في بعض الأخبار من الصب على
يد الإمام يظهر أن ذلك مكروه، لعدم الأمر بالإعادة في الأخير، وقوله (عليه السلام):
(لا أحب) في السابقين، وعليه ينزل ما عساه يظهر من الحرمة في رواية الوشا، ولمكان
اشتراكها مع غيرها في الاستدلال بالآية الظاهر مما عداها أنها في مقدمات الوضوء فهم
الأصحاب منها أن المراد الاستعانة لا التولية المحرمة وإن استظهره منها في الحدائق وجعلها
دليلا عليه كما تقدم، وكان مراد المصنف وغيره بالاستعانة مطلق المعاونة في الوضوء
سواء كان طالبا لذلك أو لا، فلا ينافي ما ظهر من رواية الوشا وغيره من كراهة ذلك
وإن لم يكن الاستعانة من الإمام (عليه السلام)، فما يقال من الجمع بين ما دل على كراهة
الاستعانة وبين ما دل على وقوعه من الإمام كما في رواية الحذاء المشتملة على توضئة
الباقر (عليه السلام) بحمل الأولى على طلب الإعانة، والثانية على قبولها من دون طلب فيه ما لا يخفى،
لمنافاته لظاهر ما سمعته من الأدلة هنا، بل الأولى حملها على إرادة بيان الجواز ونحوه.
ثم إن المدار في الكراهة على صدق اسم المعاونة عرفا، لمكان تعليق الحكم عليها
في كلام الأصحاب، وهو كاف في تحقق الكراهة وإن قلنا أنها أعم من الشركة المذكورة
في الروايات، وكيف كان فالظاهر عدم تحققهما معا بالنسبة للمقدمات البعيدة التي هي
من قبيل المعدات، فلا كراهة في إباحة أو دلالة أو تخلية أو حمل آلة أو وضع في آنية
أو حملها قبل التشاغل ونحو ذلك، نعم هي متحققة في مثل الصب في اليد، والصب
على العضو مع تولي المكلف الاجراء ورفع الثياب مثلا عن أعضاء الوضوء ورفع اليد
الغاسلة أو الماسحة ونحو ذلك، وأما مثل استدعاء الماء للوضوء ففيه وجهان، ولعل

(1) الوسائل الباب - 47 - من أبواب الوضوء - حديث 4
344

كثرة وقوعه في الروايات يشعر بعدم الكراهة فيه، كما لعل مثله في عدمها أيضا تسخين
الماء ونحوه عند الاحتياج إليه، والظاهر اختصاص الكراهة بالمعان دون المعين كما ينبي
عنه قوله (عليه السلام): (توجر أنت وأوزر أنا).
(و) يكره (أن يمسح بلل الوضوء عن أعضائه) بما يصدق عليه اسم التمندل،
فيرتفع الخلاف بينه وبين التعبير به في المعتبر والمنتهى والتذكرة والقواعد والإرشاد
والدروس وغيرها، بل في الأخير وغيره نفل الشهرة عليه، وإن لم أقف له على
مستند سوى وجوه اعتبارية، وقول الصادق (عليه السلام) في خبر محمد بن حمران
المروي عن ثواب الأعمال، وعن سلم بن الخطاب على ما في الكافي، وعن إبراهيم
ابن محمد الثقفي على ما عن محاسن البرقي، ومرسلا كما عن الفقيه (1): " من توضأ وتمندل
كتبت له حسنة، ومن توضأ ولم يتمندل حتى يجف وضوؤه كتبت له ثلاثون حسنة "
لا يدل على الكراهة، بل أقصاه كون الترك أفضل، ولذا عبر بذلك الشيخ في الخلاف،
بل عن سائر كتبه كما عن الوسيلة والأصباح، ودعوى أن ترك المستحب مكروه
أو أن مكروه العبادة الأقل ثوابا فيه ما لا يخفى من منع الأول كالثاني إن أريد مطلق
أقلية الثواب، على أن جعل ذلك من مكروه العبادة فيه منع، إذ لا مانع هنا من
إرادة الكراهة بمعناها الأصلي من المرجوحية، وكونه في ماء الوضوء الذي هو عبادة
لا يمنع من ذلك كما هو واضح، ولولا الشهرة بين الأصحاب على الكراهة لأمكن
القول بعدم ذلك كما عن المرتضى في شرح الرسالة، بل باستحباب مسح الوجه، لما
في خبر إسماعيل بن الفضل (2) قال: " رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) توضأ للصلاة
ثم مسح وجهه بأسفل قميصه، ثم قال: يا إسماعيل افعل هكذا فإني هكذا أفعل " وما في
خبر منصور بن حازم (3) قال: " رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) وقد توضأ وهو

(1) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 3 - 4
(2) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 3 - 4
(3) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الوضوء - حديث 5 - 3 - 4
345

محرم، ثم أخذ منديلا فمسح به وجهه " وما في مرسل عبد الله بن سنان (1) قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن التمندل بعد الوضوء، فقال: كان لعلي (عليه السلام)
خرقة في المسجد ليس إلا للوجه يتمندل بها " وفي آخر (2) " كانت لعلي (عليه السلام)
خرقة يعلقها في مسجد بيته لوجهه إذا توضأ تمندل بها " وما في خبر ابن سنان عن الصادق
(عليه السلام) (3) أيضا قال: " كانت لأمير المؤمنين (عليه السلام) خرقة يمسح بها
وجهه إذا توضأ للصلاة، ثم يعلقها على وتد، ولا يمسها غيره " مع ما في بعض الأخبار
من نفي البأس (4) عن مسح الوجه بالمنديل وفي آخر (5) " لا بأس بمسح الرجل وجهه
بالثوب إذا توضأ إذا كان الثوب نظيفا " وفي آخر (6) " عن التمسح بالمنديل قبل أن
يجف، قال: لا بأس به " اللهم إلا أن تحمل هذه الأخبار على موافقة التقية كما يشهد
له مداومة العامة عليه، مع حمل نفي البأس على إرادة نفي الحرمة كما ادعاه بعض العامة
وحمل ما دل على المسح بالثوب والقميص ونحو ذلك في مقابلة الرد على مذهب أبي حنيفة
من نجاسة ماء الوضوء، أو أنه ليس من التمندل، إذ المراد به المسح بالمنديل، فلا يشمل
الثوب ونحوه، أو تحمل على مسح خصوص الوجه لعارض من العوارض كالريح المثيرة
للتراب، سيما إذا كان في مكان مظنة النجاسة، وربما يشير إليه اقتصارها على ذكر
الوجه، بخلاف اليدين لمكان كونها تحت الأكمام لأنهم كانوا يوسعونها، أو يراد
بكراهة التمندل مع مسح الجميع لا البعض، مع احتمال بعضها غير الوضوء، ونحو ذلك.
ثم إنه بناء على كراهة التمندل فهل يقتصر عليه، أو يتسرى إلى مطلق مسح
بلل الوضوء عن الأعضاء كما هو ظاهر عبارة المصنف؟ وجهان، أقواهما الأول للأصل
وعدم المنقح من إجماع وغيره،
وعلى تقدير الشمول فهل يقتصر على المسح، أو مطلق
التجفيف حتى في الشمس والنار؟ وجهان أيضا، أقواهما الأول أيضا لما سمعته،

(1) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الوضوء - حديث 7 - 8 - 9
(2) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الوضوء - حديث 7 - 8 - 9
(3) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الوضوء - حديث 7 - 8 - 9
(4) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 2 - 1
(5) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 2 - 1
(6) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الوضوء - حديث 6 - 2 - 1
346

نعم قد يستفاد من بعض الأخبار (1) كما قيل إنه يكتب للانسان الثواب ما دام الوضوء
باقيا استحباب عدم إزالة آثار الوضوء، فتأمل جيدا.
(الرابع في أحكام الوضوء)
(من تيقن) وقوع (الحدث) بسببه من خروج البول ونحوه، أو الحالة المترتبة
عليه في زمان سابق (وشك في) حصول (الطهارة) بعد ذلك الزمان (تطهر) إجماعا
محصلا ومنقولا في المعتبر والمنتهى وكشف اللثام وغيرها، وهو الحجة، مضافا إلى
ما دل (2) على شرطية الصلاة بالطهارة، لتوقف العلم ببراءة الذمة من المشروط على العلم
بحصول الشرط، إذ الشك فيه شك في المشروط به، ويشعر به ما رواه عبد الله بن
بكير عن الصادق (عليه السلام) (3) " إذا استيقنت أنك توضأت فإياك أن تحدث وضوءا
أبدا حتى تستيقن أنك أحدثت " لاقتضاء مفهوم الشرط المتقدم أخذ اليقين في الوضوء،
مع ما دل على وجوب الوضوء عند إرادة الصلاة من الآية (4) وغيرها الشامل (5) لنحو
المقام، وقاعدة عدم نقض اليقين إلا بيقين مثله،
ومنهما يستفاد مساواة الظن الذي لم
يقم دليل شرعي على اعتباره ولو على جهة العموم، للشك في عدم النقض كما صرح به
المصنف وغيره، ونسبه بعضهم إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الاجماع عليه، بل قد
يظهر من شارح الدروس دعوى الاجماع عليه صريحا، ويشهد له التأمل في كلماتهم،
إذ لم يعرف فيه مخالف من المتقدمين والمتأخرين سوى ما عساه يفهم من البهائي في الحبل
المتين، على أن التدبر في كلامه يقضي بأنه ليس مخالفا فيما نحن فيه، لأن حاصل

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب التعقيب من كتاب الصلاة
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الوضوء
(3) الوسائل - الباب - 44 - من أبواب الوضوء - حديث 1 لكن رواه عن بكير
(4) سورة المائدة - الآية 8
(5) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الوضوء
347

كلامه أن الاستصحاب حجة مع الظن بالمستصحب، أما مع العكس فليس حجة، وهو
على تقدير تسليمه لا دلالة فيه على المخالفة هنا، إذ ارتفاع الاستصحاب بناء على مختاره
لا يلزم منه ارتفاع الوجوب، لما عرفت من عدم انحصار الدليل عليه فيه، بل الآية
ويقين الشغل كافيان في إيجابه، وما في شرح الدروس من أن الأصل براءة الذمة مما
لا ينبغي أن يصغى إليه، لانقطاعها بيقين الشغل، والشك في حصول الشرط شك في
المشروط، على أن كلام البهائي في مرتبة من الضعف تسقطه عن درجة الاعتبار، إذ
هو في الحقيقة اجتهاد في مقابلة النص، لصراحة الروايات (1) بعدم نقض اليقين
إلا باليقين، وما في شرح الدروس أنه يستفاد من مفهوم قوله (عليه السلام): (2)
" لا تنقض اليقين بالشك " جواز نقضه بغيره ضعيف جدا، إذ هو بعد تسلم أنه من
المفاهيم المعتبرة غير صالح لمعارضة غيره من الأدلة، وكيف مع قوله (عليه السلام) بعده:
(ولكن تنقضه بيقين آخر) هذا كله مع تسليم أن الشك يراد به ما هو المعنى المتعارف
في ألسنة المصنفين من التردد مع مساواة الطرفين، وإلا فلا إشكال بناء على ما قيل إنه
في اللغة للأعم من الشك والظن كما عن القاموس والصحاح لتفسيرهما إياه بأنه خلاف
اليقين، بل قد يؤيده إطلاقه عليه في بعض الروايات (3) كما أن الظاهر أنه في العرف
العام كذلك، فتأمل جيدا.
ولقد وقع للمصنف في المعتبر من الاستدلال على ما نحن فيه من يقين الحدث
بما يحتاج إلى انطباقه عليه إلى تكلف شديد بل حمله على السهو أولى منه، وقد ظهر
لك مما تقدم في شرح عبارة المتن أنه لامتناع في اجتماع اليقين والشك في زمن واحد
بعد اختلاف متعلقهما، فما أطنب فيه بعض المتأخرين من علاج هذا الاشكال بما هو
غير سديد، وآخر غير مفيد، وثالث مآله إلى ما يريد كأنه في غير محله، إذ هو

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 0 - 1
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 0 - 1
(3) المستدرك - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 1
348

من المعاني المنساقة لكل سامع لمثل هذه العبارة كما هو واضح.
نعم هنا أمران ينبغي التنبيه عليهما (الأول) ما ذكرناه من مساواته الظن للشك في
المقام إنما هو في غير المعتبر منه شرعا، أما ما كان كذلك كخبر العدل فالأقوى حصول
النقض به، لما يظهر من ملاحظة الأدلة أنه حجة شرعية في نظر الشارع كالشهادة،
وربما تشعر به بعض الأخبار كما في رواية أبي بصير (1) وغيره عن الصادق (عليه السلام)
" أنه اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء، فقال
(عليه السلام): ما كان عليك لو سكت ثم مسح تلك اللمعة بيده " مع احتمال عدم حصول
النقض به أخذا بظاهر القاعدة هنا، وربما كان هو مقتضى كلام العلامة في المنتهى،
لاختياره عدم حصول نجاسة الماء بأخباره، وفرق في ذلك بينه وبين الشهادة، وهو
لا يخلو من قوة، ولتحقيق المسألة محل آخر. (الثاني) ذكر بعض مشائخنا أنه يجب
التطهر على من تيقن الحدث وشك في الطهارة حيث يقع ذلك مع عدم الدخول في عمل
مشروط صحته بالطهارة كالصلاة ونحوها أما إذا وقع له اليقين والشك مثلا وهو في أثناء
صلاة أو بعد الفراغ فلا يجب عليه التطهر لتلك الصلاة، نعم يحتمل أن يجب عليه التطهر
للصلاة بعدها، مع احتمال العدم أيضا، بل قد يظهر منه اختياره، وكأن مستنده
في ذلك شمول قوله (عليه السلام) (2): " إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت
في غيره فليس شكك بشئ " مع أصالة الصحة وهو متجه لو وقع له هذا اليقين والشك
بعد الفراغ من الصلاة مع عدم العلم بقدم سبب الشك، لكونه في الحقيقة شكا في الصحة
بعد الفراغ، فلا يلتفت إليه، بل قد يدل عليه صحيح محمد بن مسلم (3) قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): " رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة؟ قال: يمضي
على صلاته ولا يعيد " نعم يجب عليه الوضوء لغيرها من الصلاة، إذ عدم الالتفات

(1) الوسائل - الباب - 41 - من أبواب الجنابة - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 42 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 5
(3) الوسائل - الباب - 42 - من أبواب الوضوء - حديث 2 - 5
349

المذكور لا ينقح وجود الشرط، بل هو حكم شرعي تعبدي في خصوص المفروغ منه،
فلا يجري إلى غيره، فتشمله القاعدة مع احتمال القول أن ما دل على حكم الشك بعد
الفراغ يشعر بالحكم بوقوع المشكوك فيه، كما يشعر به قوله (عليه السلام): " أنت في
تلك الحال أذكر " ونحوه، لكنه بعيد، فتأمل. وأما إذا كان ذلك في الأثناء
فيشكل الحكم بالصحة، لظهور قاعدة الشك في الشئ مع عدم الدخول في الغير في
الشك في أجزاء المركب كما لا يخفى على المتأمل، لا أقل من الشك في الشمول، وإصالة
الصحة لا تشخص وجود الشرط بالنسبة إلى باقي أفعال الصلاة، فكان للتوقف في ذلك
مجال، ويؤيده إطلاق الكلمة هنا بوجوب التطهر، وكذا إذا وقع بعد الفراغ مع العلم
بقدم مأخذ الشك، للشك في شمول ما دل على عدم الالتفات إليه بعد الفراغ لمثله،
وقد يشعر ببعض ما ذكرناه خبر علي بن جعفر عن أخيه (عليهما السلام) (1) المروي عن
قرب الإسناد قال: " سألته عن رجل يكون على وضوء ويشك على وضوء هو أم لا؟
قال: إذا ذكر وهو في صلاته انصرف فتوضأ وأعادها، وإن ذكره وقد فرغ من
صلاته أجزأه ذلك " ولعل مراده بقوله: يكون على وضوء أنه اعتقد أنه على وضوء ثم
شك بعد ذلك أي زال اليقين الأول ورجع إلى الشك، ويستفاد منه حينئذ التنبيه على
أن من اعتقد الوضوء مثلا ثم زال عنه اليقين إلى الشك كان الحكم للأخير وإن كان
لا يجب عليه إعادة العمل الذي أوقعه باليقين الأول على فرض حصول الشك بعد تمامه.
(و) كيف كان فقد عرفت أنه يجب التطهر في المقام كما (إذا تيقنهما وشك) مثلا
(في المتأخر) منهما فإنه (يجب عليه الطهارة) أيضا كما في المقنعة والتهذيب والمبسوط والمراسم
والوسيلة والإشارة والمهذب والسرائر والنافع والمنتهى والإرشاد والذكرى واللمعة
وغيرها، ونسبه في المعتبر إلى الثلاثة وأتباعهم، وفي المنتهى إلى المشهور، بل في
الذكرى نسبته إلى الأصحاب مشعرا بدعوى الاجماع عليه، وكان الوجه فيه ما تقدم

(1) الوسائل - الباب - 44 - من أبواب الوضوء - حديث 2
350

لك سابقا مما دل على وجوب فعله لها، خرج ما خرج وبقي الباقي، وما دل على وجوب
تحصيل اليقين، لأنه مقتضى الشرطية. لا يقال: إنه كما لم يتيقن بالوضوء كذلك لم
يتيقن بالحدث، لأنا نقول: إن عدم اليقين بالحدث لا يكفي في براءة الذمة من المشروط
بالطهارة، نعم قد يتم ذلك فيما كان الحدث مانعا منه لا فيما كانت الطهارة شرطا فيه،
ويؤيده أيضا مضافا إلى ما ذكرنا ما عن الفقه الرضوي (1) " وإن كنت على يقين من
الوضوء والحدث ولا تدري أيهما أسبق فتوضأ " سيما على القول بحجية ما ينقل عن هذا
الكتاب، مع انجباره في خصوص المقام بالشهرة محصلة ومنقولة، بل لعله لا خلاف فيه
سوى ما يظهر من المصنف في المعتبر، حيث قال بعد ذكر الإعادة ونسبتها إلى الثلاثة
ومن تبعهم: وعندي فيه تردد، إذ يمكن أن ينظر إلى حاله قبل تصادم الاحتمالين،
فيبنى على ضدها لمكان تيقن انتقاله عنها مع الشك في عودها، واختاره في جامع
المقاصد، لكن في الذكرى أنه إن تم ليس خلافا في المسألة، لرجوعه حينئذ إما إلى
يقين الحدث مع الشك في الطهارة أو بالعكس، والبحث في غيره، وفيه أن ظاهر
إطلاق الأصحاب يقضي بأنه لا تتخرج صورة من صور اليقينين بحيث ترجع إلى غيرها،
وكفى بذلك خلافا.
وكيف كان فقد يرد على ما ذكره المحقق أن يقين الانتقال عنها مع الشك في
عودها معارض بيقين وجود مماثلها مع الشك في الانتقال عنه إلى ضده، وحصول اليقين
بالانتقال عن المماثل أولا غير مجد، والتمسك باستصحاب مطلق المرفوع من غير تشخيص
للأول والأخير استصحاب للجنس في إثبات الشخص، وهو غير جائز كما بين في
محله، على أنه معارض بمثله. لا يقال: إنه - بعد البناء على أن الحدث بعد الحدث
ليس حدثا كما أن الطهارة بعد الطهارة ليست طهارة - يتم كلامه، لأنه بعد فرض حصول
اليقين بارتفاع الحدث الأول يكون ممن تيقن الطهارة وشك في الحدث، لأن ما تيقن

(1) المستدرك - الباب - 38 - من أبواب الوضوء - حديث 1
351

بخروجه من البول الذي يعارض به اليقين الأول يقع على وجهين ناقض وغيره، لأنه
إن كان قبله حدث فالأول، وإلا فالثاني، والفرض أنه في المقام غير معلوم،
لاحتمال تقدمه على الطهارة فلا يكون، حينئذ ناقضا واحتمال تأخره فيكون
ناقضا فهو ممن تيقن الطهارة وشك في الحدث في الحقيقة، ويكون المراد بقولنا إنه تيقن
الحدث سببه لا حكمه، فتأمل. لأنا نقول: إنا وإن قلنا الحدث بعد الحدث ليس
حدثا، لكنه من المستحيل أن ينفك الحدث عن وجوده، لأنه إما أن يكون حاصلا
به أو حاصلا قبله، فبخروج البول في أي وقت كان لا بد وأن يعلم وجود الحدث،
وبه يعارض يقين الطهارة، إلا أن هذا وإن كان أقصى ما يجاب به عن ذلك، لكنه
لا يخلو من تأمل، لأنه في الحقيقة من قبيل استصحاب الجنس، فلا يعارض يقين
الطهارة، ومن هنا كان هذا القول لا يخلو من قوة على بعض الوجوه، بخلاف ما ذكره
العلامة في جملة من كتبه من تقييد ما سمعته من إطلاق الأصحاب بما إذا لم يعلم حالته
السابقة، فيؤخذ بموافقتها، إن طهارة فطهارة، وإن حدثا فحدث، وقد يظهر
منه في بعضها أن وجه ذلك بسقوط حكم اليقينين لتساويهما، فيستصحب الأول، وفيه
ما لا يخفى من انقطاع الأول قطعا، فلا معنى لاستصحابه.
وقال في المختلف بعد ذكر الاطلاق المتقدم: ونحن قد فصلنا ذلك في أكثر
كتبنا، وقلنا إن كان في الزمان السابق على اليقين محدثا فهو الآن محدث، وكذا الطهارة،
ومثاله أنه إذا تيقن عند الزوال أنه نقض طهارة وتوضأ عن حدث وشك في السابق
فإنه يستصحب حال السابق على الزوال، فإن كان طهارة فهو على طهارته، لأنه تيقن أنه
نقض تلك الطهارة ثم توضأ ولا يمكن أن يتوضأ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة، ونقض
الطهارة الثانية مشكوك فيه، فلا يزول عن اليقين بالشك، وإن كان حدثا فهو الآن
محدث، لأنه تيقن أنه انتقل عنه إلى طهارة ثم نقضها، والطهارة بعد نقضها مشكوك
352

فيها، وعن البيضاوي أنه اعترض عليه بأنه لا معنى لاستصحاب الأول بعد العلم بانقطاعه
فأجاب عنه بأن المراد لازم الاستصحاب، أي البناء على مثل الحال الأول، وربما أورد
عليه بعضهم أيضا بأنه يجوز تعاقب الطهارتين كما أنه يجوز تعاقب الحدثين، وفيه أن
ما سمعته من عبارته كالصريحة في إرادة كون الطهارة رافعة والحدث ناقضا، واحتمال
التعاقب المذكور ينافي ذلك، نعم قد يرد عليه أنه حينئذ لا معنى لتسمية نحو ذلك
استصحابا، لأن من اليقين حينئذ وقوع الطهارة مثلا بعد الحدث حتى يتم ما ذكره من
كونها رافعة، اللهم إلا أن يريد بالحدث المتيقن جنسه لا عدده، فيحتمل وقوع حدث
بعد الطهارة الرافعة وإن تيقن حصول حدث قبلها، فينفي ذلك بالاستصحاب الذي ذكره.
نعم لا يتم ما ذكرناه من التوجيه في نحو عبارة القواعد بقوله فيها: " ولو تيقنهما
متحدين مثلا متعاقبين وشك في المتأخر فما لم يعلم حاله قبل زمانهما تطهر، وإلا استصحبه "
لتقييده بالاتحاد، ومراده بالتعاقب كون الحدث بعد الطهارة والطهارة بعد الحدث،
وعلى كل حال فلا ريب في خروج ما ذكره من موضوع ما نحن فيه. إذ مآله إلى معرفة
السابق من اللاحق، فلا معنى لجعله قولا في المسألة، وكأنه إنما ذكره لكونه في بادئ
الرأي قبل التفات الذهن منها وإن كان بعد التفاته يخرج عنها، والأمر سهل، وربما
يظهر من ملاحظة كلامه في المنتهى أنه لم يقصد من ذلك خلافا، بل ذكره مخافة أن
يتوهم أنه منها، هذا.
وقد ذكر بعض متأخري المتأخرين أنه لا بد من تقييد إطلاق الأصحاب المتقدم
بما إذا لم يعلم تأريخ أحدهما، أما إذا علم وجهل فإنه يحكم بتأخر المجهول طهارة
كان أو حدثا، واختاره سيد الكل في منظومته، وكان وجهه أصالة تأخر الحادث،
فيحكم حينئذ بتأخر المجهول إلى زمان القطع بعدم الوجود فيه، لكنه لا يخلو من نظر،
لأن أصالة التأخر إنما تقتضي بالتأخر في حد ذاته، وهو لا يجدي حتى يثبت كونه متأخرا
عن الحدث ومسبوقيته به، وإثبات نحو ذلك بالأصل ممنوع، إذ الأصل حجة في النفي
353

دون الاثبات، لمعارضة الأصل بمثله فيه، ومما يرشد إلى ذلك إطلاق العلماء في المقام
وفي الجمعتين وفي عقدي الوكيلين ونحو ذلك، من غير تقييد بعدم معلومية زمان أحدهما
ومجهولية الآخر، فتأمل جيدا.
(وكذا لو تيقن ترك) غسل (عضو) أو مسحه (أتى به) إجماعا محصلا ومنقولا
وسنة بالخصوص، مضافا إلى أدلة الوضوء (و) وكذا أتى (بما بعده) محافظة على الترتيب
بلا خلاف أجده، لما تقدم لك من الأخبار (1) في بحث الترتيب، ونحو العضو
بعضه في الحكمين معا، وما عن ابن الجنيد من الفرق بين ما كان دون سعة الدرهم وغيره
فيجتزى ببل الأول فحسب دون الثاني، فيجب الاتيان به وبما بعده ضعيف، بل لعل
الظاهر انعقاد الاجماع على خلافه، وقد تقدم الكلام فيه سابقا في بحث الترتيب (وإن
جف البلل) بتمامه على الأصح (استأنف) الوضوء لفوات الموالاة، بل قد يأتي وجوب
الإعادة وإن لم يجف، بناء على تفسيرها بالمتابعة.
(وإن شك في) فعل (شئ من أفعال الطهارة) أي الوضوء (وهو على حاله
أتى بما شك فيه) للأصل والاجماع كما في شرح الدروس للخوانساري وشرح المفاتيح
للأستاذ، بل فيه أنه نقله جماعة، وفي كشف اللثام أنه إجماع على الظاهر المؤيد بنفي
الخلاف في المدارك والذخيرة وغيرهما، والتتبع لكلمات الأصحاب من المقنعة والمبسوط
والمهذب والغنية والمراسم والوسيلة والكافي والسرائر والجامع والمعتبر والنافع والمنتهى
والقواعد والإرشاد والذكرى واللمعة والدروس والروضة وغيرها، وصحيح زرارة (2)
عن أبي جعفر (عليه السلام) المروي في التهذيب والكافي قال: " إذا كنت قاعدا على
وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله
أو تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء، فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد

(1) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب الوضوء
(2) الوسائل - الباب - 42 - من أبواب الوضوء - حديث 1
354

صرت في حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله
عليك فيه وضوءه لا شئ عليك فيه " وربما يؤيده أيضا ما في موثقة ابن أبي يعفور (1)
عن الصادق (عليه السلام) قال: " إذا شككت في شئ من الوضوء وقد دخلت في
غيره فليس شكك بشئ، إنما الشك في شئ لم تجزه " لرجوع الضمير في غيره إلى
الوضوء لكونه أقرب، فيكون مفهومها موافقا للصحيحة الأولى غير مخالف للمجمع عليه هنا
بحسب الظاهر، وبما سمعت من الأدلة يخص عموم ما دل على عدم الالتفات إلى الشئ
المشكوك فيه مع الدخول في الغير، كقول الصادق (عليه السلام) لزرارة (2) في الصحيح:
" يا زرارة إذا خرجت من شئ ثم دخلت في غيره فشككت فشكك ليس بشئ "
ومثله غيره، وهي مذكورة في باب الصلاة، لكن ربما احتمل اختصاص مورد هذه
الأخبار في الصلاة، لاقتضاء سياقها ذلك، وهو ضعيف جدا، بل هي قاعدة محكمة
في الصلاة وغيرها من الحج والعمرة وغيرهما، نعم هي مخصوصة بالوضوء خاصة، لما
سمعته من أدلته، فمن هنا وجب الاقتصار عليه، ولا يتعدى منه في هذا الحكم للغسل
مثلا، بل هو باق على القاعدة من عدم الالتفات إلى الشك في شئ من أجزائه مع
الدخول في غيره من الأجزاء، نعم لا يبعد إلحاق التيمم به.
ومن العجيب ما وقع للفاضل في الرياض من جريان حكم الوضوء في الغسل،
فيلتفت إلى كل جزء وقع الشك فيه مع بقائه على حال الغسل، ولم أعثر على مثل ذلك
لغيره، وكان منشأ الوهم ما في بعض عبارات الأصحاب كالمصنف وغيره من ذكر لفظ
الطهارة الشاملة للوضوء وغيره، وهو - مع أن الظاهر إرادة الوضوء منه لذكرهم ذلك
في بابه - لا يصلح لأن يكون ذلك بمجرده حجة مخصصا للقاعدة المتقدمة الشاملة للصلاة
وغيرها، واحتمال أن يراد بالشئ فيها ما يشمل الغسل مثلا بتمامه فلا يصدق الدخول

(1) الوسائل - الباب 42 - من أبواب الوضوء - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة - حديث 1
355

في الغير مع الشك في بعض الأجزاء قبل الفراغ منه في غاية الضعف، إذ لفظ الشئ
ليس من الألفاظ المجملة التي هي محل شك، فإنه لا يرتاب أحد في صدقه على من شك
في غسل بعض رأسه مع الدخول في الجانب الأيمن أو الأيسر بالنسبة إلى الأيمن أنه
شك في شئ وقد دخل في غيره، وخروج الوضوء عن ذلك لا يقتضي بخروج الغسل،
إذ هو قياس لا نقول به، اللهم إلا أن يكون مستنده ما سمعته من موثقة ابن أبي يعفور
المتقدمة بعد حمل الضمير فيها على الوضوء، لاشتمالها حينئذ على التعليل الجاري في الوضوء
والغسل، وهو شك في شك، مع اعترافه هو باجماله، فتأمل جيدا.
ثم إنه لا فرق بحسب الظاهر بين جميع أفعال الوضوء من النية وغيرها كما نص
عليه بعضهم، للأصل، وإطلاق ما سمعته من الاجماعات المنقولة، فلا يقدح عدم صراحة
الصحيح المتقدم لشموله، ولعل ذلك هو مراد بعضهم كالشيخ في المبسوط والشهيد في
اللمعة بقوله: إن شك في الوضوء في أثنائه أو في شئ منه وجب إعادة الوضوء في الأول
وتلافي المشكوك فيه في الثاني إن لم يحصل الجفاف، إذ لا يتصور الشك في الوضوء في
أثنائه بغير ما ذكرنا، وكذلك الشك في الترتيب وحصول الموالاة وغيرهما، وإن وافق
فعل بعضها الأصل كما في بعض صور الموالاة، ولعل الظاهر أيضا أنه كالشك في الفعل
وعدمه الشك في الصحة والفساد، لأنه في الحقيقة شك في الفعل وعدمه، وأما الشك
في الشرائط الخارجة عن حقيقة الوضوء كالشك في تطهير أعضاء الوضوء وتطهر مائه
ونحوهما فقد يظهر من ملاحظة بعض عبارات الأصحاب أنها كالشك في الأفعال، فيجب
تلافيها، لكن إقامة الدليل على ذلك مشكلة بعد البناء على شمول قاعدة عدم الالتفات
للمشكوك مع الدخول في غيره لنحو الشرائط، فإن دعوى تخصيصها بصحيحة زرارة
المتقدمة ضعيفة، لعدم شمولها لنحوه، والتنقيح ممنوع، لعدم المنقح من إجماع أو
عقل، وعدم ظهور الاجماعات المنقولة في تناول مثله، اللهم إلا أن يقال: إن ذلك
356

يرجع إلى الشك في الصحة والفساد، وقد تقدم جريان الحكم، لكن إقامة الدليل
على الشمول للصحة بهذا المعنى أيضا لا يخلو من نظر، فتأمل جيدا.
ثم من المعلوم أنه حيث يجب تلافي المشكوك يجب الاتيان به ثم بما بعده، كما
صرح به في المبسوط والوسيلة وغيرها من كتب المتأخرين، وكان المراد به ما يتوقف
حصول الترتيب عليه، وإلا فلو كان الشك في بعض العضو فإنه لا يجب إعادة غسل
ما بعده من أجزاء ذلك العضو إلا إذا كان المشكوك فيه غسل الأعلى، لما عرفته سابقا
من عدم وجوب الترتيب في أجزاء العضو بعد الابتداء بالأعلى منه، نعم يتأتى ذلك
على القول به، لكنه قد عرفت ضعفه.
وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في وجوب إعادة ما يتوقف عليه حصول الترتيب
بل نقل الاجماع عليه في شرح الدروس والمفاتيح، والظاهر أنه كذلك، ويدل عليه
أيضا مضافا إلى ذلك ما يفهم من الأدلة هنا من جعل الشارع المشكوك فيه بمنزلة المتيقن
تركه، ولأن الشك فيه في الحقيقة شك في الترتيب أيضا، وقد عرفت وجوب
تلافيه، ومما سمعت يعلم أنه يجب الإعادة على المشكوك فيه وعلى ما بعده مع عدم الجفاف،
وإلا فيجب استئناف الوضوء من رأس، كما صرح به في الوسيلة والجامع والقواعد
واللمعة وغيرها، وكأن إطلاق بعضهم الحكم بذلك منزل عليه، لأن التصفح لكلمات
الأصحاب تقضي بأن المراد ما دام في حال الوضوء يجب عليه أنه يحرز الطهارة اليقينية،
فما يظهر من صاحب الحدائق تبعا للخوانساري في شرح الدروس من المناقشة في هذا
الحكم تمسكا باطلاق صحيحة زرارة المتقدمة في غاية الضعف، مع اعترافه بأن الأصحاب
على خلافه، وكيف وشرطية الموالاة مما قد عرفت انعقاد الاجماع عليها هناك، مع عدم
العلم باحرازها في الفرض، بل قد عرفت أن الشك فيه شك فيها أيضا، فيجب
تلافيه، ولا يحصل إلا بإعادة الوضوء، وما ذكره من أن دليل الموالاة لا عموم فيه بحيث
يشمل المقام لا وجه له، لما عرفت من عدم الانحصار بالروايتين السابقتين، على أن
357

تخصيص المورد فيها لا يخصص الوارد مع الاشتمال على التعليل بأن الوضوء يتبع بعضه
بعضا، وبأنه لا يتبعض، والحاصل لا يليق إطالة الكلام في رد هذه المناقشة التي هي
في غاية السقوط، فلاحظ وتدبر.
ثم إن الظاهر مساواة الظن الذي لم يقم على اعتباره دليل شرعي للشك في هذا
الحكم، كما هو قضية المقنعة والغنية والمراسم والكافي والسرائر والمعتبر والمنتهى وغيرها،
بل لعله مراد من اقتصر على التعبير بالشك في المقام وإن بعد بالنسبة إلى عبارات المصنفين
لمخالفته للحقيقة الاصطلاحية عندهم، نعم لا يبعد دعوى شمول الرواية المتقدمة التي هي
دليل الحكم له، لما تقدم لك سابقا أنه في اللغة للأعم منه ومن الظن، وكيف كان
فلا ريب في المساواة في المقام، لأصالة عدم الفعل، ووجوب تحصيل اليقين بالطهارة
مع عدم دليل على الاكتفاء بالظن هنا، وحمله على الصلاة بعد تسليمه فيها قياس لا نقول
به، وليعلم أن جمعا من الأصحاب قيدوا اعتبار الشك في المقام بما لم يكن كثيرا،
منهم ابن إدريس في السرائر، والشهيد في الذكرى، والمحقق الثاني في شرح القواعد
والسيد في المدارك، والفاضل الهندي في كشف اللثام، والخوانساري في شرح
الدروس، وغيرهم من متأخري المتأخرين، بل لا أجد فيه خلافا كما في الصلاة، ولعله
للعسر والحرج، ويؤيده التعليل الوارد في أخبار الصلاة كما في صحيحة زرارة وأبي
بصير (1) في من كثر شكه في الصلاة بعد أن قال (عليه السلام): يمضي في شكه
" لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطمعوه، فإن الشيطان خبيث يعتاد
لما عود " وبه يظهر وجه دلالة صحيحة عبد الله بن سنان (2) قال: " قلت له (عليه
السلام): رجل مبتلى بالوضوء والصلاة. وقلت: هو رجل عاقل، فقال الصادق
(عليه السلام): وأي عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الخلل الواقع في الصلاة - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب مقدمة العبادات
358

فقال: سله هذا الذي يأتيه من أي شئ، فإنه يقول لك من عمل الشيطان "
فإن الظاهر أن المراد بابتلائه كثرة الشك، على أن كثرة الشك من الشيطان كما ظهر
لك من الرواية السابقة، وبذلك كله تقيد صحيحة زرارة المتقدمة لو سلم شمول
لفظ الشك فيها لنحو ذلك. لظهور انصرافه في الشك الموافق لأغلب الناس، على
أن المواجه بالخطاب فيها خاص لم يعلم كونه كذلك، ولا إجماع على التعميم، بل قد
عرفت عدم الخلاف في عدمه.
وقد يشير الاكتفاء ببرد الماء الذي لم يوصل إلى حد القطع في مرسل أبي يحيى
الواسطي (1) إلى ما نحن فيه. قال: " قلت للصادق (عليه السلام): جعلت فداك
أغسل وجهي ثم أغسل يدي ويشككني الشيطان أني لم أغسل ذراعي ويدي قال:
إذا وجدت برد الماء على ذراعك فلا تعد " وكأن مفهوم الشرط فيه غير مراد، فتأمل
جيدا. وقد أشبعنا الكلام في باب الصلاة ببعض المباحث المتعلقة بكثير الشك،
كالبحث عن مقدار ما به يتحقق وما به يزول، وأن المراد منه بالنسبة إلى كل جزء أو
يكفي تحققه ولو في جزء وغير ذلك، فلاحظ وتدبر.
ثم الظاهر أن كثير الظن ككثير الشك في المقام، لما عرفت سابقا، وأما القطع
فإن كان في جانب العدم فلا يلتفت أيضا إلا إذا علم سبب القطع وكان مما يفيد صحيح
المزاج قطعا، وإن كان في الوجود فالظاهر اعتبار قطعه إلا إذا حفظ سبب القطع وكان
مما لا يفيد صحيح المزاج قطعا، فتأمل جيدا.
(ولو تيقن) فعل (الطهارة وشك في الحدث) بعدها لم يعد الوضوء إجماعا محصلا
ومنقولا مستفيضا كالسنة، مع ما في وجوب الإعادة من العسر والحرج (و) كذا
(لو شك في شئ من أفعال الوضوء بعد انصرافه لم يعد) كما في المبسوط والمهذب
والجامع والمعتبر والنافع والمنتهى والإرشاد، ولعله يرجع إليه ما في المقنعة والسرائر

(1) الوسائل - الباب - 42 - من أبواب الوضوء - حديث 4
359

من أنه إن شك بعد فراغه منه وقيامه من مكانه لم يلتفت، وما في الغنية وكذا الكافي
لأبي الصلاح إن نهض متيقنا لتكامله لم يلتفت إلى شك وما في الوسيلة والفقيه والمراسم
والهداية من أنه لا يلتفت إلى الشك في شئ منه بعد ما قام على أن يراد بالانصراف
والقيام ونحوهما مجرد الفراغ من الوضوء قام من المجلس أو لم يقم طال جلوسه أولم يطل،
كما في البيان وجامع المقاصد والروض والروضة والمسالك والمدارك، بل في الروضة
والمدارك الاجماع عليه، وكأنهما فهما من عبارات الأصحاب المتقدمة ذلك، وفي
المعتبر والمنتهى دعوى الاجماع على عدم الالتفات مع الانصراف عن حاله، فقد يقال
أن الانصراف عن الحال الأول يحصل بالفراغ منه وعدم التشاغل فيه، ويدل عليه
ما في حسنة بكير بن أعين (1) قال: " قلت له: الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال هو حين
يتوضأ أذكر منه حين يشك " وقول الصادق (عليه السلام) في خبر محمد بن مسلم (2)
" كل ما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فأمضه ولا إعادة عليك " مع تأيده
بأصالة صحة فعل المسلم، وبأنه لو وجب التلافي مع الشك بعد الفراغ لأدي إلى الحرج
المنفي، وأما ما في صحيحة زرارة المتقدمة ما يدل على اشتراط عدم الالتفات بالقيام
مع الفراغ وصيرورته في حالة أخرى كالصلاة وغيرها كقوله (عليه السلام) فيها:
" فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو في غيرها
فشككت لا شئ عليك " فهي مع أن دلالتها بالمفهوم وعدم القائل بمضمونها من اشتراط
الدخول في الصلاة - محتملة لأن يراد بالقيام الفراغ كما يقضي به عطفه عليه، وإلا
لناسب تقديمه عليه، على أنه معارض بالمفهوم في صدرها، لقوله (عليه السلام) (4):
" إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى

(1) الوسائل - الباب - 42 - من أبواب الوضوء - حديث 7 - 6
(2) الوسائل - الباب - 42 - من أبواب الوضوء - حديث 7 - 6
(3) الوسائل - الباب - 42 - من أبواب الوضوء - حديث 1
(4) الوسائل - الباب - 42 - من أبواب الوضوء - حديث 1
360

جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء " بل
الظاهر أن الشرط فيها خارج مخرج الغالب من القيام بعد الوضوء والاشتغال بأمور
أخر، ونحوه يجري في سائر عبارات الأصحاب المتقدمة، على أنه قد لا يتمكن المكلف
من القيام، بل ربما كان حال قعوده يشتغل بالصلاة وغيرها من الأمور، مع أنه ربما
يكون الوضوء في غير حال القعود، وإلى غير ذلك من الوجوه التي منها تضعف بها.
وأما ما في موثقة ابن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) (1) " إذا شككت
في شئ من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشئ، إنما الشك إذا كنت
في شئ لم تجزه " بناء على رجوع الضمير فيه إلى الوضوء، فإنه قد يراد بالغير ما يشمل
حال المكلف بعد الفراغ، كما يشعر به قوله (عليه السلام): (إنما الشك في شئ لم
تجزه) إذ لا ريب في صدق الجواز مع الفراغ منه وإن لم يقم عن محل الوضوء، فظهر
لك بذلك أن ما اختاره بعض المتأخرين من اعتبار القيام عن محل الوضوء في عدم الالتفات
إلى الشك في غيره لا يخلو من نظر بل منع، وكذا ما اختاره بعضهم من اعتبار الانتقال
عن المحل ولو تقديرا كطول الجلوس ونحوه.
نعم يبقى الاشكال في أن المدار في تحقق الفراغ حصول اليقين بالفراغ آنا ما أو عدم
رؤية المكلف نفسه غير متشاغل به مع سبق الشروع فيه أو يفرق بين الجزء الأخير
وغيره فيعتبر الانتقال عن المحل أو ما في حكمه كطول الجلوس في الأول دون الثاني وجوه
بل أقوال، والتحقيق أنه لا ريب في تحقق الفراغ بمشغولية المكلف بفعل آخر وانتقاله
إلى حالة أخرى ولو بطول الجلوس ونحوه وإن لم يسبق له يقين بالفراغ، وكذا مع عدم
انتقاله إلى حال آخر وقد سبق له اليقين بحصول الفراغ، وأما إذا لم ينتقل ولم يحصل
له اليقين فالظاهر عدم تحقق الفراغ فيجب عليه إعادة المشكوك من غير فرق في المقامين
بين الجزء الأخير وغيره، فما وقع في كشف اللثام من الفرق بينهما باعتبار الانتقال

(1) الوسائل - الباب - 42 - من أبواب الوضوء - حديث 2
361

وحكمه كطول القعود بالنسبة إلى الجزء الأخير دون غيره ليس في محله، بل الظاهر أنه
خرق للاجماع المركب، وكذا ما وقع لغيره من اعتبار حصول اليقين بالفراغ مطلقا،
ولآخر فجعل المدار على عدم رؤية المكلف نفسه مشغولا بأفعال الطهارة، بل الوجه
ما سمعت من اعتبار أحد الأمرين وهو إما الانتقال عن المحل أو ما في حكمه أو حصول
اليقين بالفراغ. نعم قد يحصل إشكال بالنسبة للأول في ما لو شك في فعل شئ من
أفعال الوضوء وكان قد انتقل منه إلى حال آخر إلا أنه لا يحصل بسببه الفساد على تقدير
عدم فعله في الزمن السابق لبقاء الموالاة بمعنى مراعاة الجفاف، كما لو وقع له شك في
مسح رأسه وقد انتقل عن محل الوضوء واشتغل بفعل آخر والحال بقاء إمكان الموالاة
كأن تكون الرطوبة باقية، ولعل الأقوى فيه عدم الالتفات أيضا أخذا باطلاق الأدلة،
بل قد يظهر من بعضهم دعوى الاجماع عليه من غير فرق بين الدخول بالمشروط بالطهارة
وغيره، وهل يدخل في الشك بعد الفراغ ما لو وقع للمكلف الشك في أنه عدل عن فعل
الوضوء فترك غسل باقي الأجزاء مثلا أو أنه أتمه مع عدم حصول اليقين له بالفراغ آنا ما؟
وجهان، ينشئان من إطلاق النص والفتوى عدم الالتفات مع الانتقال، ومن الاقتصار
فيما خالف الأصل على المتيقن، والمعلوم منه ما لو كان الشك من جهة احتمال السهو والنسيان
ونحوهما مع بناء المكلف على الفعل الصحيح، لا أقل من الشك في الشمول، وإن كان
الوجه الثاني لا يخلو من ضعف بناء على حرمة قطع الوضوء.
ثم لا ريب في جريان ما ذكرنا من عدم الالتفات إلى الشك بعد الفراغ في كل
فعل مركب كان توالي فعل الأجزاء شرطا في صحته كالصلاة ونحوها، لأصالة صحة
فعل المسلم، وإصالة عدم السهو والنسيان في أفعاله في عبادات ومعاملات من غير فرق
في ذلك بين استلزام المعصية على تقدير عدم الفعل وعدمه، ومنه يظهر أن من شك
في شئ بعد الفراغ من الغسل الارتماسي وحصول اليقين له بذلك آنا لا يلتفت، لأصالة
صحة فعل المسلم، فما في القواعد للعلامة من الاشكال فيه كأنه في غير محله، وأما ما لم
362

يكن كذلك كما في الغسل الترتيبي ونحوه فالظاهر عدم الالتفات فيما لو وقع له هذا الشك
بعد الدخول بالمشروط بالطهارة لما في الصحيح (1) " عن رجل ترك بعض ذراعه
أو بعض جسده من غسل الجنابة، فقال (عليه السلام): إذا شك وكانت به بلة وهو
في صلاته مسح بها عليه، وإن كان استيقن رجع فأعاد عليهما ما لم يصب بلة، فإن
دخله الشك وقد دخل في صلاته فليمض في صلاته، ولا شئ عليه " وكذا لا يلتفت
بعد حصول اليقين له آنا ما بالاكمال والفراغ، أما إذا لم يحصلا معا فلا يخلو إما أن يكون
معتاد الموالاة في غسله أو لا، فإن كان الأول احتمل عدم الالتفات، ترجيحا للظاهر
على الأصل، ويحتمل العدم للعكس، بل لعله الأقوى، إذ لا دليل على تقديم الظاهر
على الأصل هنا، اللهم إلا أن يعلم حاله في أول الغسل أنه كان عازما على فعله تماما
لمكان السيرة على عدم الالتفات حينئذ، مع أنه مشكل أيضا، لعدم تحققها في نحوه
بل هي متحققة في من اغتسل وتيقن الفراغ ثم شك بعد ذلك.
ومما سمعته يظهر لك الحكم فيما لو لم يكن معتاد الالتفات فإنه يجب عليه الالتفات
حينئذ بلا إشكال، ودعوى التمسك بنحو قوله (عليه السلام): " إذا شككت في شئ
وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشئ " ضعيف، إذ من المعلوم إرادة الغير المرتب
على وقوع الفعل الأول لا مطلق الغير، وإلا لزم أن لا يعتبر الشك يوما، كما أنه من
التأمل فيما قدمناه يظهر لك حكم الشك بعد الفراغ بالنسبة إلى سائر الأفعال من غسل
النجاسات وغيرها،
بل يظهر لك أيضا أن الشك في الشرائط كالشك في الأجزاء
في عدم الالتفات، لأصالة الصحة واستصحابها، واشتراك العلة، ولزوم العسر
والحرج، وأن الشك في الشرط شك في المشروط، وأولويته من الجزء، وعموم
النصوص وإطلاقها، خصوصا ما ورد منها في خصوص الوضوء، وضبط الأصحاب
المبطل بغير ذلك، بل ظاهر تعليلهم الحكم في الجزء بالعسر والحرج العموم، بل عن

(1) الوسائل - الباب - 41 - من أبواب الجنابة - حديث 2
363

العلامة التصريح في غير واحد من كتبه بعدم الالتفات إلى الشك في الطهارة بعد الفراغ
في الطواف، معللا له بأن الشك في الشرط شك في المشروط، بل قد عرفت التصريح
أيضا بعدم الالتفات إلى الشك في النية، وهي شرط على أحد القولين أو الوجهين،
بل حكي عن المبسوط والنهاية والوسيلة في خصوص المقام ما يحتمل أو يظهر منه ما قلناه
أيضا، فما عن كشف اللثام في مسألة الشك في الطهارة بعد الفراغ من الطواف من
التصريح بتخصيص الحكم بالأجزاء بل قيل إنه يلوح من الذكرى أيضا وإن ألحق النية
بها ضعيف جدا.
(ومن ترك غسل) أي تطهير الظاهر من خروج الغائط المسمى (النجو أو البول
وصلى أعاد الصلاة عامدا كان أو ناسيا أو جاهلا) كما في المبسوط والمعتبر والنافع والمنتهى
والمختلف والقواعد والدروس وغيرها لكن مع ترك ذكر الجهل فيها، ولعل المراد به
في عبارة المتن الجهل بالحكم الشرعي، لاستبعاد غيره، فيكون تركهم له اتكالا على
ما هو المعروف من عدم معذورية الجاهل، أو يراد به عبارة عن بقاء شئ منها بعد
غسله لها، فإن الأقوى حينئذ إعادة الصلاة، وليس هذا كجاهل أصل وجود النجاسة،
وأما احتمال إرادة الجهل بها على حسب غيرها من النجاسات بفرض الخروج نائما ونحوه
ويكون الحكم بالإعادة في المقام لخصوص أدلة تخرجه عن حكم الجاهل فبعيد جدا، إذ
ليس في الأدلة ما يقتضي ذلك.
وكيف كان فقد نسبه في المنتهى إلى أكثر علمائنا وفي المختلف إلى المشهور مع
التصريح فيه بالإعادة في الوقت والخارج، وفي المدارك أن المسألة جزئية من جزئيات
من صلى مع النجاسة، وسيجئ تفصيل الحكم فيها، قلت: قد يفرق بينهما لمكان
ما تسمعه من الأدلة الخاصة فيها، بل يرشد إليه ما قيل إنه لم ينقل الخلاف هنا في وجوب
الإعادة وقتا وخارجا إلا عن ظاهر ابن الجنيد، حيث خصص الوجوب بالوقت، وعن
الصدوق حيث نفى الإعادة في الوقت، وأما هناك فأكثر المتقدمين على الإعادة مطلقا،
364

وعن الشيخ في بعض أقواله العدم مطلقا، وفي الاستبصار وتبعه عليه جل المتأخرين
الإعادة في الوقت دون خارجه.
وعلى كل حال فالذي يدل على المشهور مضافا إلى ما دل على حكم النجاسة في
الصلاة خصوص صحيح ابن أبي بصير (1) عن الصادق (عليه السلام) قال: " قلت له:
أبول وأتوضأ وأنسى استنجائي ثم أذكر بعد ما صليت قال: اغسل ذكرك، وأعد
صلاتك، ولا تعد وضوءك " ومرسل ابن بكير عن الصادق (عليه السلام) (2) أيضا
" في الرجل يبول وينسى أن يغسل ذكره حتى يتوضأ ويصلي قال: يغسل ذكره،
ويعيد الصلاة، ولا يعيد الوضوء " وصحيح زرارة (3) قال: " توضأت يوما ولم
أغسل ذكري ثم صليت فسألت أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: اغسل ذكرك، وأعد
صلاتك " وهي وإن لم ينص فيها على النسيان لكنه مقتضى ترك الاستفصال فيها، بل
قد يقال إنه الأظهر، لمكان استبعاد وقوع ذلك من مثل زرارة مع العمد، وهي كما
ترى مطلقة بالنسبة للإعادة في الوقت وخارجه، بل قد يقال: إن الأمر بالإعادة فيها
ظاهر في الشرطية التي يستفاد منها انعدام المشروط بانعدامها، فيجب الإعادة والقضاء
حينئذ، أما الأول فواضح، وأما الثاني فلقوله (عليه السلام) (4): (من فاتته)
لشمولها للفائت الشرعي.
فما عن ابن الجنيد من التفصيل بذلك بالنسبة إلى نسيان البول ضعيف، لا أعرف
له مستندا سوى الجمع بين ما سمعت من المعتبرة وبين خبر عمرو بن أبي نصر (5) قال:
" قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني صليت فذكرت أني لم أغسل ذكري بعد ما صليت

(1) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 3 عن عمرو بن أبي نصر
(2) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2 - 7
(3) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2 - 7
(4) المستدرك - الباب - 1 - من أبواب قضاء الصلوات - حديث 3 من كتاب الصلاة
(5) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 6
365

أفأعيد؟ قال: لا " وخبر هشام بن سالم (1) عن الصادق (عليه السلام) أيضا " في الرجل
يتوضأ وينسى أن يغسل ذكره وقد بال، فقال: يغسل ذكره ولا يعيد الصلاة " بحمل الأولى
على الإعادة في الوقت، والثانية على خارجه، وهو مع كونه فرع التكافؤ الذي هو
مفقود هنا من وجوه عديدة، لتأيد الأولى بفتوى المشهور، واعتبار أسانيدها دون
الخبرين سيما الثاني - لا شاهد عليه، وليس بأولى من حملها على تخصيص ذلك بمن لم
يجد الماء ونحوه وإن بعد، كضعف ما عن الصدوق (رحمه الله) في الفقيه من عدم إيجابه
الإعادة في الوقت مع نسيان الاستنجاء عن الغائط، للموثق (2) قال: " سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: لو أن رجلا نسي أن يستنجي من الغائط حتى يصلي لم
يعد الصلاة " وصحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليهما السلام) (3) قال: " سألته عن
رجل ذكر وهو في صلاته أنه لم يستنج من الخلاء قال: ينصرف، ويستنجي من الخلاء،
ويعيد الصلاة، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته فقد أجزأه ذلك، ولا إعادة عليه "
وهما - مع إعراض المشهور عنهما بل كان أن ينعقد الاجماع على خلافهما إذ لم نعثر على
موافق للصدوق في ذلك إلا ما ينقل عن بعض متأخري المتأخرين كالخوانساري ومعارضتهما
بخبر سماعة (4) قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا دخلت الغائط فقضيت الحاجة
فلم تهرق الماء ثم توضأت ونسيت أن تستنجي فذكرت بعد ما صليت فعليك الإعادة،
وإن كنت أهرقت الماء فنسيت أن تغسل ذكرك حتى صليت فعليك إعادة الوضوء والصلاة
وغسل ذكرك، لأن البول مثل البزاق " والسند منجبر بعمل المشهور، مع أنه نقل
عن الصدوق في العلل روايته بسند معتبر - لا يصلحان مقيدين لما دل على الإعادة (5)

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2 - 3 - 4
(2) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2 - 3 - 4
(3) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 2 - 3 - 4
(4) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 5 وفي الوسائل
والكافي والاستبصار (البراز) بدل (البزاق)
(5) الوسائل الباب - 42 - من أبواب النجاسات
366

لناسي النجاسة الشامل لما نحن فيه مع عدم صراحة الصحيح منهما بنسيان الاستنجاء من
الغائط فقط، بل الغالب خروج البول مع الغائط، فلا يكون معمولا به عند أحد،
واحتمال الأول نسيان الاستنجاء بالماء مع التمسح بالأحجار وغير ذلك، وأضعف منه
ما ينقل عنه (رحمه الله) في المقنع من العمل بما في موثقة عمار الساباطي (1) عن الصادق
(عليه السلام) " في الرجل ينسى أن يغسل دبره بالماء حتى صلى إلا أنه قد تمسح بثلاثة
أحجار، قال: إن كان في وقت تلك الصلاة فليعد الصلاة وليعد الوضوء، وإن
كان قد مضى وقت تلك الصلاة التي صلى فقد جازت صلاته، وليتوضأ لما يستقبل من
الصلاة " إذ هو مع معارضته بما تقدم مشتمل على ما لا يقول به الأصحاب من عدم الاجتزاء
بالتمسح بثلاثة أحجار على ما ستعرف فساده من إعادة الوضوء، وعلى التفصيل بين الوقت
وخارجه، فلا بد من طرحه أو حمله على ما لا يخالف المذهب، فتأمل جيدا، هذا.
وفي الرياض بعد أن نقل المذهب المشهور ومذهب ابن الجنيد ومختار الصدوق
في الفقيه والمقنع نقل عن العماني القول بأولوية الإعادة مطلقا، ثم مذكر له دليلي ابن الجنيد
وأبطلهما، والظاهر أنه اشتباه، لأن المنقول عن العماني أولوية الإعادة في الوضوء،
موافقا لما تسمعه من المشهور بين الأصحاب لا الصلاة، فلاحظ وتأمل.
ثم إن ظاهر عبارة المصنف هنا كصريحة في غير هذا الكتاب وصريح المشهور نقلا
وتحصيلا شهرة كادت تكون إجماعا بل هي كذلك عند التأمل عدم وجوب إعادة الوضوء
عند ترك الاستنجاء من غير فرق بين العمد والنسيان للأصل، والروايات المستفيضة
حد الاستفاضة، منها ما تقدم في أول المسألة ونحوها غيرها في نفي إعادة الوضوء كصحيح
ابن يقطين (2) عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) وعمرو بن أبي نصر (3) عن الصادق

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 1 - 3
(3) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 1 - 3
367

(عليه السلام) وصحيح ابن أذينة (1) قال: " ذكر أبو مريم الأنصاري أن الحكم
ابن عيينة بال يوما ولم يغسل ذكره متعمدا، فذكرت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام)
فقال: بئس ما صنع، عليه أن يغسل ذكره ويعيد صلاته ولا يعيد وضوءه " خلافا للمنقول
عن الصدوق، فأوجب إعادة الوضوء، والمعروف في النقل عنه في خصوص نسيان
غسل مخرج البول، لكن قد يظهر من المنقول من عبارة المقنع شموله للمخرجين، وعلى
كل حال فالخلاف منحصر فيه، إذ لم أجد له موافقا من المتقدمين والمتأخرين، فلعل
خلافه غير قادح في الاجماع، كعدم صلاحية معارضة دليله لما سمعت من الأدلة، بل
في الصحيح (2) عن الباقر (عليه السلام): " في الرجل يتوضأ وينسى غسل ذكره،
قال: يغسل ذكره ثم يعيد الوضوء " وموثق أبي بصير (3) " إذا أهرقت الماء ونسيت
أن تغسل ذكرك حتى صليت فعليك إعادة الوضوء والصلاة " مع موثقة سماعة المتقدمة
سابقا من وجوه عديدة، فيجب طرحها أو حملها على الاستحباب، كما عن جماعة من
الأصحاب، أو القدر المشترك بينه وبين الوجوب كما في الموثقة الأخيرة، أو يحمل
الوضوء فيها على الاستنجاء بالماء كما وقع إطلاقه عليه في بعض الأخبار، أو على التقية
كما احتمله في الحدائق، أو غير ذلك، هذا. مع أن العلامة في المنتهى طعن في
جميع أسانيد أخباره، ولتحقيق ذلك محل آخر، على أن مستنده على الظاهر ما تقدم
من الموثقة السابقة في اختياره في المسألة المتقدمة، وقد عرفت أنها غير صالحة لذلك من
وجوه غير خفية، مع احتمالها ككلامه لحمل الوضوء فيها على الاستنجاء بالماء وإن بعد،
بل ربما ظهر من بعضهم دعوى الاجماع على عدم إعادة الوضوء في نسيان الاستنجاء من

(1) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4 - 9
(2) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4 - 9
(3) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 8 وفي الوسائل
(إعادة الوضوء وغسل ذكرك)
368

الغائط، ونحو الوضوء في عدم اشتراط صحة بغسل المخرجين التيمم، كما صرح به
جماعة من غير فرق بين اعتبار التضيق فيه وعدمه، وربما ظهر من العلامة في القواعد
عدم صحته قبل الغسل على الأول، لاستلزام وقوعه قبله سعة وقت زائد على الصلاة
والتيمم، وهو - مع كونه ليس خلافا في المسألة عند التحقيق لمساواته مع غيره من
النجاسات حينئذ - فيه أولا أن الظاهر إرادة الضيق عرفا، فلا ينافيه نحو زمان الغسل،
وثانيا فلأنه من مقدمات الصلاة كالتستر ونحوه، فلا يقدح سعة الزمان بالنسبة إليه،
فتأمل جيدا.
(ومن جدد) أي فعل (وضوئه) الواجب أو المندوب مرة أو مرات (بنية
الندب) لمكان مشروعية التجديد إجماعا وسنة كادت تكون متواترة (ثم صلى) بعده
(وذكر أنه أخل بعضو) مثلا (من إحدى الطهارتين) أو الطهارات (فإن اقتصرنا) في
الواجب بالنسبة إلى نية الوضوء (على نية القربة) ولم نوجب غيرها من الوجه والرفع
أو الاستباحة (فالطهارة والصلاة صحيحتان) من غير إشكال يعرف عندهم فيه، بل في
كلام بعضهم القطع به (وإن أوجبنا نية الاستباحة أعادهما) كما في المنتهى والتذكرة بل
عن سائر كتبه، واختاره المحقق الثاني وغيره من متأخري المتأخرين، وكان وجهه
بالنسبة للطهارة عدم اليقين بحصولها، فيكون من قبيل من تيقن الحدث وشك في الطهارة،
لاحتمال وقوع الخلل في الأولى، والثانية لا تجدي، لعدم اشتمالها على نية الاستباحة
مع القول باشتراطها، وللصلاة عدم اليقين بالبراءة لما عرفت، خلافا للشيخ في المبسوط
وابن سعيد في الجامع كما عن القاضي وابن حمزة، فلم يوجبوا الإعادة مع قولهم بوجوب
نية الرفع والاستباحة على ما قيل، واستجوده المصنف في المعتبر إن نوى بالثانية الصلاة
أي الاتيان بها على الوجه الأكمل، بل ربما ظهر من الشهيد في الدروس اختياره من
غير تقييد، لكن تعجب العلامة من ذلك. ويمكن رفع العجب بالتزام الشرطية المذكورة
فيما لم يجزم المكلف بحصولها، وإلا فلا معنى للتكليف بها أو لخصوصية في التجديد لكون
369

المفهوم من الأدلة أن مشروعيته لتدارك الفائت كما ادعاه في الذكرى ناسيا له إلى الأصحاب
والأخبار، أو لأن ذلك في الحقيقة شك بعد الفراغ، فلا يلتفت إليه وإن كان يأبى
الأخير عبارة المبسوط، أو لأن قصد التجديدية يقوم مقام قصد الاستباحة، فتأمل.
وتفصيل الحال أن الوضوء المكرر إما أن يكون احتياطيا أو تجديديا، فإن كان
الأول فلا إشكال في عدم الإعادة، نعم قد يقع الاشكال في ثبوته، مع أن الحق ثبوته،
لعموم ما دل على رجحان الاحتياط واحتمال إدخاله في التجديدي، بأن يقال يجوز
تكرير الوضوء لتدارك ما يحتمل فواته في الأول، فإن صادف وقع في محله وإلا كان
تجديديا لا يقدح فيما ذكرنا من الحكم، لكون دائرا مدار مشروعية نحو هذا الوضوء
تجديديا كان أو غيره، كما أنه لا فرق في ذلك بين اشتراط نية الوجه أو الاستباحة أو
الرفع أو عدم الاشتراط، وأما إذا كان تجديديا أي لم يقصد فيه القصد المذكور بل
قصد النور على النور فقد عرفت أنه لا إشكال عندهم في عدم الإعادة، حتى لو تبين الخلل
في الأولى بناء على الاجتزاء بنية القربة، إذ هو يقضي بالاكتفاء به، لكن قد يقال:
إنا وإن قلنا بعدم اشتراط نية ما عداها، لكن نية الخلاف مانعة، سواء في ذلك خلاف
الوجه أو الرفع مثلا، فلا يجتزى بالوضوء مع زعم الجنابة وتبين الخلاف، وإن قلنا
بالاجتزاء بنية القربة.
نعم يتم ذلك بناء على ما اخترناه سابقا من القول بالاجتزاء بنية القربة مع القول
بأن ظاهر الأدلة أن أفعال الوضوء من قبيل الأسباب الشرعية التي لا يقدح في تأثيرها
عدم النية أو نية العدم، أو على أن نية التجديدية مع القصد المذكور ليس من قبيل نية
الخلاف، لكنه بعيد.
وأما إذا لم نجتز بنية القربة بل قلنا بلزوم ضم غيرها معها فلا يخلو فإما أن نقول
بوجوب كون المضموم رفعا أو استباحة أو الوجه من الوجوب والندب فقط فإن كان
الأول فالظاهر وجوب الإعادة كما ذكره المصنف وجماعة خلافا لمن عرفت، لظهور
370

ما استدلوا به هناك على وجوبهما في العموم، والقول أن مشروعية التجديد للتدارك
كما في الذكرى وغيرها بل قد عرفت نسبته فيها إلى الأصحاب والأخبار فيه إنا لم نتحقق
ذلك من كل منهما، أما الأصحاب فمقتضى فتوى كثير منهم هنا بوجوب الإعادة ردا
على الشيخ ومن تبعه خلافه، وأما الأخبار فلم نعثر في شئ منها على ما يدل عليه،
بل ظاهرها أن محل استحبابه حال عدم ذلك، واحتمال استفادته من نحو قول الصادق
(عليه السلام) (1): " الطهر على الطهر عشر حسنات " ونحوه، بتقريب أن إطلاق
لفظ الطهر عليه مجاز لمناسبة أنه يتفق فيه ذلك كما ترى، بل شك في شك، فلا يلتفت
إليه، كما أنه لا يلتفت إلى ما تقدم من احتمال كون وجهه أنه من الشك بعد الفراغ،
لأنه مع أن ظاهر القائلين خلافه ممنوع، لظهور أدلته فيما إذا كان طرفا الشك وجودا
وعدما بحتا لا عدما خاصا، لا أقل من الشك في ذلك، فيبقى القاعدة لا معارض لها.
ومما يرشد إليه ذكرهم في باب الصلاة وجوب الإعادة على من اعتقد ترك سجدتين
لا يعلم أنهما من ركعة أو ركعتين، وكذا فيما إذا دار الأمر المقطوع بتركه بين الركن
وغيره، فتأمل. ومثلهما ما أشار إليه المصنف في المعتبر في تقييده السابق من أن نية
التجديدية للصلاة تقوم مقام نية الاستباحة، لاقتضائها حصول منع قبله، وهو مفقود
هنا، وفرق واضح بين ما نحن فيه وبين ما تقدم سابقا من احتمال الاجتزاء بنية ما كانت
الطهارة شرطا في كماله وإن لم تكن شرطا في صحته كما في قراءة القرآن ونحوها، لأن
رفع الحدث شرط في الكمال، فنيته يمكن الاكتفاء بها، لما فيه من التلازم، وأما هنا
فليس كذلك، إذ لا مدخلية لرفع الحدث في هذا الكمال، فظهر لك من ذلك كله
أن الأقوى بناء على شرطية الاستباحة وجوب الإعادة، نعم يتم فيما لو غفل عن
الوضوء الأول ثم توضأ ثانيا بنية الاستباحة ثم ظهر له فساد إحدى الطهارتين، لكنه
خارج عما نحن فيه، لأن الفرض نية التجديد.

(1) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الوضوء - حديث 3
371

وإن كان الثاني أي لم نقل باشتراط الاستباحة لكن مع القول باشتراط نية الوجه
من الوجوب والندب فالظاهر عدم وجوب الإعادة حيث يتفق الوضوءات في الوجه من
غير إشكال يعرف فيه عندهم، وكان وجهه أنه مع تبين فساد الأولى تقع الثانية صحيحة
لوجود المقتضي وارتفاع المانع، ونية التجديدية غير منافية، لكونها من الأوصاف
الخارجية بمعنى أنه إن صادفت صحة الوضوء الأول كانت تجديدا، إلا فلا، بل
تقع ابتدائية، وأما مع اختلافهما في الوجه فقد أطلق بعضهم عدم الاكتفاء، والظاهر
أنه قد يتفق حصوله في بعض الصور، كما لو توضأ بنية الوجوب لمكان حصول غاية
مشروطة بها، كنذر المس حينئذ في وقت خاص ثم مضى وجوب ذلك فجدد ندبا،
فإنه حينئذ يكتفي به لو ظهر فساد الأول، لأنه من قبيل المندوبين حينئذ، وكذا
لو توضأ ندبا قبل حصول المشروط بالطهارة ثم جدد وجوبا لمكان النذر ونحوه بعد حصول
المشروط بالطهارة، فإنه يكتفي به لو ظهر فساد الأولى، لأنه من قبيل الواجبين
حينئذ كما هو واضح، فتأمل جيدا. وأما في غير هذه الصور الأربع فيجب إعادة
الوضوء، والحاصل أن المدار على اجتماع الشرائط من نية القربة والوجه فقط.
(ولو صلى بكل واحدة من الطهارتين صلاة) أو أزيد (أعاد) ما صلاه (بالأولى)
فقط دون ما صلاه بالثانية (بناء على الأول) من الاجتزاء بالتجديدي لو ظهر فساد
الأولى، أو يجب أن يعيد ما صلاه بهما بناء على الثاني من عدم الاجتزاء، لعدم حصول
الفراغ اليقيني لاحتمال كون المتروك من الأولى ولا تكفي الثانية كما هو المفروض، نعم
لقائل أن يقول هنا وفيما تقدم أن المراد بإعادة الصلاة إنما هي في الوقت، وأما خارج
الوقت فيشكل وجوب القضاء، لأن المختار أنه بفرض جديد، ودعوى شموله للمقام
ممنوع، لكونه معلقا على الفوات الذي لم يعلم تحققه هنا، لاحتمال كون المتروك في الطهارة
الثانية، فتقع الصلاة صحيحة، ومنه ينقدح عدم وجوب القضاء أيضا على من تيقن
الحدث وشك في الطهارة ثم غفل عن ذلك فصلى ولم يذكر حتى خرج الوقت، لعدم
372

العلم بالفوات أيضا، نعم يتجه فيهما معا إيجاب إعادة الطهارة مطلقا، وإعادة الصلاة
في الوقت دون القضاء، وكذلك في من تيقن الطهارة والحدث وشك في السابق وفرض
غفلته عن ذلك فصلى من غير وضوء ولم يذكر حتى خرج الوقت، فإنه لا يجب القضاء،
لعدم العلم بالفوات حينئذ، لكن يمكن الفرق بين الصورة الأخيرة وبين ما تقدمها بالتزام
تسليم ذلك فيها دونهما لمكان استصحاب الحدث في الأولين الذي بسببه يحصل الفوات
فيشمله حينئذ عموم قوله (عليه السلام): (من فاتته) إذ المراد به أعم من الشرعي والواقعي بخلافهما،
إذ مع تعارض اليقينين لا استصحاب، والوجوب في الوقت إنما كان لتحصيل اليقين
بالبراءة اليقينية الذي لا يصلح جريانه في خارج الوقت، وقد يقال: إنه يمكن تنقيح
الفوات باستصحاب عدم الاتيان بالمكلف به، اللهم إلا أن يلتزم أن الاستصحاب وإن
قلنا به لكنه لا يتحقق به اسم الفوات، وهو جار في الصور الثلاثة، فتأمل جيدا.
ثم اعلم أنه ربما ظهر من العلامة في المنتهى الفرق بين هذه المسألة وسابقتها، فإنه
بعد أن حكم في الأولى بوجوب إعادة الصلاة بناء على اشتراط الاستباحة وعدمه على
تقدير العدم، وحكم في الثانية وهي ما نحن فيه بوجوب إعادة ما صلاه بالطهارة الأولى
فقط، بناء على القول بالاكتفاء بنية القربة، ووجوب إعادتهما معا بناء على اشتراط
الاستباحة، قال: " وعندي في هذا شك، وهو أنه قد تيقن الطهارة وشك في
بعض أعضائها بعد الانصراف، لأن الشك إلحاق الترك بالمعين منهما، وهو الشك
في ترك أحد الأعضاء الواجبة، فلا يلتفت، وهو قوي " انتهى. قلت: وأنت
خبير أن ما ذكره هنا جار في المسألة السابقة أيضا حرفا بحرف، ومن هنا لم يفرق ابن
طاووس في هذا التخريج بين الصورتين كما نقل عنه، واستوجهه الشهيد في البيان،
قلت: هو لا يخلو من وجه وإن كان الأولى خلافه، لما عرفته سابقا من ظهور أدلة
الشك بعد الفراغ في غيره، لا أقل من الشك في ذلك، على أن الظاهر أن ذلك من
قبيل الشبهة المحصورة، فإن اليقين بالاجمال يرفع الاستصحاب في كل منهما، إذ ترجيح
373

أحدهما ترجيح بلا مرجح، وإجراء الحكم فيهما معا مناف لمقتضى اليقين، فوجب
اجتنابهما معا، فلا يحكم حينئذ بالصحة في كل منهما، نعم لقائل أن يقول: إنه يشكل
الحكم بوجوب إعادة الصلاة كما يظهر الاتفاق عليه هنا في الجملة، وذلك لأنه إن لم يكن
هذا أولى ممن تيقن الحدث وشك في الطهارة فلا أقل من المساواة له، وقد تقدم لك
سابقا عدم وجوب إعادة الصلاة عليه لو حدث له الشك بعد الفراغ من الصلاة، بل
قد عرفت أن فيه احتمال عدم وجوب إعادة الوضوء أيضا، بل قد ظهر من بعضهم
اختياره، فيمكن حينئذ القول هنا بعدم وجوب إعادة الصلاة وإن قلنا بوجوب إعادة
الطهارة، ولعل اتفاقهم هنا على هذا الحكم بحسب الظاهر يشعر بعدم البناء على تلك القاعدة،
وهي عدم الالتفات إلى الشك في الشرائط بعد فعل مشروطها، اللهم إلا أن يحمل
كلامهم هنا على ما إذا علم تقدم سبب الشك على فعل المشروط بها وإن لم يحصل الشك
سابقا فعلا، لكنه بعد تسليم الحكم فيه لا يخلو حمل كلامهم عليه من بعد، فتأمل.
(ولو) تيقن أنه (أحدث عقيب طهارة منهما ولم يعلمها بعينها) فلا يدري أنها
طهارة الصلاة الأولى أو الثانية (أعاد الصلاتين إن اختلفتا عددا) في الوقت وفي خارج
الوقت بلا خلاف أجده فيه، بل هو مجمع عليه، ويشير إليه الأمر (1) لناسي الفريضة
الغير المعينة بقضاء ثلاث صبح ومغرب وأربع، تحصيلا ليقين البراءة، للقطع بفساد
إحدى الصلاتين، فيجب إعادتها وقضاؤها، ولا يتم ذلك إلا بفعلهما معا فيجب،
واحتمال عدم الالتفات إلى كل منهما لأصالة الصحة فيه، وكونه شكا بعد الفراغ مما
لا ينبغي أن يصغى إليه بعد حصول القطع بفساد واحدة منهما، أو شغل الذمة بها كاحتمال
القول بالسقوط لعدم إمكان الجزم بالمكلف به الذي هو شرط في صحة العبادة، فينعدم
المشروط بانعدامه، فإنه مع أنه مخالف للاجماع هنا يمكن تطرق المنع إلى شرطية ذلك
على الاطلاق، بل المعلوم منه مع إمكانه، على أن أدلة الاحتياط تكفي في صحته،

(1) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب قضاء الصلوات
374

وإلا لا نسد هذا الباب في كثير من محاله كما هو واضح، كاحتمال القول بالتخيير بالنسبة
إلى كل واحدة منهما، إذ هو تقول على الشارع بما لا يرضى به.
(وإن لم يختلفا عددا فصلاة واحدة ينوي بها ما في ذمته) كما هو الأشهر، بل
عليه عامة من تأخر، خلافا للشيخ في المبسوط وابني إدريس وسعيد في السرائر والجامع
وعن القاضي وأبي الصلاح وابن زهرة فالتعدد، للمرسل (1) المنجبر بالشهرة بين
الأصحاب عن الصادق (عليه السلام) قال: " من نسي من صلاة يومه واحدة ولم
يدر أي صلاة هي صلى ركعتين وثلاثا وأربعا " وهو وإن كان واردا في النسيان لكن
الظاهر أن العلة في الجميع واحدة، بل قد يدعى دخول بعض أفراد المسألة فيه، ولمكان
إطلاق الرواية خير الأصحاب بين الجهر والاخفات حيث يكون الأمر دائرا بين الجهرية
وغيرها، هذا كله إن قلنا إن الأصل يقتضي وجوب التعدد، وإلا فلو أنكرنا ذلك -
لمكان أصالة البراءة السالمة عن المعارضة سوى ما يتمسك به الخصم من وجوب اليقين
والجزم في الامتثال، ولا يحصل إلا بفعل الجميع المناقش فيه بما قيل من أن ذلك مشترك
الالزام، لأنه من أعاد الصلاتين يعلم قطعا بأن إحداهما ليست في ذمته، للجزم بأن
الفساد في إحدى الطهارتين، وإنما يقصد الوجوب على تقدير الفساد، ولا أثر لجزمه،
والجواب عنهما واحد، وهو أن الجزم إنما يعتبر إذا كان ممكنا، وللمكلف إليه طريق،
وهو منفي في المسألة - كنا في غنية عن الرواية، لكن لقائل أن يقول: إن ذلك يؤثر
في سقوط الجزم بما في الذمة لا بما يوقعه، وفرق واضح بين المقامين، لا يقال: إنه
لا دليل على مشروعية التقرب بهذا التعيين للواقع مع التردد بما في الذمة، لأنا نقول
يكفي في ذلك أدلة الاحتياط، لكون مبناها الجزم بالواقع لاحتمال المصادفة لما في الذمة،
ومن هنا يظهر لك أن الأصل يقتضي إيجاب التعدد، وعلى القول بالأول فهل الاطلاق
رخصة أو عزيمة؟ وجهان، أقواهما الأول، إذ الاكتفاء بالأول يقضي بالثاني بطريق

(1) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب قضاء الصلوات - حديث 1
375

أولى، فتأمل جيدا. ولا فرق فيما ذكرنا من الحكم بين المسافر والحاضر، كما هو واضح.
(ولو صلى الخمس) فرائض (بخمس طهارات) مثلا (ثم تيقن أنه أحدث عقيب
إحدى الطهارات أعاد ثلاث فرائض ثلاثا واثنتين وأربع) مرددة بين الظهر والعصر
والعشاء إن كان حاضرا، أو ثلاثا واثنتين مرددة بين الصبح والظهر والعصر والعشاء
إن كان مسافرا لما تقدم، (وقيل) كما عرفته من الشيخ ومن تابعه (يعيد خمسا)
حاضرا كان أو مسافرا، وقد ظهر لك وجهه، (والأول أشبه) لما عرفت من
الرواية المرسلة المنجبرة بعمل الأصحاب سندا أو تعديا عن مدلولها، ولو كان الاخلال
من طهارتين وجب إعادة أربع فرائض على المختار ثلاثا واثنتين وأربع مرتين،
فإن أراد المحافظة على الترتيب جعل المغرب بينهما، والمسافر يجتزي بثنائيتين بينهما
مغرب، وعلى القول بالتعين يجب الاتيان برابعة ثالثة معينا في كل واحدة منها،
إلا أنه يجب عليه أيضا الاتيان برابعة العشاء بعد المغرب إن قلنا بوجوب مراعاة الترتيب
مع الجهل به، وإذ قد عرفت أن الأقوى كون الاطلاق رخصة لا عزيمة فيجوز حينئذ
الاطلاق، فيقتصر على أربعتين، ويجوز التعيين، فلا بد من ثلاث، لكن هل له
التعين في بعض والاطلاق في الباقي؟ قال العلامة في القواعد بعد أن ذكر ما ذكرنا من
حكم الحاضر والمسافر: " والأقرب جواز إطلاق النية فيهما والتعين، فيأتي بثالثة،
ويتخير بين تعيين الظهر أو العصر أو العشاء، فيطلق بين الباقيين مراعيا للترتيب، وله
الاطلاق الثنائي، فيكتفي بالمرتين " انتهى. قيل وهي من مشكلات عبارة القواعد
حتى نقل عن بعضهم تصنيف رسالة فيها، ولعل المراد منها ما ذكرنا من جواز إطلاق النية
في إحدى الرباعيتين والتعيين في أخرى. لكن لا بد له أن يأتي حينئذ برباعية ثالثة،
لأنه مع تعيين إحدى الرباعيتين يبقى احتمال شغل ذمته بالرباعيتين الأخيرين غير ما
عينها، فلا بد أن يأتي بثالثة حينئذ، فإن جعل المعينة الظهر أطلق في الباقيتين بين الباقيتين،
376

وهكذا مع مراعاة الترتيب إن قلنا بوجوبه، لكن قد يقال: إنه متعبة من غير فائدة،
إذ مع الاتيان بالمطلقتين والثالثة المعينة لا فرق حينئذ بينه وبين التزام التعيين في الجمع،
لمكان الاكتفاء بهذا المقدار أيضا، ثم إنه إذا كان يأتي بالمطلقتين فهي قائمة مقام المعينة،
فما الفائدة في فعلها، واحتمال تقليل أفراد المطلق شئ خال عن الفائدة، فتأمل جيدا.
تم الجزء الثاني من العبادات بعون الله الموفق
للسعادات ويتلوه الجزء الثالث في
الأغسال إن شاء الله الخالق
المتعال
إلى هنا تم الجزء الثاني من كتاب جواهر
الكلام وقد بذلنا غاية الجهد في تصحيحه
ومقابلته للنسخة الأصلية المخطوطة
والمصححة بقلم المصنف قدس روحه
الشريف ويتلوه الجزء الثالث في
الأغسال إن شاء الله تعالى قريبا.
عباس القوچاني
377