الكتاب: جواهر الكلام
المؤلف: الشيخ الجواهري
الجزء: ٢١
الوفاة: ١٢٦٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: تحقيق وتعليق : الشيخ عباس القوچاني / تصحيح : الشيخ محمد الآخوندي
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع: ١٣٦٢ ش
المطبعة: حيدري
الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران
ردمك:
ملاحظات: نهض بمشروعه : الشيخ علي الآخوندي / طبعة أفست عن الطبعة السابعة ١٣٩٢

جواهر الكلام
(في شرح شرائع الاسلام)
تأليف
شيخ الفقهاء وإمام المحققين الشيخ محمد حسن النجفي
المتوفى سنة 1266
الجزء الحادي والعشرون
قوبل بنسخة الأصل المخطوطة المصححة بقلم المصنف طاب ثراه
حققه وعلق عليه الشيخ عباس القوچاني
نهض بمشروعيه
الشيخ علي الآخوندي
الناشر
دار الكتب الاسلامية
الطبعة السابعة
تمتاز هذه الطبعة عما سبقها بعناية تامة
في التصحيح
الشيخ محمد الآخوندي 8 1392 - ه‍ ق
1

نام كتاب: جواهر الكلام - جلد 21
تأليف: شيخ محمد حسن النجفي
ناشر: دار الكتب الاسلامية - بازار سلطاني - تهران
تيراژ: 3000
نوبت چاپ: سوم
تاريخ انتشار: بهار 1362
چاپ از: چاپخانه حيدري
2

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الغر الميامين
(كتاب الجهاد)
من الجهد بالفتح لغة التعب والمشقة، أو منه بالضم كذلك أيضا
الوسع والطاقة، وشرعا بذل النفس وما يتوقف عليه من المال في محاربة
المشركين أو الباغين على وجه مخصوص، أو بذل النفس والمال والوسع
في إعلاء كلمة الاسلام وإقامة شعائر الايمان، وهو وإن كان شاملا
للكافرين والباغين لكن فيه أنه غير مانع، لأن إعزاز الدين أعم من
كونه بالجهاد المخصوص، إلا أن الأمر في أمثال هذه التعاريف التي
لا يراد منها إلا التمييز في الجملة سهل كما تسمعه إنشاء الله في نظائرها
وعلى كل حال فهو ذروة سنام الاسلام (1) ورابع أركان الايمان (2)
وباب من أبواب الجنة (3) وأفضل الأشياء بعد الفرائض (4) وسياحة
أمة محمد صلى الله عليه وآله (5) التي جعل الله عزها بسنابك خيلها

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 3.
(2) الوسائل - الباب - 4 من أبواب جهاد النفس الحديث 11.
(3) الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 13 - 9 - 22.
(4) الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 13 - 9 - 22.
(5) الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 13 - 9 - 22.
3

ومراكز رماحها (1) وفوق كل بربر فإذا قتل في سبيل الله فليس
فوقه بر (2) والخير كله في السيف وتحت ظل السيف، ولا يقيم الناس
إلا السيف، والسيوف مقاليد الجنة والنار (3) وللجنة باب يقال له
باب المجاهدين يمضون إليه، فإذا هو مفتوح وهم متقلدون سيوفهم (4)
ومن غزا غزوة في سبيل الله فما أصابه قطرة من السماء أو صداع
إلا كانت له شهادة يوم القيامة (5) وأن الملائكة تصلي على المتقلد
بسيفه في سبيل الله حتى يضعه (6) ومن صدع رأسه في سبيل الله غفر
الله له ما كان قبل ذلك من ذنب (7) إلى غير ذلك مما ورد فيه، مضافا
إلى قوله تعالى (8): " إن الله اشترى من المؤمنين - إلى قوله تعالى -
فاستبشروا ببيعكم " إلى آخره، وقوله تعالى (9): " لا يستوي
القاعدون " إلى آخره، وغير ذلك.
ولكن لا ريب في أن الأصلي منه قتال الكفار ابتداء على الاسلام
وهو الذي نزل فيه (10) " كتب عليكم القتال وهو كره لكم " ويلحق
به قتال من دهم المسلمين منهم، وإن كان هو مع ذلك دفاعا، وقتال
الباغين ابتداء فضلا عن دفاعهم على الرجوع إلى الحق، وأما دفع من

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 21 - 1 - 2 - 10.
(2) الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 21 - 1 - 2 - 10.
(3) الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 21 - 1 - 2 - 10.
(4) الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 21 - 1 - 2 - 10.
(5) الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 21 - 1 - 2 - 10.
(6) كنز العمال ج 2 ص 265 الرقم 5651 و 5653.
(7) كنز العمال ج 2 ص 252 الرقم 5359.
(8) سورة التوبة - الآية 112.
(9) سورة النساء - الآية 97.
(10) سورة البقرة الآية 212.
4

يريد قتل نفس محترمة أو أخذ مال أو سبي حريم فليس من الجهاد
المصطلح، بل هو من الدفاع، ولذا ذكروه في كتاب الحدود.
(و) تمام (النظر في) الجهاد يكون في (أركان أربعة)
(الأول من يجب عليه)
الجهاد بالمعنى الأول (وهو فرض على كل مكلف حر ذكر
غيرهم) ولا معذور (فلا يجب على الصبي ولا على المجنون)
ونحوهما ممن هو غير مكلف بلا خلاف أجده فيه، كما عن الغنية
الاعتراف به فيه، بل وباقي الشرائط، بل الاجماع بقسميه عليه، مضافا
إلى خبر رفع القلم وغيره مما دل على اعتبار البلوغ والعقل في التكليف
(ولا على المملوك) بلا خلاف أجده فيه، بل في المنتهى الحرية شرط
فلا يجب على العبد إجماعا، لأن النبي صلى الله عليه وآله كان يبايع
الحر على الاسلام والجهاد، والعبد على الاسلام دون الجهاد، ولأنه
عبادة يتعلق بها قطع مسافة، فلا تجب على العبد، وزاد في محكي
المختلف قوله تعالى (1) " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على
الذين لا يجدون ما ينفقون حرج " لأن العبد لا يملك، وإن نوقش
بأن عدم الملكية لا يستلزم عدم الوجدان، فقد يجد بالبذل له وإن لم
يكن مالكا، فلا يدخل في الآية، بل يبقى على عموم الأدلة، ولذا
جعل الأصحاب الحرية شرطا غير اشتراط السلامة من الفقر، ولو صح

(1) سورة التوبة - الآية 92.
5

ما ذكره من التلازم لا غنى اشتراط السلامة من الفقر عن اشتراط
الحرية، مع أنه مبني على عدم ملكية العبد، وأما على القول بها
كما هو رأي جماعة في الجملة أو مطلقا فلا تلازم، مع أنهم اشترطوا
الحرية أيضا، وإن كان قد يجاب بأن اتفاق حصول البذل لا ينافي
اشتراط الوجوب المطلق بالوجدان، كما لا ينافيه بالنسبة إلى اشتراط
السلامة من الفقر مع إمكان اتفاق البذل، والقول بالملكية مع الاتفاق
على حجر التصرف عليه غير مجد، واحتمال الإذن من المولى كاحتمال
البذل لا يحقق الوجوب المطلق.
ومن ذلك ينقدح إمكان الاستدلال بالآية بوجه آخر عليه وعلى
نحوه من فاقدي الشرائط لصدق الضعف ولو بسبب عدم القدرة على شئ
وإن أمكن حصول الأقدار من المولى، وبذلك وما سمعته من الاجماع
يخص العموم المقتضي لاندراج العبد فيه، وإن حكي عن الإسكافي عدم
اشتراط الحرية مشعرا بوجوبه على العبد للعموم الذي قد عرفت حاله
مع أنه معارض بما دل على عدم قدرته ووجوب الطاعة وعدم إمكان
التصرف منه بنفسه، وللمرسل (1) " إن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين
عليه السلام ليبايعه فقال: يا أمير المؤمنين أبسط يدك أبايعك على أن
ادعوا لك بلساني، وأنصحك بقلبي، وأجاهد معك بيدي، فقال عليه
السلام: أحر أنت أم عبد؟ فقال: عبد فصفق يده فبايعه " الذي
هو غير حجة في نفسه، ومحتمل للجهاد معه على تقدير الحرية أو إذن
المولى، أو عموم الحاجة وغير ذلك.
فالتحقيق حينئذ عدم وجوبه على العبد بجميع أقسامه إلا المبعض
منه إذا كان قد تهايا مع مولاه، فإن العمومات حينئذ شاملة له في

(1) الوسائل - الباب 4 من أبواب العدو الحديث 3.
6

نوبته، والاجماع المحكي إنما هو على عدم وجوبه على العبد، لا على
أن الحرية شرط وإن توهم نحو ما تسمعه في الذكورة، وفرق واضح
بينهما، ضرورة اقتضاء اشتراطها عدم وجوبه على فاقدها ولو جزءا
يسيرا، بل وإن ارتفع عنه سائر الموانع من حيث الرقية بأن كان
مأذونا من المولى في الجهاد وفي بذل المال، إذ ليس لازم الرقية مانعا
عن الوجوب كي يتجه الوجوب مع ارتفاعه، بل لأن الحرية من حيث
هي كذلك شرط، والفرض عدمها، إلا أنك قد عرفت عدم دليل عليها
لا من الآية ولا من الاجماع ولا من غير ذلك، فيبقى العموم حينئذ
سالما، اللهم إلا أن يمنع من حيث التغرير بجزء الرق مؤيدا ذلك
بظاهر اشتراط الأصحاب الحرية، وإن فرعوا عليه عدم الوجوب على
العبد، فإن ذلك لا يقتضي إرادة خصوص المملوك بتمامه منها،
فتأمل جيدا.
(ولا على المرأة) بلا خلاف أيضا، بل الاجماع بقسميه عليه
مضافا إلى ضعفها عن ذلك، وقول أمير المؤمنين عليه السلام في خبر
الأصبغ (1): " كتب الله الجهاد على الرجال والنساء، فجهاد الرجل
أن يبذل ما له ونفسه حتى يقتل في سبيل الله، وجهاد المرأة أن تصبر
على ما ترى من أذى زوجها " ولو باعتبار أن التفصيل في معنى الجهاد
بينهما قاطع للشركة، بل في المنتهى الخنثى المشكل لا يجب عليها الجهاد
وهو كذلك إن تم الاجماع على اشتراط الذكورة، أو غيره من الأدلة
ولو الخبر المزبور، ضرورة اقتضاء الشك في الشرط الشك في المشروط
وإلا كان محلا للنظر، لأن الاجماع على عدم وجوبه على المرأة لا يقتضي
نفيه عنها بعد فرض عدم العلم بكونها امرأة، مع عموم قوله تعالى

(1) الوسائل - الباب 4 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
7

" كتب عليكم القتال " اللهم إلا أن يقال بعدم اندراجها في ضمير
خطاب المذكرين، فتبقى حينئذ على أصالة عدم الوجوب كما هو
الظاهر لعدم عموم يشملها، ولعل ذلك هو العمدة، وإلا فلا إجماع
صريح في المنتهى على اعتبار الذكورة، وإن حكي، قال: " الذكورة
شرط في وجوب الجهاد فلا يجب على المرأة اجماعا " ومن المحتمل بل
الظاهر إرادته على عدم وجوبه على المرأة، ثم قال: " الخنثى المشكل
لا يجب عليه الجهاد، لأن الذكورة شرط الوجوب، ومع الشك في
الشرط يحصل الشك في المشروط، مع أن الأصل العدم " نعم عن
الغنية نفي الخلاف فيه وفي غيره من الشرائط مؤيدا بظاهر الاشتراط في
عبارات الأصحاب على وجه لا يقدح فيه تفريع الخاص الذي هو غير
مقتض لإرادة خصوص الخاص منه.
(ولا على الشيخ الهم) العاجز عنه للأصل وظاهر الآية المعتضد
بعدم الخلاف المحكي والمحصل، مضافا إلى قاعدة نفي الحرج المقتضية
كالآية للحوق المريض ونحوه به كما صرح به غير واحد إلا أن يكون
مريضا مرضا لا يمنعه منه، نعم لو فرض قوة الهم عليه وجب عليه وإن كبر
سنه كما وقع من عمار بن ياسر في صفين ومسلم بن عوسجة في كربلاء
(و) كيف كان فلا خلاف بين المسلمين في وجوبه في الجملة بل
هو كالضروري، خصوصا بعد الأمر به في الكتاب العزيز في آيات
كثيرة، كقوله تعالى (1): " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين "
وقوله تعالى (2) " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله " وقوله تعالى (3) " فإذا

(1) سورة التوبة - الآية 74 - 29.
(2) سورة التوبة - الآية 74 - 29.
(3) سورة محمد صلى الله عليه وآله - الآية 4.
8

لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " وقوله تعالى (1) " يا أيها الذين
آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات " وقوله تعالى (2) " فليقاتل في
سبيل الله " وقوله تعالى (3) " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا " وقوله
تعالى (4) " حرض المؤمنين على القتال " إلى غير ذلك.
نعم (فرضه على الكفاية) بلا خلاف أجده فيه بيننا بل ولا
بين غيرنا، بل كاد يكون من الضروري فضلا عن كونه مجمعا عليه،
مضافا إلى المعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه، وقوله
تعالى (5) " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون
في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم
على القاعدين درجة، وكلا وعد الله الحسنى " وقاعدة الحرج، إلا ما
يحكى عن سعيد بن المسيب فأوجبه على الأعيان لظاهر قوله تعالى (6)
" انفروا خفافا وثقالا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله "
ثم قال (7): " إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما " والنبوي (8) " من
مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق " وفيه
ما قيل من أن الآية منسوخة بظاهر قوله تعالى (9) " وما كان المؤمنين
لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة " إلى آخره، أو أنها في خصوص

(1) سورة النساء - الآية 73 - 76.
(2) سورة النساء - الآية 73 - 76.
(3) سورة التوبة - الآية 5 - 41 - 39.
(4) سورة الأنفال - الآية 66.
(5) سورة النساء الآية 97.
(6) سورة التوبة - الآية 5 - 41 - 39.
(7) سورة التوبة - الآية 5 - 41 - 39.
(8) سنن البيهقي - ج 9 ص 48 وكنز العمال - ج 2 ص 255
الرقم 5423.
(9) سورة التوبة الآية 123.
9

غزاة تبوك التي استنفرهم النبي صلى الله عليه وآله فيها، فتخلف فيها
كعب بن مالك وأصحابه فهجرهم النبي صلى الله عليه وآله حتى تاب
الله عليهم، أو أن المراد من الآية الوجوب ابتداء، فإن الواجب الكفائي
عندنا واجب على الجميع وإن كان يسقط بفعل من يقوم به منهم، ولذا
يعاقب الجميع بتركه، قال أمير المؤمنين عليه السلام في المروي (1)
عنه في دعائم الاسلام: " والجهاد فرض على جميع المسلمين لقول الله
عز وجل: كتب عليكم القتال " فإن قامت بالجهاد طائفة من المسلمين
وسع سائرهم التخلف عنه ما لم يحتج الذين يلون الجهاد إلى المدد،
فإن احتاجوا لزم الجميع أن يمدوهم حتى يكتفوا، قال الله عز وجل:
" وما كان المؤمنون لينفروا كافة " وإن دهم أمر يحتاج فيه إلى جماعتهم
نفروا كلهم، قال الله عز وجل: " انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا
بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله " وأما النبوي (2) فهو مع أن رواية
أبو هريرة المعلوم كذبه محتمل ضربا من الندب أو وجوب العزم الذي
هو من أحكام الايمان أو غير ذلك، وما يحكى عن بعض العامة من
أنه كان واجبا على الصحابة ثم نسخ مما هو معلوم البطلان، بل يمكن
دعوى الضرورة على خلافه.
ثم إن الكفاية بحسب الحاجة بكثرة المشركين وقلتهم وضعفهم
وقوتهم، وعن الشيخ والفاضل والشهيدين والكركي أن أقل ما يفعل
الجهاد في السنة مرة، بل عن الأخير دعوى الاجماع عليه، وهو الحجة

(1) المستدرك - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 23.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 48 وكنز العمال - ج 2 ص 255.
الرقم 5423.
(3) سورة التوبة - الآية 5.
10

إن تم، لا ما قيل من قوله تعالى (3): " فإذا انسلخ الأشهر الحرم "
الآية باعتبار تعليق وجوبه على الانسلاخ، فيجب كلما وجد الشرط،
ولا يتكرر بعد ذلك بقية العام، لعدم إفادة الأمر المطلق التكرار،
إذ هو كما ترى فيه نظر من وجوه.
وعلى كل حال فلا خلاف بيننا بل الاجماع بقسميه عليه في أنه
إنما يجب على الوجه المزبور (بشرط وجود الإمام عليه السلام)
وبسط يده (أو من نصبه للجهاد) ولو بتعميم ولايته له ولغيره في
قطر من الأقطار، بل أصل مشروعيته مشروط بذلك فضلا عن وجوبه،
ففي خبر بشير الدهان (1) عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: قلت
له إني رأيت في المنام إني قلت لك أن القتال مع غير الإمام المفروض
طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، فقلت لي هو كذلك،
فقال أبو عبد الله عليه السلام هو كذلك هو كذلك " وفي خبر عبد الله
ابن المغيرة (2) " قال محمد بن عبد الله للرضا عليه السلام وأنا أسمع حدثني
أبي عن أهل بيته عن آبائه عليهم السلام أنه قال له بعضهم إن في بلادنا موضع
رباط يقال له قزوين وعدوا يقال له الديلم، فهل من جهاد أو هل من رباط
فقال: عليكم بهذا البيت فحجوه، فأعاد عليه الحديث فقال عليكم بهذا البيت
فحجوه أما يرضى أحدكم أن يكون في بيته ينفق على عياله من طوله ينتظر
أمرنا فإن أدركه كان كمن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله بدرا، وإن
مات منتظرا لأمرنا كان كمن كان مع قائمنا صلوات الله عليه هكذا في
فسطاطه وجمع بين السبابتين، ولا أقول هكذا وجمع بين السبابة والوسطى
فإن هذه أطول من هذه، فقال أبو الحسن عليه السلام: صدق " وفي

(1) الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 5.
(2) الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 5.
11

موثق سماعة (1) عنه عليه السلام أيضا قال لقي عباد البصري علي بن
الحسين عليه السلام في طريق مكة فقال له يا علي بن الحسين عليه السلام
تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينته، إن الله عز وجل (2)
يقول: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل
والقرآن، ومن أوفى بعهدة من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به
وذلك هو الفوز العظيم " فقال له علي بن الحسين صلوات الله عليهما
أتم الآية، فقال: " التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون
الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله
وبشر المؤمنين " فقال له علي بن الحسين صلوات الله عليهما: إذا رأينا
هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج " وفي خبر أبي
بصير (3) عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم السلام المروي عن العلل
والخصال " قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يخرج المسلم في الجهاد
مع من لا يؤمن في الحكم ولا ينفذ في الفئ أمر الله عز وجل، فإنه
إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدونا في حبس حقنا، والاشاطة بدمائنا
وميتته ميتة جاهلية " وخبر الحسن بن علي بن شعبة المروي (4) عن تحف
العقول عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون " والجهاد واجب
مع إمام عادل، ومن قاتل فقتل دون ماله ورحله ونفسه فهو شهيد،
ولا يحل قتل أحد من الكفار في دار التقية إلا قاتل أو باغ، وذلك

(1) الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
(2) سورة التوبة - الآية 112.
(3) الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 8 - 10.
(4) الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 8 - 10.
12

إذا لم تحذر على نفسك، ولا أكل أموال الناس من المخالفين وغيرهم
والتقية في دار التقية واجبة، ولا حنث على من حلف تقية يدفع بها
ظلما عن نفسه " وخبر محمد بن عبد الله السمندري (1) " قلت لأبي
عبد الله عليه السلام إني أكون بالباب يعني باب من الأبواب فينادون
السلاح فأخرج معهم، فقال: أرأيتك إن خرجت فأسرت رجلا فأعطيته
الأمان وجعلت له من العهد ما جعله رسول الله صلى الله عليه وآله
للمشركين أكان يفون لك به؟ قال: لا والله جعلت فداك ما كان يفون
لي قال فلا تخرج ثم قال لي أما أن هناك السيف " وخبر الحسن بن العباس
ابن الجوشي (2) عن أبي جعفر الثاني عليه السلام في حديث طويل في بيان
" إنا أنزلناه " قال: " ولا أعلم في هذا الزمان جهادا إلا الحج والعمرة والجوار "
وخبر عبد الملك بن عمر (3) قال: " قال لي أبو عبد الله عليه السلام:
يا عبد الملك مالي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل
بلادك، قال: قلت وأين قال: جده وعبادان والمصيصة وقزوين،
فقلت: انتظارا لأمركم والاقتداء بكم، فقال: أي والله، لو كان
خيرا ما سبقونا إليه، قال: قلت له كان يقولون ليس بيننا وبين جعفر
خلاف إلا أنه لا يرى الجهاد، فقال: أنا لا أراه، بلى والله إني
لأراه ولكن أكره أن أدع علمي إلى جهلهم " إلى غير ذلك من النصوص
التي مقتضاها كصريح الفتاوى عدم مشروعية الجهاد مع الجائر وغيره،
بل في المسالك وغيرها عدم الاكتفاء بنائب الغيبة، فلا يجوز له توليه
بل في الرياض نفي علم الخلاف فيه حاكيا له عن ظاهر المنتهى وصريح
الغنية إلا من أحمد في الأول، قال وظاهرهما الاجماع، مضافا إلى

(1) الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 7 - 4 - 2.
(2) الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 7 - 4 - 2.
(3) الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 7 - 4 - 2.
13

ما سمعته من النصوص المعتبرة وجود الإمام، لكن إن تم الاجماع
المزبور فذاك، وإلا أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة
الشاملة لذلك المعتضدة بعموم أدلة الجهاد، فترجح على غيرها.
(و) كيف كان ف‍ (لا يتعين إلا أن يعينه الإمام عليه السلام)
على شخص خاص أو أشخاص كذلك (لاقتضاء المصلحة) في الخصوصية
(أو لقصور القائمين عن) القيام به أو (الدفع إلا بالاجتماع) فيعين
الإمام عليه السلام من يتم به القيام بذلك، وإلا وجب كفاية أيضا
كأصله (أو يعينه على نفسه بنذر وشبهه) كالعهد واليمين والإجارة
أو غير ذلك مما يكون سببا للتعيين المخرج له عن الكفائية، ومنه إذا
التقى الزحفان وتقابل الفئتان، قال الله تعالى (1): " إذا لقيتم فئة
فاثبتوا " و (2): " إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار "
هذا، وقد أطنب في المسالك في بيان قصور العبارة من حيث عطف
قوله: " أو لقصور " على المستثنى أو على قوله: " مصلحة " ولكن
لا فائدة مهمة بعد وضوح المراد، والله العالم.
(وقد تجب المحاربة على وجه الدفع) من دون وجود الإمام
عليه السلام ولا منصوبه (كأن يكون) بين قوم يغشاهم عدو يخشى
منه على بيضة الاسلام، أو يريد الاستيلاء على بلادهم أو أسرهم
وأخذ مالهم، أو يكون (بين أهل الحرب) فضلا عن غيرهم (ويغشاهم
عدو يخشى منه على نفسه فيساعدهم دفعا عن نفسه) قال طلحة بن
زيد (3) " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل دخل أرض الحرب
.

(1) سورة الأنفال - الآية 47 - 15.
(2) سورة الأنفال - الآية 47 - 15.
(3) الوسائل - الباب 6 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 مع
الاختلاف في اللفظ
14

بأمان فغزا القوم الذين دخل عليهم قوم آخرون، قال: على المسلم
أن يمنع عن نفسه ويقاتل على حكم الله وحكم رسوله، وأما أن
يقاتل على حكم الجور ودينهم فلا يحل له ذلك " (ولا يكون) ذلك
ونحوه (جهادا) بالمعنى الأخص الذي يعتبر فيه الشرائط المزبورة،
بل في المسالك " أشار المصنف بذلك إلى عدم جريان حكم الفرار والغنيمة
وشهادة المقتول فيه على وجه لا يغسل ولا يكفن " بل في الدروس نسبته
إلى ظاهر الأصحاب،
قال بعد أن ذكر الدفاع عن البيضة مع الجائر
وعن النفس: " وظاهر الأصحاب عدم تسمية ذلك كله جهادا، بل
دفاع، وتظهر الفائدة في حكم الشهادة والفرار وقسمة الغنيمة وشبهها "
قلت: قد يقال بجريان الأحكام المزبورة عليه إذا كان مع إمام عادل
عليه السلام أو منصوبه وإن كان هو دفاعا أيضا، لكنه مع ذلك هو
جهاد كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وآله لما دهمه المشركون إلى
المدينة، وإطلاق المصنف وغيره نفي الجهاد عنه إنما هو مع عدم وجود
الإمام العادل عليه السلام ولا منصوبه، فهو حينئذ ليس إلا دفاعا
مستفادا من النصوص المزبورة وغيرها، بل هو كالضروري، بل ظاهر
غير واحد كون الدفاع عن بيضة الاسلام مع هجوم العدو ولو في زمن
الغيبة من الجهاد، لاطلاق الأدلة، واختصاص النواهي بالجهاد ابتداء
للدعاء إلى الاسلام من دون إمام عادل عليه السلام أو منصوبه، بخلاف
المفروض الذي هو من الجهاد من دون اشتراط حضور الإمام ولا منصوبه
ولا إذنهما في زمان بسط اليد، والأصل بقاؤه على حاله، واحتمال
عدم كونه جهادا حتى في ذلك الوقت مخالف لاطلاق الأدلة وإن كان
قد يظهر من خبر يونس (1) الآتي في للرابطة كون الجهاد هو الابتداء

(1) الوسائل - الباب 6 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
15

إلا أنه محمول على إرادة كون ذلك الأكمل من أفراده، وإلا فالجهاد
أعم كما يشعر به تقسيمهم إياه إلى الابتداء وإليه، بل قد تقدم في
كتاب الطهارة تصريح جماعة بكون المقتول فيه شهيدا كالمقتول بين يدي
الإمام عليه السلام، فلا يغسل ولا يكفن، بل حكاه بعضهم عن الغنية
والإشارة والمعتبر والذكرى والدروس وجامع المقاصد والروضة والروض
وغيرها، وإن نفاه آخرون كما عن المقنعة والمبسوط والنهاية والمراسم
والسرائر والوسيلة والمهذب والجامع والقواعد والتحرير والمنتهى والمسالك
بل ربما نسب إلى الأصحاب، بل هو ظاهر المصنف في أحكام الأموات
وقد تقدم الكلام في ذلك هناك، فلاحظ وتأمل، وتسمع إنشاء الله
بعض الكلام في ذلك أيضا.
(وكذا) يجب الدفاع على (كل من خشي على نفسه مطلقا
أو ماله) أو عرضه أو نفس مؤمنة أو مال محترم أو عرض كذلك
(إذا غلب ظن السلامة) كما أشبعنا الكلام فيه في كتاب الحدود
فلاحظ كي تعرف الفرق بين النفس والمال بالنسبة إلى اعتبار غلبة الظن
بالسلامة في الثاني دون الأول، بل وبالنسبة إلى وجوب الدفع عنه مع
حصول الغلبة المزبورة وعدمه وإنما أقصاه الجواز كما هو الأقوى، هذا
وقد صرح غير واحد هنا بالإثم والضمان لو قصد معاونة الجائر، بل في
الرياض نفي الاشكال عنه، قال: " وهل يأثم ويضمن لو جاهد بغير
قصد؟ قبل: نعم، وهو أحوط إن لم نقل بأنه أظهر، وهل يشترط
في العدو المزاحم كونه كافرا كما عن الشيخ أم لا كما عن الأكثر "
ونحو ذلك في المسالك، قال فيها في تفسير قوله " ولا يكون جهادا "
" أي يجب عليه قصد المدافعة، فلا يكفي قتالهم بدونه وإن لم يقصد
16

الجهاد، لأن الفعل الواحد الواقع على وجوه متعددة إنما يتميز بالنية
فلو ترك القصد كان مأثوما ضامنا لما يحترم من النفوس والأموال،
وهل يشترط في العدو الهاجم كونه كافرا أم يجوز دفعه وإن كان مسلما
قيل بالأول، وبه صرح الشيخ في النهاية لتحريم قتل المسلم، وظاهر
الأكثر عدم الاشتراط، لأنه مدافعة عن نفسه، والمسلم يجوز دفعه
كذلك، وأشار المصنف بقوله " ولا يكون جهادا " إلى أن حكم الشهيد
من عدم تغسيله وتكفينه لا يلحق المقتول هنا، وكذا حكم الجهاد من
تحريم الفرار وقسمة الغنيمة، نعم هو بمنزلة الشهيد في الأجر، وإطلاق
الأخبار (1) بكونه شهيدا ينزل على ذلك ".
قلت: لكن قد يناقش - مضافا إلى ما أشرنا إليه سابقا في إطلاق
الضمان في الرياض في الأول فضلا عن الثاني، وهو الجهاد مع عدم
القصد إذا كان التالف كافرا حربيا أو ماله حتى لو جاهد معهم ابتداء -
بمعلومية هدر الكافر وماله مطلقا، وأنه لا احترام له، والحرمة من
حيث معاونة الجائر وتقوية سلطانه لا تنافي عدم ضمان الحربي فضلا
عمن جاهد بغير قصد، بل ينبغي الجزم بعدم الضمان في الجهاد مع
الجائر بقصد إعلاء كلمة الاسلام وتقوية أمره وإن حرم، كما
دلت عليه النصوص السابقة، قال أبو عميرة السلمي (2) " سأل رجل
أبا عبد الله عليه السلام فقال: إني كنت أكثر الغزو وأبعد في الأجر
وأطيل في الغيبة فحجر ذلك علي فقالوا: لا غزو إلا مع إمام عادل

(1) الوسائل - الباب 46 من أبواب جهاد العدو الحديث 5 و 8
و 9 و 10 وغيرها.
(2) الوسائل - الباب 10 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 عن
أبي عرة السلمي مع اختلاف يسير أيضا.
17

فما ترى أصلحك الله؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام إن شئت
أجمل لك أجملت، وإن شئت أن ألخص لك لخصت، فقال: بل
أجمل، فقال: إن الله يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة، قال:
فكأنه اشتهى أن يلخص له قال: فلخص لي أصلحك الله. فقال: هات
فقال الرجل غزوت فوافقت المشركين فينبغي قتالهم قبل أن أدعوهم.
فقال: إن كان غزوا وقوتلوا وقاتلوا فإنك تجزى بذلك. وإن كانوا
أقواما لم يغزوا ولم يقاتلوا فلا يسعك قتالهم حتى تدعوهم. قال الرجل
فدعوتهم فأجابني مجيب وأقر بالاسلام في قلبه وكان في الاسلام فجير عليه
في الحكم وانتهكت حرمته وأخذ ماله واعتدي عليه فكيف بالمخرج وأنا
دعوته. فقال: إنكما مأجوران على ما كان من ذلك. وهو معك
يحوطك من وراء حرمتك ويمنع قبلتك ويدفع عن كتابك ويحقن دمك
خير من أن يكون عليك يهدم قبلتك وينتهك حرمتك ويسفك دمك ويحرق
كتابك " ويمكن أن يريد ضمان المحترم نفسا ومالا كما سمعته من
المسالك. نعم قد يمنع الضمان فيه أيضا مع تحقق اسم الدفاع في
الواقع وإن لم يكن قاصدا له ولا للجائر للأصل وغيره. بل قد يقال
بصدقه أيضا، خصوصا مع قصده وإن كان هو ممن تبع الجائر للجهاد
معه وكان آثما، لكن ذلك لا ينافي خطاب الدفاع بعد تحقق موضوعه
الذي يتبعه ما هو حكم له من عدم الضمان وغيره. فتأمل جيدا.
وكيف كان فقد تلخص مما ذكرنا أن الجهاد على أقسام: أحدها
أن يكون ابتداء من المسلمين للدعاء إلى الاسلام. وهذا هو المشروط
بالشروط المزبورة، والذي وجوبه كفائي، والثاني أن يدهم المسلمين
عدو من الكفار يخشى منه على البيضة. أو يريد الاستيلاء على بلادهم
وأسرهم وسبيهم وأخذ أموالهم. وهذا واجب على الحر والعبد والذكر
18

والأنثى والسليم والمريض والأعمى والأعرج وغيرهم إن احتيج إليهم،
ولا يتوقف على حضور الإمام عليه السلام ولا إذنه، ولا يختص بمن
قصدوه من المسلمين، بل يجب على من علم بالحال النهوض إذا لم يعلم
قدرة المقصودين على المقاومة، ويتأكد الوجوب على الأقربين فالأقربين،
الثالث آن يكون بين المشركين مقيما أو أسيرا أو بأمان ويغشاهم عدو
ويخشى المسلم على نفسه فيدفع عن نفسه بحسب الامكان، وهذا غير
مشروط بالشروط السابقة أيضا.
(و) كيف كان فلا خلاف نقلا وتحصيلا في أنه (يسقط
فرض الجهاد) بالمعنى الأول (بأعذار أربعة: العمى والزمن كالمقعد
والمرض المانع من الركوب والعدو، والفقر الذي يعجز معه عن نفقة
طريقه وعياله وثمن سلاحه و) إن كان (يختلف ذلك بحسب الأحوال)
بل الاجماع بقسميه عليه، وهو الحجة بعد قاعدة نفي الحرج، وقوله
تعالى (1) " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون
ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل،
والله غفور رحيم " وقوله تعالى (2): " ليس على الأعمى حرج ولا على
الأعرج حرج " وقوله تعالى (3): " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم
قلت: لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا
ألا يجدوا ما ينفقون " بل وقوله تعالى (4): " لا يستوي القاعدون من
المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون " وغير ذلك.

(1) سورة التوبة - الآية 92.
(2) سورة النور - الآية 60.
(3) سورة التوبة - الآية 93.
(4) سورة النساء - الآية 97.
19

نعم يتحقق العمى بذهاب البصر من العينين معا، فيسقط حينئذ
عنه الجهاد وإن وجد قائدا، أما الأعور فالجهاد واجب عليه، لامكانه
منه، فيبقى على عموم الأدلة، بل في المسالك وكذا الأعشى وغيره مما
لا يصدق عليه العمى، والزمانة بالاقعاد ونحوه، ولعله المراد بالعرج
الذي يسقط معه الجهاد، بخلاف اليسير منه الذي يمكنه الركوب والمشي
معه وإن تعذر عليه شدة العدو، فإنه واجب عليه، لعموم الأدلة،
وكذا المرض اليسير نحو وجع الضرس ونحوه مما يتمكن معه من الجهاد
بل قد سمعت ما في المتن من اعتبار كونه مانعا من الركوب والعدو
بل في المسالك " أي المانع من مجموعهما، فإن الراكب قد يحتاج إلى العدو
بأن يصير ماشيا لقتل دابته ونحوه، ومن يقدر على العدو قد يحتاج
إلى الركوب " وإن كان هو لا يخلو من مناقشة باعتبار كون العنوان
في السقوط صدق المرض، نعم الظاهر انسياق المتعذر أو المتعسر معه
الجهاد كما هو الغالب دون غيره، وأما عدم وجدان النفقة فهو مختلف
بحسب أحوال الشخص بالنسبة إلى ما يحتاج إليه من النفقة له ولعياله
وما يحتاج إليه من السلاح من سيف وفرس وسهام ورمح وغير ذلك
فإن من الناس من يحسن الضرب بالسهم خاصة فيعتبر في حقه، ومنهم
من يحسنه بالسيف فيعتبر في حقه، ومنهم من يعتاد النفقة الواسعة وهو
من أهلها فتعتبر في حقه، وهكذا، بل في المسالك " وكذلك الفقر
يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأشخاص، فقد يطلق الفقر على
شخص مع ملكه لمال كثير، وغيره يعد غنيا بذلك المال، ويجوز اعتباره
في المرض أيضا فإن الأمراض تختلف في اغتفارها بالنسبة إلى أحوال
الجهاد وأنواعه، فإن بعض أفراد الجهاد لا يحتاج إلى ركوب ولا عدو
فلا يعتبران في المرض " وإن كان لا يخلو من مناقشة بكون المدار على
20

تحقق عنوان السقوط بالمرض وعدم الوجدان، نعم قد يختلف الأخير
بالنسبة إلى أحوال المجاهدين وأنواع الجهاد فقد تكون المسافة قصيرة
لا يحتاج معها إلى الحمولة بخلاف المسافة الطويلة معها إليها، وعن
الشيخ اعتبار مسافة التقصير، ولا دليل عليه والظاهر تحقق الوجدان
بالبذل على نحو الحج كما ستسمع إنشاء الله.
(فروع ثلاثة: الأول إذا كان عليه دين مؤجل فليس لصاحبه
منعه) منه وإن علم حلوله قبل رجوعه ولم يترك مالا في بلده يقابله
ولا ضامنا، لعدم استحقاق المطالبة، واحتمل بعضهم جواز المنع إذا
كان يحل قبل رجوعه، لاستلزامه تعطيل حقه، لكنه كما ترى (ولو
كان) الدين (حالا وهو معسر قيل له منعه) وإن كنا لم نتحقق
القائل به منا، نعم حكاه في المنتهى عن الشافعي وأحمد، وفي المسالك
أن الشيخ ذكر في المبسوط كلاما يدخل فيه المعسر لا بخصوصه (و)
على كل حال (هو بعيد) جدا، ضرورة شمول العمومات له بعد
فرض سقوط المطالبة عنه وعدم استحقاق له في عينه، وكون الجهاد
يقصد منه الشهادة التي يفوت الحق بها لا يقتضي تسلطا له على منعه
على أن الشهادة غير معلومة ولا مظنونة، فلا يترك لأجلها أعظم أركان
الاسلام، بل لو علمت أو ظنت كان المتجه الجواز أيضا، وفي المرسل (1)
" إن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال يا رسول الله: إن
قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا تكفر عني خطاي قال: نعم
إلا الدين، فإن جبرئيل عليه السلام قال لي ذلك " محمول على المفرط
في قضاء الدين بقرينة استثنائه من الخطايا، ولو تعين على المديون
الجهاد وجب عليه الخروج فيه سواء كان الدين حالا أو مؤجلا موسرا
كان أو معسرا أذن له غريمه أو لا لأن الجهاد تعلق بعينه فكان مقدما

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 25.
21

على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان، ولكن ينبغي له عدم التعرض
لمظان القتل بأن يبارز أو يقف في أول المقاتلة أو نحو ذلك مما فيه
تغرير، ولو ترك وفاء أو أقام كفيلا مليا جاز له الغزو أذن له صاحب
الدين أو لم يأذن، لعدم المانع حينئذ، ولما يحكى (1) عن عبد الله
أبي جابر من أنه خرج إلى أحد وعليه دين كثير فاستشهد وقضاه عنه
ابنه جابر ولم يذمه النبي صلى الله عليه وآله على ذلك مع علمه به، بل
قال صلى الله عليه وآله في حقه: " لا زالت الملائكة تظلله بأجنحتها
حتى رفعتموه " (2) والله العالم.
(الثاني للأبوين) المسلمين العاقلين الحرين (منعه من الغزو
ما لم يتعين عليه) بلا خلاف أجده فيه، بل عن ظاهر التذكرة
والإيضاح الاجماع عليه، بل في المنتهى من له أبوان مسلمان لم يجاهد
تطوعا إلا بإذنهما، ولهما منعه، وبه قال كافة أهل العلم، وفي خبر
عمرو بن شمر (3) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " جاء رجل إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال يا رسول الله: إني راغب في الجهاد
نشيط فقال صلى الله عليه وآله: فجاهد في سبيل الله - إلى أن قال
له - يا رسول الله إن لي والدين كبيرين يزعمان أنهما يأنسان بي ويكرهان
خروجي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أقم مع والديك فوالذي
نفسي بيده لأنسك بهما يوما وليلة خير من جهاد سنة " بل في آخر

(1) البحار ج 18 ص 31 الطبع الحديث.
(2) البحار ج 20 ص 131 الطبع الحديث.
(3) الوسائل - الباب 2 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 عن
عمرو بن شمر عن جابر.
22

" لأنسهما بك ليلة خير من جهاد سنة " وعن ابن عباس (1) " جاء
رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: أجاهد معك فقال: لك أبوان
قال: نعم، قال ففيهما جاهد " وفي آخر (2) " إني جئت أبايعك على الهجرة
وتركت أبوي يبكيان قال: ارجع إليهما فاضحكهما كما أبكيتهما " وعن
أبي سعيد (3) " إن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال
له رسول الله صلى الله عليه وآله هل لك باليمن أحد قال: نعم أبواي
قال: أذنا لك قال: لا، قال فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد
وإلا فسرهما " بل ظاهر الأخير ومعقد الاجماع المزبور اعتبار الإذن
فضلا عن سلطنة المنع، بل ربما كان ذلك أيضا ظاهر محكي المبسوط
والوسيلة والتحرير والتذكرة، إلا أن الخبر عامي، ومعقد الاجماع
محتمل لإرادة ولاية المنع،
وزاد في المنتهى الاستدلال بأن طاعة الأبوين
فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية
إلا أنه لا يقتضي اعتبار الإذن، وبالجملة إن تم الاجماع المزبور فذاك
وإلا أشكل اعتبار الإذن بحيث إن خرج من دون ذلك ولو مع عدم
علمهما وعدم نهيهما عنه يكون آثما للأصل وعموم الأدلة، ولعل ذلك
هو ظاهر المصنف والفاضل ويحيى بن سعيد والشهيدين والكركي وغيرهم
على ما حكي عن بعضهم لاقتصارهم على أن لهما المنع، بل قد يشكل
عموم وجوب الطاعة في جميع ما يقترحانه في غير فعل محرم وترك واجب
مما لا أذية عليهما فيه في الفعل والترك على وجه يكون كالسيد والعبد
بعدم دليل معتد به على ذلك، ودعوى كون مطلق المخالفة عقوقا وإيذاء
وعدم مصاحبته بالمعروف واضحة المنع، خصوصا بعد أن كان العقوق

(1) المستدرك - الباب 2 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 3.
(2) سنن البيهقي - ج 9 ص 26.
(3) المستدرك - الباب 2 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 3.
23

ضد البر على ما في القاموس والنهاية، بل إليه يرجع ما في المصباح
المنير ومجمع البحرين وقد مر (1) في صلاة الجماعة السؤال عن الصلاة
مع رجل لا بأس به غير أنه يخالف أبوية قال: " لا بأس ".
نعم يحرم عليه العقوق الذي هو أحد الكبائر كما استفاضت به
النصوص (2) بل من أكبرها، والإيذاء لهما ولو بقول أف ونهرهما
كما أنه يجب عليه الاحسان إليهما والمصاحبة لهما بالمعروف، بل في
المنتهى بعد ذلك في أثناء فروع ذكرها " لو سافر لطلب العلم والتجارة
استحب له استئذانهما، ولو منعاه لم يحرم عليه مخالفتهما، وفارق
الجهاد، لأن الغالب فيه الهلاك، وهذا الغالب فيه السلامة " وهو
مناف لما ذكره أولا من وجوب الطاعة عليه مع فرض عدم تعين السفر
المزبور عليه، ومن هنا التزم بعضهم عدم الفرق بين الجهاد وغيره من
الأسفار المباحة والمندوبة والواجبة كفاية مع قيام من فيه الكفاية.
وعلى كل حال فلو كانا كافرين لم يعتبر إذنهما في الجهاد، بل ولا
يحرم مخالفتهما فيه كما صرح به الشيخ والفاضل وغيرهما، خلافا
للمحكي عن الثوري، بل قيل إنه مقتضى إطلاق المصنف والوسيلة
والفاضل ويحيى بن سعيد والشهيد والكركي وغيرهم، بل في الروضة " وفي
اشتراط إسلامهما قولان، وظاهر المصنف عدمه " ولكن لا يخفى عليك

(1) الوسائل - الباب 11 من أبواب صلاة الجماعة - الحديث 1
وفيه " أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن إمام لا بأس به في جميع
أموره عارف غير أنه يسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما أقرأ
خلفه؟ قال: لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقا قاطعا " وقد ذكره في
الجواهر في الجز 13 ص 275 و 282.
(2) الوسائل - الباب 46 من أبواب جهاد النفس.
24

ضعفه، لعموم الأدلة الراجح هنا على غيره من وجوه، خصوصا بناء
على ما قيل من كون التعارض بينهما من وجه، بل في المنتهى " كان
النبي صلى الله عليه وآله يخرج معه من الصحابة إلى الجهاد من كان له أبوان
كافران من غير استئذان كأبي بكر وغيره، وأبو حذيفة بن عتبة بن
ربيعه كان مع النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر وأبوه كان رئيس المشركين
يومئذ قتل ببدر، وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد، بل فيه أيضا الاستدلال
بأنهما كافران، فلا ولاية لهما على المسلم، ولأنه يسوغ قتلهما فترك
قبول قولهما أولى " وإن كان لا يخلو من نظر في الجملة بعد الأمر
بمصاحبتهما في الدنيا بالمعروف، فتأمل.
ولو كان الجهاد متعينا عليه وجب عليه الخروج له من غير استئذان
بل ومع المخالفة بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به الفاضل، إذ
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وكذا في جميع الواجبات، ولو كانا
مملوكين فعن ظاهر الشيخ وغيره كونهما كالحرين، بل هو صريح ثاني
الشهيدين لعموم الأدلة، ولكن في المسالك حكاية قول بالعدم، ولم
أتحققه، ولعله لكونهما مولى عليهما فلا ولاية لهما، وفيه أن الطاعة
ونحوها غير الولاية، وفي إلحاق الأجداد والجدات بهما قول للفاضل في
التذكرة، وقواه في المسالك، بل قال: " ولو كانا مع الأبوين ففي
اعتبار إذن الجميع أو سقوط الأجداد وجهان، أجودهما الأول " ولعل
الأجود الثاني، لعموم أدلة الجهاد، ولأن المستفاد من الكتاب والسنة
وأكثر الفتاوى منع الأبوين، واحتمال إرادة الأب فصاعدا والأم
كذلك خلاف المنساق، ومن ذلك يستفاد ضعف القول المزبور، ولذا
كان خيرة الفخر والكركي عدم الالحاق، نعم لا فرق في الحكم بين
منعهما أو أحدهما كما صرح به غير واحد، بل لا خلاف فيه، بل
25

ولا إشكال بعد ما عرفت من كونه مقتضى الأدلة السابقة، ولو منعه
أحدهما وألزمه الآخر فالظاهر السقوط أيضا للأصل وغيره، والله العالم
(الثالث لو تجدد العذر بعد التحام الحرب) والتقاء الصفين
(لم يسقط فرضه) المستفاد من قوله تعالى (1) " يا أيها الذين آمنوا
إذا لقيتم فئة فاثبتوا " وغيره مما دل على وجوب الصبر وحرمة الفرار
من الزحف وتولية الدبر لكن (على تردد) من ذلك، ومن الشك في
الوجوب معه، لاطلاق ما دل على السقوط معه (إلا مع العجز عن
القيام به) المانع من التكليف المعلوم اشتراطه بعدمه عقلا ونقلا،
فإنه لا إشكال حينئذ في السقوط معه، هذا، ولكن في المسالك إذا
تجدد العذر بعد التئام الحرب فإن كان خارجا كرجوع الأبوين وصاحب
الدين لم يعتبر رجوعه، لعموم الأوامر الدالة على الثبات حينئذ، وإن
كان ذاتيا كالمرض والعمى والاقعاد ففي السقوط قولان، أقربهما ذلك
لعدم القدرة التي هي شرط الوجوب، وقال ابن الجنيد. يجب الثبات
هنا أيضا، وهو ضعيف، نعم لو لزم من رجوعه تخاذل في المسلمين
وانكسار اتجه عدم السقوط، قال: " واعلم أن ظاهر العبارة كون الخلاف
في القسم الأول خاصة، والموجود في كتب الخلاف كونه في الثاني "
قلت: قد حكى التفصيل المزبور في المنتهى عن الشيخ وخلاف الشافعي
في أحد قوليه فيهما، وصرح هو بعدم سقوط الفرض عنه في رجوع
الأبوين عن الإذن في ذلك الحال، وكذا لو أسلما ولم يأذنا أو رجع
الغريم أو السيد عنها كذلك، بل صرح فيه بأنه لو رجع الأبوان
قبل التعين عليه رجع إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع ولو من
حدوث مرض أو ذهاب نفقة، فإن أمكنه الإقامة في الطريق وإلا مضى

(1) سورة الأنفال - الآية 47.
26

مع الجيش، فإذا حضر الصف تعين عليه بحضوره، ولم يبق لهما إذن
بل صرح فيه أيضا بأنه لو خرج بغير إذنهما فحضر القتال ثم بدا له
الرجوع لم يجز له ذلك، وقد يناقش في الأخير بمنع التعين عليه بعد
فرض اعتبار الإذن في الخروج، بل وسابقه، بل وأصل التفصيل بنحو
ذلك مع كون التعارض بين الأدلة من وجه، ومع التسليم فدعوى
انتفاء القدرة بالعمى ونحوه يمكن منعها إن كان المراد منها المقاومة،
لمعلومية عدم اعتبارها هنا، نعم لو انتفى بذلك حقيقة المقاتلة اتجه
السقوط حينئذ، ولعل هذا الذي أشار إليه المصنف بقوله. " إلا مع
العجز " فإن احتمال الوجوب في هذا الحال واضح الفساد، وأوضح
منه فسادا دعوى تناول إطلاق الأمر بالثبات ونحوه لمثله، والله العالم
(وإذا بذل للمعسر ما يحتاج إليه وجب) بلا خلاف أجده
فيه كما اعترف به في المسالك، لصدق الوجدان حينئذ، فيندرج في
أدلة الوجوب كتابا (و) سنة، نعم (لو كان) ذلك (على سبيل
الأجرة لم يجب) لأن الإجارة لا تتم إلا بالقبول، وهو نوع
اكتساب لا يجب تحصيله للواجب المشروط، بخلاف البذل الذي يتحقق
بالايجاب من الباذل، فيتفرع عليه الوجوب، وقد تقدم في الحج ماله
دخل في المقام، فإنه شبيه بالبذل له، بل عن بعض هنا أيضا اعتبار
كونه على وجه لازم كالنذر أو قبوله البذل، وإلا لم يجب نحو ما
سمعته في البذل للحج، فلاحظ وتأمل.
(ومن عجز عنه بنفسه) لعذر من الأعذار السابقة (وكان
مؤسرا وجب إقامة غيره) كما عن الشيخ والقاضي والحلي والمقداد
في الكنز، وإن كنا لم نتحققه، والكركي في جامعه، بل في غاية المراد
نسبته إلى الشيخ وأتباعه (وقيل يستحب) وإن كنا لم نعرف القائل
27

به قبل المصنف، نعم هو خيرة جماعة ممن تأخر عنه كالفاضل وثاني
الشهيدين والصيمري وغيرهم (و) لكن (هو أشبه) بأصول المذهب
وقواعده التي منها أصل البراءة وإطلاق نفي الحرج الشامل للنفس والمال
وكما لا يشترط في غير الواجد الضعف أو المرض فكذا لا يشترط في
الضعيف والمريض عدم الوجدان، ولم يفرق أحد بين أصناف المعذورين
ولمعلومية سقوط المباشرة عنه بالعجز الذي يتبعه سقوط النيابة، لأنها
تتبع وجوب المباشرة، ودعوى كون الوجوب أصالة لا بطريق البدل
يدفعها أنه خلاف ظاهر فرض موضوع المسألة، بل لم أعرف قائلا
بوجوب الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس، وإن كان مقتضى ما استدل به
للأول من قوله تعالى (1): " وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم " بل وقوله
تعالى (2) " وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله
" باعتبار ذمة لهم على عدم الانفاق، وعموم الأوامر بالجهاد القابل للنيابة
وخصوصا قوله تعالى " وجاهدوا في الله حق جهاده " فإن التأكيد مشعر
بالمعذور، وعموم الأمر (4) بالمعاونة على البر والتقوى المندرج فيه
المقام، إلا أن ذلك كله كما ترى لا دلالة في شئ منه على وجوب
الاستنابة مع العجر، ودعوى أن الجهاد بالمال لا يكون إلا به في غير
الجهاد بالنفس وإلا كان إنفاقا على نفسه لا جهادا بالمال - مع أنها لا
تدل على الترتيب المزبور ضرورة إمكان وجوب الجهاد بالنفس والجهاد
بالمال بمعنى تجهيز المعسرين له - يمكن منعها بمعلومية صدق الانفاق
في سبيل الله والمعاونة على ما هو أعم من بذل المال على نفسه حال

(1) سورة التوبة - الآية 41 - 82.
(2) سورة التوبة - الآية 41 - 82.
(3) سورة الحج - الآية 77.
(4) سورة المائدة - الآية 3.
28

الجهاد وغيره، إلا أن يقال إن مقتضى الآية وجوب الجهاد بالمال على
الاطلاق أي سواء جاهد بنفسه مع ذلك أو كان عاجزا، خرج عنه
الصورة الأولى بالاجماع، فتبقى الثانية، ولكن ذلك لا يقتضي الاستنابة
المفروضة، بل يمكن أن يكون المراد معونة المجاهدين بماله في الخيل
والسلاح والظهر والزاد وسد الثغر كما عن ظاهر الحلبي إيجاب ذلك
على المعذور الغني، اللهم إلا أن يقال بأولوية التقييد الأول، لندرة
القول بالثاني بعد الاجماع على عدم وجوب الأعم منهما، ولأن
الاستنابة أقرب المجازات لصدق الجهاد بالمال من ذلك، خصوصا بعد
كون فعل النائب فعل المنوب عنه، إلا أن ذلك كله كما ترى تهجس
في تهجس، وليس بأولى من القول بأن المراد من الأمر القدر المشترك
بين الوجوب والندب، وإن كان قد يقال إن الأول تقييد، وهذا مجاز
والأول أولى، على أنه لم نعلم قائلا برجحان الاستنابة في حال القدرة
على الجهاد بالنفس إلا أن مرجعه أيضا إلى التهجس المزبور الذي يمكن
معارضته بإرادة ما ينفقه المجاهد من المال حال الجهاد أو
غير ذلك.
وبالجملة لا دلالة فيها واضحة على المطلوب نحو الاستدلال بقاعدة
عدم سقوط الميسور بالمعسور، بل وبما سمعته من آية (1) التعاون
والأمر بالجهاد حق الجهاد الذي لا يخفى ما فيه خصوصا الأخير المحتمل
أمورا متعددة خارجة عما نحن فيه من الجهاد بمعنى المقاتلة، فالأصل
حينئذ بحاله، ولكن يسهل الخطب في المسألة ما في الرياض، فإنه
قال بعد ذكر المسألة: " ثم إن هذا إذا لم يحتج إلى الاستنابة بأن
يعجز القائمون بدونها وإلا فيجب قولا واحدا " وظاهره فرض الخلاف

(1) سورة المائدة - الآية 3 وسورة الحج الآية 77.
29

حال عدم الاحتجاج، ومن المعلوم سقوط الواجب كفاية بذلك، وحينئذ
فيرتفع الخلاف، ولعله لذا قال في غاية المراد بعد ذكر الخلاف وأدلة
الطرفين: ولقائل أن يقول: الخلاف مرتفع لأن الجهاد فرض كفاية
إجماعا من المسلمين إلا من شذ، والتكليف به مشروط بعدم ظن
الاكتفاء به، فإن حصل الشرط وجب قطعا بالنفس والمال بطريق أولى
وإن انتفى سقط قطعا، وإن احتيج إلى غزو أحد وهناك مؤسر ومعسر
وجب على المؤسر أحد الأمرين إما الخروج بنفسه أو تجهيز المعسر،
وكذا لو كان أكثر وفرض كثرة المؤسرين والمعسرين، وقد نبه في
المختلف على شئ من ذلك، ولعله أشار إلى ما ذكره فيه، فإنه بعد
أن ذكر ترجيح القول بعدم الوجوب قال: نعم لو احتيج إلى الاستنابة
بأن يعجز القائمون وجبت، ولكن عن الكركي في جامعه أنه قال: "
وعبارة المختلف تدل على الوجوب إذا كان محتاجا إليه، وعدمه مع عدم
الحاجة، وهو مشكل، فإن الوجوب كفائي والدليل فيه جار أيضا "
قلت قد يقال إن لم يكن إجماع أن القائل بالسقوط عن المعذور لا
يوجب الاستئجار عليه ولو مع الحاجة، كما لا يجب عليه نفسه،
والقائل بالوجوب يريد الوجوب كفاية على معنى أنه إن فعل كان ممن
قام بالواجب وإن لم يحتج إليه، وإلا لم يكن كذلك وإن لم يكن مأثوما
مع فرض قيام الغير به، نعم لو لم يقم به الجميع أثم الجميع، وكأنه
لذا قال في المسالك: الأقوى وجوب الاستئجار مع الحاجة إليه أو أمر
الإمام له بذلك، وإلا فلا، لأصالة البراءة، فيكون الاستئجار واجبا
كفائيا كما يجب النهوض على القادر، ولعل هذا هو الأصح.
هذا كله في العاجز عن الجهاد بنفسه (ولو كان قادرا)
عليه (فجهز غيره سقط عنه ما لم يتعين) بتوقف الأمر عليه، أو
30

بتعيين الإمام عليه السلام بلا خلاف أجده فيه، بل عن المنتهى نسبته إلى
علمائنا مؤذنا بدعوى الاجماع، كما هو مقتضى المحكي عن التذكرة
أيضا، وفي الدروس يجوز الاستئجار على الجهاد عندنا، قد استثناه
غير واحد من عدم جواز الاستئجار على الواجب ولو كفاية في كتاب
المكاسب، ولعله لمعلومية عدم إرادة المباشرة من الجهاد، فيكفي استنابة
الغير، وهو المراد مما في المسالك من أن الغرض في الواجب الكفائي
المقتضي لسقوطه عمن زاد على ما فيه الكفاية لحصول من فيه الكافية
تحصيله بنفسه أو بغيره، وربما يؤيد ذلك خبر أبي البختري (1) عن
جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام " إن عليا عليه السلام سئل عن
إجعال الغزو فقال لا بأس أن يغزو الرجل عن الرجل، ويأخذ الجعل
منه " مؤيدا بالنبوي (2) " من جهز غازيا كان له كمثل أجره " بل
ظاهره كظاهر الفتاوى عدم الفرق في النائب بين كونه قادرا بنفسه على
الغزو من دون الحاجة إلى الجعل وغيره ممن لم يكن قادرا، ولا ينافي
ذلك كونه واجبا على الأول بعد أن كان مخيرا بين فعله لنفسه وبين
فعله عن غيره، كما أن الجاعل مخير بين فعله بنفسه وبين النائب عنه
ومن ذلك يعلم ما في تقييد بعضهم النائب في المسألة السابقة بكونه
غير واجب عليه الجهاد لفقره ونحوه، هذا، وفي محكي التحرير قال الشيخ: "
للنائب ثواب الجهاد، وللمستأجر ثواب النفقة " وكان نسبته إلى الشيخ
مشعرة بنوع تردد فيه، ولعله لاقتضاء الإجارة كون الثواب للمستأجر
لكونه نائبا عنه وفعله فعله، نعم مقتضى ما سمعته من النبوي أن
الله تعالى شأنه يعطيهما معا ثواب ذلك تفضلا منه، والأمر سهل.

(1) الوسائل - الباب 8 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(2) كنز العمال ج 2 ص 254 الرقم 5419.
31

(ويحرم الغزو في أشهر الحرم) وهي رجب وذو القعدة وذو
الحجة والمحرم (إلا أن يبدأ الخصم أو يكون ممن لا يرى للأشهر)
الحرم (حرمة) بلا خلاف أجده في شئ من ذلك، لقوله تعالى (1)
" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل: قتال فيه كبير " أي ذنب
كبير، وقوله تعالى (2) " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين
الآية، وقوله تعالى (3) " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " الذي قيل
في سبب نزوله أنه كان أهل مكة قد منعوا النبي صلى الله عليه وآله
عام الحديبية سنة ست في ذي القعدة وهتكوا الشهر الحرام، فأجاز
الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وأصحابه أن يدخلوا في سنة تسع في
ذي القعدة لعمرة القضاء مقابلا لمنعهم في العام الأول، ثم قال:
" والحرمات قصاص " أي يجوز القصاص في كل شئ حتى في هتك
حرمة الشهر، ثم عمم الحكم فقال " فمن اعتدى عليكم " الآية،
ومضمر العلاء بن الفضيل (4) المنجبر بما عرفت " سألته عن المشركين
أيبتدؤهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام فقال: إذا كان المشركون
يبتدؤونهم باستحلاله ثم رأى المسلمون أنهم يظهرون عليهم فيه، وذلك
قول الله عز وجل " الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص "
والروم في هذا بمنزلة المشركين، لأنهم لم يعرفوا للشهر الحرام حرمة
ولا حقا فهم يبتدؤون بالقتال فيه، وكان المشركون يرون له حقا وحرمة

(1) سورة البقرة الآية 214 - 190.
(2) سورة التوبة - الآية 5.
(3) سورة البقرة الآية 214 - 190.
(4) الوسائل - الباب 22 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
32

فاستحلوه، فاستحل منهم، فأهل البغي يبتدؤون بالقتال " والمراد إذا
كان المشركون يبتدؤونهم فنعم، وحينئذ فجواب " إذا " محذوف، وكان
المشركون يرون له حرمة أي في بدء أمرهم، فأهل البغي يعني من
استحل منهم يبتدؤون بالبناء للمفعول.
وفي المنتهى كان الفرض في عهد النبي صلى الله عليه وآله الجهاد
في زمان دون زمان وفي مكان دون آخر، أما الزمان فإنه كان جائزا
في جميع السنة إلا في أشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة
ومحرم، لقوله تعالى: " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم " وأما المكان فإن الجهاد كان سائغا في جميع البقاع إلا
الحرم، فإن الابتداء بالقتال فيه كان محرما، لقوله تعالى (1) " ولا
تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه " إذا عرفت هذا فإن
أصحابنا قالوا: إن تحريم القتال في أشهر الحرم باق إلى الآن لم ينسخ
في حق من يرى للأشهر الحرم حرمة للأصل، وأما من لا يرى لها
حرمة فإنه يجوز قتاله فيها، وذهب جماعة من الجمهور إلى أنهما
منسوختان بقوله تعالى " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " وبعث النبي
صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام إلى الطائف فافتتحها في ذي القعدة
وقال الله تعالى (2) " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " أما تحريم القتال
في المسجد الحرام فإنه منسوخ أي بقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم " ومن ذلك يعلم الوجه في قول المصنف: (ويجوز القتال
في الحرم وقد كان محرما فنسخ) بالآية المزبورة، بل وبقوله تعالى (3)
" فاقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة
أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه،

(1) سورة البقرة - الآية 187 - 189 - 187.
(2) سورة البقرة - الآية 187 - 189 - 187.
(3) سورة البقرة - الآية 187 - 189 - 187.
33

فإن قاتلوكم فاقتلوهم، كذلك جزاء الكافرين " قال في الكنز: " هذه
الآية ناسخة لكل آية فيها أمر بالموادعة أو الكف عن القتال، كقوله (1)
" ودع أذاهم " وقوله (2) " لكم دينكم ولي دين " وأمثاله، لأن حيث
للمكان أي في أي مكان أدركتموهم من حل أو حرم، وكان القتال
في الحرم محرما ثم نسخ بهذه الآية وأمثالها، فصدرها ناسخ لعجزها "
إلى آخره، هذا، وقال بعض الأفاضل: " وهل يلحق بمحل البحث
أي الحرمة في الأشهر المقاتلة لدفع الكفار الذين دهموا المسلمين في
زمن الغيبة لتسخيرهم وأخذ بلادهم؟ فيه إشكال، ولكن احتمال
الالحاق في غاية القوة، مع أنه أحوط في الجملة " وكأنه أشار بذلك إلى
ما وقع من الأرس في بلد العجم، وفيه أولا أن محل البحث في غزوهم
لا في دفاعهم، وثانيا أنهم ممن لا يرون حرمة لهذه الأشهر، فاحتمال
الالحاق حينئذ في غاية الضعف، بل هو واضح الفساد، والله العالم.
(وتجب المهاجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن إظهار
شعار الاسلام) من الأذان والصلاة والصوم وغيرها، سمي ذلك شعارا
لأنه علامة عليه، أو من الشعار الذي هو الثوب الملاصق للبدن،
فاستعير للأحكام اللاحقة للدين، بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض
له كالفاضل والشهيدين وغيرهم، والأصل فيه بعد معلومية إيجاب النبي
صلى الله عليه وآله لها قوله تعالى (3) " إن الذين توفاهم الملائكة
ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا
ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وسائت

(1) سورة الأحزاب - الآية 47.
(2) سورة الجحد - الآية 6.
(3) سورة النساء - الآية 99 - و 100.
34

مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة
ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوا
غفورا " وقوله تعالى (1) " يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي
فاعبدون " بناء على كون المراد به الإشارة إلى الهجرة عن المكان الذي لا
يتمكن فيه من العبادة، بل وقوله تعالى (2) " ومن يخرج من بيته
مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " الآية
وقوله تعالى (3) " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا
ليرزقنهم الله رزقا حسنا، وإن الله لهو خير الرازقين " وقوله تعالى (4)
" والذين هاجروا في سبيل الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا
حسنة، ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، الذين صبروا وعلى ربهم
يتوكلون " وغير ذلك مما دل على طلب المهاجرة من الكتاب والسنة،
كالنبوي " من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من
الأرض استوجب الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله
عليه وآله الذي الأصل فيه الوجوب.
نعم إنما تجب (مع المكنة) لا مع عدمها بلا خلاف أجده أيضا
فيه لما سمعته من ظاهر الآية المؤيد بنفي الحرج وغيره من العقل والنقل
ومن هنا كان الناس في الهجرة على أقسام ثلاثة كما صرح به في المنتهى
أحدها من تجب عليه، وهو من أسلم في بلاد الشرك وكان مستضعفا

(1) سورة العنكبوت - الآية 56.
(2) سورة النساء - الآية 101.
(3) سورة الحج - الآية 57.
(4) سورة النحل - الآية 43 و 44.
35

فيهم لا يمكنه إظهار دينه ولا عذر له من مرض ونحوه، والثاني من
تستحب له، وهو من أسلم في بلاد الشرك أو كان فيها ويمكنه إظهار
دينه لعشيرة تمنعه أو غير ذلك، فإنها لا تجب عليه كما صرح به جماعة
بل لا أجد فيه خلافا، للأصل وظاهر الآية أيضا وغيره، ولكن يستحب
له كما صرح به جماعة تجنبا لهم عن تكثير عددهم وعن معاشرتهم،
اللهم إلا أن يكون في بقائه مصلحة للدين، الثالث من لا تجب عليه
وتستحب له، وهو من كان له عذر يمنعه عنها من مرض ونحوه مما
أشير إليه بقوله تعالى " إلا المستضعفين من الرجال والنساء " الآية،
نعم إذا تجددت له القدرة وجبت.
(و) على كل حال ف‍ (الهجرة باقية ما دام الكفر باقيا)
كما صرح به الفاضل والشهيدان وغيرهم، بل لا أجد فيه خلافا
بيننا، بل ظاهر المسالك انحصار المخالف في بعض العامة، ولا
إشكالا لاطلاق الأدلة السابقة، والنبوي (1) " لا هجرة بعد الفتح "
مع عدم ثبوته من طرقنا معارض بالآخر " لا تنقطع الهجرة حتى
تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " فيجب
حمله على إرادة نفيها عن مكة لصيرورتها بالفتح بلد إسلام، أو على
إرادة نفي الكمال على نحو قوله تعالى (2) " لا يستوي منكم من أنفق
من قبل الفتح وقاتل " أو غير ذلك.
هذا كله في بلاد الشرك، وعن الشهيد إلحاق بلاد الخلاف التي
لا يتمكن فيها المؤمن من إقامة شعار الايمان، فتجب عليه الهجرة مع

(1) الوسائل - الباب 36 من أبواب جهاد العدو الحديث 7.
(2) سورة الحديد - الآية 10.
36

الامكان إلى بلد يتمكن فيها من إقامة ذلك، واستحسنه الكركي، لكن
قال: " الظاهر أن هذا إنما يكون حال وجود الإمام عليه السلام
وارتفاع التقية، أما مع غيبته وبقاء التقية فهذا الحكم غير ظاهر،
لأن جميع البلاد لا يظهر فيها شعار الايمان ولا يمكن إنفاذها إلا
بالمسارة، وإن تفاوتت في ذلك " قلت: قد يظهر من النصوص (1)
- الواردة في الحث على التقية والترغيب فيها، حتى ورد (2) أن المصلي
معهم كمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله في الصف الأول،
وأنها دينهم عليهم السلام (3) والنصوص (4) الواردة في الأمر بحسن
المعاشرة والمصاحبة معهم واستعمال عيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم،
والسيرة المستمرة على كثرة الممارسة لهم والمجاورة ونحو ذلك -
عدم
وجوب المهاجرة في زمن الغيبة وإن تمكن من بلاد يظهر فيها شعار
الايمان، لأن الزمان زمان تقية حتى يظهر ولي الأمر روحي له الفداء
بل لعل ذلك معلوم من مذهب الإمامية قولا وفعلا، فمن الغريب ما
سمعته عن الشهيد، ولم أعرف ذلك لغيره، بل ولا له أيضا في كتاب
من كتبه المعروفة
ثم إن الظاهر كون المراد بالتمكن من إظهار شعار الاسلام الذي

(1) الوسائل - الباب 24 من أبواب الأمر والنهي من كتاب
الأمر بالمعروف.
(2) الوسائل - 5 من أبواب صلاة الجماعة.
(3) الوسائل - الباب 24 من أبواب الأمر والنهي الحديث 3
و 23 من كتاب الأمر بالمعروف
الوسائل الباب 75 من أبواب صلاة الجماعة والباب 26 من
أبواب الأمر والنهي من كتاب الأمر بالمعروف.
37

يسقط معه وجوب الهجرة هو عدم المعارضة والأذية من العمل على ما
يقتضيه دينه في واجب أو ندب، فلو تمكن من بعض دون بعض وجبت
خصوصا إذا كان المتروك مثل الصوم والصلاة والحج ونحوها مما هو من
أعظم الشعائر، بل الظاهر إرادة التجاهر بما يقتضيه الاسلام، فلا
يكفي في عدم وجوبها الاتيان بها متخفيا، كما أنه لا يكفي الاتيان
بها على مقتضى مذهبهم تقية، فإن التقية الدينية غير مشروعة في مذهبنا
من غير أهل الخلاف من المسلمين، والله العالم.
(ومن لواحق هذا الركن المرابطة وهي الأرصاد) والإقامة
(لحفظ الثغر) من هجوم المشركين الذي هو الحد المشترك بين دار
الشرك ودار الاسلام كما في التنقيح، أو كل موضع يخاف منه كما
في جامع المقاصد أوهما معا كما في المسالك، قال: الثغر هنا الموضع
الذي يكون بأطراف بلاد الاسلام بحيث يخاف هجوم المشركين منه
على بلاد الاسلام، وكل موضع يخاف منه يقال له ثغر لغة.
(و) على كل حال ف‍ (هي مستحبة) لما تسمعه من النصوص (1)
كما صرح به الفاضلان والشهيدان وغيرهم، بل لا أجد فيه خلافا بينهم
للأصل السالم عن معارضة ما يقتضي الوجوب كتابا وسنة، ضرورة
خلو الأول عما يزيد على مدح الذين جاهدوا ورابطوا، وقصور ما
وصل إلينا من الثانية عن إثبات الحكم بالوجوب، لكن في التنقيح
وجوبها على المسلمين كفاية من غير شرط ظهور الإمام عليه السلام،
ولعله يريد حال الضرر بعدمها على الاسلام، لا أن المراد وجوبها من
حيث كونها كذلك مطلقا، نعم هي راجحة (ولو كان) تسلط
(الإمام عليه السلام مفقودا) أو كان غائبا (لأنها لا تتضمن قتالا)

(1) الوسائل - الباب 6 و 7 من أبواب جهاد العدو.
38

ابتداء مع غير إمام عادل كي يكون مندرجا فيما دل على النهي عنه
(بل) تتضمن (حفظا وإعلاما) إذ الرباط الإقامة في الثغر للاعلام
بأحوال المشركين كي يؤخذ الحذر من هجومهم على بلاد الاسلام، ولو
اتفق الاحتياج معه إلى القتال فهو من الدفاع حينئذ عن البيضة الذي
قد عرفت كونه قسما من الجهاد ومأمورا به، قال يونس (1): " سأل
أبا الحسن عليه السلام رجل وأنا حاضر فقال له جعلت فداك إن رجلا
من مواليك بلغه أن رجلا يعطي سيفا وفرسا في سبيل الله فأتاه فأخذهما
منه ثم لقيه أصحابه فأخبروه أن السبيل مع هؤلاء لا يجوز وأمروه
بردهما قال: فليفعل، قال: قد طلب الرجل فلم يجده، وقيل له قد شخص
الرجل قال: فليرابط ولا يقاتل، قلت: مثل قزوين وعسقلان والديلم
وما أشبه هذه الثغور قال: نعم، قان فال جاء العدو من الموضع الذي
هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الاسلام، قال:
يجاهد قال: لا إلا أن يخاف على ذراري المسلمين، قلت: أرأيتك
لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم أن يمنعوهم قال يرابط ولا
يقاتل قال: فإن خاف على بيضة الاسلام والمسلمين قاتل، فيكون
قتاله لنفسه لا للسلطان، لأن في درس الاسلام درس ذكر محمد صلى
الله عليه وآله ".
ومنه يعلم كون الرباط لا قتال فيه، واستحبابه حال زمان قصور
اليد الملحق به زمان الغيبة، ولا ينافيه الأمر بالرد المحتمل إرادة
الاحتياط باعتبار إرادة التارك الجهاد معهم ابتداء في سبيل الله تعالى
شأنه، أو كون ذلك أظهر الأفراد عنده، كما لا ينافي النهي عن الجهاد
الأمر بالمقاتلة عن البيضة بعد حمله على إرادة الابتداء بالقتال مع

(1) الوسائل - الباب 6 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
39

غير العادل.
وعلى كل حال فلا ريب في دلالته على أن المرابطة في سبيل الله
تعالى شأنه مستحبة، مضافا إلى إطلاق المروي في المنتهى عن سلمان (1)
عن رسول الله صلى الله عليه وآله " رباط ليلة في سبيل الله خير من
صيام شهر وقيامه، فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري
عليه رزقه، وأمن الفتان " وعن فضالة بن عبيدة (2) قال: " إن
رسول الله صلى الله عليه وآله قال: كل ميت يختم على عمله إلا المرابط
في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتان
القبر " والمروي عن ابن عباس (3) قال: " سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله يقول عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله،
وعين باتت تحرس في سبيل الله " ولا ينافي ذلك ما في خبر عبد الله بن
سنان (4) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك ما
تقول في هؤلاء الذين يقتلون في هذه الثغور، قال: فقال الويل لهم
ليعجلون قتلة في الدنيا وقتلة في الآخرة، والله ما الشهداء إلا شيعتنا
ولو ماتوا على فرشهم " بعد إمكان إرادة المرابطين الذين هم من أتباع الجائرين
أو المجاهدين بابتداء القتال معهم، أو غير ذلك مما هو غير المفروض الذي
قد صرح به غير واحد من الأصحاب، بل ظاهر المنتهى الاتفاق عليه

(1) كنز العمال - ج 2 ص 253 الرقم 5378.
(2) كنز العمال - ج 2 ص 257 الرقم 5478 عن فضالة بن عبيد.
(3) تيسير الوصول ج 1 ص 223.
(4) الوسائل - الباب 6 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
40

وكذا ما في خبر محمد بن عيسى (1) المروي عن قرب الإسناد عن
الرضا عليه السلام " عن رجل من هؤلاء مات وأوصى أن يدفع من
ماله فرس وألف درهم وسيفان يرابط عنه ويقاتل في بعض هذه الثغور
فعمد الوصي ودفع ذلك كله إلى رجل من أصحابنا فأخذه منه وهو لا يعلم ثم
علم أنه لم يأن لذلك وقت بعد فما تقول يحل له أن يرابط عن الرجل في بعض
هذه الثغور أم لا؟ فقال يرد إلى الوصي ما أخذ منه ولا يرابط، فإنه لم يأن
لذلك وقت بعد، فقال يونس: فإنه لم يعرف الوصي قال: يسأل عنه، قال:
فقد سأل عنه فلم يقع عليه كيف يصنع يقاتل أم لا؟ فقال له الرضا عليه السلام
إذا كان ذلك كذلك فلا يقاتل عن هؤلاء ولكن يقاتل عن بيضة الاسلام
فإن في ذهاب بيضة الاسلام درس ذكر محمد صلى الله عليه وآله " بل
لا أجد فيه خلافا عدا ما يحكى عن الشيخ والقاضي ولم أتحققه، بل
قيل إنهما أفتيا بمضمون الخبر المزبور وإن زادا ذكر لفظ المرابطة،
لكن يمكن إرادة غير المشروعة منها، وهي التي تتضمن قتالا غير مشروع
نعم صرح في النهاية والتحرير والمنتهى بعدم تأكده حال الغيبة، ولم
أجد ما يشهد له عدا ما سمعته من خبر قرب الإسناد (2) المحمول
على إرادة القتال من المرابطة فيه، بل مقتضى إطلاق الأدلة السابقة
عدم الفرق بين الحضور والغيبة، ولعله لذا كان ظاهر غير واحد عدم
الفرق، بل في الروضة التصريح بالتأكد فيهما، نعم قيل: وجهه عدم
الخلاف فيه في الأول فتوى ورواية، بخلاف زمان الغيبة فإن فيه
الخلاف أو احتماله فتوى ورواية، مع أن عبارة السرائر صريحة في
عدم جزمه باستحبابه، بل ظاهر مساق عبارته العدم، لكنه كما ترى.
وكيف كان فالرباط أقله ثلاثة أيام وأكثره أربعون يوما كما

(1) الوسائل - الباب 7 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 مع الاختلاف.
(2) الوسائل - الباب 7 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 مع الاختلاف.
41

صرح به في النهاية والمنتهى والتذكرة والإرشاد والقواعد والدروس وجامع
المقاصد والروضة وغيرها، بل في المنتهى نسبة الأول إلى علمائنا والتذكرة
إلى الاتفاق عليه، وقال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام في خبر
زرارة ومحمد بن مسلم (1): " الرباط ثلاثة أيام وأكثره أربعون يوما
فإذا جاز ذلك فهو جهاد " أي ثوابه ثواب المجاهدين كما صرح به غير
واحد وإن بقي على وصف المرابطة كما صرح به في الدروس، وعلى كل
حال فما عن الإسكافي من أن أقله يوم كالمحكي عن أحمد من العامة
من أنه لا طرف له في القلة محجوج بما عرفت، اللهم إلا أن يقال
للتسامح في السنن بأن مقتضى النبوي (2) السابق تحققه برباط ليلة
ويمكن إرادة الإسكافي باليوم ما يشملها مع البياض، وحينئذ فما في
الروضة - من أن أقله ثلاثة، فلا يستحق ثوابه ولا يدخل في النذر
والوقف والوصية للمرابطين بإقامة دون الثلاثة، إلى أن قال: ولو
نذره وأطلق وجب ثلاث بليلتين بينهما كالاعتكاف لا يخلو من نظر،
خصوصا بعد إطلاق ما دل على فضله الذي لا يحكم عليه الخبر المزبور
بناءا على عدم حمله على المقيد في المندوبات، هذا.
وقد قال أبو عبد الله الجعفي (3) قال لي أبو جعفر محمد بن
علي عليهما السلام: " كم الرباط عندكم؟ قلت: أربعون، قال لكن
رباطنا الدهر، ومن ارتبط فينا دابة كان له وزنها ووزن وزنها ما
كانت عنده، ومن ارتبط فينا سلاحا كان له وزنه ووزن وزنه ما كان
عنده، لا تجزعوا من مرة ولا من مرتين ولا من ثلاث ولا من أربع، فإنما

(1) الوسائل - الباب 6 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(2) كنز العمال - ج 2 ص 253 الرقم 5378.
(3) الوسائل - الباب 57 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
42

مثلنا ومثلكم مثل نبي كان في بني إسرائيل فأوحى الله تعالى إليه أن
ادع قومك للقتال، فإني سأنصركم، فجمعهم من رؤوس الجبال ومن
غير ذلك ثم توجه بهم، فما ضربوا بسيف ولا طعنوا برمح حتى انهزموا
ثم أوحى الله تعالى إليه أن ادع قومك إلى القتال فإني سأنصركم،
فدعاهم فقالوا وعدتنا النصر فما نصرنا، فأوحى الله تعالى إليه إما
أن يختاروا القتال أو النار، فقال: القتال أحب إلي من النار،
فدعاهم فأجابه منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أهل بدر، فتوجه بهم
فما ضربوا بسيف ولا طعنوا برمح حتى فتح الله لهم " وهو محمول على
إرادة ترقب الفرج ساعة بعد ساعة كما جاءت به النصوص (1) لا
الرباط المصطلح، كما هو واضح، والله العالم.
(ومن لم يتمكن منها) أي المرابطة (بنفسه يستحب أن يربط
فرسه هناك) كما في النافع والقواعد والتحرير وغيرها، والظاهر عدم
إرادة الشرطية من ذلك، فيرجع إلى ما في التذكرة من استحباب المرابطة
بنفسه وفرسه وغلامه وجاريته وإعانة المرابطين، ونحوه ما في الإرشاد
والدروس واللمعة والروضة وغيرها، ضرورة كون ذلك من الإعانة على
البر والتقوى، ومن هنا لم يكن فرق بين الفرس وغيرها من الدواب
والغلام والجارية ونحوها مما ينتفع بها المرابطون، فيبيح حينئذ لهم
الانتفاع بذلك، وفي خبر جعفر بن إبراهيم الجعفي (2) " سمعت
أبا الحسن عليه السلام يقول: من ربط فرسا عتيقا محيت عنه ثلاث

(1) البحار - ج 13 ص 136 طبعة الكمباني.
(2) الوسائل - الباب 4 من أبواب أحكام الدواب - الحديث 2
من كتاب الحج عن إبراهيم الجعفري إلا أن الموجود في المحاسن
يعقوب بن جعفر بن إبراهيم بن محمد الجعفري.
43

سيئات وكتبت له إحدى عشر حسنة، ومن ارتبط هجينا محيت عنه في
كل يوم سيئتان وكتبت له سبع حسنات، ومن ارتبط برذونا يريد به
جمالا أو قضاء حوائج أو دفع عدو عنه محيت عنه كل يوم سيئة واحدة
وكتبت له ست حسنات " ورواه في الفقيه بابدال السبع بالتسع،
وأفضل الرباط أشد الثغور خطرا، نعم لا ينبغي له نقل الأهل والذرية
إلى الثغور المخوفة بل ربما حرم.
(و) كيف كان ف‍ (لو نذر المرابطة وجبت مع وجود الإمام
عليه السلام) وبسط يده (وفقده) أي غيبته أو قصور يده كما
صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا معتدا به، بل عن السرائر
ما يشعر بدعوى الاجماع عليه، بل ولا إشكالا لما عرفته من استحبابها
على كل حال، لكن مقتضى ما تسمعه من الشيخ في نذر المال عدم
انعقاد النذر عليها، ولا ريب في ضعفه.
(وكذا لو نذر أن يصرف شيئا من المرابطين وجب) أيضا لذلك
مع بسط يد الإمام إجماعا بقسميه، بل ومع غيبته أو قصور يده
(على الأصح، وقيل) والقائل الشيخ في النهاية، بل قيل وجماعة:
(يحرم ويصرفه في وجوه البر إلا مع خوف الشنعة) بعدم الوفاء
بالنذر، أو بأنه لا يرى صحته للمرابطة فيه أو غير ذلك، لخبر علي
ابن مهزيار (1) " كتب رجل من بني هاشم إلى أبي جعفر الثاني عليه
السلام إني كنت نذرت نذرا منذ سنين أن أخرج إلى ساحل من سواحل
البحر إلى ناحيتنا مما يرابط فيه المطوعة نحو مرابطتهم بجدة وغيرها من
سواحل البحر أفترى جعلت فداك أنه يلزمني الوفاء به أو لا يلزمني
أو أفتدي الخروج إلى ذلك الموضع بشئ من أبواب البر لا صير إليه

(1) الوسائل - الباب 7 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
44

إنشاء الله فكتب عليه السلام إليه بخطه وقرأته إن كان سمع منك نذرك
أحد من المخالفين فالوفاء به إن كنت تخاف شنعته، وإلا فاصرف
ما نويت من ذلك في أبواب البر، وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى ".
(و) لا ريب في أن (الأول أشبه) بأصول المذهب وقواعده
بعد ما عرفت من استحباب صرف المال في إعانتهم، فينعقد النذر عليه
ولا يجوز صرفه في غيره في حال بسط اليد أو قصورها الذي هو مورد
الخبر المزبور الذي أعرض عنه الأكثر، بل في التذكرة " لو نذر أن
يصرف شيئا من ماله إلى المرابطين وجب الوفاء به إجماعا، سواء كان
الإمام ظاهرا أو مستترا " إلى آخره، على أن مورد الخبر المزبور نذر
الخروج بنفسه، وإن كان يلزمه صرف مال، أو يكون المراد أني أخرج
شيئا من المال، وعلى كل حال فإذا فرض عدم انعقاد النذر لم يكن
عليه شئ لا صرف ذلك في وجوه البر ولا غيره، فالمتجه حينئذ حمل
الخبر المزبور على نذر لخصوص مرابطين مرابطة غير مشروعة ولو باعتبار
كونهم جندا للمخالفين أو غير ذلك، وحمل الصرف حينئذ على ضرب
من الندب، والله العالم.
(ولو آجر نفسه) أو غلامه أو دابته أو غير ذلك (وجب
عليه القيام بها ولو كان الإمام عليه السلام مستورا) لعموم الأدلة
وأولويتها من الجهاد بذلك بعد ما عرفت من كونها مندوبة في حالتي
الظهور والاستتار، بل لو قلنا بوجوبها جاز على نحو ما سمعته في الجهاد
التي هي من لواحقه (وقيل) والقائل الشيخ فيما حكي عنه. (إن
وجد) الأجير (المستأجر أو ورثته ردها وإلا قام بها) وفي المسالك
استنادا إلى رواية تدل عليه ظاهرا لكن لم أجد إلا ما سمعته من
خبري يونس ومحمد بن عيسى وخبر علي بن مهزيار، وليس في شئ منها
45

الإجارة، اللهم إلا أن يدعى استفادة حكمها من الأولين بل والثالث،
إلا أن مقتضى ذلك فسادها لا القيام بها مع عدم وجدان المستأجر،
ولعله لفحوى ما سمعته في الخبرين الأولين، وعلى كل حال فلا ريب
في ضعف القول المزبور (و) أن (الأولى) والأصح (الوجوب
من غير تفصيل) لعموم الأدلة بعد ما عرفت من مشروعيتها على كل حال
(الركن الثاني)
(في بيان من يجب جهاده وكيفية الجهاد)
(وفيه أطراف) خمسة (الأول فيمن يجب جهاده، وهم ثلاثة)
الأول (البغاة على الإمام من المسلمين عليه السلام و) يلحق بهم مانعوا
الزكاة وإن لم يكونوا مستحلين كما تعرفه إنشاء الله، والثاني (أهل
الذمة، وهم اليهود والنصارى والمجوس إذا أخلوا بشرائط الذمة و)
الثالث (من عدا هؤلاء من أصناف الكفار، وكل من يجب جهاده
فالواجب على المسلمين النفور إليهم، إما لكفهم) عن فسادهم كما
في البغاة الذين هم من المسلمين، ومن هجم على بلاد الاسلام من غيرهم
على وجه يخشى منه على بيضة الاسلام أو على أسر المسلمين وقتلهم
وسبي ذراريهم (وإما لنقلهم إلى الاسلام) أو الايمان أو إعطاء الجزية
كما في الأقسام الثلاثة أيضا، فما قيل - من كون العبارة لفا ونشرا
مرتبا على أن يكون لكفهم للبغاة، ولنقلهم إلى الاسلام للقسمين الأخيرين
46

لا يخلو من نظر، ولا يشكل ذلك بأن البغاة كفار مرتدون عن فطرة
أو أكثرهم أو بعضهم، والمرتد كذلك لا تقبل توبته عندنا كما في
حاشية الكركي والمسالك، لامكان القول بقبول توبة هؤلاء خاصة كما
وقع من أمير المؤمنين عليه السلام معهم، ولعله لكون الشبهة عذرا في
حقهم ولذا اختصوا بأحكام لا تكون لغيرهم كما تسمعه إنشاء الله في
محله، وحينئذ يتجه تعلق الحكم بالمزبور بكل من الأقسام الثلاثة.
وكيف كان فلا إشكال في أصل الحكم بعد الأمر به والحث
الأكيد عليه كتابا وسنة، بل هو إن لم يكن من الضروريات فلا ريب
في كونه من القطعيات، نعم قد يمنع الوجوب، بل قد يقال بالحرمة
لو أراد الكفار ملك بعض بلدان الاسلام أو جميعها في هذه الأزمنة
من حيث السلطنة مع إبقاء المسلمين على إقامة شعار الاسلام وعدم
تعرضهم في أحكامهم بوجه من الوجوه، ضرورة عدم جواز التغرير بالنفس
من دون إذن شرعي، بل الظاهر اندراجه في النواهي عن القتال في
زمن الغيبة مع الكفار في غير ما استثني، إذ هو في الحقيقة إعانة لدولة
الباطل على مثلها.
نعم لو أراد الكفار محو الاسلام ودرس شعائره وعدم ذكر محمد
صلى الله عليه وآله وشريعته فلا إشكال في وجوب الجهاد حينئذ ولو مع
الجائر لكن بقصد الدفع عن ذلك لا إعانة سلطان الجور، بل الاجماع
بقسميه عليه، مضافا إلى النصوص (1) بالخصوص التي تقدم بعضها،
وإلى عموم الأمر بالقتال في الآيات المتكثرة الشاملة للفرض، بل ظاهر
الأصحاب أنه من أقسام الجهاد فتشمله حينئذ آياته ورواياته، وإن كان
لا يشترط فيه الشرائط الخاصة التي هي للجهاد الابتدائي للدعاء إلى

(1) الوسائل - الباب 6 و 7 من أبواب جهاد العدو.
47

الاسلام كما تقدم بعض الكلام فيه، ولقد أطنب بعض أفاضل العصر
في الاستدلال على وجوبه وفي ذكر أحكام في ذلك تزيد على خمسين وإن
كان جملة منها من الواضحات كذكره التقصير في السفر فيه الذي هو
من المعلومات الأولية بعد أن كان سفر طاعة واجبة، وبعضها واضح
المنع، كدعوى كون المقاتلة المزبورة من الواجب العيني على جميع الناس
وأغرب شئ ذكره منها أنه رجح كون الوجوب فيه على التراخي، ثم
ذكر لو تعارض مع الحج فهل يقدم عليه أو يقدم القتال عليه، مع
أن من المعلوم فورية وجوب الحج، فلا ينبغي معارضة الواجب على
التراخي إياه، هذا بعد الاغضاء عن دعوى كون الوجوب في الفرض
على التراخي، خصوصا في بعض الأحوال، بل والاغضاء عما في كثير
من كلامه من أشباه ذلك.
وكيف كان (فإن بدؤوا) المسلمين بالقتال (فالواجب محاربتهم)
مع المكنة بلا خلاف (و) لا إشكال، بل هو كالضروري، بل
(إن كفوا وجب) ابتداؤهم بها (بحسب المكنة) كذلك أيضا بعد
تعاضد الكتاب والسنة والمعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه وآله والتابعين
من شدة المواظبة والحث عليه حتى تكرر ذلك منه صلى الله عليه وآله
وهو في النزع، وخصوصا تنفيذ جيش أسامة بن زيد، لكن قد
يظهر من العبارة اعتبار المكنة في الثاني دون الأول، ولكن من المعلوم
عدم إرادته، ضرورة اعتبارها في كل منهما، نعم هي في الأول بمعنى
القدرة على دفعهم وردهم وكف أذاهم، وفي الثاني القدرة على مقاومتهم
وقهرهم على الاسلام والقيام بشرائط الذمة إن كانوا من أهلها،
وإلا فالقتل.
48

ولعل اقتصار المصنف عليها في الثاني مقدمة لقوله: (وأقله في
كل عام مرة) كما سمعته سابقا من غير واحد مستدلين عليه بقوله
تعالى " فإذا انسلخ الأشهر الحرم " إلى آخره بالتقريب الذي أسلفناه
ولكن لا يخفى عليك ما فيه، ولذا قيل التحقيق خلاف ذلك في الوجود
والعدم، فقد تجب الزيادة عليها مع الحاجة، كخوف قوة العدو
مع الاقتصار عليها، وأداؤه إلى ضعف المسلمين عنهم، ويجوز تركه أصلا
في السنة بل السنتين للعذر مثل أن يكون في المسلمين ضعف في عدد أو
عدة أو حصول مانع في الطريق، كعدم الماء ونحوه، أو لرجاء الرغبة
في الاسلام أزيد من القتال (و) نحو ذلك،
بل (إن اقتضت
المصلحة) للاسلام والمسلمين (مهادنتهم جاز) أو وجب (لكن لا يتولى
ذلك إلا الإمام عليه السلام أو من يأذن له) بالخصوص أو بما يشمله
كما صالح النبي صلى الله عليه وآله قريشا عشرين سنة حتى نقضوا العهد
على ما حضرني من نسخة المسالك، ولكن المعروف أن أقصى مدة صلح
النبي صلى الله عليه وآله عشر سنين كما ستعرف التحقيق فيه إنشاء الله
بل عنه صلى الله عليه وآله أنه أخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة
لها أيضا، وقد سمعت سابقا البحث في جواز تولي نائب الغيبة ذلك
(الطرف الثاني) من الأطراف (في كيفية قتال أهل الحرب،
والأولى) وفي التحرير والقواعد والمنتهى ومحكي السرائر ينبغي للإمام عليه
السلام (أن يبدأ بقتال من يليه) من الكفار (إلا أن يكون الأبعد أشد
خطرا) ويمكن إرادة الوجوب من ذلك، كما هو ظاهر النافع والإرشاد
والتذكرة والدروس واللمعة وغيرها، بل هو صريح الكركي وثاني
الشهيدين، لقوله تعالى (1) " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار "

(1) سورة التوبة - الآية 124.
49

الظاهر في الوجوب وإن كان قد يناقش بأن الأمر بمقاتلتهم غير الأمر
بالبدأة بقتالهم، فتبقى العمومات حينئذ بحالها، نعم يتجه إرادة
التأكد فيهم كما في كل عام أمر ببعض أفراده بالخصوص بعد الأمر
بالعموم، ومن هنا صرح المقداد بالندب الذي يشعر به التعبير بالأولى
وينبغي، بل يمكن إرادته من غيرهم أيضا، ولعله لكونه مقتضى السياسة
أيضا، نعم إذا كان الأبعد أشد خطرا وأكثر ضررا بدء به كما صرح
به الفاضل والشهيدان وغيرهم، بل لا أجد فيه خلافا، ولذا أغار
النبي صلى الله عليه وآله (1) على الحارث بن أبي ضرار لما بلغه أنه
تجمع له، وكان بينه وبينه عدو أقرب منه، وكذا فعل بخالد بن
سفيان الهذلي (2) أو كان الأقرب مهادنا كما صرح به أيضا غير واحد
أو منع من مقاتلة الأقرب مانع، وبالجملة ينبغي مراعاة المصلحة في
ذلك، وهي مختلفة باختلاف الأحوال، ومنه يعلم حال الأقرب فالأقرب
فإن ذلك من أحكام السياسة التي ترجع إلى نظر الإمام عليه السلام ومأذونه
(و) لذا (يجب) على الإمام عليه السلام ومنصوبه (التربص إذا كثر
العدو وقل المسلمون حتى تحصل الكثرة للمقاومة ثم تجب المبادرة) كما في
القواعد، ولكن في التحرير يستحب له أن يتربص بالمسلمين مع القلة ويؤخر
الجهاد حتى يشتد الأمر بالمسلمين، ولعل المراد حال آخر غير المفروض
ثم إن الكثرة المقاومة تختلف باختلاف الحال، وقال عمر بن
أبي نصر (3) " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: خير الرفقاء
أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير العساكر أربعة آلاف، ولا تغلب

(1) سنن البيهقي - ج 9 ص 38.
(2) سنن البيهقي - ج 9 ص 38.
(3) الوسائل - الباب 54 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 عن
عمرو بن أبي نصر.
50

عشرة آلاف من قلة " وفي خبر فضيل بن حنتم (1) عن أبي جعفر عليه
السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله " لا يهزم جيش عشرة
آلاف من قلة " وقال شهر بن حوشب (2) " سألني الحجاج عن خروج
النبي صلى الله عليه وآله إلى مشاهده فقلت: شهد رسول الله صلى الله
عليه وآله بدرا في ثلاث مائة وثلاثة عشر، وشهد أحدا في ستمائة، وشهد
الخندق في تسعمائة، فقال، عمن قلت؟ قلت عن جعفر بن محمد عليهما السلام
فقال: ضل والله من سلك غير سبيله " وفي المروي (3) عن الخصال
بسنده إلى ابن عباس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله خير
الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف
ولم يهزم اثنا عشر ألف من قلة إذا جردوا وصدقوا ".
وكيف كان فينبغي للإمام عليه السلام ملاحظة أطراف بلاد المسلمين
فيجعل فيها من يكف المشركين ويعمل الحصون ويحفر الخنادق وغير ذلك
مما يحترس المسلمون به، كما أنه ينبغي له جعل أمير في كل ناحية
يقلده أمر الحروب وتدبير الجهاد ذي أمانة ورفق ونصح للمسلمين ورأي
وقوة وشجاعة ومكابدة للعدو، وإذا احتاج إلى المدد مده، إلى غير ذلك
مما يقتضيه الحال، فإن الجهاد موكول إلى نظر الإمام عليه السلام ويلزم
الرعية طاعته كما يراه.
(و) كيف كان ف‍ (لا يبدؤون) أي الكفار الحربيون بالقتال
مع عدم بلوغه الدعوة إليهم (إلا بعد الدعاء إلى محاسن الاسلام)
وهي الشهادتان وما يتبعهما من أصول الدين وامتناعهم عن ذلك وعن

(1) الوسائل - الباب 54 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 3 - 4 - والأول عن فضيل بن خيثم.
(2) الوسائل - الباب 54 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 3 - 4 - والأول عن فضيل بن خيثم.
(3) الوسائل - الباب 54 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 3 - 4 - والأول عن فضيل بن خيثم.
51

إعطاء الجزية إن كانوا من أهلها بلا خلاف أجده بل ولا إشكال، وفي
خبر مسمع بن عبد الملك (1) عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال
أمير المؤمنين عليه السلام: " بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى
اليمن فقال: يا علي لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه، وأيم الله لأن يهدي
الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك
ولاؤه يا علي " ونحوه غيره من النصوص، مضافا إلى الأصل وغيره بعد
ظهور الأدلة في الأمر بجهادهم وقتلهم كي يسلموا، فلا بد من إعلامهم
أن المراد ذلك لا طلب المال والملك ونحوهما مما يستعمله الملوك، ولكن
لو بدر أحد من المسلمين إلى أحد من الكفار وقتله قبل الدعوة أثم
ولا ضمان، خلافا للشافعي فحكم بالضمان للقياس على الذمي الذي
هو مع بطلانه في نفسه عندنا مع الفارق بل ربما حكي عن الشيخ
نفي الأمرين معا، ولكن فيه أنه مناف لما عرفت من عدم جواز
قتالهم قبل الدعوة إلى الاسلام.
(و) على كل حال ففي النافع والتحرير والتذكرة والتبصرة
والإرشاد والقواعد والدروس والروضة (يكون الداعي الإمام عليه السلام
أو من نصبه) وربما ظهر منهم الوجوب، بل قيل إنه يدل عليه خبر
مسمع (2) السابق وإن كان فيه ما لا يخفى، بل ربما ظهر من خبر
السلمي (3) عن أبي عبد الله عليه السلام خلافه، قال: " إني كنت
أكثر الغزو وأبعد في طلب الأجر وأطيل الغيبة، فحجروا ذلك علي،
فقالوا: لا غزو إلا مع إمام عادل، فما ترى أصلحك الله تعالى " إلى
آخر ما سمعته سابقا، ولعله لذا حكي عن النهاية والسرائر التعبير

(1) الوسائل - الباب 10 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(2) الوسائل - الباب 10 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2.
(3) الوسائل - الباب 10 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2.
52

بينبغي المشعر بالندب المحتمل إرادته ممن عرفت أيضا، بل قيل هو أوفق
بقولهم: " وتسقط الدعوة عمن قوتل لها وعرفها " الشامل لدعاء
الإمام عليه السلام ومنصوبه وغيرهما، وإن كان فيه إمكان إرادة الدعوة
من الإمام عليه السلام ومنصوبه، خصوصا ممن ذكر ذلك متصلا بالعبارة
السابقة، بل لا تخفى عليك أمارات التقية من الخبر المزبور، وإلا فقد
عرفت عدم جواز الغزو في زمان الغيبة، نعم قد يقال إنه لا دليل
صالح على الوجوب، والأصل البراءة، مؤيدا بحصول الغرض بصدورها
من كل أحد، والظاهر الاكتفاء ببلوغها إلى رئيسهم مشافهة أو مراسلة
أو مكاتبة، والأولى اعتبار بلوغها إلى كل مقاتل منهم، كما أن الأولى
كونها بالمأثور، وهو بسم الله أدعوك إلى الله وإلى دينه، وجماعة أمران
أحدهما معرفة الله، والآخر العمل برضوانه، وأن معرفة الله أن يعرفه
بالوحدانية والشرافة والعلم والقدرة والعلو في كل شئ وأنه الضار
النافع القاهر لكل شئ الذي لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار
وهو اللطيف الخبير، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن ما جاء به الحق
من عند الله، وأن ما سواه لهو الباطل، فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم
ما للمؤمنين وعليهم ما على المؤمنين.
(و) كيف كان فقد صرح الشيخ والفاضلان والشهيدان وغيرهم
بأنه (يسقط اعتبار) وجوب (الدعوة) على تقديره (في) حق (من
عرفها) بقتال سابق عليها أو بغير ذلك، للأصل وما سمعته في خبر
السلمي وما حكاه غير واحد (1) من أن النبي صلى الله عليه وآله غزا
بني المصطلق وهم آمنون وإبلهم تسقى على الماء واستأصلهم، بل لعله
لا خلاف فيه وإن حكي عن إطلاق النهاية والسرائر والتبصرة، لكن

(1) البحار - ج 20 ص 281 إلى ص 309 الطبع الحديث.
53

يمكن تنزيله على غير الفرض الذي لا حكمة ظاهرة في وجوبها فيه مع
فرض علمهم بها.
نعم هو مستحب كما صرح به غير واحد لتأكيد الحجة، وللمحكي (1)
من فعل علي عليه السلام عند مقاتلة عمرو بن عبد ود، وما سمعته (2)
من وصية النبي صلى الله عليه وآله له عليه السلام لما بعثه إلى اليمن،
وما يحكى من دعوة سلمان أهل فارس وغير ذلك، ولجواز حدوث
الرغبة في الاسلام أو إعطاء الجزية أو إيقاع الهدنة، وخصوصا إذا
كانت بلاد المشركين واسعة يجوز فيها من لم تبلغه الدعوة، ولا تخص
الدعوة الحربي من غير أهل الكتاب، بل هي شاملة لهم ولغيرهم وإن
زادت فيهم بطلب الجزية.
ويستحب الدعاء بالمأثور ففي خبر الميمون (3) عن أبي عبد الله
عليه السلام " إن أمير المؤمنين عليه السلام كان إذا أراد القتال قال
هذه الدعوات اللهم إنك أعلمتنا سبيلا من سبلك جعلت فيه رضاك،
وندبت إليه أولياءك، وجعلته أشرف سبلك عندك ثوابا وأكرمها لديك
مآبا وأحبها إليك مسلكا، ثم اشتريت له من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليك حقا
فاجعلني ممن اشترى فيه منك نفسه ثم وفى لك ببيعه الذي بايعك عليه
غير ناكث لك، ولا ناقض لك عهدا، ولا مبدل تبديلا، بل استحبابا
لمحبتك، وتقربا به إليك، فاجعله خاتمة عملي، وصير فيه فناء عمري
وارزقني فيه لك به مشهدا توجب لي به منك الرضا، وتحط به عني

(1) البحار - ج 20 ص 227 و 253 و 255 الطبع الحديث.
(2) الوسائل الباب 10 من أبواب جهاد الحديث 1.
(3) الوسائل - الباب 55 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
54

الخطايا، وتجعلني في الاحياء المرزوقين بأيدي العداة والعصاة تحت
لواء الحق وراية الهدى، ماضيا على نصرتهم، قدما غير مول دبرا ولا
محدث شكا، اللهم وأعوذ بك عند ذلك من الجبن عند موارد الأهوال
ومن الضعف عند مساورة الأبطال، ومن الذنب المحبط للأعمال،
فأحجم من شك أو أمضي بغير يقين، فيكون سعيي في تباب، وعملي
غير مقبول ".
ثم إنه ينبغي اتخاذ الشعار في الحرب، وهو النداء الذي يعرف به أهلها
فيكون علامة على ذلك، قال الصادق عليه السلام في خبر معاوية (1)
" شعارنا يا محمد يا محمد وشعارنا يوم بدر يا نصر الله اقترب، وشعار
المسلمين يوم أحد يا نصر الله اقترب، ويوم بني النضير يا روح القدس
أرح، ويوم بني قينقاع لا ربنا لا يغلبنك، ويوم الطائف يا رضوان،
وشعار يوم حنين يا بني عبد الله يا بني عبد الله، ويوم الأحزاب حم لا
يبصرون، ويوم بني قريظة يا سلام أسلمهم، ويوم المريسيع وهو يوم بني
المصطلق ألا إلى الله الأمر، ويوم الحديبية ألا لعنة الله على الظالمين،
ويوم خيبر وهو يوم القموص يا علي آتهم من عل، ويوم الفتح نحن عباد
الله حقا حقا، ويوم تبوك يا أحد يا صمد، ويوم بني الملوح أمت أمت
ويوم صفين يا نصر الله، وشعار الحسين يا محمد، وشعارنا يا محمد " وقال
الصادق عليه السلام في خبر السكوني (2) " قدم أناس من مزينه على
النبي صلى الله عليه وآله فقال ما شعاركم؟ قالوا: حرام، قال: بل شعاركم حلال "
وفي الكافي " وروي (3) أيضا أن شعار المسلمين يوم بدر يا منصور أمت
وشعار يوم أحد للمهاجرين يا بني عبد الله يا بني عبد الرحمن، وللأوس يا بني

(1) الوسائل - الباب 56 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2 - 3.
(2) الوسائل - الباب 56 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2 - 3.
(3) الوسائل - الباب 56 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2 - 3.
55

عبد الله " والله العالم.
(و) على كل حال ف‍ (لا يجوز الفرار إذا كان العدو على
الضعف أو أقل) كما صرح به الشيخ والفاضلان والشهيدان وغيرهم
بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به في التنقيح، بل الفرار من الزحف
من جملة الكبائر كما استفاضت به النصوص أو تواترت، وقال الله
تعالى (1) " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم
الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة
فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير " وفي مرسل
الكليني (2) عن أمير المؤمنين عليه السلام " وليعلم المنهزم أنه مسخط
ربه وموبق نفسه، له في الفرار موجدة الله والذل اللازم والعار الباقي،
وأن الفار لغير مزيد في عمره، ولا محجور بينه وبين يومه، ولا يرضي
ربه، ولموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس
بها والاقرار عليها " وفي خبر محمد بن سنان (3) " إن أبا الحسن
الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله حرم الله
الفرار من الزحف، لما فيه من الوهن في الدين، والاستخفاف بالرسل
والأئمة العادلة، وترك نصرتهم على الأعداء، والتقوية لهم على ترك
ما دعوا إليه من الاقرار بالربوبية واظهار العدل وترك الجور وإماتة
الفساد، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، وما يكون في ذلك *

(1) سورة الأنفال - الآية 15 و 16
(2) الوسائل - الباب 29 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2
(3) الوسائل - الباب 29 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2
56

من السبي والقتل وإبطال دين الله عز وجل وغيره من الفساد " وفي
خبر إسماعيل بن جابر (1) عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي
عليهم السلام المروي عن رسالة المحكم والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني
مسندا إليه " إن الله تعالى لما بعث نبيه صلى الله عليه وآله أمر في بدء
أمره أن يدعو بالدعوة فقط، وأنزل عليه " ولا تطع الكافرين
والمنافقين ودع أذاهم (2) " فما أرادوا ما هموا به من تبييته أمره
الله بالهجرة وفرض عليه القتال، فقال: " أذن للذين يقاتلون بأنهم
ظلموا (3) " - ثم ذكر بعض آيات القتال إلى أن قال -: فنسخت
آية القتال آية الكف - ثم قال - ومن ذلك أن الله تعالى فرض القتال
على الأمة فجعل على الرجل أن يقاتل عشرة من المشركين، فقال:
" إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة
يغلبوا ألفا من الذين كفروا (4) " ثم نسخها سبحانه فقال: " الآن
خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا
مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين (5) " فنسخ بهذه الآية ما
قبلها، فصار فرض المؤمنين في الحرب إن كان عدة المشركين أكثر من
رجلين لرجل لم يكن فارا من الزحف، وإن كانت العدة رجلين لرجل
كان فارا من الزحف " وقال الصادق عليه السلام في خبر مسعدة بن
صدقة (6) في حديث طويل: " إن الله عز وجل فرض على المؤمن في

(1) الوسائل - الباب 27 من أبواب جهاد العدو الحديث 3
(2) سورة الأحزاب - الآية 47
(3) سورة الحج - الآية 40
(4) سورة الأنفال - الآية 66 - 67
(5) سورة الأنفال - الآية 66 - 67
(6) الوسائل - الباب 27 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
57

أول الأمر أن يقاتل عشرة من المشركين ليس له أن يولي وجهه عنهم
ومن ولاهم يومئذ دبره فقد تبوء مقعده من النار، ثم حولهم عن حالهم
رحمة منه لهم فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين
تخفيفا من الله عز وجل، فنسخ الرجلان العشرة " وقال عليه السلام
أيضا في خبر الحسين بن صالح (1) " من فر من رجلين في القتال في
الزحف فقد فر، ومن فر من ثلاثة في القتال فلم يفر ".
بل قد يقال إن مقتضى الاطلاق عدم الفرق في ذلك بين القسم
الأول من الجهاد والثاني، أي الذي يدهم المسلمين فيه عدو يخشى
منه على شعار الاسلام، كما جزم به بعض الأفاضل، إلا أنه قد يناقش
بأن المنساق من النص والفتوى الأول خصوصا مع ذكرهم له في أحكامه
فيبقى الثاني على مقتضى الأصل، ولكن مع ذلك الأول أحوط مع عدم
ظن العطب.
وكيف كان فالمراد حرمة الفرار من الحرب والهرب منها، وهو
المكنى عنه بتولية الدبر دون غير ذلك، ولذا قال المصنف كغيره من
الأصحاب: (إلا لمتحرف) للقتال كقول الله تعالى شأنه (2): " إلا
متحرفا لقتال " أي لا يكون للفرار بل لحصانة الموضع، وربما قيل
هو الكر بعد الفر، ولعله هو أحد أفراد المتحرف، فإنه الميل إلى
حرف أي طرف، ومنه التحرف في طلب الرزق، وهو الميل إلى جهة
يظن الرزق فيها، فيراد حينئذ مطلق المتحرف للقتال (كطالب السعة)
كما في القواعد والتذكرة والمسالك وغيرها، ليكون أمكن له في القتال
من المكان الضيق المفروض كونه فيه (أو المراد المياه) كما في

(1) الوسائل - الباب 27 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 عن حسن بن صالح
(2) سورة الأنفال الآية 16.
58

القواعد والتحرير والتنقيح والتذكرة والمسالك وغيرها، دفعا لعطشه
المانع له القتال (أو استدبار الشمس) كما في القواعد والتحرير
والتذكرة والتنقيح والروضة وغيرها، لأنه أولى من القتال مقابلا لها
(أو تسوية لامته) كما في القواعد والتنقيح والروضة والمسالك
وغيرها، أي درعه، وغير ذلك مما هو نوع تحرف للقتال، كنزع شئ
ولبسه المصرح به في الدروس والقواعد والمسالك، والارتفاع عن هابط
والاستناد إلى جبل المصرح بهما في التذكرة والتحرير إلى غير من ذلك
المصالح التي لا يعد مع ملاحظتها فرارا وهربا (أو متحيزا) أي
مائلا (إلى) حيز (فئة) أي جماعة من الناس منقطعة عن غيرها
(قليلة كانت أو كثيرة) كما في التحرير والإرشاد والقواعد
والروضة وغيرها، بل هو ظاهر الآية والنافع والتبصرة واللمعة والدروس
بل لا فرق بين كونها قريبة أو بعيدة بحيث لا يصدق معها الفرار من
الحرب كما صرح به جماعة، وعليه ينزل إطلاق أخرى، ودعوى أن
مطلق البعد مخل بالمقصود ومبطل لصورة الجهاد كما احتمله في الإيضاح
واضحة المنع.
نعم الظاهر اعتبار كون الفئة صالحة للاستنجاد ولو بالانضمام
كما صرح به الفاضل والكركي وثاني الشهيدين والمقداد، بل لعله
المراد من إطلاق المصنف والنافع والتبصرة والإرشاد والتحرير والدروس
واللمعة ضرورة انسياق المدخلية في القتال من المستثنى في الآية، إذ
لو فرض كون الفئة غير صالحة لكونهم مرضى أو زمني أو غير ذلك
مما لا غنى به عنه لم تكن فائدة في التحيز إليها بالفرار الذي فيه قوة
للعدو وضعف ووهن للمسلمين، لكن الظاهر عدم اعتبار رجاء حصول
الظفر بها، بل يكفي رجاء النفع والدفع وقوة القلب وكمال القتال
59

ونحو ذلك، كما أن الظاهر عدم اعتبار إشعار المتحيز عجزا محوجا
إلى الاستنجاد لاطلاق الآية، فيكفي حينئذ في جوازه كونه أتم في
القتال أو غير ذلك مما له مدخلية كما صرح به في التذكرة خلافا
لبعض الشافعية، نعم قد يقال بعدم جواز التحيز إلى الفئة إذا كان فيه
انكسار للمسلمين واستظهار للعدو، هذا، وفي المسالك " ولو وصل
إلى الفئة في زمان لم يخرج به عن كونه مقاتلا فبدا له الانتقال إلى
أخرى جاز بشرط أن لا يخرج بمجموع التحيزين عن الوصف، لا
بكل واحد على انفراده مع اتصال الانتقال، أما لو طرء بعد الانتقال
معها اعتبر كل واحدة " ولا يخلو من تأمل، والمدار على صدق عدم
الفرار والهرب بالتحيز المفروض إلى فئة من غير فرق بين الفئات.
وفي التذكرة والمتحيز إلى فئة بعيدة لا يشارك الغانمين في غنيمة
فارق قبل اغتنامها، ولو فارق بعد غنيمة البعض شارك فيه دون الباقي
أما لو تحيز إلى فئة قريبة فإنه يشارك الغانمين في المغنوم بعد مفارقته
وهو أحد وجهي الشافعية لأنه لا تفوت نصرته والاستنجاد به، فهو
كالسرية تشارك جند الإمام (ع) فيما يغنمون، وإنما يسقط الانهزام
الحق إذا اتفق قبل القسمة، أما إذا غنموا شيئا واقتسموه ثم انهزم
بعضهم لم يسترد منه ما أخذ " وهو جيد لكن أوله لا يخلو من نظر،
ولو تحيز إلى فئة وفي الأثناء قد تحيزت هي إلى أخرى تحيز معها إذا
لم يصدق الفرار والهرب، وإلا وجب الثبات، والأولى تحقق ما عزم
عليه من القتال بالتحيز إلى الفئة، لأنه الظاهر من الآية، فلا يكفي
حينئذ عزمه من دون تحقق عزم الفئة التي يتحيز إليها، ويحتمل
الاكتفاء بعزمه الذي رخص له الانصراف.
وعلى كل حال فقد صرح الفاضل وثاني الشهيدين وغيرهما بأن
60

ذلك كله للمختار،
أما المضطر كمن عرض له مرض أو نفذ سلاحه
فإنه يجوز له الانصراف، وهو كذلك مع الضرورة التي يسقط معها
التكليف، وإلا لم يجز، لاطلاق الآية، وخصوصا إذا كان بالانصراف
مفسدة على المسلمين بظهور الضعف والوهن أو خوف انكسارهم وغلبة
العدو عليهم، ولو قدم العدو إلى بلد جاز لأهله التحصن منهم وإن
كانوا أكثر من الضعف ليلحقهم لمدد والنجدة، وليس ذلك فرارا ولا
توليا، بل لو لقوهم خارج الحصن جاز لهم التحيز إليه، نعم ذهاب
الدواب ليس عذرا في جواز الفرار، لأن القتال ممكن للرجال، بل لو
ذهب سلاحهم جاز تحيزهم إلى مكان فيه الحجارة ليقاتلوا بها، والله العالم.
(و) على كل حال ف‍ (لو غلب عنده الهلاك) مع كون العدو على
الضعف أو أقل وكان في فئة (لم يجز) له (الفرار) كما في النافع
والإرشاد والتحرير والتذكرة والتنقيح والمسالك وغيرها، بل في الرياض
نسبته إلى الأكثر (وقيل يجوز) والقائل الشيخ في محكي المبسوط ولم
أتحققه، لأن المحكي عنه في التنقيح أنه حكاه قولا، بل حكي عنه في
الخلاف أنه قال: الأولى عدم الجواز، نعم هو خيرة الفاضل في القواعد
والمختلف للأصل، و (لقوله تعالى (1) ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
وللحرج وسقوط أكثر الواجبات بظن الهلاك (و) لكن (الأول
أظهر لقوله تعالى (2) " إذا لقيتم فئة فاثبتوا ") والنصوص (3)
المستفيضة أو المتواترة الدالة على حرمة الفرار من الزحف وأنه من

(1) سورة البقرة - الآية 191.
(2) سورة الأنفال - الآية 47.
(3) الوسائل - الباب 29 من أبواب جهاد العدو والباب 46 من
جهاد النفس.
61

الكبائر، وبناء الجهاد على التغرير بالنفس الذي هو في الحقيقة حياة أبدية
عند الله تعالى لقوله تعالى (1) " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
بل أحياء عند ربهم يرزقون " ولأن إيجاب الثبات للضعف مظنة العطب
والهلاك، خصوصا إذا كان العدو مع ذلك أشد شجاعة وأقوى قلبا،
والأخبار من الله تعالى بالغلبة إن كان المراد حقيقة رافع لمظنة العطب
حينئذ على كل حال فلا موضوع للمسألة.
ومن ذلك يعلم ما في دعوى أن التعارض بين الأدلة من وجه،
ولا ترجيح فيكون مخيرا، مضافا إلى ما سمعته من دعوى الأكثرية وإلى
ظهور القول المزبور في نفي الوجوب لا الجواز الذي مقتضاه ترجيح أدلة
الجهاد على تلك العمومات، ويلزمه وجوب الثبات حينئذ لأدلته، اللهم
إلا أن يكون وجه القول بالجواز دعوى تعارض الأدلة ولا ترجيح فيكون
مخيرا، وفيه ما عرفت من وضوح الترجيح بما سمعت، ومن الغريب
دعوى انسياق غير الفرض من العمومات مع فرض كون العدو على
الضعف، وأغرب منه الاستدلال بقاعدة الحرج وأنها من القواعد العقلية
التي لا تقبل التخصيص، مع أنك قد عرفت سابقا وجوب ثبات العشرة
للمائة، أي حرج في الجهاد حتى يقتل وتحصل له الحياة الأبدية
والسعادة السرمدية، وقد وقع من سيد الشهداء روحي له الفداء في
كربلاء الثبات بنيف وسبعين رجلا لثلاثين ألفا الذي هو أقل ما روي (2)
في نصوصنا، نعم لا بأس بالفرار للنساء كما في التذكرة، قال:
لأنهن لسن من أهل فرض الجهاد، مع أنه قد يشكل في القسم الثاني
من الجهاد بناء على وجوب الثبات فيه على حسب جهاد الدعوة، أما

(1) سورة آل عمران - الآية 163.
(2) البحار ج 45 ص 4 المطبوعة عام 1385.
62

الصبيان والمجانين فلا تكليف عليهم، وكذا السكران إلا إذا كان عاصيا
بسكره في وجه، والله العالم.
(وإن كان المسلمون أقل من ذلك لم يجب الثبات) كما صرح
به غير واحد، للأصل بعد انتفاء شرط الوجوب المستفاد من الكتاب
والسنة والفتاوى المقتضي لانتفاء المشروط، نعم قد يشكل ذلك في نحو
زيادة الواحد والاثنين مثلا مع الضعف والجبن في الكفار، والشجاعة
والقوة في المسلمين باطلاق أدلة الثبات بعد انسياق اعتبار كون العدو
على الضعف فأقل إلى ما هو الغالب من غير الفرض، وكذا الكلام في
صورة العكس، ومن هنا قال الفاضل: وفي جواز فرار مأة بطل من
المسلمين من مأتين وواحد من ضعفاء الكفار إشكال، من مراعاة العدد
ومن المقاومة لو ثبتوا، والعدد مراعى مع تقارب الأوصاف، وكذا
الاشكال في عكسه، وهو فرار مأة من ضعفاء المسلمين من مأة وتسع
وتسعين من أبطال الكفار، فإن راعينا صورة العدد لم يجز، وإلا جاز
بل في القواعد الأقرب المنع في الأول، لأن العدد معتبر مع تقارب
الأوصاف، لكن قد يقال بخروج ذلك عن محل البحث الذي هو مجرد
زيادة العدو بالعدد من غير ملاحظة حيثية أخرى، ولذا قال المصنف:
(ولو غلب على الظن السلامة استحب) أي الثبات وإن زاد الكفار
على الضعف، لما فيه من إظهار القوة وزيادة العزم، خصوصا بعد
ما يستفاد من قوله تعالى (1) " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة
بإذن الله " وغيره من الترغيب فيه وفي إدراك الشهادة وعدم الاكتراث
بزيادة العدد، لأن النصر من عند الله.
(وإذا غلب العطب قيل يجب الانصراف) مع السلامة به،

(1) سورة البقرة - الآية 250.
63

لوجوب حفظ النفس وحرمة التعزير بها (وقيل) ولكن لم نعرف القائل
به قبل المصنف (يستحب) الانصراف (وهو أشبه) عند المصنف
بأصول المذهب وقواعده التي منها أصالة البراءة من الوجوب في نحو
الفرض بعد ما يستفاد من الكتاب والسنة من الترغيب في الشهادة،
ومن كون النصر بإذن الله وغير ذلك مما يكون أقل مراتبه الجواز، بل
لعل المتجه الندب، وضرورة ظهور الأدلة في رجحانه، بل لا أعرف
دليلا على جوازه خاليا عن الرجحان، بل يمكن القطع بعدمه، بل
لم أعرف من حكاه قولا غير المصنف، والذي حكاه في المنتهى عدم
وجوب الانصراف لأن لهم غرضا في الشهادة، واستحسنه، كما أن
المحكي من عبارة المبسوط الجواز لا الندب فمتى جاز كان واجبا أو
مستحبا، بل يمكن إرادة القائل المزبور أفضيلة الانصراف منه باعتبار
حصول البقاء الذي هو سبب لكثير من العبادات والطاعات والمبرات
لا الجواز بالمعنى الأخص الذي هو بمعنى الإباحة الصرفة من دون ترتيب
شئ من الثواب عليه مع فرض بذل نفسه في الدين، فإنه يمكن القطع
بعدمه، كما أنه يمكن القطع بعدم الوجوب بعد ملاحظة ما ورد في
الكتاب والسنة من الترغيب في الشهادة والحث على الثبات ونحو ذلك
مما يكفي بعضه في رفع الوجوب، وبه يفترق حال الجهاد حينئذ عن غيره
ضرورة وجوب الانصراف في الفرض في غير الجهاد بخلافه، والله العالم.
(ولو انفرد اثنان بواحد من المسلمين لم يجب الثبات) كما في
المبسوط والمختلف والقواعد والتحرير والتنقيح للأصل بعد ظهور الأدلة
في وجوب الثبات للضعف مع الكثرة كما يشعر به قوله تعالى (1): " فإن

(1) سورة الأنفال - الآية 67.
64

يكن منكم مأة - إلى قوله - أو ألف " إلى آخره، بل ربما فسر الزحف
في قوله تعالى (1) " إذا لقيتم الذين كفروا زحفا " بذلك، ففي كنز
العرفان " قيل المراد بالزحف الجيش الذي يرى لكثرته كأنه يزحف "
إلى آخره (وقيل يجب وهو المروي) فيما سمعته من خبر الحسن بن
صالح وغيره، لكن يمكن كون المراد منه مع الجيش لا الآحاد، فالأقوى
الأول وإن كان الأحوط الثاني، إذ الظاهر عدم الخلاف في الجواز،
بل والاشكال مع ظن السلامة، أما مع ظن العطب فيحتمل وجوب
الهرب مع فرض السلامة فيه لنحو ما عرفته سابقا، ويحتمل العدم، ولعله
الأقوى، لما سمعته، هذا كله في هذين القولين، وأما التفصيل بين
ما لو طلباه فيجوز له الفرار وبين ما لو طلبهما فلا يجوز، فلم أعرف
له مستندا بل ولا قائلا وإن حكاه في التذكرة بلفظ القيل، والله العالم.
(ويجوز محاربة العدو بالحصار ومنع السابلة دخولا وخروجا
وبالمناجيق) والتفنك والقنابر والأطواب والبارود ورمي الحيات القاتلة
والعقارب وغيرها من الحيوانات (وهدم الحصون والبيوت) وقطع
الأشجار والقذف بالنار وإرسال الماء لينصرفوا به ومنعه عليهم ليموتوا
عطشا (وكلما يرجى به الفتح) بلا خلاف أجده فيه، للأصل وإطلاق
الأمر بقتلهم، والمروي (2) عن النبي صلى الله عليه وآله) أنه نصب
على أهل الطائف منجنيقا وكان فيهم نساء وصبيان وخرب حصون بني
النضير وخيبر وهدم دورهم، بل في الدروس والروضة أنه صلى الله عليه
وآله حرق بني النضير، وفي خبر حفص بن غياث (3) " كتب

(1) سورة الأنفال الآية 15.
(2) البحار ج 21 ص 168 الطبع الحديث.
(3) الوسائل - الباب 16 من أبواب جهاد العدو الحديث 2
. والتهذيب ج 6 ص 142 الرقم 242.
65

بعض إخواني إلي أن أسأل أبا عبد الله عليه السلام عن مدينة من مدائن
أهل الحرب هل يجوز أن يرسل عليهم الماء أو يحرقون بالنار أو يرمون
بالمنجنيق حتى يقتلوا وفيهم النساء والصبيان والشيخ والأسارى من المسلمين
والتجار فقال: تفعل ذلك ولا تمسك عنهم لهؤلاء، ولا دية عليهم
ولا كفارة " مضافا إلى قوله تعالى (1) " وما قطعتم من لينة أو تركتموها
قائمة على أصولها " وقوله تعالى (2) " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن
رباط الخيل " وقوله تعالى (3): " واقعدوا لهم كل مرصد " وأنهم شر الدواب
وأشدها أذية، وغير ذلك، فما عساه يظهر من الشهيد في الدروس من
حرمة قتلهم بمنع الماء مع الاختيار في غير محله، وكذا ما في الروضة
من اعتبار توقف الفتح في جواز هدم الحصون والمنجنيق وقطع الشجر.
نعم (يكره قطع الأشجار ورمي النار وتسليط المياه إلا مع
الضرورة) ففي خبر جميل ومحمد بن حمران (4) عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا بعث
سرية دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه، ثم
قال: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله
عليه وآله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقطعوا شجرة إلا
أن تضطروا إليها، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا ولا امرأة " الحديث
ونحوه خبر الثمالي (5) عنه عليه السلام أيضا، وفي ثالث وهو خبر

(1) سورة الحشر - الآية 5
(2) سورة الأنفال - الآية 62.
(3) سورة التوبة - الآية 5.
(4) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 2.
(5) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 2.
66

مسعدة بن صدقة (1) عنه عليه السلام أيضا " إن النبي صلى الله عليه
وآله كان إذا بعث أميرا له على سرية أمره بتقوى الله تعالى في خاصة
نفسه ثم في أصحابه عامة، ثم قال له: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله
قاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا
ولا متبتلا في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا
شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعا، لأنكم لا تدرون، لعلكم تحتاجون
إليه، ولا تعقروا من البهائم مما يؤكل لحمه إلا ما لا بد لكم من أكله "
الحديث، وعن النبي (1) صلى الله عليه وآله أنه قطع أشجار
الطائف، لكن ليس في شئ منها تعميم النهي عن النار والماء كما
عساه يظهر من إطلاق المصنف إلا أن يحمل على إرادة ذلك بالنسبة إلى
الأشجار، إلا أن الأمر سهل بعد كون الحكم الكراهة المحمول عليها
لقصوره عن إفادة الحرمة من وجوه، والله العالم.
(ويحرم إلقاء السم) كما في النهاية والغنية والسرائر والنافع
والتبصرة والإرشاد والدروس وجامع المقاصد مع التقييد في كثير منها
بما إذا لم يضطر إليه أو يتوقف الفتح عليه، لخبر السكوني (1) عن
جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام " إن النبي صلى الله عليه وآله
نهى أن يلقى السم في بلاد المشركين " بل في السرائر نسبته إلى
الأخبار وإن كنا لم نجد غير الخبر المزبور (وقيل يكره) كما في القواعد
والتحرير والتذكرة واللمعة والروضة وغيرها، وهو المحكي عن
المبسوط والإسكافي، بل في المختلف نسبته إلى أصحابنا حملا للنهي في

(1) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3
(2) البحار ج 21 ص 169 الطبع الحديث
(3) الوسائل الباب 16 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
67

الخبر المزبور عليها، لقصوره سندا عن إفادة الحرمة، ولعله لذا قال
المصنف: (وهو أشبه) وفيه أن السكوني مقبول الرواية، بل حكي
الاجماع على العمل بأخباره، نعم قد يقال إنه ظاهر في النهي عن
إلقائه في البلاد، لاستلزامه غالبا قتل الأطفال والنساء والشيوخ ومن
فيها من المسلمين ونحوهم ممن يحرم قتلهم، أما إذا فرض اختصاص
قتله بالكفار الذين يجوز قتلهم بأنواع القتل فلا، بل قد يتوقف في
الجواز في الأول وإن توقف الفتح عليه، لاطلاق الخبر المزبور، بل إن
كان هو المراد ممن الضرورة في عبارة من قيد أمكن منعه لذلك أيضا
ومنه يعلم ما في قول المصنف: (فإن لم يمكن الفتح إلا به جاز)
بلا كراهة، ضرورة أن الخبر مطلق، فما عن ظاهر بعض من جوازه
وإن أدي إلى قتل نفس محترمة ولم يتوقف الفتح عليه واضح الضعف
لذلك وللمقدمة، كما هو واضح.
(ولو تترسوا بالنساء والصبيان منهم) ونحوهم ممن لا يجوز قتله
منهم كالمجانين (كف عنهم) مع إمكان التوصل إليهم بغير ذلك
للمقدمة، وإلا كما أشار إليه المصنف بقوله: (إلا في حال التحام الحرب)
جاز وإن استلزم قتل الترس، خصوصا إذا خيف من الكف عنهم الغلبة،
ترجيحا لما دل على الأمر بقتلهم على ما دل على حرمة قتل الترس بخبر
حفص بن غياث (1) السابق والشهرة أو عدم الخلاف وغير ذلك.
(وكذا لو تترسوا بالأسارى من المسلمين وإن قتل الأسير إذا لم
يمكن جهادهم إلا كذلك) بل مقتضى إطلاق الخبر المزبور جوازه وإن
لم يتوقف عليه، بل في التحرير لو تترس الكفار بنسائهم وصبيانهم فإن
كانت الحرب ملتحمة جاز قتالهم، ولا يقصد قتل الصبي ولا المرأة،

(1) الوسائل - الباب 16 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
68

وإن لم تكن ملتحمة بل كان الكفار متحصنين بحصن أو من وراء خندق
كافين عن القتال قال الشيخ: يجوز رميهم، والأولى تجنبهم، ولكن
ظاهره أولوية التجنب مع عدم التحام الحرب وإن توقف الفتح عليه،
كما أن ظاهره الاكتفاء في جواز قتلهم بالتحام الحرب وإن تمكن من
غيره، ومنه ينقدح ذلك أيضا في عبارة المصنف بل والفاضل في القواعد،
قال: لو تترسوا بالنساء والصبيان جاز رمي الترس في حال القتال،
اللهم إلا أن يكون المراد ولو بقرينة قوله أخيرا " إذا لم يمكن جهادهم
إلا كذلك " عدم التمكن في تلك الحال وهو حال قيام الحرب من غيره
كما هو الغالب، ولذا قال في النافع: " لو تترسوا بالصبيان والمجانين
ولم يمكن الفتح إلا بقتلهم جاز " ونحوه ما في التبصرة والإرشاد بل والتذكرة
قال: " لو تترس الكفار بنسائهم وصبيانهم فإن دعت الضرورة إلى الرمي
بأن كانت الحرب ملتحمة وخيف لو تركوا لغلبوا جاز قتالهم، ويجوز
قتل الترس، وإلا كف عنهم لأجل الترس، لقول الصادق (1) عليه السلام
" ولا تمسك عنهم لهؤلاء " ولأن ترك الترس يؤدي إلى تعطيل الجهاد،
لئلا يتخذوا ذلك ذريعة إليه " وفي الدروس " ويكف عن النساء إلا
مع الضرورة، وكذا عن الصبيان والمجانين، ولو لم يمكن الفتح إلا
بقتلهم جاز " وكذا في المسالك " نعم أطلق في اللمعة والروضة فقال:
" يجوز قتل الترس ممن لا يقتل ".
وخلاصة الكلام أن قتل الكافر الحربي واجب، فمتى أمكن
الوصول إليه من دون مقدمة محرمة فعل، وإلا تعارض خطاب الوجوب
والحرمة، فمع عدم الترجيح يتجه التخيير، ولعله المراد من الجواز في
عبارة الأصحاب، بل ظاهر الخبر المزبور ترجيح الأول على وجه يبقى

(1) الوسائل - الباب 16 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
69

الوجوب، لقوله عليه السلام: " ولا تمسك عنهم لهؤلاء " بل ربما
يؤيده معلومية ترجيح الاسلام على مثل ذلك، ولذا رمى النبي صلى الله
عليه وآله الطائف بالمنجنيق وفيهم النساء والصبيان، وأما احتمال
ترجيح خطاب الحرمة في الفرض فلم أجده لأحد إلا ما سمعته من
الفاضل في التحرير من أولوية التجنب التي سمعتها، ونحوه في التذكرة
قال: " وإن لم تكن الضرورة داعية إلى قتلهم بأن كانوا يدفعون بهم
عن أنفسهم ولم تكن الحرب ملتئمة وكان المشركون في حصن متحصن
أو كانوا من وراء خندق كافين عن القتال فالأقرب كراهة قتلهم، للنهي
عن قتل النساء والصبيان، ونحن في غنية عن قتلهم، والقول الثاني
للشافعي المنع، وليس بجيد، لأنه يجوز نصب المنجنيق وإن كان
يصيبهم، فلو تترسوا بهم في القلعة كذلك، ولكن فيه ما لا يخفى،
والتحقيق ما عرفت، ولا فرق في ذلك بين قسمي الجهاد ولا بين الترس
المسلم وغيره ممن هو محترم الدم، فما في الإيضاح - من رمي الترس
مطلقا إذا كان الجهاد دفعا للكفار القاصدين، وأما إذا كان للدعوة ولم
يحتمل الحال تركهم رمي الترس غير المسلم، وأما الترس المسلم فلا
يجوز رميه، لقوله تعالى (1) " ولولا رجال مؤمنون " الآية، وتبعه
الكركي - لا يخلو من نظر، خصوصا بعد اشتمال الخبر المزبور على النساء
والصبيان والأسارى والتجار من المسلمين، وظهوره في القسم الثاني،
والآية ليست فيما نحن فيه، هذا، وقد صرح بعضهم باعتبار عدم
القصد إلى قتل الترس، ولعل المراد عدم قصد قتله لعداوة ونحوها مما
لا مدخل له في الجهاد، وأما قصد قتله مقدمة للفتح وغلبة الكفار
والاستيلاء عليهم فهو معنى جوازه، والله العالم.

(1) سورة الفتح الآية 25.
70

(و) على كل حال ف‍ (لا يلزم القاتل) قود في الحال
المزبور إجماعا بقسميه، ولخبر حفص (3) السابق المعتضد بالأصل
وغيره بل ولا (دية) عندنا كما صرح به الشيخ والفاضل والشهيدان
وغيرهم، بل عن ظاهر المنتهى الاجماع عليه، للأصل بعد الإذن شرعا
وخبر حفص السابق، وظاهر تركها في قوله تعالى (4) " فإن كان من
قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " بناء على مساواته للفرض
باعتبار كون القصد فيهما قتل الكافر لا المؤمن، وإن كان لا يخلو من
بحث مؤيدا بأن إيجابها مقتض للتساهل في أمر الجهاد باعتبار خوف
الرامي لاحتمال كون المرمي مسلما، اللهم إلا أن يقال بأن الوجوب
على تقديره فهو في بيت المال نحو ما تسمعه في الكفارة، نعم هو فرع
الدليل الذي قد عرفت انتفاءه، بل ظاهر الأدلة خلافه وبه يخص
قوله (5) عليه السلام " لا يبطل دم أمرء مسلم " حتى بالنسبة إلى بيت
المال كما هو مقتضى النفي في خبر حفص والفتاوى، فما عن الشافعي
من وجوبها لقوله تعالى (6) " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة
ودية مسلمة إلى أهله " واضح الضعف، لما عرفت، مع أنه ليس من
الخطأ قطعا، بل هو عمد مأذون فيه، فلا يندرج فيها.
(و) لكن (تلزمه الكفارة) كما صرح به الفاضل والشهيدان
وغيرهم، بل نفى الاشكال فيه ثانيهما كما عن غيره نفي الخلاف،
ولعله كذلك وإن قال المصنف في النافع: " وفي الكفارة قولان "
بل ظاهره التردد كالتحرير، إلا أنا لم نتحققه، نعم نسبه في

(1) الوسائل - الباب 16 من أبواب جهاد العدو الحديث 2
(2) سورة النساء - الآية 94
(3) الوسائل - الباب 29 من أبواب القصاص في النفس الحديث 1.
(4) سورة النساء - الآية 94
71

التنقيح إلى الشيخ في النهاية باعتبار نفيه الدية فيها دونها لكنه كما
ترى، وعلى تقديره فهو واضح الضعف بعد فحوى قوله تعالى " فإن
كان من قوم عدو لكن وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " وعموم ما دل
على وجوبها.
(و) لكن (في) بعض (الأخبار) وهو خبر حفص السابق لا دية
عليهم (ولا كفارة) مؤيدا بأنها للذنب، ولا ذنب في الفرض،
وبالأصل، إلا أنه - بعد معلومية عدم اعتبار الذنب فيها، ولذا وجبت
في الخطأ الذي لا ذنب فيه، وانقطاع الأصل بما عرفت - غير جامع
لشرائط الحجية، وقد أعرض عنه الأكثر أو الجميع، فلا يصلح معارضا
لما دل على وجوبها، مع إمكان حمله على إرادة نفيها عن مال القاتل
بناء على وجوبها في بيت المال كما صرح به في الروضة والمسالك لأنه
من المصالح بل أهمها، خصوصا بعد ملاحظة خوف التخاذل عن الجهاد
بوجوبها على القاتل خشية الغرامة، ولعله لا يخلو من قوة، ولكن
ظاهر المصنف والفاضل والشهيد والمقداد وجوبها على القاتل، بل هو
ظاهر الدليل من الآية وغيرها، وهل هي كفارة خطأ لظاهر الآية، ولأنه
في الأصل غير قاصد للمسلم، وإنما قصده الكفار فلم يجعل عامدا
ولأنه مأذون فيه شرعا، أو عمدا نظرا إلى صورة الواقع، ضرورة كونه
عامدا إلى قتله، والآية إنما وردت فيمن قتل المسلم خطأ ولو لزعمه
أنه كافر، وهو غير الفرض؟ وجهان، أحوطهما وأقواهما الثاني.
(ولو تعمده الغازي مع إمكان التحرز لزمه القود والكفارة)
بلا خلاف ولا إشكال للعموم وإن كانت الحرب قائمة، ولو كان خطأ
فالدية على العاقلة وعليه الكفارة كما هو واضح، والله العالم.
72

(ولا يجوز قتل المجانين ولا الصبيان ولا النساء منهم ولو عاونهم)
بتشديد النون (مع الاضطرار) بلا خلاف أجده في شئ من
ذلك، بل في المنتهى الاجماع عليه في النساء والصبيان، بل وعلى قتل
النساء مع الضرورة، مضافا إلى ما سمعته من خبري جميل (1)
والثمالي (2) وغيرهما، بل في رواية الجمهور عن أنس بن مالك (3)
أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " انطلقوا بسم الله وبالله وعلى ملة
رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صغيرا ولا
امرأة " الحديث، كما أن فيها أيضا عن ابن عباس (4) أن النبي صلى
الله عليه وآله مر بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال: من قتل هذه؟
فقال رجل: أنا يا رسول الله، قال: لم؟ قال: نازعتني قائم سيفي
فسكت " وفي خبر حفص بن غياث (5) الذي رواه المشائخ الثلاثة في
حديث أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام " عن النساء كيف سقطت
الجزية عنهن ورفعت عنهن؟ قال: فقال: لأن رسول الله صلى الله عليه
وآله نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن، فإن
قاتلن أيضا فأمسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللا، فلما نهى عن
قتلهن في دار الحرب كان ذلك في دار الاسلام أولى، ولو امتنعت أن
تؤدي الجزية لم يمكن قتلها، فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها،
ولو امتنع الرجال أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد وحلت دماؤهم

(1) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
(2) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
(3) سنن البيهقي - ج 9 ص 90 وكنز العمال ج 2 ص 274
الرقم 5871.
(4) مجمع الزوائد - ج 5 ص 316.
(5) الوسائل - الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
73

وقتلهم، لأن قتل الرجال مباح في دار الشرك، وكذا المقعد من أهل
الذمة والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في أرض الحرب، فمن
أجل ذلك رفعت عنهم الجزية " ونحوه خبر الزهري (1) عن علي بن
الحسين عليه السلام المروي في العلل، وفي خبر السكوني (2) عن
جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام " إن النبي صلى الله عليه وآله
قال: اقتلوا المشركين واستحيوا شيوخهم وصبيانهم " على معنى استبقائهم
وفي خبر طلحة (3) عن أبي عبد الله عليه السلام " جرت السنة أن
لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله " بناءا على أن من
لا جزية عليه لا يقتل كما عساه يشعر به الخبر الأول (4).
والمراد بالضرورة أن يتترس الكفار بهن أو يتوقف الفتح على
قتلهن أو نحو ذلك، بل في المنتهى وعن التحرير لو وقفت امرأة في
صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها
روى عكرمة (5) قال: " لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وآله
أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقال: ها دونكم فارموا
فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذلك منها " ويجوز النظر إلى فرجها
للرمي وإن كان لا يخلو من نظر، لعدم اندراج نحو ذلك في الضرورة
والخبر ليس من طرقنا، بل مقتضى إطلاق النهي في النصوص من طرقنا
خلافه، نعم لو قاتلن جاز قتلهن، مع أنك قد سمعت ما في خبر
حفص من الأمر بالإمساك عنهن ما أمكن مع ذلك، ولكن في المنتهى

(1) الوسائل - الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2 - 3 - 1.
(2) الوسائل - الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2 - 3 - 1.
(3) الوسائل - الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2 - 3 - 1.
(4) الوسائل - الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2 - 3 - 1.
(5) سنن البيهقي ج 9 ص 82.
74

أن النبي صلى الله عليه وآله قتل يوم بني قريظة امرأة ألقت رحى على
محمود بن سلمة (1) ووقف على امرأة مقتولة فقال ما بالها قتلت وهي
لا تقاتل (2) وفيه إشعار بجواز قتلها إذا قاتلت.
وأولى من ذلك المراهقون إذا قاتلوا أودعت الضرورة من توقف
الفتح ونحوه على قتلهم، أما مع عدم ذلك فلا يجوز قتلهم، لاطلاق النهي
وكذا لا يجوز قتل الشيخ الفاني الذي لا رأي له ولا قتال بلا
خلاف أجده فيه، بل قد يظهر من التذكرة والمنتهى الاجماع عليه
لاطلاق النهي عن قتله فيما سمعته من النصوص مؤيدا بكونه كالمرأة
والصبي، نعم لو كان ذا رأي وقتال قتل إجماعا محكيا في المنتهى
والتذكرة إن لم يكن محصلا، لعموم الأدلة الذي لا يخصصه إطلاق
النهي عن الشيخ المنزل على غير الفرض ولو للاجماع المزبور، بل في
المنتهى دعواه أيضا على ذي الرأي دون القتال، قال: " لأن دريد بن
الصمة قتل يوم خيبر وكان له مائة وخمسون سنة، وكان له معرفة
بالحرب، وكان المشركون يحملونه معهم في قفص حديد ليعرفهم كيفية
القتل، فقتله المسلمون ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله " ونحوه
في التذكرة، قال: " الشيخ من المحاربين إن كان ذا رأي وقتال جاز
قتله إجماعا، وكذا إن كان فيه قتال ولا رأي له، أو كان له رأي
ولا قتال فيه، لأن دريد بن الصمة قتل يوم خيبر، والأصح يوم حنين "
إلى آخره، وبذلك ظهر الحال في الأحوال الأربعة للشيخ التي يقتل في
ثلاثة منها، لما عرفت من العموم وغيره دون الرابعة، خلافا لأحمد
والمزني وأبي إسحاق والشافعي في أحد قوليه فيقتل أيضا، للعموم

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 82 وفيها محمود بن مسلمة.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 91.
75

المخصوص بما عرفت.
ويلحق به المقعد والأعمى كما صرح به الفاضل، وسمعت ما في
خبر حفص، لكن ينبغي تقييد ذلك أيضا بما إذا لم يكونا ذا رأي في
الحرب ولم يقاتلا ولم تدع الضرورة إلى قتلهما كما إذا تترسوا بهما
ونحو ذلك مما عرفته.
وألحق الفاضل والشهيدان أيضا الخنثى المشكل بالمرأة، ولعله
لترجيح مراعاة مقدمة الحرام على مقدمة الواجب، ضرورة وجوب قتل
المشركين وحرمة قتل النساء، أو لدعوى عدم اندراجها في أدلة الوجوب
باعتبار كون الخطاب به للمذكرين، وعلى كل حال فلا ريب في التقييد
بعدم الضرورة نحو ما سمعته في النساء، هذا.
وفي القواعد يقتل الراهب ولكن في التحرير: الرهبان وأصحاب
الصوامع يقتلون إن كان لهم رأي وقتال " وفي التذكرة " الرهبان
وأصحاب الصوامع يقتلون إن كان لهم قوة ورأي أو كانوا شبانا "
وفي المختلف " قال في المبسوط: أهل الصوامع والرهبان يقتلون، وقال
ابن الجنيد: لا يقتل منهم راهب ولا صاحب صومعة حيث قد حبس
نفسه فيه إلا أن يكون أحد منهم قتل أحدا من المسلمين، ويكون منهم
يخاف مع ترك قتلهم النكاية بالمسلمين، والأقرب ما اختاره الشيخ،
لعموم الأدلة " وفي المنتهى " الرهبان وأصحاب الصوامع يقتلون إن
كانوا شيوخا لهم قوة أو رأي، وكذا لو كانوا شبانا قتلوا كغيرهم إلا
من كان شيخا فانيا للعموم، قال الشيخ: وقد روي أنهم لا يقتلون "
قلت: قد سمعت النهي عن قتل المتبتل في شاهق في خبر مسعدة بن
صدقة (1) إلا أنه غير جامع لشرائط الحجية، ومن هنا يقوى العمل

(1) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
76

بالعموم، كقوله تعالى (1): " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم "
ونحوه الشامل للمريض أيضا الذي لم ييأس من برئه، فإنه حينئذ
بمنزلة الجريح الذي يجهز عليه، نعم لو يئس من برئه ففي المنتهى
والتحرير لم يقتل كالنساء، مع أنه لا يخلو من بحث للعموم، وكونهم
شر الدواب، وفي قتلهم تطهير للأرض منهم
ومن هنا يقتل الفلاح الذي لم يقاتل، وقول عمر بن الخطاب (2)
" اتقوا الله في الفلاحين الذين لا يبغون لكم الحرب ليس بحجة،
خصوصا مع معارضة الكتاب والسنة كالمحكي عن الشافعي في أحد قوليه
من عدم قتل أرباب الحرف والصناعات والسوقة الذين لا يتعاطون
القتال ولا يمارسون الأسلحة.
نعم في التذكرة لا يقتل رسول الكافر، روى العامة عن ابن
مسعود (3) " إن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وآله رسولين لمسيلمة
فقال لهما: اشهدا أني رسول الله فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله
فقال النبي صلى الله عليه وآله: لو كنت قاتلا رسولا لضربت عنقيكما "
ومنه يستفاد الأمان للرسل الذي هو مقتضى المصلحة والسياسة، ضرورة
مسيس الحاجة إلى ذلك كما هو واضح، والله العالم.
(ولا يجوز التمثيل بهم) بقطع الآناف والآذان ونحو ذلك في
حال الحرب بلا خلاف أجده فيه، لما سمعته من النهي عنه في

(1) سورة التوبة - الآية 5.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 91 وكنز العمال - ج 2 ص 296
الرقم 6266.
(3) مجمع الزوائد - ج 5 ص 314.
77

النصوص (1) السابقة، مضافا إلى ما عن علي عليه السلام (2) عن
رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: " لا تجوز المثلة ولو بالكلب
العقور " وإلى مخافة استعمالهم إياها مع المسلمين، بل مقتضى النصوص
وأكثر الفتاوى عدم الفرق في ذلك بين حال الحرب وغيره، وبين ما
بعد الموت وقبله، فما عساه يشعر به التقييد بحال الحرب في المسالك
والرياض في غير محله، بل لا فرق أيضا بين ما لو فعلوا ذلك بالمسلمين
وعدمه، وإن كان مقتضى قوله تعالى (3) " والحرمات قصاص " الجواز
لكن إطلاق النص والفتاوى يقتضي عدمه، نعم في القواعد والتذكرة
يكره نقل رؤوس الكفار إلا مع نكاية الكفار به أي إذ لا لهم، وزاد
في الثاني ما لو أريد معرفة المسلمين بموته، فإن أبا جهل لما قتل
حمل رأسه، وإن لم يكن كذلك كان مكروها، فإنه لم ينقل إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله رأس كافر قط، قلت: لعل ذلك ليس من التمثيل
أو هو مستثنى، لكن يتوقف على الدليل، والله العالم.
(و) كذا (لا) يجوز (الغدر) بهم بأن يقتلوا بعد
الأمان مثلا، قال في مجمع البحرين: " الغدر ترك الوفاء ونقض
العهد " بلا خلاف أجده فيه، للنهي عنه أيضا في النصوص (4)
السابقة، مضافا إلى قبحه في نفسه وتنفير الناس عن الاسلام، قال

(1) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو.
(2) الوسائل الباب 62 من أبواب القصاص في النفس الحديث 6
والاختصاص للمفيد ص 150.
(3) سورة البقرة - الآية 190.
(4) الوسائل - الباب 15 و 21 من أبواب جهاد العدو.
78

أمير المؤمنين عليه السلام في خبر الأصبغ بن نباتة (1) في أثناء خطبة له
" لولا كراهة الغدر كنت من أدهى الناس، ألا إن لكل غدرة فجرة
ولكل فجرة كفرة، ألا وأن الغدر والفجور والخيانة في النار " وفي
خبر طلحة بن زيد (2) عن أبي عبد الله عليه السلام سأله " عن فرقتين
من أهل الحرب لكل واحدة منهما ملك على حدة اقتتلوا ثم اصطلحوا
ثم إن أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن
يغزوا تلك المدينة، فقال أبو عبد الله عليه السلام: لا ينبغي للمسلمين
أن يغدروا ولا يأمروا بالغدر، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا، ولكنهم
يقاتلون المشركين حيث وجدوهم، ولا يجوز عليهم ما عاهدوا عليه الكفار "
نعم تجوز الخدعة في الحرب كما صرح به الفاضل في جملة من
كتبه، بل في التذكرة والمنتهى دعوى الاجماع، قال: تجوز المخادعة
في الحرب وأن يخدع المبارز قرينه ليتوصل بذلك إلى قتله إجماعا، ثم
قال: وروى العامة " أن عمرو بن عبد ود بارز عليا عليه السلام
فقال: ما أحب ذلك يا بن أخي، فقال علي عليه الاسلام لكني أحب
أن أقتلك فغضب عمرو فأقبل إليه فقال علي عليه السلام: ما برزت
لأقاتل اثنين فالتفت عمرو فوثب علي عليه السلام فضربه، فقال عمرو
خدعتني، فقال عليه السلام: الحرب خدعة " وفي خبر إسحاق بن
عمار (3) عن جعفر عن أبيه عليهما السلام أن عليا عليه السلام كان
يقول لأن تخطفني الطير أحب إلي من أن أقول على رسول الله صلى الله
عليه وآله ما لم يقل، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الخندق
.

(1) الوسائل - الباب 21 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 1.
(2) الوسائل - الباب 21 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 1.
(3) الوسائل - الباب 53 من أبواب جهاد العدو الحديث 1
79

يقول: الحرب خدعة، ويقول تكلموا بما أردتم " وقال الصدوق من
ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله الحرب خدعة، وفي خبر أبي البختري (1)
المروي عن قرب الإسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم
السلام أنه قال: " الحرب خدعة، وإذا حدثتكم عن رسول الله صلى
الله عليه وآله فوالله لأن أخر من السماء أو تخطفني الطير أحب إلي
من أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله، إن رسول الله صلى
الله عليه وآله بلغه أن بني قريظة بعثوا إلى أبي سفيان إذا التقيتم أنتم
ومحمد صلى الله عليه وآله أمددناكم وأعناكم، فقام رسول الله صلى الله
عليه وآله خطيبا فقال: إن بني قريظة بعثوا إلينا إنا إذا التقينا نحن
وأبو سفيان أمدونا وأعانونا فبلغ ذلك أبا سفيان، فقال غدرت يهود
فارتحل عنهم " وقال عدي بن حاتم (2) " إن عليا عليه السلام قال
يوم التقى هو ومعاوية بصفين فرفع بها صوته يسمع أصحابه: والله
لأقتلن معاوية وأصحابه، ثم قال في آخر قوله إنشاء الله وخفض بها
صوته وكنت منه قريبا فقلت يا أمير المؤمنين عليه السلام إنك حلفت
على ما قلت، ثم استثنيت فما أردت بذلك؟ فقال: إن الحرب خدعة
وأنا عند المؤمنين غير كذوب، فأردت أن أحرض أصحابي عليهم
كي لا يفشلوا ولكي يطمعوا فيهم، فافهم فإنك تنتفع بها بعد اليوم
إنشاء الله، واعلم أن الله عز وجل (3) قال لموسى عليه السلام حيث
أرسله إلى فرعون فأتياه: " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى "

(1) الوسائل - الباب 53 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 2.
(2) الوسائل - الباب 53 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 2.
(3) سورة طه - الآية 46.
80

وقد علم أنه لا يتذكر ولا يخشى ولكن ليكون أحرض لموسى عليه
السلام على الذهاب ".
وكذا يحرم الغلول منهم على ما صرح به في النهاية والنافع والقواعد
والإرشاد والتحرير والمنتهى والتذكرة والمسالك وغيرها على ما حكي عن بعضها
للنهي عنه في النصوص (1) السابقة، وفسره في المحكي عن جامع المقاصد
بالسرقة من أموالهم، ولكن فيه أنه مناف لما هو المعلوم في غير المقام
من كون مال الحربي فيئا للمسلم، فله التوصل إليه بكل طريق، اللهم
إلا أن يكون إجماعا، أو يكون المراد السرقة منهم بعد الأمان ونحوه
مما يكون به محترم المال مع كفره، أو يراد به النهي عن السرقة من
الغنيمة، بل قيل إنه أكثر ما يستعمل في ذلك، بل يمكن حمل ما
يقبل ذلك من عبارات الأصحاب عليه، والله العالم.
(ويستحب أن يكون القتال بعد الزوال) مع الاختيار كما
في النهاية والغنية والتذكرة والدروس وغيرها لأن عنده تفتح أبواب
السماء وتنزل الرحمة والنصر كما في خبر يحيى بن أبي العلاء (2)
عن أبي عبد الله عليه السلام " كان علي عليه السلام لا يقاتل حتى
تزول الشمس، ويقول تفتح أبواب السماء وتقبل الرحمة وينزل النصر
ويقول: هو أقرب إلى الليل، وأجدر أن يقل القتل، ويرجع الطالب
ويفلت المنهزم " وفي المروي (3) عن سيد الشهداء في طف كربلاء أنه
ابتدء بالقتال مع كفرة أهل الكوفة بعد الزوال، بل بعد صلاة الظهرين
كما صرح باستحباب كون القتال بعدهما غير واحد، ولعله لمخافة

(1) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو.
(2) الوسائل - الباب 17 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
(3) البحار ج 45 ص 21 المطبوعة عام 1385.
81

الاشتغال عنهما.
(ويكره الإغارة عليهم ليلا) كما في الإرشاد وهو المراد من
التبييت المصرح بكراهته في النهاية والنافع والقواعد والتحرير والتذكرة
والمنتهى والدروس والروضة وغيرها، لأن المراد به في كما التنقيح والروضة
وغيرهما النزول عليهم ليلا، لخبر عباد بن صهيب (1) قال: " سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: ما بيت رسول الله صلى الله عليه وآله
عدوا قط ليلا " وفي رواية الجمهور (2) عنه صلى الله عليه وآله كان
إذا طرق العدو لم يغر حتى يصبح " مضافا إلى ما في ذلك من قتل
النساء والأطفال ونحوهم مما لا يجوز قتلهم، نعم لو دعت الحاجة إلى
ذلك جاز بلا كراهة، ولعل منه ما رواه الجمهور (3) عن النبي صلى
الله عليه وآله من أنه شن الغارة على بني المصطلق ليلا.
(و) كذا يكره (القتال قبل الزوال إلا لحاجة) كما صرح
به غير واحد، ولعل المراد به خصوص ما قرب منه إلى الزوال مخافة
ذهاب الصلاة، ولأنه المنساق منه لا مطلقا حتى الصبح الذي أقسم الله
تعالى شأنه (4) بالمغيرات فيه، وسمعت أن رسول الله صلى الله عليه وآله
إذا طرق العدو ليلا لم يغر حتى يصبح.
(و) يكره أيضا (أن يعرقب الدابة وإن وقفت به) أو
أشرف على القتل كما في النهاية والنافع والتذكرة والمنتهى واللمعة
والتنقيح وجامع المقاصد والمسالك وغيرها إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك

(1) الوسائل - الباب 17 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 79 و 80.
(3) ليس في الأخبار أنه صلى الله عليه وآله شن الغارة عليهم ليلا بل الموجود أنه صلى الله عليه وآله
أغار عليهم وهم على الماء وفي لفظ آخر " وهم غارون ".
(4) سورة العاديات - الآية 3.
82

كما فعله جعفر ذو الجناحين بموته على ما صرح به غير واحد، وفي
خبر السكوني (1) المروي في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" لما كان يوم موته كان جعفر بن أبي طالب على فرس، فلما التقوا
نزل عن فرسه فعرقبها بالسيف، فكان أول من عرقب في الاسلام "
ورواه في المنتهى (2) عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال: " أول
من عرقب الفرس في سبيل الله جعفر بن أبي طالب ذو الجناحين،
عرقب فرسه ".
ولو تمكن من ذبحها كان أحسن كما صرح به أيضا غير واحد
لخبر السكوني (3) على ما في المنتهى عن جعفر عن أبيه عليهما السلام
قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله إذا حرن على أحد كم دابته
يعني إذا قامت في أرض العدو ذبحها ولا يعرقبها " والموجود في الكافي
عن السكوني (4) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " قال رسول الله
صلى الله عليه وآله إذا حرنت على أحدكم دابته يعني أقامت في أرض
العدو أو في سبيل الله فليذبحها ولا يعرقبها " وعلى كل حال فمن ذلك
يعلم الوجه فيما ذكرناه، ومن الغريب ما في المنتهى من دعوى نسخ
الخبر الأول بالثاني.

(1) الوسائل - الباب 52 من أبواب أحكام الدواب الحديث 2.
من كتاب الحج.
(2) التهذيب ج 6 ص 170 الرقم 328.
(3) الوسائل - الباب 39 من أبواب الذبائح الحديث 1 من كتاب
الصيد والذباحة والتهذيب ج 6 ص 173 الرقم 337.
(4) الوسائل - الباب 52 من أبواب أحكام الدواب الحديث 1
مع اختلاف يسير، والكافي ج 5 ص 49 الطبع الحديث.
83

نعم كان مقتضى النهي التحريم لا الكراهة، ولعله لما في جامع
المقاصد، قال: " وأما عدم التحريم فلأن الناس مسلطون على أموالهم
فإن قيل يحرم تعذيب الدابة وعدم إطعامها وسقيها وتحميلها فوق الطاقة
فكيف جازت العرقبة قلنا: حال الحرب مخالف لغيره، وإتلاف الدابة
وإضعافها أمر مطلوب، لأن إبقاءها بحالها ربما أدى إلى استعانة الكفار
بها " وإن كان هو كما ترى، وفي التنقيح إنما قلنا بكراهته لأنه يؤول
إلى هلاكها، ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن قتل الحيوان لغير
أكله (1) وفيه أنه لا يدل على كراهة خصوص ذلك، فالعمدة ما عرفت
ومن الغريب إنكار بعض الأفاضل الدليل، وقال: ليس في النصوص
إلا ما سمعته سابقا (2) " ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلا
ما لا بد لكم من أكله " إلا أنه غير دال على خصوص ذلك، ولكن
أمر الكراهة سهل يكفي فيها الفتاوى.
وكيف كان فالذي يدل على أصل الجواز (3) عموم " الناس
مسلطون على أموالهم " وأنها مخلوقة للناس يفعلون بها كيف شاؤوا ونحو
ذلك، وفعل جعفر الذي لم ينكره النبي صلى الله عليه وآله بل أعطي
في تلك الشهادة جناحان يطير بهما في الجنة كيف يشاء، والمناقشة بكونه
ظلما فيقبح يدفعها أن الشارع بجوازه كشف عن عدم قبحه كالذبح
والاشعار ونحوهما مما يجوز شرعا، نعم قد يقال إن المنساق دابة المسلم
أما دابة الكافر فلا كراهة في تعرقبها حال الحرب إضعافا لهم ومقدمة
لقتل راكبها وغير ذلك كما صرح به الكركي وثاني الشهيدين، بل

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 86.
(2) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
(3) البحار ج 2 ص 272 الطبع الحديث.
84

هو أولى من قتل الصبيان، وقد عقر حنظلة بن الراهب (1) فرس أبي
سفيان يوم أحد فرمت به فخلصه ابن مسعود، ولكن مع ذلك لو تمكن
من ذبحها كان أولى حتى لو كان في غير حال الحرب، لما فيه من الاضرار
بهم، بل لو لم يتمكن إلا من القتل غير الذبح أو العقر ونحوه وكان
فيه اضرار لهم لم يبعد الجواز بلا كراهة كما هو مقتضى إطلاق بعض
وإن كان لا يخلو من بحث، بناءا على حرمته في نفسه أو كراهته من
حيث احترام الدابة، والله العالم.
(و) تكره (المبارزة بغير إذن الإمام عليه السلام) كما
في اللمعة والدروس والإرشاد والقواعد والتحرير والمختلف والتنقيح
والروضة والمسالك ومحكي المبسوط وغيرها، ولعل المراد طلبها بدون إذنه
لا الجواب إليها من الطالب لها بدون إذنه، ضرورة كون المستفاد من
النصوص الأول دون الثاني، بل ربما ظهر منها خلافه ففي خبر ابن
القداح (2) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " دعا رجل بعض
بني هاشم إلى البراز فأبى أن يبارزه فقال له أمير المؤمنين عليه السلام
ما منعك أن تبارزه؟ فقال: كان فارس العرب وخشيت أن يغلبني
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام فإنه بغي عليك، ولو بارزته لغلبته
ولو بغي جبل على جبل لهد الباغي، وقال أبو عبد الله عليه السلام:
إن الحسين بن علي عليهما السلام) دعا رجلا إلى المبارزة فعلم به أمير
المؤمنين عليه السلام فقال: لئن عدت إلى مثل هذا لأعاقبنك، ولأن
دعاك أحد إلى مثلها فلم تجبه لأعاقبنك أما علمت أنه بغي " وفي نهج

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 87 وفيها أنه أخلصه ابن شعوب.
(2) الوسائل - الباب 31 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
85

البلاغة (1) قال أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام
" لا تدعون إلى مبارزة، وإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي باغ
والباغي مصروع " وفي خبر عمرو بن جميع (2) عن أبي عبد الله عليه
السلام سئل " عن المبارزة بين الصفين بغير إذن الإمام عليه السلام
فقال: لا بأس ولكن لا يطلب إلا بإذن الإمام عليه السلام "
ولعله لذا قال الشيخ في النهاية لا بأس بالمبارزة بين الصفين في حال
القتال، ولا يجوز له أن يطلب المبارزة إلا بإذن الإمام عليه السلام
ونحوه عن ابن إدريس.
وإليه أشار المصنف بقوله: (وقيل: يحرم) بل في المحكي
عن أبي الصلاح أيضا، قال: " لا يجوز للمسلم أن يستبرز كافرا إلا
بإذن سلطان الجهاد " وفي المنتهى " وهل طلب المبارزة من دون إذنه
حرام أو مكروه؟ كلاهما يلوحان من كلام الشيخ، والذي تدل الأخبار
عليه التحريم " وقال الكركي: " الأصح الكراهة، ويحرم طلبها لما
ورد من النهي عنه وأنه بغي " ولكن ظاهره الكراهة في غير صورة
الطلب، بل قيل إنه الظاهر من القائلين بجواز المبارزة بغير الإذن،
وفي الرياض " يدل على رجحان الاستئذان مضافا إلى النص والوفاق
الاعتبار والآثار، لأن الإمام عليه السلام أعلم بفرسانه وفرسان المشركين
ومن يصلح للمبارزة ومن لا يصلح، وربما حصل ضرر بذلك، فينبغي
أن يفوض النظر إليه ليكون أقرب إلى الظفر، وأحفظ لقلوب المسلمين "
وعن المنتهى أنه أيده بما رواه الجمهور من أن عليا عليه السلام
وحمزة وعبيدة استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر، قلت: قد

(1) الوسائل - الباب 31 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 1.
(2) الوسائل - الباب 31 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 1.
86

سمعت ما في النصوص السابقة من الأمر بها بعد الدعاء إليها من غير
استئذان والنهي عن طلبها، إلا أنه غير صالح للتخصيص أدلة الجهاد
والأمر بالمقاتلة ونحوهما، لضعف السند وإعراض المشهور، ولذا حمل
على الكراهة، نعم تحرم إذا منع منها بلا خلاف ولا إشكال، وعلى
كل حال فلا إشكال في أصل مشروعيتها في الجملة، بل في الإيضاح
دعوى إجماع الأمة على ذلك، وفي المنتهى المبارزة مشروعة غير مكروهة
في قول عامة أهل العلم إلا الحسن البصري فإنه لم يعرفها وكرهها،
ولا ريب في فساده، لما عرفت ولما رواه الجمهور (1) وغيرهم من أن
عليا عليه السلام بارز يوم خيبر مرحبا فقتله، وبارز عمرو بن عبد ود
فقتله، وبارز هو وحمزة وعبيدة بن الحارث يوم بدر بإذن النبي صلى
الله عليه وآله، وفيما رواه الجمهور (2) أيضا أن بشر بن علقمة بارز
أسوارا فقتله فبلغ سلبه اثني عشر ألفا، ولم يزل أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله تقع منهم المبارزة، وأنه كان أبو ذر يقسم أن
قوله تعالى (3) " هذان خصمان اختصما " نزلت في الذين تبارزوا يوم
بدر، وهم حمزة وعلي عليه السلام وعبيدة (4)، وأن أبا قتادة قال:
بارزت رجلا يوم خيبر فقتلته (5) إلى غير ذلك، بل يمكن دعوى كونه
من الضروري.

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 131 و 132 والبحار ج 21 ص 1
إلى ص 40 و ج 20 ص 226 و ج 19 ص 253.
(2) سنن البيهقي ج 6 ص 311.
(3) سورة الحج - الآية 20.
(4) سنن البيهقي ج 9 ص 94.
(5) سنن الدارمي ج 2 ص 229.
87

(و) كذا (يستحب المبارزة) كفاية أو عينا (إذا ندب
إليها الإمام عليه السلام) من دون أمر جازم (وتجب) كفاية
أو عينا (إذا ألزم) بها بلا خلاف في شئ من ذلك ولا إشكال
بعد معلومية وجوب الطاعة له، بل في المنتهى " لو خرج علج يطلب
البراز استحب لمن فيه قوة ويعلم من نفسه الطاقة له مبارزته بإذن الإمام
عليه السلام، ويستحب للإمام عليه السلام أن يأذن له - إلى أن قال -
إذا ثبت هذا فالمبارزة تنقسم أقساما أربعة، واجبة ومستحبة ومكروهة
ومباحة، فالواجبة إذا ألزم الإمام عليه السلام بها، والمستحبة أن
يخرج المشرك فيطلب المبارزة، فيستحب لذي القوة من المسلمين الخروج
إليه، والمكروهة أن يخرج الضعيف من المسلمين الذي لا يعلم من نفسه
المقاومة، فيكره له المبارزة لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا
والمباحة أن يخرج ابتداء فيبارز، لا يقال: إن الضعيف قد جوز له
الدخول في القتال من غير كراهة فكيف كره له المبارزة لأنا نقول
الفرق بينهما ظاهر، فإن المسلم هنا يطلب الشهادة ولا نترقب منه الغلبة
بخلاف المبارزة فإنه يطلب منه الظفر والغلبة، فإذا قتل كان ذلك
كسرا في المسلمين " وفي القواعد " لو طلبها مشرك استحب الخروج إليه
للقوي الواثق من نفسه بالنهوض لكن بإذن الإمام عليه السلام فيستحب
له أن يستأذنه، ويستحب للإمام عليه السلام أن يأذن له، فتجئ فيه
الأحكام الأربعة " قلت: قد يظهر من النصوص السابقة عدم اشتراط
إذن الإمام عليه السلام في الخروج إلى من طلبها، لأنه باغ، كما
أن المتجه كون أقسامها خمسة كما في التحرير فإنها تحرم كما عرفت
إذا منع الإمام منها، ومع طلبها ابتداءا عند من عرفت، بل ظاهره
88

هو أيضا التحريم في الأخير كما سمعت، وأيضا قد يقال ظاهر النصوص
السابقة عدم الكراهة في الجواب إليها مع طلب المشرك لها وإن كان
المسلم ضعيفا، لأنه باغ كما سمعت، فالأولى جعل المكروه طلبها
بناءا على المختار، كما أن المباحة ما ذكره مع عدم الطلب من كل
منهما، لكن في القواعد " تحرم أي المبارزة على الضعيف على إشكال
قيل من قوله تعالى (1) " ولا تلقوا بأيديكم " ومن عموم الخطاب
بالقتال " ولا يخفى عليك ما في الأول من منع كونه إلقاء بل هو شهادة
وعن جامع المقاصد أن الأولى الترك، ثم قال: " وإن قيل هل الاشكال
مع الإذن أو بدونه؟ الأول مشكل، لأنه مع الإذن كيف يحرم أو
يكره، وهل يأذن الإمام في الحرام، قلنا: يحتمل أن يأذن الإمام
عليه السلام ولا يعلم حال المستأذن، فيكون التحريم أو الكراهة بناءا
على أن المبارزة من دون إذن مكروهة " وهو كما ترى لا حاصل له
يعتد به. والله العالم.
(فرعان الأول المشرك إذا طلب المبارزة ولم يشترط) عدم
الإعانة (جاز) للمسلمين (معونة قرنه) المسلم كما في القواعد والتحرير
والمختلف، لعموم أدلة قتل المشرك حيث وجد، وإليه يرجع ما في
الدروس لو نكل المبارز عن قرنه جازت الإعانة إلا مع شرط عدمها
وأبطل ابن الجنيد شرط عدم المعاونة، وعن ابن الجنيد أنه قال: إذا خرج
جماعة إلى جماعة ولم يقع بينهم شرط على أن كل واحد واحد يعين بعضا كان
لبعضهم إعانة بعض على صاحبه قبل الفراغ من صاحبه، وبالجملة لا إشكال في
الحكم المزبور إلا إذا كانت عادة تقوم مقام الشرط كما أومأ إليه في
المنتهى في نظير المسألة، قال: " لو خرج المشرك طالبا للبراز جاز

(1) سورة البقرة - الآية 191.
89

لكل أحد رميه وقتله، لأنه مشرك لا أمان له ولا عهد له إلا أن
تكون العادة جارية بينهم أن من خرج بطلب المبارزة لا يتعرض له،
فيجري ذلك مجرى الشرط " إلى آخره، ولأنه كالغدر
(فإن شرط
أن لا يقاتله غيره وجب الوفاء له) كما في القواعد والتحرير والمختلف
بل لا أجد فيه خلافا إلا ما يحكى عن ابن الجنيد من أنه إن تشارطوا
أن لا يعين أحد على أحد كان هذا الشرط باطلا، لأن الله تعالى ألزم
المؤمنين بالدفع عن المؤمنين ممن يريد البغي عليهم، وقال النبي صلى الله
عليه وآله (1): " المؤمنون يد على من سواهم " وفيه أن ذلك مخصوص
بغير صورة الشرط في الفرض الذي هو كالأمان للكافر على هذا الوجه
(ف‍) لا يجوز نقضه.
نعم (إن فر) المسلم (فطلبه الحربي جاز دفعه) عنه كما في
القواعد والتحرير والمختلف والمنتهى وغيرها، لانقضاء القتال المشروط
فيه الأمان ما دام القتال، ولو شرط المشرك أن لا يقاتل حتى يرجع
إلى صفه ففي المنتهى " وجب الوفاء له إلا أن يترك المسلم قتاله أو
يثخنه بالجراح، فيرجع فيتبعه ليقتله أو يخشى عليه منه فيمنع ويدفع
عن المسلم، ويقاتل إن امتنع من الكف عنه، لأنه نقض الشرط وأبطل
أمانه " قلت: وهو كذلك، أما لو كان الشرط على هذا الوجه أيضا
فقد يقال إن المتجه الوفاء له أيضا، قال في التحرير: " لو انهزم
تاركا للقتال أو مثخنا بالجراح جاز قتال المشرك إلا أن يشترط ألا يقاتل
حتى يرجع إلى فئته، فيجب الوفاء له إلا أن يترك المسلم أو يثخنه
بالجراح فيتبعه ليقتله أو يخشى عليه منه فيمنع ويدفع عن المسلم،
فإن امتنع قوتل، ولو أعان المشركون صاحبهم كان على المسلمين إعانة

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 94.
90

صاحبهم، ويقاتلون من أعان عليه " بل في المنتهى والتحرير " ولا يقاتلونه
لأنه ليس النقض من جهته، ولو أثخن المسلم بالجراح ولم يرجع لم
تجز معاونته مع فرض الشرط، أما إذا ترك القتال ورجع جاز دفعه
عنه " ولعل ذلك هو مراد الأوزاعي فيما حكي عنه من عدم جواز
معاونة المسلم مع إثخانه بالجراح، لأن المبارزة هكذا مقتضاها، ولكن
لو حجز بينهما وخلى سبيل العلج جاز، وما في رواية الجمهور (1) من
أن عليا عليه السلام وحمزة أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شيبة بن
ربيعه حين أثخن عبيدة بالجراح قضية في واقعة لم يحك فيها الشرط.
(و) كيف كان ف‍ (لو) فر المسلم و (لم يطلبه) الحربي (لم
تجز محاربته) لأنه لم ينقض شرطا (وقيل) والقائل بعض علمائنا
على ما في المختلف بل قال: هو الظاهر من كلام الشيخ: (يجوز
ما لم يشترط الأمان حتى يعود إلى فئته) وفيه أن مقتضى المبارزة
المفروض فيها شرط عدم المقاتلة من غير المبارزة ذلك، فيجب الوفاء بها
(الثاني لو شرط أن لا يقابله غير قرنه فاستنجد أصحابه فقد
نقض أمانه، وإن تبرعوا فمنعهم فهو في عهدة شرطه، وإن لم يمنعهم
جاز قتالهم معهم) كما في القواعد لأن المفروض كون ذلك منهم
باستنجاده، أما لو فرض عدمه وكان ذلك من أصحابه لأنفسهم فالمتجه
قتالهم دونه، وفي التحرير فإن كان قد شرط أن لا يقاتله غير مبارزه
وجب، فإن استنجد أصحابه فأعانوه فقد نقض ويقتل معهم، ولو منعهم
فلم يمتنعوا فأمانه باق، ويقاتل أصحابه، ولو سكت عن نهيهم عن
المعاونة نقض أمانه، ولو استنجد جاز قتاله مطلقا، ولعله يريد ما
ذكرناه، وإلا كان لا يخلو من نظر في الجملة، والمراد بالوفاء بالشرط

(1) كنز العمال ج 5 ص 267 الرقم 5333.
91

هنا ما يرجع خلافه إلى الغدر المنهي عنه كما هو واضح، والله العالم.
(الطرف الثالث في الذمام) والأمان، وفي الروضة وهو الكلام
وفي حكمه الدال على سلامة الكافر نفسا ومالا إجابة لسؤاله ذلك،
وفيه أن الظاهر عدم اعتبار السؤال فيه، ولا كونه على النفس والمال
بل هو على حسبما يقع فيهما أو في أحدهما أو في غير ذلك، ولعله
لا يريد اختصاصه بما ذكره، وعلى كل حال فلا خلاف في مشروعيته
بيننا بل وبين المسلمين كما في المنتهى بل الاجماع بقسميه عليه، قال
الله تعالى (1) " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع
كلام الله ثم أبلغه ماء منه " وقال السكوني (2) " قلت لأبي عبد الله
عليه السلام ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله يسعى بذمتهم أدناهم
قال: لو أن جيشا من المسلمين حاصروا قوما من المشركين فأشرف
رجل: فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم وأناظره فأعطاه أدناهم الأمان
وجب على أفضلهم الوفاء به " وخبر حبة العرني (3) قال أمير المؤمنين
عليه السلام: " من ائتمن رجلا على دمه ثم خاس به فإني من القاتل
برئ وإن كان المقتول في النار " خاس أي نكث بالعهد، وفي خبر
مسعدة بن صدقة (4) أيضا عنه عليه السلام " إن عليا عليه السلام
أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون، وقال: هو من
المؤمنين " وخبر عبد الله بن سليمان (5) " سمعت أبا جعفر صلوات
الله عليه يقول: ما من رجل أمن رجلا على ذمته ثم قتله إلا جاء
يوم القيامة يحمل لواء الغدر ".

(1) سورة التوبة - الآية 6.
(2) الوسائل الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 6 - 2 - 3.
(3) الوسائل الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 6 - 2 - 3.
(4) الوسائل الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 6 - 2 - 3.
(5) الوسائل الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 6 - 2 - 3.
92

بل الظاهر لحوق شبهة الأمان به، قال الصادق عليه السلام في
خبر محمد بن الحكم (1): " لو أن قوما حاصروا مدينة فسألوهم
الأمان فقالوا: لا فظنوا أنهم قالوا: نعم فنزلوا إليهم كانوا آمنين "
وفي خبر الثمالي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام عن رسول الله صلى
الله عليه وآله المتقدم سابقا " أيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم
نظر إلى رجل من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم
فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه ماء منه، واستعينوا بالله عليه "
ونحوه خبر محمد بن حمران وجميل بن دراج (3) كليهما عن أبي
عبد الله عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وخبر جميل
الآخر (4) عنه عليه السلام أيضا، إلا أنه قال: " وأيما رجل
من المسلمين نظر إلى رجل من المشركين من أقصى العسكر فأدناه فهو
جاره " والمراد بنظره إليه إجارته إياه، إلى غير ذلك من النصوص
المروية عند العامة والخاصة، لا سيما النبوي (5) المشهور عند الطرفين
" المؤمنين بعضهم أكفاء بعض تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم "
فما عن أبي الصلاح " لا يجوز لأحد من المسلمين أن يجير كافرا ولا

(1) الوسائل - الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
(2) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2
والكافي ج 5 ص 27.
(3) الوسائل الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2
والكافي ج 5 ص 30.
(4) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 2
والكافي ج 5 ص 30.
(5) الوسائل - الباب 31 من أبواب القصاص في نفس.
93

يؤمن أهل حصن ولا قرية ولا مدينة ولا قبيلة إلا بإذن سلطان الجهاد
فإن أجار بغير إذنه أثم ووجب إجارته وجواره ولم تجز ذمته وإن كان
عبدا وأمسك عمن أجار من الكفار " واضح الفساد بعد ما عرفت،
ولكن في خبر طلحة بن زيد (1) عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما
السلام قال: " قرأت في كتاب لعلي عليه السلام أن رسول الله صلى
الله عليه وآله كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من أهل
يثرب أن كل غازية غزت يعقب بعضها بعضا بالمعروف والقسط بين
المسلمين فإنه لا يجاز حرمة إلا بإذن أهلها، وأن الجار كالنفس غير
مضار ولا آثم وحرمة الجار على الجار كحرمة أمه وأبيه، ولا يسالم
مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على عدل وسواء " وفي المحكي
عن نهاية ابن الأثير ومنه كتابه بين قريش والأنصار (2) " وإن سالم
أحد من المؤمنين فلا يسالم مؤمن دون مؤمن " أي لا يصالح واحد
دون أصحابه، وإنما يقع الصلح بينهم وبين عدوهم باجتماع ملأهم
على ذلك، لكن ذلك كله كما ترى هو في غير ما نحن فيه.
(و) على كل حال فتمام (الكلام) فيه يحصل (في)
البحث عن (العاقد والعبارة والوقت، أما العاقد فلا بد أن يكون
بالغا عاقلا) لسلب عبارة الصبي والمجنون ومن في حكمه
كالنائم والسكران ونحوهما في الانشاء إلا ما خرج من وصية الأول،
ولعدم دخول الأول أيضا منهما في لفظ الرجل والمسلم، بل والثاني
في الثاني حقيقة وإن دخلا في حكمه بالنسبة إلى بعض الأحكام (مختارا)
إذ لا عبرة بأمان المكره إجماعا محكيا في المنتهى، بل ومحصلا، ولظهور

(1) الوسائل - الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.
(2) نهاية ابن الأثير مادة " سلم " مع اختلاف في اللفظ.
94

الأدلة في المختار، فالأصل عدم ترتب حكمه عليه مسلما كما هو
ظاهر النصوص السابقة، فلا عبرة بأمان غيره وإن كان يقاتل مع المسلمين
(و) في دعائم الاسلام (1) عن أبي جعفر عليه السلام " وإن أمنهم
ذمي أو مشرك كان مع المسلمين في عسكرهم فلا أمان له "
نعم (يستوي
في ذلك الحر والمملوك) المأذون له بالجهاد وغيره (والذكر والأنثى)
بلا خلاف كما اعترف به في المنتهى في الأخير، ونسبه فيه أيضا إلى
علمائنا وأكثر أهل العلم في العبد، لعموم قوله صلى الله عليه وآله (2) " يسعى بذمتهم
أدناهم " وخصوص خبر مسعدة (3) في العبد عن أمير المؤمنين عليه
السلام معللا له بأنه من المؤمنين، فما عن أبي حنيفة وأبي يوسف
من اختصاص الأمان بالعبد المأذون في القتال واضح الفساد بعد ما
عرفت من أنه لا حجر عليه بالنسبة إلى ذلك، وإلا لم يكن فرق بين
المأذون في القتال وغيره، ولما (4) في المنتهى " من أن أم هاني قالت
لرسول الله صلى الله عليه وآله يا رسول الله إني أجرت أحمائي وأغلقت
عليهم وأن ابن أمي أراد قتلهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله قد
أجرنا من أجرت يا أم هاني، إنما يجير على المسلمين أدناهم " وأجارت
زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله العاص بن الربيع فأمضاه
رسول الله صلى الله عليه وآله (5) إلى غير ذلك.

(1) المستدرك - الباب 61 من أبواب جهاد العدو الحديث 21
(2) الوسائل - الباب 31 من أبواب القصاص في النفس
(3) الوسائل - الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 2
(4) المنتقى من أخبار المصطفى ج 2 ص 814
(5) سنن البيهقي ج 9 ص 95.
95

(و) على كل حال فقد ظهر لك مما ذكرناه أنه (لو أذم
المراهق أو المجنون) أو المكره ونحوهم ممن عرفت (لم ينعقد) أمانه
و (لكن) لو اغتر المشرك فزعم الصحة وجاء معه (يعاد إلى مأمنه)
لما سمعته من فحوى خبر محمد بن حكيم (1) المؤيد بالاعتبار (وكذا
كل حربي دخل دار الاسلام لشبهة الأمان كأن يسمع لفظا فيعتقده
أمانا أو يصحب رفقة فيتوهمها أمانا) أو يشتمل عقد الأمان على شرط
فاسد ولكن لا يعلم المشرك إفساده أو نحو ذلك بلا خلاف أجده فيه
كما اعترف به في المنتهى للفحوى المزبورة وغيرها، ولو ادعى الكافر
الشبهة لم يقبل إذا لم يثبت ما يقتضيها، لعموم الأمر بالقتل والأسر
وغيره
(ويجوز أن يذم الواحد من المسلمين) وإن كان أدناهم كالعبد
والمرأة (لآحاد من أهل الحرب) عشرة فما دون كما صرح به جماعة
لما سمعته سابقا
(ولا) يجوز أن (يذم عاما) لسائر المشركين
(ولا لأهل إقليم) أو بلدان منه أو نحو ذلك، اقتصارا فيما خالف
عموم الأمر بقتل المشركين كتابا وسنة على المنساق من الأدلة السابقة
(وهل يذم لقرية أو حصن؟ قيل: نعم كما أجاز علي عليه السلام (2)
ذمام الواحد لحصن من الحصون) لاطلاق قوله صلى الله عليه وآله " يسعى
بذمتهم أدناهم " ولخبر السكوني (3) المشتمل على قوم من المشركين
(وقيل لا) يجوز (وهو الأشبه) عند المصنف، لأصالة عدم
ترتب الأثر فيبقى عموم الأمر بقتل المشركين بحاله (وفعل علي عليه
السلام قضية في واقعة فلا يتعدى منها إلى غيرها، ولكن فيه أن

(1) الوسائل - الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 2 - 1.
(2) الوسائل - الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 2 - 1.
(3) الوسائل - الباب 20 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 2 - 1.
96

الأصل مقطوع بالاطلاق السابق، بل العموم مخصوص به، والمحكي عن
علي عليه السلام ما هو كالتعليل العام، ومنه أخذ عمر بن الخطاب
فيما رواه الجمهور (1) عن فضل بن يزيد الرقاشي، قال: " جهز عمر
ابن الخطاب جيشا فكنت فيه، فحضرنا موضعا فرأينا أن نستفتحه اليوم
وجعلنا نقبل ونروح، فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان
في صحيفة وشدها على سهم فرمى بها إليهم، فأخذوها وخرجوا فكتب
إلى عمر بن الخطاب بذلك فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته
ذمتهم " فالمتجه إلحاق القرية الصغيرة والقافلة القليلة بالآحاد كما
صرح به في المنتهى وحاشية الكركي وغيرهما
(والإمام عليه السلام
يذم لأهل الحرب عموما وخصوصا) على حسب ما يراه من المصلحة
بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المنتهى، لأن ولايته عامة،
والأمر موكول إليه في ذلك ونحوه (وكذا من نصبه الإمام عليه السلام
للنظر في جهة يذم لأهلها) عموما وخصوصا على حسب ما يراه من المصلحة
أيضا، لأنه فرع من له ذلك، أما في غير ما له الولاية عليه فهو كغيره
من المسلمين.
(و) لا خلاف في أنه (يجب الوفاء بالذمام) على حسب
ما وقع، بل في المنتهى الاجماع عليه، لما سمعته من الأدلة السابقة
التي منها أنه غدر مع عدم الوفاء (ما لم يكن متضمنا لما يخالف
الشرع) فإنه لا يلزم عليه الوفاء به بلا خلاف أجده فيه كما اعترف
به الفاضل، بل ولا إشكال، لكن قد عرفت وجوب رده إلى مأمنه إذا
كان لم يعرف الفساد، ضرورة كونه حينئذ ممن دخل بشبهة الأمان التي
قد عرفت اقتضاءها ذلك، كما هو واضح، ولا فرق في وجوب الوفاء

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 94 وكنز العمال ج 2 ص 299 الرقم
6302 عن فضيل بن زيد.
97

بين المذم وغيره ولو الإمام عليه السلام لما سمعته من إطلاق الأدلة،
لكن في النهاية " لا يجوز لأحد أن يذم عليه أي الإمام عليه السلام
بدون إذنه " وفي نكت المصنف " إن المراد أن يذم الواحد لقومه،
فهذا لا يمضي ذمامه على الإمام عليه السلام " وفيه أنه بناءا على اعتبار
الآحاد في الذمام وفرض خروج القوم عن الآحاد لكثرتهم لم يمض لا
على الإمام عليه السلام ولا على غيره، ويمكن أن يكون الشيخ نظر إلى
ما في خبر مسعدة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام عن النبي صلى الله
عليه وآله في آداب السرايا إلى أن قال: " وإذا حاصرتم أهل حصن
فأرادوك على أن تنزلهم على ذمة الله وذمة رسوله فلا تنزلهم، ولكن
أنزلهم على ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم، فإنكم إن تخفروا ذممكم
وذمم آبائكم وإخوانكم كان أيسر عليكم يوم القيامة من أن تخفروا
ذمة الله وذمة رسوله " ولكن فيه أنه يمكن كون المراد عقد الصلح
ونحوه مما لا يجوز إلا للإمام عليه السلام أو منصوبه لا ما نحن فيه
على أنه قيل: المراد بالذمة هنا العهد، والخفر النقض على وجه الاحتياط
والاعظام لعهد الله تعالى خوفا من أن يتعرض لنقضه من لا يعرف حقه
من جهلة الأعراب وسواد الجيش، فالنهي عنه نهي تنزيه، وعلى كل
حال فالظاهر عدم الفرق في الذمام المزبور بين الإمام عليه السلام وغيره
وقد سمعت ما وقع من أمير المؤمنين عليه السلام في إجازة ذم العبد
الحصن، مضافا إلى إطلاق النصوص والفتاوى، هذا.
(و) قد تقدم أنه (لو أكره العاقد) على الأمان لأسر ونحوه
(لم ينعقد) لما عرفت من اعتبار الاختيار.
(وأما العبارة فهو أن يقول) المسلم: (أمنتك أو أجرتك

(1) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
98

أو أنت في ذمة الاسلام) قاصدا بذلك الانشاء (وكذا كل لفظ دل
على هذا المعنى صريحا) وإن كان الأولان هما المستفادان من الآية (1)
وقول النبي صلى الله عليه وآله (2): " من دخل دار أبي سفيان فهو
آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن " إلا أن الظاهر عدم الفرق بينهما
وبين غيرهما مما دل على ذلك صريحا من غير فرق بين اللفظ العربي
وغيره، قال جعفر بن محمد عليهما السلام على ما رواه في الدعائم (3)
" الأمان جائز بأي لسان كان " وفي الدعائم (4) أيضا عن علي عليه
السلام " إذا آوى أحد من المسلمين أو أشار بالأمان إلى أحد من
المشركين فنزل على ذلك فهو أمان " كل ذلك مضافا إلى عموم قوله صلى الله عليه وآله:
" يسعى بذمتهم أدناهم " وغيره.
بل (وكذا) يستفاد الحكم مما سمعت في (كل كناية علم
بها ذلك من قصد العاقد ولو) كتابة، ولو (قال لا بأس عليك أو لا
تخف) أو نحو ذلك (لم يكن ذماما ما لم ينضم إليه) من قرائن
حالية أو مقالية (ما يدل على) إنشاء قصد (الأمان) بذلك لكن
في القواعد على إشكال، إذ مفهومه ذلك، وفيه منع كون مفهومه الانشاء
المزبور على الوجه المذكور، بل فيها أيضا أنه لا بد من قبول الحربي
إما نطقا أو إشارة أو سكوتا، أما لو رد لم ينعقد وفيه أيضا منع
عدم الانعقاد مع القبول بعد الرد إذا كان المؤمن باقيا على أمانه،
لاطلاق الأدلة، وكذا الحكم إذا آوى مسلم إلى المشرك بالمجئ مثلا،

(1) سورة التوبة - الآية 6
(2) الوسائل - الباب 5 من أبواب جهاد العدو الحديث 2
(3) المستدرك - الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 6 - 5.
(4) المستدرك - الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 6 - 5.
99

أو قال: قف أو قم أو ارم سلاحك، نعم لو زعم المشرك ذلك
ونحوه أمانا كان ممن دخل بشبهة الأمان الذي قد عرفت حكمه سابقا
بلا خلاف فيه بيننا، بل وفي جميع ما ذكرناه كما اعترف به في
المنتهى بل ولا إشكال، فما عن بعض الجمهور - من كون الأخيرين
أمانا والأوزاعي إن ادعى الكافر أنه أمان أو قال إنما وقفت لندائك
فهو آمن، وإن لم يدع ذلك فليس بأمان ولا يقبل - واضح الفساد.
(وأما وقته فقبل الأسر) بلا خلاف أجده فيه، فلا يجوز
لآحاد الناس بعده، بل في المنتهى نسبة ذلك إلى علمائنا والشافعي
وأكثر أهل العلم، للأصل بعد ظهور الأدلة في غير الحال المزبور حتى
من الذي أسره، فما عن الأوزاعي من صحة عقده بعد الأسر واضح
الفساد، وأمان زينب زوجها أبا العاص بن الربيع بعد الأسر إنما
صح لإجازة النبي صلى الله عليه وآله إياه ضرورة أن له الأمان بعد
الأسر، كما أن له اطلاقه، وبذلك يخالف الإمام عليه السلام غيره
ولزعم عمر أنه قائم مقام النبي صلى الله عليه وآله في ذلك أمن الهرمزان
بعد الأسر، وبالجملة فالأمان للمسلمين ما دام الامتناع (و) لو لكونه
في مضيق أو قرية أو نحوهما.
بل (لو أشرف جيش الاسلام على الظهور فاستذم الخصم جاز
مع نظر المصلحة) المعتبرة في صحة أصل الأمان على ما صرح به بعضهم
أو عدم المفسدة كما في القواعد ولعله الأوفق باطلاق الأدلة الشامل
لذلك وللحال المزبور أيضا، فلو أمن جاسوسا أو من فيه مضرة لم
ينعقد، للأصل والعموم بعد انسياق الأدلة إلى غيره (و) أما (لو
استذموا بعد حصولهم في الأسر فأذم لم يصح) لما عرفت.
(ولو أقر المسلم أنه أذم لمشرك فإن كان في وقت يصح منه إنشاء
100

الأمان قبل) إجماعا كما في المنتهى، لقاعدة من ملك شيئا ملك
الاقرار به، وإلا فلا بأن كان إقراره بعد الأسر لم يصح، لأنه لا
يملكه حينئذ حتى يملك الاقرار به، بل هو في الحقيقة إقرار في حق
الغير، نعم لو قامت للمشرك بينة على ذلك ثبت وجرى عليه حكم
الأمان، وكذا لو أقر جماعة كما عن الشيخ وغيره التصريح به،
ضرورة أن تعدد المقر لا يقتضي كونه من الشهادة التي موضوعها الاخبار
الجازم بحق للغير لا ما يشمل فعل أنفسهم، فما عن بعض الجمهور من
القبول لكونهم عدولا غير متهمين واضح الفساد، نعم لو شهد بعض أنه
أمنه بعض آخر اتجه القبول حينئذ مع حصول شرائطه من العدالة ونحوها.
(ولو ادعى الحربي على المسلم فأنكر المسلم) ولا بينة
(فالقول قوله) كما في القواعد وغيرها للأصل، بل صرح فيها كما
عن جماعة بعدم اليمين عليه للأصل، ولعله لما قيل من أن الأسر والقتل
حكمان ثابتان على الحربي، وبمجرد دعواه لا يسقطان، وأن إنكار
المسلم لا يأتي على حق يترتب عليه، بل على ما يقتضي سقوط ما قد
علم ثبوته من الأسر والقتل، وإن كان لا يخلو من نظر كما اعترف
به في المسالك، قال: " لأنه إن كان في حالة يمكن المسلم فيها إنشاء
الأمان أو ينفعه إقراره له فيبقى على القاعدة المشهورة: البينة على المدعي
واليمين على من أنكر، وإن كان في وقت لا ينفعه كما لو كان أسيرا
لم يثبت عليه يمين، لأن إقراره في تلك الحال لا ينفعه بل إنشاؤه
كذلك " ويمكن الجواب عن الأول بأن الحق في الأمان ليس منحصرا
في المسلم، بل يتعلق به وبغيره ممن استحق المال والنفس، فيكون ذلك
كالوكيل الذي يقبل إقراره ولا يتوجه عليه يمين، قلت: قد يقال إن
دعوى الحربي إن كانت وهو باق على امتناعه لم يتوجه له يمين على
101

المسلم، لأن له الرجوع عن الأمان في تلك الحال، فانكاره حينئذ
بمنزلة رجوعه، وقولهم يجب الوفاء به يراد به بعد غرور الحربي وركونه
إليه وصيرورته في قبضته، لأنه حينئذ يكون غدرا، وربما كان في قوله
تعالى " ثم أبلغه مأمنه " إشارة إلى إرادة وجوب الوفاء بهذا المعنى
وإن كانت منه على من جاء به كما تسمعه في المنتهى فقد يقال بتوجه
اليمين كما ستعرف، وإن كانت دعواه على غيره فلا يمين له عليه،
لما عرفت، فتأمل.
(ولو حيل بينه وبين الجواب بموت أو إغماء لم تسمع دعوى
الحربي) إلا بالبينة، لعدم ما يدل عليها، فيبقى العموم بحاله (و)
لكن (في الحالين يرد إلى مأمنه ثم هو حرب) كما في الكتب السابقة
معللا له في الأخيرين بالشبهة، وفيه أنه مناف للحكم بتقدم قول
المسلم وعدم قبول دعواه، فإن مقتضاهما جريان حكم الأسر والقتل
عليه، وليس في الأدلة درء ذلك عنه بمجرد الشبهة نحو ما جاء في الحد
وإنما فيها دخول الحربي بشبهة الأمان، وهو يقتضي تحقق اشتباهه لا
الاكتفاء بمجرد دعواه، والاحتياط في الدماء في غير أهل الحرب، ولكن
مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط مع إمكانه، وفرض المسألة في المنتهى
" إنه لو جاء المسلم بمشرك فادعى أنه أسره، وادعى الكافر أنه أمنه
قال: فالقول قول المسلم، لأنه معتضد بالأصل، وهو إباحة دم الحربي
وعدم الأمان، وقيل يقبل قول الأسير لأنه يحتمل صدقه فيكون هذا
شبهة يمنع من قتله، وقيل يرجع إلى من يعضده الظاهر فإن كان
الكافر ذا قوة ومعه سلاحه فالظاهر صدقه، وإن كان ضعيفا مسلوبا
سلاحه فالظاهر كذبه، والوجه الأول، ولو صدقه المسلم قال أصحاب
الشافعي: لا يقبل، لأنه لا يقدر على أمانه ولا يملكه، فلا يقبل
102

إقراره، وقيل يقبل، لأنه كافر لم يثبت أسره، ولا نازعه فيه منازع
فيقبل قوله في الأمان " قلت: لا يبعد القبول مع كونه في يد المسلم
وتحت سلطانه، إذ الحق راجع إليه، بل قد يشك في جريان الأصل
في أصل المسألة بدعوى اعتبار كون الأسر وهو محارب في ترتب الأحكام
وإن كان يمكن دفع ذلك بأصالة صحة فعل المسلم، وأصالة عدم صدور
الأمان منه، على أن ذلك يقتضي سد باب التمكن منه، ضرورة إمكان
الدعوى على كل حال، وأيضا الأمر غير منحصر في الدم حتى يتجه
الاحتياط فيه، لأنه قد يكون الاستيلاء مقتضيا للاسترقاق، كما لو
كان الأسير امرأة وملكية المال ونحو ذلك، ولو كانت الدعوى على غير
من جاء به فلا يمين له على المنكر، لأن إقراره في تلك الحال غير مجد
نعم له اليمين على من جاء به على نفي العلم بأمان غيره له إذا قلنا
إن إقراره يجدي في تلك الحال، وبالجملة فالمسألة غير محررة في كلامهم
وفي المروي في دعائم الاسلام (1) عن علي عليه السلام " إذا ظفرتم
برجل من أهل الحرب، فإن زعم أنه رسول إليكم فإن عرف ذلك وجاء
بما يدل عليه فلا سبيل لكم عليه حتى يبلغ رسالته ويرجع إلى أصحابه
وإن لم تجدوا على قوله دليلا فلا تقبلوا " هذا، وفي القواعد لا يعقد
أكثر من سنة، ولكن لم يحضرني ما يدل عليه، بل قد سمعت إطلاق
الأدلة، وفي المنتهى إذا انعقد الأمان وجب الوفاء به بحسب ما شرط
أو غيره إجماعا ما لم يكن متضمنا لما يخالف الشرع بلا خلاف، وستسمع
الكلام في نحو ذلك في المهادنة إنشاء الله
(وإن عقد الحربي لنفسه الأمان
ليسكن في دار الاسلام دخل ماله تبعا) في وجوب الوفاء له، وعدم
جواز التعرض له وإن لم يذكره بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به

(1) المستدرك - الباب 37 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
103

في المنتهى ضرورة اقتضاء الأمان الكف عنه، وأخذ ماله مناف لذلك
ولو ذكر ماله في الأمان كان تأكيدا (ولو التحق بدار الحرب) فإن
كان لتجارة أو رسالة أو تنزه وفي نيته العود إلى دار الاسلام فالأمان
باق لبقاء نيته على الإقامة،
وإن كان (للاستيطان) بها (انتقض
أمانه لنفسه) بنقض ما هو كالشرط عليه (دون ماله) الذي ثبت
الأمان له، ولم ينتقض بما انتقض به أمان النفس، فيستصحب، ولا
ينافي ذلك تبعية المال للنفس في الأمان، ضرورة اقتضائها ثبوت الأمان
له، لا دوران أمانه على أمانها، فيجب حينئذ رده إليه لو طلبه،
وصح له بيعه وهبته وغير ذلك من التصرفات، إذ هو بالتبعية المزبورة
صار كالمصرح بأمانه مستقلا، نعم لو أخذه إلى دار الحرب انتقض الأمان
فيه، بل وكذا لو كان قد اشترط عليه عدم الأمان لما له إذا استوطن
دار الحرب، ولعل هو مراد من قيد بقاء الأمان للمال بما إذا كان
الأمان مطلقا، فلو كان مقيدا بكونه في دار الاسلام انتقض أمان المال
أيضا، فلا يرد عليه بما في المسالك من أن الأمان لا يكون إلا في
دار الاسلام، ومن ثم يبطل أمانة لو انتقل إلى دار الحرب بنية الإقامة
أما لو دخله بنية العود لم ينتقض أمانه في نفسه ولا ماله قطعا،
والله العالم.
(ولو مات) أو قتل (انتقض الأمان في المال أيضا إذا لم يكن له
وارث مسلم وصار فيئا، ويختص به الإمام عليه السلام، لأنه لم يوجف
عليه) بخيل ولا ركاب فهو من الأنفال التي جعلها الله له عليه السلام
كارث من لا وارث له (وكذا الحكم لو مات في دار الاسلام) ولم
يكن له وارث مسلم، ضرورة كون الوجه فيهما معا بناءا على ما
104

صرح به الفاضل وغيره انتقاله إلى وارثه الكافر الذي لم يعقد له الأمان
خلافا لابن حنبل والمزني والشافعي في أحد قوليه، فيبقى الأمان فيه
لوارثه باعتبار انتقاله إليه متعلقا به حق الأمان كالرهن ونحوه، وفيه
منع كون الأمان حقا كذلك، وإنما هو متعلق بذي المال وقد مات
وللشافعي قول آخر يكون غنيمة، وفيه أنه غير مأخوذ بقهر وغلبة،
وكذا الكلام في الذمي لو مات في دار الاسلام وله وارث حربي كما هو
واضح، كذا قالوا، ولكن الانصاف عدم خلو ذلك عن بحث ونظر إن
لم يكن إجماع، ضرورة ملكيته لمن في يده المال لكونه مال حربي،
قد استولى عليه، بناءا على انتقاض الأمان فيه بالموت، بل لا يخلو
ما سمعته من ابن حنبل من وجه، خصوصا إذا كان وراثه معه ولو
متجددا له بولادة ونحوها.
(ولو أسره المسلمون) لم يزل الأمان على ماله، لكن لا يخلو
إما أن يمن عليه الإمام عليه السلام أو يفاديه أو يقتله أو يسترقه،
ففي الأولين يرد ماله إليه، وفي الثالث يكون ماله للإمام عليه السلام
إذا لم له وارث إلا الحربي على حسب ما عرفت، وفي الرابع الذي
أشار إليه المصنف بقوله: (فإن استرق مالك ماله تبعا لرقبته) كما
في القواعد مع زيادة ولا يختص به من خصه الإمام برقبته، بل للإمام
عليه السلام وإن أعتق، وفي المنتهى " وإن استرقه زال ملكه عنه لأن
المملوك لا يملك شيئا وصار فيئا، وإن أعتق بعد ذلك لم يرد إليه،
وكذا لو مات لم يرد على ورثته سواء كانوا مسلمين أو كفارا، لأنه لم
يترك شيئا " وفي المسالك التصريح بكون ماله فيئا للإمام عليه السلام
نحو ما سمعته من القواعد، قال " فقول المصنف ملك ماله تبعا
أراد به التبعية في الملك لا في المالك، فلا يستحقه مسترقه، لأنه مال
105

لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، ولو أعتق بعد ذلك لم يعد عليه، أما
لو من عليه عاد إليه " قلت: ظاهرهم بناء المسألة على مسألة مالكية
العبد وعدمها، وأنه لا فرق في ذلك بين الابتداء والاستدامة، فيتجه
حينئذ بناء على القول بها كما هو ظاهر المصنف فيما يأتي إنشاء الله ولو
لاستدامة بقاء المال على ملكيته، ولكن يثبت سلطان المولى عليه بواسطة
ثبوت سلطانه على المالك، فيصح له جميع التصرفات فيه، بخلاف
العبد فإنه محجور عليه للآية (1) ولثبوت حق المولى في المال ولو على
الوجه المزبور، فلا يصح تصرفه في شئ منه بدون إذنه، وحينئذ فبقاء
عبارة المصنف على ظاهرها من التبعية في المالك حينئذ أولى، بل الظاهر
ذلك أيضا في غير المال المزبور من أمواله التي في دار الحرب، ولعل
هذا من أكبر الشواهد على قابلية العبد للملك ولو الاستدامي باعتبار
كونه مالكا قبل العبودية، وأقصى ما يدل على عدم ملكية العبد على
القول به عدم ابتداء ملكه وهو عبد لا ما ملكه سابقا، إذ على القول
بعدمها يزول ملكه بمجرد استرقاقه، فيبقى بلا مالك، أو يدخل في
ملك من استرقه وإن لم يستول على المال، لكونه في دار الحرب مثلا
أو يكون للإمام عليه السلام لأنه من الأنفال التي منها المال الذي لا
مالك له، أو لمن هو في يده ولو كافر إن كان في يد، وإلا فهو مباح
والكل لا تساعد عليه الأدلة، بل هو مجرد تهجس، وقولهم " العبد
وماله لمولاه " لا يراد منه ما يشمل ما نحن فيه، بل المراد به بناء على الملكية
أن سلطنة التصرف للمولى وإن كانت العين ملكا للعبد، فيصح بهذا الاعتبار
نسبته إلى كل منهما، وعلى عدم الملكية ضرب من التجوز في مالية

(1) سورة النحل - الآية 77.
106

العبد كالاختصاص ونحوه، قد أشبعنا الكلام في المسألة في محله،
والحمد لله، فلاحظ وتأمل. والله العالم.
(ولو دخل المسلم دار الحرب مستأمنا فسرق وجب إعادته)
أي المسروق كما صرح به الفاضل وغيره (سواء كان صاحبه في دار
الاسلام أو دار الحرب) قيل لظهور أمان المستأمن في عدم خيانته لهم
وإن لم يكن مصرحا به، ولكن لا يخلو من نظر إن لم يكن إجماعا
فإن الأمان لا يقتضي أزيد من مأمونية المستأمن لا العكس، ولعل
الأولى الاستدلال بالنهي عن الغلول والغدر لهم، ضرورة أولوية هذا
الفرد من غيره، والله العالم.
(ولو أسر المسلم) الحربيون (وأطلقوه) بأمان (وشرطوا
عليه الإقامة في دار الحرب والأمن منه لم تجب) عليه (الإقامة)
بل تحرم مع التمكن من الهجرة على حسب ما عرفت سابقا (وحرمت
عليه أموالهم بالشرط) كما في المنتهى وغيره، ولكن فيه أنه شرط لا
يجب الوفاء بالعقد الذي تضمنه، بل هو في الحقيقة ليس عقدا مشروعا (و) لذا
(لو أطلقوه على مال لم يجب الوفاء لهم به) فالأولى الاستدلال باطلاق
النهي عن الغلول والغدر، نعم لو هرب منهم كان له الأخذ من مالهم
كما في المنتهى لإباحة أنفسهم وأموالهم للمسلمين، فليس غلولا، ولا
غدرا في الحقيقة كي يشمله النهي المزبور عنهما.
ولو دخل المسلم دار الحرب بأمان فاقترض مالا من حربي وعاد
إلينا ودخل صاحب المال بأمان ففي المنتهى كان عليه رده إليه، لأن
مقتضى الأمان الكف عن أموالهم، قلت: هو كذلك وإن لم يدخل
المقرض إلينا، وكذا قوله أيضا ولو اقترض حربي من حربي مالا ثم
دخل المقترض إلينا بأمان فإن عليه رده إليه، لأن الأصل وجوب الرد
107

ولا دليل على براءة الذمة، والله العالم.
(ولو أسلم الحربي وفي ذمته مهر) لزوجته وكانت قد أسلمت
معه أو قبله كان لها المطالبة به إن كان مما يملكه المسلم، وإلا فقيمته
وإن كان قد أسلم هو خاصة (لم يكن للزوجة مطالبته ولا لوارثها)
الحربي كما صرح به الفاضل وغيره، لأنهم حربيون، ولا أمان لهم
على ذلك، فله منعه عليهم، بل في المسالك " أن مقتضى إطلاق المصنف
الوارث عدم الفرق بين المسلم منه والحربي، وهو متجه من حيث أن
إسلام الزوج قبلها أوجب استيلاءه على ما أمكنه من مالها الذي من
جملته المهر، وكلما استولى عليه يملكه كغيره من أموال أهل الحرب
وكونه في ذمته بمنزلة المقبوض في يده، فينبغي أن يملكه باسلامه مع
بقائها على الحربية، وحينئذ فلا يزيله ما يتجدد من إسلامها ولا موتها
مع كون وارثها مسلما، فهذا الاطلاق في محله، وكذلك أطلق العلامة
في كثر من كتبه " قلت: قد تبعه على ذلك الأردبيلي، ومقتضاه أن
الحكم كذلك في سائر الديون وإن كانت ثمن مبيع، ولكن في حاشية
الكركي أن الذي صرح به جماعة عدم السقوط، بل حكى في المسالك
بعد ذلك عن جماعة من الأصحاب أن الحربي إذا أسلم سقط عنه مال
أهل الحرب الذي كان في ذمته إذا كان غصبا أو إتلافا أو غير ذلك
مما حصل بغير التراضي والاستئمان، وأما ما ثبت في ذمته بالاستئمان
كالقرض وثمن المعاوضات فإنه يبقى في ذمته بشبهة الأمان وإن لم يكن
وقع صيغة أمان ويؤيده ما ذكروه من أن المسلم أو الحربي لو دخل
إليهم وخرج لهم بمال ليشتري به شيئا لم يجز التعرض له، لأنه أمانة
وكذا لو دفعوا إلى أحد شيئا وديعة لم يجز التعرض لها إلحاقا
للأمانة بالأمان.
108

ولا يخفى عليك حينئذ الاشكال فيما ذكره مضافا إلى ما صرح به
الفاضل في المنتهى والتذكرة ومحكي التحرير في مفروض المسألة بأنه
ليس لها ولا لورثتها الكفار المطالبة، أما إذا كانوا مسلمين فإنه لم
المطالبة، وأولى من ذلك ما لو أسملت هي بعد إسلام الزوج، ضرورة
أن استحقاق الوارث فرع استحقاقها، بل عنه في الإرشاد في باب
النكاح التصريح بأن إسلام الزوج الحربي يوجب للحربية عليه نصف المهر إن
كان قبل الدخول، وجميعه إن كان بعده، ومقتضى ثبوت ذلك لها في
ذمته أن لها المطالبة به لو أسلمت أو ماتت وكان لها وارث مسلم ولو
الإمام عليه السلام، بل مقتضى ما ذكره هو من التأييد أن لها المطالبة
به وهي كافرة، ولعل التحقيق في المسألة سقوط مطالبتها به وهي حربية
وعدم وجوب الأداء لها كذلك، ولكن لا يملكه، لأنه في ذمته، وليس
عينا كي تدخل في ملكه باغتنامها وحيازتها، فإذا أسلمت هي بعده أو
ماتت وكان لها وارث مسلم صحت المطالبة به، لكون المال باقيا على
ملكها أو ملك وارثها، وإنما امتنع وجوب الأداء باعتبار كونها حربية
فلا يجب لها على المسلم شئ إما لأنه سبيل، أو لأن المراد من جب
الاسلام ما قبله ذلك ونحوه مما هو من التكاليف الشرعية، بخلاف ما
كان بالمعاملات والتجارة عن تراض وما أشبه ذلك.
ومن هنا أمكن الفرق بين عوض المتلفات والغصب ونحوهما وبين
المعاملات إذا فرض كون الحكم اتفاقيا، فلا يجب الوفاء بالأولى بل
تبرء الذمة بالاسلام، لكونه من قبيل التكاليف مثل قضاء الصلاة والصوم
وإن كان له جهة دينية، إلا أنه ليس من جميع الوجوه، بخلاف ما
كان بالمعاملة كالقرض وثمن المبيع ونحو ذلك مما يقع بين المشركين
والمسلمين ويحكم بصحته، بخلاف مثل الاتلاف الذي لو وقع من
109

المسلم لم يطالب به، لأن مال الحربي ونفسه هدر، فيمكن أن يكون
ذلك كذلك حتى لو وقع فيما بينهم وإن كانوا يلزمون بما ألزموا به
أنفسهم فليس في الحقيقة عليه دين، وإنما هو مجرد تكليف بالاسلام
يسقط، وليس كذلك ثمن المبيع ونحوه، وإن كان لا يجب الأداء عليه
بعد الاسلام بالمطالبة بعد فرض كون من له المال حربيا، إلا أنه دين
ثابت عليه في ذمته، وحينئذ فالمتجه تنزيل عبارة المصنف وغيرها ممن
أطلق على ما إذا كان الوارث حربيا، بل لعل الظاهر منها ذلك، وأما
احتمال الفرق بين المهر وغيره من ثمن المبيع ونحوه كاحتمال جواز
تملك من أسلم ما في ذمته مطلقا فمناف لظاهر كلام الأصحاب بل
وللأدلة من الاستصحاب وغيره، فتأمل جيدا، فإن منه يظهر لك وجه
النظر فيما أطنب فيه في المسالك بلا حاصل يرجع إليه.
(و) كيف كان ف‍ (لو ماتت) الزوجة قبل إسلام الزوج وكان
لها وارث مسلم (ثم أسلم أو أسلمت) هي (قبله ثم ماتت طالبه
وارثها المسلم دون الحربي) بلا خلاف بل ولا إشكال، أما في الأول
فلانتقال المهر للوارث المسلم، فلا يسقط باسلامه، وأما في الثاني
فلثبوت الحق للمسلمة وينتقل منها إلى وارثها، كما هو واضح، والله العالم.
(خاتمة فيها فصلان، الأول) في التحكيم الذي هو العقد مع
الكفارة بعد التراضي على أن ينزلوا على حكم حاكم، فيعمل على مقتضى
حكمه، وإليه أشار المصنف بقوله:
(يجوز أن يعقد العهد على حكم
الإمام عليه السلام أو غيره ممن نصبه للحكم) وإن كان فيه بعض
القصور، وعلى كل حال فلا خلاف في مشروعيته، وقد رواه العامة
والخاصة، ففي رواية الجمهور (1) " إن النبي صلى الله عليه وآله لما

(1) سيرة ابن هشام القسم الثاني ص 240 وتاريخ الطبري ج 2 ص 588.
110

حاصر بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم صلى
الله عليه وآله إلى ذلك، فحكم عليهم بقتل رجالهم وسبي ذراريهم،
فقال له النبي صلى الله عليه وآله لقد حكمت بما حكم الله تعالى به فوق
سبعة أرفعة أي سبع سماوات " وفي خبر مسعدة بن صدقة (1) عن
أبي عبد الله عليه السلام في وصية النبي صلى الله عليه وآله لمن يؤمره
على سرية " وإذا حصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله
تعالى فلا تنزلهم، ولكن أنزلهم على حكمكم، ثم اقض فيهم بعد بما
شئتم، فإنكم إن أنزلتموهم على حكم الله لم تدروا تصيبوا حكم الله
فيهم أم لا وإذا حاصرتم أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على ذمة الله
وذمة رسوله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم
فإنكن إن تخفروا ذممكم وذمم أبنائكم وإخوانكم كان أيسر عليكم يوم
القيامة من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله " ونحوه في رواية الجمهور (2)
ومن هنا كان المحكي عن محمد بن الحسن الشيباني من العامة عدم
جواز إنزال الإمام لهم على حكم الله تعالى، بل في المنتهى الذي رواه
علماؤنا المنع، وقال أبو يوسف: يجوز ذلك، لأن حكم الله تعالى
معلوم، إذ هو في حق الكفرة المقاتلين القتل والاسترقاق في ذراريهم
والاستغنام لأموالهم، قلت: لا ينبغي التأمل في جواز ذلك للنبي صلى الله عليه وآله
والإمام عليه السلام الذي هو معصوم عن الخطأ، نعم
هو غير جائز لأئمتهم، فلا وجه لما يظهر من الفاضل المنع، خصوصا
بعد قوله صلى الله عليه وآله لمعاذ " قد حكم الله بذلك فوق سبعة أرفعة "

(1) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 184 وكنز العمال ج 2 ص 297
الرقم 6280.
111

وما سمعته من أبي يوسف من الجواز لأن حكم الله معلوم يدفعه أن
المراد بالنزول على حكم الله هو تعيين أحد أفراد التخيير المذكورة عند
الله تعالى شأنه، ولا ريب في كونه غير معلوم لغير النبي صلى الله عليه وآله
والإمام عليه السلام عندنا، كما هو واضح.
(و) كيف كان ف‍ (يراعى في الحاكم كمال العقل) إذ لا عبرة
بحكم الصبي والمجنون والسكران ونحوهم (والاسلام) المستغنى عن
ذكره بقوله: (والعدالة) لعدم كون الفاسق محل ائتمان لما هو دون
ذلك، بل هو ظالم منهي عن الركون إليه، وحكومة أبي موسى الأشعري
المعلوم فسقه أو كفره كعمرو بن العاص لم تكن برضا أمير المؤمنين
عليه السلام كما هو معلوم من كتب السير والتواريخ (وهل تراعى
الذكورة والحرية؟ قيل نعم) لقصور الامرأة والعبد عن هذه المرتبة
وظهور قوله صلى الله عليه وآله " أنزلوهم على حكمكم " في غيرهما (و) لكن
(فيه تردد) من ذلك، ومن إطلاق الفتاوى، وانجبار القصور باعتبار
العدالة والمعرفة بالمصالح الحاضرة والمتأخرة، بل واعتبار المعرفة في
الأحكام الشرعية كي لا يكون حكمه مخالفا للشرع، هذا، وفي المنتهى
" يشترط في الحاكم شروط سبعة: أن يكون حرا مسلما بالغا عاقلا
ذكرا فقيها عدلا " وفيه أن شرط العدالة يغني عن اشتراط البلوغ والاسلام
وأما الذكورة والحرية فقد عرفت الكلام في اشتراطهما، ولعل الأقوى
عدمه لما عرفت.
والظاهر جواز كونه أعمى أو محدودا في قذف مثلا وتاب أو أسيرا
معهم، خلافا لبعض العامة لوجوه اعتبارية مدفوعة باعتبار العدالة
والمعرفة والفقاهة.
112

(و) لا خلاف في أنه (يجوز المهادنة على حكم من يختاره
الإمام عليه السلام) بل في المنتهى الاجماع عليه، لأنه لا يختار إلا
الصالح للحكم (دون) المهادنة على حكم من يختاره (أهل الحرب
إلا أن يعينوا رجلا تجتمع فيه شروط الحاكم) كما وقع من بني
قريظة حيث اختاروا سعد بن معاذ فقبل النبي صلى الله عليه وآله منهم
ولكن لا يخفى عليك أن هذا ليس مهادنة على اختيارهم، وقد سمعت
الأمر بانزالهم على حكمكم، وفي المنتهى " لو نزلوا على حكم رجل غير
معين وأسندوا التعيين إلى ما يختارونه لأنفسهم قبل ذلك منهم ثم ينظر
فإن اختاروا من يجوز أن يكون حاكما قبل منهم، وإن اختاروا من
لا يجوز تحكيمه كالعبد والصبي والفاسق لم يجز اعتبارا للانتهاء بالابتداء
وقال الشافعي: لا يجوز إسناد الاختيار إليهم، لأنهم ربما يختارون
من لا يصلح لذلك، والأول مذهب أبي حنيفة، وعندي فيهما تردد "
قلت: إن كان الاختيار إليهم في التعيين من العسكر بعد أن كان الحكم
للجيش يتجه الجواز، ضرورة كونه من النزول على حكمنا، فيندرج
في الخبر المزبور، ولكن لو فرض اختيارهم غير الصالح منهم فلا ريب
في عدم قبوله، إلا أنه هل يقتضي بطلان عقد الهدنة المزبور أو يبقى
على مقتضاه فيختارون خيرة جديدة للصالح وجهان، أقواهما الثاني،
كما أن الأقوى بقاء الحكومة للحاكم لو فرض حكمه بخلاف الشرع
خطأ، فينفذ حكمه حينئذ بعد ذلك بالمشروع خلافا لأبي حنيفة
(و) وهو واضح.
نعم (لو مات الحاكم قبل الحكم بطل الأمان ويردون إلى مأمنهم)
بلا خلاف أجده فيه بل ولا إشكال، ضرورة عدم ما اتفقوا عليه من
الحاكم الشخصي، والفرض أنهم نزلوا على حكمه، فهم في الأمان حتى
113

يردوا إلى مأمنهم، نعم لو اتفقوا ثانيا على حاكم آخر جامع للشرائط
جاز ونفذ حكمه، لعموم الأدلة، والله العالم.
(ويجوز أن يستند الحكم إلى اثنين أو أكثر) مع ملاحظة
الاجتماع بلا خلاف أجده فيه، بل في المنتهى الاجماع عليه، وهو
الحجة بعد إطلاق الخبر المزبور، فيعتبر حينئذ اتفاقهما على الحكم (فلو
مات) مثلا (أحدهم) أو أحدهما (بطل حكم) الباقي أو (الباقين)
كالوصيين المراد كون الوصي مجموعهما إلا مع الاتفاق عليه أو يعينوا
غيره، وهل يجوز إسناد الحكم إلى اثنين أو أكثر على أن يكون كل
واحد مستقلا ولكن التخيير بيد المسلمين مع الاختلاف في المحكوم به
أو الكفار؟ وجهان، أقواهما الجواز للاطلاق، ولا يجوز النزول على
حكم اثنين أحدهما كافر كما صرح به في المنتهى، بل وكذا غيره ممن
فقد شرطا من شرائط الحاكم، ضرورة اقتضاء الدليل عدم الفرق بين
الاستقلال والانضمام، ولو نزلوا على حكم حاكم معين فمات قبل الحكم
لم يحكم عليهم غيره إلا إذا اتفقوا، ولو طلبوا غيره ممن لا يصلح للحكم
لم يجابوا إليه، ولكن يردون إلى مأمنهم، وكذا لو نزلوا على حكم
معين فبان أنه غير صالح للحكم، والظاهر عدم جواز التراضي بين
الجميع بحكم غير الصالح، والله العالم.
(و) كيف كان فلا خلاف بل ولا إشكال بعد مشروعية التحكيم في
أنه (يتبع ما يحكم به الحاكم إلا أن يكون منافيا لوضع الشرع)
كالحكم بالرد إلى مأمنهم إلا إذا شرطوا في عقد الهدنة بأنهم إن لم يحكم
فلان مثلا نرد إلى مأمننا، فإنه يجوز حينئذ، أو يكون منافيا لمصلحة
المسلمين، إذ يجب على الحاكم ملاحظة ما فيه الحظ لهم، وحينئذ ينفذ
حكمه كما نفذ حكم سعد بن معاذ في بني قريظة بقتل الرجال وسبي
114

الذرية واغتنام المال حتى قال النبي صلى الله عليه وآله: " لقد حكم
بحكم الله من فوق سبعة أرفعة " وكذا لو حكم باسترقاق الرجال وسبي
النساء والذرية وأخذ المال، أو حكم بالمن على الرجال والنساء والذرية
وترك السبي مطلقا، إذ قد تكون المصلحة في ذلك، فكما يجوز للإمام
عليه السلام المن كذلك يجوز للحاكم بعد فرض مشروعية حكمه، وما
عن بعض الجمهور من عدم الجواز، لأن الإمام لا يملك ذلك في الذرية
مثلا مع السبي يدفعه الفرق بين ما تحقق فيه السبي المقتضي للتملك
وبين ما نحن فيه مما لم يتحقق فيه السبي كما هو واضح، ولو حكم
بأن يعقدوا عقد الذمة ويؤدوا الجزية جاز أيضا ولزمهم أن ينزلوا على
حكمه كما عن الشيخ في التصريح به، وما عن الشافعي - من عدم الجواز
في أحد الوجهين، لأن عقد الذمة عقد معاوضة فلا يثبت إلا بالتراضي
ولذا لم يجز أن يجبر الأسير على ذلك يدفعه وضوح الفرق بين المقام
المسبوق بالرضا بالحكم الذي منه ذلك وبين الأسير الذي لم يسبق منه
التراضي المعتبر في العقد، ولو حكم بالفداء مضى حكمه، وبالجملة ينفذ
حكمه الموافق لما قرره الشرع فيهم مع ملاحظة مصلحة المسلمين، ولو
أريد المن على من حكم عليه بالقتل جاز كما يحكى عن ثابت بن قيس
الأنصاري (1) أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله أن يهب له الزبير بن
باطا اليهودي ففعل بعد حكم سعد عليهم بقتل الرجال، نعم لو
حكم على كافر منهم مثلا بالقتل ثم أراد الاسترقاق ففي المنتهى لم
يكن له ذلك، لأنه لم يدخل على هذا الشرط، ولكن لا يخلو من
نظر، وعلى كل حال فالظاهر عدم وجوب الحكم على الحاكم وإن
كان قد قبل التحكيم للأصل.

(1) البحار ح 20 ص 277 الطبع الحديث.
115

(ولو حكم بالقتل والسبي وأخذ المال فأسلموا سقط الحكم في
القتل) وفي بعض النسخ " خاصة " وفي أخرى " لا في المال " كما
في القواعد والمنتهى والتذكرة، وهي التي شرحها ثاني الشهيدين، فقال
" لأن الاسلام يحقن الدم بخلاف الاسترقاق والمال، فإنهما يجامعان
الاسلام، كما لو أسلم المشرك بعد الأخذ " ونحوه في فوائد الشرائع
للكركي إلا أن المتن فيها " سقط الحكم إلا في المال " ومقتضاه عدم
جواز السبي، لكن لم أجد به قائلا، بل لا أجد خلافا في عدم سقوط
السبي وأخذ المال، نعم ليس له استرقاق من حكم عليه بالقتل بعد
سقوط القتل عنه بالاسلام، خلافا لبعض العامة فجوزه، كما لو أسلموا
بعد الأسر، وفيه أن الأسير قد ثبت للإمام عليه السلام استرقاقه،
بخلاف المفروض الذي قد تعين فيه بحكم الحاكم القتل ولكن قد سقط
بالاسلام، لقوله صلى الله عليه وآله (1) " أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم " نعم لا يسقط
سبي الذرية والنساء لثبوت ذلك عليهم بالحكم قبل الاسلام، ولا ينافيه
الاسلام بعد أصالة أو تبعا، أما لو أسلموا قبل الحكم عصموا أموالهم
ودمائهم وذراريهم من الاستغنام والقتل، ضرورة أنهم أسلموا وهم
أحرار لم يسترقوا وأموالهم لم تغنم، فلا يجوز استرقاقهم ولا اغتنام
أموالهم، لاندراجهم حينئذ في قاعدة من أسلم حقن ماله ودمه،
والفرض عدم تعلق حكم الحاكم به كالسابق.
(ولو جعل للمشرك فدية عن أسراء المسلمين لم يجب الوفاء،
لأنه لا عوض للحر) كما صرح بذلك غير واحد من غير فرق بين
الشراء وغيره، نعم لو جعل جعلا على رفع الأسر عنه ممن يجوز له

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 182.
116

الجعالة على ذلك على وجه يدخل في الجعالة الشرعية وجب الوفاء،
ولو دخل الحربي بأمان فقال له الإمام عليه السلام إن رجعت إلى دار
الحرب وإلا حكمت عليك حكم أهل الذمة فأقام سنة ففي
المنتهى جاز أن يأخذ منه الجزية، وإن قال له: اخرج إلى
دار الحرب فإن أقمت عندنا صيرت نفسك ذميا فأقام سنة ثم قال
أقمت لحاجة قبل قوله، ولم يجز أخذ الجزية منه، لأصل البراءة، بل
يرد إلى مأمنه، وقال الشيخ: وإن قلنا يصير ذميا كان قويا، لأنه خالف
الإمام عليه السلام، وفيه منع المخالفة بعد فرض كون المراد من الإقامة التوطن
لا مثل الفرض الذي لم يعلم فيه ذلك بعد قوله: إني أقمت لحاجة،
وهو شئ لا يعلم إلا من قبله.
ويجوز الأمان لمن قال من المشركين: أنا أفتح لكم الحصن مثلا
لاطلاق الأدلة، وحينئذ لو فتح ثم اشتبه بين أهل الحصن فلا يقتل أحد منهم
للمقدمة بل عن الشافعي ولا يسترق لذلك أيضا وعن بعض الجمهور استخراجه
بالقرعة ثم يسترق الباقون، والاحتياط في الدم لا يأتي مثله في الاسترقاق
ولكنه كما ترى، ومقتضى المقدمة عدم جوازهما معا، وكذا لو أسلم
واحد منهم قبل الفتح فقال: كل واحد منهم أنا هو، وعن الأوزاعي
يسعى كل واحد منهم في قيمة نفسه ويترك له عشر قيمته، ولا دليل
عليه، بل مقتضى الدليل خلافه، والله العالم.
الفصل (الثاني) في الجعالة، لا خلاف كما اعترف به الفاضل
بل ولا إشكال في أنه (يجوز لوالي الجيش) إماما أو غيره (جعل
الجعائل لمن يدله على مصلحة) من مصالح المسلمين (كالتنبيه على
عورة القلعة وطريق البلد الخفي) أو نحو ذلك، ويستحق المجعول له
117

الجعل بنفس الفعل كغيره من أفراد الجعالة، سواء كان مسلما أو كافرا
لعموم الأدلة، وليس للجيش الاعتراض وإن كانت الغنيمة لهم، لعموم
الولاية، ولفعل النبي صلى الله عليه وآله وقد استوفينا الكلام بحمد
الله تعالى في أحكام الجعالة في محلها، فلاحظ (و) إن قال المصنف وغيره
هنا (إن كانت الجعالة من ماله دينا اشترط كونها معلومة الوصف
والقدر، وإن كانت عينا فلا بد أن تكون مشاهدة أو موصوفة) بما
يرتفع به الغرر المنهي عنه (وإن كانت من مال الغنيمة جاز أن
تكون مجهولة كجارية وثوب) للحاجة، ولأن النبي صلى الله عليه وآله (1)
قد جعل للسرية من الجيش الثلث أو الربع من الغنيمة المجهولة، بل
في المنتهى لا نعلم فيه خلافا، ولكن قد ذكرنا في كتاب الجعالة ما يعلم
منه تحقيق الحال في ذلك وغيره، فلاحظ وتأمل.
ثم العمل المجعول له إن كان مما لا يتوقف تحققه على الفتح كالدلالة
على الطريق ونحوه استحق المجعول له الجعل بنفس ذلك وإن لم يحصل
الفتح، وإن كان مما يتوقف على الفتح كما لو قال من دلنا على ما
نفتح به القلعة فله كذا توقف على الفتح، ولعل منه ما لو قال: من
دلنا على طريق القلعة فله الجارية المعينة أو مطلقا منها، لأن جعالة
شئ منها يقتضي اعتبار فتحها حكما وإن لم يذكر لفظا.
(تفريع لو كانت الجعالة عينا) كجارية ونحوها (وفتح البلد
على أمان فكانت في الجملة) التي تعلق بها الأمان لم يبطل الأمان لامكان
مضيه، خلافا لأبي إسحاق من الشافعية فأبطله، لاستحقاق المجعول
له العين المفروض تعلق الأمان بها، وفيه أن مجرد ذلك لا يقتضى
البطلان (ف‍) - إنه (إن اتفق المجعول له وأربابها على بذلها) ولو بدفع

(1) كنز العمال ج 2 ص 309 الرقم 6423.
118

العوض لهم (أو إمساكها بالعوض) له (جاز) الأمان (و) ولا يبطل،
نعم (إن تعاسرا فسخت لهدنة) كما صرح به الشيخ منافي المحكي
عنه، والشافعي من العامة، لتعذر الامضاء حينئذ، لسبق تعلق حق
الدال المفروض تعذر الجمع بينه وبين الأمان المتأخر عنه (و) لكن
(يردون إلى مأمنهم) تجنبا عن الغدر بعد فرض نزولهم على الأمان
بل لهم تحصيل القلعة كما كانت من غير زيادة، وقد يقال بتقديمم بقاء
الهدنة واستحقاق المجعول له القيمة، كما لو تعذر تسليمها إليه بالاسلام
لو كانت جارية، ترجيحا لهذه المصلحة على الفسخ المحتمل عدم التمكن
من الفتح، أو توقفه على قتل جملة من المسلمين أو نحو ذلك مما يدخل
به تحت قاعدة الضرر، بل عن الفاضل في المختلف اختياره، بل مال
إليه بعض من تأخر عنه، لكن لا يخفى عليك صعوبة انطباقه على
قواعد الإمامية.
(ولو كانت الجعالة جارية فأسلمت قبل الفتح لم تدفع إليه)
سواء كان مسلما أو كافرا، لخروجها عن قابلية الاسترقاق (و) لكن
(دفعت) إليه (القيمة) عوضا عنها كما صرح به غير واحد، ولعله
لكونه أقرب من استحقاق أجرة المثل، وربما استدل عليه بأن النبي
صلى الله عليه وآله صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاء منهم
رده إليهم، فلما جاءت نساء مسلمات منعه الله تعالى من ردهن إلى أزواجهن
وأمره برد مهورهن وفسخ ما وقع من الهدنة وإن كان هو كما ترى
(وكذا) الكلام (لو أسلمت بعد الفتح وكان المجعول له كافرا)
لعدم ملك الكافر المسلم ابتداء، ووجوب نقله عنه استدامة، نعم لو
كان المجعول له مسلما دفعت إليه، لأن الاسلام لا يرفع الملك الحاصل
بالفتح، كما لو أسلم المسبي بعد سبيه (ولو ماتت قبل الفتح أو بعده)
119

ولا تفريط بالدفع (لم يكن له عوض) عنها كما صرح به الشيخ فيما
حكي عنه وغيره، بل والشافعي في أحد قوليه، لأن حقه فيها ففات
بفواتها، خلافا للشافعي في القول الآخر، فتدفع له القيمة، كما لو
تعذر تسليهما بالاسلام، وفيه أن التسليم في المسلمة ممكن، ولكن منع
منه الشرع فجبر بالقيمة جمعا بين الحقين بخلاف الفرض الذي تعذر
التسليم فيه عقلا من دون تفريط، ولا دليل على استحقاق غيره، بل
الأصل ينفيه، والله العالم.
(الطرف الرابع في الأسارى وهم ذكور وإناث فالإناث) من الكفار
الأصليين الحربيين غير معتصمين بذمة أو عهد أو أمان (يملكن بالسبي
ولو كانت الحرب قائمة، وكذا الذراري) أي غير البالغين بلا خلاف
أجده في شئ من ذلك كما اعترف به في المنتهى بل عن الغنية والتذكرة
الاجماع عليه، وهو الحجة مع ما أرسله في المنتهى (1) من أن البني
صلى الله عليه وآله نهى عن قتل النساء والولدان، وكان يسترقهم إذا
سباهم، نعم يعتبر في التملك تحقق صدق السبي والقهر، لأصالة عدمه
مع عدمها، فلا يكفي مجرد النظر ولا وضع اليد ولا غير ذلك مما لا
يتحقق معه صدقهما، نعم لا يعتبر استمرار القهر، فيبقى على الملك
لو هرب كالصيد الذي ما نحن فيه نحوه بعد أن أباح الشارع تملكهم
بذلك، بل الظاهر عدم اعتبار نية التملك بعد الاستيلاء على الوجه
المزبور كما قلناه في حيازة المباح، بل الظاهر عدم اختصاص التملك
بهما بالمسلمين، فلو قهر بعضهم بعضا ملكه كما يملك الصيد باصطياده
وقد دلت عليه جملة من النصوص المذكورة في كتاب البيع من الحيوان

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 78 و 63.
120

بل عن بعض مشائخنا دعوى الاجماع بقسميه عليه، وإن كان لولا
ذلك لم يخل الحكم من نظر، فلاحظ وتأمل
قيل: ويلحق الخنثى المشكل والممسوح البالغان بالنساء في الاسترقاق
للشبهة الدارئة للقتل، وقد يناقش إن لم يكن اجماعا بأن ذلك لا يقتضي
جواز الاسترقاق مطلقا إلا أن يثبت جواز استرقاقهم على وجه يكون
ذلك كالأصل.
(و) على كل حال، ف‍ (لو اشتبه الطفل بالبالغ اعتبر بالانبات)
للشعر الخشن على العانة باللمس أو النظر (فمن لم ينبت وجهل سنه)
ولم يحصل العلم بالبلوغ ولو من أمارات متعددة لم ينص الشارع عليها
بالخصوص (الحق بالذراري) بلا خلاف أجده في شئ من ذلك كما
اعترف به بعضهم، بل ولا إشكال، ضرورة ثبوت البلوغ بالعلامة
المزبورة التي اقتصر عليها هنا، لغلبة عدم معرفة غيرها من السن ونحوه
غالبا، وإلا فلا فرق بينها وبين غيرها من علامات البلوغ، وإن لم يتحقق
شئ منها فالأصل العدم، وفي المنتهى وغيره أن سعد بن معاذ حكم في
بني قريظة بهذا وأجازه النبي صلى الله عليه وآله، وفي خبر أبي البختري (1)
عن جعفر عن أبيه عليهم السلام قال: " قال: إن رسول الله
صلى الله عليه وآله عرضهم يومئذ على العانات، فمن وجده أنبت قتله، ومن
لم يجده أنبت ألحقه بالذراري ".
ولو ادعى الاحتلام وكان ممكنا في حقه قبل كما عن بعضهم التصريح
به، لعموم ما دل على قبوله في غيره، وتأمل فيه بعض الناس،
لكنه في غير محله، نعم قد يتأمل فيما عن بعضهم من التصريح بالقبول

(1) الوسائل - الباب 65 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
121

لو ادعى استعجال النبات بالدواء للشبهة الدارئة للقتل، وإن نفي عنه
البأس بعض الأفاضل، والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (الذكور البالغون يتعين عليهم القتل إن)
أسروا وقد (كانت الحرب قائمة) ولم تضع أوزارها بلا خلاف
محقق معتد به أجده فيه وإن حكي عن الإسكافي أنه أطلق التخيير
بين الاسترقاق والفداء بهم والمن عليهم، ومقتضاه عدم القتل، لكنه
معلوم البطلان نصا وفتوى، ففي خبر طلحة بن زيد (1) المنجبر بما
عرفت " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان أبي يقول إن
للحرب حكمين إذا كانت الحرب قائمة ولم يثخن أهلها، فكل أسير أخذ
في تلك الحال فإن الإمام فيه بالخيار إن شاء ضرب عنقه، وإن شاء قطع
يده ورجله من خلاف بغير حسم، ثم يتركه يتشحط في دمه حتى يموت
وهو قول الله عز وجل (2): " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله
ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجهلم
من خلاف، أو ينفوا من الأرض " الآية، ألا ترى أن المخير الذي
خير الله تعالى الإمام عليه السلام على شئ واحد وهو الكفر - كما في
الكافي، وفي بعض النسخ " القتل " وفي التهذيبين " الكل " - وليس
هو على أشياء مختلفة، فقلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول الله عز
وجل أو ينفوا من الأرض قال: ذلك الطلب أن تطلبه الخيل حتى يهرب
فإن أخذته الخيل حكم عليه ببعض الأحكام التي وصفت لك، والحكم
الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها، فكل أسير أخذ على
تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام عليه السلام فيه بالخيار، إن شاء

(1) الوسائل - الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 1
(2) سورة المائدة - الآية 37.
122

من عليهم فأرسلهم، وإن شاء فاداهم أنفسهم، وإن شاء استعبدهم
فصاروا عبيدا " واختلاف النسخ فيما سمعته من الحكم الذي لا مدخلية له فيما نحن فيه مع عدم وضوح معناه لا يقدح في دلالته على المطلوب
كما أن الاستشهاد فيه بالآية التي هي في المحارب المسلم المشتملة على
غير القتل كذلك أيضا، مع احتمال كون المراد بذكرها التشبيه في
الحكم في الجملة باعتبار كون الفرض من محاربي الله ورسوله وسعاة الفساد
في الأرض، ولعدم مشروعية الأسر قبل الاثخان، قال الله تعالى (1)
" ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض
الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق
لمسكم فيا أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا
الله، إن الله غفور رحيم " وقال تعالى (2) أيضا: " فإذا لقيتم الذين
كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فأما منا بعد
وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها " وفي كنز العرفان المنقول عن أهل
البيت عليهم السلام أن الأسير إن أخذ والحرب قائمة تعين قتله إما
بضرب عنقه أو قطع يديه ورجليه ويترك حتى ينزف ويموت، وإن أخذ
بعد انقضاء الحرب تخير الإمام عليه السلام بين المن والفداء والاسترقاق
ولا يجوز القتل، ولو حصل منه الاسلام في الحالين منع القتل خاصة
ولعله يرجع إليه ما قيل من أن في الآية تقديما وتأخيرا، تقديره فضرب
الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها، ثم قال: حتى إذا أثخنتموهم فشدوا
الوثاق فإما منا وإما فداء، وهو أولى مما عن الشافعية من أن الإمام
مخير مطلقا بين القتل والمن والفداء والاسترقاق، بل وما عن الحنفية

(1) سورة الأنفال - الآية 68 و 69 و 70
(2) سورة محمد صلى الله عليه وآله - الآية 4.
123

من تخيير الإمام بين القتل والاسترقاق، قيل فعلى قولهم الآية منسوخة
أو مخصصة بواقعة بدر، وظاهر الآية قريب من مذهب الشافعية، وفيه
أن الآية ظاهرة في منع القتل بعد الاثخان والأسر، لقوله تعالى:
" فإما منا بعد وإما فداء " بل ظاهرها عدم الاسترقاق ولكن ثبت بالسنة
وربما قيل إن الأسر كان محرما بقوله: " ما كان لنبي " ثم نسخ بهذه
الآية، ولعل تنزيل تلك على الأسر قبل الاثخان أولى من ذلك، كما
أن الظاهر توجيه اللوم فيها على من أشار على النبي صلى الله عليه وآله
بالفداء في السبعين أسيرا يوم بدر الذين كان أسرهم قبل الاثخان، ثم
تاب الله عليهم، ويمكن أن يراد بعدم الاثخان فيها أنه قبل أن يقوى
الاسلام لقلة المسلمين يومئذ لا عدم الاثخان في المحاربة المخصوصة التي
هي محل البحث، ولكن على كل حال فيها إشعار بعدم جواز الأسر قبل
الاثخان، والله العالم.
وكيف كان فالحكم المزبور مقيد ب‍ (ما لم يسلموا) بلا
خلاف أجده فيه، بل عن التذكرة والمنتهى، الاجماع عليه، بل
ولا إشكال، ضرورة حقن الدم بالاسلام الذي أمر النبي صلى الله عليه
وآله بالقتال عليه حتى يحصل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله (1):
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها
عصموا مني دماءهم وفي خبر الزهري (2) عن علي بن الحسين عليهما السلام
" الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه وصار فيئا " كما لا خلاف
أجده في أن له المن عليه حينئذ، بل ولا إشكال، ضرورة أولويته بذلك
من الأسر بعد تقضي الحرب ولما يسلم، إنما الكلام في ضم الاسترقاق

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 182
(2) الوسائل - الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
124

والفداء إليه وعدمه، فعن الشيخ التخيير بين الثلاثة، بل لعله مقتضى
إطلاق المصنف الآتي، بل هو خيرة ثاني الشهيدين، ولعله للجمع بين
الخبر المزبور المقتضي لتعين الاسترقاق، ولكن لا قائل به، وبين المرسل (1)
في المنتهى وغيره من أنه فادى النبي صلى الله عليه وآله أسيرا أسلم
برجلين، وما سمعته من أولوية ما نحن فيه من الكافر الذي أسر
بعد تقضي الحرب، بل قيل وإن كنا لم نعرف القائل بعينه. بتعينه،
لعدم دليل معتد به على جواز الاسترقاق والفداء بعد عدم جمع الخبرين
المزبورين لشرائط الحجية، وبعد منع أولويته بذلك من الأسر بعد
تقضي الحرب وقد أسلم، ضرورة كون إسلامه بعد تعلق حق الاسترقاق
به ولو على التخيير، فلا يسقط بالاسلام، بخلاف الفرض الذي لا
حكم له إلا القتل ولو لإهانته، وقد سقط بالاسلام الذي هو مانع
أيضا عن الاسترقاق ابتداء أيضا كالقتل، مضافا إلى أصالة الحرية، بل
والفداء أيضا كذلك، إذ هو فرع تعلق حق به يؤخذ الفداء عنه،
والمرسل السابق مع عدم الجابر له فيه أنه لا وجه ظاهر لرد المسلم
للكفار، اللهم إلا أن يكون ذا عشيرة تمنعه، أو غير ذلك، نعم لو
قلنا بجواز استرقاقه في تلك الحال أو فدائه أو المن عليه أمكن حينئذ
استصحابه، ولكن ظاهرهم عدمه، ومنه يظهر لك ما في استدلال بعض
به، اللهم إلا أن يقال: إن الأسر مقتض للاسترقاق باعتبار كونهم
فيئا للمسلمين ومماليك لهم كما يأتي في بعض (2) النصوص النافية للربا
بينهم وبين المسلم وإن تعين قتله شرعا، فيصح حينئذ استصحابه بعد
سقوط القتل بالاسلام، ويتبعه الفداء والمن، ولعله لا يخلو من قوة

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 72 و 226 و ج 6 ص 320
(2) الوسائل - الباب 7 من أبواب الربا الحديث 5 من كتاب التجارة.
125

ولكن الاحتياط بالاقتصار على المن أولى، والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (الإمام عليه السلام مخير) في كيفية القتل
(إن شاء ضرب أعناقهم، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وتركهم ينزفون
حتى يموتوا) كما صرح به غير واحد، بل هو المشهور بين الأصحاب
بل ربما ظهر من بعض عدم الخلاف فيه، بل من آخر دعوى الاجماع
عليه للخبر المزبور (1) الذي قد زيد فيه كون القطع من الخلاف
والاستدلال بالآية المذكورة فيها مع ذلك الصلب بل والنفي من الأرض
الذي لم أجد به قائلا هنا، ولعله لذا مع ضعف الخبر المزبور واحتمال
كون المراد المثال لأفراد القتل كالفتاوى خير القاضي فيما حكي عنه
بين أنواع القتل، للاطلاق ومعلومية مشروعية الاجهاز عليه كما صرح
به غير واحد مع عدم الموت بالنزف، بل إلى ذلك يرجع أيضا ما عن
الحلبي من التخيير بين القتل والصلب، وإلا فلا دليل عليه، بل ظاهر
ما سمعته من الخبر خلافه، فتخرج المسألة حينئذ عن الخلاف، وهو
لا يخلو من قوة، خصوصا بعد ما ذكره غير واحد من كون التخيير هنا
تخيير شهوة لا اجتهاد في المصلحة، لأن المطلوب قتلهم، بخلاف التخيير الآتي
فإنه تخيير اجتهاد فيما يراه من المصلحة باعتبار ولايته العامة، ومع
ذلك الأحوط اختيار أحد النوعين المذكورين في النص والفتوى، وأحوط
منه مراعاة المصلحة أيضا فيهما، فإنه ربما يكون القطع أصلح باعتبار
الرعب والرهب المقتضي لاتباع ضعيف العقيدة من الكفار للمسلمين،
وربما يكون ضرب العنق أصلح باعتبار آخر، والله العالم.
(وإن أسروا بعد تقضي الحرب لم يقتلوا، وكان الإمام مخيرا
بين المن والفداء والاسترقاق) كما صرح به غير واحد، بل هو المشهور

(1) الوسائل - الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
126

نقلا وتحصيلا، بل في محكي التذكرة والمنتهى نسبته إلى علمائنا أجمع
وهو الحجة بعد الخبر المزبور (1) المعتضد بظاهر الآية في المن والفداء
الذي قد يستفاد منه الاسترقاق خصوصا بعد ما سمعته سابقا في خبر
الزهري (1) المعتضد بما في غيره من كونهم وما في أيديهم فيئا للمسلمين
ومملوكين لهم، خلافا للمحكي عن القاضي من زيادة القتل في أفراد
التخيير، ولا دليل عليه، بل ظاهر الأدلة خلافه، وبه يخرج عن
إطلاق الأمر بقتلهم وعن ابن حمزة من التفصيل بين من يقر على دينه
بالجزية كالكتابي فالثلاثة وبين غيره كالوثني الذي لا يقر على دينه فالمن
والمفاداة، ويسقط الاسترقاق، بل في المختلف اختياره بعد أن حكاه
عن الشيخ أيضا، وفيه أنه غير مناف للاسترقاق كما في النساء منهم
التي قد عرفت عدم الخلاف في استرقاقهن، بل الاجماع بقسميه عليه
ولذا كان صريح جماعة وظاهر الباقين عدم الفرق بين الجميع.
ثم إن ظاهر النص والفتوى إطلاق التخيير، لكن الفاضل في
المحكي عن جملة من كتبه وثاني الشهيدين عينا الأصلح من الثلاثة،
لكونه الولي للمسلمين المكلف بمراعاة مصالحهم، ومقتضاه عدم التخيير
إلا مع التساوي في المصلحة، فحينئذ يتخير تخيير شهوة، ولا ريب في
كونه أحوط، وإن كان اجتهادا في مقابلة إطلاق التخيير من ولي الجميع
الذي هو أعلم بالمصالح، وليس هو من إطلاق تصرف الولي المنوط
بالمصلحة كالوكيل، ومع اختيار الاسترقاق أو المال فداء فلا ريب في
أنه من الغنيمة التي يتعلق بها حق الغانمين كما صرح به الفاضل
والشهيدان وغيرهم، ولا ينافيه تخيير الإمام عليه السلام بين ما يكون

(1) الوسائل - الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2.
(2) الوسائل - الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2.
127

غنيمة وغيره بعد أن كانوا هم الذين أسروه وقهروه، وأقصى تخيير
الإمام أن له المن عليه باعتبار كونه أولى من المؤمنين بأنفسهم، فمع
فرض اختياره المالية بالاسترقاق أو الفداء تعلق به حق الغانمين كأولياء
القصاص إذا اختاروا الدية، فإنه يتعلق بها حق الدين وغيره،
والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (لو أسلموا بعد الأسر لم يسقط عنهم هذا
الحكم) الذي هو التخيير بين الثلاثة بلا خلاف معتد به أجده فيه
بل ولا إشكال، للأصل والاطلاق، نعم في محكي المبسوط قيل إن أسلم
سقط عنه الاسترقاق، لأن عقيلا أسلم بعد الأسر ففداه النبي صلى الله عليه وآله
ولم يسترقه، وفيه أن ذلك حكاية حال، فلا تعم مع كون
المفاداة أحد الأمور المخير فيها فاختارها لذلك لا لأصل عدم جواز الاسترقاق
ثم إن ظاهر المتن كون الحكم المزبور للأسير بعد انقضاء الحرب
وربما احتمل عمومه له قبل انقضائها، وقد عرفت البحث فيه مفصلا
كالمحكي عن الإسكافي من مضمون الخبر المزبور لو أسلم الأسير حقن
دمه وصار فيئا، وإلا فهو على إطلاقه، خصوصا في مفروض المقام الذي
لا قتل عليه فيه قبل الاسلام أيضا.
(ولو عجز الأسير عن المشي لم يجب قتله، لأنه لا يدري ما
حكم الإمام عليه السلام فيه) كما في المنتهى ومحكي التذكرة وغيرها
من كتبه، ولعل المراد عدم جواز القتل كما هو ظاهر النهاية والسرائر
والنافع واللمعة والدروس والروضة وغيرها على ما حكي عن بعضها، بل
هو صريح بعضهم، بل صرح أيضا بوجوب الارسال، والأصل في ذلك
128

قول علي بن الحسين عليهما السلام في خبر الزهري (1) " إذا أخذت
أسيرا فعجز عن المشي ولم يكن معك محمل فأرسله ولا تقتله، فإنك
لا تدري ما حكم الإمام فيه " المنجبر بعمل ما عرفت، خصوصا ابن
إدريس منهم الذي لا يعمل بالمعتبر من أخبار الآحاد فضلا عن غيره لكن في
الدروس نسبة الأمر باطلاقه إلى النهاية بعد أن حكم بعدم حل قتله، وكأنه
مشعر بتردده فيه، قيل: ولعله لضعف الخبر، ولأن القتل يتعين عليه
فلا يجوز للمسلم أن يتركه وينصرف لما فيه من الاخلال بالواجب
وتقوية الكفار، بل ربما يؤدي ذلك إلى الاحتيال في الخلاص، ورد
بأنه اجتهاد في مقابلة النص المعتبر بالعمل ممن عرفت، قلت: إن كان
المراد من الأسير في محل البحث الذي أسر بعد انقضاء الحرب فلا إشكال
في عدم جواز قتله على كل حال، لما سمعته من النص والفتوى، ولعله
هو الظاهر منهما هنا، ضرورة كونه الذي لا يعلم حكم الإمام فيه
المن أو الفداء أو الاسترقاق، وإن كان المراد الذي أسر قبل انقضاء
الحرب على معنى عدم العلم بحكم الإمام في كيفية قتله، بل ربما فسر
به نحو عبارة المتن فقال: إن عدم جواز قتله لكونه من الحد
المختص بالإمام عليه السلام كالزاني المحصن وإن كان لا يخلو من
نظر أو منع، لكونه مشركا مأمورا بقتله أينما وجد، وربما يؤيده
في الجملة خبر علي بن جعفر (2) المروي عن قرب الإسناد عن أخيه
عليه السلام قال: " سألته عن رجل اشترى عبدا مشركا وهو في أرض
الشرك فقال العبد: لا أستطيع المشي، وخاف المسلمون أن يلحق
العبد بالعدو، أيحل قتله؟ قال: إذا خافوا فأقتله " ونحوه خبره

(1) الوسائل - الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 4.
(2) الوسائل - الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 4.
129

الآخر (1) المروي عن كتاب مسائله لأخيه عليه السلام إلا أنه قال:
" إذا خاف أن يلحق القوم يعني العدو حل قتله " بل لعل المفروض
أولى بالقتل، لكونه غير مال، هذا، ولكن ذلك كله لا يكون وجها
لما في الدروس من التردد في الأمر باطلاقه بعد جزمه بحرمة قتله.
نعم قد يتردد في عدم جواز قتله مما سمعت، بل ربما كان ذلك وجها
لتعبير المصنف بعدم وجوب القتل بناءا على كون مراده هذا الفرد من
الأسير على معنى أن عدم الوجوب حينئذ للجمع بين ما دل على الأمر
بقتل المشركين حيث وجدتموهم وبين ما دل على أن حكم الأسير للإمام
عليه السلام، وإن كان التحقيق ما عرفت، بل الظاهر عدم جواز سحب
الفرد الأول من الأسير مثلا بعنوان الاتيان به إلى الإمام عليه السلام
على وجه يؤدي إلى قتله، أما الثاني فلا يبعد جوازه، لكونه متعين القتل
(و) كيف كان ف‍ (لو بدر المسلم) أو كافر (فقتله) أي
الأسير بفردية (كان هدرا) بلا خلاف أجده فيه بيننا، لعدم احترامه
فلا يترتب عليه دية ولا كفارة، واحتمال استرقاق الإمام عليه السلام
الفرد الأول منه أو مفاداته على وجه يكون غنيمة لا يوجب ضمانه قبل
ذلك، كما هو واضح.
(ويجب أن يطعم الأسير ويسقى وإن أريد قتله) في ذلك الوقت
الذي يحتاج فيه إلى الاطعام كما صرح به غير واحد، بل نسب إلى
ظاهر الأصحاب، بل نفى الخلاف عنه عدا شاذ من المتأخرين، محتجين
عليه بصحيح أبي بصير (2) عن أبي عبد الله عليه السلام " سألته عن

(1) الوسائل - الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
(2) الوسائل الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
130

قول الله عز وجل (1): " ويطعمون الطعام على حبه " الآية قال: هو
الأسير وقال: الأسير يطعم وإن كان يقدم للقتل، وقال: إن عليا
عليه السلام كان يطعم من خلد في السجن من بيت مال المسلمين "
وبخبر مسعدة بن زياد (2) المروي عن قرب الإسناد عن جعفر عن
أبيه عليهما السلام " قال علي عليه السلام: إطعام الأسير والاحسان
إليه حق واجب وإن قتله من الغد " وبحسن زرارة وصحيحه (3) عن
أبي عبد الله عليه السلام " إطعام الأسير حق على من أسره وإن كان
يراد من الغد قتله، فإنه ينبغي أن يطعم ويسقى ويرفق به كافرا كان
أو غيره " ونحوه أخبار منصور بن حازم (4) وجراح المدائني (5)
وسليمان بن خالد (6) عنه عليه السلام أيضا، ولكن الانصاف انسياق
الندب من النصوص المزبورة بملاحظة بعض القرائن فيها، سيما خبر
أبي بصير المشتمل على تفسير الآية المساقة للمدح، مضافا إلى معلومية
عدم احترام نفس المشرك الذي هو شر الدواب المؤذية، بل طلب إتلافها
نعم قد يقال باطعامه لبقاء حياته حتى يصل إلى الإمام عليه السلام،
والله العالم.
(ويكره قتله صبرا) كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه
خلافا، لما في صحيح الحلبي (7) عن الصادق عليه السلام " لم يقتل
رسول الله صلى الله عليه وآله رجلا صبرا غير عقبة بن أبي معيط وطعن

(1) سورة الدهر - الآية 8.
(2) الوسائل - الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
(3) الوسائل - الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(4) الوسائل - الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(5) الوسائل - الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(6) الوسائل - الباب 32 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(7) الوسائل - الباب 66 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
131

ابن أبي خلف فمات بعد ذلك " ضرورة إشعاره بمرجوحيته التي لا ينافيها
وقوعه من رسول الله صلى الله عليه وآله المحتمل رجحانه لمقارنة أمر
آخر، على أن الحكم مما يتسامح فيه.
والمراد بالقتل صبرا أن يقيد يداه ورجلاه مثلا حال قتله، وحينئذ
فإذا أريد عدم الكراهة أطلقه وقتله، ولعل هذا هو المراد مما فسره به
غير واحد، بل نسبه بعض إلى المشهور من أنه الحبس للقتل، وفي
القاموس وصبر الانسان وغيره على القتل أن يحبس ويرمى حتى يموت
وقد قتله صبرا وصبره عليه، وأما ما قيل - كما حكاه في المسالك من
أنه التعذيب حتى يموت أو القتل جهرا بين الناس أو التهديد بالقتل
ثم القتل، وفي غيرها القتل وينظر إليه آخر، أو لا يطعم ولا يسقى
حتى يموت بالعطش والجوع - فلم أجد ما يشهد لها، بل الأخير منها
مناف لما سمعته من وجوب الاطعام والسقي ولكن قد نفى بعضهم البأس
عن كراهة الكل للتسامح.
(و) كذا يكره (حمل رأسه) أي الكافر المقتول (من
المعركة) لكونه تمثيلا أو كالتمثيل، ولاشعار عدم نقل رأس كافر
قط إلى رسول الله صلى الله عليه بمرجوحيته في الجملة، وللخوف من
فعل مثله بالمؤمن، من أن الحكم مما يتسامح فيه، نعم لو كان في
نقله نكبة للكفار وقوة للمسلمين أمكن زوالها، ولعله لذا حمل رأس
أبي جهل، بل في بعض الأخبار (1) حمل أمير المؤمنين عليه السلام
رأس عمرو بن عبد ود، والله العالم.
(ويجب مواراة الشهيد) وغيره من المؤمنين (دون الحربي)
وغيره من الكفار بلا خلاف ولا إشكال، بل قيل لا يجوز دفنه بلا

(1) البحار - ج 20 ص 206 الطبع الحديث.
132

إشكال فيه، وإن كان فيه نظر بل منع، للأصل السالم عن معارضة
حرمة التشريع بعد أن كان الدفن من المعاملة لا من العبادات، فهو
حينئذ في الكافر وغيره من الحيوانات حتى الكلب والخنزير على مقتضى
الأصول، والنهي في الصحيح (1) الآتي إنما يراد به في مقام توهم
وجوب مواراة الجميع ولو للمقدمة، فيراد منه حينئذ عدم وجوب ذلك
إلا من كان كميشا.
(و) كيف كان ف‍ (إن اشتبه يوارى من كان كميش الذكر)
منهم كما صرح به جماعة منهم الفاضل والشهيد، بل هو المحكي عن
ظاهر الشيخ أيضا، لحسن حماد بن عيسى أو صحيحة (2) عن أبي
عبد الله عليه السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر:
" لا تواروا إلا من كان كميشا يعني من كان ذكره صغيرا، قال:
ولا يكون ذلك إلا في كرام الناس " المعتضد بالمرسل عن علي عليه السلام
قال: " ينظر موتاهم فمن كان صغيرا لذكر يدفن " والمناقشة في
الأول بأنه مناف لحرمة النظر إلى العورة وبكونه قضية في واقعة لا
عموم فيها يدفعها إمكان النظر بواسطة جسم شفاف ترتسم فيه العورة
أو التزام الجواز هنا للضرورة إلى التمييز المرجح على الحرمة بالصحيح
أو غير ذلك، وملاحظة التعليل الظاهر في كون ذلك علامة للمؤمن،
وحينئذ يتجه كون الصلاة كذلك كما عن المبسوط التصريح به، فإنه
بعد أن ذكر مضمون الخبر المزبور قال: " فعلى هذا يصلى على من هذه
صفته، وإن قلنا إنه يصلى على كل واحد منهم منفردا بنية شرط إسلامه

(1) الوسائل - الباب 65 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(2) الوسائل - الباب 65 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
133

كان احتياطا، وإن قلنا إنه يصلى عليهم صلاة واحدة وينوي بالصلاة
الصلاة على المؤمنين منهم كان قويا " هذا، ولكن في السرائر بعد نسبة
الصحيح المزبور إلى الشذوذ أوجب القرعة في الدفن، لأنها لكل أمر
مشكل، قال: " وأما الصلاة عليهم فالأظهر من أقوال أصحابنا أن
يصلى عليهم بنية الصلاة على المسلمين دون الكفار " ولعله بناء على أصله
من عدم العمل بخبر الواحد وإن كان معتبر السند، إلا أن المتجه مع
الاعراض عنه دفن الجميع للمقدمة التي بها يرتفع الاشكال، فينتفي
موضوع القرعة، ودعوى تعارض مقدمة الحرام بمقدمة الواجب باعتبار
حرمة دفن الكافر يدفعها ما عرفت من عدم دليل على حرمته، ومن
هنا قال في التنقيح بعد ذكر الخبر المزبور دليلا لما في النافع: ولو قيل
بدفن الكل احتياطا كان حسنا، أما مع التأذي بهم فيدفنون جميعا
كل ذلك مضافا إلى الاغضاء عما ذكره من الفرق بين الدفن والصلاة
مع أن القرعة كما يكشف بها موضوع الأول يكشف بها موضوع الثاني
والصلاة على كل واحد بنية أنها على المسلم يأتي مثلها في الدفن،
واحتمال إرادة التعليق في نية الصلاة على الاسلام مناف للجزم في النية
نعم لو جمع الجميع وصلى على المسلمين منهم بنية واحدة وكان على وجه
لا فساد فيه من حيث البعد مثلا اتجه الصحة حينئذ، وبذلك كله ظهر
لك ما في المحكي عن المختلف من العمل بالنص في الدفن بخلاف الصلاة
فاختار ما سمعته من السرائر، وكيف كان فالأقوى العمل بالخبر المزبور
بعد جمعه لشرائط الحجية، ولكن مع ذلك لا ينبغي ترك الاحتياط
والله العالم.
(وحكم الطفل) ذكر أو أنثى تابع لأبويه في الاسلام والكفر
وما يتبعهما من الأحكام كالطهارة والنجاسة وغيرهما بلا خلاف أجده
134

فيه، بل الاجماع بقسميه عليه، مضافا إلى امكان القطع به من السنة
ففي الصحيح (1) " عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث
قال كفار " وفي الخبر (2) " أولاد المشركين مع آبائهم في النار، وأولاد
المسلمين مع آبائهم في الجنة " وفي المرسل (3) " أطفال المؤمنين يلحقون
بآبائهم، وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم " مضافا إلى قول الله تعالى (4)
" ألحقنا بهم ذريتهم " وإلى خصوص ما ورد في المواضع المتفرقة كجواز
إعطاء أطفال المؤمنين من الزكاة والكفارات (5) وجواز العقد عليهم
مطلقا (6) مع اشتراط الاسلام في جميع ذلك، وإلى تغسيلهم والصلاة
عليهم وغيرهما مما لا يحتاج إلى بيان.
وحينئذ فالطفل (المسبي) حكمه (حكم أبويه) المسبيين معه
(فإن أسلما أو أسلم أحدهما تبعه الولد) بلا خلاف أجده فيه،
كما اعترف به بعضهم كحالهم قبل السبي، قال حفص بن غياث (7)
" سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم
في دار الحرب فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك فقال إسلامه إسلام
لنفسه ولولده الصغار، وهم أحرار، وولده ومتاعه ورقيقه له، فأما

(1) البحار - ج 5 ص 295 - 294 - 292 الطبع الحديث.
(2) البحار - ج 5 ص 295 - 294 - 292 الطبع الحديث.
(3) البحار - ج 5 ص 295 - 294 - 292 الطبع الحديث.
(4) سورة الطور الآية 21.
(5) الوسائل - الباب 6 من أبواب المستحقين للزكاة والباب 17
من أبواب الكفارات من كتاب الايلاء والكفارات.
(6) الوسائل - الباب 11 و 12 من أبواب عقد النكاح من
كتاب النكاح.
(7) الوسائل الباب 43 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
135

الولد الكبار فهم فيئ للمسلمين إلا أن يكونوا أسلموا قبل ذلك، فأما
الدور والأرضون فهي فيئ فلا يكون له، لأن الأرض هي أرض جزية
لم يجر فيها حكم الاسلام، وليس بمنزلة ما ذكرناه، لأن ذلك يمكن
احتيازه واخراجه إلى دار الاسلام " مضافا إلى قاعدة (1) " أن الاسلام
يعلو ولا يعلى عليه " وإلى لحوق الولد بأشرف أبويه في الحرية، ففي
الاسلام أولى، وحينئذ فهو مسلم وإن سبي مع الكافر منهما مع فرض
إسلام الآخر من أبويه ولو في دار الحرب.
(و) أما (إن سبي) الطفل (منفردا) عن أبويه الكافرين
(قيل) والقائل الإسكافي والشيخ والقاضي فيما حكي عنهم واختاره
الشهيد (يتبع السابي في الاسلام) كما هو المحكي عن المخالفين
أجمع لأن الدين في الأطفال يثبت تبعا، وقد انقطعت تبعيته لأبويه
بانقطاعه عنهما وإخراجه عن دارهما، ومصيره إلى دار الاسلام تبعا
لسابيه المسلم، فكان تبعا له في الدين، ولقوله عليه السلام (2).
" كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "
أي وهما معه، فإذا انقطع عنهما وزالت المعية، انتفى المقتضي لكفره
فيرجع إلى الفطرة، معتضدا ذلك بنفي الحرج ونحوه، ولكنهما معا
كما ترى، ولذا كان ظاهر المصنف وغيره التوقف، بل صرح غير واحد
بعدم التبعية في الاسلام، للأصل وإطلاق ما سمعته من التبعية التي لا

(1) كنز العمال - ج 1 ص 17 الرقم 246 وجامع الصغير ج 1
ص 123.
(2) الوسائل - الباب 48 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
وصحيح مسلم ج 8 ص 52 المطبوع عام 1334
136

دليل على انقطاعها بانقطاعه عنهما، وإخراجه عن دراهما ومصيره إلى
دار الاسلام، على أن القائل بالتبعية للسابي لا يعتبر فيها كونه في دار
الاسلام، بل لو سباه وبقي معه في دار الكفر لتجارة ونحوها تبعه فيه
أيضا، كما أنه لو انفرد ولد الذميين عنهما تبعا لمسلم في دار الاسلام
لا يرتفع عنه الكفر إجماعا مع تحقق المفارقة، ودعوى أن العلة مركبة
من المفارقة وملك المسلم ودار الاسلام لا دليل عليها، والخبر المزبور
ظاهر في إرادة أن المولود لو خلي ونفسه لاختار الاسلام عند بلوغه،
ولكن أبواه يهودانه وينصرانه بتلقينهما ذلك إياه على وجه يختارهما عند
البلوغ، لمكان تعليمهما، وإلا لو كان المراد أن المولود ولادته على
الاسلام بمعنى أنه محكوم باسلامه لولا تبعيته لأبويه لانحصر المرتد في
الفطري، ولم يكن مرتد عن ملة، اللهم إلا أن يكون الفرق بينهما
بالتبعية المزبورة وعدمها.
وعلى كل حال فلا ظهور فيه، بل ربما كان ظاهرا في العكس
باعتبار دلالته على التبعية بمجرد الولادة التي مقتضى الأصل بقاؤها حتى
لو انفرد عنهما، ودعوى اشتراطها بكونه معهما لا دليل عليها، بل مقتضى
الاطلاق خلافها، كما أن مقتضى استصحاب التبعية المزبورة انقطاع
أصل الطهارة به، ونفي الحرج في الدين يمكن منع تحقق موضوعه كما
في سبي النساء، واستئجار الكافرين ونحو ذلك مما يمكن الانتفاع به
وهو على نجاسته.
ومن ذلك يظهر لك ما في القول بتبعيته للسابي في الطهارة خاصة
دون باقي أحكام الاسلام كما قربه الفاضل في القواعد وتبعه ولده في
الشرح والكركي في حاشيته على الكتاب، وهو المحكي عن ابن إدريس
لأصالة الطاهرة السالمة عن معارضة يقين النجاسة، وللحرج وللاقتصار
137

في الرخصة على موضع اليقين، إذ لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما
ذكرناه ما في الأوليين، وأما الأخير فإن ثبت إجماع عليه فذاك، وإلا
كان محلا للمنع، ودعوى منع شمول إطلاق دليل التبعية للفرض،
والاستصحاب إنما يكون حجة حيث يسلم عن المعارض، وفي محل البحث
ليس بسالم، لمعارضته باستصحاب طهارة الملاقي، يدفعها مضافا إلى ما
سمعت أن التحقيق عندنا تحكيم استصحاب النجاسة على استصحاب
طهارة الملاقي كما ذكرناه في محله، ومع التسليم فهو لا يقتضي الطهارة
ضرورة كون المتجه حينئذ العمل بهما معا بتحكيم نجاسة المسبي وطهارة
ملاقيه كما التزمه القائل في مواضع كثيرة، وهو غير المدعى من طهارة
المسبي، ومن الغريب ما ذكره هذا القائل بعد اعترافه بأن المتجه ما
ذكرناه بناءا على تعارض الاستصحابين، لكن قال: " حيث أن المهم
هنا هو طهارة الملاقي أو نجاسته مع عدم وجود الاجماع المركب المقطوع
به على تعارض الاستصحابين تعين القول بطهارته في هذا الفرع " إذ هو
كما ترى لا حاصل له، فالعمدة حينئذ الاجماع إن تم كما عرفت.
هذا كله مع سبيه منفردا عنهما، أما إذا سبي مع أحدهما فلا
خلاف في بقائه على الكفر، بل في الرياض هو بحكم الكافر قولا واحدا
منا لكن في المسالك بعد أن نسب البقاء على حكم الكفر إلى صريح
الشيخ قال: مع احتمال العدم على مذهبه، لما تقدم من أن الحكم
بكفره في الخبر أي خبر الفطرة معلق على الأبوين، فلا يثبت مع أحدهما
إلا أن دلالة المفهوم ضعيفة، قلت: مع احتمال أو ظهور كون المراد
كل منهما لا مجموعهما.
ولو مات الأبوان بعد سبيهما معا فمقتضى دليل الشيخ تبعيته
الآن للسابي، لكنه وافق هنا على عدم الحكم باسلامه محتجا بأنه مولود
138

من كافرين، فإذا ماتا أو مات أحدهما لم يحكم باسلامه كما لو كانا
في دار الحرب، وبأنه كافر أصلي فلا يحكم باسلامه بموت أبويه كالبالغ
ولا يخفى عليك جريان هذا بعينه فيما لو انفرد عنهما، ولا فرق في
شمول الخبر المزبور لهما.
كما أنه لا يخفى عليك ما يتفرع على القولين في التغسيل والتكفين
والصلاة عليه إن بلغ الست، ضرورة جريان حكم المسلم عليه على
القول بالتبعية بخلافه على القول الآخر وإن قلنا بطهارة ملاقيه، وكذا
لو بلغ، فإنه على الأول يحكم باسلامه وإن لم يسمع منه والاعتراف
به كولد المسلم، بخلافه على القول الآخر، بل الظاهر عدم الحكم
بطهارته حتى يصف الاسلام بعد بلوغه وإن قلنا بها قبل البلوغ، مع
احتمال استصحابها ما لم يعلم عدم الاسلام منه، لكن في المسالك الجزم
بعدم الحكم بطهارته بعد البلوغ، إلا أن يظهر الاسلام كغيره من
أولاد الكفار، قال: " ينبغي لمن ابتلى بذلك أن يعلمه ما يتحقق معه
الاسلام قبل البلوغ، ويستنطقه به عند البلوغ ليتحصل الحكم بالطهارة - ثم
قال: ولو اشتبه سنه وبلوغه بني على أصالة العدم، فيستصحب الطهارة
على القول الثاني، إلا أن يعلم، وينبغي مراعاته عند ظهور الأمارات
المفيدة للظن بالاختبار لعانته وتكرار الاقرار بالشهادتين في مختلف
الأوقات " قلت لعل المتجه بناءا على ما ذكرناه من الاحتمال عدم تكلف
ذلك وإن كان لا يحكم باسلامه حتى يسمع منه الاعتراف، إلا أنه
مستصحب الطهارة حتى يتحقق منه عدم الاسلام، واحتمال الاكتفاء
بأصالة عدم وصفه الاسلام محل بحث أو منع.
ولا يجوز تبعيته لغير المسلم بناء على القول الأول بخلافه على
الآخر، وربما احتمل العدم أيضا لتشبثه بالاسلام واتصافه منه ببعض
139

الأحكام بخلاف الكافر المحض ومن هو بحكمه، وبهذا يظهر أن القول
بتبعيته في الطهارة خاصة ليس هو أحوط القولين، بل الحكم باسلامه
أحوط في الأمر الأول والأخير، قلت لكن لا يخفى عليك ضعف
الاحتمال المزبور.
ولو مات قريبه المسلم وله وارث مسلم فعلى الأول يشاركه إن
كان في درجته، ويختص إن كان أقرب، وعلى الثاني الإرث للآخر
خاصة، ولو فرض أنه بلغ قبل القسمة مع تعدد الوراث وأسلم شارك
أو اختص على الثاني، ولو لم يكن لقريبه الميت وارث سواه اشتري من
التركة وورث على الأول، وكان الميراث للإمام على الثاني إلى غير ذلك
من الأحكام التي لا يخفى عليك جريانها بأدنى التفات، والله العالم.
(تفريع إذا أسر الزوج) البالغ (لم ينفسخ النكاح) للأصل
وغيره بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل عن ظاهر المنتهى، الاجماع
عليه، بل في المسالك هو موضع وفاق عندنا، نعم عن أبي حنيفة الانفساخ
بناء منه على ملك البالغ بالأسر الذي قد عرفت بطلانه عندنا، وأن
الإمام عليه السلام مخير فيه بين المن والفداء والاسترقاق إذا كان قد
أسر بعد تقضي الحرب
(و) حينئذ ف‍ (لو استرق) باختيار من
الإمام عليه السلام (انفسخ) النكاح (لتجدد الملك) الموجب
لانفساخ نكاحه بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل لعله اجماع، فيكون
هو الحجة وإلا فلا تنافي بين تجدد الملك وبقاء النكاح كما لا ينافيه بعد
الملك
(و) كذا (لو كان) الزوج (الأسير طفلا أو امرأة انفسخ
النكاح لتحقق الرق ب‍) مجرد (السبي) فيهما، وقد عرفت اقتضاءه
انفساخ النكاح، بل في ظاهر المنتهى ومحكي التذكرة الاجماع عليه في
الثانية، بل في الأول منهما دعواه صريحا فيها لو سبيت وحدها، بل
140

قال: ولا نعلم فيه خلافا، وظاهره بين المسلمين، وهو الحجة بعد قوله
تعالى (1) " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " بناءا على
كون المراد منها إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من ذوات الأزواج كما
عن ابن عباس، بل عن أبي سعيد الخدري (2) " أنه أصبنا سبايا يوم
أوطاس ولهن أزواج في قومهن فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وآله فنزلت " وعن النبي صلى الله عليه وآله (3) أنه قال: في سبي
أوطاس: " لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض " وهو
ظاهر في انفساخ النكاح، مؤيدا ذلك كله بأن ملك الرقبة أقوى من
ملك النكاح، فإذا طرء عليه أزاله وغيره، ولا فرق عندنا في انفساخ
نكاح المرأة لو سبيت وحدها بين أن يسبى زوجها بعدها بيوم أو بأزيد
أو بأنقص، لما سمعته من إطلاق الدليل، خلافا لأبي حنيفة فلا
ينفسخ إن سبي زوجها بعدها بيوم، وهو واضح الضعف.
(وكذا) ينفسخ النكاح عندنا كما في المنتهى ومحكي التذكرة
(لو أسر الزوجان) معا لحدوث الملك للزوجة بمجرد السبي، وهو
مقتض لانفساخ النكاح كما عرفت وإن لم يحصل الملك للزوج إذا فرض
كونه كبيرا ولم يكن قد اختار الإمام عليه السلام استرقاقه، خلافا لأبي
حنيفة وابن حنبل فلا ينفسخ، لأن الرق لا يمنع ابتداء فلا يقطع
استدامة كالعتق، وهو مصادرة بعد ما عرفت من الآية والرواية وغيرهما.
ولا فرق في ذلك بين أن يسبيهما رجل أو رجلان للاطلاق، لكن
في المنتهى والوجه أنه إذا سباهما رجل واحد وملكهما معا أن النكاح
باق، وله فسخه، وكذا لو بيعا من واحد، وفيه أنه مناف لما هو

(1) سورة النساء - الآية 28.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 124.
(3) سنن البيهقي ج 9 ص 124.
141

كالمجمع عليه باعترافه واعتراف غيره من انفساخ النكاح بتجدد الملك
كما عرفته سابقا في أفراد المسألة، وكون المالك واحدا لا يقتضي عدمه
(و) وهو واضح.
نعم (لو كان الزوجان مملوكين لم ينفسخ لأنه لم يحدث رق)
يقتضي انفساخ النكاح، وإنما هو تبديل مالك بمالك آخر كالبيع (و) نحوه
لكن (لو قيل بتخير الغانم في الفسخ) وعدمه (كان حسنا) كما
يتخير لو ملكهما بالبيع ونحوه، بل جزم به غير واحد ممن تأخر عن
المصنف لعموم ولاية السيد على مملوكه الذي هو كل على مولاه ولا
يقدر على شئ، خلافا للمحكي عن المبسوط والسرائر لما سمعته من
التعليل في المتن، ويمكن أن يريدا عدم الانفساخ قهرا كما عرفته في
أقسام المسألة، اللهم إلا أن يكونا قد صرحا بعدم التخيير ولم يحضرنا
عبارتاهما، هذا، وفي المسالك بعد أن ذكر ما حسنه المصنف حسن
قال: والحق به في التذكرة ما لو سباهما واحد وملكهما، فلا ينفسخ
النكاح إلا بفسخه، وكأنه أراد به ما لو سباهما في حال الغيبة فيمن
يدخل في إذن الإمام عليه السلام، فإنه يملكهما دفعة ويتخير في نكاحهما
وإلا كانت هي الأولى، لأن مجرد السبي لا مدخل له في الحكم بالنسبة
إلى الغانمين " قلت: الموجود في التذكرة ما سمعته سابقا في المنتهى
في غير المملوكين، وفيه ما عرفت.
(ولو سبيت امرأة) مثلا (فصولح أهلها على إطلاق أسير في
يد أهل الشرك فأطلق لم يجب إعادة المرأة) كما في القواعد والإرشاد
وغيرهما، بل لا أجد فيه خلافا، لفساد الصلح بحرمة أحد العوضين
الذي لا يستحقون أسره
(و) لكن (لو أعتقت) أي أطلقت (بعوض)
مالي بأن صولح أهلها بمال (جاز) لعموم أدلة الصلح (ما لم يكن
142

قد استولدها مسلم) فلا يجوز له حينئذ نقلها بالصلح، ولعل التعبير
في المتن عن الاطلاق بالعتق باعتبار أن ردها إلى الكفار إطلاق لها
من الملك فكان كالعتق، ثم إن ظاهر المصنف عدم جواز الصلح على
ردها متى استولدها مسلم مطلقا وإن لم يكن المالك لها، بل في حاشية
الكركي على الإرشاد " متى استولدها مسلم بحال من الأحوال لم ترد "
ووجهه حيث تكون أم ولد له ما دل على عدم جواز نقل أمهات الأولاد
أما غيرها فلا يخلو من إشكال أو منع ما لم يكن إجماع أو نحوه،
خصوصا بعد ما ستعرف من استرقاق الحربية الحاملة من مسلم،
لعموم الأدلة التي لا يكفي في تخصيصها مجرد احترامها من حيث كونها
أم ولد مسلم، والله العالم.
(ويلحق بهذا الطرف مسألتان: الأولى إذا أسلم الحربي في دار
الحرب حقن دمه وعصم ماله مما ينقل كالذهب والفضة والأمتعة دون
ما لا ينقل كالأرضين والعقار فإنها) فيئ (للمسلمين، ولحق به ولده
الأصاغر ولو كان فيهم حمل) بلا خلاف أجده في شئ من ذلك كما
اعترف به غير واحد، بل ولا إشكال بعد الأصل والعمومات وخصوص
خبر حفص بن غياث (1) المنجبر بما عرفت، قال: " سألت أبا
عبد الله عليه السلام عن رجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب
فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك فقال إسلامه إسلام لولده الصغار
وهم أحرار، وولده ومتاعه ورقيقه له، فأما الولد الكبار فهم فيئ
للمسلمين إلا أن يكونوا أسلموا قبل ذلك، فأما الدور والأرضون فهي
فيئ ولا يكون له، لأن الأرض هي أرض جزية لم يجر فيها حكم
الاسلام، وليس بمنزلة ما ذكرناه لأن ذلك يمكن احتيازه وإخراجه

(1) الوسائل - الباب 43 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
143

إلى دار الاسلام " بل منه يستفاد تبعية الولد للوالد في الاسلام والكفر
كما أن منه يستفاد حكم الحمل، ضرورة عدم اعتبار التولد في التبعية
للوالد، بل لعله أولى.
(و) حينئذ ف‍ (لو سبيت أم الحمل كانت رقا دون ولدها
منه) لما عرفته من تبعيته لوالده دونها، فإنها باقية على الكفر الأصلي
ومندرجة في عموم الأدلة وإطلاقها.
(وكذا لو كانت الحربية حاملا من مسلم بوطئ مباح) كوطئ
الشبهة ونحوها.
(ولو أعتق مسلم عبدا ذميا بالنذر) بناءا على اعتبار النذر في
جواز عتق العبد الكافر كما عن الشيخ في النهاية في مقابل القول بالجواز
مطلقا وعدمه كذلك، كما أشبعنا الكلام فيه في كتاب العتق.
وعلى كل حال (ف‍) لو (لحق بدار الحرب فأسره
المسلمون جاز استرقاقه) لعموم الأدلة، (وقيل) والقائل الشيخ في
محكي المبسوط (لا) يجوز استرقاقه (لتعلق ولاء المسلم به) ثم
قال: " ولو قلنا يصح ويبطل ولاء المسلم كان قويا " لكن لم يفرضه
كما فرضه المصنف من كونه معتقا بالنذر، ولعله أولى، لعدم ولاء
للمعتق بغير التبرع، ومن هنا قال في المسالك: " يمكن حمله على
ولاء ضمان الجريرة بأن يتعاقد المولى والمعتق بعد العتق على ضمانها،
فيثبت ولائهما " وإن كان هو كما ترى، كتعليل عدم الجواز بالولاء
الذي هو غير صالح لتخصيص العموم، ضرورة عدم منافاته له على معنى
أنه إن مات سائبة يثبت الولاء، وإلا فلا، أو يقال ببطلان الولاء
في الفرض المزبور كما سمعته في احتمال المبسوط
144

هذا كله لو أعتقه المسلم (و) أما (لو كان المعتق ذميا
استرق إجماعا) كما في محكي التذكرة والمنتهى، وهو الحجة بعد العموم
خلافا للشافعي في أحد وجهيه، فلا يجوز، لتعلق ولاء الذمي به، ورد
بأن سيده إذا التحق بدار الحرب جاز استرقاقه، فعبده أولى، وفيه
نظر، والعمدة الأول.
المسألة (الثانية إذا أسلم عبد الحربي في دار الحرب قبل مولاه
ملك نفسه بشرط أن يخرج قبل) مولاه (ولو خرج بعده كان على
رقه، ومنهم من لم يشترط خروجه، والأول أصح) وأشهر، بل المشهور
إذ هو فتوى الشيخ في النهاية والإسكافي وابن إدريس والفاضل والشهيدين
والكركي وغيرهم على ما حكي عن بعضهم، بل لم نجد فيه خلافا صريحا
نعم قال في محكي المبسوط بعد أن أفتى بما عليه المشهور: " وإن قلنا
إنه يصير حرا على كل حال كان قويا، ولعله لعموم نفي السبيل (1)
ولأن الاسلام يعلو ولا يعلى عليه (2) وكان قول المصنف في النافع:
" وفي اشتراط خروجه تردد " من ذلك، ومن ظاهر قوي السكوني (3)
عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام " إن النبي صلى الله عليه وآله
حين حاصر أهل الطائف قال: أيما عبد خرج إلينا قبل مولاه فهو حر
وأيما عبد خرج إلينا بعد مولاه فهو عبد " المنجبر بما عرفت والمعتضد
بالمروي من طرق العامة (4) قضى رسول الله صلى الله عليه وآله في العبد

(1) سورة النساء - الآية 140
(2) كنز العمال - ج 1 ص 17 الرقم 246 وجامع الصغير ج 1
ص 123
(3) الوسائل - الباب 44 من أبواب جهاد العدو الحديث 1
(4) المنتفي من أخبار المصطفى ج 2 ص 809 الرقم 4403
145

وسيده بقضيتين، قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده
أنه حر، فإن خرج سيده بعده لم يرد عليه، وقضى أن السيد إذا
خرج قبل العبد رد على سيده " وفي آخر (1) " كان
رسول الله صلى الله عليه وآله يعتق العبيد إذا جاؤوا قبل مواليهم "
وبالأصل وقاعدة الاقتصار على المتيقن، وليس هو إلا بعد الخروج، وغير
ذلك مما لا يخفى معه قوة القول بالاشتراط الذي لا ينافيه نفي السبيل
بعد الاجبار على البيع أو الاغتنام من سيده بالقهر والغلبة وغير ذلك
مما مر سابقا في البحث عما لو أسلم العبد في يد الكافر.
على كل حال فقد ظهر لك من ذلك كله المفروغية من حريته
مع فرض خروجه قبل سيده نصا وفتوى، بل عن المختلف الاجماع
عليه، وحينئذ فله أن يملك سيده لو كان صبيا أو امرأة ويغنم أموالهم
هذا، وفي المسالك بعد أن وافق المشهور قال: " للخبر ولأن اسلام
العبد لا ينافي ملك الكافر له، غايته أنه يجبر على بيعه، وإنما يملك
نفسه بالقهر لسيد، ولا يتحقق إلا بالخروج إلينا قبله، ولو أسلم بعده
لم يملك نفسه وإن خرج إلينا قبله، مع احتماله لاطلاق الخبر " قلت
لا يخفى عليك كون المراد من الخروج إلينا في الخبر أنه أسلم خارجا
إلينا، ولذا قال المصنف: ولو أسلم في دار الحرب " على أن الحكم
مخالف لأصالة بقاء الملك والسلطنة، فالمتجه الاقتصار فيه على المتيقن
وليس هو إلا من أسلم وخرج إلى المسلمين قبل مولاه، أما غيره فيبقى
على مقتضى الأصل المزبور، نعم صرح بعضهم بعدم الفرق في الحكم
المزبور بين الأمة والعبد، مع أن ظاهر العبارة وغيرها الاقتصار على
العبد، وبالجملة فالمدار في الخروج عن الأصل المزبور على الدليل المعتبر

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 229.
146

والله العالم.
(الطرف الخامس في أحكام الغنيمة و) تمام الكلام يحصل ب‍ (النظر
في الأقسام وأحكام الأرض المفتوحة وكيفية القسمة، أما الأول
فالغنيمة هي الفائدة المكتسبة سواء اكتسبت برأس مال كأرباح التجارات
أو بغيره كما يستفاد من دار الحرب) أو ما يحصل من حيازة
المباحات أو نحو ذلك مما تقدم في كتاب الخمس الذي يشهد له مضافا
إلى اللغة النصوص (1) المفسرة لها في الآية (2) بالفائدة، ولذا وجب
الخمس عندنا في غير غنائم دار الحرب، خلافا للعامة فخصوه بها بدعوى
انسياق ذلك من قوله تعالى " غنمتم " أو نقلها إليه المردودة على مدعيها
خصوصا بعد النص والفتوى على أنها مطلق الاستفادة بالتكسب
(و) لو بالأعمال.
نعم (النظر هنا يتعلق بالقسم الأخير) الذي هو ما
أخذته الفئة المجاهدة بالقهر والغلبة والحرب وإيجاف الخيل والركاب
(وهي إقسام ثلاثة: ما ينقل كالذهب والفضة والأمتعة، وما لا ينقل
كالأرض والعقار، وما هو سبي كالنساء والأطفال، والأول ينقسم
إلى ما يصح تملكه للمسلم، وذلك يدخل في الغنيمة، وهذا القسم
مختص به الغانمون بعد الخمس والجعائل) التي يجعلها الإمام عليه السلام
أو نائبه للمصالح كالدليل على عورة أو طريق أو غير ذلك مما قرره
الإمام عليه السلام أو نائبه من أجرة حافظ أو راع أو نحو ذلك فيبدء بأخذ ذلك
منها ثم يقسم الباقي بين الغانمين كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا
بل عن الغنية والمنتهى الاجماع عليه، بل لعله محصل، مضافا إلى ما تقدم

(1) الوسائل - الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس.
(2) سورة الأنفال - الآية 42.
147

في الخمس من النصوص (1).
(و) حينئذ ف‍ (لا يجوز لهم التصرف في شئ منه إلا بعد
القسمة والاختصاص) كما عن الشيخ في النهاية والحلبي والقاضي والحلي
منا، والزهري عن العامة، كغيره من الأموال المشتركة أو الإذن من
ذوي الحق، وفي النبوي (2) " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا
يلبس ثوبا من فيئ المسلمين حتى إذا خلقه رده فيه " ونزع أمير المؤمنين
عليه السلام إياهم حلل اليمن (3) معلوم
(وقيل) والقائل الشيخ
في المبسوط والإسكافي والفاضل وثاني الشهيدين وغيرهم على ما حكي عن
بعضهم: (يجوز لهم تناول ما لا بد منه كعليق الدابة وأكل الطعام)
من غير ضمان ولو كان غنيا، والمتناول حيوانا للأكل للأصل وظاهر ما
تسمعه من الأدلة، وإن احتمله في المنتهى في الحيوان، ولكن لا يخفى
ضعفه، بل لعله المشهور، بل ربما ظهر من عبارة الإسكافي عدم الخلاف
فيه، بل في المنتهى قد أجمع أهل العلم على جواز التصرف في الطعام
وعلف الدواب إلا من شذ " ونحوه في التذكرة، لخبر مسعدة بن
صدقة (4) عن الصادق عليه السلام المتقدم سابقا المشتمل على وصية
النبي صلى الله عليه وآله " لا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعا
لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم ما
يؤكل لحمه إلا ما لا بد لكم من أكله " وغيره (5) من النصوص المعتضدة

(1) الوسائل الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس والباب 1
من أبواب قسمة الخمس.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 62.
(3) سيرة ابن هشام - القسم الثاني ص 603.
(4) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 20.
(5) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 20.
148

بقاعدة العسر والحرج، خصوصا العلف ونحوه مما لا يمكن نقله إلى
دار الحرب ولا شراؤه ولو لعدم الثمن، وبالمروي في طرق العامة عن
ابن عمر (1) كنا نصيب العسل والفواكه في مغازينا فنأكله ولا نرفعه "
وعن عبد الله بن أبي أوفى (2) " أصبنا طعاما يوم خيبر وكان الرجل
يأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف " بل قيل وبقوله تعالى (3)
" فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا " وإن كان فيه ما لا يخفى.
نعم ينبغي الاقتصار فيما خالف قاعدة الشركة على المتيقن، فلا
يجوز مع عدم الحاجة كما صرح به الفاضل وغيره، مضافا إلى قوله
عليه السلام في خبر مسعدة " لا تعقروا " إلى آخره، خلافا لبعض
العامة، بل ينبغي الاقتصار على ما جرت العادة بتناوله لا ما اتفق
احتياجه لبعض الأفراد منهم، كل ذلك لقاعدة الاقتصار فيما خالف
الأصل على ما اقتضاه الدليل الشرعي، ولذا قال في المسالك: " يجب
الاقتصار على الأكل في دار الحرب والمفازة التي في الطريق، أما عمران
دار الاسلام التي يمكن الشراء فيها فيجب الامساك فيها " لكن قال
فيها أيضا وتناول الأدوية ونحوها في حكم الطعام دون غسل الثوب
بالصابون وإن احتيج إليه، وقد عرفت الاشكال في الأدوية ونحوها مما
لم يكن معتادا تناوله، ويؤيده ما في المنتهى قال: " الدهن المأكول
يجوز استعماله في الطعام عند الحاجة، لأنه طعام فأشبه الحنطة والشعير
ولو كان غير مأكول فاحتاج إلى أن يدهن به أو يدهن به دابته لم يكن
له ذلك إلا بالقيمة، قاله الشافعي، لأنه مما لا تعم الحاجة إليه ولا

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 59.
(2) تيسير الوصول ج 1 ص 249.
(3) سورة الأنفال - الآية 70.
149

هو طعام ولا علف، وقال بعض الجمهور: يجوز استعماله، لأن الحاجة
إلى ذلك كالحاجة إلى الطعام " ولكن فيه أيضا: " يجوز أن يأكل ما
يتداوى به أو يشر به كالجلاب والسكنجبين وغيرهما عند الحاجة، لأنه
من الطعام، ولأنه محتاج إليه فأشبه الفواكه " وإن كان هو كما ترى
والتحقيق ما عرفت، فلا يجوز استعمال جلد الحيوان الذي ذبحه للأكل
بجعله سقاء أو نعلا، فلو فعل وجب عليه رده إلى المغنم، وعليه أجرة
المثل وأرش ما نقص باستعماله، وليس له ما زاد بفعله، لأنه متعد
هذا، وفي المنتهى " لا يجوز الانتفاع بجلودهم ولا اتخاذ النعال منها
ولا الجورب ولا الخيوط ولا الحبال، وبه قال الشافعي، ورخص مالك
في الحبل يتخذ من الشعر، والنعل والخف يتخذ من جلود البقر، لنا
أنه مال مغنوم، فلا يختص به بعض الغانمين كغير الطعام، ولأنه
روي " أن قيس بن أبي حازم، قال: إن رجلا أتى رسول الله
صلى الله بكبة من شعر المغنم فقال يا رسول الله: إنا نعمل الشعر فهبها
لي قال: نصيبي منها لك " والظاهر أنه لو كان سائغا لما خص النبي
صلى الله عليه وآله العطية بنصيبه، ولأنه مال مغنوم لا تدعو الحاجة
العامة إلى أخذه، فلم يجز كالثياب وغيرها " قلت: قد يناقش في أصل
الموضوع بعد الاغضاء عن كثير مما فيه بأن الجلود التي توجد عندهم
محكوم بكونها ميتة، فلا تدخل في الغنيمة، والله العالم.
(و) ينقسم أيضا (إلى ما لا يصح تملكه كالخمر والخنزير)
ونحوهما من كتب الضلال حتى التوراة والإنجيل المحرفين (و) هذا
(لا يدخل في الغنيمة) قطعا (بل ينبغي إتلافه كالخنزير أو
يجوز إتلافه و) يؤخذ ظرفه غنيمة أو (إبقاؤه للتخليل كالخمر) لأنه
150

ليس ما لا بالفعل، وكتب الضلال إن أمكن الانتفاع بجلودها بل
وبورقها بعد الغسل كانت غنيمة، وإلا فلا، وجوارح الصيد كالفهود
والبزاة والكلاب غنيمة، وفي المنتهى " ولو لم يرغب فيها أحد من
الغانمين جاز إرسالها وإعطاؤها غير الغانمين، ولو رغب فيها بعض
الغانمين دفعت إليه، ولا تحتسب عليه من نصيبه، لأنه لا قيمة لها
وإن رغب فيها الجميع قسمت، ولو تعذرت القسمة أو تنازعوا في الجيد
منها أقرع بينهم " ولا يخفى عليك ما فيه من الاشكال، ضرورة كونها
أموالا مقومة فحالها كحال باقي الغنيمة، هذه، وربما يستفاد من
التخيير المزبور أن النجاسة لا تثبت بالقرائن الحالية ما لم يحصل العلم
بها، وإلا لم يطهر خمرهم بالتخليل، لاحتمال نجاسته في أيديهم بغير
الخمرية، والله العالم.
(فروع: الأول إذا باع أحد الغانمين غانما شيئا) مما اغتنمه
(أو وهبة لم يصح) سواء قلنا بملك الغانم حصته بمجرد الاغتنام
والاستيلاء جمعوها في دار الحرب أو الاسلام كما صرح به غير واحد
منا، بل هو ظاهر الجميع كما أنه ظاهر الأدلة التي منها ما دل (1)
على أن الخمس للإمام عليه السلام الظاهر في ملك غيره الباقي خصوصا
بعد مقابلته بملك الإمام عليه السلام الجميع إن لم تكن الغنيمة بإذنه
ولأنه كحيازة المباح، وإلا بقي مالا بلا مالك بعد زوال ملك الكافر
عنه، أو قلنا بملكه مع الجمع في دار الاسلام كما عن أبي حنيفة،
أو باختيار التملك كما عن أبي إسحاق الشيرازي، أو بالغنيمة بمعنى
كونها موجبة له أو كاشفة عن حصوله بالاستيلاء، وإن كان ما عدا
الأول منها واضح الضعف، ولا ينافيه خروجه عن الملك بالاعراض عنه

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب قسمة الخمس.
151

قبول القسمة بناءا على زواله به في غير المقام من الأموال المملوكة، ولا
جواز تخصيص الإمام (ع) كل شخص أو طائفة بنوع من الأموال إجماعا
كما عن المختلف، ضرورة كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم على أن له
الولاية هنا على هذا الوجه، فيقسم بينهم حينئذ قسمة إجبار لا اختيار
ولا عدم وجوب حق على أحد منهم قبل القسمة، لعدم تمامية الملك
التي هي شرط في وجوب الزكاة مثلا كما تقدم الكلام فيه في محله،
ولا دخول المدد والمولود بعد الحيازة معهم، ضرورة كونه كملك الوقف
التي يتساوى فيه المتجدد والسابق مع فرض الجميع موقوفا عليهم، وعلى
كل حال فلا يصح البيع ولا الهبة، أما على القول بعدم الملك فظاهر
لاعتباره فيهما، وأما عليه فللجهل بمقداره بل وبعينه، لجواز تخصيص
الإمام عليه السلام كلا منهم بعين.
(و) لكن (يمكن أن يقال يصح في قدر حصته) بل في المنتهى
نسبته إلى القيل، بل لا يخلو من قوة، وإن نوقش بالجهل بقدرها
وعدم العلم بالعين، إذ يمكن تخصيص الإمام عليه السلام غيره بها،
إلا أنه قد يدفع بعدم اعتبار العلم بالقدر بعد أن كان البيع واقعا على
العين المعينة التي يكفي العلم بها، وجواز التخصيص لا ينافي صحة
البيع حال البيع، إذ أقصاه كون المشتري كالبايع في الاستحقاق وإن
جاز للإمام عليه السلام التخصيص، وبذلك يظهر لك حال ما في المنتهى
وحاشية الكركي والمسالك وغيرها.
(و) كيف كان ف‍ (يكون الثاني أحق باليد على) ما استولى
عليه من المبيع أو الموهوب في (قول) صرح به الفاضل وثاني الشهيدين
وغيرهما، فلا يجب على المشتري رده على البائع أو الواهب ولا لهما
152

قهره عليه، ضرورة تساويهما في الاستحقاق من حيث الاغتنام ويزداد
ذو اليد بها كالبايع قبل البيع، وفيه أنه مناف لاستصحاب أحقية
الأول بعد فساد المعاملة التي كان الدفع من البائع بعنوان الصحة المفروض
عدمها، هذا، وفي المسالك وقول المصنف " ويكون " إلى آخره معطوف
على قوله: " لم يصح " لا على الاحتمال، والمعنى أن البيع ونحوه وإن
لم يصح لكن يكون المدفوع إليه أحق بما وصل إليه من " الدافع " وفيه
أن رجوعه إليهما كما أشرنا إليه في شرح العبارة أولى، ضرورة ثبوت
الأولوية المزبورة له على التقديرين بناءا على ما سمعته من كلامهم وإن
كان فيه ما عرفت، بل لعل الأحقية على الثاني أولى، والله العالم.
(و) على كل حال ف‍ (لو خرج هذا) القابض (إلى دار الحرب
أعاده إلى المغنم لا إلى دافعه) الذي قد عرفت ترجيح القابض عليه،
فهو حينئذ كالأمانة عنده لجميع المسلمين، نعم لو دفعه إليه بهذا الاعتبار
بعد فرض كونه مأمونا جاز، إذ المراد أنه لا يستحق عليه الدفع إليه
باعتبار اليد الأولى التي فرض زوالها باستيلاء الثاني، ثم على القول
بعدم جواز البيع لا فرق في الغنيمة بين ما جاز للغانم تناوله للحاجة
وغيره، إذ جواز التناول لها لا يجوز له البيع ونحوه مما يعتبر فيه الملك
المفروض عدمه، بل هو كتناول الضيف الطعام المباح له أكله الذي
من المعلوم عدم جواز البيع له، ومن هنا يتجه جواز مبايعة صاع
بصاعين، لعدم كونها مبايعة حقيقة، بل هي مجرد مبادلة وانتقال من
يد إلى يد، ولو أقرض غانم غيره من الغانمين طعاما أو علفا من
الغنيمة حيث يجوز له التناول لم يكن قرضا حقيقة، لعدم ملكه إياه،
وإنما هو مباح له، فإذا جعله في يد الغير كان حقه ثابتا عليه كالأول
ولو فرض رده عليه كان المردود عليه أحق به، لثبوت يده عليه، لا
153

لأنه وفاء قرض، إلى غير ذلك من الفروع التي أطنب فيها العامة مع
اختلاف فيها بينهم، إلا أنها واضحة الحكم على أصولنا.
هذا كله إذا كان القابض غانما (و) أما (لو كان القابض
من غير الغانمين لم تقر يده عليه) بلا خلاف ولا إشكال على تقدير فساد
البيع والهبة مثلا، ضرورة عدم حق له في الغنيمة بخلاف الغانم،
كما هو واضح.
(الثاني) لا خلاف أجده بيننا في أن (الأشياء المباحة في
الأصل كالصيود والأشجار) ونحوها في دار الحرب (لا يختص بها
أحد، ويجوز تملكها لكل مسلم) بل ولا إشكال، ضرورة بقائها على
الإباحة الأصلية، وليست من الغنيمة في شئ بعد أن لم تكن مملوكة
لأهل الحرب، خلافا لبعض العامة فجعلها منها (و) هو واضح
الفساد، نعم (لو كان عليه أثر ملك وهو في دار الحرب كان غنيمة
بناءا على الظاهر) من كونه ملكا لأهل الحرب نحو ما كان مثله في بلاد
الاسلام (كالطير المقصوص والأشجار المقطوعة) والأخشاب المنجورة
والأحجار المنحوتة بلا خلاف أجده فيه بل ولا إشكال، والله العالم.
(الثالث لو وجد شئ في دار الحرب يحتمل أن يكون للمسلمين ولأهل
الحرب كالخيمة والسلاح) ونحوهما (فحكمه حكم اللقطة) كما
صرح به الفاضل وثاني الشهيدين وغيرهما، لصدق تعريفها بأنها
مال ضائع عليه، فيعرف حينئذ سنة، ويتخير الملتقط بين التملك وغيره
نحو باقي أفراد اللقطة (و) لكن (قيل) والقائل الشيخ فيما
حكي عنه: (يعرف سنة) لصدق اللقطة (ثم يلحق بالغنيمة)
لأنه لو كان له مالك مسلم لظهر (وهو) كما ترى (تحكم) بارد
فإن التعريف سنة يقتضي اندراجها في موضوع اللقطة التي حكمها ما
154

عرفت نصا وفتوى، وعدم ظهور المالك المسلم لا يقتضي كونها للحربي
ودعوى ظهور وجدانها في ذلك تقتضي عدم وجوب التعريف سنة الذي
هو حكم اللقطة، بل تكون غنيمة كما هو واضح.
(الرابع إذا كان في الغنيمة من ينعتق على بعض الغانمين قيل)
والقائل الشيخ والفاضل وغيرهما فيما حكي (ينعتق نصيبه) بل لعله
لازم القول بالملك بالاستيلاء والاغتنام الذي قد عرفت أنه قول أصحابنا
ضرورة اندراجه فيما دل على الانعتاق (و) دعوى عدم شموله لمثل
هذا الملك لضعفه وإمكان زواله واضحة المنع بعد ترتب الانعتاق بملك
العامل نصيبه من الربح الذي يمكن زواله أيضا، نعم (لا يجب)
عليه (أن يشتري حصص الباقين) كما عن غير واحد التصريح به، لأن
الملك فيه قهري إذا كان السابي غيره، أما إذا كان هو فالمتجه الانعتاق
لكونه مختارا في سببه كما لو اشتراه، إلا أن القائل أطلق، ويمكن
تنزيله على الأول (وقيل) ولكن لا نعرف القائل بعينه (لا ينعتق
إلا أن يجعله الإمام عليه السلام في حصته أو في حصة جماعة هو أحدهم
ثم يرضى هو فيلزمه شراء حصص الباقين إن كان موسرا) لعدم الملك
قبل ذلك، أو عدم اعتباره على وجه يترتب عليه الانعتاق، لعدم تماميته
إلا به، وإن كان فيه منع واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه، ولعل
اعتبار الرضا ليترتب عليه وجوب شراء حصص الباقين باعتبار كون
الملك حينئذ فيه اختياريا، أما مع عدم رضاه فلا يجب، لكون الملك
فيه حينئذ قهريا، لما عرفت من أن الإمام عليه السلام يقسم الغنيمة
بينهم قسمة إجبار لا تشهي واختيار، فالمراد أنه حينئذ إن اتفق كون
القسمة برضاه وجب عليه شراء حصص الباقين، وإلا لم يجب، لا أن
رضاه معتبر في أصل القسمة.
155

هذا كله فيما ينقل من الغنيمة،
(وأما ما لا ينقل) كالأراضي
(فهو للمسلمين قاطبة) بلا خلاف ولا إشكال فيه نصا وفتوى، بل
الاجماع بقسميه عليه، مضافا إلى النصوص (1) (وفيه الخمس) باعتبار
كونه من الغنيمة (و) لكن (الإمام عليه السلام مخير بين إفراز
خمسه لأربابه وبين إبقائه وإخراج الخمس من ارتفاعه) وحينئذ
فمقتضى ذلك ثبوت الخمس في الأراضي المفتوحة عنوة الآن كما عن
الشيخ وغيره التصريح به، لكن قد ذكرنا في كتاب الخمس أن السيرة
المستمرة في هذا الزمان على عدم إخراج من تمكن من شئ منها ذلك
بل النصوص (2) التي تعرضت للخراج والإذن فيها للشيعة خالية أيضا
عن ذلك، بل في بعضها (3) التصريح بكون الأرض وخراجها للمسلمين
فيمكن أن يكون حين القسمة جعل الخمس في غيرها، أو أنه مندرج
في نصوص التحليل (4) أو غير ذلك، وعن بعض حواشي القواعد تقييد
خروج الخمس منها بحال ظهور الإمام عليه السلام، أما حال الغيبة ففي
الأخبار أنه لا خمس فيها، ولعله يريد ما ذكرنا من النصوص، ولكن
مع ذلك كله لا ريب في أن احتياط خروجه من ارتفاعها وتمام الكلام
قد تقدم في كتاب الخمس.
(وأما) السبي كا (لنساء والذراري ف‍) لا خلاف ولا إشكال
نصا وفتوى في أنه (من جملة الغنائم) و (لكن) يختص بهم

(1) الوسائل - الباب 71 - 72 من أبواب جهاد العدو والباب 21 من أبواب عقد البيع من كتاب التجارة.
(2) الوسائل - الباب 71 - 72 من أبواب جهاد العدو والباب 21 من أبواب عقد البيع من كتاب التجارة.
(3) الوسائل - الباب 71 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(4) الوسائل - الباب 4 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.
156

الغانمون وفيهم الخمس لمستحقه) كغيرهم من غنائم دار الحرب المنقولة والله العالم.
(الثاني في أحكام الأرضين، كل أرض فتحت عنوة) بفتح العين
وسكون النون الخضوع، ومنه قوله تعالى (1): " وعنت الوجوه " والمراد
هنا القهر والغلبة بالسيف (وكانت محياة) حال الفتح (فهي للمسلمين
قاطبة الحاضرين والغائبين والمتجددين بولادة وغيرها (والغانمون في
الجملة) لا اختصاص لأحد منهم بشئ منها بلا خلاف أجده في شئ
من ذلك بيننا، وإن توهم من عبارة الكافي في تفسير الفيئ والأنفال
ولعله لذا نسب إلى المشهور في الكفاية، لكنه في غير محله كما
لا يخفى على من لاحظها، بل في الغنية والمنتهى وقاطعة اللجاج للكركي
والرياض وموضعين من الخلاف بل والتذكرة على ما حكي عن بعضها
الاجماع عليه، بل هو محصل، نعم عن بعض العامة اختصاص الغانمين
بها كغيرها من الغنائم، مضافا إلى صحيح الحلبي (2) " سألت أبا
عبد الله عليه السلام السواد ما منزلته؟ قال: هو لجميع المسلمين لمن
هو اليوم ولمن يدخل في الاسلام بعد اليوم ومن لم يخلق بعد، فقلت:
الشراء من الدهاقين قال: لا يصلح إلا أن تشتري منهم على أن تصيرها
للمسلمين، فإن شاء ولي الأمر أن يأخذه فله، قلت: فإن أخذها
منه قال: رد إليه رأس ماله، وله ما أكل من غلتها بما عمل "
وصحيح أبي الربيع الشامي (3) عنه (ع) أيضا " لا تشتر من أرض السواد

(1) سورة طه الآية 110.
(2) الوسائل - الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 4 - 5 من كتاب التجارة.
(3) الوسائل - الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 4 - 5 من كتاب التجارة.
157

شيئا إلا من كان له ذمة، فإنما هي فيئ للمسلمين " وصحيح صفوان (1)
قال: " حدثني أبو بردة بن رجا قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام
كيف ترى في شراء أرض الخراج قال: ومن يبيع ذلك وهي أرض
المسلمين، قال: قلت: يبيعها الذي هو في يده قال: ويصنع بخراج
المسلمين ماذا؟ ثم قال: لا بأس إن اشترى حقه منها وتحول حق المسلمين عليه
ولعله يكون أقوى عليها وأملى بخراجهم " وخبر محمد بن شريح (2)
" سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شراء الأرض من أرض الخراج
فكرهه، وقال: إنما أرض الخراج للمسلمين " ومرسل حماد (3) عن
أبي الحسن الأول عليه السلام " الأرض التي أخذت عنوة بخيل وركاب
فهي موقوفة بيدي من يعمرها ويحييها، ويقوم عليها على صلح ما يصالحهم
الإمام عليه السلام على قدر طاقتهم من الخراج النصف أو الثلث أو الثلثان
على قدر ما يكون لهم صلحا ولا يضر بهم، فإذا خرج منها نماها فاخرج منه العشر من
الجميع مما سقت السماء أو سقي سيحا، ونصف العشر مما سقي بالدوالي والنواضح
فأخذه الوالي فوجهه في الوجه الذي وجهه الله له على ثمانية أسهم للفقراء
والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن
السبيل ثمانية أسهم يقسمها بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا
ضيق ولا تقتير، فإن فضل من ذلك شئ رد إلى الوالي، وإن نقص من
ذلك شئ ولم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم
حتى يستغنوا، ويؤخذ بعد ما يبقى من العشر فيقسمه بين الموالي وبين
شركائه الذين هم عمال الأرض وأكرتها، فيدفع إليهم أنصباءهم على

(1) الوسائل - الباب 71 من أبواب العدو الحديث 1.
(2) الوسائل - الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 9 من
كتاب التجارة.
(3) أصول الكافي ج 1 ص 541.
158

ما صالحهم عليه، ويأخذ الباقي، فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين
الله وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الاسلام وتقوية الدين وفي وجوه
الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة، وليس لنفسه من ذلك قليل
ولا كثير " إلى غير ذلك من النصوص.
والمراد بأرض السواد كما في المنتهى " الأرض المغنومة من الفرس
التي فتحت في زمن عمر بن الخطاب، وهي سواد العراق، وحده في
العرض من منقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية المتصل بعذيب من
أرض العرب، ومن تخوم موصل طولا إلى ساحل البحر ببلاد عبادان
من شرقي دجلة، فأما الغربي الذي يليه البصرة فإنما هو إسلامي قبل
شط عثمان بن أبي العاص، وما والاها كانت سباخا مواتا فأحياها عثمان
ابن أبي العاص، وسميت هذه الأرض سوادا لأن الجيش لما خرجوا من
البادية رأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سموها السواد لذلك، وهذه
الأرض لما فتحت أرسل إليها عمر بن الخطاب ثلاثة أنفس: عمار بن
ياسر على صلاتهم أميرا، وابن مسعود قاضيا وواليا على بيت المال،
وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، وفرض لهم في كل يوم شاة شطرها
من السواقط لعمار، وشطرها للآخرين، وقال: ما أرى قرية يؤخذ
منها كل يوم شاة إلا سريع خرابها، ومسح عثمان بن حنيف أرض الخراج فقيل
اثنان وثلاثون ألف ألف جريب، وقيل ستة وثلاثون ألف إلف جريب ثم ضرب
على كل جريب نخل عشرة دراهم، وعلى الكرم ثمانية دراهم، وعلى جريب
الشجر والرطبة ستة دراهم، وعلى الحنطة أربعة دراهم، وعلى الشعير
درهمين، ثم كتب بذلك إلى عمر فأمضاه " وروي أن ارتفاعها كان
في عهد عمر مائة وستين ألف ألف درهم، ولما أفضى الأمر إلى أمير
المؤمنين عليه السلام أمضى ذلك، لأنه لم يمكنه المخالفة والحكم بما
159

عنده، فلما كان زمن الحجاج رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف درهم
فلما ولي عمر بن عبد العزيز رجع إلى ثلاثين ألف ألف درهم في أول
سنة، وفي الثمانية إلى ستين ألف ألف درهم، وقال: لو عشت سنة
أخرى لرددتها إلى ما كان في أيام عمر، فمات تلك السنة.
وربما أشكل الاستدلال بخبري السواد بأنه لم يفتح بإذن الإمام
عليه السلام فهو من الأنفال لا للمسلمين، فيكون ما فيها من الحكم
بأنها لهم للتقية، قال الشيخ بعد أن ذكر حكم هذه الأراضي المفتوحة
عنوة: وعلى الرواية (1) التي رواها أصحابنا " أن كل عسكر أو فرقة
غزت بغير أمر الإمام عليه السلام فغنمت تكون الغنيمة للإمام عليه السلام
خاصة " تكون هذه الأرضون وغيرها مما فتحت عنوة بعد الرسول صلى
الله عليه وآله إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين عليه السلام إن صح شئ
من ذلك يكون للإمام عليه السلام خاصة، ويكون من جملة الأنفال
التي له عليه السلام خاصة لا يشركه فيها غيره، وربما يؤيد ذلك
تعليلهم عليهم السلام لشيعتهم خاصة التصرف في نحو ذلك لتطيب مواليدهم
وربما دفع بمنع اعتبار إذن الإمام عليه السلام في خصوص الأراضي
ناسبا له إلى الشيخ في ظاهر المبسوط مستدلا له باطلاق بعض الأصحاب
أن الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين، وعدهم أرض العراق والشام منها
مع أنها لم تكن بإذن الإمام كاطلاق بعض النصوص، ولكنه وهم واضح
وكأنه لم يلحظ آخر عبارة الشيخ التي حكيناها عنه، بل يمكن دعوى
القطع باعتبار إذن الإمام عليه السلام في ذلك من غير فرق بين الأرض

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأنفال الحديث 16 من
كتاب الخمس.
160

وغيرها، وإطلاقهم مبني على ما صرحوا به في المقام وغيره.
نعم قد يقال بصدور الإذن منهم عليهم السلام في ذلك، ففي
قاطعة اللجاج قد سمعنا أن عمر استشار أمير المؤمنين عليه السلام في
ذلك، ومما يدل عليه فعل عمار فإنه من خلفاء أمير المؤمنين عليه السلام
ولولا أمره لما ساغ له الدخول في أمرها، وفي الكفاية الظاهر أن
الفتوح التي وقعت في زمن عمر كانت بإذن أمير المؤمنين عليه السلام
لأن عمر كان يشاور الصحابة خصوصا أمير المؤمنين عليه السلام في تدبير
الحروب وغيرها، وكان لا يصدر إلا عن رأي علي عليه السلام، وكان
النبي صلى الله عليه وآله قد أخبر بالفتوح وغلبة المسلمين على الفرس
والروم، وقبول سلمان تولية المدائن وعمار إمارة العساكر مع ما
روي فيهما قرينة على ذلك، وعن الصدوق أنه روي مرسلا (1) استشارة
عمر عليا عليه السلام في هذه الأراضي فقال: دعها عدة للمسلمين،
وعن بعض التواريخ أن عمر لما رأي المغلوبية في عسكر الاسلام في غالب
الأسفار والأوقات استدعى من أمير المؤمنين عليه السلام أن يرسل الحسن
عليه السلام إلى محاربة يزدجرد فأجابه وأرسله، وحكي أنه ورد ري
وشهريار، وفي المراجعة ورد قم وارتحل منها إلى كهنك، ومنها إلى
أردستان، ومنها إلى قهبان، ومنها إلى أصفهان، وصلى في المسجد الجامع
العتيق، واغتسل في الحمام الذي كان متصلا بالمسجد، ثم نزل لنبان
وصلى في مسجده، إلا أن ذلك كما ترى لا يعول عليه بعد عدم كونه
بسند معتبر، ويحتمل بعضه أو جميعه غير صدور الإذن، لكن قد يقال
بأن الحكم في النصوص المعتبرة السابقة بكون هذه الأراضي للمسلمين

(1) الموجود في كتاب الخراج للقرشي ص 42 وكتاب الخراج لأبي يوسف
ص 36 وكتاب الأموال لأبي عبيد ص 59 أن عمر استشار أصحاب النبي صلى الله عليه وآله في
الفلاحين من أرض السواد فقال علي (ع): " دعهم يكونوا مادة للمسلمين ".
161

بعد معلومية اعتبار الإذن فيها شاهد على صدورها منهم عليهم السلام،
ولعله أولى من الحمل على التقية، خصوصا بعد عدم معروفيته بين العامة
وإنما يحكى عن مالك منهم ولم يكن مذهبه معروفا كي يتقى منه،
خصوصا بعد مخالفة الشافعي وأبي حنيفة له.
وعلى كل حال فظاهر النصوص والفتاوى بل صريح بعضها أنها
ملك المسلمين برقبتها، ويتبعه ارتفاعها، وربما ظهر من ثاني الشهيدين
سيما في الروضة عدم كون المراد ملك الرقبة، بل المراد صرف حاصلها
في مصالح المسلمين، بل في الكفاية أن المراد بكونها للمسلمين أن الإمام
يأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين على حسب ما يراه، لا أن
من شاء من المسلمين له التسلط عليها أو على بعضها بلا خلاف في ذلك
بل عن مجمع البرهان معنى كون هذه الأرض للمسلمين كونها معدة
لمصالحهم العامة مثل بناء القناطر، ثم قال: " لأنهم ليسوا بمالكين في
الحقيقة، بل هي أرض جعلها الله تعالى كالوقف على مصالح المستأجر
وغيره من المسلمين، لا أنها ملك للمسلمين على الشركة " ومن هنا
جعل بعض الناس المسألة خلافية، وذكر فيها قولين، لكن يمكن إرادة
الجميع معنى واحد، وهو عدم الملك على كيفية ملك الشركاء المتعددين
وإنما المراد ملك الجنس نحو ملك الزكاة وغيرها من الوجوه العامة وملك
الأرض الموقوفة على المسلمين إلى يوم القيامة، بناءا على أن الموقوف
ملك الموقوف عليه، فلا يقدح تخلف بعض أحكام ملك المشخصين.
نعم قد يستفاد من بعض النصوص (1) بل والفتاوى عدم جواز
بيع شئ منها حتى لولي المسلمين لمصلحتهم وإن كان محتملا كما ذكرناه
في غير المقام، إلا أن الظاهر المزبور يقضي بكون ملكيتها على وجه تبقى
عينها كالعين الموصى بها والموقوفة على هذا الوجه، وهو غير بعيد، ثم

(1) الوسائل - الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 6.
162

إن مقتضى السيرة بين العوام والعلماء عدم وجوب صرف ما يتفق
حصوله من حاصلها في يد أحد من الشيعة من جائر أو غيره في زمان
في المصالح العامة، بل له التصرف فيه بمصالحه الخاصة، بل قد يقال
بحصول الإذن منهم (ع) في ذلك للشيعة من غير حاجة إلى رجوع إلى نائب
الغيبة، وإن كان الأحوط إن لم يكن الأقوى استئذانه، والظاهر أن
له الإذن مجانا مع حاجة المستأذن، كما أن الظاهر حل تناوله من
الجائر بشراء أو اتهاب أو غيرهما، وقد أشبعنا الكلام في ذلك وغيره
في كتاب المكاسب من الكتاب.
(و) كيف كان فلا خلاف ولا إشكال في أن (النظر فيها
إلى الإمام عليه السلام) حال بسط اليد، لأنه هو المتولي لأمور
المسلمين، قال الرضا عليه السلام في صحيح ابن أبي نصر (1): " وما
أخذ بالسيف فذلك للإمام عليه السلام يقبله بالذي يرى كما صنع
رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر قبل أرضها ونخلها، والناس يقولون
لا تصلح قبالة الأرض والنخل إذا كان البياض أكثر من السواد، وقد
قبل رسول الله صلى الله عليه وآله خيبر عليهم في حصصهم العشر ونصف
العشر " ونحوه مضمره (2).
وأما حال الغيبة ونحوها فلا خلاف معتد به بل ولا إشكال في
جريان حكم يده بالنسبة إلى براءة ذمة من عليه الخراج، وحل المال
بالمقاسمة، وإلى جواز الأخذ بشراء ونحوه على ما كان منها في يد الجائر
المتسلط للتقية، وأما غيره فالمرجع فيه إلى نائب الغيبة كما صرح بذلك
جماعة منهم الكركي وثاني الشهيدين وغيرهما، وهو الذي تقتضيه

(1) الوسائل - الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 1.
(2) الوسائل - الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 1.
163

قواعد الشرع، لكن في فوائد الكتاب للأول منهم هنا هذا مع ظهوره
وفي حال الغيبة يختص بها من كانت في يده بسبب شرعي كالشراء والإرث
ونحوهما، لأنها وإن لم تملك رقبتها لكونها لجميع المسلمين إلا أنها
تملك تبعا لآثار التصرف، ويجب عليه الخراج والمقاسمة، ويتولاها
الجائر، ولا يجوز جحدهما ولا منعهما ولا التصرف فيهما إلا بإذنه
باتفاق الأصحاب، ولو لم يكن عليها يد لأحد فقضية كلام الأصحاب
توقف جواز التصرف فيهما على إذنه حيث حكموا بأن المقاسمة أو الخراج
منوط برأيه، وهما كالعوض عن التصرف وإذا كان العوض منوطا برأيه
كان المعوض كذلك، وفيه أنه لم نعرف للأصحاب كلا ما في توقف حلهما على
إذن الجائر مع عدم كون الأرض في يده، وإنما ذكروا حكم ما يأخذه الجائر
باسم الخراج والمقاسمة والزكاة، وهو كالصريح في كون ذلك لما في يده
من الأراضي لا غيرها مما يمكن دعوى الضرورة على عدم ولاية له عليه
وعدم قابليته لذلك، وإنما أجرينا الحكم المزبور على ما في يده للتقية
وتسهيلا للشيعة في زمن الغيبة، ودعوى أن الزمان زمان تقية فالأمر
إليه فيها حتى على ما لم يكن في يده منها واضحة الفساد، لعدم شاهد
عليها، بل ظاهر الأدلة خلافها، فالتحقيق الرجوع في كل ما لم يكن
في يده إلى نائب الغيبة يصرفه على ما يظهر له من الأدلة كغيره مما له
ولاية عليه، والله العالم.
(و) كيف كان فلا خلاف ولا إشكال في أنه (لا يملكها
المتصرف) بها (على الخصوص، ولا يصح) له (بيعها ولا هبتها
ولا وقفها) ولا غير ذلك من التصرفات الموقوفة على الملك، بل الاجماع
بقسميه عليه، مضافا إلى النصوص (1) بل عن مبسوط الشيخ عدم جواز

(1) الوسائل - الباب 71 و 72 من أبواب جهاد العدو والباب
21 من أبواب عقد البيع الحديث 4 و 5.
164

مطلق التصرف فيها ولو بنحو من البناء، نعم قد ذكر غير واحد من
الأصحاب أنها تباع مثلا تبعا لآثار التصرف فيها، وقد أشبعنا الكلام
في المراد منه وفي غير ذلك من الأحكام في محله في كتاب البيع، فلاحظ
وتأمل، كما أن المحكي عن تهذيب الشيخ من جواز شرائها محمول على
ما لا ينافي ذلك، ومن الغريب ما عن الكفاية من أن الأقرب القول
بجواز للعمل المستمر وللنصوص (1) الكثيرة إذ لا يخفى عليك ما فيه
بعد الإحاطة بفتاوى الأصحاب ونصوص الباب، والعمل المستمر على
الوقف مساجد ومدارس ونحوهما محمول على الأرض التي لا يعلم حالها
بيد من يجري عليها حكم الأملاك وله وجوه من الصحة يحمل عليها
حتى في المعلوم كونها معمورة حال الفتح، إذ يمكن كونها من الخمس
وقد باعها الإمام عليه السلام وغير ذلك، وما ادعاه من النصوص بين
ما هو غير صريح في أرض الخراج، وبين ما يراد منه آثار التصرف
أو الشراء استنقاذا للمسلمين، وبين ما هو معارض بأقوى منه من وجوه
نعم قد يقال بأحقية المحيي بها بعد موتها من غيره على وجه يترتب عليها
الإرث والصلح وغير ذلك، وأن عليه الخراج والمقاسمة، وقد ذكرنا
هناك من النصوص (2) ما يدل عليه، وربما كان ظاهر الكركي هنا
قال: ما يوجد من هذه الأرض مواتا في هذه الأزمنة إن دلت القرائن
على أنه كان معمورا من القديم ومضروبا عليه الخراج ككثير من أرض
العراق يلحق بالمعمور وقت الفتح، وحيث أنه لا أولوية لأحد عليه
فمن أحياه كان أحق به، وعليه الخراج والمقاسمة، بل ظاهره المفروغية
من ذلك.

(1) الوسائل - الباب 71 و 72 من أبواب جهاد العدو والباب 21 من أبواب عقد البيع.
(2) الوسائل - الباب 71 و 72 من أبواب جهاد العدو والباب 21 من أبواب عقد البيع.
165

(و) كذا لا إشكال ولا خلاف في أنه (يصرف الإمام عليه السلام) حال بسط اليد (حاصلها في المصالح) العامة (مثل سد
الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر) ونحو ذلك مما يرجع نفعه إلى
عامة المسلمين، بل الاجماع بقسميه عليه، مضافا إلى بعض النصوص (1)
وهل تجب مراعاة ذلك لمن يحصل منها في يده في زمن الغيبة ولو بإذن
نائبها؟ وجهان أحوطهما ذلك وأقواهما العدم لظاهر نصوص الإباحة (2)
وللسيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار بين العلماء والأعوام، بل
قد تمكن جملة من علمائنا كالمرتضى والرضي والعلامة وغيرهم من
جملة منها ولم يحك عن أحد منهم التزام الصرف في نحو ذلك، بل
لعل المعلوم خلافه من المعاملة معاملة غيرها من الأملاك، هذا.
ولكن الكلام في المفتوح عنوة، والمعروف بين الأصحاب أن مكة
منه، بل نسبه غير واحد إليهم، بل في المبسوط والمنتهى والتذكرة أنه
الظاهر من المذهب، وفي خبر صفوان ومحمد بن أحمد (3) " إن أهل
الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر، وأن مكة دخلها
رسول الله صلى الله عليه وآله عنوة وكان أهلها أسراء في يده فأعتقهم
وقال: اذهبوا أنتم الطلقاء " وفي بعض أخبار الجمهور (4) أنه صلى
الله عليه وآله قال: لأهل مكة: " ما تروني صانعا بكم؟ قالوا: أخ
كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وآله: أقول كما قال أخي

(1) الوسائل - الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
(2) الوسائل الباب 4 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.
(3) الوسائل - الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 عن
صفوان وأحمد بن محمد.
(4) سنن البيهقي ج 9 ص 118.
166

يوسف (1): " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين "
اذهبوا أنتم الطلقاء " فما عن الشافعي من أنها فتحت صلحا واضح
الفساد، ومنه الشام على ما ذكره الكركي ناسبا له إلى الأصحاب وإن
كنت لم أتحققه، نعم عن العلامة في التذكرة ذلك في كتاب إحياء
الموات، ولكن لم يذكر أحد حدودها، بل في الكفاية عن بعض المتأخرين
وأما بلاد الشام ونواحيه فحكي أن حلب وحمى وحمص وطرابلس
فتحت صلحا، وأن دمشق فتحت بالدخول من بعض غفلة بعد أن كانوا
طلبوا الصلح من غيره، ومنه خراسان، بل ربما نسب إلى الأصحاب
وأنه من أقصاها إلى كرمان، وإن كنت لم أتحققه، بل عن بعض
المتأخرين أن نيشابور من بلاد خراسان فتحت صلحا، وبلخ منها أيضا
وهراة وقوسيخ والتوابع فتحت صلحا، ومنه العراق كما صرح به في النصوص
والفتاوى، ومنه خيبر كما صرح به بعضهم، ودل عليه أيضا بعض
النصوص بل قيل إن منه غالب بلاد الاسلام وعن بعض المتأخرين أن
أهل طبرستان صالحوا وأن أذربيجان فتحت صلحا، وأن أهل أصفهان
عقدوا أمانا، وعن ثاني الشهيدين أنه يكفي في ثبوته الاشتهار بين
المؤرخين المفيد للظن، وتبعه عليه بعض من تأخر عنه، ولكنه لا يخلو
من نظر، كما أن ما صرح به الكركي من ثبوته أيضا بضرب الخراج
والمقاسمة ولو من الجائر حملا لفعل المسلم على الصحة حتى يعلم خلافها
كذلك أيضا، خصوصا بعد معلومية كون الجائر آثما في أخذه الخراج
من الخراجية، وبعد تعارف ضرب الخراج على كل أرض معمورة ولو
باحياء جديد.
بل صرح بعض مشائخنا بجريان حكم الخراج على ما يضربه على

(1) سورة يوسف - الآية 92.
167

الموات إذا أحياه المحيي، وإن كان هو كما ترى، وكأنه أخذه من
الكركي، قال: " الموات المتعلق بالإمام عليه السلام إذا أحياه محيي
في حال الغيبة هل يجب فيه حق الخراج والمقاسمة؟ يحتمل العدم،
لظاهر قوله (ع) (1) " من أحيى أرضا ميتة فهي له " واللام تفيد الملك
وهو يقتضي عدم الثبوت، ويحتمل الثبوت لأنها ملك الإمام عليه السلام
وملك الغير لا يباح مجانا، ويومي إلى هذا قول الأصحاب في باب الخمس:
وأحل لنا خاصة المساكن والمتاجر والمناكح، فإن أحد التفسيرات
للمساكن هو كون المساكن المستثناة هي المتخذة في أرض الأنفال،
ويحتمل بناء ذلك على أن المحيي لهذه الأراضي يملكها ملكا ضعيفا،
أو يختص بها مجرد اختصاص، فإن قلنا بالأول لم يجب عليه أحد
الأمرين، لأنه لا يجب عليه في ملكه عوض التصرف، وعلى الثاني
يجب، ولا أعلم في ذلك كلاما للأصحاب " قلت: لا يخفى عليك إن
ظاهر النص والفتوى الملك الحقيقي، كما أنه لا يخفى عليك ما في
قوله " وملك الغير لا يباح مجانا " بعد معلومية تسلط الناس على
أموالهم، والفرض ظهور ما ورد عنهم في ذلك، وما ذكروه في كتاب
الخمس لا يصلح دليلا بعد تعدد احتمال المراد منه، كما أشبعنا الكلام
فيه في كتاب الخمس، وكذا ما عن بعضهم أيضا من الاكتفاء بالظن
في خصوص كل قطعة من الأرض المفتوحة عنوة أنها عامرة وقت الفتح
فيجب حينئذ الخراج على زارعها وغارسها، ضرورة عدم دليل على
الاكتفاء بمطلق الظن في مثل ذلك، مع أن الأصل يقتضي عدمه في
جملة من أفراده، ومن ذلك يحصل الشك في جريان حكم المفتوحة

(1) الوسائل - الباب 1 من كتاب إحياء الموات الحديث 5.
168

عنوة العامرة وقت الفتح في كثير من الأراضي في هذا الزمان، مضافا
إلى الشك في أن فتحها لم يتحقق كونه بإذن الإمام عليه السلام على وجه
تكون به للمسلمين لا للإمام عليه السلام، إلا أن الاحتياط لا ينبغي
تركه حتى فيما كان منها في يدي من يجري عليه حكم الملك ولم يعلم
فساده، فإن أصول المذهب تقضي بالحكم بملكيته كما صرح به غير
واحد ما لم يعلم الخلاف.
هذا كله في العامر المفتوحة عنوة (و) أما (ما كان
مواتا) منها (وقت الفتح فهو للإمام عليه السلام خاصة) بلا خلاف
أجده، بل الاجماع بقسميه عليه مضافا إلى المعتبرة المستفيضة الدالة
على أن موات الأرض مطلقا من الأنفال للإمام عليه السلام بل في
صحيح الكابلي (1) عن الباقر عليه السلام " وجدنا في كتاب علي عليه
السلام
أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، أنا
وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتقون الأرض كلها لنا، فمن
أحيى أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها إلى الإمام من أهل
بيتي، وله ما أكل حتى يظهر القائم عليه السلام من أهل بيتي بالسيف
فيحويها كما حواها رسول الله صلى الله عليه وآله، ومنعها إلا ما كان
في أيدي شيعتنا، فيقاطعهم على ما في أيديهم، ويترك الأرض في أيديهم "
ودعوى أن التعارض بين النصوص من وجه فإن ما دل على أن المفتوحة
عنوة للمسلمين شامل للموات منها والعامر، وما دل على أن الموات
للإمام عليه السلام شامل للمفتوحة عنوة وغيرها، يدفعها معلومية رجحان
التخصيص بالأخير ولو للاجماع بقسميه.

(1) الوسائل - الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 2 مع
سقط في الجواهر.
169

(و) حينئذ ف‍ (لا يجوز إحياؤه إلا بإذنه إن كان موجودا)
ظاهرا مبسوط اليد بلا خلاف أجده فيه، بل الاجماع بقسميه عليه
مضافا إلى عموم قاعدة قبح التصرف في مال الغير بغير إذنه، وخصوص
بعض النصوص (1) هذا، وفي المسالك " ويعلم الموات بوجوده الآن
مواتا مع عدم سبق أثر العمارة القديمة عليه، وعدم القرائن الدالة
على كونه عامرا قبل ذلك كسواد العراق فإن أكثره كان معمورا وقت
الفتح، وبسببه سميت أرض السواد، وما يوجد منها عامرا الآن يرجع
فيه إلى قرائن الأحوال كما مر، قيل ومنها ضرب الخراج وأخذ المقاسمة من
ارتفاعه، فإن انتفى الجميع فالأصل يقتضي عدم تقدم العمارة، فيكون
ملكا لمن في يده " قلت: أشار بالقيل إلى ما سمعته من الكركي
وسمعت ما فيه، وأما الأول ففيه أولا أن أثر العمارة القديمة لا يجدي
حتى يعلم كونه وقت الفتح، مع أن الأصل تأخره، على أن القرائن
المزبورة إن كان لم تفد إلا الظن ففي قطع الأصل بها إشكال، مضافا
إلى ما سمعته سابقا من الاشكال في جريان حكم المفتوح عنوة بغير ذلك
والله العالم.
(و) على كل حال ف‍ (لو تصرف فيها) أحد (من غير
إذنه كان) غاصبا و (عليه) أي المتصرف (طسقها و) أجرتها
للإمام عليه السلام بلا خلاف ولا إشكال على حسب غيرها من
الأراضي المغصوبة، نعم (يملكها المحيي) من الشيعة (عند عدم
ظهوره عليه السلام وعدم بسط يده (من غير إذن) خاصة بلا خلاف
ولا إشكال، بل الاجماع بقسميه عليه، مضافا إلى المعتبرة المستفيضة

(1) الوسائل - الباب 2 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.
170

الدالة على الإذن عموما كالصحيح السابق (1) وصحيح الفضلاء (2)
عن الباقر والصادق عليهما السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من
أحيى مواتا فهو له " وغيرهما (3) بل مقتضاها حصول الإذن حال
الظهور، ضرورة صدورها من النبي صلى الله عليه وآله إلا أن الأصحاب
خصوها بحال الغيبة، وقد أوضحنا ذلك في إحياء الموات، بل وغيره
من المسائل التي منها عدم إلحاق الموت الحادث بعد العمارة وقت الفتح
بموت الأصل، ومنها البحث عن الأرض الموات إذا ملكت بالاحياء ثم
ماتت هل تعود على الإباحة الأصلية أولا، فلاحظ وتأمل.
ثم إن ظاهر إطلاق النص والفتوى عدم الفرق في المحيي بين
المؤمن والمخالف بل والكافر، بل ربما كان في صحيح الكابلي ظهور في
التعميم، بل عن الشهيد التصريح به أيضا، لكن في المسالك احتمال
كون الحكم مختصا بالشيعة عملا بظاهر الإذن، وفيه ما لا يخفى
خصوصا مع ملاحظة الإذن من النبي صلى الله عليه وآله وملاحظة ما
سمعته في صحيح الكابلي، والله العالم.
(وكل أرض فتحت صلحا فهي لأربابها) حتى الموات في احتمال
وفي آخر أنه للإمام عليه السلام، ولعله الأقوى إذا لم يكن قد دخل
في عقد الصلح صريحا أو ظاهرا (و) على كل حال فليس (عليهم)
إلا (ما صالحهم عليه الإمام عليه السلام) أو نائبه به من نصف
الحاصل أو ثلثه أو غير ذلك، وليس عليهم غيره حتى الزكاة بناءا على
أن الصلح مقتض لاقرارهم على دينهم، وهي غير واجبة عندهم بلا

(1) الوسائل - الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 2 مع
سقط في الجواهر.
(2) الوسائل الباب 1 من كتاب إحياء الموات الحديث 5 -.
(3) الوسائل الباب 1 من كتاب إحياء الموات الحديث 5 -.
171

خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم، بل في ظاهر الغنية الاجماع
عليه، لعموم ما دل (1) على مشروعية الصلح، وخصوص بعض
النصوص (2) التي تسمعها إنشاء الله في أحكام الجزية، بل في النهاية
والغنية والوسيلة والمنتهى والتحرير والتذكرة وقاطعة اللجاج والرياض
وغيرها تسمية هذه الأرض بأرض الجزية، بل في الغنية والروضة وموضع
من النهاية أن أرض الصلح هي أرض أهل الذمة، ولعل المراد أنه
الذي وقع من النبي صلى الله عليه وآله وإلا فالظاهر من المصنف وغيره
عدم الفرق بينهم وبين غيرهم، لعموم أدلة الصلح، وليس ذلك من
الجزية المختصة بأهل الكتاب، اللهم إلا أن يدعى اختصاص مشروعية
الصلح بهم كالجزية.
وعلى كل حال فلا خلاف (و) لا إشكال في أن (هذه)
الأرض (تملك على الخصوص و) حينئذ ف‍ (يصح بيعها و) غيره
من (التصرف فيها بجميع أنواع التصرف) لعموم تسلط الناس على
أموالها الذي هو مقتضى الصلح أيضا (و) حينئذ ف‍ (لو باعها
المالك من مسلم صح وانتقل ما عليها إلى ذمة البائع) الكافر
كما في النهاية والغنية والجامع والنافع وكتب الفاضل والدروس وغيرها
بل هو المشهور، بل في ظاهر الغنية الاجماع عليه، بل لم يحك الخلاف
فيه إلا من الحلبي، فجعله على المشتري لكونه حقا على الأرض، فيجب
على من انتقلت إليه ولصحيح ابن مسلم (3) عن أبي جعفر عليه
السلام " عن شراء أرض أهل الذمة فقال: لا بأس، فتكون إذا كان

(1) الوسائل - الباب 3 من كتاب الصلح.
(2) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو.
(3) الوسائل - الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 8.
172

ذلك بمنزلتهم " ونحوه آخر (1) مضمر " يؤدي كما يؤدون " وخبر
محمد بن شريح " (2) " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن شراء أرض
الخراج فكرهه وقال عليه السلام: إنما أرض الخراج للمسلمين، فقال
إنه يشتريها الرجل وعليه خراجها، قال: لا بأس إلا أن يستحيي من
عيب ذلك " بناءا على أن المراد من أرض الخراج فيه أرض الصلح
ولو بقرينة قوله عليه السلام: " إلا أن " إلى آخره باعتبار كون ذلك جزية
عليهم وإن سمي بالخراج، ولكن قد يناقش بظهوره في خصوص ما إذا
اشترى على هذا الوجه، ولعلنا نلتزمه للعمومات، وليس هو من الجزية
على المسلم، بل يمكن تنزيل الصحيحين الأولين عليه إذا أريد الجزية
من الخراج فيهما، كما أنه يمكن منع تعلق الحق بالأرض على وجه
يلحقها حتى لو انتقلت منه إلى غيره.
وبذلك يظهر لك أن الوجه عدم الفرق بين المسلم والكافر إذا
اشتراها كما هو مقتضى إطلاق النهاية والنافع والتبصرة، وإن كان قد
يشعر ما في المتن وغيره من التقييد بالمسلم بخلافه، بل أوضح من
ذلك تعليل الحكم بأن المسلم لا جزية عليه، لكن قد عرفت أن المتجه عدم
الفرق لما سمعت، بل منه ينقدح أنه لا وجه للاشكال في الحكم لو
فرض كون عوض الصلح في الذمة وإن قدر بالثلث والربع، لكن على
معنى تقدير أداء هذا المقدار ولو من غيرها، أما لو فرض كون عوض
الصلح شيئا متعلقا بمنفعة العين فلا ريب في تبعيته حينئذ لها وإن
انتقلت إلى غيره، ولعله بذلك يكون النزاع لفظيا، إذ احتمال كون
عوض الصلح على البائع مطلقا حتى في الأخير محتاج إلى دليل، وليس

(1) الوسائل - الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 7 - 9.
(2) الوسائل - الباب 21 من أبواب عقد البيع الحديث 7 - 9.
173

إلا ما تسمعه من نصوص (1) الجزية التي هي إن كانت على المال
سقطت عن الرؤوس، وإن كانت على الرؤوس سقطت عن المال، ففي
الفرض بناءا على أنه من الجزية بعد انتقال المال منه إلى غيره تكون
الجزية من رأسه كما لو تلف، بل ينبغي ذلك أيضا حتى لو كان
المشتري من أهل الذمة أيضا، إذ كونه ممن يؤدي الجزية لا يقتضي
الالتزام بجزية غيره التي كانت على المال دون رأسه، والفرض انتقاله عنه.
وعلى كل حال فالتحقيق ما عليه المشهور، خصوصا بعد ملاحظة
الأصل والاجماع المحكي المعتضد بالشهرة العظيمة، مضافا إلى ما ذكرناه
الذي يشهد له أيضا ما ذكره المصنف وغيره من كون (هذا) كله
أي بيع الأرض وغيره من تصرف الملاك (إذا صولحوا على أن الأرض
لهم) وفي ملكهم يتصرفون بها تصرف الملاك في أملاكهم إذ هو كالصريح في
عدم تعلق حق للمسلمين فيها لا في العين ولا في المنفعة، وحينئذ يتجه اشتغال ذمة
البائع بعوض الصلح، وأولى بذلك ما لو آجرها من في يده فإن الأجرة له
وعوض الصلح عليه، لكن في التذكرة التحرير أنه على المستأجر كما عن الحلي
وفيه بعد إلا مع الشرط كما في الدروس، بل فيه منع واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه
(أما لو صولحوا على أن الأرض للمسلمين ولهم السكنى وعلى
أعناقهم الجزية كان حكمها حكم الأرض المفتوحة عنوة عامرها للمسلمين
ومواتها للإمام عليه السلام) بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به
بعضهم بل ولا إشكال، لعموم أدلة الصلح وخصوص النصوص (2)
الواردة في خيبر بناء على أنها منه، مضافا إلى كون هذا الصلح من
الفتح عنوة وبالسيف وقهرا، ضرورة تعدد أفراده، وما في بعض

(1) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو.
(2) الوسائل - الباب 71 من أبواب جهاد العدو الحديث 2
والباب 72 منها الحديث 1 و 2.
174

النصوص (1) من عد ما صولحوا عليه من الأنفال محمول على غير الفرض.
وكيف كان فلا خلاف ولا إشكال في أن للإمام عليه السلام أن
ينقض ويزيد في الصلح بعد انتهاء مدته على حسب ما يراه من المصلحة
بل الظاهر أن ذلك لنائبه أيضا، والله العالم.
(ولو أسلم الذمي) الذي صولح على أن الأرض له وعليها
كذا وكذا (سقط ما ضرب على أرضه وملكها على الخصوص) كما
في الغنية والقواعد والتبصرة والإرشاد والمنتهى والتحرير والتذكرة وغيرها
بل لا أجد فيه خلافا، بل هو من معقد إجماع الأول، ولأنه كالجزية
أو جزية ولا شئ منهما على المسلم اتفاقا نصا وفتوى (و) لأنه كمن
أسلم طوعا ورغبة من غير قتال فإنه
(كل أرض أسلم أهلها عليها) طوعا ورغبة
كالمدينة والبحرين وبعض أطراف اليمن على ما قيل (فهي لهم على
الخصوص، وليس عليهم فيها سوى الزكاة إذا حصلت شرائطها) كما
صرح به في النهاية والسرائر والجامع والنافع والإرشاد والتبصرة والقواعد
والتحرير والتذكرة والمختلف واللمعة والروضة والمسالك وغيرها، بل
لا أجد فيه خلافا ولا إشكالا بعد معلومية حقن الاسلام الدم والمال،
وفي الصحيح (2) " ذكرت لأبي الحسن الرضا عليه السلام الخراج وما
سار به أهل بيته فقال: العشر ونصف العشر على من أسلم طوعا،
يترك أرضه في يده وأخذ منه العشر ونصف العشر مما عمر منها، وما
لم يعمر منها أخذه الوالي يقبله ممن يعمره، وكان للمسلمين، وليس فيما
كان أقل من خمسة أوسق شئ " ونحوه المضمر الآخر (3) ولعله لذا

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.
(2) الوسائل الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 1.
(3) الوسائل الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 1.
175

اشترط في المنتهى والتحرير والتذكرة هنا القيام بعمارتها، بل هو مقتضى
ما في النهاية والغنية والجامع والمختلف والدروس والمسالك والروضة وغيرها
بل في الدروس نسبته إلى الشهرة في الرواية، بل هو من معقد إجماع
الغنية، بل في النهاية والتحرير والمسالك أنها حينئذ للمسلمين كالمحكي
عن ابني حمزة والبراج، وعن الشيخ وأبي الصلاح صرف حاصلها في مصالح
المسلمين بعد إعطاء صاحب الأرض طسقها، بل في قاطعة اللجاج نسبة
ذلك إلى الشهرة، ومقتضاه بقاؤها على ملك الأول الذي يعطي الأجرة.
ولعله هو الذي أشار إليه المصنف بقوله:
(خاتمة كل أرض
ترك أهلها عمارتها كان للإمام عليه السلام تقبيلها ممن يقوم بها، وعليه
طسقها لأربابها) كما في النافع والإرشاد والتبصرة والقواعد وموضع
من التذكرة وإن كان عنوان الكلية في أعم من خصوص الأرض التي
أسلم عليها أهلها كما هو مقتضى كلام السابقين، وحينئذ فموضع
الاختلاف في كلامهم مقامان: أحدهما دفع الطسق لأهلها وعدمه،
والآخر عموم الحكم لكل أرض ترك أهلها عمارتها، أو اختصاص ذلك
بأرض من أسلم أهلها عليها طوعا، وليس في الصحيح المزبور والمرسل
ذكر للطسق، بل لا صراحة فيهما في خصوص العامرة التي أعرض أهلها
عن الاستدامة على تعميرها، فإن قوله عليه السلام: ما لم يعمر منها
أخذه الوالي " إلى آخره ظاهر في فاقد التعمير من أصله، وإن كان
قد يشكل ذلك بكونه للإمام عليه السلام لا للمسلمين، ضرورة اتفاق
النص والفتوى على أن الموات من الأنفال، ويمكن إرادة خصوص
المتروكة منه ولو بمعونة كلام الأصحاب، وفي المسالك في تفسيره عبارة
المتن " وذلك كالأرض المتقدمة التي أسلم أهلها عليها، وأرض الجزية
176

وغيرها من المملوكات، ولا تنحصر أجرتها فيما قبل به الإمام عليه السلام
بل لهم الأجرة وما زاد من مال التقبيل لبيت المال، لما تقدم
من أن حاصلها يصير للمسلمين وفيه مواضع للنظر تظهر لك إنشاء الله مما يأتي
وفي محكي السرائر " فإن تركوا خرابا أخذها إمام المسلمين وقبلها
من يعمرها، وأعطى أصحابها طسقها، وأعطى المتقبل حصته، وما يبقى
فهو متروك لمصالح المسلمين في بيت مالهم على ما روي في الأخبار أورد
ذلك شيخنا أبو جعفر رحمه الله، والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية
فإنها تخالف الأصول والأدلة السمعية، فإن ملك الانسان لا يجوز لأحد
أخذه والتصرف فيه بغير إذنه واختياره، فلا يرجع عن الأدلة بأخبار
الآحاد " وهو صريح في تضمن النصوص الأجرة وإن كنا لم نعثر عليها
وفي الدروس " لو أسلم قوم على أرضهم طوعا ملكوها، وليس عليهم
فيها سوى الزكاة مع اجتماع الشرائط، ولو تركوا عمارتها فالمشهور في
الرواية أن للإمام عليه السلام تقبيلها بما يراه ويصرف في مصالح
المسلمين " وفي النهاية " يدفع من حاصلها طسقها لأربابها والباقي للمسلمين "
وابن إدريس منع من التصرف بغير إذن أربابها، وهو متروك.
وفي الروضة كل أرض أسلم عليها أهلها طوعا كالمدينة المشرفة
والبحرين وأطراف اليمن فهي لهم على الخصوص يتصرفون فيها كيف
شاؤوا، وليس عليهم فيها سوى الزكاة مع اجتماع الشرائط المعتبرة
فيها، هذا إذا قاموا بعمارتها، أما لو تركوها فخربت فإنها تدخل في
عموم قوله: وكل أرض ترك أهلها عمارتها فالمحيي أحق بها منهم لا
بمعنى ملكه لها بالاحياء لما سبق من أن ما جرى عليه ملك مسلم لا
ينتقل عنه بالموت، فترك العمارة التي هي أعم من الموت أولى،
بل بمعنى استحقاقه التصرف فيها ما دام قائما بعمارتها وعليه طسقها أي أجرتها
لأربابها الذين تركوا عمارتها، أما عدم خروجها عن ملكهم فقد تقدم، وأما
177

جواز إحيائها مع القيام بالأجرة فلرواية سليمان بن خالد (1) وهي دالة على
عدم خروج الموات به عن الملك أيضا، لأن نفس الأرض حق صاحبها، إلا أنها
مقطوعة السند ضعيفة فلا تصلح للحجية، وشرط في الدروس إذن المالك
في الاحياء، فإن تعذر فالحاكم، فإن تعذر جاز الاحياء بغير إذن،
وللمالك حينئذ طسقها، ودليله غير واضح، والأقوى أنها إن خرجت
عن ملكه جاز إحياؤها بغير أجرة، وإلا امتنع التصرف فيها بغير إذنه
وقد تقدم ما يعلم منه خروجها عن ملكه وعدمه، نعم للإمام عليه
السلام تقبيل المملوكة الممتنع أهلها من عمارتها بما شاء، لأنه أولى
بالمؤمنين من أنفسهم.
وفي قاطعة اللجاج " وثانيها أرض من أسلم أهلها عليها طوعا من
غير قتال، وحكمها أن تترك في أيديهم ملكا لهم يتصرفون فيها بالبيع
والشراء والوقف وسائر أنواع التصرف إذا قاموا بعمارتها، ويؤخذ منهم
العشر أو نصفه زكاة بالشرائط، فإن تركوا عمارتها وتركوها خرابا
كانت للمسلمين قاطبة، وجاز للإمام عليه السلام أن يقبلها ممن يعمرها
بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع أو نحو ذلك، وعلى المتقبل
بعد إخراج حق القبالة ومؤونة الأرض مع وجود النصاب العشر أو
نصفه، وعلى الإمام عليه السلام أن يعطي أربابها حق الرقبة من القبالة
على المشهور أفتى به الشيخ في المبسوط والنهاية وأبو الصلاح، وهو الظاهر
من عبارة المحقق نجم الدين في الشرائع واختاره العلامة في المنتهى
والتحرير والتذكرة والمختلف، وابن حمزة وابن البراج ذهبا إلى أنها
تصير للمسلمين قاطبة، وأمرها إلى الإمام عليه السلام وكلام شيخنا
رحمه الله قريب من كلامهما، وابن إدريس منع من ذلك كله، وقال

(1) الوسائل - الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 3.
178

إنها باقية على ملك الأول، ولا يجوز التصرف فيها إلا بإذنه،
وهو متروك ".
وفي الرياض بعد ذكر حكم الأرض التي أسلم أهلها عليها طوعا
وأنها لهم قال ولا خلاف فيه إذا قاموا بعمارتها، أما لو تركوها
فخربت فإنها تدخل في عموم قوله أي في النافع: وكل أرض مملوكة
ترك أهلها وملاكها عمارتها فللإمام عليه السلام أو نائبه تسليمها إلى
من يعمرها بعد تقبيلها منه بحسب ما يراه من نصف أو ثلث أو ربع
وعليه أي على الإمام طسقها أو أجرتها لأربابها الذين تركوا عمارتها
على المشهور على الظاهر المصرح به في الدروس وغيره، بل لا خلاف
فيه إلا من الحلي فمنع من التصرف فيها بغير إذن أربابها مطلقا، وهو
كما في الدروس متروك، وبالخبرين المتقدمين محجوج، وعن ابن حمزة
والقاضي فلم يذكرا الأجرة بل قالا كالباقين إنه يصرف حاصلها في
مصالح المسلمين، كما هو ظاهر الخبرين، لكنهما ليسا نصين في عدم
وجوبها، فلا يخرج بهما عن الأصل المقتضي للزومها، وبه تتم الحكمة
في جواز تصرف الإمام عليه السلام فيها بغير إذنهم، نظرا إلى أنه إحسان
محض، وما على المحسنين من سبيل، وبه يضعف مستند الحلي من قبح
التصرف في ملك الغير بغير إذنه، لاختصاص ما دل عليه من العقل
والنقل بغير محل الفرض "
قلت قد سمعت الصحيح (1) والمضمر (2) الواردين في أرض من
أسلم عليها أهلها، وقد سمعت سابقا صحيح الكابلي (3) المتقدم في شرح

(1) الوسائل - الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 1.
(2) الوسائل - الباب 72 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 1.
(3) الوسائل - الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 2.
179

قول للصنف: " وما كان مواتا وقت الفتح فهو للإمام خاصة " وفي
خبر معاوية بن وهب (1) " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول أيما
رجل أتى خربة بائرة فاستخرجها وكرى أنهارها وعمرها فإن عليه فيها
الصدقة، فإن كانت أرضا لرجل قبله فغاب عنها وتركها فأخر بها ثم
جاء بعد يطلبها فإن الأرض لله ولمن عمرها " وفي خبر سليمان بن خالد (2)
" سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يأتي الأرض الخربة
فيستخرجها ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها ماذا عليه؟ قال: الصدقة
قلت: فإن كان يعرف صاحبها قال: فليؤد إليه حقه " ونحوه صحيح
الحلبي (3) عنه عليه السلام أيضا، إلى غير ذلك من النصوص الدالة
على الإذن في تعمير الأراضي، وخصوصا إذا بلغت حد الموات، وأنه
حينئذ يكون أحق بها من غيره، مضافا إلى قاعدة الاحسان وإلى أولوية
الإمام عليه السلام بالمؤمنين من أنفسهم.
وأما إعطاء الطسق الذي صرح به الفاضلان وثاني الشهيدين وغيرهم
فلعله للجمع بين الحقين، ولخبري الحلبي وسليمان بن خالد اللذين قد
يظهر منهما بقاؤها على ملك الأول كما صرح به في الروضة، بل قد
يستفاد منهما ومن غيرهما الإذن منهم عليهم السلام في ذلك لكل أحد
وأنه ليس عليه إلا الطسق والصدقة، والباقي له، ولعل هذا في غير
الأرض التي أسلم عليها أهلها التي قد سمعت التصريح نصا وفتوى بأن
ما زاد على مال القبالة أو مع الطسق للمسلمين يصرف في مصالحهم،
بل قد سمعت ما في قاطعة اللجاج من كون نفس الأرض للمسلمين
بل هو المحكي عن نهاية الشيخ وابني حمزة والبراج والفاضل في التحرير

(1) الوسائل - الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 1 - 3 - 3.
(2) الوسائل - الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 1 - 3 - 3.
(3) الوسائل - الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 1 - 3 - 3.
180

والتذكرة والمنتهى، بل هو ظاهر الخبرين، وإن كان قد يشكل بمنافاته
للحكم بدفع الأجرة الظاهرة في بقاء الملك لصاحبه كما سمعته من
ثاني الشهيدين، ولا ريب في أنه أوفق بالقواعد الشرعية، كما إنه
قد يشكل الجمع بين دفع الأجرة للمالك ودفع حق القبالة للمتقبل
وما زاد للمسلمين بأن المتجه استحقاق المالك ما زاد على حق المتقبل
المقابل لعلمه، إذ هو عوض الأرض المفروض استحقاق المالك طسقها
اللهم إلا أن يقال إن الذي يستحقه ما قابل خصوص الرقبة، وأما ما
يحصل بنماء التعمير فهو بين المسلمين والمتقبل.
ثم إنه ربما قبل باعتبار عدم كون الترك غفلة أو نسيانا أو خوفا
من ظالم أو عجزا عن التعمير نظرا إلى كون المتبادر غير ذلك، ولكن فيه
منع واضح، خصوصا الأخير للاطلاق نصا وفتوى، نعم ينبغي أن لا
يكون الترك لصلاح الأرض كما عن الجامع التصريح به، ولعله مراد
الباقين، وإن توهم من الاطلاق خلافه، كما أن الظاهر عدم اعتبار
نهي المالك للاطلاق، وإن احتمله بعض الناس قويا، بل الظاهر من
الخبرين وبعض العبارات وجوب التقبيل على الإمام (ع) ولو باعتبار ولايته
على المسلمين المقتضية لمراعاة مصلحتهم، بل لعله مراد من عبر بالجواز
كابن زهرة والفاضلين والشهيدين وغيرهما ولو باعتبار أنه متى جاز وجب
سياسة ومراعاة لمصلحة المسلمين، والظاهر أيضا قيام نائب الغيبة مقام
الإمام عليه السلام في ذلك بناءا على اختصاص الحكم به لعمومها.
هذا كله في الأرض المملوكة التي ترك أهلها عمارتها فخربت ولم تصل
إلى حد الموات، أما إذا وصلت فقد اندرجت في الكلية الثانية المذكورة
في النافع وغيره
(و) هي (كل أرض موات سبق إليها سابق فأحياها
كان أحق بها، فإن كان لها مالك معروف فعليه طسقها) بلا خلاف
181

أجده في جواز الاحياء في موات الأصل في زمن الغيبة الذي قد عرفت
أنه للإمام عليه السلام من الأنفال، وقد صدر الإذن منه في الاحياء
بل ظاهرها تملك المحيي لها مجانا، وإن كان ظاهر صحيح الكابلي عن
الباقر عليه السلام المتقدم سابقا وجوب الخراج عليه حتى يظهر القائم
عليه السلام، واحتمله الكركي في فوائد الشرائع معللا له بأنها ملك
الغير، وملك الغير لا يباح مجانا، قال ويومي إلى هذا قول الأصحاب
في باب الخمس: وأحل لنا خاصة المساكن والمتاجر والمناكح، فإن
أحد التفسيرات للمساكن هو كون المساكن المستثناة هي المتخذة في أرض
الأنفال، وفيه أنه لا بأس بإباحة الغير ملكه مجانا، كما هو ظاهر
قوله صلى الله عليه وآله (1) " من أحيا أرضا " إلى آخره ونحوه،
وحينئذ يحمل ما دل على الأجرة في أرض الغير على غير أرض الإمام
عليه السلام في زمن الغيبة وخصوصا بالنسبة إلى الشيعة، ثم قال في
الفوائد المزبورة: " ويحتمل بناء ذلك على أن المحيي لهذه الأرض
يملكها ملكا حقيقيا، أو يختص بها مجرد اختصاص، فإن قلنا بالأول
لم يجب عليه أحد الأمرين، لأنه لا يجب عليه في ملكه عوض التصرف
وعلى الثاني يجب، ولا أعلم في ذلك كلاما للأصحاب " قلت: العمدة
في ذلك الأدلة، ولا تنافي معها بين الملك واستحقاق الأجرة، ولا بين
عدم الملك وعدمها أيضا، ولا ريب في ظهور النصوص والفتاوى في
عدم وجوب شئ على المحيي في زمن الغيبة، وخصوصا الشيعة، ولو
لقولهم عليهم السلام (2): " ما كان لنا فقد أبحناه لشيعتنا " ونحوه
بل الظاهر ذلك أيضا في المعمورة من الأنفال كالأرض التي انجلى عنها

(1) الوسائل - الباب 1 من كتاب إحياء الموات الحديث 5
(2) الوسائل - الباب 4 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.
182

أهلها الكفار، لكن في فوائد الشرائع للكركي هل يحل لكل أحد
التصرف فيها أم يتوقف على إذن الحاكم أو على إذن سلطان الجور؟
وعلى كل تقدير فهل يجب فيها عوض التصرف؟ لا أعلم في ذلك كلاما
للأصحاب، وإطلاق النصوص وكلام الأصحاب ربما اقتضى كونها
كالأرض الخراجية أعني المفتوحة عنوة، إلا أنه لا يخفى عليك ما فيه
من عدم اقتضاء إطلاق النص والفتوى ذلك، بل ظاهر نصوص التحليل
عدمه وأما الموات المسبوق بالاحياء ففي الرياض لا خلاف في أنه
للمحيي إحياؤه مع عدم مالك معروف له، قلت: قد يستفاد أيضا
من بعض النصوص السابقة، بل لعلها من الأنفال المباحة للشيعة أيضا
ولكن مع ذلك الأحوط استئذان الحاكم مع الامكان، وأحوط منه دفع
الآجرة إذا كانت الأرض مما لا يزول ملكها بالموات أو لم يعلم حالها
بل للحاكم التصدق بعين الأرض كغيرها من مجهول المالك إن لم نقل
إنها من الأنفال، وكذا في الرياض أيضا " لا خلاف في أن للمالك
الأجرة مع كونه معلوما بعينه، وكان مالكا لها بغير الاحياء " قلت:
لعله للجمع بين الحقين ولما سمعته من خبر سليمان بن خالد وغير ذلك
وفي فوائد الكتاب للكركي ولقائل أن يقول: كيف جاز التصرف في
مال الغير بغير إذنه قلنا في حكم الأرض إذا خربت للأصحاب اختلاف
ففي قول أنها وإن بقيت على ملك مالكها إلا أنه يجوز إحياؤها لغيره
ويستحق مالكها على المحيي طسقها، وهو قول للشيخ، وشرط في الدروس
إذن المالك، فإن تعذر فإذن الحاكم، فإن تعذر جاز الاحياء بغير إذن
وفي قول أنها تخرج عن ملك الأول، فيسوغ إحياؤها لغيره، ويملكها
المحيي، وفصل العلامة في التذكرة فقال: إن الأرض إن ملكت بغير
الاحياء كالشراء والإرث لم تخرج عن ملك المالك بموتها إجماعا، وإن
183

ملكت بالاحياء فعرض لها الموات خرجت عن ملكه، وجاز إحياؤها
مطلقا، وفي قول أنها على ملك الأول، ولا يجوز لأحد إحياؤها بغير
إذنه إلا أن تشهد القرائن بأنه قد أعرض عنها وتركها أصلا ورأسا
فإنه حينئذ يباح لمحييها كما يباح التقاط السنبل المتناثرة حيث يعلم
إعراض المالك عنها، وهذا القول هو الأصح، واختاره ابن إدريس،
وقد كتبنا في تحقيق ذلك مسألة مفردة، وبينا الدلائل من كل جانب
والمذكور هاهنا يتخرج على الأقوال الثلاثة فعلى ما اخترناه ينزل إطلاق
الحكم في المسألة المذكورة على إذن المالك في الاحياء مع طلب عوض
التصرف، ومثله ما لو تجدد العلم بالمالك بعد الاحياء ورضي بالأجرة
وقال في المسالك: " الأرض الموات لا تخلو إما أن تكون مواتا
من الأصل بحيث لم يجر عليها يد مالك أولا، والأولى للإمام عليه
السلام لا يجوز لأحد إحياؤها إلا بإذنه في حال حضوره، وفي حال
غيبته يملكها المحيي، وإن جرى عليها يد مالك ثم خربت فلا يخلو إما
أن تكون قد انتقلت إليه بالشراء ونحوه أو بالاحياء، والأولى لا يزول
ملكه عنها بالخراب إجماعا، نقله العلامة في التذكرة عن جميع أهل
العلم، والثانية وهي التي ملكت بالاحياء لا تخلو إما أن يكون مالكها
معينا أو غير معين، والثانية تكون للإمام عليه السلام من جملة الأنفال
يملكها المحيي لها في حال الغيبة أيضا، فإن تركها حتى خربت زال
ملكه عنها وجاز لغيره تملكها، وهكذا، والأولى وهي التي قد خربت ولها
مالك معروف فقد اختلف الأصحاب في حكمها، فذهب الشيخ إلى
أنها تبقى على ملك مالكها، لكن يجوز إحياؤها لغيره، ويكون أحق
بها، لكن عليه طسقها لمالكها، واختاره المصنف، وذهب آخرون إلى
184

أنها تخرج عن ملك الأول، ويسوغ إحياؤها لغيره، ويملكها المحيي،
واختاره العلامة، وهو الأقوى، والأخبار الصحيحة دالة عليه، وشرط
في الدروس إذن المالك، فإن تعذر فالحاكم، فإن تعذر جاز الاحياء
بغير إذن، ودليله غير واضح، وفي المسألة قول آخر، وهو عدم جواز
إحيائها مطلقا بدون إذن مالكها، ولا تملك بالاحياء كالمنتقلة بالشراء
وشبهه، واختاره المحقق الشيخ علي، وله شواهد من الأخبار، إلا أن
الأول أقوى وأصح سندا وأوضح دلالة، وباقي الأقوال مخرجة ".
قلت: قد ذكرنا تحقيق الحال في ذلك في كتاب إحياء الموات،
ولكن لا يبعد القول بصحة الكلية المزبورة بملاحظة ما سمعته من
النصوص السابقة وغيرها، كقول الباقر عليه السلام في صحيح ابن مسلم (1)
" أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعمروها فهم أحق بها " وغيره، بل
ظاهر بعضها عدم الفرق بين موات المفتوحة عنوة وغيره، وبين معلومه
المالك وغيره، نعم تترتب عليه الأجرة في معروفه المالك ولو بالمسلمين
ولعل هذا حكم خاص بالأرضين بخلاف غيرها من الأموال، بل هذه
الكلية أولى بالصحة من الكلية السابقة التي هي أيضا من خواص الأراضي
وإن لم تصل إلى حد الموات من غير فرق بين أرض من أسلم عليها
أهلها وغيرها، ولعله لما سمعته في صحيح ابن وهب (2) وغيره من أن
الأرض لله ومن عمرها، فعليك بملاحظة جميع ما جاء في النصوص
عنهم عليهم السلام في ذلك كي يظهر لك وجه صحة الكليتين، ووجه
النظر في كلام ابن إدريس والكركي والشهيد في الدروس وغيرهم، وقد
ذكرنا جملة منها في المقام، وأخرى في البيع عند البحث في بيع الأرض

(1) الوسائل - الباب 1 من كتاب إحياء الموات الحديث 3.
(2) الوسائل - الباب 3 من كتاب إحياء الموات الحديث 1.
185

المفتوحة عنوة، وجملة في إحياء الموات، وجملة في كتاب الخمس،
والله العالم بحقيقة الحال.
(وإذا استأجر مسلم دارا من حربي ثم فتحت تلك الأرض لم
تبطل الإجارة وإن ملكها المسلمون) بلا خلاف أجده بين من تعرض
له كالشيخ والفاضل وغيرهما، لأصالة بقاء ملك المسلم التي لا ينافيها
ملك الرقبة بالاستغنام نحو شراء الأرض المستأجرة، والله العالم.
(الثالث في قسمة الغنيمة، يجب أن يبدأ بما شرطه الإمام (ع))
منها (كالجعائل) التي يجعلها منها لمن يد له على مصلحة كالتنبيه على
عورة القلعة والطريق الخفي لها ونحو ذلك مما تقدم (والسلب) بفتح
اللام (إذا شرطه) الإمام (للقاتل، ولو لم يشترطه لم يختص به)
بل يكون كباقي مال الغنيمة بلا خلاف أجده في الأول، لعموم (1)
" المؤمنون " ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله (2) يوم خيبر " من
قتل قتيلا فله سلبه " فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا فأخذ أسلابهم
ولاقتضاء صحة الشرط التي لا خلاف فيها ذلك بل ولا إشكال للأصل،
وكونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولما فيه المصلحة الراجعة للاسلام
والمسلمين من الرغبة في القتال والتحريض عليه، ولغير ذلك، فيأخذه
حينئذ من دون استئذان جديد من الإمام عليه السلام لكونه مستحقا
له بالجعالة، وإن استحب له ذلك على ما في المنتهى، وعلى المشهور
في الثاني، بل لا أجد فيه خلافا إلا من الإسكافي، لعموم ما دل (3)

(1) الوسائل - الباب 20 من أبواب المهور الحديث 4 من كتاب النكاح.
(2) سنن البيهقي ج 6 ص 307 و 309 وأما قضية أبو طلحة فهو
في غزوة حنين كما ذكره البيهقي في سننه ج 6 ص 306.
(3) الوسائل - الباب 41 من أبواب جهاد العدو.
186

على قسمة الغنيمة بين المقاتلين الذي لا يخصصه ما يظهر من بعض
نصوص الجمهور (1) من كون ذلك جعلا من النبي صلى الله عليه وآله
لكل قاتل في كل غزوة بعد عدم ثبوت حجيته، بل إعراض المشهور بل
الجميع عداه عنه.
ويشترط في استحقاق الأول السلب الذي جعل له إذا قتل قتيلا
أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتلهم، فلو قتل صبيا أو امرأة
أو شيخا فانيا غير مقاتلين لم يستحق سلبه للنهي (2) عن قتله، فلا
يندرج في الجعالة، نعم لو قتل أحدهم وكان مقاتلا استحقه، وكذا
يعتبر كونه ممتنعا، فلو قتل أسيرا له أو لغيره أو من أثخن بالجراح
أو عجز عن المقاومة أو نحو ذلك مما لا يندرج في ظاهر عبارة الجعل
لم يستحق سلبه، وفي المروي من طرق الجمهور " أن ابني عفرا
أثخنا أبا جهل يوم بدر، فأجهز عليه عبد الله بن مسعود، فجعل
رسول الله صلى الله عليه وآله سلبه لابني عفرا ولم يعط ابن مسعود شيئا "
ولكنه غير ثابت من طرقنا، بل قد يشكل بعدم استحقاق ابني عفرا
أيضا، لعدم صدق القتل بالاثخان، اللهم إلا أن يكون على وجه يصدق
معه القتل عرفا.
ولو قطع يدي رجل ورجليه وقتله آخر ففي المنتهى السلب للقاطع
دون القاتل، لأنه هو الذي منع عن المسلمين شره، وفيه أنه غير مندرج
في عبارة الجعالة إلا أن يفرض معها قرائن حال تقتضي بإرادة نحو
ذلك، ولو قطع يديه أو رجليه ثم قتله آخر فعن الشيخ السلب للقاتل

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 305 إلى 309 وص 315 و 316.
(2) الوسائل - الباب 18 من أبواب جهاد العدو.
187

دون القاطع، لأنه لم يصر ممتنعا بالقطع، لامكان عدوه بالرجلين
ومقاتلته باليدين، فيندرج في عبارة الجعالة، وعن بعض الجمهور اختصاص
القاطع به، وهو واضح الضعف كوضوح ضعف ما عن آخر منهم من
كونه غنيمة، ولو قطع يده ورجله من خلاف ثم قتله آخر ففي المنتهى
الوجه التفصيل إن امتنع واكتفى شره أجمع بقطع العضوين كان
السلب للقاطع، وإلا كان للقاتل، وفيه الاشكال السابق، ولو عانق
رجل رجلا فقتله آخر فالسلب للقاتل، خلافا للأوزاعي، ولو أقبل
الكافر على رجل من المسلمين يقاتله فجاءه آخر من ورائه فضربه فقتله
فسلبه لقاتله، للصدق ولما رواه الجمهور (1) عن أبي قتادة " خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وآله عام خيبر فلما التقينا كان للمسلمين
جولة فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت
حتى أتيت من ورائه فضربته على حبل عاتقه ضربة فأقبل علي فضمني
ضمة وجدت فيها ريح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني فرجع الناس
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من قتل قتيلا له عليه بينة فله
سلبه، فقلت من يشهد لي ثم جلست، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله
ذلك فقمت وقلت من يشهد لي، ثم جلست، ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وآله ثالثا فقال: مالك يا أبا قتادة؟ فقصصت عليه القصة
فقال: رجل من القوم صدق يا رسول الله صلى الله عليه وآله، وسلب
ذلك القتيل عندي فارضه منه، فقال أبو بكر لاها الله إذن لا تعمد
إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله صدق، فأعطاه إياه ".
ولا يلحق بالقتل الأسر وإن قتله الإمام عليه السلام خلافا لمكحول

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 306 وهو في عام حنين.
188

فقال: من أسر مشركا فله سلبه، ولآخر من العامة إن استبقاه الإمام
عليه السلام كان له فداؤه أو رقبته وسلبه، لأنه كفي المسلمين شره
وهما معا كما ترى، نعم للإمام عليه السلام أن ينفل شيئا من فعل مصلحة
من المصالح فله أن يجعل السلب لمن أسر مشركا، وفي خبر عبد الله بن
ميمون (1) أتي علي عليه السلام بأسير يوم صفين فبايعه فقال عليه السلام لا أقتلك
إني أخاف الله رب العالمين فخلى سبيله وأعطي سلبه الذي جاء به "
هذا، وفي المنتهى يشترط في استحقاق السلب أن يغرر القاتل بنفسه في قتله
بأن يبارزه إلى صف المشركين أو إلى مبارزة من يبارزهم، فيكون له
السلب، فلو لم يغرر بنفسه مثل أن يرمي سهما في صف المشركين من
صف المسلمين فيقتل مشركا لم يكن له سلبه، لأن القصد منه التحريض
على القتال ومبارزة الرجال، ولا يحصل إلا بالتغرير.
ولو حمل جماعة من المسلمين على مشرك فقتلوه فالسلب في الغنيمة
لأنهم باجتماعهم لم يغرروا الرجال، ولا يحصل إلا بالتغرير، وفيه
ما لا يخفى مع فرض عدم قرائن تقضي بإرادة ذلك من عبارة الجعالة
ولو قتله اثنان كان السلب لهما كما عن الشيخ التصريح به، لتناول
العبارة الواحدة والزائد، خلافا لأحمد في إحدى الروايتين، لعدم
التغرير وعدم تشريك النبي صلى الله عليه وآله، وهما معا كما ترى،
خصوصا الأخير، إذ لعله لعدم التشريك، وقال في المنتهى أيضا إنما
يستحق السلب بشرط القتل والحرب قائمة سواء كان مقبلا أو مدبرا،
إذ الحرب فر وكر، أما لو انهزم المشركون فقتله لم يستحق السلب بل
كان غنيمة، لعدم التغرير، ولأنه بالهزيمة قد كفي المسلمين شره، وفيه
ما لا يخفى بعد الإحاطة بما ذكرناه.

(1) الوسائل - الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
189

ثم إن الظاهر استحقاق السلب كل من جاء بالعمل وإن لم يكن
من ذوي السهم في الغنيمة، وإنما يرضخ له كالمرأة والعبد والكافر،
أما من لم يكن له حق فيها لا سهما ولا رضخا لعصيانه في القتال لنهي
الإمام عليه السلام إياه أو لمنع أبويه وعدم تعينه عليه أو نهي سيده
عنه أو غير ذلك فلا يستحق السلب، لظهور عبارة الجعل فيمن ساغ
له القتال، لكن في المنتهى الوجه استحقاق مولى العبد السلب وإن خرج
العبد من غير إذنه، لأن كل ما للعبد فهو لمولاه، ففي حرمانه السلب
حرمان سيده، ولم يصدر عنه معصية، وفيه أنه لا حق للعبد المزبور
بعد فرض عدم تناول العبارة له.
ثم لا خلاف بل ولا إشكال في اندراج الثياب والعمامة والقلنسوة
والدرع والمغفرة والبيضة والجوشن والسلاح كالسيف والرمح والسكين
ونحو ذلك مما يكون معه وله مدخل في القتال في السلب، بل في المنتهى
الاجماع عليه، بل لعل الأقوى اندراج ما كان معه من التاج والسوار
والطوق والخاتم ونحوها مما يتخذها للزينة، والهميان ونحوه مما يتخذه
للنفقة فيه أيضا، وفاقا للفاضل، بل عن الشيخ أنه قواه أيضا للصدق
عرفا، خلافا للشافعي.
نعم لا يندرج فيه ما كان منفصلا عنه كالرحل والعبد والدواب التي
عليها أحماله، والسلاح الذي ليس معه، فيبقى حينئذ غنيمة، أما
الدابة التي يركبها فهي منه سواء كان راكبا لها أو نازلا عنها وهي بيده
للصدق عرفا، خلافا لأحمد في الثاني، بل يتبعها السرج واللجام وجميع
آلاتها والحلية ونحو ذلك، نعم لو لم يكن الدابة أو شئ من آلاتها
معه لم تدخل في السلب، وكذا الجنب الذي يساق خلفه، لاحتمال
الحاجة إليه على ما ذكره غير واحد، ولو كان في يده فالمحكي عن ابن
190

الجنيد أنه من السلب، ولا يخلو من وجه، بل لعل العرف الآن
يقتضي اندراجه فيه وإن لم يكن في يده، بل كان معه معدا لحاجته فيه
إن حصلت، ولعله لذا عده في المسالك مع الأمور المزبورة، ثم قال:
وفي اشتراط كونه مع ذلك محتاجا إليه في القتال نظر، وعدم الاشتراط
لا يخلو من قوة، وهو اختيار الشيخ، وتظهر الفائدة في مثل الهميان
الذي للنفقة والمنطقة والطوق المتخذة للزينة، فتأمل، والسلب يأخذه
القاتل وإن أدى إلى كشف العورة، وعن ابن الجنيد عدم اختياره، كما
أنه روي (1) عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه لم يأخذ سلبا عند
مباشرته للحرب، والله العالم.
(ثم) يبدء ب‍ (ما تحتاج إليه) الغنيمة (من النفقة مدة
بقائها حتى تقسم كأجرة الحافظ والراعي والناقل) ونحوهم بلا خلاف
بل ولا إشكال، ضرورة كونها من مؤنها التي تؤخذ من أصلها
(و) كذا يبدء أيضا (بما يرضخه للنساء والعبيد والكفار إن قاتلوا بإذن
الإمام عليه السلام لأنه لا سهم للثلاثة) بلا خلاف أجده فيه، بل
في المنتهى الاجماع عليه في الأول صريحا، وفي الثالث ظاهرا، بل في محكي
التذكرة الاجماع عليها أيضا، مضافا إلى خبر سماعة (2) عن أحدهما
عليهما السلام " أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج بالنساء في الحرب
يداوين الجرحى ولم يسهم لهن من الفيئ شيئا، ولكن نفلهن " مؤيدا
بالمروي (3) من طرق العامة عن ابن عباس من نحو ذلك، وبأن المرأة
ضعيفة عن القتال، ولذا لم تخاطب به وبغير ذلك، فما عن الأوزاعي

(1) المستدرك - الباب 61 من أبواب جهاد العدو الحديث 13.
(2) الوسائل - الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
(3) سنن البيهقي ج 6 ص 332.
191

من السهم لهن كالرجال لما رواه من بعض الأخبار الذي لا وثوق بسنده
بل ولا دلالته واضح الضعف بين قومه فضلا عن الإمامية، وأما العبيد
فالمعروف بين العامة والخاصة عدم السهم لهم، بل لم أجد فيه خلافا بيننا
إلا من الإسكافي، فجعلهم كالأحرار، لخبر محمد بن مسلم (1) عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: " لما ولي علي عليه السلام صعد المنبر فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال: أما إني والله ما أرزءوكم من فيئكم هذا درهما
ما قام لي عذق بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم، أفتروني مانع نفسي ومعطيكم
قال: فقام إليه عقيل كرم الله وجهه فقال: فتجعلني وأسود في المدينة
سواء، فقال: اجلس ما كان هاهنا أحد يتكلم غيرك، وما فضلك عليه
إلا بسابقة أو تقوى " وخبر حفص (2) " سمعت أبا عبد الله عليه
السلام يقول: وسئل عن بيت المال فقال: أهل الاسلام هم أبناء
الاسلام، أسوي بينهم في العطاء وفضائلهم بينهم وبين الله، أجعلهم
كبني رجل واحد لا يفضل أحد منهم لفضله وصلاحه في الميراث على
آخر ضعيف منقوص، وقال: هذا هو فعل رسول الله صلى الله عليه وآله "
وللمروي من طرق العامة عن الأسود بن يزيد " أنه شهد فتح
القادسية عبيد فضرب لهم سهامهم " وهما غير صريحين، بل ولا ظاهرين
في قسمة الغنيمة، فلا حجة فيهما خصوصا بعد الاعراض عنهما، والثالث
غير ثابت، ومحتمل لإرادة الرضخ من سهامهم، كل ذلك مع المعارضة

(1) الوسائل - الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 3.
(2) الوسائل - الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 3.
192

بالمروي (1) من طرق العامة عن عمر مولى آبي اللحم قال: " شهدت
خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وآله وأخبروه أني
مملوك فأمر لي بشئ من حرفي المتاع " وفي الدعائم (2) " وعن علي
عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ليس للعبد من
الغنيمة شئ وإن حضر وقاتل عليها، فإن رأى الإمام عليه السلام أو
من إقامة الإمام عليه السلام أن يعطيه على بلاء إن كان منه أعطاه من
حرفي المتاع ما رآه " مؤيدا بأنه ليس من أهل القتال وممن يجب
عليه الجهاد.
هذا كله في العبد المأذون، أما غير المأذون فلا سهم له إجماعا محكيا
في المنتهى إن لم يكن محصلا، بل لا رضخ له مع عصيانه في سفره،
ولا فرق في العبد بين القن والمدبر والمكاتب، نعم لو أعتق قبل تقضي
الحرب أسهم له، بل لو قتل مولى المدبر قبل تقضي الحرب وأخرج من
الثلث أسهم له أيضا، والمبعض يسهم له بقدر ما فيه من الحرية،
ويرضخ له بقدر ما فيه من الرق.
وأما الكفار فإنما يستحق من سهم المؤلفة والرضخ إذا خرج
بإذن الإمام، فلو خرج بغير إذنه لم يسهم له ولا يرضخ له بلا خلاف
كما اعترف به في المنتهى، ضرورة كونه حينئذ غير مأمون فهو كالمرجف
ولو غزا جماعة من الكفار بانفرادهم من غير إذن الإمام عليه السلام
كانت الغنيمة للإمام من الأنفال، لعموم النص الدال على ذلك، خلافا
لبعض العامة فجعلها لهم، ولا خمس فيها، ولآخر فأوجب الخمس فيها
وظاهر المصنف وغيره بل هو صريح بعض المفروغية من جواز الاستعانة

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 53 عن عمير مولى آبي اللحم.
(2) المستدرك - الباب 36 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
193

بالكفار المأمونين مع المصلحة، أما غير المأمون فلا يجوز الاستعانة به
إجماعا محكيا في المنتهى إن لم يكن محصلا، مضافا إلى قوله تعالى (1)
" وما كنت متخذ المضلين عضدا " وإلى أولويته من المسلم المرجف
والمخذل، بل عن أحمد في إحدى الروايتين عدم جواز الاستعانة بهم
مطلقا لبعض نصوص (2) مروية من طرق العامة غير ثابتة عندنا ولا
واضحة الدلالة، هذا، وفي المنتهى إذا استأجر الإمام عليه السلام أهل
الذمة للقتال جاز ولا تبين المدة لأن ذكر المدة غرر، فربما زادت مدة
الحرب أو نقصت، وعفي عن الجهالة هنا لموضع الحاجة، فإن لم يكن
قتال لم يستحقوا شيئا، وإن كان وقاتلوا استحقوا، وإن لم يقاتلوا ففي
الاستحقاق تردد ينشأ من أنه منوط بالعمل ولم يوجد، فلا استحقاق
ومن أنه يستحق بالحضور فإنه بمنزلة القتال، ولذا يستحق المسلم به
السهم، والأول أقوى، قلت: ينبغي الجزم به، كما أنه ينبغي الجزم
بعدم جواز عقد الإجارة المعتبر فيه المعلومية، إذ دعوى الاغتفار هنا
للحاجة لا شاهد لها، بل يمكن جعله من باب الجعالة التي هي أوسع
من الإجارة أو من باب الأعمال بالأعواض من دون عقد إجارة، ولو
زادت الأجرة على سهم الراجل أو الفارس أعطيت لاستحقاقها حينئذ
بالعقد لا بالاغتنام، واحتمال العود إلى الرضخ في غاية الضعف، بل
هو واضح الفساد.
ثم إن ظاهر المصنف وغيره بل هو صريح بعض اختصاص الرضخ
بالمذكورين، لكن عن الشيخ في المبسوط والنهاية إلحاق الأعراب بهم،
وتسمع الكلام فيه إنشاء الله عند تعرض المصنف له.

(1) سورة الكهف - الآية 49.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 37.
194

وكذا يبدء بصفو المال، فإن للإمام عليه السلام أن يصطفي من
الغنيمة لنفسه قبل كمال القسمة من فرس جواد وثوب مرتفع وجارية
حسناء وسيف قاطع وغير ذلك مما هو صفو المال ولم يضر بالجيش بلا
خلاف أجده فيه بيننا، من غير فرق بين النبي صلى الله عليه وآله
والإمام عليه السلام عندنا خلافا للعامة، فخصوه بالنبي صلى الله عليه وآله
، ولعله لعدم إمام معصوم عندهم، بل في المنتهى وعن الغنية
والتذكرة وغيرهما الاجماع عليه، وفي الدعائم (1) " روينا عن جعفر
ابن محمد عليهما السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله أرسل بعثين إلى
اليمن على أحدهما علي عليه السلام وعلى الآخر خالد بن الوليد، وقال:
إذا اجتمعتم فعلي عليه السلام أميركم، وإذا افترقتم فكل واحد على
أصحابه، فأصاب القوم سبايا فاصطفى علي عليه السلام جارية لنفسه،
فكتب بذلك خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وأرسل
الكتاب مع بريدة، وأمره أن يخبر النبي صلى الله عليه وآله ففعل،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن عليا مني وأنا منه، وله ما
اصطفى، وتبين الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال
بريدة: هذا مقام العائذ بك يا رسول الله، بعثتني مع رجل وأمرتني
بطاعته، فبلغت ما أرسلني به، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
إن عليا عليه السلام ليس بظلام، ولم يخلق للظلم، وهو أخي ووصيي
وولي أمركم بعدي " وفي مرسل حماد (2) عن العبد الصالح عليه السلام
" للإمام صفو المال أن يأخذ من هذه الأموال، صفوها الجارية الفارهة

(1) دعائم الاسلام ج 1 ص 382 المطبوع عام 1383.
(2) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأنفال الحديث 4 من
كتاب الخمس.
195

والدابة الفارهة والثوب والمتاع مما يحب ويشتهي،
وذلك له قبل القسمة
وقبل إخراج الخمس، وله أن يسد بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل
إعطاء المؤلفة وغير ذلك من أصناف ما ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شئ
أخرج الخمس منه وقسمه بين أهله، وقسم الباقي على من ولي ذلك،
فإن لم يبق بعد سد النوائب شئ فلا شئ لهم " والضعف في الارسال
مجبور بما عرفت، على أن حماد من أصحاب الاجماع، نعم لم أجد
من أفتى بما في ذيله من أن له سد ما ينوبه بجميع المال إلى آخره
بالنسبة إلى الغنيمة إلا أبا الصلاح، فإنه قال على ما حكاه عنه في
المختلف له أن يصطفي لنفسه قبل القسمة الفرس والسيف والدرع والجارية
وأن يبدء بسد ما ينوبه من خلل في الاسلام وتقوية مصالح أهله، ولا يجوز
أن يعترض عليه إن استغرق جميع المغانم، وفيه أنه كذلك لو
فرض وقوعه منه، لعدم جواز الاعتراض عليه لعصمته عليه السلام،
ولقوله تعالى (1) " ما آتاكم " وقوله تعالى (2): " النبي أولى بالمؤمنين "
وغير ذلك مما دل على ولايته، إنما الكلام في أن مقتضى ما وصل إلينا
من الأدلة ذلك أولا، ولا ريب في ظهور الخبر المزبور فيه، إلا أنه
مناف لظاهر غيره منها كتابا وسنة، بل لعل الاصطفاء ظاهر في التخصيص
ببعض، وعلى كل حال فقد تقدم في كتاب الخمس أن ذلك من
جملة الأنفال.
ثم إن ظاهر النص والفتوى أن للإمام عليه السلام صفو المال
قبل الخمس، لكن في المنتهى أن البحث فيه بالنسبة إلى تقدمه على
الخمس وتأخره كالبحث في الرضخ إلى آخره، ولا يخلو من نظر، وعلى

(1) سوره الحشر - الآية 7.
(2) سوره الأحزاب - الآية 6.
196

كل حال فلا خمس فيه عليه قطعا، وإنما الكلام في الجعائل والسلب
والرضخ والمؤن، فلا يخرج الخمس منها كما أشار إليه المصنف بعد أن
ذكر البدأة بها بقوله (ثم يخرج الخمس) كما عن الشيخ في المبسوط
(و) لكن (قيل) والقائل الشيخ أيضا في محكي الخلاف (بل
يخرج الخمس مقدما) عليها (عملا بالآية) واختاره الشهيدان وغيرهما
لصدق الغنيمة وظاهر المرسل السابق وغير ذلك (و) لكن (الأول
أشبه) بأصول المذهب وقواعده في مثل الجعائل إذا كان قد جعلها مقدمة
على الخمس صريحا أو ظاهرا، بل وكذا المؤن الذي يمكن استفادتها
أيضا من المرسل السابق، ومن معقد محكي إجماع الغنية، ومن كونها
مؤونة ومصلحة راجعة لأرباب الخمس وغيرهم نحو مؤن الزكاة، أما الرضخ
فقد يقوى القول بتقديم الخمس عليه باعتبار كونه كالسهم من الغنيمة
وإن كان ناقصا، فإن نقصانه لا يخرجه عن اسم الغنيمة التي يخرج
خمسها لأربابها، ثم تقسم الأربعة بين أهلها، ومنهم من يرضخ لهم
منها، ولعله لذا كان المحكي عن الإسكافي وابن حمزة وغيرهما تقديم
الخمس على النفل المراد به هنا زيادة الإمام عليه السلام نصيب بعض
الغانمين لمصلحة صادرة منه لدلالة وإمارة وهجوم على حصن وتجسس
ونحو ذلك مما فيه نكاية للكفار ونحو ذلك، وفي النبوي (1) " لا نفل
إلا بعد الخمس " بل لعل المرسل السابق مشعر بذلك أيضا، نعم قد
يقال بوجوب الخمس عليهم من حيث أنه نوع تكسب، فيجب حينئذ
عليهم من هذه الجهة بشرائط وجوبه في أرباح التجارة المراد بها كلما
يستفيده الانسان بتكسب بعد إخراج مؤونة سنته.

(1) سنن البيهقي - ج 9 ص 614 وكنز العمال - ج 2 ص 272
الرقم 5825.
197

وعلى كل حال فالرضخ على ما ذكره غير واحد من الأصحاب
العطاء اليسير، والمراد به هنا العطاء الذي لا يبلغ سهم الفارس إن
كان المرضوخ له فارسا، ولا الراجل إن كان راجلا، قال في المنتهى
" ومعنى الرضخ أنه يعطى المرضوخ له شيئا من الغنيمة، ولا يسهم له
سهم كامل، ولا تقدير للرضخ، بل هو موكول إلى نظر الإمام عليه
السلام، فإن رأى التسوية بينهم سوى، وإن رأى التفضيل فضل، وهذا
مذهب علمائنا أجمع وأكثر أهل العلم " إلى آخره، ثم قال أيضا:
" وليس له قدر معين، بل هو موكول إلى نظر الإمام عليه السلام، لكن
لا يبلغ للفارس سهم فارس، ولا للراجل سهم راجل، كما لا يبلغ
بالحد التعزير، وينبغي أن يفضل بعضهم على بعض بحسب مراتبهم وكثرة
النفع بهم، فيفضل العبد المقاتل الشديد على من ليس كذلك، وتفضل
المرأة المقاتلة التي تسقي الماء وتداوي الجرحى وتعتني بالمجاهدين على من
ليست كذلك، وبالجملة يفاوت بينهم بالعطاء بحسب تفاوت النفع بهم
ولا يسوي بينهم كما يسوي في السهام، لأن السهم منصوص غير موكول
إلى الاجتهاد فلم يختلف كالحد والدية، وأما الرضخ فإنه غير مقدر بل مجتهد
فيه مردود إلى اجتهاده كالتعزير وقيمة العبد وغير ذلك " ولعل المتجه الجمع
بين كلاميه بإرادة رجحان التفاوت بينهم على حسب تفاوت النفع لا
وجوبه كي ينافي ما تقدم، والخنثى المشكل في حكم المرأة في عدم السهم
لعدم العلم بالذكورة التي هي شرط وجوب الجهاد المقتضي للسهم، وفي
المسالك عن بعض له نصف سهم ونصف رضخ كالميراث، وهو كما ترى
(ثم) بعد أن يخرج الخمس (يقسم الأربعة أخماس بين
المقاتلة ومن حضر القتال ولو لم يقاتل حتى الطفل ولو ولد بعد الحيازة
وقبل القسمة) بلا خلاف أجده في شئ من ذلك، بل عن الغنية
198

والمنتهى والتذكرة الاجماع عليه، مضافا إلى خبر مسعدة بن صدقة (1)
عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام " إن عليا عليه السلام قال:
إذا ولد المولود في أرض الحرب قسم له مما أفاء الله عليهم " وفي آخر (2)
" أسهم له " وإلى المروي (3) من طرق العامة عن النبي صلى الله عليه
وآله " أنه أسهم للصبيان بخيبر " نعم الظاهر إرادة المصنف وغيره من
حضر القتال لأن يقاتل والطفل الذكر منهم أو من غيرهم من المقاتلين
كما عن جماعة التصريح به، فلا سهم لمن حضر لصنعة خاصة أو حرفة
كذلك أو نحو ذلك ولم يجاهدوا فضلا عن الطفل منهم، وفي المسالك
وإطلاق الفتاوى يقتضي عدم الفرق بين كونه من أولاد المقاتلة وغيرهم
وبين حضور أبويه وأحدهما وعدمه، ولعله يريد من حضر للقتال من
المقاتلة لا مطلقا، ولو اشتبه الحال في الحضور للقتال وعدمه فعن
الشيخ استحقاق الاسهام لأنه يستحق بالحضور، وفيه أنه لم يثبت كون
العنوان ذلك، اللهم إلا أن يكون معقد الاجماع، لكن قد عرفت
انسياق من حضر للقتال منه، بل قد سمعت ما في مرسل حماد من
القسمة بين من ولي ذلك.
(وكذا) يشارك أيضا (من اتصل بالمقاتلة من المدد ولو بعد
الحيازة) بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل في المنتهى وعن التذكرة
والتحرير الاجماع على ذلك إذا لحقوا قبل تقضي الحرب، بل ظاهر
الأول ومحكي الأخيرين والغنية ذلك أيضا بعد تقضي الحرب (قبل

(1) الوسائل - الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 8 - 9.
(2) الوسائل - الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 8 - 9.
(3) المنتقي من أخبار المصطفى ج 2 ص 789 الرقم 4335.
199

القسمة) وفي خبر حفص بن غياث (1) " كتب إلي بعض إخواني أن
أسأل أبا عبد الله عليه السلام عن مسائل من السير فسألته وكتبت بها
إليه فكان فيما سألت أخبرني عن الجيش إذا غزوا أرض الحرب فغنموا
غنيمة، ثم لحقهم جيش آخر قبل أن يخرجوا إلى دار الاسلام ولم يلقوا
عدوا حتى يخرجوا إلى دار الاسلام فهل يشاركونهم فيها قال: نعم " وفي
خبر طلحة بن زيد (2) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام " في
الرجل يأتي القوم وقد غنموا ولم يكن ممن شهد القتال قال: فقال:
هؤلاء المحرومون، فأمر أن يقسم لهم " ولعل المراد المحرمون من ثواب
القتال، وعن الشيخ احتمال الحمل على ما لو لحقوهم بعد الخروج إلى
دار الاسلام، والأول يحتمل التخصيص بحضور القتال، قلت لا داعي
إلى ذلك بعد إطلاق الفتاوى، نعم لا خلاف في عدم المشاركة مع
اللحوق بعد القسمة، بل في حاشية الكركي وعن الكتب الثلاثة الاجماع
على ذلك، فينبغي تقييد الخبرين بغيره.
ولو تخلص الأسير المسلم من يد المشركين ولحق بالمسلمين بعد
تقضي الحرب والقسمة لم يسهم له إجماعا محكيا إن لم يكن محصلا إذ
لا يزيد على المدد، نعم لو لحق قبل انقضائها وقاتل مع المسلمين استحق
عندنا كما في المنتهى لأنه مسلم حضر وقاتل فاستحق السهم كغيره من
المجاهدين، بل الظاهر ذلك لو حضر للقتال ولم يقاتل كما عن الشيخ
التصريح به، لكونه كغيره ممن عرفت، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة
والشافعي في أحد قوليه.

(1) الوسائل - الباب 37 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2.
(2) الوسائل - الباب 37 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2.
200

ولو بعث الأمير لمصلحة الجيش رسولا أو دليلا أو طليعة أو
جاسوسا لينظر عددهم وينقل أخبارهم فغنم الجيش قبل رجوعه ففي
المنتهى الذي يقتضيه مذهبنا أنه يسهم له لأن القتال عندنا ليس شرطا
في استحقاق الغنيمة، بل تقسم على كل من حضر القتال، قلت: لعل
الوجه أنهم من الجيش فيشاركون لذلك، وإلا يمكن فرض عدم
حضورهم القتال.
وكيف كان يخرج الأربعة أخماس (ثم يعطى الراجل سهما)
بلا خلاف بين العامة والخاصة، وهو من لم يكن راكبا فرسا وإن
ركب بغلا أو حمارا أو غير هما كما ستعرف (والفارس) أي راكب
الفرس أو مستصحبها (سهمين، وقيل) والقائل الإسكافي منها والأكثر
من الجمهور (ثلاثة) أسهم (والأول أظهر) وأشهر، بل المشهور
شهرة عظيمة، بل عن الغنية الاجماع عليه، وهو الحجة بعد خبر حفص
ابن غياث (1) المنجبر بما عرفت " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
مسائل من السير، وفيها كيف تقسم الغنيمة بينهم؟ فقال: للفارس
سهمان وللراجل سهم " المؤيد بخبره الآتي (2) أيضا وبالمروي (3) من
طرق الجمهور عن المقداد رضي الله عنه قال: " أعطاني رسول الله صلى
الله عليه وآله سهمين سهما لي وسهما لفرسي " وعن مجمع بن جارية (4)
" إن رسول الله صلى الله عليه وآله قسم خيبر على أهل الحديبية فأعطى.

(1) الوسائل - الباب 38 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(2) الوسائل - الباب 38 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(3) كتاب نصب الراية ج 3 ص 417.
(4) سنن البيهقي ج 9 ص 325.
201

الفارس سهمين، والراجل سهما " فما في خبر إسحاق بن عمار (1)
عن جعفر عن أبيه عليهما السلام " إن عليا عليه السلام كان يجعل
للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما " المؤيد ببعض (2) نصوص الجمهور
القاصر عن معارضة ما سمعت من وجوه مطرح أو محمول على التقية
كما يرشد إليه النسبة إلى علي عليه السلام وخصوص الراوي، أو على
ذي الفرسين فصاعدا.
(و) ذلك لأن (من كان له فرسان فصاعدا أسهم لفرسين
دون ما زاد) بلا خلاف أجده فيه، بل في ظاهر الرياض ومحكي الغنية
والتذكرة وصريح المنتهى الاجماع عليه، وهو الحجة بعد خبر الحسين بن
عبد الله (3) عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين عليه السلام " إذا
كان مع الرجل أفراس في غزو لم يسهم إلا لفرسين منها " المنجبر بما
عرفت، والمؤيد بالمروي (4) من طرق العامة عن النبي صلى الله عليه
وآله " كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان
معه عشرة أفراس ".
ولو غزا العبد بإذن مولاه على فرس لسيده رضخ للعبد، وأعطي
سهم الفرس، فإن كان معه فرسان أعطي لهما سهمان مع الرضخ له،
والكل للسيد، خلافا للشافعي وأبي حنيفة فلا سهم للفرس، لأنها تحت
من لا سهم له، وفيه أن الرضخ قسم من السهم، نعم لو كانت تحت
المخذل الذي لا يستحق شيئا بالحضور فضلا عن فرسه اتجه ذلك، كما

(1) الوسائل - الباب 42 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 1.
(2) سنن البيهقي ج 6 ص 327.
(3) الوسائل - الباب 42 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 1.
(4) سنن البيهقي ج 6 ص 328 وكتاب نصب الراية ج 3 ص 418.
202

أنه يمكن أن يقال إن المتجه أن يرضخ له دون سهم الفارس، مثل
ما إذا غزت المرأة والكافر على فرس لهما، اللهم إلا أن يفرق بأن
الفرس لهما، وهما لم يستحقا سهما، ففرساهما أولى فليس إلا الرضخ
دون سهم الفارس، بخلاف العبد فإن الفرس لسيده، ولكن الانصاف
عدم خلوه من النظر، والله العالم.
(وكذا الحكم) في كيفية القسمة (لو قاتلوا في السفن وإن
استغنوا عن الخيل) فللفارس سهمان وللراجل سهم ولذي الفرسين فصاعدا
ثلاثة أسهم بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به الفاضل في المنتهى
بل عن الغنية الاجماع عليه، وهو الحجة بعد خبر حفص (1) المنجبر
بما سمعت " قال: " كتب إلي بعض إخواني أن أسأل أبا عبد الله
عليه السلام عن مسائل من السير، فسألته وكتبت بها إليه، فكان فيما
سألت عن سرية كانوا في سفينة فقاتلوا وغنموا وفيهم من معه الفرس
وإنما قاتلوا في السفينة ولم يركب صاحب الفرس فرسه كيف تقسم
الغنيمة بينهم؟ قال: للفارس سهمان، وللراجل سهم، فقلت: لم
يركبوا ولم يقاتلوا على أفراسهم فقال: أرأيت لو كانوا في عسكر فتقدم
الرجالة فقاتلوا فغنموا كيف أقسم بينهم، ألم أجعل للفارس سهمين
وللراجل سهما، وهم الذين غنموا دون الفرسان فقلت: فهل يجوز
للإمام عليه السلام أن ينفل؟ فقال: له أن ينفل قبل القتال، فأما
بعد القتال والغنيمة فلا يجوز ذلك، لأن الغنيمة قد أحرزت ".
ومنه يعلم أنه يسهم للخيل مع حضورها الوقعة وإن لم يقاتل
عليها ولا احتيج إليها كما يسهم لها مع الغزو عليها، بل في المنتهى لا

(1) ذكر صدره في الوسائل في الباب 37 من أبواب جهاد العدو
الحديث 1 وذيله في الباب 38 منها الحديث 1.
203

نعلم فيه خلافا يعتد به، لأنه أحضرها للقتال، وقد يحتاج إليها،
وقد لزمه المؤونة لها فكان السهم مستحقا كالمقاتل عليها، ولأنها حيوان
ذو سهم حضر الوقعة فاستحق السهم بمجرد حضوره كالآدمي، بل الظاهر
أن القسمة كذلك لو كانت الغنيمة من فتح مدينة أو حصن، لأن النبي
صلى الله عليه وآله قسم غنائم خيبر كذلك، وهي حصون، وللاطلاق
ومن ذلك يعلم خطأ الولاة قبل عمر بن عبد العزيز، فإنهم على ما
يحكى كانوا يجعلون الناس في فتحها كلهم رجالة حتى ولى عمر بن
عبد العزيز فأنكر ذلك، وأمر باسهامها من فتح الحصون والمدن.
ولو غزا جماعة على فرس واحد على التبادل فالمحكي عن الإسكافي
أنه يعطى لكل واحد سهم راجل، ثم يفرق بينهم سهم فرس واحدة
واستحسنه الفاضل، وقد يقال باختصاص السهم بمن كان راكبا لها
عند حيازة الغنيمة بناءا على كون المدار في الفارس على ذلك، كما
ستسمعه إنشاء الله، والله العالم.
(ولا يسهم للإبل والبغال والحمير) والبقر والفيلة ونحوها وإن
قامت مقام الخيل في النفع أو زادت بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل
في المنتهى قاله العلماء، وهو قول عامة أهل العلم، ومذهب الفقهاء في
القديم والحديث، وحكي عن البصري أنه قال: يسهم للإبل خاصة
وعن أحمد روايتان إحداهما أنه يسهم للبعير سهم واحد، ولصاحبه
سهم آخر الثانية إن عجز عن ركوب الخيل فركب البعير أسهم له
ثلاثة أسهم، سهمان لبعيره، وسهم له، وإن أمكنه الغزو على الفرس
لم يسهم لبعيره، قلت: كأنه لم يحتفل بهما فلم يستثنهما من العلماء ولا
من عامة أهل العلم، ولعله كذلك، ضرورة أنه لم ينقل عن النبي صلى
الله عليه وآله إسهام غير الخيل، مع أنه كان معه يوم بدر سبعون بعيرا
204

بل لم تنفك غزواته من استصحاب النجب، بل كانت هي الغالب في
دوابهم، بل لم ينقل من أحد بعده ذلك أيضا، ولا دلالة في قوله
تعالى (1) " فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " على شئ من ذلك
(و) هو واضح.
نعم (إنما يسهم للخيل وإن لم تكن عرابا) بلا خلاف أجده
فيه بيننا، فلا فرق بين العتيق الذي أبواه عربيان عريقان كريمان
والبرذون الذي أبوه وأمه عجميان والمقرف الذي أبوه برذون وأمه عتيقة
والهجين الذي أبوه عتيق وأمه عجمية، لصدق الفرس والفارس على ذلك
كله (و) قال ابن الجنيد منا (لا يسهم من الخيل القحم) بفتح
القاف وسكون الحاء المهملة وهو الكبير المسن الهرم الفاني (والرازح)
بالراء المهملة ثم الزاء بعد الألف ثم الحاء المهملة، وهو الذي لا حراك
به من الهزال كما في المنتهى وعن المبسوط وعن الجوهري الهالك هزالا
(والضرع) بفتح الضاد المعجمة والراء المهملة وهو الصغير الذي لا
يركب كما عن المبسوط، بل في المسالك نسبته إلى تفسير الفقهاء، وفي
الصحاح الضرع بالتحريك الضعيف، وفي المنتهى الصغير الضعيف الذي
لا يمكن القتال عليه، والحطم وهو الذي ينكسر من الهزال، والأعجف
وهو المهزول (لعدم الانتفاع بها في الحرب، وقيل) والقائل الشيخ في
المبسوط والخلاف والحلي فيما حكي عنهما (يسهم مراعاة للاسم، وهو
حسن) عند المصنف والفاضل في بعض كتبه وثاني الشهيدين وغيرهم
للصدق، ولكن عن المبسوط والخلاف أن على الإمام عليه السلام أن
يتعاهد خيل المجاهدين، ولا يترك أن يدخل دار الحرب نحو هذه الأفراس
قال: لأن هذه الأفراس لا يمكن القتال عليها بلا خلاف، وهو مشعر

(1) سورة الحشر - الآية 6.
205

بعدم الاسهام لها مع إرادة الوجوب، ولعله يريد الندب الذي يشعر
به التعبير بلفظ " ينبغي " في المنتهى ومحكي التذكرة، ولكن الانصاف
الشك في اندراج اسم الفارس على راكب هذه الأفراس، خصوصا إذا
كان للغزو وللقتال اللذين معظم ما يراد من الفرس فيهما الكر والفر
ودعوى استحقاقهم السهم كالطفل والمدد الذين لم يقاتلوا قياس مستقبح
والتحقيق الاندراج في العنوان وعدمه، ولعل أفراده مختلفة، ومع الشك
لا سهم، والله العالم.
(ولا يسهم لل‍) فرس ال‍ (مغصوب إذا كان صاحبه غائبا)
لا لمالكه ولا لراكبه وإن استحق هو سهمه بلا خلاف أجده فيه بيننا
للأصل السالم عن معارضة ما تقدم المنساق منه غير الفرض وإن استحق
المالك على الغاصب أجرة المثل، ولكن إن لم يكن إجماع أمكن المناقشة
باستحقاق الراكب سهم الفارس، للصدق مع منع انسياق سهم غيره
منه، ولعله لذا كان المحكي عن بعض العامة ذلك (ولو كان صاحبه
حاضرا) في الحرب (كان لصاحبه سهمه) كما صرح به الفاضل وغيره
بل لا أجد فيه خلافا بين من تعرض له إلا ما يحكى عن المبسوط
والخلاف والوسيلة وعن بعض العامة من إطلاق عدم السهم للفرس،
كما عن مالك إطلاق السهم للمالك، وهما معا كما ترى، وفي المنتهى
الاستدلال على التفصيل المزبور بأنه مع الحضور قاتل على فرسه من
يستحق السهم فاستحق السهم كما لو كان مع صاحبه، وإذا ثبت أن
للفرس سهما ثبت لمالكه، لأن النبي صلى الله عليه وآله جعل للفرس
سهما ولصاحبه سهما، وما كان للفرس كان لمالكه، أما مع الغيبة فإن
الغاصب لا يملك منفعة الفرس، والمالك لم يحضر، فلم يستحق سهما
ولا فرسه سهما، وفيه أن الموجود في النصوص السابقة سهمان للفارس
206

وليس في شئ سهم منهما للفرس، نعم في المروي (1) عن أمير المؤمنين
عليه السلام المتقدم سابقا " إذا كان مع الرجل أفراس في غزو لم يسهم
إلا لفرسين منها " والمراد السهم للرجل باعتبارها، وإلا لو كان المراد
السهم لها على معنى استحقاقها ذلك على وجه يكون لمالكها لم يفرق بين
حضوره وغيبته، مع أنه لا يصدق على صاحبها أنه فارس بعد أن غصب
منه، بل الصدق متحقق على الغاصب، ومن هنا كان المتجه ما سمعته
سابقا من استحقاق الغاصب سهمين، ويستحق عليه الأجرة، وأما دعوى
أنه ليس له إلا سهم الراجل سواء كان المالك حاضرا أو غائبا فلا تقوم
به الأدلة، خصوصا بعد معلومية أن السهم المجعول للفرس ليس من
منافعها التي تكون للمالك، ولا من النماء وإنما هو تبعي للفارس،
اللهم إلا أن يكون إجماعا، فيكون هو الحجة، وربما ظهر من بعض
عبارات المنتهى، قال فيه: لو كان الغاصب ممن لا سهم له كالمرجف
والمخذل فعندنا أن سهم الفرس للمالك إن كان حاضرا، وإلا فلا شئ
له، وقال بعض الجمهور: إن حكم المغصوب حكم فرسه، لأن الفرس
يتبع الفارس في حكمه، فيتبعه إذا كان مغصوبا قياسا على فرسه،
وليس بمعتمد، لأن النقص في الراكب والجناية منه، فاختص المنع به
وبتوابعه كفرسه التابعة له، بخلاف المغصوب فإنه لغيره، فلا ينقص
سهمه، وكذا البحث لو غزا العبد بغير إذن مولاه على فرس مولاه،
ولا يخفى عليك قوة ما حكاه عن بعض الجمهور بعد الإحاطة بما ذكرناه
إن لم يكن مراده من قوله " عندنا " الاجماع، وإلا فهذه الاعتبارات
لا تصلح مدركا لحكم شرعي، بل المتجه في العبد أيضا ما أشرنا إليه
سابقا من أنه يرضخ له دون سهم الفارس لا دون سهم الراجل، ثم

(1) الوسائل - الباب 42 من أبواب العدو الحديث 1.
207

من المعلوم عدم سقوط الأجرة عن الغاصب وإن أخذ المالك السهم بناء
عليه كما صرح به غير واحد، وهو واضح، والله العالم.
(ويسهم للمستأجر) بالفتح للغزو أو ما يشمله (والمستعار)
كذلك (ويكون السهم للمقاتل) دون المعير والمستأجر كما صرح به
غير واحد، بل في المنتهى ومحكي التذكرة نفي الخلاف في الأول، بل
ظاهرهما ذلك أيضا في الثاني، بل هو صريح المحكي عن المبسوط، بل
لعله لا إشكال فيه بناءا على ما ذكرناه من صدق اسم الفارس على كل
منهما، بل لعله الحكم به هنا في المستعار مؤيد لما قلناه، ضرورة عدم
ملك المستعير المنفعة كالمستأجر، فليس حينئذ إلا الصدق، ومن ذلك
يعرف ما في استدلال المنتهى له بأنه فرس قاتل عليه من يستحق سهما
وهو مالك لنفعه، فاستحق سهم الفرس كالمستأجر، إذ هو كما ترى
ولو استأجر أو استعار لغير الغزو فغزا كان بحكم المغصوب الذي قد
سمعت الكلام فيه، هذا، وعن ابن الجنيد الأجير الذي لم يمكنه الغزو
إلا بإجارة نفسه بمأكله ومحمله له سهم، فإن كان مستأجرا بعوض
يأخذه وشرط على من استأجره أن له سهما كان ذلك له، وإلا فهو
للمستأجر، وفيه أن السهم يستحقه الحاضر بحضوره، فليس للمستأجر
فيه حق، لانتفاء المقتضي، والعوض دفعه المستأجر عن الجهاد لا عن الغنيمة،
ولعله لذا قال في المحكي عنه، إذا استأجر رجل أجيرا ودخلا معا
دار الحرب فإنه يسهم للمستأجر والأجير، سواء كانت الإجارة في الذمة
أو معينة، ويستحق مع ذلك الأجرة، نعم قد يقال إذا كانت الأجرة
على وجه تكون منافعه أجمع للمستأجر حتى لو حاز مباحا اتجه حينئذ
كونه للمستأجر، والله العالم.
208

(و) كيف كان ف‍ (الاعتبار بكونه فارسا) يستحق سهمه
(عند حيازة الغنيمة لا بدخوله المعركة) فلو دخلها فذهب فرسه
وتقضى الحرب وهو راجل لم يستحق إلا سهم راجل كما صرح به غير
واحد، بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به بعض الأفاضل، بل ولا
إشكالا كما في المسالك، ولعله لانسياق غيره من قوله عليه السلام (1)
" للفارس سهمان " إنما الكلام في اشتراط كونه على الوصف عند الحيازة
كما هو مختار المصنف والأكثر كما في المسالك والرياض، أو يعتبر كونه
كذلك عند القسمة كما هو خيرة الكركي وثاني الشهيدين، لأنه محل
اعتبار الفارس والراجل ليدفع إليهما حقهما، مؤيدا بفحوى استحقاق
المولود والمدد اللاحق بعد الغنيمة قبل القسمة، فتأمل، أو يكفي
أحدهما كما هو محتمل بعض نسخ القواعد، أو يعتبر كونه كذلك من
حين الحيازة إلى القسمة كما عن بعض نسخ القواعد أيضا، وربما بني
الخلاف هنا على الخلاف في أن الملك بالحيازة أو القسمة، وحينئذ يتجه
الأول لظهور الأدلة في الملك بها، خصوصا التعليل في خبر حفص (2)
السابق لعدم النفل بعد انقضاء القتال بأن الغنيمة قد أحرزت، وأظهر
منه ما في الدعائم (3) عن علي عليه سلام الله أنه قال: " من مات
في دار الحرب من المسلمين قبل أن تحرز الغنيمة فلا سهم له فيها،
وإن مات بعد أن أحرزت فسهمه ميراث لورثته، ولا قوة إلا بالله "
كل ذلك مع ملاحظة انجباره بالعمل، فإن الأكثر كما عرفت على ذلك
بل لم يخالف إلا الكركي وثاني الشهيدين، وإلحاقه بالمدد والمولود لا

(1) الوسائل - الباب 38 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(2) الوسائل - الباب 38 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(3) المستدرك - الباب 36 من أبواب جهاد العدو الحديث 7.
209

يخرج عن القياس، ودعوى صدق اسم الفارس عندها فيشمله الاطلاق
يدفعها انسياق غير ذلك منه، فالأصل عدم استحقاقه السهمين
حينئذ، فتأمل.
(و) كيف كان ف‍ (الجيش يشارك السرية في غنيمتها إذا
صدرت عنه) وبالعكس بلا خلاف أجده فيهما، بل في المسالك هو
أي الأخير موضع وفاق، وفي المنتهى هو أي الأول قول العلماء كافة إلا
الحسن البصري، فإنه قال: تنفرد السرية، ولا ريب في ضعفه، بل
هو مخالف للمروي من طرقهم عن النبي صلى الله عليه وآله " لما
غزا هوازن وبعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت السرية فأشرك
بينها وبين الجيش " وبالمروي (1) عنه صلى الله عليه وآله أيضا من طرقهم
" أنه صلى الله عليه وآله كان ينفل أي للسرية في البدءة الربع، وفي
الرجعة الثلث " وهو دليل على الاشتراك فيما سوى ذلك، على أنهم
جيش واحد، وكل منهم ردء لصاحبه، فاشتركوا كما لو غنم أحد جانبي
الجيش، وكذا الرسول المنفذ من الجيش لمصلحة والدليل والطليع
والجاسوس ونحوهم في الاشتراك.
(وكذا لو خرج منه سريتان) إلى جهة واحدة فغنمتا اشترك
الجيش والسريتان بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به في المنتهى، بل
ولا إشكال بعد ما سمعته في الواحدة، بل عن الشيخ الاشتراك أيضا
لو بعثهما إلى جهتين، ولعله لما عرفت، (و) لكن لا يخلو من نظر.
(أما لو خرج جيشان من البلد إلى جهتين لم يشرك أحدهما
الآخر) في غنيمته بلا خلاف أجده فيه ولا إشكال، نعم لو اجتمعا

(1) كنز العمال ج 2 ص 309 الرقم 6423.
210

كانا جيشا واحدا (وكذا لو خرجت السرية من جملة عسكر البلد
لم يشركها العسكر) بلا خلاف ولا إشكال (لأنه ليس بمجاهد) ولمعلومية
اختصاص السرايا بما يغنمونه في زمن النبي صلى الله عليه وآله حيث
يكون مقيما في المدينة، بل في المنتهى لو بعث الإمام سرية وهو مقيم
في بلد الاسلام فغنمت السرية اختصت بالغنيمة، ولا يشاركهم أهل
البلد فيها بلا خلاف، ولا الإمام عليه السلام ولا جيشه، لأنها للمجاهدين
والمقيم ببلد الاسلام غير مجاهد، ولكن قد يشكل بأن المتجه مشاركة
الجيش لها إذا كانت قد صدرت منه وكان ردءا لها وإن بقي في بلد من
بلاد الاسلام، اللهم إلا أن يقال إن الأصل عدم الاشتراك، بل ظاهر
الأدلة الاختصاص بالمقاتلة ومن في حكمهم من المدد، فلا يدخل فيهم
العسكر وغيره، بل ربما قيل لولا عدم الخلاف في المسألة السابقة
لكان اختصاص السرية بما غنمته دون جيشها مطلقا في غاية القوة إذا
لم يلحقها، كما هو فرض المسألة، وإلا فمع فرض اللحوق تكون مسألة
أخرى تقدمت إليها الإشارة، ولا إشكال في حكمها بعد ما سمعته من
النص والفتوى فيها، ولولا هما لكانت محل إشكال أيضا، وهذا، وعن
الإسكافي إذا دهم المدينة عدو فخرج أهلها يتناصرون فانهزم العدو وغنم
أوائل المسلمين كان كل من خرج أو تهيأ للخروج أو أقام بالمدينة
لحراستها شركاء في الغنيمة، وكذلك لو جاهدهم العدو فباشر حربه
بعض أهل المدينة إلى أن ظفروا وغنموه إذا كانوا مشتركين في المعونة لهم
والحفظ للمدينة وأهلها، فإن كان الذين هزموا العدو ولقوه على ثماني
فراسخ من المدينة فقاتلوه وغنموه كانت الغنيمة لهم دون من كان في
المدينة الذين لم يعاونوهم خارجها، وكأنه لاحظ مسافة القصر وعدمها
كما أنه لاحظ في الشركة أولا كونهم جميعا بعضهم ردء للآخر، فيصدق
211

على الجميع أنهم الغانمون كالجيش الواحد، والله العالم.
(ويكره تأخير قسمة الغنيمة في دار الحرب إلا لعذر) كخوف
المشركين ونحوه على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، بل لم يحك
الخلاف في ذلك إلا من الإسكافي، فجعل الأولى القسمة في دار الاسلام
وإن جازت في دار الحرب محتجا بأن رسول الله صلى الله عليه وآله قسم
غنائم خيبر والطائف بعد خروجه من ديارهم إلى الجعرانة (1) وهو لا
يدل على ما ذكره من الأولوية، ضرورة كونه حكاية حال، فيمكن
أن يكون ذلك منه لعذر، على أنه معارض بما رواه الشيخ (2) في
محكي المبسوط من أن رسول الله صلى الله عليه وآله قسم غنائم بدر بشعب
من شعاب الصفرا قريب من بدر، وكان ذلك دار حرب، بل روى
الجمهور (3) عن أبي إسحاق الفزاري قال: " قلت للأوزاعي: هل قسم
رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا من الغنائم بالمدينة؟ قال: لا أعلمه
إنما كان الناس يبتغون غنائمهم ويقسمونها في أرض عدوهم، ولم ينقل
عن رسول الله صلى الله عليه وآله في غزاة قط أصاب فيها غنيمة إلا خمسه
وقسمة قبل أن يتنقل، ومن ذلك غزاة بني المصطلق وهوازن وخيبر "
ولعله لذلك أو غيره قال في المسالك: والمختار الأول، ومستنده فعل
النبي صلى الله عليه وآله فإنه كذلك كان يفعله، رواه عنه العامة والخاصة
إلا أنه كما ترى لا دلالة فيه على الكراهة، بل أقصى ما يقضي به
استمرار فعله الرجحان دونها بعد معلومية الجواز عندنا بلا خلاف أجده
فيه بيننا، للأصل وغيره، بل لعله مقتضى الجمع بين ما سمعته من

(1) الصحيح هو غنائم حنين والطائف كما ذكره ابن خلدون في تاريخه
ج 2 ص 777 طبعة بيروت عام 1966 وكذلك غيره.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 56.
(3) سنن البيهقي ج 9 ص 56 و 57.
212

حكاية فعله، خلافا للحنفية فلا يجوز إلا في دار الاسلام، لعدم
تمامية الملك لهم إلا بالدخول فيها معها، ولأن لكل واحد من الغانمين
أن يستبد بالطعام والعلف في دار الحرب، فلا تجوز القسمة كحالة
بقاء الحرب، وهما معا ضعيفان، ضرورة تمامية الملك بالحيازة والقهر
كضرورة الفرق بين حالي الحرب التي لم يثبت للغانمين فيها حق التملك
وغيرها مما ثبت فيه الملك بالحيازة وقهر العدو وانقضاء الحرب، بل لعل
احتمال عدم جواز التأخير عن دار الحرب مع إرادة الغانمين حقوقهم
أقوى من ذلك، بل ربما كان ذلك هو السبب في حكم الأصحاب بالكراهة
بل لعله المستفاد مما سمعته من الأوزاعي " إنما كان الناس يبتغون غنائمهم "
ولو غزا المشركون المسلمين فهزمهم المسلمون قسموا غنائمهم مكانهم إن اختاروا
ذلك قبل إدخالها المدن، ولو كان المشركون أهل بادية مثلا ولا دار
لهم فغنمهم المسلمون كان قسمتها إلى الوالي إن شاء قسمها مكانه، وإن
شاء قسم بعضها وأخر بعضها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله
المغنم بخيبر، ولعل لذا حكي الأمران من فعله كما سمعته سابقا، والأمر سهل
(وكذا يكره إقامة الحدود فيها) كما ذكره الفاضل وغيره.
بل في محكي المبسوط في دار الحرب، وآخر حتى يعود إلى دار الاسلام
وإن رأى الإمام عليه السلام المصلحة في التقديم جاز، وظاهره عدم
الجواز في الأول، ولكنه واضح الضعف، ضرورة عدم دليل يصلح
معارضا لما دل على إقامتها، بل لا دليل واضح على الكراهة وإن عللوها
بمخافة لحوق المحدود الغيرة فيدخل في دار الحرب، إلا أنه كما ترى
سيما مع ملاحظة ما دل (1) على عدم جواز التأخير في الحدود، بل
لعل التسامح في الكراهة هنا لا يخلو من إشكال باعتبار المعارضة لدليل

(1) الوسائل - الباب 25 من أبواب مقدمات الحدود.
213

الحرمة، وعلى كل حال فقد استثنوا من ذلك حق القصاص معللين له
أيضا بانتفاء المانع من التقديم، وهو خوف اللحاق بدار الحرب، وهو
مع اختصاصه بقصاص النفس يقتضي استثناء جميع الحدود الموجبة
للقتل كالرجم ونحوه، والله العالم.
(مسائل أربع: الأولى المرصد للجهاد) أي الموقوف له (لا
يملك رزقه من بيت المال إلا أن يقبضه) كما عن المبسوط وغيره، بل
لا أجد فيه خلافا للأصل، وفي المنتهى ومحكي المبسوط والتذكرة " أن
الغزاة على ضربين: المطوعة، وهم الذين إذا نشطوا غزوا، وإذا لم
ينشطوا اشتغلوا بمعائشهم واكتسابهم، فهؤلاء لهم سهم من الصدقات،
وإذا غنموا في بلاد الحرب شاركوا، والثاني هم الذين أرصدوا أنفسهم
للجهاد، فهؤلاء لهم من الغنيمة الأربعة أخماس، ويجوز عندنا أن
يعطوا أيضا من الصدقة من سهم ابن السبيل، لدخولهم تحته، والتخصيص
يحتاج إلى دليل " وفيه منع صدق ابن السبيل عليهم، بل الأولى إعطاؤهم
من سهم سبيل الله أو من سهم الفقراء أو غير ذلك مما يوجد في بيت
المال مما يصلح مصرفا لهم.
وكيف كان (فإن حل وقت العطاء ثم مات) قال الشيخ فيما
حكي عنه: (كان لوارثه ذلك المطالبة، وفيه تردد) ينشأ من أن له
المطالبة به فيكون لوارثه ذلك كحق الشفعة والخيار، ومن أنه يملكه
بقبضه، فإذا مات قبله امتنع الملك في حقه، ولعل الأقوى عدم المطالبة
وفاقا للكركي وثاني الشهيدين، إذ الظاهر أن له الارتزاق من بيت
المال كغيره ممن يرتزق، فلا يزيد عن كونه مصرفا من مصارفه، وكان
كالفقير بالنسبة إلى الزكاة، ولذا كان لا منافاة بين استحقاق المطالبة
وعدم الملك، بل عدم استحقاق الوارث حتى لو مات بعد المطالبة،
214

ودعوى الفرق بينه وبين مستحقي الزكاة ونحوها من الحقوق لا دليل
عليها، وكون المرصد شخصا أو جماعة معنية لا يقتضي كون الاستحقاق
على نحو استحقاق الشعفة والخيار.
وينبغي للإمام عليه السلام اتخاذ ديوان فيه أسماء المرصدين وأسماء
القبائل، ويكتب عطاياهم، ويجعل لكل قبيلة عريفا، ويجعل لهم علامة
بينهم، ويعقد لهم الألوية، بل روي الزهري عن النبي صلى الله عليه وآله
" أنه عرف عام خيبر على كل عشرة عريفا، وجعل يوم فتح
مكة للمهاجرين شعارا، وللأوس شعارا، وللخزرج شعارا، عملا
بقوله تعالى (1): " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " ثم إذا أرادوا
القسمة قدم الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فالأقرب، فيقدم
بني هاشم على بني المطلب، ثم يقدم بني عبد شمس أخي هاشم من
الأبوين على بني نوفل أخيه من الأب، ثم يسوي بين عبد العزا وعبد
الدار، لأنهما أخو عبد مناف، فإن استووا في القرب قدم أقدمهم
هجرة، فإن تساووا قدم الأسن، فإذا فرغ من عطايا قرابة النبي صلى
الله عليه وآله بدأ بالأنصار، وقدمهم على جميع العرب، فإذا فرغ من
الأنصار بدء بالعرب، فإذا فرغ من العرب قسم على العجم " كذا
ذكره في المنتهى، ثم قال: وهذا على الاستحباب دون الوجوب، قلت
ولكن لم أجد له أثرا مخصوصا، بل ربما كان في المحكي من فعل أمير
المؤمنين عليه السلام ما يخالفه، وقد تقدم سابقا، وفي خبر إسحاق
الهمداني المروي (2) عن كتاب الغارات " إن امرأتين أتتا عليا عليه

(1) سورة الحجرات الآية 13.
(2) الوسائل - الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 عن
أبي إسحاق الهمداني.
215

السلام عند القسمة إحداهما من العرب والأخرى من الموالي فأعطى كل
واحدة خمسة وعشرين درهما وكرا من طعام، فقالت العربية يا أمير
المؤمنين إني امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم، فقال علي عليه
السلام والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيئ فضلا على بني إسحاق "
وقد تظافرت النصوص (1) أنه عليه السلام كان يقسم بين الناس بالسوية
حتى صار من أوصافه العدل بالرعية والقسمة بالسوية، إلا أن المراد
على الظاهر عدم زيادة أحدهم على الآخر بدينه أو سبق في الاسلام أو
نحو ذلك، لا أن المراد التساوي بين قليل العيال وكثيرهم ممن لا عمل
له إلا الجهاد وبين من نفقته المعتادة له مأة مثلا منهم ومن نفقته المعتادة
له ألف، قال حفص بن غياث (2) " سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول وقد سئل عن بيت المال فقال: أهل الاسلام أبناء الاسلام، أسوي
بينهم في العطاء، وفضائلهم بينهم وبين الله، أجعلهم كبني رجل واحد
لا يفضل أحد منهم فضله وصلاحه في الميراث على آخر ضعيف منقوص
وقال: هذا هو فعل رسول الله صلى الله عليه وآله في بدو أمره وقال
غيرنا: أقدمهم في العطاء بما قد فضلهم الله بسوابقهم في الاسلام إذا
كان بالاسلام قد أصابوا ذلك، فأنزلهم على مواريث ذوي الأرحام
بعضهم أقرب من بعض وأوفر نصيبا لقرابة الميت، وإنما ورثوا برحمهم
وكذلك كان عمر بفعله " وقال عمارة (3) في المروي عنه عن المجالس

(1) الوسائل - الباب 39 من أبواب جهاد العدو والمستدرك -
الباب 35 منها.
(2) الوسائل - الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 6.
(3) الوسائل - الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 6.
216

" إن طائفة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام مشوا إليه عند تفرق
الناس عنه وفرار كثير منهم إلى معاوية فقالوا يا أمير المؤمنين أعط
هذه الأموال، وفضل هؤلاء الاشراف من العرب وقريش على الموالي
والعجم ومن يخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية، فقال لهم
أمير المؤمنين عليه السلام: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور، لا والله
ما أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم، والله لو كان ما
لهم لي لواسيت بينهم، فكيف وإنما هو أموالهم " الحديث، ونحوه
خبر أبي مخنف (1) المروي في الكافي إلى غير ذلك مما يدل على إرادة
عدم التفاضل من الجهات التي كان يلحظها غيره التي كان فعل رسول الله
صلى الله عليه وآله على خلافها، وكذا تظافر عنه التعجيل في قسمة ما
في بيت المال في كل أسبوع كالمحكي من فعل رسول الله صلى الله عليه
وآله خلافا لعمر، فإنه كان يؤخره إلى سنة، وهو كما ترى مع عدم
مصلحة تقتضيه، إذ هو حبس لحق الفقير مع حاجته إليه.
وكذا ينبغي للإمام عليه السلام أن يلحظ ذرية المجاهدين ويدر
عليهم النفقة بعد موت آبائهم إلى أن يبلغوا فيكونوا من المرصدين للجهاد
أو من غيرهم، فيجري على كل حكمه.
ولو مرض المرصد للجهاد مرضا يرجى زواله كالحمى والصداع لم
يخرج به عن أهل الجهاد ولا يسقط به عطاؤه، وإن كان مرضا لا يرجى
زواله كالفالج ونحوه خرج عن المقاتلة، وهل يسقط عطاؤه؟ الأقوى
عدم السقوط، والله العالم.
المسألة (الثانية قيل) والقائل الشيخ في محكي المبسوط والنهاية
(ليس للأعراب شئ من الغنيمة وإن قاتلوا مع المهاجرين، بل يرضخ

(1) الوسائل - الباب 39 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
217

لهم، ونعني بهم من أظهر الاسلام ولم يصفه، وصولح على إعفائه عن
المهاجرة بترك النصيب) وتبعه المصنف في النافع والفاضل في المختلف
والشهيدان في الدروس والمسالك وغيرهم من المتأخرين، بل في الأخير
أنه المشهور، بل في الرياض لم ينقل فيه خلاف إلا عن الحلي في السرائر
حيث شرك بينهم وبين المقاتلة مدعيا شذوذ الرواية ومخالفتها لأصول
المذهب والاجماع على أن من قاتل من المسلمين فهو من جملة المقاتلة
وأن الغنيمة للمقاتلة، ورده في التنقيح بأنه مع الصلح على ذلك يسقط
الاستحقاق، وفيه أنه كذلك لو ثبت، ولعله لذا كان ظاهر المصنف
هنا كالفاضل في المنتهى التردد في المسألة، وكأنه من الاطلاق نصا وفتوى
ومن الحسن بل الصحيح (1) عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث
طويل أنه قال لعمر بن عبيد: " أرأيت إن هم أبو الجزية فقاتلتهم
فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة قال: أخرج الخمس وأقسم أربعة
أخماس بين من قاتل عليه - إلى أن قال له - الأربعة أخماس تقسمها
بين جميع من قاتل عليها قال: نعم، قال: قد خالفت رسول الله
صلى الله عليه وآله في سيرته، بيني وبينك فقهاء المدينة ومشيختهم فأسألهم
فإنهم لم يختلفوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله صالح الأعراب على أن
يدعهم في ديارهم ولا يهاجروا على أنه إن دهم عدوه أن يستفزهم فيقاتل
بهم وليس لهم من الغنيمة نصيب، وأنت تقول بين جميعهم فقد خالفت
رسول الله صلى الله عليه وآله في سيرته في المشركين " ونحوه المرسل (2)
كالصحيح، ولا ريب في رجحان العمل بهما في تخصيص العام وتقييد

(1) الوسائل - الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 2 وفي الأول " أنه قال لعمرو بن عبيد.
(2) الوسائل - الباب 41 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 2 وفي الأول " أنه قال لعمرو بن عبيد.
218

المطلق بعد جمعهما شرائط الحجية وتأيدهما بالمروي (1) من طرق
العامة بهذا المضمون، ووضوح دلالتهما على المطلوب، والعمل بهما ممن
عرفت، بل قد سمعت نسبته إلى الشهرة.
ومنه يعلم ما في دعوى الحلي شذوذ الرواية ومخالفتها لأصول المذهب
والاجماع على اشتراك المقاتلة، ضرورة عدم الشذوذ كما سمعت، وعدم
المخالفة إلا على وجه التخصيص الذي يكفي فيه أقل من ذلك، ودعوى
ضعف الدلالة باعتبار عدم معلومية المراد من الأعراب المسلمين أو الكفار
المؤلفة قلوبهم - والثاني ليس محلا للنزاع كما عن جماعة التصريح به
مضافا إلى ما فيهما من المصالحة على ترك المهاجرة المعلوم وجوبها، فيكون
من الصلح الباطل، ويمكن خروجهما مخرج التقية كما هو مقتضى الرواية
المروية عنهم، بل قد سمعت ما فيها من عدم اختلاف فقهاء أهل المدينة
في ذلك - يدفعها ظهور الخبرين في كون المراد الأعراب المسلمين، وأن
سقوط نصيبهم للصلح الذي لا يحتاج إليه في سقوط السهم للكفار الذين
قد عرفت الرضخ لهم، واحتمال كون المراد هنا سقوط الرضخ من
النصيب فيهما لخصوص هؤلاء الكفار واضح الفساد، ولعله لذا لم يتوقف
في المنتهى فيهما إلا من جهة السند الذي قد عرفت اعتباره في نفسه،
مضافا إلى انجباره بما سمعت، فلا محيص عن القول بهما، والمناقشة
في صحة الصلح المزبور أشبه شئ بالاجتهاد في مقابلة النص الذي صاحبه
أعلم من غيره بالحكم الشرعي والسياسي، نعم قد يقال إن المراد من
الأعراب الذين لم يعضوا على الاسلام بضرس قاطع المشار إليهم بأن
يقولوا آمنا، وبأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما
أنزل الله تعالى، وبغير ذلك من الآيات، بل هم إلى الآن على مثل ذلك

(1) سنن البيهقي 9 ص 53.
219

لا الأعراب الذين أحكموا إسلامهم وآمنوا بقلوبهم ولم يكن لهم هم إلا
الدين دون الطمع في الغنيمة ونحوها، والله العالم.
المسألة (الثالثة لا يستحق أحد سلبا ولا نفلا في بدأة ولا رجعة
إلا أن يشترطه الإمام عليه السلام بلا خلاف أجده فيه إلا ما سمعته
من الإسكافي في السلب الذي تقدم الكلام معه فيه، للأصل وعموم الأدلة
كتابا وسنة، والنفل الجعل الذي يجعله الإمام عليه السلام من الغنيمة
مشاعا أو معينا في مقابل عمل، والبدأة بفتح الباء وسكون الدال ثم
الهمزة المفتوحة على ما عن المبسوط السرية الأولى التي يبعثها إلى دار
الحرب إذا أراد الخروج إليهم، والرجعة هي السرية التي يبعثها بعد
رجوع الأولى، وقيل إن الرجعة هي السرية التي يبعثها بعد رجوع الإمام
عليه السلام إلى دار الحرب، والبدأة لا خلاف فيها، ومقتضاه الاتفاق
على معنى البدأة، لكن في المنتهى ومحكي التذكرة " قد قيل في البدأة
والرجعة تأويلان: أحدهما أن البدأة أول سرية، والرجعة الثانية،
والثاني أن البدأة سرية عند دخول الجيش إلى دار الحرب، والرجعة
عند قفول الجيش، وهو أظهر الوجهين " وفي المنتهى أيضا ومحكي المبسوط
والتذكرة عن حبيب بن مسلم الفهري شهدت رسول الله صلى الله عليه
وآله نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة، ولعل الزيادة للمشقة،
فإن الجيش في البدأة ردء للسرية تابع لها، والجيش مستريح والعدو
خائف، وربما كان غافلا، وفي الرجعة لا ردء للسرية لانصراف الجيش
والعدو مستيقظ على حذر، والظاهر عدم اختصاص النفل بالسرية،
بل يجوز النفل لبعض الجيش لبلائه أو لمكروه يتحمله دون سائر الجيش
كما يجوز أيضا بعد الخمس وقبله، ولا فرق بين النبي صلى الله عليه
وآله والإمام عليه السلام في ذلك، فإن جميع ما كان للنبي صلى الله
220

عليه وآله فهو للإمام عليه السلام لاشتراكهما في العصمة عندنا، بل لا
يبعد جوازه أيضا لوالي الجيش من قبلهما إذا كانت ولايته على وجه تشمل
ذلك، والظاهر جوازه أزيد من الثلث، وإن كان الذي وقع الثلث
فما دون في المروي (1) من طرق العامة، إلا أنه يمكن أن يكون لعدم
اقتضاء المصلحة أزيد من ذلك، فإن المدار عليها ولا يخص نوعا من
المال، فيجوز في الدراهم والدنانير وغيرهما، كما يجوز بالمعين والمشاع
وفي المعلوم والمجهول كالسهم واليسير والقليل والشئ ونحو ذلك مما يجعله
الإمام عليه السلام وللسرية والسريتين وغيرهما، وقبل الغنيمة وبعدها
وللعامة خلاف في جملة مما ذكرنا، ولكنه واضح الضعف.
كما أن كثيرا من الفروع المذكورة هنا تعرف مما ذكروه في الجعالة
إذ معظم أفراد المقام منها وإن كان هو أوسع منها في المشروعية، فلو
قال: من دخل من باب المدينة فله درهم فاقتحم قوم من المسلمين
فدخلوها استحق كل واحد منهم الدرهم، لأنه شرط لكل داخل،
بخلاف ما لو قال من دخله فله الربع فدخله عشرة مثلا، فإنهم
يشتركون فيه، لعدم قابليته للتعدد، ولو دخل واحد ثم واحد حال
قيام الحرب اشتركوا أيضا في النفل، وكذا لو قال: من دخله فله
جارية من المغنم فدخلوا ولم يكن فيه إلا جارية واحدة، بخلاف ما
لو قال: جارية مطلقة كان لكل واحد جارية، فإن لم توجد فقيمتها
ولو قال من دخل أولا فله ثلاثة، ومن دخل ثانيا فله اثنان، ومن
دخل ثالثا فله واحد فدخلوا على التعاقب كان لكل مسماه، لجواز
التفاوت في النفل مع التفاوت في الخوف، ولو دخلوا دفعة واحدة ففي
المنتهى بطل نفل الأول والثاني، وكان لهم جميعا نفل الثالث، لأن الأول

(1) كنز العمال ج 2 ص 309 الرقم 1423.
221

هو المتقدم، والثاني هو من تقدمه واحد ولم يوجد، فيبطل نفلهما،
لانعدام الشرط، وهو التفرد والمسابقة في الدخول، والثالث إذا سبقه
اثنان كان ثالثا، وإذا قارنه اثنان كان ثالثا أيضا، لأن خوف الثالث
فيما إذا قارنه اثنان فوق خوفه إذا تقدمه اثنان، فيكون فعله أشق،
فاستحقاقه أولى، وفيه نظر، وكذا قوله أيضا ولو دخل اثنان أول مرة
بطل نفل الأول، ونفل الثاني يكون لهما، لأن صفة الأولية انعدمت
بالمقارنة، بخلاف الثاني، فإنه يصدق بالمسبوقية والمقارنة، بل وقوله
أيضا ولو قال: من دخل الحصن أولا من المسلمين فله كذا فدخل
ذمي ثم مسلم استحق النفل، لأنه جعل النفل موصوفا بهذه الصفة،
فلا تمنع أولية الذمي، كالبهيمة لو دخلت، أما لو قال من دخل هذا
الحصن من المسلمين أولا من الناس فدخل ذمي ثم مسلم لم يستحق
النفل، لأنه ليس أولا من الناس، بل ثانيا من الدخول منهم، ولو
قال: من دخل منكم خامسا فله درهم، فدخل خمسة معا استحق
كل واحد النفل، لأنه أوجب النفل للخامس، وكل واحد يصدق عليه
أنه خامس، ولو دخلوا على التعاقب فالخامس آخرهم، فاستحق النفل
خاصة، والله العالم.
المسألة (الرابعة الحربي لا يملك مال المسلم بالاستغنام) كما
يملك هو ماله بلا خلاف فيه بين المسلمين، بل لعله من ضروريات
الدين (و) حينئذ ف‍ (لو غنم المشركون أموال المسلمين وذراريهم)
رجعت أو (ارتجعوها) أي ارتجعها المسلمون (فالأحرار لا سبيل)
لأحد (عليهم) بلا خلاف أجده فيه بل ولا إشكال، قال هشام بن
سالم (1) " سأل الصادق عليه السلام رجل عن الترك يغيرون على

(1) الوسائل - الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
222

المسلمين فيأخذون أولادهم فيسرقون منهم أيرد عليهم؟ قال: نعم،
والمسلم أخو المسلم، والمسلم أحق بماله أينما وجده " وقال أيضا في
مرسله (1) عنه عليه السلام أيضا: " في السبي يأخذه العدو من المسلمين
في القتال من أولاد المسلمين أو من مماليكهم فيحوزونه، ثم إن المسلمين
بعد قاتلهم فظفروا بهم وسبوهم وأخذوا منهم ما أخذوا من مماليك
المسلمين وأولادهم الذين كانوا أخذوهم من المسلمين كيف يصنع بما
أخذوه من أولاد المسلمين ومماليكهم؟ فقال: أما أولاد المسلمين فلا
يقامون في سهام المسلمين، ولكن يردون إلى أبيهم وأخيهم أو إلى وليهم
بشهود، وأما المماليك فإنهم يقامون في سهام المسلمين فيباعون وتعطى
مواليهم قيمة أثمانهم من بيت مال المسلمين " كل ذلك مضافا إلى
معلومية عدم صيرورة المسلم الحر رقا، بل لعله من ضروريات الدين،
(وأما الأموال والعبيد فلأربابها قبل القسمة) عند عامة العلماء
كما في المنتهى ومحكي التذكرة بدون غرامة شئ للمقاتلة، للأصل،
وما تقدم في خبر هشام " من أن المسلم أحق بماله أينما وجده "
ومرسل جميل (2) عن الصادق عليه السلام " في رجل كان له عبد
فأدخل دار الشرك ثم أخذ سبيا إلى دار الاسلام، فقال: إن وقع
عليه قبل القسمة فهو له، وإن جرت عليه القسمة فهو أحق به بالثمن "
وخبر طربال (3) عن أبي جعفر عليه السلام المروي عن كتاب المشيخة
قال: " سئل عن رجل كان له جارية فأغار عليه المشركون فأخذوها
منه ثم إن المسلمين بعد غزوهم فأخذوها فيما غنموا منهم، فقال: إن
كانت في الغنائم وأقام البينة أن المشركين أغاروا عليهم فأخذوها منه

(1) الوسائل - الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 4 - 5.
(2) الوسائل - الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 4 - 5.
(3) الوسائل - الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 4 - 5.
223

ردت عليه، وإن كانت قد اشتريت وخرجت من المغنم فأصابها ردت
رقبتها وأعطي الذي اشتراها الثمن من المغنم من جميعه، قيل له فإن
لم يصبها حتى تفرق الناس وقسموا جميع الغنائم فأصابها بعد قال:
يأخذها من الذي في يده إذا أقام البينة، ويرجع الذي هي في يده إذا
أقام البينة على أمير الجيش بالثمن " وغير ذلك، لكن عن الشيخ في
النهاية إطلاق كونها للمقاتلة مع غرامة الإمام عليه السلام لأربابها
الأثمان من بيت المال، بل عن القاضي نفي البأس عنه، إلا أنه أفتى
أولا بأن غير الأولاد مع بقاء عينه وثبوته بنحو البينة لمدعيه من
المسلمين رد إليه، وعلى كل حال فلا أعرف له دليلا إلا اطلاق مرسل
هشام الذي هو مع أنه مختص بالمماليك ولا جابر له بالنسبة إلى ذلك
معارض بما في خبره من " أن المسلم أحق بماله أينما وجده " وبغيره
مما سمعت، وإلا صحيح الحلبي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام
" سألته عن رجل لقيه العدو وأصاب منه مالا أو متاعا ثم إن المسلمين
أصابوا ذلك كيف يصنع بمتاع الرجل؟ فقال: إذا كانوا أصابوه قبل
أن يحوزوا متاع الرجل رد عليه، وإن كانوا أصابوه بعد ما حازوه
فهو فيئ للمسلمين، فهو أحق بالشفعة " الموافق لما عن الزهري وعمر
ابن دينار من العامة المعارض بما سمعت المحتمل مع ذلك إرادة القسمة
من الحيازة بناءا على أن الحكم كذلك معها، فلا ريب في قصوره عن
المعارضة بما سمعت من وجوه، ومن ذلك يعلم ضعف ما عن الإسكافي
من إطلاق كون المماليك للمقاتلة من غير تعرض لغيرهم، بل وما عن
الحلبي من عكس ذلك.

(1) الوسائل - الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
224

هذا كله قبل القسمة
(و) أما (لو عرفت) بالبينة ونحوها
(بعد القسمة ف‍) عن النهاية أنها للمقاتلة أيضا نحو ما سبق و (لأربابها
القيمة من بيت المال) ولم أجد له موافقا على ذلك منا، نعم هو محكي
عن أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ومالك وأحمد في إحدى الروايتين
بل نقله الجمهور عن عمرو الليث وعطا والنخعي وإسحاق، كما أني لم
أجد له دليلا أيضا إلا ما سبق، وقد عرفت الكلام فيه، مضافا إلى
قوة احتمال التقية هنا ممن سمعت (و) إلى خلو الصحيح عن الغرامة
من بيت المال، بل ظاهره ما (في رواية) جميل المرسلة من أنها
(تعاد على أربابها بالقيمة) الموافقة لما رواه الجمهور (1) عن ابن
عباس " من أن رجلا وجد بعيرا له كان المشركون أصابوه فقال له النبي
صلى الله عليه وآله إن أصبته قبل أن يقسمه فهو لك، وإن أصبته بعد
ما قسم أخذته بالقيمة " إلا أني لم أجد عاملا بهما منا، وإن أيد بأنه
إنما امتنع أخذه له بغير شئ لئلا يفضي إلى حرمان أخذه من الغنيمة
أو تضييع الثمن على المشتري، وحقهما ينجبر بالثمن، فيرجع صاحب
المال في عين ماله بمنزلة مشتري الشقص المشفوع، إلا أنه كما ترى.
(و) من ذلك كله ظهر لك أن (الوجه) والتحقيق (إعادتها
على المالك) الذي هو أحق بماله أينما وجده وفاقا للمحكي عن الشيخ
في المبسوط وابني زهرة وإدريس والفاضل والشهيدين والكركي والمقداد
وغيرهم، بل عن الغنية الاجماع عليه (و) لكن (يرجع الغانم
بقيمتها على الإمام عليه السلام) كما صرح به غير واحد مطلقين ذلك
لخبر طربال (2) المنجبر سنده بفتوى من عرفت، بل نسبه بعضهم إلى الشهرة

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 111.
(2) الوسائل - الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 5.
225

العظيمة، فما عساه يظهر من بعض من عدم رجوعه على أحد في غير
محله، خصوصا مع ملاحظة كونه شريكا، نعم قيده المصنف وجماعة
ممن تأخر عنه بأنه كذلك (مع تفرق الغانمين) وإلا أعاد الإمام (ع)
القسمة أو رجع على كل واحد منهم بما يخصه، ولا بأس به، ضرورة
اقتضاء القواعد ذلك كما في غير الفرض مما بان في قسمته مال الغير
ولا ينافيه الخبر بعد انسياق غير ذلك منه، على أن الرجوع على الإمام
عليه السلام إنما هو على بيت المال المعد لمصالحهم العامة لا خصوص
المقاتلة، فيقتصر في الرجوع عليه على محل اليقين الذي هو غير المفروض
ثم لا يخفى عليك أن ذلك كله لو أخذ مال المسلم من الكافر
على وجه الاغتنام بالجهاد،
أما إذا أخذ سرقة أو هبة أو شراء أو نحو
ذلك فلا اشكال في عوده إلى مالكه من دون غرامة شئ وإن كان الآخذ
جاهلا، لعموم قوله عليه السلام (1) " المسلم أحق بماله أينما وجده "
وغيره، ولو علم أمير الجيش بمال المسلم قبل القسمة فقسمه وجب رده
وكان صاحبه أحق به بغير شئ، ضرورة بطلان القسمة من أصلها،
ولو أسلم المشرك الذي في يده مال المسلم أخذ منه بغير قيمة، ولو
دخل المسلم دار الحرب فسرقه أو نهبه أو اشتراه ثم أخرجه إلى دار
الاسلام فصاحبه أحق به، ولا يلزمه قيمته، وكل تصرف فيه بيع
أو عتق أو نحوهما باطل مع عدم الإجازة، ولو غنم المسلمون من
المشركين شيئا عليه علامة الاسلام فلم يعلم صاحبه فهو غنيمة، لظاهر
اليد مع احتمال صحتها، ولا عبرة برسم الكتابة عليه، ولو أقر الغلام
أنه غلام مسلم ففي قبوله تردد أو منع بعد أن أخذه من بلاد الشرك
وخصوصا إذا كان من يد مشرك، ولا فرق في مطالبة المسلم بماله المأخوذ

(1) الوسائل - الباب 35 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
226

من يد المشرك بين كونه مستأجرا لمسلم فغنمه المشرك أو مستعارا أو
لم يكن، ولو دخل حربي دار الاسلام بأمان فاشترى عبدا مسلما ثم
لحق بدار الحرب فغنمه المسلمون كان باقيا على ملك البائع لفساد الشراء
نعم الظاهر وجوب رد الثمن على الكافر، لأنه قد أخذ منه حال
الأمان، ولو تلف العبد في يد الكافر كان للسيد القيمة، وعليه رد
ثمنه، ويترادان الفضل، ولو أبق عبد المسلم إلى دار الحرب فأخذوه
لم يملكوه بذلك، لما عرفت، خلافا لمالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد
والله العالم.
(الركن الثالث في أحكام أهل الذمة)
(والنظر في أمور: الأول من تؤخذ منه الجزية) وهي الوظيفة
المأخوذة من أهل الكتاب لإقامتهم بدار الاسلام وكف القتال عنهم،
وهي فعلة من جزى يجزي، يقال: جزيت ديني إذا قضيته، بل لعل
منه قوله تعالى (1): " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا "
ولا خلاف بين المسلمين فضلا عن المؤمنين في أنها (تؤخذ ممن يقر على
دينه، وهم اليهود) بأقسامهم (والنصارى) كذلك، بل لعله من
ضروريات المذهب والدين، قال الله تعالى (2): " قاتلوا الذين لا
يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا
يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم

(1) سورة البقرة - الآية 45.
(2) سورة التوبة - الآية 29.
227

صاغرون " وقد روت الخاصة والعامة (1) أن النبي صلى الله عليه وآله
كان يوصي أمراء السرايا بالدعاء إلى الاسلام قبل القتال، فإن أبوا
فإلى الجزية، فإن أبوا قوتلوا بل (و) كذا (من له شبهة كتاب
وهم المجوس) بلا خلاف أجده فيه إلا من ظاهر المحكي عن العماني
فألحقهم بعباد الأوثان وغيرهم ممن لا يقبل منهم إلا الاسلام، ولكن قد
سبقه الاجماع بقسميه ولحقه، وتظافرت النصوص (2) بخلافه، وفي
المنتهى " وتعقد الجزية لكل كتابي بالغ عاقل، ونعني بالكتاب من له
كتاب حقيقة، وهم اليهود والنصارى ومن له شبهة كتاب، وهم المجوس
فتؤخذ الجزية من هؤلاء الأصناف الثلاثة بلا خلاف بين علماء الإسلام
في ذلك في قديم الوقت وحديثه، فإن الصحابة أجمعوا على ذلك، وعمل
به الفقهاء القدماء ومن بعدهم إلى زمننا، هذا من أهل الحجاز والعراق
والشام ومصر وغيرهم من أهل الأصقاع في جميع الأزمان " إلى آخره،
وفي مرسل الواسطي (3) " سئل أبو عبد الله عليه السلام عن المجوس أكان لهم
نبي؟ فقال: نعم، أما بلغك كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى
أهل مكة أسلموا وإلا نابذتكم بحرب، فكتبوا إليه أن خذ منا
الجزية ودعنا على عبادة الأوثان، فكتب إليهم النبي صلى الله عليه وآله
إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، فكتبوا إليه يريدون بذلك
تكذيبه زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، ثم أخذت
الجزية من مجوس هجر، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله أن

(1) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 وسنن
البيهقي ج 9 ص 184.
(2) الوسائل - الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 0 - 1.
(3) الوسائل - الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 0 - 1.
228

المجوس كان لهم نبي فقتلوه، وكتاب أحرقوه، أتاهم نبيهم بكتابهم في
اثنا عشر ألف جلد ثور " وخبره المروي (1) في التهذيب قال: " سئل
أبو عبد الله عليه السلام عن المجوس فقال: كان لهم نبي فقتلوه وكتاب
أحرقوه أتاهم نبيهم به في اثنا عشر ألف جلد ثور، وكان يقال له
جاماست " وفي الفقيه " المجوس يؤخذ منهم الجزية، لأن النبي صلى الله
عليه وآله قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب، وكان لهم نبي اسمه داماست
وكتاب اسمه جاماست، كان يقع في اثنا عشر ألف جلد ثور فحرقوه "
وفي المحكي عن المحاسن بسنده عن الأصبغ بن نباتة (2) " إن عليا
عليه السلام قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني فقام إليه الأشعث
فقال يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ الجزية من المجوس ولم ينزل عليهم كتاب
فقال: بلى يا أشعث قد أنزل الله إليهم كتابا وبعث إليهم نبيا " وفي
المقنعة (3) عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضا " المجوس إنما ألحقوا
باليهود والنصارى في الجزية والديات، لأنه قد كان لهم فيما مضى
كتاب " وفي خبر علي بن دعبل (4) المروي عن المجالس أيضا عن الرضا
عن أبيه عن آبائه عن علي بن الحسين عليهم السلام " إن رسول الله
صلى الله عليه وآله قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب يعني المجوس " إلى غير
ذلك من النصوص المنجبرة بما عرفت المروية من طرق العامة فضلا عن
الخاصة، منها ما رواه الشافعي (5) باسناده " إن فروة بن نوفل
الأسجعي قال: على ما تؤخذ الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب،
فقام إليه المستورد فأخذ بتلبيبه فقال عدو الله: أتطعن على أبي بكر

(1) الوسائل - الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 7 - 8 - 9.
(2) الوسائل - الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 7 - 8 - 9.
(3) الوسائل - الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 7 - 8 - 9.
(4) الوسائل - الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 7 - 8 - 9.
(5) سنن البيهقي چ 9 ص 188.
229

وعمر وعلي أمير المؤمنين عليه السلام وقد أخذوا منهم الجزية، فذهب
به إلى القصر فخرج علي عليه السلام) فجلسوا في ظل القصر فقال: أنا
أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وأن
ملكهم سكر فوقع على بنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما
أضحى جاؤوا يقيمون عليه الحد، فامتنع منهم ودعا أهل مملكته، وقال:
تعلمون دينا خيرا من دين أبيكم آدم عليه السلام)، وقد ذكر أنه أنكح
بنيه بناته وأنا على دين آدم، قال: فتابعه قوم، وقاتلوا الذين يخالفونه
حتى قتلوهم، فأصبحوا وقد أسري بكتابهم ورفع من بين أظهرهم،
وذهب العلم الذي في صدورهم، فهم أهل الكتاب، وقد أخذ رسول
الله صلى الله عليه وآله وأبو بكر وأراه قال: ورفع عمر منهم الجزية " ولعل
التعبير بشبهة الكتاب لعدم تحقق ما في أيديهم الآن من الكتاب بعد
ما سمعت من النصوص أنهم أحرقوه أو رفع من بين أظهرهم، كالعلم
الذي كان عندهم، وربما كان في قوله صلى الله عليه وآله " سنوا بهم
سنة أهل الكتاب " إشعار بذلك.
وأما الصابئون فعن ابن الجنيد التصريح بأخذ الجزية منهم،
والاقرار على دينهم، ولا بأس به إن كانوا من إحدى الفرق الثلاثة،
فعن أحد قولي الشافعي " أنهم من أهل الكتاب وإنما يخالفونهم في
فروع المسائل لا في أصولهم " وعن ابن حنبل وجماعة من أهل العراق
" أنهم جنس من النصارى " وعنه أيضا " أنهم يسبتون فهم من اليهود "
وعن مجاهد " هم من اليهود أو النصارى " وقال السدي: " هم من
أهل الكتاب، وكذا السامرة " وعن الأوزاعي ومالك " إن كل دين
بعد دين الاسلام سوى اليهودية والنصرانية مجوسية، وحكمهم حكم
المجوس " وعن عمر بن عبد العزيز " هم مجوس " وعن الشافعي أيضا
230

وجماعة من أهل العراق " حكمهم حكم المجوس " وحينئذ يتجه قبول
الجزية منهم، ولكن قيل عنهم أنهم يقولون إن الفلك حي ناطق، وإن
الكواكب السبعة السيارة آلهة، وعن تفسير القمي وغيره: أنهم ليسوا
أهل كتاب، وإنما هم قوم يعبدون النجوم، وعليه يتجه عدم قبولها
منهم، ولعله لذا صرح الفاضل في المختلف بعدم قبول الجزية منهم
حاكيا له عن الشيخين، اللهم إلا أن يكون قسم من النصارى يقولون بهذه
المقالة، وإن زعموا أنهم على دين المسيح، إذ الجزية مقبولة من جميعهم
اليعقوبية والقسطوية والملكية والفرنج والروم والأرمن وغيرهم ممن يدين
بالإنجيل وينتسب إلى عيسى عليه السلام، وإن اختلفوا في الأصول
والفروع، وكذلك اليهود والمجوس، نعم من شك فيه أنه كتابي يتجه
عدم قبولها منه، للعمومات الآمرة بقتل المشركين المقتصر في الخروج
منها على الكتابية التي هي شرط قبول الجزية، وعن صريح الغنية وظاهر
المحكي عن المفيد الاجماع على عدم كونهم من أهل الكتاب، لكن
الموجود في زماننا منهم في دار الاسلام يعاملون معاملة أهل الكتاب،
وإن كان هو من حكام الجور فلا يعتمد عليه في كشف الأمر الشرعي،
وفي المنتهى قد كانت النصرانية في الجاهلية في ربيعة وغسان وبعض قضاعة
واليهودية في حمير وبني كنانة وبني الحرث بن كعب وكندة، والمجوسية
في بني تميم، وعبادة الأوثان والزندقة في قريش وبني حنيفة.
(و) كيف كان ف‍ (لا يقبل من غيرهم) أي اليهود والنصارى
والمجوس (إلا الاسلام) بلا خلاف أجده فيه، بل عن الغنية وغيرها الاجماع
عليه، بل ولا إشكال بعد قوله تعالى (1): " فاقتلوا المشركين حيث

(1) سورة التوبة - الآية 5.
231

وجدتموهم " وقوله تعالى (1) " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب "
وغير ذلك من الكتاب والسنة، من غير فرق بين من كان منهم له أحد
كتب إبراهيم وآدم وإدريس وداود، ومن لم يكن له، ضرورة أن
المنساق من الكتاب في القرآن العظيم التوراة والإنجيل، بل عن المنتهى
الاجماع على أن اللام للعهد إليهما في قوله تعالى (2) " قاتلوا الذين
لا يؤمنون بالله - إلى قوله - من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون "
نعم قد يظهر من النصوص السابقة إلحاق كتاب المجوس بهما،
أما غيرهم فلا إشكال في عدم كونهم من ذوي الكتاب، بل الظاهر عدم
إلحاق حكم اليهود والنصارى لمن تهود أو تنصر بعد النسخ، بل عن
ظاهر التذكرة والمنتهى الاجماع عليه، ولعل بني تغلب بن وائل من
العرب من ربيعة بن نزار ممن أنتقل في الجاهلية إلى النصرانية كما صرح
به بعض أصحابنا، بل قال أيضا انتقل أيضا من العرب إلى ذلك
قبيلتان أخريان، وهم تنوخ وبهرا، فيتجه حينئذ أخذ الجزية منهم
كما هو المحكي عن أمير المؤمنين عليه السلام، لكن المحكي (3)
من فعل عمر عدمها لرأي رآه أو أشير به عليه، وذلك لما قيل من
أنه دعاهم إلى إعطاء الجزية فأبوا وامتنعوا، وقالوا نحن أعراب لا
نؤدي الجزية فخذ منا الصدقة كما تأخذ من المسلمين، فامتنع عمر من

(1) سورة محمد صلى الله عليه وآله - الآية 4.
(2) سورة التوبة - الآية 29.
(3) كنز العمال ج 2 ص 304 الرقم 6356.
232

ذلك فلحق بعضهم بالروم، فقال له النعمان بن عروة إن القوم لهم
بأس وشدة، فلا تعن عدوك بهم، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة،
فبعث عمر في طلبهم وردهم وضعف عليهم الصدقة، وأخذ منهم في كل
خمس من الإبل شاتين، وأخذ مكان العشر الخمس، ومكان نصف العشر
العشر إلا أنه لا يخفى عليك عدم الحجة في فعل عمر، مع أنه لا ينطبق
على الجزية الشرعية بالنسبة إلى من لا صدقة عليه، بل ومن عليه الصدقة
إذا كان لا تبلغها، ولعله لذا روى الجمهور عن عمر بن عبد العزيز
أنه لم يقبل من نصارى تغلب إلا الجزية، وقال: لا والله إلا الجزية
وإلا فقد آذنتكم بحرب، نعم عن الإسكافي أنه قال: لو وجد المسلمون
قوة واجتمعوا على القيام بالحق في بني تغلب لم يقروا على النصرانية،
لما روي (1) من تركهم الشرط الذي شرط رسول الله صلى الله عليه وآله
عليهم أن لا ينصروا أولادهم، ولما روي (2) عن أمير المؤمنين عليه
السلام
أنه قال: " لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة ولأسبين
الذرية، فإني أنا كتبت الكتاب بين النبي صلى الله عليه وآله وبينهم
على أن لا ينصروا أبناءهم، فليست لهم ذمة، ولأنهم قد صبغوا أولادهم
ونصروهم " ورواه في المنتهى، وأرسل الصدوق (3) عن الرضا عليه
السلام " إن بني تغلب أنفوا من الجزية وسألوا عمر أن يعفيهم فخشي
عمر أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن يصرف ذلك عن رؤوسهم ويضاعف
عليهم الصدقة، فعليهم ما صولحوا عليه ورضوا به إلى أن يظهر الحق "

(1) كنز العمال ج 2 ص 304 الرقم 6357.
(2) كنز العمال ج 2 ص 327 الرقم 6624 إلا أنه سقط ذيله
(3) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
233

وعن علي عليه السلام (1) أنه قال: " لئن تفرغت لبني تغلب ليكون
لي فيهم رأي لأقتلن مقاتليهم ولأسبين ذراريهم، فقد نقضوا العهد وبرئت
منهم الذمة حين نصروا أولادهم ".
وعلى كل حال فهو أمر آخر غير ما نحن فيه من عدم الجزية
عليهم باعتبار كون تنصرهم بعد النسخ، وإن استدل له في المختلف
بذلك بعد أن أختار ما حكاه عن ابن الجنيد، إلا أنه لم يثبت عندنا
مع أنه حكى بعد ذلك عن ابن الجنيد والشيخ في الخلاف جواز إقرار
من بدل دينه بدين يقر أهله عليه كاليهودية والنصرانية، بل عن الخلاف
الاجماع عليه ذلك، بل عن المبسوط نسبته إلى ظاهر المذهب، بل هو
اختاره أيضا، وتسمع إنشاء الله تمام الكلام فيه، وعلى كل حال فما
عن أبي حنيفة والشافعي وابن حنبل من اتباع عمر على فعله في غير
محله بعد مخالفة الكتاب والسنة، كالمحكي عن أبي حنيفة منهم أيضا
من قبول الجزية من جميع الكفار إلا العرب، وأحمد بن حنبل من
قبولها كذلك إلا عبدة الأوثان من العرب، ومالك من قبولها كذلك
إلا من مشركي قريش، ضرورة مخالفة ذلك كله للكتاب (و) السنة
نعم (الفرق الثلاث) خاصة (إذا التزموا بشرائط الذمة)
الآتية (أقروا سواء كانوا عربا أو عجما) بلا خلاف أجده فيه بيننا
بل في المنتهى والمسالك ومحكي التذكرة الاجماع عليه، وهو الحجة بعد
إطلاق الكتاب والسنة، وأخذ النبي صلى الله عليه وآله من نصارى نجران
وقد كانوا عربا، فما عن أبي يوسف من عدم أخذها من العرب واضح
الفساد، بل رده غير واحد بالاجماع حتى من فريقه على خلافه، نعم

(1) كنز العمال ج 2 ص 304 الرقم 1356.
234

في الدعائم (1) عن علي عليه السلام " لا تقبل من عربي جزية، وإن
لم يسلموا قوتلوا " إلا أنه مرسل ومحتمل إرادة من تنصر من العرب جديدا
وغير ذلك، وأما خصوص نصارى تغلب فقد عرفت الكلام فيهم،
ودعوى بعض أهل الذمة وهم أهل خيبر سقوط الجزية عنهم بكتاب من
النبي صلى الله عليه وآله لم يثبت، بل الثابت خلافها، بل عن أبي
العباس بن شريح أنهم طولبوا بذلك فأخرجوا كتابا ذكروا أنه خط
معاذ كتبه عن رسول الله صلى الله عليه وآله)، وفيه شهادة سعد ومعاوية
وكان تاريخه بعد موت معاذ وقبل إسلام معاوية فعلم بطلانه.
(ولو ادعى أهل حرب أنهم منهم) أي من الفرق الثلاثة (وبذلوا
الجزية لم يكلفوا البينة وأقروا) على ذلك كما صرح به الفاضل وغيره
بل لا أجد فيه خلافا، ولعله لكون الدين أمرا قلبيا لا يعرف إلا من قبل
صاحبه، وشعاراته الظاهرة ليست جزءا منه، بل قد تتعذر إقامة البينة
عليه، بل قيل إنه قد يشعر به أيضا أمر النبي صلى الله عليه وآله (2)
لأمراء السرايا بقبول الجزية ممن يبذلها مع أنه لا بينة عادلة منهم تشهد
على أنهم من أهلها، فليس إلا دعواهم، بل الظاهر أن فعل النبي صلى
الله عليه وآله كان كذلك، وإن كان ذلك لا يخلو من مناقشة والعمدة
ما عرفته أولا مؤيدا بعدم الخلاف في ذلك، وبمعلومية جريان حكم
كل دين على من أقر بأنه من أهله (و) غير ذلك.
نعم (لو ثبت خلافها) بشهادة عدلين ولو منهم بعد الاسلام أو
بالاقرار منهم أجمع أو بغير ذلك (انتقض العهد) الذي كان بعنوان
أنهم من أهله، بل الظاهر عدم احتياج جريان حكم المشركين عليهم

(1) المستدرك - الباب 42 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
(2) الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
235

إلى ردهم إلى مأمنهم، ضرورة عدم الشبهة في حقهم، لعلمهم بالحال،
فلا بأس حينئذ باغتيالهم، ولو أقر البعض دون البعض جرى الحكم
على المقر دون غيره، ولا تقبل شهادته بعد أن كان كافرا.
ثم إن إطلاق المصنف وغيره يقتضي قبول دعواهم وإن ظهر من حالهم
عدم كونهم منهم ولو باتخاذ شعار غير شعارهم، ولعله لكونه أقوى من
ظاهر الحال في الدلالة على ذلك، إلا أنه كما ترى لا يخلو من إشكال
أو منع، خصوصا بعد تجاهرهم بعبادة النار مثلا، وعدم استعمال
شعار إحدى الفرق المزبورة، فيمكن كون الدعوى منهم تخلصا من القتل
وغيره مما يجري على غيرهم من الكفار.
(و) كيف كان ف‍ (لا تؤخذ الجزية من الصبيان والمجانين)
مطبقا (والنساء) كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا،
بل في المنتهى ومحكي الغنية والتذكرة الاجماع عليه، وهو الحجة بعد
خبر حفص (1) الذي رواه المشايخ الثلاثة المنجبر بما سمعت، سأل
أبا عبد الله عليه السلام " عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن ورفعت
عنهن، فقال: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن قتل النساء
والولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن، فإن قاتلن أيضا فأمسك عنهن
ما أمكنك، ولم تخف خللا، فلما نهى عن قتلهن في دار الحرب كان
ذلك في دار الاسلام أولى، ولو امتنعت أن تؤدي الجزية لم يمكن قتلها
فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنهن، ولو امتنع الرجال أن يؤدوا
الجزية كانوا ناقضين للعهد وحلت دماؤهم وقتلهم، لأن قتل الرجال مباح
في دار الشرك، وكذلك المقعد والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان
في أرض الحرب، فمن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية " مضافا إلى رفع

(1) الوسائل - الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
236

القلم وقول الصادق عليه السلام في خبر طلحة (1) " جرت السنة أن
لا تؤخذ الجزية من المعتوه، ولا من المغلوب على عقله " ولعل المراد
من المعتوه فيه ما عن المبسوط والنهاية والوسيلة والسرائر من زيادة
الأبلة، وإن كان قد فسر هنا بمن لا عقل له، إلا أن المراد به كما
صرح به آخر ضعيف العقل، بل هو المراد مما في محكي الوسيلة من
التعبير بالسفيه الذي هو في العرف عبارة عن الأحمق، لا السفه الشرعي
الذي لا أجد خلافا في عدم سقوط الجزية عنه لعموم الأدلة، أما الأول
فلا يبعد سقوطها عنه باعتبار كونه في الحقيقة قسما من الجنون الذي
هو فنون، لعدم جواز قتله بسبب ضعف عقله، فتسقط عنه الجزية لما
سمعته من التعليل، وقد ذكرنا في كتاب الطلاق ما يؤكد ذلك،
فلاحظ وتأمل.
(وهل تسقط) أيضا (عن الهم) أي الشيخ الفاني؟
(قيل): والقائل الإسكافي (نعم) بل زاد المقعد والأعمى، وتبعه
المصنف في النافع والفاضل في القواعد في الأول دون الأخيرين اللذين
لم أجد موافقا له فيهما، بل صرح الشيخ والقاضي وابن حمزة والفاضلان
وغيرهم بعدم السقوط عنهما، وهو كذلك، لعموم الأدلة الذي لا يخصصه
ما في الخبر المزبور بعد عدم الجابر له في ذلك، وبعد تأييده بأنها
وضعت للصغار والإهانة المناسبين للكفر فيهما (و) أما الأول (ف‍) هو.
وإن كان (المروي) في خبر حفص (2) السابق الذي عمل به من
عرفت ومقتضى الأصل أيضا لكنه لم يصل إلى حد الانجبار، والأصل
لا يعارض العموم، وفتوى الأصحاب به في غير المقام لا يصلح جابرا

(1) الوسائل الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 1.
(2) الوسائل الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 1.
237

(و) لعله لذا (قيل لا) تسقط عنه، كما أنه منهما كان ظاهر
المصنف والشهيد في الدروس وغيرهما التوقف، وربما فصل بعضهم بأنه
إن كان ذا رأي وقتال أخذت منه، وإلا فلا، ولعله لما تقدم سابقا
من عدم قتله إذا لم يكن كذلك، وقتله إذا كان، وهو معيار الجزية
في الخبر المزبور وفي المحكي من كلام الإسكافي، إلا أنه لا جابر للخبر
على العموم، فالأقوى عدم السقوط، والله العالم.
(وقيل) والقائل الشيخ بل المشهور كما في المنتهى والمختلف
(تسقط) أيضا (عن المملوك) كما صرح به الفاضل وغيره،
للأصل والنبوي " لا جزية على العبد " ولأنه مال فلا يستحق عليه
مال، ولأنه كل على مولاه لا يقدر على شئ، ولأنه لا يقتل فلا جزية
عليه على ما سمعته في الخبر السابق، ولعله الأقوى ولكن قيل والقائل
الصدوق في المحكي عن مقنعه وظاهر فقيهه لا تسقط، وتبعه الفاضل
في محكي التحرير للعموم المخصوص بما عرفت، ولخبر أبي الدرداء (1)
عن الباقر عليه السلام الذي لا جابر له، قال: " سألته عن مملوك
نصراني لرجل مسلم عليه جزية قال نعم، قلت: فيؤدي عنه مولاه
المسلم الجزية قال: نعم، إنما هو ماله يفتديه، إذا أخذ يؤدي عنه "
المعتضد بالمروي من طرق الجمهور عن علي عليه السلام أنه قال:
" لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم، لأنهم أهل خراج،
فيبيع بعضهم بعضا، ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد أن أنقذه الله منه "
الظاهر في ثبوت الجزية التي يؤديها سيده عنه، ويلحقه بذلك الصغار،

(1) الوسائل - الباب 49 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
238

وبأنه مشرك فلا يستوطن دار الاسلام بغير عوض كالحر، وبأولويته
بذلك من سيده، وبأنه من أهل الجهاد فلا تسقط عنه، لأنها عوض
حقن الدم، إلا أن الجميع كما ترى بعد ضعف أصل الدليل، لكن
مقتضى ذلك عدم الفرق بين كونه لمسلم أو ذمي، خلافا لبعض الجمهور
ففرق بينهما محتجا بأخذها حينئذ من المسلم الذي هو مولاه، وفيه أنه
لا بأس بها إذا كانت عن حقن دم العبد، مضافا إلى ما سمعته من
الباقر عليه السلام وإلى ما تقدم في أرض الذمي الذي تكون الجزية
عليه على أرضه لا على رأسه إذا اشتراها المسلم منه يؤدي ذلك، وإن
كان فيه عليه عيب كما أشارت إليه النصوص السابقة، بل مقتضى ما
سمعت عدم الفرق بين أفراد العبيد حتى المبعض منهم، فيؤدي هو قدر
ما فيه من الحرية، ومولاه قدر ما فيه من الرقية، والله العالم.
(و) كيف كان فهي (تؤخذ ممن عدا هؤلاء ولو كانوا رهبانا
أو مقعدين) بلا خلاف أجده فيه بيننا إلا ما سمعته من الإسكافي،
بل (و) لا إشكال بعد عموم الأدلة كتابا وسنة حتى قول النبي
صلى الله عليه وآله المروي (1) من طرق الجمهور لمعاذ: " خذ من كل حالم
دينار " التي مقتضاها أنها (تجب على الفقير) كما هو صريح الشيخ
والفاضل وغيرهما، وظاهر ابني حمزة وزهرة والديلمي والحلي على ما حكي
عن بعضهم، بل هو المشهور كما اعترف به في المنتهى وغيره، بل هو
المحكي عن فعل علي عليه السلام أنه وظف على الفقير دينارا،
لكن عن الإسكافي والمفيد والشيخ في الخلاف عدمها، في الأخير
الاجماع عليه، للأصل المقطوع بما عرفت، وعدم التكليف بغير الوسع

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 193.
239

الذي هو لا ينافي خطاب الوضع والاجماع الموهون بما عرفت، بل
وبمصير حاكيه إلى خلافه، فالتحقيق حينئذ وجوبها عليه من غير فرق
بين ذي العاهة وغيره، خلافا لأبي الصلاح فأسقطها عن الفقير ذي العاهة
والعموم حجة عليه.
(و) لكن (ينتظر بها حتى يوسر) كما صرح به غير واحد
مشعرا بكونها كغيرها من الديون، لكن إن لم يكن إجماع، يتجه
لعموم الأدلة، وإرادة الهوان به، وجوبها عليه مع إمكان الأداء على كل
حال ولو بالقرض أو بيع شئ من المستثنيات أو غير ذلك، نعم ينتظر
بها مع عدم الامكان أصلا، ولم يثبت عندنا ما يروى (1) عن علي عليه
السلام أنه استعمل رجلا على عكبرا فقال له على رؤوس الناس: لا تدعن
لهم درهما من الخراج، وشدد عليه القول، ثم قال له: القني عند انتصاف
النهار، فأتاه فقال: إني كنت قد أمرتك بأمر وإني أتقدم إليك الآن
فإن عصيتني نزعتك، لا تبعن لهم في خراجهم حمارا ولا بقرة ولا كسوة
شتاء ولا صيف، ارفق بهم " على أنه يمكن أن يكون في غير الجزية
التي ستعرف إرادة التشديد بها حتى يتحقق الصغار الذي قد يدعوهم
إلى الاسلام.
(ولو ضرب عليهم جزية فاشترطوها على النساء) مثلا (لم يصح
الصلح) على ذلك كما صرح به غير واحد، لأنه من المحلل للحرام
بعد إسقاط الشارع الجزية عنهن مطلقا، ولعل فساد الصلح أجمع
لاشتماله على الشرط الفاسد بناء على اقتضائه فساد العقد، أو أن المراد
فساده بالنسبة إليهن وإن بقي صحيحا بالنسبة إلى الرجال بعد علمهم

(1) كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 44 الرقم 116
240

بالحال على وجه يخرج به عن الاغتيال المنهي عنه، فمع الرضا به يصح
ولا يحتاج إلى تجديد، نعم لو أردن النساء الصلح على تأدية الجزية
منهن دون الرجال بطل الصلح من أصله، وهو واضح.
(ولو) حاصر المسلمون حصنا من حصون أهل الكتاب ف‍ (قتل
الرجال قبل عقد الجزية فسأل النساء إقرارهن ببذل الجزية قيل) والقائل
الشيخ فيما حكي عنه: (يصح) عقد الذمة لهن على أن يجري عليهن
حكم الاسلام، ولا يأخذ منهن شيئا، فإن أخذ منهن شيئا رده عليهن
لكنه كما ترى ليس قولا بالصحة على وجه تثبت به الجزية كما هو
ظاهر العبارة، نعم حكاه في المبسوط قولا لبعض أصحابنا ولم نعرفه.
(وقيل لا) يصح (وهو الأصح) كما صرح به الفاضل وغيره
لأنه من المحلل للحرام كما عرفت، فيتوصل حينئذ إلى فتح الحصن بما
يتمكن، وهل يجوز اغتيالهن باظهار صورة الصلح لأجل فتح الحصن ثم
يسبين باعتبار كونهن أموالا؟ وجهان، وفي المختلف عن المبسوط نسبة
أولهما إلى القيل، وأنه لا يعقد لهن الأمان، لكن في حاشية الكركي
والمسالك " ولو كن في حصن ولم يمكن فتحه جاز عقد الأمان لهن كما
لو طلبن ذلك في دار الحرب، ولا جزية في الموضعين " ومقتضاه صحة
عقد الأمان لهن على وجه لا يجوز سبيهن، لعموم الوفاء بالعهد والعقد (1)
ومشروعية الصلح (2) والنهي عن الاغتيال (3)، والله العالم.
(ولو كان بعد عقد الجزية كان الاستصحاب حسنا) قال في
حاشية الكركي: " المراد بالاستصحاب هنا استصحاب العقد الذي وقع

(1) سورة البقرة - الآية 172 وسورة المائدة - الآية 1.
(2) الوسائل - الباب 3 من كتاب الصلح.
(3) الوسائل - الباب 21 من أبواب جهاد العدو.
241

مع الرجال، والقول به ضعيف، فالأصح بطلانه " وتبعه في المسالك
قال: " المراد بالاستصحاب هنا استصحاب العقد الذي وقع مع الرجال
وإثبات الجزية على النساء، وما حسنه المصنف غير واضح، فإنه كما
يمتنع إقرارهن بالجزية ابتداء فكذا استدامة للعقد السابق، فالمنع في
الموضعين أقوى " قلت: لا ينبغي التأمل في فساد ذلك على هذا التقدير
بل المصنف أجل من أن ينسب إليه ما لا ينسب إلى أصاغر الطلبة،
ولعله لذا قال شارح الترددات: " إن معنى الاستصحاب استدامة
الأمان للنساء من غير ضرب جزية عليهن حيث قد ثبت لهن الأمان مع
الرجال ضمنا، فيجب الوفاء " وإن قال في المسالك: هذا التوجيه
غريب، فإن السياق إنما هو في بذل الجزية لا في الأمان خاصة، إذ
أقصاه قصور العبارة في الجملة عن ذلك، والله العالم.
(ولو أعتق العبد الذمي منع من الإقامة في دار الاسلام إلا
بقبول الجزية) كما صرح به غير واحد، بل عن التذكرة نفي الخلاف
فيه، بل في المنتهى هو مذهب عامة العلماء إلا ما روي عن أحمد بن
حنبل من الاقرار بغير جزية، ولا ريب في ضعفه بعد عموم الأدلة الذي
مقتضاه أيضا عدم الفرق في المعتق بين كونه مسلما أو كافرا، خلافا
لمالك فلا جزية على الأول، لأن الولاء شعبة من الرق، وهو كما ترى
فيلزم حينئذ بالاسلام أو بأداء الجزية، فإن أبى ألحق بمأمنه، لأنه
قد دخل بشبهة الأمان ولو مع سيده، خلافا للإسكافي فيحبس، لما في
إلحاقه من الإعانة على المسلمين والدلالة على عوراتهم، وهو اجتهاد،
وكذا الكلام لو كان من أهل دين لا تقبل منهم الجزية، خلافا له
أيضا لما عرفت، والله العالم.
(والمجنون المطبق لا جزية عليه) بلا خلاف ولا إشكال كما
242

عرفته سابقا
(وإن كان يفيق وقتا) ويجن آخر (قيل) والقائل
الشيخ في محكي المبسوط والخلاف (يعمل بالأغلب) فتؤخذ الجزية
منه إن كانت الإفاقة أغلب، بأن يجن يوما ويفيق يومين مثلا، وتسقط
عنه مع العكس، وهو مع عدم نقل الحكم عنه حال التساوي لم نعرف له
مستندا ينطبق على مذهب الإمامية، وإن وافقه عليه في المنتهى ومحكي
التذكرة والتحرير إذا كان جنونه غير مضبوط، وأما المضبوط مثل أن
يجن يوما ويفيق يومين أو أقل من ذلك أو أكثر إلا أنه مضبوط ففي
المنتهى فيه احتمالان: أحدها الاعتبار بالأغلب أيضا، والثاني تلفيق
أيام إفاقته، وفيه احتمالان أيضا: أحدهما تلفيقها حولا وتؤخذ منه
لأن أخذها منه قبل أخذ لها قبل الحول، فلم يجز كالصحيح، والثاني
أخذها منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق، قال: وكذا الاحتمالان
لو كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثيه أو بالعكس، أما لو استوت إفاقته
وجنونه مثل أن يجن يوما ويفيق آخر أو يجن نصف حول ويفيق في
الآخر فإن إفاقته تلفق، لتعذر اعتبار الأغلب هنا لعدمه، فيتعين
الاحتمال الآخر، ثم قال: ولو جن نصف الحول ثم يفيق إفاقة مستمرة
أو يفيق نصفه ثم يجن جنونا مستمرا فعليه في الأول من الجزية بقدر
ما أفاق من الحول إذا استمرت الإفاقة بعد الحول، وفي الثاني لا جزية
عليه، لأنه لم يتم الحول مفيقا، وجميعه كما ترى لا يرجع إلى محصل
ولا إلى قاعدة يركن إليها، على أن الحولية لم تذكر هنا شرطا على حسب
الحول في الزكاة، ولعله لذا قال في المسالك الأقوى أن المجنون لا جزية
عليه مطلقا إلا أن يتحقق له إفاقة سنة متوالية، لاطلاق النص، ولعل
إليه يرجع ما في فوائد الشرائع من أن الأصح عدم الجزية عليه، وإن
كان فيه أنه ليس في النص إلا سقوطها عن المغلوب على عقله، فمع
243

فرض انسياق المطبق منه يتجه عدم السقوط في غيره للعموم، بل وكذا
مع الشك، ورفع القلم لا ينافي ثبوت خطاب الوضع، وإلا اتجه السقوط
مطلقا، وأما اعتبار الإفاقة سنة متوالية فليس في النصوص ما يشهد له
خصوصا بعد عدم تضمنها لاعتبار الحول في الإفاقة، وكان اعتبار الأغلب
الذي سمعته من الشيخ ترجيحا لالحاقه بدليل السقوط وعدمه بعد أن
كان الحكم ثبوتها على العاقل وسقوطها عن المجنون، فمع الغلبة يترجح
اللحوق بأحدهما، ومقتضاه الحكم بالبراءة مع عدم الغلبة، ولكن فيه
أنه ليس في الأدلة اعتبار العقل، اللهم إلا أن يدعي اقتضاء سقوطها
عن المغلوب عليه ذلك، ولكنه شك في شك، ضرورة ظهور الأدلة في
وجوبها على الذمي، وأقصى ما سقطت عن المغلوب عليه، فمع فرض
الشك يتحقق مقتضى الثبوت، وهو الذمية، ولم يتحقق مقتضى السقوط
وهو صدق المغلوب على عقله، ولعله الأقوى.
(و) كيف كان ف‍ (لو أفاق حولا وجبت عليه ولو جن بعد
ذلك) كما صرح به غير واحد، بل لعله لا خلاف فيه بل ولا إشكال
لما عرفته من عموم الأدلة الذي مقتضاه أزيد من ذلك كما سمعت.
(وكل من بلغ صبيانهم يؤمر بالاسلام أو بذل الجزية فإن
امتنع صار حربيا) بلا خلاف بل ولا إشكال لعموم الأدلة، ولحوق
أولاده به في الأمان إنما هو ما دام الصغر، فإذا بلغوا احتاجوا إلى
عقد جديد، خلافا لأحمد بن حنبل فيدخلون فيه ولا يحتاجون إلى
تجديد، وفيه منه واضح، وحينئذ فإن اختار الجزية عقد معه الإمام
عليه السلام على حسب ما يراه، ولا اعتبار بجزية أبيه، فإذا حال
الحول من وقت العقد أخذ منه ما شرط عليه، ولا يدخل حوله في حول
أبيه فضلا عن غيره، ولو بلغ سفيها على وجه يحجر عليه في المال
244

واختار عقد الجزية ففي المنتهى " كان له ذلك، وليس للولي المنع،
لأن الحجر لا يتعلق بحقن دمه وإباحته - إلى أن قال -: ولو أراد
عقد الأمان ببذل جزية فالوجه عندي أن للولي المنع، لأنه يمكن
حقن دمه بالأقل " قلت: بل مقتضى القواعد عدم نفوذ العقد الأول
أيضا إلا بإذن الولي، ضرورة كونه عقدا بمال، والفرض الحجر عليه
فيه عليه، نعم قد يقال بالزام الولي لو امتنع باعتبار كون صلاحه صلاح
الاسلام، ولو صالح الإمام عليه السلام قوما على أن يؤدوا الجزية عن
أولادهم فإن كان المراد الزيادة في جزيتهم على وجه تكون في أموالهم
صح، وإلا كان الصلح باطلا على نحو ما سمعته في النساء، وعلى كل
حال فإذا اختار الحرب رد إلى مأمنه ولا يجوز اغتياله، لأنه كان
داخلا في أمان أبيه.
الأمر (الثاني في كمية الجزية و) المشهور بين الأصحاب شهرة
عظيمة أنه (لا حد لها، بل تقديرها إلى الإمام عليه السلام بحسب
الأصلح) بل عن الغنية الاجماع كما عن السرائر نسبته إلى أهل البيت
عليهم السلام، بل لم نعرف القائل منا بتقديرها في جانب القلة والكثرة
وإن أرسله الفاضل وغيره، نعم عن الإسكافي تقديرها في جانب القلة
بالدينار على معنى أن لا تكون أقل من ذلك، أما جانب الكثرة فأمره
إلى الإمام عليه السلام، ولم نجد ما يشهد له إلا ما روي (1) عن
النبي صلى الله عليه وآله أنه قال له: " خذ من كل حالم دينارا " وهو -
مع أنه قضية في واقعة، ولا دلالة فيه على كون الأقل ذلك - لا يصلح
معارضا لما سمعته (و) تسمعه من الأدلة، كما أن (ما قرره علي

(1) سنن البيهقي ح 9 ص 193.
245

عليه السلام على ما أرسله (1) غير واحد منهم المفيد في القنعة
والفاضل وغيرهما من وضع ثمانية وأربعين درهما على الغني، وأربعة
وعشرين درهما على المتوسط واثنا عشر درهما على الفقير، على فرض
ثبوته (محمول على اقتضاء المصلحة في تلك الحال) إذ هو قضية في
واقعة، ففي خبر مصعب (2) المروي في التهذيب قال: " استعملني
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على أربعة رساتيق المدائن
- إلى أن قال -: وأمرني أن أضع على كل جريب زرع غليظ درهما
ونصفا، وعلى كل جريب وسط درهما، وعلى كل جريب زرع رقيق
ثلثي درهم، وعلى كل جريب كرم عشرة دراهم، وعلى كل جريب
نهل عشرة دراهم، وعلى كل جريب البستان التي تجمع النخل والشجر
عشرة دراهم، وأمرني أن ألقي كل نخل شاذ عن القرى لمارة الطريق
وابن السبيل ولا آخذ منه شيئا، وأمرني أن أضع الدهاقين الذين
يركبون البراذين ويتختمون بالذهب على كل رجل منهم ثمانية وأربعين
درهما، وعلى أوساطهم والتجار منهم على كل رجل منهم أربعة وعشرين
درهما، وعلى سفلتهم وفقرائهم اثنا عشر درهما على كل إنسان منهم
قال: فجبيتها ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة "
وعلى كل حال فلا يصلح معارضا لاطلاق الأدلة فضلا عن ما
سمعته من الاجماع المحكي المعتضد بالنسبة إلى أهل البيت عليهم السلام
في محكي السرائر بالشهرة العظيمة، وبصحيح (3) زرارة " قلت لأبي
عبد الله عليه السلام ما حد الجزية على أهل الكتاب؟ وهل عليهم في
ذلك شئ موظف لا ينبغي أن يجوز إلى غيره؟ فقال: ذلك إلى الإمام (ع)

(1) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 8 - 5 - 1.
(2) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 8 - 5 - 1.
(3) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 8 - 5 - 1.
246

يأخذه من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ما يطيق، إنما هم قوم
فدوا أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا، فالجزية تؤخذ منهم على قدر
ما يطيقون له يأخذهم به حتى يسلموا، فإن الله عز وجل (1) قال:
" حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " وكيف يكون صاغرا ولا
يكترث بما يؤخذ منه حتى يجد ذلا لما أخذ منه، فيألم لذلك فيسلم "
بل منه يستفاد أن ما وقع (2) من النبي صلى الله عليه وآله في الدينار
وألفي حلة في صلح نصارى نجران ومن أمير المؤمنين عليه السلام قد
كان لما يراه من المصلحة، بل منه يستفاد أنها عوض، فلا يتقدر بقدر
كالأجرة، بل منه يستفاد أيضا أن ذلك هو المناسب للصغار المصرح
به في القرآن الكريم، كما أومأ إليه ابن إدريس في المحكي عنه تبعا
للشيخ في محكي الخلاف، قال: اختلف المفسرون في الصغار، والأظهر
أنه التزام أحكامنا عليهم، وأن لا تقدر الجزية فيوطن نفسه عليها،
بل تكون بحسب ما يراه الإمام عليه السلام بما يكون معه ذليلا صاغرا
خائفا، فلا يزال كذلك غير موطن نفسه على شئ، فحينئذ يتحقق
الصغار الذي هو الذل، ولعله لذا قال المفيد في المحكي عنه الصغار أن
يأخذهم بما لا يطيقون حتى يسلموا، وإلا كيف يكون صاغرا وهو لا
يكترث بما يؤخذ منه فيسلم، بل ذكر غير واحد أن المشهور في تعريفه
التزام الجزية بما يراه الإمام عليه السلام من غير أن تكون مقدرة،
والتزام أحكامنا عليهم، لكن عن الإسكافي الصغار هو أن يشترط عليهم
وقت العقد جريان أحكام المسلمين عليهم في الخصومات بينهم إذا تحاكموا
إلينا، وفي الخصومات بينهم وبين المسلمين، وأن تؤخذ منهم وهم قيام

(1) سورة التوبة - الآية 29
(2) سنن البيهقي - ج 9 ص 194 و 195.
247

وعن الشيخ في المبسوط هو التزام أحكامنا وجريانها عليهم، وعن الشافعي
هو تطأطؤ الرأس عند التسليم، فيأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في
لهازمه، ولعل الأولى الجميع، بل وغيره مما يتحقق به، إذ المراد
إهانتهم وإذلالهم الذي هو أشد من القتل عند ذوي النفوس العالية،
ولعله لذا كان المحكي عن التذكرة في تفسيره أن تؤخذ منه قائما
والمسلم جالس، وأن يخرج الذمي يده من جيبه ويحني ظهره ويطأطئ
رأسه، ويصب ما معه في كفة الميزان، ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب
في لهزمته، واللهزمتان في اللحيين مجمع اللحم بين الماضغ والأذن،
وفي كنز العرفان " قيل هو أي الصغار أن يدفع ويقهر بحيث تظهر
ذلته، وقيل أن يجيئ ماشيا ويسلمها وهو قائم والآخذ جالس، ويقال
له إذ الجزية وأنت صاغر، ويصفع على قفاه صفعة، وقال فقهاؤنا
أنه التزام أحكام الاسلام أن تجري عليهم، وأن لا يقدر الجزية عليهم
فيوطنوا أنفسهم على حال، وقيل أن يأخذهم بما لا يطيقونه حتى يسلموا
ثم ذكر الخبر ثم فيه أيضا " اختلف في معنى عن يد فقيل أن يعطوها نقدا
لا نسية وقيل أن يعطوها بأيديهم لا بنائب، فإنه أنسب بذلتهم، وهو أقرب
وقيل عن قدرة وقهر لكم عليهم، وقيل اليد هنا النعمة أي عن إنعام
لكم عليهم بقبول الجزية وإقرارهم على دينهم " قلت: لعل
المنساق الثاني، والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (مع) ما ظهر لك وتبين من (انتفاء
ما يقتضي التقدير يكون الأولى إطراحه) أي التقدير (تحقيقا للصغار)
الذي قد عرفت تحققه بالتزام الذمي ما يقترح عليه، فلا يعلم ما يكون
عليه في كل سنة، بخلاف ما إذا كان أمرا يقدر عليه، فإنه ربما
248

يكون فيهم من لا يكترث به فلا يصيبه صغار، اللهم إلا أن تقتضي
المصلحة ذلك، والله العالم.
(ويجوز وضعها على الرؤوس أو على الأرض) بلا خلاف أجده
فيه، بل ولا إشكال بعد الأصل والعمومات كتابا وسنة، وخصوص
النصوص (1) المتضمنة لاثبات كل منهما التي مر جملة منها وغيرها،
نعم في محكي الوسيلة ويضع الجزية على الرؤوس أو على الأرض (ولا
يجمع بينهما) وفي محكي النهاية الإمام (ع) مخير بين أن يضعها على رؤوسهم
أو على أرضهم، فليس له أن يأخذ من رؤوسهم شيئا، ونحوه عن
السرائر، وظاهرها عدم جواز الجمع، بل هو ظاهر محكي الغنية، بل
حكاه في المختلف عن القاضي أيضا واختاره (و) لكن (قيل)
والقائل الإسكافي والتقي على ما حكي عنهما (بجوازه ابتداء و) تبعهما
أكثر المتأخرين، بل (هو الأشبه) بأصول المذهب وقواعده التي منها
ما سمعته من عدم موظف للجزية، وأن تقديرها إلى الإمام عليه السلام
كما وكيفا كما هو مقتضى الأصل وغيره، بل هو المناسب للصغار،
ولما دل على مشروعية العقود بالتراضي ولغير ذلك، ولا ينافيه صحيح
ابن مسلم (2) عن الصادق عليه السلام " قلت له أرأيت مما يأخذ
هؤلاء من الخمس من أرض الجزية ويأخذون من الدهاقين جزية رؤوسهم
أما عليهم في ذلك شئ موظف، قال: كان عليهم ما أجازوا على
أنفسهم، وليس للإمام عليه السلام أكثر من الجزية، إن شاء وضع الإمام
عليه السلام على رؤوسهم، وليس على أموالهم شئ، وإن شاء فعلى
أموالهم، وليس على رؤوسهم شئ، فقلت: هذا الخمس فقال: إنما

(1) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 0 - 1.
(2) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 0 - 1.
249

كان هذا شئ صالحهم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله " بعد ظهوره
في كون المراد عدم جواز أخذ الإمام عليه السلام من الرؤوس أو الأرض
بعد العقد منهم على أحدهما المجمع عليه نقلا وتحصيلا، بل هو مقتضى
الوفاء بالعقد والشرط، كخبر محمد بن مسلم (1) الآخر " سألته عن
أهل الذمة ماذا عليهم فيما يحقنون به دماؤهم وأموالهم؟ قال: فإن
أخذ من رؤوسهم الجزية فلا سبيل له على أرضهم، وإن أخذ من
أرضهم فلا سبيل على رؤوسهم " بل مقتضى قوله عليه السلام في الأول
" عليهم ما أجازوا على أنفسهم " صحة العقد معهم عليهما، مضافا إلى
العمومات، بل وقوله عليه السلام فيه أيضا: " هذا شئ صالحهم عليه
رسول الله صلى الله عليه وآله " بل وخبر مصعب (2) المتقدم سابقا بناءا
على إرادة الجزية منه في الأراضي والرؤوس.
ومن ذلك يظهر لك ضعف الاستدلال بهما للأول الذي لم يظهر المراد
منه، ففي المختلف بعد أن اختاره واستدل للقول الآخر بأن الجزية
لا حد لها، فجاز أن يضع قسطا على أرضهم، قال: والجواب ليس
النزاع في تقسيط جزية على الرؤوس والأرض، بل في وضع جزيتين
عليهما، وظاهره المفروغية من جواز تقسيط الجزية عليهما، وأن النزاع
في الجزيتين، ولكنه كلام مجمل أيضا إذ من المعلوم عدم مدخلية النية
في ذلك، كما أن من المعلوم عدم مشروعية جزية أخرى بعد عقدها
على أحدهما، فإن التعدي عما اقتضاه العقد أولا غير جائز إجماعا،
ومن هنا كان ظاهر المنتهى أن النزاع في جواز توزيع الجزية على الرؤوس
والأرض، قال: " ويتخير الإمام عليه السلام في وضع الجزية إن شاء

(1) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 5.
(2) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 5.
250

على رؤوسهم، وإن شاء على أرضهم، وهل يجوز أن يجمع بينهما فيأخذ
منهم عن رؤوسهم شيئا وعن أرضهم شيئا؟ قال الشيخان وابن إدريس
لا يجوز ذلك، وقال أبو الصلاح: يجوز الجمع بينهما، وهو الأقوى
عندي " إلى آخره، وهو كالصريح في كون النزاع في توزيع الجزية على
الأرض والرؤوس، وإن شئت سميتها جزيتين، لكن على معنى إيقاع
العقد عليهما ابتداء بالرضا من الإمام عليه السلام ومنهم، لا على وجه
التعدي عليهم، ولعل هذا هو المراد من الابتداء في عبارة المتن، وكأنه
لذا قال ابن فهد في المحكي عن مهذبه: ويظهر لي أن النزاع لفظي،
لأن عقد الجزية إن تضمن تعيين أحدهما لم يجز تعديته إلى غيره إجماعا
وإن لم يتضمن التعيين جاز للإمام عليه السلام أن يؤخذ منهما ومن
أحدهما، لعدم المانع، ولأن الجزية إذا لم تكن مقدرة لم يكن لقصرها
على أحد المذكورين معنى لأنه جاز أن يأخذ من الرؤوس بقدر ما يمكن
أن يأخذ منهما ويزيد عليه، إذ ليس لها قدر معين لا يجوز تخطيه،
وإن كانت عبارته لا تخلو من شئ، ضرورة كون المراد بلفظية النزاع
هو أن النزاع لم يجوز الأخذ من الآخر بعد تعيينها في غيره، والمجوز
يريد الجواز ابتداء في عقد الذمة بأن يجعلها على الرؤوس والأراضي،
ولا ينبغي التوقف في جوازه، بل إن شاء جعلها مع ذلك في المواشي
وفي الأشجار وغيرها مما لهم، ضرورة كونها على حسب ما يراه الوالي
الذي قد عرفت أن له تضعيفها عليهم، بل هو أنسب بالصغار كما
عرفته مفصلا.
وعلى كل حال فإن أراد المانع عدم الجواز تعبدا، وأن مشروعيتها
ولو ابتداء إما على الرؤوس أو على الأراضي كان محجوجا بالأصول
251

والعمومات وغيرها حتى ما تسمعه من بعض النصوص (1) في بحث ضم
الضيافة، مع عدم دليل له على ذلك إلا ما زعمه من دلالة الخبرين
التي قد عرفت الحال فيها، وإن أراد عدم الجواز بعد أن كان عقد الذمة
على أحدهما كان صحيحا، ضرورة كونه مخالفا لمقتضى العقد وأكل مال
بالباطل، بل لا يبعد فيما لو فرض عقدها دراهم على الرؤوس مثلا
عدم جواز أخذ مقدار الدراهم من الأراضي بدون رضاهم وبالعكس
إذ هو خلاف مقتضى القعد، بل لو اقترح عليهم الدراهم من الأرض
لم يكن له ذلك إلا برضاهم، لوجوب الوفاء بالعقد على حسب ما وقع
والتخيير في الوفاء لهم كما هو واضح.
ومن ذلك يعلم النظر فيما عن التنقيح حيث أنه بعد نقل القولين
مع الدليل من الطرفين قال: " والأقوى أن نقول إذا اتفقوا هم والإمام
على قدر معين فأراد الإمام بعد ذلك تقسيطه على الرؤوس والأموال جاز
وأما إذا أراد جعل جزية أخرى على الأراضي فلا يجوز للرواية " قلت
لعل تحقيق الحال أن يقال إن عقد الذمة شئ وتقدير الجزية أمر آخر
ضرورة أن عقد الذمة عبارة عن العهد لهم بالأمان وسكنى أراضي
المسلمين بالجزية التي يبقى تقديرها إلى الإمام عليه السلام في كل سنة
على حسب ما يراه من المصلحة، وقد سمعت أن قبول الذمي على الاجمال
هو الصغار أو من الصغار، وحينئذ فله تقديرها على رؤوسهم وعلى
أراضيهم وعلى غير ذلك، نعم لو فرض تعيين الجزية في الأراضي خاصة
أو على الرؤوس خاصة في ابتداء عقد الذمة معهم اتجه حينئذ عدم جواز
تغييره وتبديله، لعموم الوفاء بالعقد وبالشرط، وأما في الأول فللإمام
عليه السلام التصرف في تعيينها إلى حين استيفائها منهم، إن شاء من

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 195 و 196.
252

الأراضي، وإن شاء من الرؤوس، وإن شاء من غيرهما، وإن شاء من
الجميع، لأن الفرض وقوع الذمة على إعطاء الجزية في كل سنة
على حسبما يراه الوالي كما وكيفا، بل يكفي في ذلك إطلاق عقد الذمة
بالجزية من دون تصريح، ضرورة بقاء تقديرها وكيفية أخذها موكولا
إليه، هذا، وفي المسالك تبعا لحاشية الكركي احترز " بقوله " ابتداء "
عما لو وضعها على رأس بعض منهم وعلى أرض بعض آخر فانتقلت
الأرض التي وضعت عليها إلى من وضعت على رأسه، فإنه يجتمع عليه
الأمران، لكن ذلك ليس ابتداء، بل بسبب انتقال الأرض إليه " وفيه
- مع أنه مبني على كون الجزية على من انتقلت إليه الأرض وقد عرفت
الكلام فيه سابقا - أن الاحتراز به عن ذلك إنما يتم لو قيد المنع به
وليس كذلك، فإنه قد أطلق المنع أولا ثم نقل قولا بالجواز بهذا القيد
فيفيد المنع في غيره قولا واحدا لا الجواز، كما لا يخفى، ومن هنا
كان ما ذكرناه أولا أولى، والله العالم.
(ويجوز أن يشترط عليهم مضافا إلى الجزية ضيافة مارة العساكر)
بل المسلمين مجاهدين أو لا كما صرح به غير واحد، بل في المسالك هذا
هو المشهور في الأخبار (1) والفتاوى، وهو الذي شرطه النبي صلى الله عليه وآله (2)
بل لا أجد فيه خلافا كما اعترف به في المنتهى، بل
عن التذكرة الاجماع عليه، وهو الحجة بعد الأصل والعمومات، والمحكي
من (3) فعل النبي صلى الله عليه وآله في المنتهى أنه ضرب على نصارى
إيلة ثلاثمائة دينار، وكانوا ثلاثمائة نفر في كل سنة، وأن يضيفوا
من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام، وشرط على نصارى نجران إقراء

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 196
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 196
(3) سنن البيهقي ج 9 ص 195.
253

رسله عشرين ليلة فما دونها، وعارية ثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا،
وثلاثين درعا مضمونة إلى آخره، وغير ذلك.
(و) لكن (يحتاج) مع ذلك (أن تكون الضيافة معلومة)
بأن يقدر القوت والأدام وعلف الدواب وجنس كل واحد منهما ووصفه
بما يرفع الجهالة وعدد أيام الضيافة كما صرح به غير واحد، بل في
المنتهى إذا شرط الضيافة وجب أن تكون معلومة بأن يكون عدد من
يطعمونه من المسلمين في كل سنة معلوما، ويكون أكثر الضيافة لكل
أحد ثلاثة أيام، لأن النبي صلى الله عليه وآله (1) قال: " الضيافة
ثلاث، وما زاد صدقة " والأقرب عندي جواز الزيادة على ذلك مع
الشرط والتراضي، فيقال: يضيفون في كل سنة خمسين يوما أو أقل أو
أكثر في كل يوم عشرة من المسلمين أو أكثر، ويعين قوت قدرا وجنسا
فيقول لكل رجل كذا وكذا رطلا من الخبر، ويعين الأدام من لحم
وسمن وزيت وشيرج، ويكون قدره معلوما، ويعين علف الدواب من
الشعير والتبن وألقت، لكل دابة شئ معلوم، فإن شرط الشعير قدره
بمقدار معين، وإن لم يشترط الشعير بل اشترط العلف فالوجه أنه لا
يدخل فيه الشعير، بل التبن والحشيش، ولا يكلفوا الذبيحة ولا ضيافتهم
بأرفع من طعامهم إلا مع الشرط معللين له بما عن المبسوط من عدم
صحة العقد على المجهول، نظرا إلى عموم الأدلة على اشتراط التعيين في
العقود، وهو كما ترى، ضرورة عدم دليل على اعتبار المعلومية في كل
عقد حتى عقد الذمة، بل المحكي من فعل النبي صلى الله عليه وآله
خلاف ذلك، بل لا يبعد الاكتفاء بما تقتضيه العادة في المقدار والجنس
والوصف وغيرهما كما أن الظاهر ابتناء ذلك على طهارتهم، أو قبل

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 197.
254

الحكم بنجاستهم، ضرورة صعوبة التحرز عنهم مع الضيافة عندهم
والاقتصار على الجامد والمائع الذي لم يعلم مباشرتهم له بما ينجسه،
فالمتجه حينئذ مع الحكم بنجاستهم اشتراط الضيافة عليهم بما لا يتجنبه
المسلمون من حبوبهم ونحوها.
(و) كيف كان فقد ذكر المصنف أنه (لو اقتصر على الشرط)
ولم يذكر إضافته إلى الجزية (وجب أن يكون زائدا على أقل مراتب
الجزية) مع فرض كونها مقدرة، وإلا وجب أن يكون أزيد من أقل
ما تقتضي المصلحة وضعه عليهم من الجزية، ولا يقتضي الاطلاق كون
الضيافة من الجزية، للتأسي بالنبي صلى الله عليه وآله (1) فإنه شرط
الضيافة زيادة على الدينار على كل نفس على نصارى إيلة، ولأنه لو
شرط الضيافة من الجزية أو كان الاطلاق يقتضيه ولم يمر بهم أحد خرج
الحول بغير جزية، ولأن مصرف الجزية مصرف الغنيمة، بخلاف الضيافة
فإنها لا تختص بذلك، بل يجوز اشتراطها لسائر المسلمين، فلا بد معها
من جزية، وفي المسالك قد صرح بهذا التفسير العلامة في التذكرة وغيره
قلت: قال في المنتهى أيضا: " يجب أن تكون الضيافة زائدة على
أقل ما يجب عليهم من الجزية، وهو أحد قولي الشافعي، وفي القول
الثاني أنها تحتسب من الدينار الذي هو قدر الجزية عنده، لنا أن
النبي صلى الله عليه وآله شرط على نصارى إيلة الضيافة زائدة على
الدينار، والدينار عنده مقدار الجزية لا تجوز الزيادة عليه ولا النقصان
منه، ولأنه لو شرط الضيافة عليهم من الجزية ولم يمر بهم أحد من
المسلمين خرج الحول بغير جزية، وهو باطل، وفي حاشية الكركي " إنما
اشترطت الزيادة ليتحقق الأمران أي الجزية والضيافة معا التي هي

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 195.
255

مشروطة زائدا على الجزية، وبهذا صرح الشيخ في المبسوط والمتأخرون
لأن مصرفها مختلف " هذا، وفي المسالك " وربما احتمل في العبارة
ونظائرها معنى آخر، وهو أن يكون المراد أنه مع الاقتصار على شرط
الضيافة عليهم من غير أن يذكر الجزية تكون الضيافة قائمة مقام الجزية
ويجب حينئذ كونها زائدة عن أقل ما يجب في الجزية لتحقيق الجزية
في ضمنها، ويكون في قوة جزية وضيافة، وعلى هذا الاحتمال ينبغي
اختصاص ما قابل الجزية من الضيافة بأهل الفيئ ونظير هذه العبارة
في مقام الاحتمال عبارة القواعد، والحق أن المراد هو المعنى الأول، وبه
صرح في التذكرة محتجا عليه بفعل النبي صلى الله عليه وآله، واستلزام
شرط الضيافة من الجزية سقوطها لو لم يمر بهم أحد ".
قلت: لا يخفى عليك ما في الكلام في جميع المسألة من الغبار
ضرورة أنه على المعنى الأول لا يتجه الاقتصار على الشرط من دون عقد
الذمة إذ هو شرط فيه، فلا يتصور الاجتزاء باطلاقه عنه، ومع فرضه
فلا بد من الجزية، لما ستعرفه إنشاء الله أنها من أركان عقد الذمة،
وحينئذ يسقط اعتبار كونها زائدة عن أقل مراتب الجزية، ضرورة عدم
ارتباط مقتضى كل منهما بالآخر، كما أن المتجه على تقدير احتسابها
من الجزية وجوب أدائها لو لم يمر بهم أحد لا سقوطها في الحول، بل
لم يظهر وجه لاعتبار زيادتها على الأقل على الاحتمال، ويكفي مساواتها
لها، والتعليل بأن ذلك لتكون الجزية في ضمنها، وتكون في قوة جزية
وضيافة لا محصل له على تقدير جواز قيامها مقام الجزية، كما هو واضح
كوضوح عدم دلالة ما وقع من النبي صلى الله عليه وآله على اعتبار
زيادة الضيافة على الجزية، إذ لا إشكال في جواز اشتراط الضيافة
256

زيادة على قدر الجزية مع التراضي، بل الظاهر جواز جعلها جزية مع
المصلحة، ودعوى اختصاص مصرفها مطلقا بأهل الفيئ ممنوع وإن كان
قد يشهد له خبر ابن أبي يعفور (1) عن أبي عبد الله عليه السلام " إن
أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية، وإنما الجزية عطاء المهاجرين،
والصدقة لأهلها الذين سمى الله في كتابه، فليس لهم من الجزية شئ، ثم
قال: ما أوسع العدل إن الناس يستغنون إذا عدل بينهم، وتنزل السماء
رزقها، وتخرج الأرض بركتها بإذن الله تعالى " ونحوه خبر محمد بن
مسلم (2) عن أبي جعفر عليه السلام، لكن لعل المراد خصوص ما
يجمع بين الجزية، لا أن المراد ما يشمل ما نحن فيه من جواز جعل
الجزية ذلك مع اقتضاء المصلحة، وتسمع إن شاء الله تمام الكلام في
مصرفها، وكان المراد لمن تعرض لذلك الرد على الشافعي القائل بوجوب
اعتبار الضيافة منها بناءا منه على تقديرها بالدينار من دون زيادة ولا
نقصان، فلم يحسنوا التأدية عن ذلك، فوقع في العبارات وفي
تفسيرها تشويش.
ثم إن ظاهر النصوص والفتاوى تكرار الجزية في كل حول، وأن
حالها حال الزكاة والخراج الذي على الأرض، بل هو في أرضهم ضرب
منها، بل لعل المنساق منها أنها تجب في آخر الحول كما صرح به الفاضل
في المنتهى حاكيا له عن الشافعي أيضا خلافا لأبي حنيفة فتجب في كل
حول في أوله، وهو مخالف لما يستفاد من النصوص (3) من كونها تجبى

(1) الوسائل - الباب 69 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2
(2) الوسائل - الباب 69 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2
(3) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو.
257

كجباية الخراج، وقد سمعت خبر مصعب (1) بل النصوص (2) الواردة
في الخراج كالصريحة في كون جزية الرؤوس على نحو ذلك، بل المفهوم
من سيرة العمال وقوله تعالى (3) " حتى يعطوا الجزية " لا يقتضي
أزيد من استحقاق إعطائها ولو في آخر الحول.
(و) حينئذ ف‍ (- إذا أسلم) الذمي (قبل الحول أو بعده قبل الأداء
سقطت الجزية على الأظهر) بل لا أجد فيه خلافا في الأول بل في المنتهى
ومحكي التذكرة الاجماع عليه، وهو الحجة، مضافا إلى ما تسمعه في
الثاني الذي هو المشهور شهرة عظيمة، بل عن الغنية الاجماع عليه،
ولعله كذلك، إذ لا أجد فيه خلافا إلا ما عساه يظهر من مفهوم عبارة
الحلبي المحكية في المختلف، قال: لو أسلم قبل حلول الحول سقطت عنه
نفسه الجزية، ولعله غير مراد له، وإلا كان مخالفا في الأول بالنسبة
إلى ما مضى منها، ولم يحكه أحد عنه، نعم هو أحد قولي الشافعي،
وعلى تقديره فهو محجوج ما سمعت من الاجماع وغيره، وإلا ما حكاه
الفاضل عن الشيخ في الخلاف، ولم نتحققه، خصوصا بعد أن حكى هو
عنه السقوط، وإن كان يحتمل كونه في غير الخلاف، وعلى تقديره فلا
ريب في ضعفه بعد النبويين المستغنيين بشهرتهما نقلا وعملا عن البحث في
سنديهما، أحدهما (4) " الاسلام يجب ما قلبه " والآخر (5) " ليس

(1) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 5
(2) الوسائل - الباب 72 من أبواب جهاد العدو
(3) سورة التوبة - الآية 29
(4) المستدرك - الباب 15 من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث 2
والخصائص الكبرى ج 1 ص 249 وكنز العمال ج 1 ص 17 الرقم 243
والجامع الصغير ج 1 ص 123
(5) المستدرك - الباب 61 من أبواب جهاد العدو الحديث 34.
258

على المسلم جزية " المعتضدين بما سمعت من الاجماع وبالنبوي الثالث (1)
" لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الخراج يعني الجزية " وبقوله تعالى (2)
" قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " وبأن وضعها
للصغار والإهانة للرغبة في الاسلام المنزه عنهما المسلم، وبظهور دليل
وجوبها في الاعطاء صاغرا، ومن المعلوم عدمه في المسلم، وبفحوى
سقوطها في الأول الذي قد عرفت الاجماع عليه الصادق على ما قبل
الحول ولو بساعة وأقل، ومنه يعلم ضعف التمسك بالاستصحاب الذي
هو موجود فيهما، فعدم مراعاته في الأول المجمع عليه يمكن أن يكون
لكونه مشروطا بعدم الاسلام قبل حول الحول، لظهور أدلة أخذها منه
صاغرا في كونه باقيا على اليهودية، وهو بعينه آت في الثاني، ضرورة
ظهوره في كونه وقت الأداء الذي هو الاعطاء كذلك أيضا، بل منه يعلم
كون المراد عدمها على المسلم الشامل لمحل الفرض، كما أن منه يعلم
إرادة ما يشمل المقام من خبر الجب، ودعوى أنها من الديون التي لا
يجبها الاسلام يدفعها ظهوره في جب الاسلام ما كان يقتضيه الكفر،
والجزية وإن كانت كالدين إلا أنها من مقتضيات الكفر الذي جبه الاسلام
ولو أغضينا عن ذلك كله وقلنا بحصول الشك من تصادم الاستصحاب
والاجماع المحكي وغير ذلك مما عرفت كان المتجه البراءة لأصالتها ولا
يقطعها الاستصحاب الذي فرضناه من أسباب الشك.
(نعم لو مات) الذمي (بعد الحول) وهو ذمي (لم تسقط
وأخذت من تركته كالدين) بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به غير
واحد بل ولا إشكال، خلافا لأبي حنيفة فتسقط، لأنها عقوبة كالحد

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 193
(2) سورة الأنفال - الآية 39.
259

وهو كما ترى قياس فاسد، بل لو مات في أثناء الحول أخذ القسط من
تركته كما صرح به الفاضل والإسكافي فيما حكي عنه، وإن كان لو لم
يمت لم يطالب بها في الأثناء على ما صرح به في المنتهى قال: " ولو
لم يمت لم يطالب به في أثناء السنة مع عقد العهد على أخذها في آخر السنة
لأن الالتزام بالشرط واجب " وظاهره الفرق مع الشرط المزبور بين
حالي الموت في الأثناء والحياة، وإن كان قد يناقش بأن حق الشرط لا
يسقط بالموت، اللهم إلا أن يكون هذا من قبيل الأجل يحل
بالموت، ولكن يتجه عليه أخذها جميعا حينئذ منه، ضرورة كونها
دينا قد حل أجله لا القسط، ودعوى أنها معاوضة على المكث في أرض
المسلمين فهي كالإجارة في التقسيط تهجس، إذ يمكن كونها عوضا عن حقن
الدم ونحوه مما يقتضيه الكفر، فتكون حينئذ كغيرها من الديون،
ولذا صرح في المنتهى بضرب الإمام بقدرها كسائر الغرماء لو أفلس أو
مات وكانت تركته قاصرة.
ولو لم يخلف شيئا لم يطالب وارثه، كما أنه لو مات قبل الدخول
في الحول لم يؤخذ من تركته شئ، بل لو كان قد استسلفها الإمام عليه السلام
منه ردها على وارثه، والمراد باستسلافها أخذ الإمام عليه السلام
لها قبل زمان حلولها، وقد صرح غير واحد بجواز ذلك، ولكن الظاهر
كون المراد مع التراضي، وإلا فللذمي الامتناع عن ذلك، إذ ليس
عليه مع أداء الجزية شئ كما صرح به غير واحد، بل هو ظاهر
الكتاب والسنة،
ولو استسلف الإمام عليه السلام ثم أسلم في أثناء الحول ففي
المنتهى رد عليه باقي الحول، قال: " وهل يرد لما مضى؟ الأقرب
عدمه، والفرق بين أن يؤخذ منه وأن لا يؤخذ منه ظاهر لتحقق
الصغار للمسلم في الثاني دون الأول " وفيه أن المتجه الرد إن كان المراد
260

بالاستسلاف الاستقراض إلى وقت استحقاقها، لسقوطها حينئذ بالاسلام
فيبقى القرض على حاله، نعم لو أخذت جزية أمكن القول بعدم الرد
مع أنه لا يخلو من نظر أو منع بعد ظهور عدم استحقاقها بالاسلام في
الأثناء، فتأمل جيدا.
ثم لا فرق فيما ذكرناه من سقوطها بالاسلام بين أن يكون الداعي
في إسلامه ذلك أو لا، لاطلاق الأدلة المعتضدة بحكمه وضعها، خلافا للشيخ
في المحكي من تهذيبه فلم يسقطها في الأول، ولا ريب في ضعفه، وفرق
واضح بين الفرض وبين إسلام الذمي الزاني بمسلمة، لاسقاط القتل عنه
ويجوز أخذ الجزية من أثمان المحرمات كالخمر والخنزير وغيرهما
بلا خلاف معتد به أجده فيه، كما عن الحلي الاعتراف به، بل في
المختلف نسبته إلى علمائنا مؤذنا بالاجماع عليه، وإن كان قد حكي
فيه وفي الدروس عن الإسكافي عدم الجواز في خصوص صورة الإحالة
على مشتريها منهم، ولعله لعدم اعتنائه به بعد ظهور ضعفه باطلاق الأدلة
المقتضية إقرارهم على ما هم عليه، ومنه الاستيفاء منهم من هذه الأمور
كالبيع والشراء معهم بأثمانها، فعليهم وزره ولنا حلال كما ذكره
الصادق عليه السلام في صحيح ابن مسلم (1) الذي رواه المشائخ الثلاثة
" سألت أبا عبد الله عليه السلام عن صدقات أهل الذمة وما يؤخذ من
جزيتهم من ثمن خمورهم وخنازيرهم وميتتهم، قال: عليهم الجزية في
أموالهم يؤخذ من ثمن لحم الخنزير أو خمر، فكل ما أخذوا منهم من
ذلك فوزر ذلك عليهم، وثمنه للمسلمين حلال يأخذونه في جزيتهم "
وفي المقنعة روي محمد بن مسلم (2) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه

(1) الوسائل - الباب 70 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2.
(2) الوسائل - الباب 70 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 2.
261

سأله " عن خراج أهل الذمة وجزيتهم إذا أدوها من ثمن خمورهم
وخنازيرهم وميتتهم أيحل للإمام عليه السلام أن يأخذها ويطيب ذلك
للمسلمين؟ فقال: ذلك للإمام عليه السلام وللمسلمين حلال، وهي
على أهل الذمة حرام، وهم المتحملون لوزره " وفي الدعائم (1) عن
جعفر بن محمد عليهم السلام " أنه رخص في أخذ الجزية من أهل الذمة
من ثمن الخمر والخنازير، لأن أموالهم كذلك أكثرها من الحرام أو الربا "
بل من التعليل يستفاد الاستدلال باطلاق ما دل على أخذها من أموالهم
التي هي غالبا كذلك، ولا فرق بين الحوالة به وغيره بعد الاطلاق، نعم
لا يجوز أخذ أعيان المحرمات منهم في الجزية ولا في غيرها مما تكون
المعاملة فيه معهم، لاطلاق ما دل على حرمتها على المسلم، كما هو
واضح، هذا وقد صرح الفاضل وغيره بأنه يستحق الجزية من يستحق الغنيمة
سواء، فهي للمجاهدين، بل في الدروس أن مصرفها عسكر المجاهدين
وقد سمعت صحيح ابن أبي يعفور (2) وغيره، لكن الظاهر أن ذلك
عند بسط اليد، أما اليوم فعن النهاية والسرائر لمن قام مقام المهاجرين
في الدفع عن الاسلام، بل زاد في محكي السرائر ولمن يراه الإمام عليه السلام
من الفقراء والمساكين من سائر المسلمين، وفي القواعد هي
للمجاهدين، ومع عدمهم لفقراء المسلمين، ونحوه عن أجوبة المهني بن
سنان له أيضا، ولعله لظهور الأدلة في أن مصرفها الآن مصرف خراج
الأرض، بل الظاهر جواز أخذها لنا من يد الجائر على نحو الخراج
كما هو مقتضى السيرة المستمرة من الأعوام والعلماء، بل هو صريح

(1) المستدرك - الباب 58 من أبواب جهاد العدو الحديث 1
(2) الوسائل - الباب 69 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
262

النصوص (1) الواردة في ضيافة الرؤوس والأراضي، بل منها يستفاد
جريان حكم الجزية على المأخوذ من يده بعنوانها كالمأخوذ بعنوان الخراج
والزكاة، وحينئذ يكون تقرير الجزية منه كتقرير الإمام عليه السلام
بالنسبة إلى ذلك نحو ضرب الخراج الصادر منه، بل قد سمعت قول
الرضا عليه السلام (2) فيما وقع من صلح عمر لبني تغلب وأنه يجري
عليه الحكم حتى يظهر الحق، بل يظهر منه بناءا على أنه قد كان ذلك
من عمر ابتداء أن عقد الذمة من الجائر كعقدها من الإمام عليه السلام
ونائبه فضلا عن الجزية الموكولة في عقد الذمة إلى نظر الوالي في كل
سنة على حسبما يراه من المصلحة كي يتحقق بذلك الصغار، كما سمعت
الكلام فيه، وما في بعض العبارات - من أن عقد الذمة للإمام عليه السلام
ونائبه، لأنه مؤبد، فكان النظر إليه فيه، بل في المنتهى نفي
الخلاف فيه - يراد منه عند بسط اليد لا مطلقا حتى يقتضي بطلان العقد
معهم من الجائر وأتباعه، وحرمة أكل الجزية الحاصلة منن عقده،
فالتحقيق إجراء حكم عقد العادل على عقده، وحل الجزية المضروبة
منه في كل سنة كالخراج، وإن كنت لم أجد ذلك محررا في كلامهم
نعم عن المجلسي " أن المشهور عدم تقدير جزية أهل الكتاب، بل ما
يراه الإمام عليه السلام أو حاكم المسلمين صلاحا يقرره " وتسمع إن
شاء الله فيما يأتي عبارة الدروس.
وعلى كل حال فلو تمكن نائب الغيبة من عقده ومن تقرير الجزية
صح وجرى عليه حكم عقد الإمام عليه السلام، بل هو أولى من الجائر

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 196 والوسائل - الباب 72 من أبواب
جهاد العدو والباب 54 من أبواب ما يكتسب به
(2) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
263

بل لعل المراد بالنائب في كلامهم ما يشمله، وربما تسمع لذلك تتمة
إن شاء الله، فمن الغريب بعد ذلك كله توقف الأردبيلي في حل الجزية
من الجائر، وأغرب منه احتماله سقوطها عنهم في زمن الغيبة.
ولا تتداخل الجزية، فإذا اجتمعت عليه جزية سنتين مثلا
استوفيت منه أجمع للأصل وغيره، خلافا لأبي حنيفة فتتداخل كالحدود
وهو كما ترى، وأما المال الذي يقع عليه عقد الجزية فهو على حسب
مما يراه الإمام عليه السلام من نقد أو عروض، فقد قبل رسول الله
صلى الله عليه وآله من نصارى نجران الحلل، وأمر معاذ (2) أن يأخذ
من كل حالم دينارا، وعن علي عليه السلام (3) " إنه كان يأخذ الجزية
من كل ذي صنعة من متاعه، فيأخذ من صاحب الإبر إبرا، ومن صاحب
المسال مسالا، ومن صاحب الحبال حبالا، ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب
والفضة فيقتسمونه، ثم يقول: خذوا فاقتسموا، فيقولون لا حاجة لنا فيه
فيقول: أخذتم خياره وتركتم شراره لتحملنه " وفي الدعائم (4) عن
علي عليه السلام " أنه رخص في أخذ العروض مكان الجزية بقيمة
ذلك " وفيها أيضا (5) عنه عليه السلام " أن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: من وضع عن ذمي جزية أو شفع له في وضعها عنه فقد
خان الله ورسوله وجميع المؤمنين " والله العالم.

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 187 و 195
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 193
(3) كنز العمال ج 2 ص 302 الرقم 1337
(4) المستدرك - الباب 56 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 3
(5) المستدرك - الباب 56 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 3
264

الأمر (الثالث في شرائط الذمة، وهي ستة) على ما ذكرها
المصنف هنا، النافع خمسة بترك الثاني، بل عن كثير تركه، ولكن
لعله لأنه من مقتضيات العقد، ولذا لم يجب اشتراطه، والأول فيه كما
صرح به في المنتهى وغيره، وفي الدروس " شرائط الذمة قبول الجزية
بحسب ما يراه الإمام عليه السلام على الرؤوس أو الأرضين أو عليهما
على الأقوى، والتزام أحكام الاسلام، وأن لا يفعلوا ما ينافي الأمان
كمعاونة الكفار وإيواء عينهم، وأن لا يتجاهروا بالمحرمات في شريعة
الاسلام كأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وأكل الربا ونكاح المحارم،
فيخرجون عن الذمة بترك هذه أو بعضها، وأن يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون - إلى أن قال -: ويمنعون من أن يحدثوا كنيسة أو بيعة أو
يضربوا ناقوسا أو يطيلوا بناء على جارهم المسلم أو يساووه، بل ينخفضون
عنه، فرع لو كانت دار جاره سردابا لم يلزم بمثله، ولو كانت داره
على نشر لا يمكن الانتفاع بها إلا بالعلو على المسلم فالأقرب جوازه،
ويقتصر على أقل من بنيان المسلم، ولو انعكس جاز له أن يقارب دار
المسلم في العلو وإن أدي إلى الافراط في الارتفاع " ونحوه في الشرائط
في اللمعة، وظاهره أنها أجمع شرائط في صحة عقد الذمة على معنى
عدم جواز عقدها بدون ذلك، وسيظهر لك ما فيه كغيره ممن ذكر نحوه
وفي المنتهى " لا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين أحدهما أن
يلتزموا إعطاء الجزية، والثاني التزام أحكام الاسلام على معنى وجوب
القبول لما يحكم به المسلمون من أداء حق أو ترك محرم - إلى أن قال -
ولا نعم في ذلك خلافا - ثم قال أيضا -: جملة ما يشترط على أهل
الذمة ينقسم إلى ستة أقسام: أحدها ما يجب شرطه ولا يجوز تركه،
وهو أمران: أحدهما ثبوت الجزية عليهم، والثاني التزام أحكام الاسلام
265

ولا بد من ذكر هذين الأمرين معا لفظا ونطقا، ولا يجوز الاخلال بهما
ولا بأحدهما، فإن أغفل أحدهما لم تنعقد الجزية، ولا نعلم فيه خلافا
- إلى أن قال -: الثاني ما لا يجب شرطه، لكن الاطلاق يقتضيه، وهو
أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان من العزم على حرب المسلمين، وإمداد
المشركين بالمعاونة لهم على حرب المسلمين، لأن إطلاق الأمان يقتضي
ذلك، فإذا فعلوه نقضوا الأمان، لأنهم إذا قاتلونا وجب علينا قتالهم
وهو ضد الأمان، وهذان القسمان ينتقض العهد بمخالفتهما سواء شرط
ذلك في العقد أو لم يشترط، الثالث ما ينبغي اشتراطه مما يجب عليهم
الكف عنه، وهو سبعة أشياء، ترك الزنا بالمسلمة وعدم إصابتها باسم
النكاح، وأن لا يفتنوا مسلما عن دينه، ولا يقطع عليه الطريق، ولا
يؤوي للمشركين عينا، ولا يعين على المسلم بدلالة أو بكتبه كتاب إلى
أهل الحرب بأخبار المسلمين ويطلعهم على عوراتهم، ولا يقتلوا مسلما
ولا مسلمة، فإن فعلوا شيئا من ذلك وكان تركه مشروطا في العقد
نقضوا العهد، وإلا فلا - إلى أن قال -: الرابع ما فيه غضاضة على
المسلمين، وهو ذكر ربهم أو كتابهم أو نبيهم أو دينهم بسوء فلا يخلو
إما أن ينالوا بالسب أو بدونه، فإن سبوا الله تعالى أو رسوله صلى الله
عليه وآله وجب قتلهم، وكان ذلك نقضا للعهد، قاله الشيخ رحمه الله
وإن ذكروهما بما دون أو ذكروا دين الاسلام أو كتاب الله بما لا ينبغي
فإن كان قد شرط عليهم الكف عن ذلك كان ذلك نقضا للعهد، وإلا
فلا - إلى أن قال -: الخامس ما يتضمن المنكر ولا ضرر على المشركين
فيه، وهو أن لا يحدثوا كنيسة ولا بيعة في دار الاسلام، ولا يرفعوا
أصواتهم بكتبهم، ولا يضربوا الناقوس، ولا يطيلوا أبنيتهم على بناء
المسلمين، وأن لا يظهروا الخمر والخنزير في دار الاسلام، فهذا كله
266

يجب عليهم الكف عنه سواء شرط عليهم أو لم يشترط، فإن عقد الذمة
يقتضيه، فإن خالفوا ذلك لم يخل إما أن يكون مشروطا عليهم أو لم
يكن، فإن كان مشروطا عليهم انتقض ذمامهم، وإن لم يكن مشروطا
عليهم لم ينتقض ذمامهم، بل يجب عليهم بما يقابل جنايتهم من حد
أو تعزير، وقال الشيخ رحمه الله لا يكون نقضا للعهد سواء شرط
عليهم أو لم يكن، وبه قال الشافعي - إلى أن قال -: السادس التميز
عن المسلمين وينبغي للإمام عليه السلام أن يشترط عليهم في عقد الذمة
التميز عن المسلمين في أربعة أشياء: في لباسهم وشعورهم وركوبهم
وكناهم " إلى آخره.
وأما المصنف فبعد أن ذكر أنها ستة وفي بعض النسخ سبعة قال:
(الأول قبول الجزية، الثاني ألا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم
على حرب المسلمين وإمداد المشركين، ويخرجون عن الذمة بمخالفة هذين
الشرطين) بلا خلاف أجده فيهما كما سمعت الاعتراف به في أولهما
الذي هو مقتضى قوله تعالى (1) " حتى يعطوا الجزية " ووصية النبي
صلى الله عليه وآله (2) لأمراء السرايا بطلب الجزية منهم، فإن أجابوا
وإلا فنابذوهم، وقول الصادق عليه السلام في خبر غياث (3) المنجبر
بما عرفت " ولو منع الرجال فأبوا أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد
وحلت دماؤهم وقتلهم " وأما الثاني فقد سمعت ما في المنتهى من
الاستدلال عليه وأنه مقتضى الأمان، ولعله لذا لم يذكر كثير منهم

(1) سورة التوبة - الآية 29
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 184
(3) الوسائل - الباب 18 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 عن
حفص بن غياث
267

المصنف في النافع كما سمعت الكلام فيه.
(الثالث أن لا يؤذوا المسلمين كالزنا بنسائهم واللواط بصبيانهم
والسرقة لأموالهم وإيواء عين المشركين والتجسس لهم، فإن فعلوا شيئا
وكان تركه مشترطا في الهدنة كان نقضا، وإن لم يكن مشترطا كانوا
على عهدهم، وفعل بهم ما تقتضيه جنايتهم من حد أو تعزير) كما
صرح بذلك غير واحد، بل صرح بعضهم بعدم لزوم ذكر هذا الشرط
في عقد الذمة، وأنه مما ينبغي للإمام عليه السلام اشتراطه، بل قد
سمعت تصريح الدروس بانتقاض العهد به وإن لم يشترط كما هو ظاهر
اللمعة، بل هو ظاهر النافع أيضا، وفيه أنه ليس في شئ من الأدلة
اعتبار ذلك في عقد الذمة، بل مقتضى الاطلاق خلافه، نعم لو اشترط
فيه نقض بلا خلاف، بل يمكن تحصيل الاجماع عليه، بل في بعض
الكتب دعواه، وهو إن تم الحجة لا ما قيل من كونه مقتضى الشرطية
التي لم يقع التراضي إلا عليها، إذ قد يقال إن مقتضى الشرطية إلزامهم
به إن لم يفوا به كما في غيره من العقود لا انتقاض العهد به، إلا أن
الظاهر كون عقد الذمة ليس كغيره من العقود التي لا تقبل التعليق،
بل هو ضرب من العهد، فيجوز حينئذ تعليق الأمان والذمة على ذلك
كالوصية العهدية والإمارة ونحوهما، وحينئذ يتجه الحكم بالنقض مع
فرض وقوع العقد على هذا الوجه، وعلى كل حال لا وجه لذكر ذلك
شرطا من شرائط الذمة، إذ هو على ما عرفت مما يصح اشتراطه
في عقدها كغيره من الشرائط، لا أنه من شرائط صحة عقدها على
معنى عدم جواز عقدها بدونه، والله العالم.
(ولو سبوا النبي صلى الله عليه وآله قتل الساب) كغيرهم من
الناس بلا خلاف، بل الاجماع بقسميه عليه، بل عن الغنية دعواه
268

عليه لكل من سمعه من غير توقف على إذن الإمام عليه السلام، ويشهد
له بعض النصوص (1) كما أشبعنا الكلام فيه وفي سب باقي الأنبياء
والملائكة والأئمة عليهم السلام وفاطمة عليها السلام في كتاب الحدود
فلاحظ، إنما الكلام في نقض العهد به هنا، فعن المبسوط وغيره النقض
وإن لم يشترط في عقد الذمة، بل في محكي الغينة الاجماع عليه، وهو
حسن إن كان المراد به بالنسبة إلى قتله الذي كان مقتضى عقد الذمة
خلافه، أما جريان باقي أحكام النقض عليه بالنسبة إلى ماله وولده
مع عدم اشتراطه فهو مشكل إن لم يكن اجماع لعدم الدليل، بل الأصل
والاطلاق يدلان على عدمه، ولعله لذا نسبه في المنتهى إلى قول الشيخ
مشعرا بنوع توقف فيه، والله العالم.
(ولو نالوه بما دونه) أي السب (عزروا إذا لم يكن شرط
عليهم الكف) عنه وإلا انتقض عهدهم كما عن صريح المبسوط عملا بمقتضى
الشرط، أما مع عدم الشرط فربما ظهر من بعض الانتقاض أيضا،
وفيه الاشكال السابق إن لم يكن إجماع، وكذا الكلام في غيره مما فيه
غضاضة على المسلمين على حسبما سمعته من المنتهى، وعلى كل حال
فظاهرهم أيضا عدم وجوب ذكر هذا الشرط في عقد الذمة، بلا يبطل
حينئذ بعدمه، للأصل والاطلاق وغيرهما، ومنه ينقدح الاشكال على من
ذكره في جملة شرائطه، والله العالم.
(الرابع أن لا يتظاهروا بالمناكير) عندنا (كشرب الخمر والزنا
وأكل لحم الخنزير ونكاح المحرمات) ونحوها وإن كانت جائزة في
شرعهم (ولو تظاهروا بذلك نقض العهد) وإن لم يذكر اشتراطه في

(1) الوسائل - الباب 3 من أبواب حد المرتد - الحديث 1 من
كتاب الحدود
269

عقد الذمة كما هو ظاهر النافع واللمعة والنهاية والسرائر على ما حكي
عن بعضها، بل عن الأخير دعوى الاجماع عليه، بل هو صريح المحكي
عن الغنية، ولعله لصحيح زرارة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام
" أن رسول الله صلى الله عليه وآله قبل الجزية من أهل الجزية على أن
لا يأكلوا الربا ولا يأكلوا لحم الخنزير ولا ينكحوا الأخوات ولا بنات
الأخ، فمن فعل ذلك منهم برئت ذمة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله
منه، وقال أيضا ليست لهم اليوم ذمة " الظاهر في اعتبار ذلك في
أصل عقد الذمة، ولذا قال في محكي الغنية والسرائر: روى أصحابنا
أنهم متى تظاهروا في شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونكاح المحرمات
في شرعنا والربا نقضوا بذلك العهد.
(و) لكن مع ذلك (قيل) والقائل الشيخ في محكي المبسوط
وظاهر الخلاف (لا ينقض) وإن اشترط عليهم (بل) عقد الذمة
يقتضيه، ولكن (يفعل معهم ما يوجبه الاسلام من حد أو تعزير)
ولا يخفى عليك ضعفه بعد ما عرفت، كضعف ما سمعته من المنتهى من التفصيل
بين الاشتراط فينتقض، وعدمه فلا ينتقض، كالمحكي عن التحرير والتذكرة
ضرورة أنه لو سلم عدم ظهور الصحيح في غير صورة الشرط كما زعمه
بعض الناس فالاجماع المحكي المعتضد بفتوى من عرفت كاف، كما
هو واضح.
(الخامس أن لا يحدثوا كنيسة ولا يضربوا ناقوسا ولا يطيلوا
بناء ويعزرون لو خالفوا) كما صرح بذلك غير واحد، بل يظهر من
بعضهم المفروغية منه، بل عن الغنية الاجماع على النقض به وإن لم
يشترط، فإن تم ذلك كان هو الحجة، وإلا كان مقتضى الأصل والاطلاق

(1) الوسائل - الباب 48 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
270

جواز ما كان جائزا في شرعهم الذي أمرنا باقرارهم عليه بل عقد الذمة
يقتضيه (و) على كل حال فقد صرح غير واحد بأنه (لو كان تركه
مشترطا في العهد انتقض) وإلا لم ينتقض، ولكن قد سمعت ما عن
الغنية من الاجماع على النقض مطلقا إلا أن قطع الأصل والاطلاق
بمثله - بعد إعراض الأكثر عنه، بل لم نجد من وافقه عليه - مشكل
أو ممنوع، نعم يمكن تحصيل الاجماع على النقض في صورة الشرط
وإلا كان فيه الاشكال السابق إلا على الوجه الذي ذكرناه، والله العالم.
(السادس أن تجري عليهم أحكام المسلمين) على معنى وجوب
قبولهم لما يحكم به المسلمون عليهم من أداء حق أو ترك محرم بلا خلاف
أجده كما سمعته من المنتهى، ضرورة كونه الصغار أو منه الذي لا
إشكال ولا خلاف في اعتباره في الذمة بنص الكتاب (1) ولذا صرح
غير واحد بالانتقاض بالمخالفة وإن لم يشترط، بل لا أجد فيه خلافا
بينهم، وبذلك كله ظهر لك الحال فيما ينبغي اشتراطه في الذمة، وهو
ما استفيد من الآية من إعطاء الجزية صاغرا، بل ينبغي اعتبار كونها
عن يد وإن لم أجد من صرح به، وما استفيد من صحيح زرارة (1)
وما يقتضيه إطلاق الأمان، وأما غير ذلك فمدار وجوبها والنقض بها
على الاشتراط في عقد الذمة على وجه يحصل النقض بعدمه كما قدمنا
الكلام فيه، وإلى ذلك يرجع ما في المسالك وحاشية الكركي وإن كان
لا يخلو أيضا من شئ، وحينئذ فالأولان والرابع والسادس شرائط
الذمة، وأما الشرائط فيها فهي على حسب ما يقع من العاقد، ومن هنا
يشكل الحكم بانتقاض العهد في أهل الذمة الآن بمخالفة بعض الأمور

(1) سورة التوبة - الآية 29.
(2) الوسائل - الباب 48 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
271

التي لم يعلم اشتراطها عليهم حين العقد معهم على وجه يقتضي النقض
اللهم إلا أن يكون ذلك محفوظا للمسلمين، ولم نتحققه، بل لعل السيرة
على خلافه، وإن كان يمكن كون ذلك لتقويهم بحكام الجور، إلا أن
الانصاف عدم العلم بكيفية وقوع العقد معهم، وأنه كان على وجه تبرئ
الذمة منهم لو خالفوا شيئا منها أو كان على إرادة الالزام لهم بهذه
الأمور وإن لم ينتقض العهد بالمخالفة، فلا يجوز حينئذ التعرض باجراء
حكم الحرب عليهم بمجرد الاحتمال بعد معلومية حصول الذمة، مع
أن الأصل عدم الشرط على هذا الوجه، نعم يخرجون عن الذمة بمخالفة
تلك الشرائط التي قد عرفت اعتبارها في الذمة دون غيرها، ودعوى
استفادة ذلك مما عرفت من أن الأولى للإمام عليه السلام ذكر الشرائط
المزبورة بضميمة أن النبي صلى الله عليه وآله والإمام من بعده لا
يتركون الأولى يدفعها أن المصلحة في ذلك الوقت غير معلومة لدينا،
فربما تكون تقتضي ذلك، وربما لا تكون، وربما كانت في بعضهم
كذلك ولكن لم يعرفوا، ومنه يعلم الحال فيما في جملة من العبارات
من الاجمال حتى المتن.
نعم ينبغي أن يشترط عليهم في عقد الذمة كلما فيه نفع ورفعة
للمسلمين وضعة لهم وما يقتضي دخولهم في الاسلام من جهته رغبة أو
رهبة، بل ينبغي للإمام عليه السلام كما سمعته من المنتهى اشتراط
التميز عن المسلمين في اللباس والشعور والركوب والكنى، أما اللباس
بأن يلبسوا ما يخالف لونه سائر الثياب كالعسلي لليهود والدكني للنصارى
ولكن يكفي في ذلك ثوب واحد، وبشد الزنار للنصارى، وبخرقة فوق
العمامة أو نحوها لغيرهم، ويجوز أن يلبسوا العمامة والطيلسان، وإن
272

لبسوا قلانس شدوا في رأسها علما لتخالف قلانس القضاة، وينبغي أن
يختم في رقبته خاتم رصاص أو نحاس أو حديد أو يضع فيه جلجلا
أو جرسا ليمتاز به عن المسلمين في الحمام، وكذلك يأمرون نساءهم
بلبس شئ يفرق بينهن وبين المسلمات من شد الزنار تحت الأزرار ويختم
في رقابهن، وتغيير أحد الخفين بأن يكون أحدهما أحمر والآخر أبيض
ولا يمنعون من لبس فاخر الثياب بعد حصول التمييز، وأما الشعور
فلا يفرقونها، فإن النبي صلى الله عليه وآله (1) فرق شعره، ويحذفون
مقاديم الرؤوس، ويجزون شعورهم، وأما الركوب فلا يركبون الخيل
لأنها عز، ويركبون ما سواها بغير سرج، ويركبون عرضا رجلاه إلى
جانب وظهره إلى جانب ويمنعون تقليد السيوف وحمل السلاح واتخاذه
وأما الكنى فلا يتكنوا بكنى المسلمين كأبي محمد وأبي عبد الله وأبي القاسم
وأبي الحسن وأشباهها، بل ينبغي للإمام عليه السلام أيضا اشتراط
عدم علو دورهم على دور المسلمين بل عدم مساواتها.
بل ينبغي له إلزامهم بما ألزم به بعضهم أنفسهم، فقد
روى " أنه كتب أهل الجزيرة من أهل الكتاب في زمن عمر
إلى عبد الرحمن بن عتم أنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان
لأنفسنا وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتا
كنيسة ولا فيما حولها ديرا ولا قلابة ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما
خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين، ولا نمنع
كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن توسع أبوابها
للمارة وابن السبيل، ولا نئوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا، وأن لا

(1) الوسائل - الباب 62 من أبواب آداب الحمام الحديث 5.
273

نكتم أمر من غشى المسلمين، وأن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا
في جوب كنائسنا، ولا نظهر عليها صليبا، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة
ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، ولا نخرج صليبنا ولا
كتبنا في سوق المسلمين، ولا نخرج بأعيادنا ولا سعانينا ولا نرفع
أصواتنا مع أمواتنا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وأن
لا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركا ولا ترغيبا في
ديننا، ولا ندعو إليه أحدا، ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذي ضربت
عليهم سهام المسلمين، وأن لا نمنع أحدا من أقربائنا إذا أراد الدخول
في الاسلام، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسلمين في
لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم، لا
نتكلم بكلامهم، وأن لا نتكنى بكناهم، وأن نجز مقاديم رؤوسنا، ولا
نفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتيمنا
بالعربية، ولا نترك الروح، ولا نتخذ شيئا من السلا ولا نحمله ولا
نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشد الطريق ونقوم
لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس، ولا نطلق عليهم في منازلهم، ولا
نعلم أولادنا القرآن، ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون
إلى المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام
وأن نطعمه من أوسط ما نجد ضمنا ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا
ومساكننا، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا
الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة
والشقاق، فكتب بذلك عبد الرحمان بن عتم إلى عمر بن الخطاب،
فكتب له عمر أن أمض لهم ما سألوا وألحق فيه حرفين اشترطهما
عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم: أن لا يشتروا من سبايانا شيئا، ومن
274

حارب مسلما عمدا فقد خلع عهده، فأنفذ عبد الرحمان بن عتم ذلك
وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط "
وعن ابن الجنيد وأختار أن يشترط عليهم عند عقد الذمة لهم أن
لا يظهروا سبا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله ولا أحد من أنبياء
الله وملائكته ولا سب أحد من المسلمين، ولا يطعنوا في شئ من الشرائع
التي رسمها أحد من الأنبياء، ولا يظهروا شركهم في عيسى والعزير،
ولا يرعون خنزيرا في شئ من أمصار المسلمين، ولا يمثلوا ببهيمة ولا
يذبحوها إلا من حيث نص لهم في كتبهم على مذبحها، ولا يقربوها
لصنم ولا لشئ من المخلوقات، ولا يربوا مسلما ولا يعاملوه في بيع
ولا إجارة ولا مساقاة ولا مزارعة معاملة لا تجوز للمسلمين، ولا يسقوا
مسلما خمرا، ولا يطعموه محرما، ولا يقاتلوا مسلما، ولا يعاونوا باغيا
ولا ينقلوا أخبار المسلمين إلى أعدائهم، ولا يدلوا على عوراتهم، ولا
يحيوا منن بلاد المسلمين شيئا إلا بإذن واليهم، فإن فعلوا كان للوالي
إخراجه من أيديهم، ولا ينكحوا مسلمة بعقد ولا غيره، ويشترط عليهم
أيضا كلما قلنا إنه ليس بجائز لهم فعله، كدخول الحرم وسكنى الحجاز
وغيره، ثم يقال فمن فعل شيئا من ذلك فقد نقض عهده وأحل دمه
وماله وبرئت منه ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وآله والمؤمنين، وقد
سمعت ما عن (1) أمير المؤمنين عليه السلام في بني تغلب.
وأنه من جملة الشرائط عليهم أن لا يهودوا أولادهم، وقال
الصادق عليه السلام في خبر فضل بن عثمان الأعور (2) " ما من مولود
يولد إلا على الفطرة، فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه،

(1) كنز العمال ج 2 ص 304 الرقم 6356.
(2) الوسائل - الباب 48 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
275

وإنما أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله الذمة وقبل الجزية عن رؤوس
أولئك بأعيانهم على أن لا يهودوا أولادهم ولا ينصروا، وأما أولاد أهل
الذمة اليوم فلا ذمة لهم " وعن العلل (1) روايته أيضا إلا أنه قال:
" فأما الأولاد وأهل الذمة اليوم فلا ذمة لهم " ولكن لم أجد عاملا
بما في ذيله، بل لعل ظاهر نصوص (2) ضمان الرؤوس والسيرة على
خلافه، هذا، وقد ذكرنا سابقا الكلام في العاقد للذمة، وقد عرفت
أنه في زمان بسط اليد للإمام عليه السلام ونائبه الخاص، أما في زمان
قصورها فنائب الغيبة، بل والجائر للسيرة، وما تقدم (3) عن الرضا
عليه السلام من إمضاء صلح عمر لبني تغلب إلى أن يظهر الحق، ولعله
لذا قال في الدروس وفي زمن الغيبة يجب إقرارهم على ما أقرهم عليه
ذو الشوكة من المسلمين كغيرهم، بل مقتضاه صحة ذلك وإن أخل بما
هو كالركن لعقد الذمة، وهو الجزية والصغار ونحوهما مما عرفت، إلا
أن الذي يظهر من الأصحاب فساد عقد الذمة بما سمعت لو وقع من
أحد من غير فرق بين هذا الزمان وغيره، اللهم إلا أن يكون من
الجائر وقلنا باعتبار ما يقع منه وإن خالف الحق كما عساه يظهر بما
سمعته من الدروس، إلا أنه كما ترى، نعم هو كذلك من حيث التقية
الضررية لا الدينية، فتأمل جيدا، والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (هاهنا مسائل: الأولى إذا خرقوا الذمة في
دار الاسلام) ففي القواعد ومحكي المبسوط (كان للإمام عليه السلام
رد هم إلى مأمنهم) بل عن الإيضاح عدم الخلاف فيه (وهل له قتلهم

(1) الوسائل - الباب 48 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
(2) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 0 - 6.
(3) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 0 - 6.
276

واسترقاقهم ومفاداتهم؟ قيل) والقائل الشيخ في محكي المبسوط: (نعم)
هو مخير بين ذلك وبين الرد (و) لكن (فيه تردد) من الدخول
بالأمان المانع من الاغتيال كما سمعته في كل حربي دخل دار الاسلام
بأمان فضلا عن الذمة، ومن كون ذلك قد نشأ منهم والفرض أنه قد
تقدم إليهم بذلك متى نقضوا فليس فيه اغتيال ولا خيانة، فيجري
عليهم حينئذ حكم أهل الحرب، ولعله الأقوى كما في المنتهى والمسالك
وحاشية الكركي ومحكي التذكرة، بل عن الغنية الاجماع عليه، قال:
ومتى أخلوا بشئ منها أي الشرائط صارت دماؤهم هدرا وأموالهم وأهاليهم
فيئا للمسلمين بدليل الاجماع المشار إليه، ومنه حينئذ يشكل الحكم
بجواز الرد إلى المأمن الذي قد عرفت دعوى الفخر نفي الخلاف فيه،
ضرورة اندراجهم في أهل الحرب المأمورين بقتلهم وسبيهم ونهبهم كتابا
وسنة وإجماعا بقسميه، نعم الظاهر اختصاص ذلك بخصوص الخارق
دون غيره، بل قد يشكل جريان الحكم على ماله وأهله بناءا على ما
سمعته سابقا باحترام مال المستأمن وإن لحق بدار الحرب، اللهم إلا أن
يقال إن أمان أهله وذريته وماله تبع لأمانه، والفرض انتقاضه على
وجه لا يجب معه علينا الرد إلى المأمن، لكون النقض من قبله،
وخصوصا إذا كان قد اشترط عليه مع ذلك، فلعل الأقوى حينئذ انتقاض
الأمان في توابعه، فتسبى نساؤه، وتسترق ذريته، ويتخير فيه الإمام
عليه السلام بين القتل والمن والاسترقاق والفداء على حسبما سمعته في
الأسير بعد وضع الحرب أوزارها، والله العالم.
المسألة (الثانية إذا أسلم) الذمي (بعد خرق الذمة قبل
الحكم فيه سقط الجميع) أي القتل والاسترقاق والمفاداة وغيرها أيضا
مما كان عليه حال الكفر (عدا القود والحد) مع فعل موجبهما
277

(واستعادة ما أخذه) من المال كما في المنتهى ومحكي التذكرة، بل
عن المبسوط سقوط الأخير من المستثنى، لكن قال: إن أصحابنا رووا
أن إسلامه لا يسقط عنه الحد، وظاهره شهرة الرواية أو الاجماع عليها
فلا تحتاج حينئذ إلى جابر في إثبات الحد الذي من فحواه يستفاد حكم
الأخيرين أيضا، أو من عدم القول بالفصل، مضافا إلى الأصل المقتضي
كونها كالدين الذي لا يسقط بالاسلام، وحينئذ فخبر الجب (1) مخصوص
بذلك بناءا على شموله لها، فتأمل.
(ولو أسلم بعد الاسترقاق أو المفاداة لم يرتفع ذلك عنه) بلا
خلاف أجده فيه، بل ولا إشكال، للأصل، والله العالم.
المسألة (الثالثة إذا مات الإمام عليه السلام وقد ضرب لما قدره
من الجزية أمدا معينا، أو اشترط الدوام وجب على) الإمام عليه السلام
(القائم بعده إمضاء ذلك) كما صرح به غير واحد، بل في المنتهى
نفي الخلاف فيه عنه، بل في محكي التذكرة الاجماع عليه وهو كذلك
ضرورة كون ذلك مقتضى وجوب الطاعة والامتثال لمن عصمه الله تعالى
من الزلل وآمنه من الخطأ ومن النطق عن الهوى وجعل أمره أمره
وحكمه حكمه (وإن أطلق الأول كان للثاني تغييره على حسبما يراه
صلاحا) بلا خلاف أيضا بل ولا إشكال، ضرورة عدم كونه مخالفة
للأول، فيبقى حينئذ ما دل على وجوب مراعاته المصلحة على حال،
ولعله لذا ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله الجزية دينارا (2)

(1) المستدرك - الباب 15 من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث 2.
والخصائص الكبرى - ج 1 ص 249 وكنز العمال ج 1 ص 17 الرقم
243 الجامع الصغير ج 1 ص 123.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 193.
278

وأمير المؤمنين عليه السلام خمسة وأربعين وأربعة وعشرين واثنا عشر (1)
كما عرفته سابقا، والله العالم.
(ويكره أن يبدأ الذمي بالسلام) على المشهور كما في المسالك
للنهي عنه في النبوي (2) المحمول عليها " لا تبدؤوا اليهود والنصارى
بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها " وفي آخر
" إنا غادون غدا فلا تبدؤوهم بالسلام، وإن سلموا عليكم فقولوا
وعليكم " وفي الدعائم (3) عن علي عليه السلام " أن رسول الله صلى
الله عليه وآله نهى أن يبدؤوهم بالسلام، فإن بدؤوا قيل لهم وعليكم "
لكن عن ظاهر التذكرة التحريم، بل في المسالك النهي المطلق (4)
في الأخبار يدل عليه، وهو كذلك لو كان بسند معتبر، ولم تكن
شهرة على إرادة الكراهة منه، ولو بدأ الذمي به اقتصر في الجواب على
قول وعليكم كما سمعت من النبي صلى الله عليه وآله، وفي محكي التذكرة
يرد بغير السلام بأن يقول: هداك الله أو أنعم الله صباحك أو أطال
الله بقاك ولو رد بالسلام اقتصر على قول وعليك، وفيه بحث يعرف
من الكلام في التحية في كتاب الصلاة، فلاحظ، ومنه يعلم الحال
فيما لو أكمل الجواب بالسلام الذي استظهر هنا كراهته في المسالك بناء

(1) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 5 و 8
وفيه أنه عليه السلام جعل على المرتبة الأولى ثمانية وأربعين
(2) كنز العمال - ج 5 ص 30 الرقم 702
(3) المستدرك - الباب 43 من أبواب أحكام العشرة الحديث 4 من
كتاب الحج
(4) الوسائل - الباب 49 من أبواب أحكام العشرة.
279

على عدم القول بتحريمه ابتداء، وكذا ما فيها أيضا من أنه لو اضطر
المسلم إليه لكونه طبيبا يحتاج إليه ونحو ذلك لم يكره له السلام عليه
ولا الدعاء له، لصحيح عبد الرحمان (1) عن الكاظم عليه السلام،
وفيه " أنه لا ينفعه دعاؤك " ثم قال: وأما السلام على باقي الملل
والرد عليهم فلم يتعرضوا له، والظاهر تحريمه مع عدم الضرورة،
وينبغي أن يقول عند ملاقاتهم السلام على من اتبع الهدى كما فعله النبي
صلى الله عليه وآله (2) بمشركي قريش، وفيه أيضا بحث يعرف معا
هناك أيضا.
(و) مما سمعته في النبوي يعلم الوجه فيما ذكره المصنف وغيره
من أنه (يستحب أن يضطره إلى أضيق الطرق) على معنى منعهم عن
جادة الطريق إذا اجتمعوا هم والمسلمون فيه واضطرارهم إلى طرفه الضيق
وفي الدروس استحباب التضييق والمنع من الجادة، نعم كما في المسالك
ليكن التضييق عليهم بحيث لا يقفون به في وهدة ولا يصدمون جدارا
ولو خلت الطريق من مرور المسلمين فلا بأس بسلوكهم حيث شاؤوا،
وفي الدروس ويكره مصافحته أيضا، فإن فعل فمن وراء الثياب، ولا
بأس به، والله العالم.
الأمر (الرابع في حكم الأبنية والنظر في الكنائس والمساكن
والمساجد، لا يجوز استئناف) أهل الكتاب المعابد ك‍ (البيع والكنائس)
والصوامع وبيوت النيران وغيرها (في بلاد الاسلام) مع اشتراط ذلك
في ذمتهم، ضرورة بطلان عباداتهم، فهي بيوت ضلال حينئذ، بل لعل

(1) الوسائل - الباب 53 من أبواب أحكام العشرة الحديث 1.
(2) الوسائل - الباب 49 من أبواب أحكام العشرة الحديث 8.
280

في الإذن لهم به إعانة على الإثم
(ولو استجدت وجب إزالتها) على
الوالي (سواء كان البلد مما استجده المسلمون) وأحدثوه كالبصرة
وبغداد وكوفة وسر من رأى وجملة من بلاد الجزائر ونحوها مما مصرها
المسلمون (أو فتح عنوة أو صلحا على أن تكون الأرض للمسلمين)
إذ هي على كل حال ملك للمسلمين، بل في المنتهى نفي الخلاف عن ذلك
في الأول، بل عن التذكرة والتحرير وغيرهما الاجماع عليه، بل في
محكي السرائر لا يجوز للإمام أن يقرهم على إنشاء البيعة أو الكنيسة
أو صومعة الراهب أو مجتمع صلاتهم، وأنهم إن صالحهم على ذلك بطل
الصلح بلا خلاف، وهو الحجة بعد ما في الدعائم (1) عن علي عليه
السلام " أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن إحداث الكنائس في
دار الاسلام " وعن ابن عباس (2) الذي من عادته الرواية عن النبي
صلى الله عليه وآله " أيما مصر مصره العرب فليس لأحد من أهل الذمة
أن يبني فيه بيعة، وما كان قبل ذلك فحق على المسلمين أن يقر لهم "
وفي آخر " أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة
ولا يضربوا فيه ناقوسا، ولا يشربوا فيه خمرا، ولا يتخذوا فيه خنزيرا "
إلى غير ذلك مما يدل على الحكم المزبور ولو بضميمة الاجماع المذكور،
نعم في المنتهى والمسالك ومحكي التذكرة من غير نقل خلاف أن ما وجد
من الكنائس والبيع في هذه البلاد مثل كنيسة الروم في بغداد فإنها
كانت في قرى لأهل الذمة أقرت على حالها، وكذا الكلام في الثاني
الذي قد صارت للمسلمين بالفتح أيضا، بل في المسالك نفي الخلاف

(1) دعائم الاسلام ج 1 ص 381 المطبوعة عام 1383.
(2) كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 97 الرقم 269
(3) الخراج لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم ص 149.
281

عن عدم جواز الاحداث فيه (و) هو الحجة إن أريد به الاجماع بعد
الخبر المنجبر بما عرفت، ضرورة صدق بلاد الاسلام على مثله.
نعم (لا بأس بما كان قبل الفتح) ولم يهدمه المسلمون، فإن
المشهور كما في المسالك جواز إقرارهم عليه، كالمحكي عن أحد قولي
الشافعي، لما سمعته من المروي عن ابن عباس، بل في المنتهى الاستدلال
عليه بآخر (1)، عنه أيضا " أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على
العرب فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم " وبأن الصحابة فتحوا كثيرا من
البلاد عنوة ولم يهدموا شيئا من الكنائس، وكتب عمر بن عبد العزيز
إلى عماله أن لا تهدموا بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار، وبحصول الاجماع
فإنها موجودة في بلاد الاسلام من غير نكير، لكن عن الشيخ عدم جواز
إقرارهم عليه، ولعله للإعانة على الإثم، ولا حجة في المروي عن ابن
عباس بل لا تصلح الشهرة جابرة له، على أن الثاني منه لا دلالة
فيه، ضرورة قوله فيه " فإن للعجم ما في عهدهم " وهو غير الفرض،
وكذا لا حجة في فعل عمر بن عبد العزيز بل وفعل الصحابة إذا لم يكن
فيهم من يتأسى بفعله ومعصوم من الخطأ مبسوط اليد، والاجماع المزبور
أقصاه الاقرار على ما نجده الآن في أيديهم من غير نكير، ولم نعلم ابتداءه
ولعله كان في ذمتهم وعهدهم، أو كان من فعل سلطان الجور الذي قد
أمرنا بامضائه على حاله حتى يظهر الحق، أو غير ذلك، وعلى كل حال
فهو غير الفرض الذي هو الجواز وعدمه واقعا في ابتداء الأمر بعد ملك
المسلمين له عنوة، ولعله لذا كان ظاهر الفاضل في محكي التذكرة التردد
حيث حكى القولين ساكتا عنهما.
(و) كذا لا بأس أيضا (بما استجدوه) من المعابد (في

(1) الخراج لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم ص 149.
282

أرض فتحت صلحا على أن تكون الأرض لهم) ويؤدون الخراج، فإنه
حينئذ يجوز إقرارهم على بيعهم وكنائسهم وبيوت نيرانهم ومجتمع عباداتهم
وإحداث ما شاؤوا من ذلك منها، وإظهار الخمور والخنازير وضرب
الناقوس وغير ذلك مما يجوز للمالك فعله في ملكه مع عدم الشرط في
متن الصلح عدم ذلك كله أو بعضه كما صرح به غير واحد، بل لا
أجد فيه خلافا بل ولا إشكالا، وأما أرض الصلح التي تكون للمسلمين
وهي القسم الثالث في المتن فكذلك لا يجوز لهم إحداث شئ فيها بعد
أن صارت الأرض للمسلمين أيضا، لعموم النهي وغيره مما عرفت، كما
أن في إقرارهم عليها ما سمعت أيضا، نعم إن شرط في الصلح أن
تكون السكنى لهم والأحداث للبيع والكنائس وغيرها والاقرار على
ما كان فيها كانوا على شرطهم الذي لا إشكال في جوازه للإمام عليه السلام
إذا رأى المصلحة، كما يجوز له جعل الأرض كلها لهم فضلا
عن بعضها، وما تقدم عن السرائر من بطلان الصلح نافيا للخلاف فيه
واضح المنع إن أراد ما يشمل المقام، على أن المحكي عنه هنا
التصريح بالموافقة.
وعلى كل حال فقد قيل ينبغي أن يعين مواضع البيع والكنائس
ولا بأس به، وإن كان الظاهر عدم وجوبه، أما إذا اشترط عليهم عدم
الاحداث وتخريب الموجود منها فهو على شرطه أيضا.
ومن ذلك كله ظهر لك أن كل موضع لا يجوز لهم إحداث المعابد
فيه ينقض لو أحدثوها فيه، وكل موضع جاز إقرارهم على ما فيه من
المعابد لا خلاف في جواز رمها لو انشعب شئ منها، بل في المنتهى الاتفاق
على جوازه، أما إذا انهدمت فهل يجوز بناؤها وكذا لو هدموها؟ فالمحكي
عن الشيخ التردد في ذلك، من عدم صدق كونه إحداثا بل هو استدامة
283

كما عن الشافعي وأبي حنيفة، ومن النبوي (1) " لا تبنى الكنيسة في
الاسلام " وكونه كالاحداث كما عن بعض العامة، ولعله الأولى
ضرورة عدم اقتضاء الاقرار على ما كان منها جواز تجديدها، فيبقى على
حرمة التصرف في أرض المسلمين، نعم لو كانت الأرض لهم اتجه
حينئذ الجواز.
وإلى ذلك كله أشار المصنف بقوله: (وإذا انهدمت كنيسة)
مثلا (مما لهم استدامتها جاز) لهم (إعادتها، وقيل لا) يجوز وإن
كنا لم نعرف القائل بالأخير منا، بل والأول قبله، وإن كان قد عرفت
أن الأخير منهما لا يخلو من قوة، والله العالم.
(وأما المساكن فكلما يستجده الذمي لا يجوز أن يعلو به على
المسلمين من مجاوريه) لا غيرهم كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه
خلافا في الظاهر كما اعترف به في الرياض بل في المسالك " المنع من
العلو موضع وفاق بين المسلمين " وفي المنتهى " دور أهل الذمة على
أقسام ثلاثة: أحدها دار محدثة، والثاني دار مبتاعة، والثالث دار
مجددة، فالمحدثة هي أن يشتري عرصة يستأنف فيها بستانا فليس له أن
يعلو على بناء المسلمين إجماعا - إلى أن قال -: وأما المجددة فكالمحدثة
سواء " ونحوه عن التذكرة، وهو الحجة بعد إمكان استفادته من قوله
عليه السلام (2) " الاسلام يعلو ولا يعلى عليه " ومن قوله تعالى (3)
" ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " (و) غير ذلك مما دل على رجحان

(1) كتاب نصب الراية ج 3 ص 454.
(2) كنز العمال ج 1 ص 17 - الرقم 246 والجامع الصغير
ج 1 ص 123.
(3) سورة المنافقون - الآية 8.
284

رفعة المؤمن وضعة الكافر في جميع الأحوال.
بل لعل المستفاد من ذلك خلاف ما ذكره المصنف من أنه (يجوز
مساواته على الأشبه) وإن حكي عن المبسوط نسبته إلى القيل، بل
ربما حكي عن بعض منا، بل هو مقتضى الأصل، إلا أن الشيخ والحلي
والفاضل والشهيدين وغيرهم على المنع، بل هو المشهور لما عرفت (و) به
يخص الأصل.
نعم (يقر على ما ابتاعه من مسلم على علوه كيف كان) كما
صرح به في المنتهى وغيره معللين له بأنه ملكه كذلك، فلا يندرج في
المنع عن العلو على المسلم، ولذا لا يجوز هدمها، وإن كان لا يخلو
من نظر ضرورة ظهور الخبر المزبور المؤيد بما سمعت في الأعم من ذلك
(و) من هنا (لو انهدم) من أصله أو خصوص ما علا به
(لم يجز أن يعلو به على المسلم) إجماعا كما في المنتهى (و)
محكي التذكرة بل (يقتصر على المساواة) على القول بجوازها، وإلا
(فما دون) أما لو انشعب شئ منه ولم ينهدم جاز له رمه وإصلاحه
لأنه استدامة واستبقاء لا تجديد، وكذا الكلام فيما لو اشترى المسلم
دارا في جانب دار الذمي من ذمي مثلا أقصر منها أو بناها كذلك، فإن
المتجه فيه على الأول عدم المنع، لعدم كونه علوا من الذمي على المسلم
وعلى ما ذكرناه يمكن القول بالمنع، لأنه علو في نفسه وإن لم يكن
بعمل الذمي، بل الظاهر أن ذلك من أحكام الدين التي لا ينفع فيها
رضى الجار بعلوه عليه، بل منه ينقدح المنع عن أن يستجد دارا على
نشر من الأرض تكون به أرفع من دار المسلم التي هي في أرض منخفضة
وإن لم يعل ببنائه على بناء المسلم خلافا للشهيد في الدروس فجوزه،
واحتمله في المسالك، نعم لا يجوز الافراط للذمي في الارتفاع في
285

صورة العكس ليقارب دار المسلم كما صرح به في الدروس ونفى عنه
البعد في المسالك، قال في الأخير في أصل المسألة: وهل يعتبر في العلو
وعدمه نفس البناء أو مجرد الهواء؟ نظر، وتظهر الفائدة فيما لو كان
بيت الذمي على أرض مرتفعة ودار المسلم في أرض منخفضة، فعلى الأول
يجوز للذمي أن يرتفع عنه بحيث لا يبلغ طول حائط المسلم، وعلى
الثاني يعتبر ارتفاع الأرض عن المسلم من جملة البناء، وقطع في الدروس
بالأول، وجوز مع انعكاس الحكم أن يرتفع الذمي إلى أن يقارب دار
المسلم وإن أدي إلى الافراط في الارتفاع، وليس ببعيد، ولا يخفى
عليك بعد الإحاطة بما ذكرنا محل النظر، بل منه ينقدح النظر فيما
ذكره في الدروس وغيرها من عدم منع الذمي عن الارتفاع لو فرض دار
المسلم نحو السرداب، لعدم صدق البناء، وفيه أن المدار على علو الذمي
على المسلم، وليس في شئ من النص البناء كي يكون المدار عليه،
ثم إن ظاهر المتن أو صريحه كغيره اعتبار الجار في الحكم المزبور
فلا يمنع حينئذ من العلو على غيره من المسلمين من أهل البلد، إذ
المدار على أهل محلته بل مجاوريه، ولكن قد يقال بالمنع إذا فرض
استئناف بناء للذمي مرتفع على أهل البلد أجمع، بل لعله أولى بالمنع
المستفاد من نحو قوله عليه السلام " الاسلام يعلو ولا يعلى عليه " هذا
وظاهر المصنف وغيره بل ومعقد الاجماع أن ذلك من أحكام الذمي
والمسلم لا أنه من أحكام عقد الذمة كي يكون المدار على اشتراطه في
عقدها وعدمه كما عساه يظهر من بعض، فتأمل جيدا
(وأما المساجد فلا يجوز أن يدخلوا المسجد الحرام إجماعا)
من المسلمين محصلا ومحكيا مستفيضا، مضافا إلى قوله تعالى (1) " إنما
.

(1) سورة التوبة - الآية 28
286

المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام " من غير فرق بين اللبث
وعدمه، ولا بين تعدي النجاسة وعدمها (ولا غيره من المساجد عندنا)
كما عن التحرير وكنز العرفان مرادا منه معشر الإمامية كما صرح
باجماعهم عليه في المسالك، بل في المنتهى نسبته إلى مذهب أهل البيت
عليه السلام، وهو الحجة، مضافا إلى ما يستفاد من التفريع في الآية
المفيد للاشتراك بينه وبين غيره من المساجد أيضا، خصوصا مسجد النبي
صلى الله عليه وآله وغيره من المساجد، ضرورة اعتبار التعظيم فيها
أجمع، بل لو قلنا بجواز كون النجاسة غير المتعدية فيها لم يجز هنا
إما للإهانة في دخولهم أو لغير ذلك، بل ربما كانوا أسوء من الكلب
والخنزير والعذرة اليابسة ونحوها لو قلنا بجواز كونها فيها دونهم (و) إن
كان الأقوى المنع من كل ما اقتضى الإهانة أو التلويث كما حققناه
في محله، بل (لو أذن) المسلمون (لهم) في ذلك (لم يصح
الإذن) لعموم أدلة المنع، خلافا للجمهور الذين رووا في طرقهم
ما يقتضي المفروغية من عدم دخولهم، قالوا: " دخل أبو موسى
الأشعري على عمر ومعه كتاب قد كتب فيه حساب عمله، فقال له
عمر ادع الذي كتبه ليقرأه فقال: إنه لا يدخل المسجد، قال: ولم
لا يدخل المسجد؟ قال: لأنه نصراني، فسكت " وما رووه عن النبي صلى
الله عليه وآله من إدخال بعض الكفار المسجد ولبثهم فيه غير ثابت أو
أنه كان قبل نزول الآية.
وعلى كل حال فلا يجوز لهم الدخول (لا استيطانا) ومكثا
(ولا اجتيازا ولا امتيارا) للطعام بمعنى جلبه أو مطلق البيع والشراء
287

ضرورة اقتضاء النهي عن قرب المسجد الحرام الذي قد عرفت اشتراكه
مع غيره في هذا الحكم ذلك، وحينئذ فما دل (1) على جواز اجتياز
الجنب في غير المسجدين خاص بالمسلمين دون غيرهم، بل عن الشيخ عدم
جواز دخولهم الحرم لا اجتيازا ولا استيطانا، واختاره الفاضل وغيره
بل لا أجد خلافا فيه بينهم معللا له بأنه المراد من المسجد الحرام في
الآية بقرينة قوله (2) " وإن خفتم عيلة " إلى آخره وقوله تعالى (3)
" سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام " مع أنه أسري
به من بيت أم هاني، بل لعل قول الأصحاب بعدم جواز الامتيار مشعر
بإرادة ذلك، ضرورة عدم الامتيار في نفس المسجد، مضافا إلى ما دل (4)
على تعظيم الحرم على وجه ينبغي تنزيهه عنهم، وإلى ما في الدعائم (5)
عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: " لا يدخل أهل الذمة
الحرم ولا دار الهجرة، ويخرجون منها " وحينئذ فإن قدم ميرة لأهل
الحرم منع من الدخول إليه، فإن أراد أهل الحرم الشراء منه خرجوا
إليه إلى الحل، ولو جاء رسولا بعث إليه الإمام عليه السلام من يسمع
رسالته، ولو أراد المشافهة خرج إليه الإمام عليه السلام من الحرم،
ولو دخله عالما بالحرمة عزر، وجاهلا أعذر، فإن عاد عزر، فإن مرض

(1) الوسائل - الباب 15 من أبواب الجنابة
(2) سورة التوبة - الآية 28.
(3) سورة الإسراء - الآية 1.
(4) الوسائل - الباب 13 من أبواب مقدمات الطواف من
كتاب الحج.
(5) المستدرك - الباب 43 من أبواب جهاد العدو الحديث 1.
288

في الحرم نقله منه، ولو مات فيه لم يدفن فيه، بل عن الشيخ لو دفن
نبش، ويحتمل إلحاق حرم الأئمة عليهم السلام بذلك فضلا عن الحضرات
المشرفة بل والصحن، ولكن السيرة على دخولهم بلدانهم، ولو صالحهم
الإمام عليه السلام على دخول الحرم بعوض فعن الشيخ الجواز، قال:
" وإن كان خليفة الإمام ووافقهم على عوض فاسد بطل المسمى وثبت
أجرة المئل " ولكن لا يخفى عليك ما في ذلك بناءا على أن المنع للتعظيم
ولعله لذا أبطل الشافعي الصلح على ذلك، إلا أنه قال: " وإن دخلوا
الموضع الذي صالحهم عليه لم يرد العوض، لحصول المعوض لهم ولا أجرة
مثل " وهو كما ترى.
(ولا يجوز لهم استيطان الحجاز على قول مشهور) بل في المنتهى
ومحكي المبسوط والتذكرة الاجماع عليه، وهو الحجة بعد السيرة القطعية
التي يمكن استفادة الاجماع أيضا منها، مضافا إلى ما سمعته من خبر
الدعائم وإلى خبر ابن الجراح (1) المروي من طرق العامة: " أن آخر ما
تكلم به النبي صلى الله عليه وآله أن قال: أخرجوا اليهود من الحجاز
وأهل نجران من جزيرة العرب " متمما بعدم القول بالفصل " بل وإلى
ما رواه ابن عباس عنه (2) صلى الله عليه وآله أيضا " أنه أوصى
بثلاثة أشياء، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا
الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالث، أو قال: أنسيته "
وأنه قال: " ولا يجتمع ذميان في جزيرة العرب " وقال:
" لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب " بناءا على أن المراد

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 208.
(2) سن البيهقي ج 9 ص 207.
(3) سن البيهقي ج 9 ص 207.
289

من جزيرة العرب في هذه الأخبار الحجاز خاصة كما في المنتهى وعن
المبسوط والتذكرة، بل في الأول " ونعني بالحجاز مكة والمدينة واليمامة
وخيبر وينبع وفدك ومخاليفها، ويسمى حجازا لأنه حجز بين نجد وتهامة
- إلى أن قال -: وإنما قلنا إن المراد بجزيرة العرب الحجاز خاصة
لأنه لولا ذلك لوجب إخراج أهل الذمة من اليمن، وليس بواجب،
ولم يخرجهم عمر منها، وهي من جزيرة العرب، وإنما أوصى النبي
صلى الله عليه وآله باخراج أهل نجران من الجزيرة لأنه صالحهم على
ترك الربا فنقضوا العهد ".
(و) كيف كان فقد (قيل) وإن كنت لم أعرف القائل قبل
المصنف: (المراد به) أي الحجاز (مكة والمدينة) نعم هو محكي
عن الفاضل في جملة من كتبه، ولعل الأولى الرجوع إلى ما يسمى
الآن حجازا كما في المسالك، قال: فيدخل فيه البلدان مع الطائف
وما بينهما، وإنما سمي حجازا لحجزه بين نجد وتهامة بكسر التاء بلد
وراء مكة، وقد يطلق على مكة تهامة، والله العالم.
(وفي الاجتياز به والامتيار منه تردد) من إطلاق الأمر بالاخراج
ومن أن المنساق منه منع السكنى، ولعله الأقوى وفاقا لجماعة، بل في
المسالك هو الأشهر، اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن من غير
فرق بين إذن الإمام عليه السلام وعدمه، كما عن الشيخ التصريح به
خلافا للمحكي عن الفاضل فشرط الإذن ومرجعه إلى المنع (و) لم
أجد دليلا له، كما أني لم أجد دليلا لما ذكره المصنف من أن (من
أجازه حده بثلاثة أيام) وإن كان ظاهر المصنف اتفاق القائلين بذلك
إلا أني لم أتحققه، فإن كان على وجه يكون اجماعا فذاك، وإلا كان
المتجه عدم التحديد، على أن ظاهر المنتهى إقامة الثلاثة في خصوص
290

المكان لا مجموع الحجاز، وسواحل بحر الحجاز وجزائره التي هي من
الحجاز بحكم بلدانه، أما ركوب بحره فلا يمنعون من الإقامة فيه
فضلا عن المرور به لو قلنا بالمنع منه في البر.
(و) كذا (لا) يسكنون أيضا في (جزيرة العرب) بلا
خلاف أجده فيه (و) لكن (قيل المراد بها مكة والمدينة واليمن
ومخالفيها) وقد سمعت ما في المنتهى من أن المراد بها في النصوص
المزبورة الحجاز ونحوه عن المبسوط والتذكرة، وحينئذ يتحد المراد بهما
(وقيل هي من عدن إلى ريف عبادان طولا، ومن تهامة وما
والاها إلى أطراف الشام عرضا) وفي المسالك هو الأشهر بين أهل اللغة
وعليه العمل، ولعله يرجع إليه ما عن الأصمعي وأبي عبيدة من أنها
عبارة عن ما بين عدن إلى ريف العراق طولا، ومن جدة والسواحل
إلى أطراف الشام عرضا، وربما قيل إنها من ريف أبي موسى إلى
اليمن طولا، ومن رمل تبريز إلى منقطع السماوة عرضا، ولكن قد
يقال إن مرادهم مجرد تفسيرها، وإلا فالسيرة على عدم منعهم من جميع
ذلك، وعلى كل حال فقد قيل إنما سميت جزيرة العرب لأن بحر الهند
وهو بحر الحبشة وبحر فارس والفرات أحاطت بها، وإنما نسبت إلى
العرب لأنها منزلهم ومسكنهم ومعدنهم، وعدن بفتح الدال بلد باليمن
والريف الأرض التي فيها زرع وخصب، والجمع أرياف، وعبادان بفتح
العين وتشديد الباء الموحدة جزيرة يحيط بها شعبتان من دجلة والفرات
والمخاليف الكور، واحدها مخلاف، وفي الصحاح والمخلاف أيضا لأهل
اليمن واحد المخاليف، وهي كورها، ولكل مخلاف منها اسم يعرف
به، وفيه أيضا الكورة المدينة والصقع، والجمع كور، والله العالم.
الأمر (الخامس في المهادنة) التي يراد منها كما في المنتهى
291

المواعدة والمعاهدة (وهي المعاقدة على ترك الحرب مدة معينة) بعوض
وغير عوض كما في المنتهى ومحكي التذكرة والتحرير، وما في القواعد
ومحكي المبسوط من زيادة بغير عوض في التعريف يراد منه عدم اعتبار
العوض فيها، لا اعتبار عدم العوض، بل في المنتهى يجوز مهادنتهم على
غير مال إجماعا، لأن النبي صلى الله عليه وآله هادنهم يوم الحديبية على
غير مال، ويجوز على مال يأخذه منهم بلا خلاف، وهو كذلك للأولوية
ولأنه شرط سائغ غير مناف لها، بل فيه الجواز أيضا على مال يدفعه
إليهم مع الضرورة المقتضية ذلك، ولعل منه ما رواه الإسكافي من خبر
الزهري الذي رواه العامة أيضا، قال: " أرسل رسول الله صلى
الله عليه وآله إلى عيينة بن حصين وهو مع أبي سفيان يوم الأحزاب
أرأيت إن جعلت لك ثلث تمر الأنصار أن ترجع بمن معك من غطفان
وتخذل جيش الأحزاب فأرسل إليه عيينة إن جعلت لي الشطر فعلت،
فقال سعد بن معاذ وسعد بن عبادة: يا رسول الله والله لقد كانوا
يحرسونه في الجاهلية حول المدينة ما يطيق أن يدخلها، فالآن حيث
جاء الله بالاسلام نعطيهم ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله فنعم
إذا " ولولا جوازه لم يبذله، كالمرسل من طرقهم أيضا " أن الحرث
ابن عمرو رئيس غطفان أرسل إلى النبي صلى الله عليه وآله أنك إن
جعلت لي شطر ثمار المدينة وإلا ملأتها عليك خيلا وركابا، فقال النبي
صلى الله عليه وآله حتى أشاور السعود يعني سعد بن عبادة وسعد بن
معاذ وسعد بن زرارة، فشاورهم النبي صلى الله عليه وآله فقالوا يا نبي
الله إن كان هذا أمرا من السماء فتسليما لأمر الله، وإن كان رأيك وهواك
292

اتبعنا رأيك وهواك، وإن لم يكن بأمر من السماء ولا برأيك وهواك
فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية برة ولا تمرة إلا شراء أو قرى فكيف
وقد أعزنا الله تعالى بالاسلام، فقال النبي صلى الله عليه وآله لرسوله:
أو تسمع " بل لا يبعد الجواز مع المصلحة للاسلام والمسلمين أيضا
وأولى بالجواز ما نص عليه في المنتهى من وضع شئ من حقوق المسلمين
في مال المهادنين كما شرط رسول الله صلى الله عليه وآله أن لا يعشروا
وأنه لا يتجر عليهم إلا من أحبوا، ولا يؤمن عليهم إلا بعضهم، وحظر
صيد واديهم وشجره وسن فيمن فعل ذلك جلده ونزع ثيابه.
(و) كيف كان ف‍ (هي) في الجملة (جائزة) ومشروعة
(إذا تضمنت مصلحة للمسلمين، إما لقتلهم عن المقاومة، أو لما يحصل
به الاستظهار) وهو زيادة القوة (أو لرجاء الدخول في الاسلام مع
التربص) أو غير ذلك بلا خلاف أجده فيه، بل الاجماع بقسميه
عليه، مضافا إلى قوله تعالى (1) " فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم "
" وإن جنحوا للسلم (2) " وإلى المقطوع به من وقوعها من النبي صلى
الله عليه وآله
في الجملة كما لا يخفى على من أحاط خبرا بخصوص ما
وقع منه مع قريش وأهل مكة وغيرهم مما روي في طرق العامة والخاصة
وما عن ابن عباس - من أن آية السلم منسوخة بقوله تعالى (3) " قاتلوا
الذين لا يؤمنون بالله " إلى آخرها، والحسن وقتادة ومجاهد من أنها
منسوخة بقوله تعالى (4) " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " - غير
ثابت، بل في الكنز أن آية " فاقتلوا المشركين " نزلت في سنة تسع

(1) سورة التوبة - الآية 4 - 29.
(2) سورة الأنفال - الآية 63.
(3) سورة التوبة - الآية 4 - 29.
(4) سورة التوبة - الآية 5.
293

وبعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله إلى مكة، ثم صالح أهل نجران
على ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب، فلا إشكال حينئذ في مشروعيتها
بل الظاهر عدم الفرق فيها بين أهل الكتاب وغيرهم، لاطلاق الأدلة،
بل وخصوص ما ورد في مهادنة قريش وغيرهم، ويجب الوفاء لهم بالمدة
ما داموا هم كذلك بلا خلاف ولا إشكال بعد قوله تعالى (1) " وأتموا
إليهم عهدهم في مدتهم " وقوله تعالى (2) " فما استقاموا فاستقيموا لهم "
نعم في القواعد وغيرها ولو استشعر الإمام خيانة جاز له أن
ينبذ العهد إليهم وينذرهم، ولا يجوز نبذ العهد بمجرد التهمة، وهو
كذلك ضرورة وجوب الوفاء لهم، بخلاف ما إذا خاف منهم الخيانة
لأمور استشعرها منهم، فإنه ينبذ العهد حينئذ لقوله تعالى (3) " وإما
تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين "
أي أعلمهم نقض عهدهم حتى تكونوا سواء في ذلك، وليس كذلك عقد
الذمة الذي هو حق لهم، ولهذا يجب على الإمام إجابتهم إليه وإن
كان له قوة عليهم، بخلاف عقد الهدنة الذي هو تابع للمصلحة، على
أن عقد الذمة بعوض وهو الجزية، بخلاف عقد الهدنة الذي لم يلزمه
العوض، على أنه منقطع بخلاف عقد الذمة فإنه للأبد، ويجب الرد
إلى مأمنهم إذا فرض صيرورته بالهدنة بين المسلمين، أما إذا لم يكونوا
كذلك، بل كانوا باقين على منعتهم وقوتهم غزاهم بعد الاعلام، ولو
نقض بعضهم العقد دون البعض جرى على الناقض حكم الحربي دون
غيره، وإذا أراد الإمام غزوهم ميزهم عنهم، وكذا الحكم لو خاف
الخيانة من بعض دون آخر نبذ إليهم عهده، ولو تاب الناقض فعن

(1) سورة التوبة - الآية 4 - 7
(2) سورة التوبة - الآية 4 - 7
(3) سورة الأنفال - الآية 60.
294

الإسكافي قبوله، ولا بأس به.
وكيف كان فظاهر المتن أنها جائزة في جميع أحوالها على معنى عدم
وجوبها بحال كما هو صريح المنتهى ومحكي التحرير والتذكرة جمعا بين
ما دل على الأمر بها المؤيد بالنهي عن الالقاء باليد في التهلكة (1)
وبين الأمر بالقتال حتى يلقى الله شهيدا بحمل الأول على الرخصة
في ذلك، ومنها ما وقع من النبي صلى الله عليه وآله والحسن عليه السلام
، كما أن من الثاني ما وقع من الحسين عليه السلام
ومن النفر الذين وجههم النبي صلى الله عليه وآله إلى هذيل وكانوا
عشرة فقاتلوا حتى قتلوا ولم يفلت منهم إلا حبيب، فإنه أسر وقتل بمكة
إذ القتل في سبيل الله ليكون من الشهداء الذين هم أحياء عند ربهم
يرزقون ليس من الالقاء في التهلكة، كما سمعته في حرمة الفرار من
الزحف، لكن في القواعد يجب على الإمام الهدنة مع حاجة المسلمين
إليها، ويمكن إرادته من المتن يحمل الجواز فيه على المعنى الأعم،
وهو ما عدا الحرام، فيشمل الواجب حينئذ في الفرض المزبور ترجيحا
لما دل على وجوب حفظ النفس والاسلام من عقل ونقل مقتصرا في
الخروج منهما على المتيقن كالفرار من الزحف ونحوه، وما وقع من
الحسين عليه السلام مع أنه من الأسرار الربانية والعلم المخزون يمكن
أن يكون لانحصار الطريق في ذلك، علما منه عليه السلام أنهم عازمون
على قتله على كل حال كما هو الظاهر من أفعالهم وأحوالهم وكفرهم
وعنادهم، ولعل النفر العشرة كذلك أيضا، مضافا إلى ما ترتب عليه

(1) سورة البقرة - الآية 191.
295

من حفظ دين جده صلى الله عليه وآله وشريعته وبيان كفرهم لدى
المخالف والمؤالف، على أنه له تكليف خاص قد قدم عليه وبادر إلى
إجابته، ومعصوم من الخطأ لا يعترض على فعله ولا قوله، فلا يقاس
عليه من كان تكليفه ظاهر الأدلة والأخذ بعمومها وإطلاقها مرجحا بينها
بالمرجحات الظنية التي لا ريب في كونها هنا على القول بالوجوب، على
أن النهي عن الالقاء لا يفيد الإباحة، بل يفيد التحريم المقتصر في
الخروج منه على المتيقن، وهو حيث لا تكون مصلحة في الهدنة، وحب
لقاء الله تعالى وإن كان مستحسنا ولكن حيث يكون مشروعا، والكلام
فيه في الفرض الذي هو حال الضرورة، والمصلحة التي قد ترجح على
القتل ولو شهيدا الذي قد يؤدي إلى ذهاب بيضة الاسلام وكفر الذرية
ونحو ذلك، ولعله لذا ربما فصل بين الضرورة والمصلحة، فأوجبها في
الأول، وجوزها في الثاني، ولا بأس به، فإن دعوى الوجوب على كل
حال كدعوى الجواز كذلك في غاية البعد، فالتحقيق انقسامها إلى
الأحكام الخمسة.
(و) حينئذ ف‍ (متى ارتفع ذلك) أي مقتضى الجواز (و)
لو على كراهة كما إذا (كان في المسلمين قوة على الخصم) واستعداد
وفي الكافرين ضعف ووهن على وجه الاستيلاء عليهم بلا ضرر على
المسلمين (لم تجز) المهادنة قطعا، لعموم الأمر بقتلهم مع الامكان
في الكتاب والسنة على وجه لا يعارضه إطلاق قوله تعالى (1) " وإن
جنحوا للسلم فاجنح لها " المحمول على غير الفرض ولو بملاحظة ما
كان يوصي به النبي صلى الله عليه وآله أمراء السرايا من الأمر بالمنابذة

(1) سورة الأنفال - الآية 63.
296

معهم إلا مع الاسلام أو الجزية من أهلها وغيره في الكتاب والسنة،
بل وقوله تعالى (1) " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم " وقوله تعالى (2) " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم
الأعلون، والله معكم " (و) غيرها.
نعم لا خلاف في أنه (تجوز الهدنة) إلى (أربعة أشهر)
فما دون مع القوة، بل في المنتهى والمسالك ومحكي التذكرة وغيرها
الاجماع عليه، مضافا إلى الاستدلال عليه بقوله تعالى (3) " براءة من
الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة
أشهر " وكان ذلك عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وآله من تبوك
في أقوى ما كان، وصالحهم صفوان بعد الفتح أربعة أشهر، وإن كان
قد يناقش بأن ذلك إمهال لهم على وجه التهديد والتوعيد لخصوص من
عاهدوا من المشركين، لا أنه عقد هدنة أربعة أشهر، فالعمدة حينئذ في
إثبات ذلك على جهة العموم الاجماع إن تم، وإلا فالحث على قتلهم
والقعود لهم في كل مرصد يقتضي عدمه.
(و) من هنا (لا تجوز أكثر من سنة على قول مشهور) بل لا
أجد فيه خلافا كما اعترف به في المسالك، بل في المنتهى ومحكي التذكرة
الاجماع عليه، بل في محكي المبسوط ولا تجوز إلى سنة وزيادة عليها
بلا خلاف، ولعله كذلك، لأن الآية تدل على وجوب الجهاد في السنة
وهو مناف لجوازها سنة، ولذا قال في الدروس وتنعقد المهادنة بما
دون السنة، فيراعي الأصح، وعلى كل حال فنسبة المصنف الأكثر من
السنة إلى الشهرة في غير محله، وفي المسالك كان الباعث له على ذلك

(1) سورة التوبة - الآية 5 - 1
(2) سورة التوبة - الآية 5 - 1
(3) سورة محمد صلى الله عليه وآله - الآية 37.
297

استضعاف دليله مع عدم تحقق الاجماع عنده وإن لم يعلم بالمخالف،
فإن ذلك لا يكون إجماعا، ووجه ضعف الدلالة أن الشيخ والجماعة
احتجوا على ذلك بقوله تعالى " فإذا انسلخ الأشهر الحرم " إلى آخره
وهو يتحقق في كل سنة مرة، وفيه أن الأمر لا يقتضي التكرار، ولكن
ذلك كله كما ترى، خصوصا بعد إمكان استفادة التكرار من غير ذلك
ولو على وجه يكون قرينة على المراد به، فتأمل.
(وهل يجوز أكثر من أربعة أشهر) ودون السنة (قيل) والقائل
الشيخ فيما حكي عنه: (لا) يجوز (لقوله تعالى) فإذا انسلخ
الأشهر الحرم (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وغيره من الآيات
المشتملة على التأكيد في المبادرة إلى قتلهم والتوصل إليه بأي طريق
يكون (وقيل) ولكن لا أعرف القائل به منا، وإنما هو محكي عن
أحد قولي الشافعي: (نعم) يجوز (لقوله تعالى " وإن جنحوا للسلم
فاجنح لها) وتوكل على الله " الذي قد عرفت أنه في غير الفرض،
كما أن الأمر في الآية الأولى ليس للفور
(و) لذا كان (الوجه)
كما في المنتهى والمسالك وحاشية الكركي ومحكي التحرير والقواعد
(مراعاة الأصلح) كما هو مقتضى إطلاق الولاية الذي لا يقيده
الرخصة لهم في سياحة الأربعة أشهر المحتملة موافقة المصلحة في ذلك
الوقت، على أنك قد عرفت كونها تهديدا ومهلة بعد نقض العهد،
وكذا في مراعاة الأصلح المهادنة للضعف في المسلمين من غير تقييد بمدة
معينة كما في المنتهى ومحكي التذكرة وغيرهما، وإن حكى عن الإسكافي
والشيخ التقدير بالعشر سنين كالمحكي عن الشافعي محتجا عليه بعموم
قوله تعالى " فاقتلوا المشركين " إلى آخره المقتصر في الخروج منه على
العشر سنين، لمصالحة النبي صلى الله عليه وآله قريشا قدرها، ولكن فيه أن
298

الأدلة الدالة على مشروعية المهادنة مطلقة، فيرجع فيه إلى نظر الإمام
عليه السلام، ووقوع العشر لا يقتضي التقييد بعد احتمال كونه الأصلح
في ذلك الوقت، والله العالم.
(و) كيف كان ففي المنتهى ومحكي المبسوط والتذكرة والتحرير
وغيرها أنه (لا تصلح) المهادنة (إلى مدة مجهولة ولا مطلقا إلا أن
يشترط الإمام عليه السلام لنفسه الخيار في النقض متى شاء) بل لا
أجد فيه خلافا بينهم في المستثنى والمستثنى منه الذي هو مقتضى الأصل
بعد ظهور المفسدة في ذلك، وقصور الاطلاقات عن تناوله، واقتضاء
الاطلاق التأييد الممنوع في المهادنة، مضافا إلى معلومية اعتبار المعلومية
في كل أجل اشترط في عقد وإن كان مما يقع على المجهول كالصلح وغيره
بل يمكن دعوى الاجماع على ذلك، ومن هنا يتجه جعل الاستثناء
للأخير خاصة، خلافا للكركي وثاني الشهيدين فمالا إلى جعله لهما
معللين له بانتفاء الجهالة بعد حصول التراضي منهما، فإن ذلك واقع
بمشية الجميع، إلا أنه كما ترى، بل الظاهر جواز اشتراط ذلك لنفسه
في المدة المعلومة له مطلقا كما عن الإسكافي والشيخ التصريح به للعمومات
وخصوص النبوي (1) المروي من طرق العامة " أنه لما فتح خيبر عنوة
بقي حصن فصالحوه على أن يقرهم ما أقرهم الله، فقال لهم نقركم ما شئنا وفي آخر (2) أنه فعل الأول، خلافا لبعض الجمهور فمنع منه
لأنها عقد لازم، فلا يجوز اشتراط نقضه، وهو كما ترى، خصوصا
بعد جواز اشتراط الخيار في العقود اللازمة، نعم في المنتهى لا يجوز اشتراط
نقضها لمن شاء منهما، لأنه يفضي إلى ضد المقصود، وفيه منع واضح
ضرورة اقتضاء العمومات الجواز، فيفي لهم ما داموا على العهد، كما

(1) سنن البيهقي ج 9 ص 224.
(2) سنن البيهقي ج 9 ص 224.
299

أن ما فيه أيضا - من أن الإمام عليه السلام لو شرط لهم أن يقرهم
ما أن يقرهم الله لم يجز، لانقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وآله -
واضح المنع، ضرورة تظافر النصوص (1) بل لعله من قطعيات المذهب
في إمكان معرفة ذلك لهم عليهم السلام بطرق متعددة، كما أنها (2)
تظافرت في أنه ينكت في قلوبهم وأن لهم ملكا يقال له الروح أعظم
من جبرئيل يأتي لهم، وانقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وآله إنما
يراد منه ما يتعلق بالنبوة لا مطلقا، كما هو مفروغ منه في محله،
وكل شرط سائغ وقع في عقد الهدنة من مال أو غيره يجب الوفاء به
على حسبما اشترط بلا خلاف ولا إشكال، كما أنه يجب حمايتهم من
المسلمين ورعايتهم في أنفسهم وأموالهم (و) غيرها مما اقتضاه العقد
نعم (لو وقعت الهدنة على ما لا يجوز فعله لم يجب الوفاء) به
(مثل التظاهر بالمناكير وإعادة من يهاجر من النساء) المسلمات التي
قال الله تعالى (3): " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات
- إلى قوله تعالى -: فلا ترجعوهن إلى الكفار " إلى آخره، وفي
المروي (4) من طرق العامة " إن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط
جاءت مسلمة فجاء أخواها يطلبانها فأنزل الله تعالى الآية " وقال النبي
صلى الله عليه وآله " إن الله منع من الصلح في النساء " ومن هنا
لا خلاف أجده كما اعترف به في المنتهى في حرمة ردهن إليهم، فلو

(1) أصول الكافي ج 1 ص 260
(2) أصول الكافي ج 1 ص 264 و 273
(3) سورة الممتحنة - الآية 10
(4) سيرة ابن هشام - القسم الثاني ص 325.
300

وقع الصلح من بعض نواب الإمام عليه السلام على ذلك كان باطلا،
بل الظاهر بطلان العقد من أصله لا خصوص الشرط، لكون التراضي
قد وقع عليه، كعقد الذمة المشتمل على ما منع الشارع من عقدها
عليه نحو الصغار في الجزية أو إظهار المنكرات في شرعنا أو نحو
ذلك مما عرفته سابقا، بل ظاهر المصنف هنا اعتبار الأخير في عقد الهدنة
وهو مشكل، لعدم الدليل عليه، اللهم إلا أن يستفاد من منعه في عقد
الذمة منعه هنا، وهو كما ترى، وفي المنتهى الشروط المذكورة في عقد
الهدنة قسمان صحيح وفاسد، فصحيح الشروط لازم بلا خلاف، مثل
أن يشترط عليهم مالا أو معونة المسلمين عند حاجتهم، وفاسد الشرط
يبطل العقد مثل أن يشترط رد النساء أو مهورهن أو رد السلاح المأخوذ
منهم أو دفع المال إليهم مع عدم الضرورة الداعية إلى ذلك، أو أن
لهم نقض الهدنة متى شاؤوا، أو شرط رد الصبيان أو الرجال، فهذه
الشروط كلها فاسدة يفسد بها عقد الهدنة، كما يفسد عقد الذمة باقتران
الشروط الباطلة مثل ما لو شرط عدم التزام أحكام المسلمين أو إظهار
الخمور والخنازير أو يأخذ من الجزية أقل، وإن كان هو أيضا لا يخلو
بعضه من نظر أو منع.
نعم الظاهر فساد عقد الهدنة باشتماله على ما لا يجوز لنا فعله شرعا
كرد النساء المسلمات المهاجرات إليهم ونحوه مما يكون الصلح معه من
المحلل للحرام أو بالعكس، أما إظهار المناكير في شرعنا دون شرعهم
من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونحو ذلك فلا دليل على فسادها به
ضرورة كون ذلك من أفعالهم لا أفعالنا، والفرض عدم تمام التمكن
منهم، بل عن الإسكافي " لو كان بالمسلمين ضرورة أباحت لهم شرطا
في الهدنة فحدث للمسلمين ما لم يكن يجوز معه ذلك الشرط ابتداء لم
301

يجز عندي فسخ ذلك الشرط، ولا الهدنة لأجل الحادث، لقوله تعالى (1)
" أوفوا بالعقود " ولأنه أمر بالوفاء بالعهد، وقد رد النبي صلى الله عليه
وآله (2) أبا بصير إلى المشركين بعد أن رجع إليه، وأمر النبي صلى الله
عليه وآله (3) حذيفة بن اليمان أن يفي للمشركين بما أخذوه عليه
من أن لا يقاتل مع النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر، قال: وقد
روي في بعض الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام " إن حيا من
العرب جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا يا رسول الله نسلم
على أن لا ننحني ولا نركع فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله نعم
ولكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم قالوا نعم، فلما حضرت الصلاة
أمرهم بالركوع والسجود فقالوا: أليس قد شرطت لنا أن لا ننحني
ولا نركع؟ فقال صلى الله عليه وآله قد أقررتم بأن لكم ما للمسلمين
وعليكم ما عليهم " - قال -: وهذا إن صح فموجبه أن الشرط العام
ماض على الخاص، أو الشرط الأخير ناسخ للشرط الأول - ثم قال
أيضا -: ولا نختار لأحد إذا كان مختارا غير مضطر أن يشترط في عقد
ولا صلح يعقده ما لا يبيح الدين عقده مما هو محظور، وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وآله " ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو

(1) سورة المائدة - الآية 1
(2) سيرة ابن هشام - القسم الثاني ص 323
(3) المنتقى من أخبار المصطفى ج 2 ص 818 الرثم 4437
(4) الوسائل - الباب 38 من أبواب المهور الحديث 2 من كتاب
النكاح مع اختلاف يسير.
302

باطل ولم يجز له ولا عليه " وقد روي أن ثقيف سألت رسول
الله صلى الله عليه وآله أن لا يركعوا ولا يسجدوا أن يتمتعوا باللات
سنة من غير أن يعبدوها فلم يجبهم رسول الله صلى الله عليه وآله إلى
ذلك " قلت: وهو كذلك، لكن لو فرض اقتضاء ضرورة لبعض المسلمين
الرضا بالشرط الباطل وقلنا بمشروعية الرضا حينئذ كان المتجه عدم
الالتزام به بعد التمكن، والوفاء بالعقد والعهد لا يشمله بعد أن كان
فاسدا ورد أبي بصير ونحوه لأن له عشيرة تمنعه كما ستعرفه الحال
فيه، والأقرب في المروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه اشتباه من
الراوي، على أنه في الاسلام، وهو غير ما نحن فيه.
وكيف كان (فلو) عقد الهدنة مطلقا و (هاجرت) الامرأة
(وتحقق إسلامها) بعد مجيئها أو قبله (لم تعد) إجماعا كما في
المنتهى للآية (1) وغيرها، ولو جاء أبوها أو غيره من أرحامها يطلب مهرها لم
يدفع إليه أيضا بلا خلاف كما في المنتهى ولا إشكال، لعدم حق له
بل لو جاء زوجها أو وكيله مثلا لم تسلم إليه أيضا (ولكن يعاد على
زوجها ما سلم إليها من مهر خاصة إذا كان مباحا، ولو كان محرما (
كالخمر (لم يعد) لا عينه (ولا قيمته) لا خلاف أجده في شئ
مما تقتضيه القيود المزبورة ولا إشكال، لعدم كونه مالا، بل وعدم
وجوب غير المهر مما أنفقه في العرس أو وهبه إياها أو غير ذلك مما هو
ليس بمهر بعد أن كان المراد مما أنفقوا في الآية (2) خصوص المهر،
بل وعدم وجوب المهر أيضا إذا لم يكن قد سلمه إليها للأصل وظاهر
الآية وغيرها، كما أني لا أجد خلافا أيضا في وجوب دفع المهر المباح

(1) سورة الممتحنة - الآية 10.
(2) سورة الممتحنة - الآية 10.
303

الذي سمعه إياها، بل في المنتهى ومحكي التذكرة نسبته إلى علمائنا
لقوله تعالى (1) " وآتوهم ما أنفقوا " المؤيد باقتضاء عقد الهدنة حرمة
مالهم أو كالمال وهو البضع ولو بضميمة رد النبي صلى الله عليه وآله (2)
ذلك في صلح الحديبية، خلافا لأبي حنيفة وابن حنبل والمزني والشافعي
في أحد قوليه فلا يجب، لعدم كون البضع مالا، وهو كالاجتهاد في
مقابل القرآن الذي لم يثبت نسخه.
نعم رد المهر من بيت المال المعد لمصالح المسلمين وإن كانت عينه
موجودة عندها، لكن عن الشيخ أن ذلك إذا كان الذي قد منع ردها
الإمام عليه السلام أو خليفته، أما إذا كان المانع غير الإمام عليه
السلام وغير خليفته من باب الأمر بالمعروف لم يلزم الإمام عليه السلام
أن يعطيهم شيئا، لأن الذي يعطيه الإمام عليه السلام من المصالح،
ولا تصرف لغير الإمام عليه السلام أو خليفته فيه، وفي المنتهى إذا ثبت
هذا فقول الشيخ إنه يدفع إليه من سهم المصالح لأنها قهرت الكفار
على ما أخذته فملكته بالقهر، وإنما أوجبنا الرد من سهم المصالح
للآية، وفيه أنه لا يتم في مال المعاهدين على أنفسهم وأموالهم، كما
أنه لا يتم عدم الوجوب لو كان المانع غير الإمام عليه السلام حسبه
بعد إطلاق قوله تعالى " وآتوهم ما أنفقوا " الذي هو خطاب للإمام
ونوابه، هذا، وفي حاشية الكركي وإنما يعاد المهر إذا طلبها زوجها في
العدة، فلو كان من غير الزوج ولم يكن وكيلا أو كان في غير
العدة لم يجب شئ، لأن الطلب حق الزوج خاصة، ولا زوجية بعد

(1) سورة الممتحنة - الآية 10
(2) سيرة ابن هشام - القسم الثاني ص 326
304

العدة، وحكاه في المسالك عن بعض الأصحاب مشعرا، بتردده فيه،
ولعله كذلك، لاطلاق الآية والفتاوى.
(فرعان: الأول إذا قدمت مسلمة فارتدت لم ترد، لأنها بحكم
المسلمة) بلا خلاف أجده فيه، فتحبس وتضرب أوقات الصلاة حتى
تتوب أو تموت عندنا، ولكن يدفع المهر إلى زوجها.
(الثاني لو قدم زوجها وطالب بالمهر فماتت بعد المطالبة دفع
إليه مهرها) كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا، لأن
الموت قد كان بعد الحيلولة، والأمر بالايتاء بحاله، بل لو
مات دفع إلى ورثته بلا خلاف (و) لا إشكال أيضا، نعم (لو
ماتت قبل المطالبة لم يدفع إليه) شئ كما صرح به الفاضل والكركي
وثاني الشهيدين وغيرهم، بل لا أجد فيه خلافا، لأن الحيلولة حصلت
بالموت لا بالاسلام (و) لكن في المتن (فيه تردد) من ذلك،
ومن سبق الاسلام عليه الموجب للحيلولة، فيستحق، مؤيدا بأصالة بقاء
الاستحقاق، وإطلاق قوله تعالى " وآتوهم ما أنفقوا " وفيه أن المتيقن
من الاستحقاق، المخالف للأصل، مع المطالبة التي هي مقتضى سؤالهم -
ما أنفقوا الذي ينزل عليه إطلاق الأمر بالايتاء، فالاستصحاب حينئذ
في غير محله، اللهم إلا أن يقال إن كلا من الاطلاق والأصل يقتضي
بقاء المطالبة والسؤال له بعد الموت، ولكنه كما ترى، ضرورة
كون المنساق حال وجود الزوجة الممنوعة بالاسلام عن الرجوع إليه،
ومنه ينقدح سقوط الرد الذي هو مقتضى الأصل في كل مقام لم يحصل
المطالبة فيه ولو بجنون ونحوه، بل في قيام وليه مقامه في ذلك إشكال
والله العالم.
(ولو قدمت فطلقها بائنا لم يكن له المطالبة) بالمهر كما صرح
305

به الفاضل وغيره، لأن الحيلولة منه حينئذ بالطلاق لا بالاسلام، نعم
لو طالب به ثم طلقها رد إليه، لاستقراره له بالمطالبة والحيلولة، ولو
طلقها رجعيا لم يكن له المطالبة بالمهر إلا إذا راجعها في العدة حتى
يكون الحائل بينهما الاسلام كما صرح به الفاضل أيضا.
(ولو أسلم في العدة الرجعية) مثلا (كان أحق بها) ووجب
عليه رد مهرها إن كان قد أخذه منها قبل الطلاق، لأن استحقاقه
للمهر إنما كان بسبب الحيلولة وقد زالت،
ولو أسلم بعد انقضاء عدتها
لم يجمع بينهما، لأنها قد بانت منه، وفي المنتهى " ثم ينظر، فإن
كان قد طالب بالمهر قبل انقضاء عدتها كان له المطالبة لأن الحيلولة
حصلت قبل إسلامه، وإن لم يكن طالب قبل انقضاء العدة لم يكن له
المطالبة بالمهر بعد البينونة، ولو كان غير مدخول بها وأسلمت ثم أسلم
لم يكن له المطالبة بالمهر، لأنه أسلم بعد البينونة، وحكم الاسلام
يمنع من وجوب المطالبة في هذا الحال " ولكن لا يخفى عليك ما فيه
خصوصا بعد عدم كون الحكم مخصوصا بالذمي الملتزم أحكام الاسلام
التي منها هذا، وقد سمعت ما ذكرناه سابقا عن الكركي والنظر فيه.
ولو أنكرت الامرأة زوجية المطالب كان القول قولها بيمينها، ولو
اعترفت أو قامت بينة على ذلك فأنكرت قبض المهر كان القول قولها
أيضا، وكذا لو أنكرت قدر المقبوض، ولو كان الزوج عبدا وطالب
بالمهر دفع إلى مولاه، ولو طالب المولى به دون العبد ففي المنتهى لم
يدفع إليه، لأنه وجب للحيلولة، فإذا طالب الزوج ثبت المهر لها،
فيدفع حينئذ بيد المولى، ولا فرق بين الأمة والحرة في الحكم المزبور
فلو جاءت أمة مسلمة وطالب زوجها بالمهر دفع إليه، لاطلاق الآية
306

سواء تحررت بالاسلام أو لا، كما أنه لا فرق بين العاقلة والمجنونة
في ذلك أيضا إذا كانت قد جنت بعد إسلامها، ولو لم يعلم حالها أنها
أسلمت قبل الجنون أو بعده ففي المنتهى لا ترد أيضا، لاحتمال أن
تكون قد أسملت عاقلة، ولا يرد مهرها لاحتمال الاسلام بعده، فإن
أفاقت فأقرت بالاسلام رد مهرها عليه، وإن أقرت بالكفر ردت عليه
وفيه أن النهي عن الارجاع مشروط بالاتيان مسلمة، ولم يتحقق،
وأشكل من ذلك ما فيه أيضا من أنها لو جاءت مجنونة ولم يخبر عنها
بشئ لم ترد إليه لأن الظاهر أنها إنما جاءت إلى دار الاسلام، ولا
يرد مهرها للشك، إلى أن قال فيتوقف في ردها إلى أن تفيق، فإن
ذكرت أنها مسلمة أعطي المهر ومنه منها وإن ذكرت أنها لم تزل
كافرة ردت إليه، وكذا ما فيه أيضا من أنها لو قدمت صغيرة ووصفت
الاسلام لم ترد إليه، لئلا تفتن عند بلوغها عن الاسلام، وهل يجب رد
المهر؟ قال الشيخ: لا يجب بل يتوقف عن رده حتى تبلغ، فإن بلغت
وأقامت على الاسلام رد المهر، وإن لم تقم ردت هي وحدها، إذ لا
يخفى عليك كله ما في ذلك كله من المنافاة لظاهر الآية الناهية عن إرجاع
المؤمنات، كما هو واضح.
ثم إن الظاهر اختصاص هذا الحكم بالمعاهدين ونحوهم دون
الحربيين كما صرح به بعضهم، بل لعله ظاهر بملاحظة طلب المهر
من كل منهم، فإنه كما يسأل الكافر مهره كذلك يسأل المسلم مهره
لو مضت زوجته، كما هو مقتضى الآية، والله العالم.
هذا كله في النساء
(وأما إعادة الرجال) فلا خلاف بل ولا
إشكال في عدم وجوب إعادة أحد منهم جاء إلينا مسلما مع إطلاق
الهدنة الذي لا يقتضي أزيد من الأمان على أنفسهم وأموالهم، بل لا
307

يجوز إعادته أو التمكين من قهره على ذلك بعد أن كان الواجب الهجرة
من دار الحرب التي لا يتمكن من إقامة شعار الاسلام فيها، ومن
هنا لو طلبت امرأة أو صبية مسلمة الخروج من عند الكفار جاز لكل
مسلم إخراجها مع المكنة، بل وجب عليه ذلك، وفي المرسل " أن
النبي صلى الله عليه وآله لما خرج من مكة وقفت ابنة حمزة على الطريق
فلما مر بها علي عليه السلام قال يا بن عمي إلى من تدعني فتناولها فدفعها
إلى فاطمة عليها السلام قال حتى قدم بها المدينة " ولعل المستضعف
كذلك أيضا.
وعلى كل حال (ف‍) لو أرادوا اشتراط ذلك في عقد الهدنة
جاز قبوله لكن بالنسبة إلى (من أمن عليه الفتنة بكثرة العشيرة وما
ماثل ذلك من أسباب القوة) التي تمنعه لو أراد إظهار ما عليه من
الاسلام، ولا يخشى عليه الذل ولا القتل ولا الأذية، وحينئذ فإذا
اشترطوا رد مثل ذلك (جاز إعادته) على معنى التخلية بينهم وبينه
(وإلا) يكون كذلك بل كان مستضعفا يخشى عليه الفتنة والهوان
والأذية ونحوها لم يصح اشتراط رده في عقد الهدنة و (منعوا منه)
إن أرادوا رده بلا خلاف أجده في شئ من ذلك بين من تعرض للحكم
وإن كنت لم أجد في شئ من نصوصنا ما يدل عليه، نعم في المنتهى
أن النبي صلى الله عليه وآله رد أبا جندل وأبا بصير في صلح الحديبية (1)
بمعنى أنه لم يمنعهم من أخذه إذا جاؤوا في طلبه، ولا يجبره الإمام
عليه السلام على المضي معهم، وله أن يأمره في السر بالهرب منهم
ويقاتلهم، فإن أبا بصير لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وجاء

(1) سيرة ابن هشام - القسم الثاني ص 318 و 323 المطبوعة
عام 1375 وكامل ابن الأثير - ج 2 ص 204 و 205 المطبوعة عام 1385.
308

الكفار في طلبه قال له النبي صلى الله عليه وآله: إنه لا يصلح في ديننا
الغدر، وقد علمت ما عاهدناهم عليه، ولعل الله أن يجعل لك فرجا
ومخرجا، فلما رجع مع الرجلين قتل أحدهما في طريقه ثم رجع إلى
النبي صلى الله عليه وآله، فقال يا رسول الله قد أوفى الله ذمتك، قد
ردني الله إليهم، وأنجاني الله منهم، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وآله
ولم يلمه، بل قال: ويل أمة مسعر حرب لو كان معه رجال
، فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر وانحاز إليه أبو جندل
ابن سهيل ومن معه من المستضعفين بمكة فجعلوا لا يمر عير لقريش إلا
عرضوا لها فأخذوها وقتلوا من معها فأرسلت قريش إلى النبي
صلى الله عليه وآله تناشده الله والرحم أن يضمهم إليه ولا يرد إليهم أحدا جاء
ففعل النبي صلى الله عليه وآله ذلك.
بل يستفاد منه عدم دخول من تجدد إسلامه منهم في عقد الهدنة
فيجوز له السلب والقتل، ولذا لم يؤد النبي صلى الله عليه وآله لهم من
قتله أبو بصير ولا ما أخذه هو وأصحابه من عير قريش، ولعله لظهور
عقد الهدنة فيمن كان في قبضة الإمام عليه السلام وقت العقد دون من
كان قد أسلم منهم إلا أن يشترطوا ذلك على وجه يشملهم الصلح.
وقد يشكل صحة الاشتراط في الأول بأن في إعادته وقهره على ذلك
ظلما له، فلا يجوز قبول اشتراط ما يقتضي الظلم على المؤمن، إذ هو
من الصلح المحلل للحرام، ويدفع باطلاق الإذن بالمسالمة الشاملة للفرض
إذا اقتضت المصلحة، ونصرة المظلوم واجبة مع التمكن المفروض عدمه
بالشرط الواجب الوفاء به، إذ لا ضرر على المسلم بالرجوع مع فرض

(1) سيرة ابن هشام - القسم الثاني ص 323 وكامل ابن الأثير - ج 2 ص 205.
309

كونه من ذي القوة المانعة عنه، بل ربما يكون وجوده بينهم أصلح مع
هذا الحال، لامكان رغبة غيره معه في الاسلام، نعم لو فرض الأذية عليه
ولو من عشيرته فضلا عن خوف القتل اتجه حينئذ عدم جواز اشتراط
رده، بل اللازم على الإمام عليه السلام منعهم من قهرهم إياه، كل
ذلك بعد كون الحكم مفروغا منه بين من تعرض له على وجه يظهر منه
كونه من المسلمات، ولولا ذلك لأمكن المناقشة فيه بعد من وجوه أخر
أيضا، كما أن ما في المنتهى أيضا كذلك، قال: " لو جاء صبي ووصف
الاسلام لم يرد، لأنه لا يؤمن افتتانه عند بلوغه، وكذا لو قدم مجنون
لم يرد، ولو بلغ الصبي وأفاق المجنون فإن وصفا الاسلام كانا مع
المسلمين، وإن وصفا الكفر فإن كان كفرا لا يقر أهله عليه ألزمناهما
بالاسلام، أو رددناهما إلى مأمنهما، وإن كان مما يقر أهله عليه ألزما
بالاسلام أو الجزية أو الرد إلى مأمنهما " وكذا ما فيه أيضا من أنه
" لو جاء عبد حكمنا بحريته، لأنه قهر مولاه على نفسه، وقد تقدم
ولو جاء سيده لم يرد عليه، لأنه مستضعف لا يؤمن عليه الافتتان،
وهل يرد عليه قيمته؟ للشافعي قولان " ثم قال في مقام آخر: " لو
كان القادم عبدا فأسلم صار حرا، فإن جاء سيده بطلبه لم يجب رده
ولا رد ثمنه، لأنه صار حرا بالاسلام، ولا دليل على وجوب رد ثمنه "
إذ لا يخفى عليك أن المعاهد حرام المال، وإسلام العبد لا يقتضي
أزيد من عدم ملك الكافر المسلم، فيجب استنقاذه من الكافر بدفع
ثمنه له.
(و) كيف كان ف‍ (لو شرط في الهدنة إعادة الرجال مطلقا
قيل يبطل الصلح، لأنه كما يتناول من يؤمن افتتانه) الذي يصح
اشتراط إعادته (يتناول من لا يؤمن) الذي لا يصح اشتراط إعادته
310

فيكون الصلح باطلا باعتبار ظهور الاطلاق في الأمرين، ولعل وجه
توقف المصنف فيه باعتبار نسبته إلى القيل من ذلك، ومن إمكان إرادة
الأول من الاطلاق، لأصالة الصحة، أو يقال بالصحة فيه دون الثاني
فيكون كبيع ما يصح بيعه وما لا يصح بيعه، وللمعاهدين الخيار مع
عدم علمهم بالحال، ومن ذلك يعلم الحال على فرض إرادة عدم التقييد
بالرجال من الاطلاق أو التصريح بالاطلاق الشامل لكل منهما، وإن
قال في حاشية الكركي: " لم يكن وجه حينئذ للتوقف " وفي المسالك
" كان الشرط فاسدا قطعا، ويتبعه فساد الصلح على الأقوى، ويمكن
أن يريد هذا المعنى، ويكون نسبة البطلان إلى القيل بناء على التردد في
فساد العقد المشتمل على شرط فاسد، وسيأتي في البيع ما يشعر بتوقف
المصنف في ذلك كما هنا " قلت: قد عرفت وجه التوقف أيضا من
غير هذه الجهة، بل قد يقال بجواز الاشتراط على الاطلاق، لاطلاق الإذن
في الصلح، وليس في شئ من النصوص المعتبرة عدم جواز ذلك شرعا
على وجه لا يصح اشتراطه، لكن لا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة
بما ذكرناه، بل وبما ذكره المصنف من الموافقة على عدم جواز إعادة
من لا قوة له، والأمر سهل بعد وضوح الحال.
ثم إنه إذا بطل الصلح لم يرد من جاء منهم مسلما رجلا كان أو
امرأة كما صرح به في المنتهى، بل قال: " ولا يرد البدل بحال،
لأن البدل استحق بشرط، وهو مفقود هنا، كما لو جاءنا من غير هدنة "
وفيه أن الآية وإن كانت في خصوص المعاهدين على ما يظهر من
الأصحاب لكن قاعدة الغرور تقتضي رد البدل مع فرض الجهل منهم
بفساد الصلح، كما أن لهم الخيار في فسخه لو علموا بالحال، ثم قال
في المنتهى أيضا: " وإذا أريد رد من له عشيرة لم نكرههم على الرجوع
311

لأنه ليس للإمام عليه السلام إخراج مسلم من بلد إلى بلد من بلاد
الاسلام، فكيف إلى دار الحرب، بل يمنعه من الرجوع إن اختار
ذلك فيقول لك في الأرض مراغم كثيرة وسعة، ولا يمنع منه من
جاء لرده ويوصيه بالهرب " ولا يخفى عليك ما فيه بعد فرض فساد
الصلح، والله العالم.
(وكل من وجب رده لا يجب حمله وإنما يخلى بينه وبينهم)
كما سمعته من المنتهى، ولكن ينبغي أن يكون ذلك على حسبما وقع
عليه عقد الهدنة الذي يجب الوفاء به وبكل شرط صحيح مشتمل عليه
كما هو واضح
(ولا يتولى) عقد الذمة ولا عقد (الهدنة على العموم
ولا لأهل البلد) الكبير (و) لا (الصقع) أي الناحية (إلا الإمام عليه السلام أو من يقوم مقامه) في ذلك كما صرح به غير واحد.
بل في المنتهى لا نعلم فيه خلافا، قال: " لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام
عليه السلام وما يراه من المصلحة، فلم يكن للرعية توليه، ولأن
تجويزه من غير الإمام عليه السلام يتضمن إبطال الجهاد بالكلية أو إلى
تلك الناحية " بل عنه أيضا " الاجماع على عدم جواز مهادنة أحد
من الرعية بلدا أو صقعا " قلت لا كلام في أن ذلك من وظائف الإمام
عليه السلام، إلا أن الظاهر قيام نائب الغيبة مع تمكنه مقامه في ذلك
لعموم ولايته، بل لا يبعد جريان الحكم على ما يقع من سلطان
الجور المعد نفسه لمنصب الإمامة كما أومأ إليه الرضا عليه السلام
فيما تقدم (1) من أن بني تغلب على ما صالحهم عليه عمر حتى يظهر
الحق، بل قد ذكرنا سابقا استمرار السيرة من الأعوام والعلماء في كل

(1) الوسائل - الباب 68 من أبواب جهاد العدو الحديث 6.
312

مصر على تناول الجزية من أيديهم كتناول الخراج، بل يعدون ذلك من
الحلال البين، وقد تقدم منا بعض الكلام في ذلك.
وإذا عقد الإمام عليه السلام الهدنة ثم مات وجب على من بعده
من الأئمة عليهم السلام العمل بموجب ما شرط الأول إلى أن تخرج مدة
الهدنة، بل في المنتهى لا نعلم فيه خلافا، لأنه معصوم فعل مصلحة
فوجب على القائم بعده تقريرها إلى وقت خروج العهد، قلت: ولعل ما
يقع من نائبه الخاص بل العام كذلك أيضا، بل يمكن جريانه فيما يقع
من الجائر الغاصب لما عرفت، هذا، ولعل التقييد بالعموم وأهل البلد
والصقع للاحتراز عن ذمام آحاد المسلمين لآحاد المشركين بل وللبلد
الصغير كما تقدم الكلام فيه سابقا، فإنه يتضمن ترك القتال في الجملة
أيضا، وعلى كل حال فالظاهر عدم ضمان نفس المعاهد ونحوه كما
صرح به بعضهم وإن أثم، لأنه من أهل الحرب الذين لا ضمان لأنفسهم
أما ماله فهو مضمون على من أتلفه، والله العالم.
(ومن لواحق هذا الطرف مسائل: الأولى كل ذمي انتقل عن
دينه إلى دين لا يقر أهله عليه لا يقبل منه) البقاء على ذلك ولا يقر
عليه بلا خلاف ولا إشكال، بل في المنتهى ومحكي التذكرة والتحرير
الاجماع عليه، وهو كذلك، ضرورة عدم قبول دين من أنتقل إليهم
وعدم إقرارهم عليه، فهو أولى، إنما الكلام في حكمه حينئذ ففي
المسالك وحاشية الكركي وغيرهما أنه لا يقبل منه (إلا الاسلام أو
القتل) بل عن الشيخ أنه قواه أيضا، بل هو المحكي عن الإسكافي أيضا
لعموم قوله تعالى: " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه "

(1) سورة آل عمران - الآية 79.
313

والنبوي (1) " من بدل دينه فاقتلوه " ولأنه بارتداده عن دينه معترف
ببطلانه ومعلومية بطلان غيره ما عدا الاسلام، فصار كالمرتد عن الاسلام
الذي لا يقبل منه غيره أو القتل، وإن كان قد يناقش في الأخير بعدم
تمامية التشبيه بالمرتد الذي هو عنوان مستقل في النص والفتوى،
بخلاف الفرض فإنه لا يصدق عليه أنه مرتد، بل لعل المراد ذلك من
الآية (2) والرواية (3) التي لم تجمع شرائط الحجية، مضافا إلى معلومية
عدم العمل باطلاقها في المرتد الملي، بل يمكن كون المراد من الآية عدم
قبول غير الاسلام من الأديان وإن أقر بعض أهل غيره بالجزية، لكن
ذلك ليس قبولا، كما هو واضح، ومن هنا يقبل منه الرجوع إلى
دينه مضافا إلى الاسلام، ضرورة صدق أهل تلك الملة عليه، فيشمله
عموم الأدلة، بل قيل يقبل منه الرجوع إلى دين غير دينه الأول إذا
كان ممن يقر أهله عليه، ولعله للصدق المزبور بعد ما عرفت من عدم
صراحة الآية بل ولا ظهورها في ذلك، وعدم جمع الخبر المزبور
شرائط الحجية.
بل من ذلك يظهر لك الحال فيما ذكره المصنف بقوله (أما
لو انتقل من دين يقر أهله) عليه (كاليهودي ينتقل إلى النصرانية
أو المجوسية قيل) والقائل الإسكافي والشيخ فيما حكي عنهما (يقبل)
بل جعله الثاني منهما في المبسوط هو الظاهر من المذهب، بل عنه في
الخلاف الاجماع عليه، ولعله لذا كان هو خيرة الفاضل في المختلف

(1) المستدرك - الباب 1 من أبواب حد المرتد الحديث 2
(2) سورة آل عمران - الآية 79.
(3) المستدرك - الباب 1 من أبواب حد المرتد الحديث 2.
314

وغيره، وحينئذ فالمراد بقوله عليه السلام (الكفر ملة واحدة) (1)
ما يشمل الفرض (وقيل لا) يقبل (لقوله تعالى ومن يبتغ غير
الاسلام دينا فلن يقبل منه) واختاره الكركي وثاني الشهيدين لذلك
وللنبوي (2) مع القطع بأن الكفر ملل متعددة لا ملة واحدة، فلا بد
أن يراد كالملة الواحدة، فلعل المراد حينئذ بالنسبة إلى العقاب والنجاسة
وغيرهما من الأحكام لا ما نحن فيه، خصوصا بعد اقتضاء الآية والرواية
عدم قبول غير الاسلام منه أو القتل.
بل لعله الظاهر من المصنف أيضا لقوله: (وإن عاد إلى دينه
قيل يقبل) لأن الكفر ملة واحدة (وقيل لا) يقبل (وهو أشبه)
للآية والرواية، فإن ذلك منه يستلزم عدم القبول في الأول ضرورة
اقتضاء عدم قبول دينه الأول منه عدم قبول الثاني منه أيضا للآية
والرواية، ولكن قد سمعت سابقا المفروغية من عدم قبول الجزية ممن
تهود أو تنصر بعد النسخ، بل حكينا عن ظاهر التذكرة والمنتهى
الاجماع عليه ذلك، بل لعل قولهم سابقا إنه لا يقبل من غير الفرق
الثلاثة إلا الاسلام أو القتل شاهد على ذلك، ضرورة أنه لو لم يكن
كذلك لقبل منهم الدخول في اليهودية مثلا مع أداء الجزية، بل خبر
الأسياف (3) الطويل الذي تسمعه إنشاء الله في الخاتمة كالصريح في ذلك
ومنه ومن غيره يعلم أن المراد من الآية أنه لا يقبل دين غير دين الاسلام
بعد نزول الآية، نعم الفرق الثلاثة وما يتولد منهم إذا اختاروا دين

(1) الموجود في الشرائع: " قيل: يقبل لأن الكفر ملة واحدة
والمصنف قدس سره أسقط كلمة " لأن ".
(2) المستدرك الباب 1 من أبواب حد المرتد الحديث 2.
(3) الوسائل - الباب 5 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
315

آبائهم تقبل منهم الجزية، ويقرون على دينهم إلى أن يشاء الله، بل يمكن
كون المراد من قوله صلى الله عليه وآله (1): " من بدل دينه فاقتلوه "
ذلك أيضا، وحينئذ فالوثني لو اختار اليهودية لا يقر على ذلك، وكذا
اليهودي لو اختار النصرانية، نعم لا يبعد إقراره لو رجع إلى دينه
الأول الذي كان مقرا عليه، لتناول العمومات له، والخبر محمول على
من بدل مصرا على البدل، وأما احتمال وجوب قتله إلى أن يسلم وإن
رجع تمسكا باطلاق التبديل والابتغاء في غاية البعد.
ومن ذلك كله ظهر لك أن الحكم الآن بتبعية الأطفال في الفرق
الثلاثة يكفي في صدق التبديل، فلو بلغ واختار دينا غير من حكم
بتبعيته عليه لم يقبل منه ولا يقر عليه، لأنه ابتغاء غير الاسلام دينا
بعد النسخ، قال في المنتهى وتؤخذ الجزية ممن دخل في دينهم أي الثلاثة
من الكفار إن كانوا قد دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل ومن نسله
وذراريه ويقرون بالجزية، ولو ولدوا بعد النسخ فإن دخلوا في دينهم
بعد النسخ لم يقبل منهم إلا الاسلام، ولا يؤخذ منهم الجزية، ذهب
إليه علماؤنا، ونحوه عن التذكرة، ثم استدل بالآية والرواية، وقد
سمعت الكلام في بني تغلب، كما أنه ظهر لك من ذلك الاشكال فيما
أطلقه المصنف وغيره في المسألة من غير إشارة منهم إلى حال النسخ
وغيره حتى العلامة في المنتهى فإنه بعد ذلك ذكر المسألة على حسبما
ذكره المصنف هنا، فلاحظ وتأمل، ولعل التحقيق ما ذكرناه، وبه
تندفع المناقشة السابقة.
(و) كيف كان ف‍ (لو أصر) على ما هو عليه وقلنا بقتله أو
حيث يكون حكمه ذلك (فقتل هل تملك أطفاله قيل) والقائل الشيخ

(1) المستدرك - الباب 1 من أبواب حد المرتد الحديث 2.
316

(لا، استصحابا لحالهم الأول) قال فيما حكي عنه: ما هذا لفظه
" وأما أولاده فإن كانوا كبارا أقروا على دينهم، ولهم حكم نفوسهم
وإن كانوا صغارا نظر في الأم فإن كانت على دين يقر أهله عليه ببذل
الجزية أقر ولده الصغير في دار الاسلام، سواء ماتت الأم أو لم تمت
وإن كانت على دين لا يقر أهله عليه كالوثنية وغيرها فإنهم يقرون أيضا
لما سبق لهم من الذمة، والأم لا يجب عليها القتل " ومرجعه إلى ما
ذكره المصنف من الاقرار مطلقا كما هو خيرة الكركي وثاني الشهيدين
للأصل، ولكن ظاهر نسبة المصنف له إلى القيل التوقف فيه، ولعله
لتبعية الولد الوالد في الأحكام، وهو حسن إن ثبت العموم، والله العالم.
المسألة (الثانية إذا فعل أهل الذمة ما هو سائغ في شرعهم
وليس بسائغ في الاسلام) كشرب الخمر ونحوه (لم يتعرضوا) ما
لم يتجاهروا به كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا بل ولا
إشكالا، بعد إقراراهم على دينهم فيما بينهم بأخذ الجزية منهم (و) القيام
بشرائط الذمة، نعم (إن تجاهروا به عمل بهم ما تقتضيه الجناية
بموجب شرع الاسلام) لأنهم مكلفون بالفروع، ولم يقتض عقد الذمة
إقرارهم عليه مع التجاهر به، فيبقى حينئذ ما دل على الأمر بالمعروف
وإقامة الحدود والنهي عن تعطيلها وغير ذلك من العمومات على حالة
بل عن المبسوط روى أصحابنا (1) أنه يقيم عليهم الحد، وهو الصحيح،
لكن عنه أيضا قبل ذلك أن للإمام عليه السلام منعهم وتأديبهم على
إظهاره، بل قيل هو ظاهر المنتهى والتذكرة والتحرير وأنه الموافق
للأصول، وفيه ما لا يخفى، بل الظاهر انتقاض عقد الذمة إذا كان
مثل نكاح المحرمات الذي قد عرفت وجوبه فيه وإن لم يشترط كما

(1) الوسائل - الباب 6 من أبواب حد المسكر.
317

أسلفنا الكلام فيه سابقا.
(وإن فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم) أيضا (كالزنا واللواط فالحكم فيه)
أيضا (كما في المسلم) للعموم كما صرح به غير واحد أيضا بل (و) بأنه
(إن شاء الحاكم دفعه إلى أهل نحلته ليقيموا الحد فيه بمقتضى شرعهم)
ولكن إن كان إجماعا فذاك، وإلا كان مشكلا، وربما وجه بأن مقتضى عقد الذمة
بقاؤهم على أحكامهم ومقتضيات شرعهم، وفيه أن ذلك كذلك مع عدم
الاطلاع، أما معه فلا، لعموم الأدلة، وخصوصا إذا كان قد تجاهروا
به، وفي حاشية الكركي والمسالك هذا إذا تساوت الملتان في وجوب
المؤاخذة وإن حصل الاختلاف في الكم والكيف، أما إذا لم يكن في
ملتهم مؤاخذة على ذلك فإنه يجب إجراء حكم الاسلام، ولا يجوز
تعطيل حد الله، وهو وإن كان جيدا في الجملة بل هو مقتضى قول المصنف
" ليقيموا الحد بمقتضى شرعهم " لكن قد يناقش بصدق التعطيل مع
فرض كونه الحد فيه عندهم الضرب وعندنا القتل ونحو ذلك.
نعم لو تحاكم إلينا ذميان مثلا كان الحاكم مخيرا بين الحكم
عليهما بحكم الاسلام، لقوله تعالى (1) " وإن حكمت فاحكم بينهم
بالقسط " وقوله تعالى (2) " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع
أهواءهم " وبين الاعراض عنهم بلا خلاف أجده فيه بيننا، لقوله تعالى (3)
" فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " وخبر أبي بصير (4) عن
أبي جعفر عليه السلام " إن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة وأهل الإنجيل
يتحاكون إليه كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم، وإن شاء تركهم "

(1) سورة المائدة - الآية 46 - 54 - 46.
(2) سورة المائدة - الآية 46 - 54 - 46.
(3) سورة المائدة - الآية 46 - 54 - 46.
(4) الوسائل - الباب 27 من أبواب كيفية الحكم الحديث 1
من كتاب القضاء.
318

خلافا للشافعي في أحد قوليه والمزني فأوجبا الحكم بينهم، لقوله
تعالى (1) " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " المخصص بالآية الأولى
بل الظاهر أنه يجوز له أيضا نقض حكمهم الباطل إذا استعداه أحد
الخصمين منهما للعمومات، ولخبر هارون (2) عن أبي عبد الله عليه السلام
" قلت: رجلان من أهل الكتاب نصرانيان أو يهوديان كان بينهما
خصومة فقضى بينهما حاكم من حكامهما بجور فأبي الذي قضى عليه أن يقبل
وسأل أن يرد إلى حكم المسلمين، قال: يرد إلى حكم المسلمين ".
ولو ترافع إلينا مستأمنان حربيان من غير أهل الذمة ففي المنتهى
" لا يجب على الحاكم الحكم بينهم إجماعا، لأنه لا يجب على الإمام
عليه السلام دفع بعضهم عن بعض، بخلاف أهل الذمة، ولأن أهل
الذمة آكد حرمة فإنهم يسكنون دار الاسلام على التأبيد " قلت: العمدة
ما حكاه من الاجماع، ولو ترافع ذمي مع مسلم أو مستأمن مع مسلم
وجب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل الله، لقوله تعالى: " وأن
احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم " وغيره من العمومات
الدالة على ذلك، وعلى وجوب دفع الظلم والأمر بالمعروف والحكم
بالعدل وغير ذلك.
ولو استعدت زوجة ذمي على زوجها في ظهار مثلا جاز الحكم
عليه بحكم الاسلام، فيمنعه حينئذ أن يقر بها حتى يكفر، ولكن في المنتهى
" لا يجوز له أن يكفر بالصوم، لافتقاره إلى نية القربة، ولا بالعتق
لتوقفه على ملك المسلم، وهو لا يتحقق في طرفه إلا أن يسلم في يده أو

(1) سورة المائدة - الآية 54.
(2) الوسائل - الباب 27 من أبواب كيفية الحكم الحديث 2
من كتاب القضاء.
319

يرثه، بل بالاطعام " وفيه أن ذلك لا يوافق حكم الاسلام، ضرورة
الترتب في كفارة الظهار، فيكلف بالمرتبة الأولى ولو بأن يسلم.
ولو ترافع إلينا ذمي ومسلم في خمر اشتراه من الذمي أو بالعكس
أبطلنا بكل حال تقابضا أو لم يتقابضا، ورددنا الثمن إلى المشتري، فإن
كان المسلم استرجع الثمن، وفي المنتهى " وأرقنا الخمر لأنا لا نقضي
على المسلم برد الخمر، وجوزنا إراقتها لأن الذمي عصى باخراجها إلى
المسلم فيعاقب بإراقتها عليه " قلت لا يخلو من نظر إن لم يكن إجماعا
وإن كان المشتري الذمي رددنا إليه الثمن ولا نأمره برد الخمر بل يريقها
لأنها ليست بمال في حق المسلم، والله العالم.
المسألة (الثالثة إذا اشترى الكافر مصحفا) كله أو بعضه (لم
يصح البيع، وقيل يصح وترفع يده والأول أنسب بأعظام الكتاب
العزيز، ومثل ذلك كتب أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وقيل
يجوز على كراهية، وهو أشبه) عند المصنف بأصول المذهب وقواعده
وقد أشبعنا الكلام بحمد الله تعالى في المسألة وأطرافها في المكاسب عند
ذكر المصنف حكم بيع العبد المسلم على الكافر، فلاحظ وتأمل.
المسألة (الرابعة لو أوصى الذمي ببناء كنيسة أو بيعة) أو غير
ذلك معبدا لهم ومحلا لصلاتهم ونحوها من عباداتهم الباطلة ورجع الأمر
إلينا (لم يجز) لنا إنفاذها (لأنها معصية) والوصية فيها غير
جائزة إجماعا في المنتهى ومحكي التذكرة وغيرهما، بل هو محصل
(وكذا لو أوصى بصرف شئ في كتابة التوراة والإنجيل) وغيرهما
(لأنها محرفة) فصارت من كتب الضلال، قال الله تعالى شأنه (1)

(1) سورة النساء - الآية 48.
لجواهر - 40
320

" يحرفون الكلم عن مواضعه " وقال (1) " فويل للذين يكتبون الكتاب
بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله " وروي " أن رسول الله صلى الله عليه وآله
خرج يوما من داره فوجد في يد عمر صحيفة فقال: ما
هي: فقال: من التوراة، فغضب عليه ورماها من يده، وقال: لو
كان موسى وعيسى عليهما السلام حيين لما وسعهما إلا اتباعي ".
ولو أوصى أن تكتب كتب طب أو حساب أو غيرهما مما لا حرمة
فيه جاز لعموم الأدلة من غير فرق بين كون ذلك لهم أو لغيرهم، بل
في المنتهى الاجماع عليه، وهو كذلك، إذ الممنوع إنفاذ الوصية بالمحرم
وهو ما عرفت.
وكذا لو أوصى باستئجار الأجير الخاص لخدمة البيع والكنائس
أو شراء مصباح لهما أو أرض توقف عليهما أو غير ذلك مما هو محرم
لما عرفت، نعم لو أوصى ببناء ذلك مأوى للمارة من أهل الذمة خاصة
أو مع المسلمين أو سكناهم أو غير ذلك مما هو ليس معصية جاز،
لعموم الوصية، هذا، وعن الشهيد " أن هذا ليس على إطلاقه، بل هو
في موضع ليس لهم الاحداث فيه " وفيه أن عدم جواز إنفاذنا لها إذا
رجع الأمر إلينا باعتبار كونها معصية في نفسها، وهو المراد من عدم
صحتها، فإن لم يرجع الأمر إلينا لم يكن لنا التعرض لهم فيما يقتضيه
شرعهم، وإن كان لنا المنع لو أرادوا إحداثها فيما لا يجوز الاحداث
فيه، وكذا الكلام في الوصية بشراء الخمر أو الخنزير أو الوقف عليهما
أو غير ذلك من المحرمات، وإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم في غير ذلك
(ولو أوصى للراهب والقسيس) وغيرهما (جاز كما تجوز
الصدقة عليهم) والهبة وغيرهما بلا خلاف ولا إشكال للعموم، وضمير

(1) سورة البقرة - الآية 73.
321

الجمع في العبارة إما لأن لام الجنس تلحقهما بالمتعدد، أو لأن أقل
الجمع اثنان، أو لأن المراد به أهل الذمة، والأمر سهل، ولو أوصى
بالكنيسة مثلا للمارة والصلاة ففي المنتهى " قيل يبطل الوصية في الصلاة
وتصح في نزول المارة، فتبنى كنيسة بنصف الثلث لنزول المارة خاصة
فإن لم يمكن ذلك بطلت الوصية، وقيل تبنى الكنيسة بالثلث، وتكون
لنزول المارة، ويمنعون من الاجتماع في الصلاة، وفي الوجهين قوة "
قلت: لعل الحكم ببطلان الوصية أقوى منهما لكونها من الوصية
بالمحرم وإن اشترك معه غاية محللة، فتأمل.
المسألة (الخامسة يكره للمسلم أجرة رم الكنائس والبيع)
وإصلاحها (من بناء ونجارة وغير ذلك) ولا يحرم بلا خلاف أجده، بل
قد مر ما عن المنتهى من الاتفاق على جواز رم ما انشعب منها، ولعل
الوجه في الكراهة بعد التسامح فيها أنه نوع إعانة لهم على ما يفعلونه
من المحرمات فيها من صلاة ونحوها.
(الركن الرابع في قتال أهل البغي)
الذي هو لغة مجاوزة الحد والظلم والاستعلاء وطلب الشئ، وفي
عرف المتشرعة الخروج عن طاعة الإمام العادل عليه السلام على الوجه
الآتي، والمناسبة بينة وبين الجميع واضحة، وإن كانت هي في الظلم
أتم، ومن ذلك وغيره يعلم أن البغاة اسم ذم، خلافا لبعض العامة
فأنكره، وقال: المراد بالبغاة المخطؤون من أهل الاجتهاد، وهو كما
322

ترى ناش عن عناد، وعلى كل حال فخبر الأسياف (1) المروي في
التهذيب والكافي وعمل به الأصحاب وتسمعه إنشاء الله صريح فيما ذكره
بعض من أنه نزل فيهم قوله تعالى (2) " وإن طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي
تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا
إن الله يحب المقسطين " وإن كان قد أشكله بعض بأنها في المؤمنين،
والفرق الثلاثة عندنا كفار وإن انتحلوا الاسلام، ولفظ البغي فيها
أعم من ذلك، إذ يمكن إرادة التعدي من بعض المؤمنين على بعض،
ولكن يمكن أن يكون ضرب من المجاز ولو باعتبار معتقدهم كما
ستعرف ذلك.
وعلى كل حال فقد قيل إنهم استفادوا منها أمورا خمسة: أحدها
أن البغاة على الإمام عليه السلام مؤمنون، لأن الله تعالى سماهم مؤمنين
وهو لا يوافق أصولنا في الإمامة، ومن هنا حمل على ضرب من المجاز
بناء على الظاهر أو على ما كانوا عليه أو على ما يعتقدونه، نحو قوله
تعالى (3) " وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما
تبين لهم، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " المعلوم أنه في المنافقين
بل في المنتهى وهذه صفة المنافقين إجماعا، الثاني وجوب قتالهم، وهو
كذلك عندنا كما ستعرف إنشاء الله، الثالث وجوب القتال إلى غاية
وهو كذلك أيضا لنص الآية كما ستعرف، الرابع عدم الرجوع على
أهل البغي بنفس أو مال بعد الصلح، لعدم ذكر شئ منهما بعده،

(1) الوسائل - الباب 5 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
(2) سورة الحجرات - الآية 9.
(3) سورة الأنفال - الآية 5 و 6.
323

ومناف لما عندنا كما ستعرف، بل ولقوله تعالى فيها " وأقسطوا " المراد
به العدل، الخامس دلالتها على جواز قتال كل من منع حقا طولب به
فلم يفعل، للعلة التي جوزت قتال البغاة، وفيه أنها مستنبطة وليست
حجة عندنا، خصوصا بعد معلومية تفاوت الحقوق، وأن أعظمها مخالفة
الإمام عليه السلام على وجه يترتب عليه الفساد في الدين، فلا يقاس
عليه غيره، كما هو واضح.
وكيف كان فلا خلاف بين المسلمين فضلا عن المؤمنين في أنه
(يجب قتال من خرج على إمام عادل عليه السلام) بالسيف ونحوه
(إذا ندب إليه الإمام عليه السلام) عموما أو خصوصا أو من نصبه
الإمام) لذلك أو ما يشمله، بل الاجماع بقسميه عليه، بل المحكي
منهما مستفيض كالنصوص (1) من طرق العامة والخاصة، مضافا إلى
ما سمعته من الكتاب بناء على نزوله فيهم كما تسمع التصريح به في
خبر الأسياف في الخاتمة المروي في الكافي والتهذيب وعمل به الأصحاب
ومنهم الناكثون أصحاب الجمل أعوان الامرأة، والقاسطون أهل الشام
والمارقون الخوارج الذين هم كلاب أهل النار، وقد مرقوا من الدين
كما يمرق السهم من الرمية، ولا يتجاوز الايمان تراقيهم، وقد بشر
النبي صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام بمباشرة قتالهم أجمع
من بعده كما تسمعه إنشاء الله في خبر الأسياف وغيره، وأنه الذي
يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو على تنزيله، وعن علي عليه السلام (2)
أنه قال: " أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ففعلت ما أمرت "

(1) الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو وسنن البيهقي
ج 8 ص 168.
(2) دعائم الاسلام ج 1 ص 388.
324

وقال عليه السلام أيضا (1) " والله ما وجدت إلا قتالهم أو الكفر
بما أنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله " وعن الباقر عليه
السلام (2) أنه ذكر الذين حاربهم علي عليه السلام فقال: " أما إنهم
أعظم حربا ممن حارب رسول الله صلى الله عليه وآله، قيل له وكيف
ذلك يا بن رسول الله؟ قال: لأن أولئك كانوا جاهلية وهؤلاء قرؤوا
القرآن وعرفوا فضل أهل الفضل، فأتوا ما أتوا بعد البصيرة ".
(و) كيف كان ف‍ (التأخر عنه كبيرة) بلا خلاف ولا
إشكال، خصوصا بعد أن كان من الجهاد، بل هو من أعظم أفراده، وفي خبر
هشام بن يزيد قال (3): " سمعت يزيد بن علي يقول: كان علي عليه
السلام) في حربه أعظم أجرا من قيامه مع رسول الله صلى الله عليه
وآله في حربه، قال: قلت: بأي شئ تقول أصلحك الله؟ قال:
فقال لي لأنه كان من رسول الله صلى الله عليه وآله تابعا، ولم يكن له
إلا أجر تبعيته، وكان في هذه متبوعا وكان له أجر كل من تبعه ".
(و) لكن (إذا قام به من فيه غنى سقط عن الباقين ما لم
يستنهضه الإمام عليه السلام على التعيين) إذ هو واجب كفاية كجهاد
المشركين، وحينئذ فالمراد من ندب الإمام أو منصوبه طلب من تقوم
به الكفاية من المسلمين، وإلا فلو أمرهم على العموم الاستغراقي وجب
امتثال أمره، فيكون عينيا من هذه الحيثية، كالذي يستنهضه الإمام
عليه السلام بخصوصه، كما هو واضح، وفي خبر محمد بن عمر بن

(1) المستدرك - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 12 - 13.
(2) المستدرك - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 12 - 13.
(3) التهذيب - ج 6 ص 170 الرقم 326 وفيه " قال: سمعت
زيد بن علي " وهو الصحيح.
325

علي عليه السلام (1) عن أبيه عن جده عليه السلام عن النبي
صلى الله عليه وآله المروي مسندا عن مجالس الحسن بن محمد الطوسي أنه قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: " إن الله تعالى قد كتب على المؤمنين
الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم الجهاد مع المشركين معي،
فقلت يا رسول الله: وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟ قال: فتنة
قوم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وهم مخالفون لسنتي
وطاعنون في ديني، فقلت: فعلى ما نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون
أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؟ فقال على إحداثهم في دينهم وفراقهم
لامري، واستحلالهم دم عترتي " الحديث، وعن علي عليه السلام (2)
" إنه حرض الناس على القتال يوم الجمل، فقال: قاتلوا أئمة الكفر
إنهم لا أيمان لهم، لعلهم ينتهون، ثم قال: والله ما رمي أهل هذه
الآية بسهم من قبل اليوم " وعنه عليه السلام أيضا (3) أنه قال يوم صفين:
" اقتلوا بقية الأحزاب وأولياء الشيطان، اقتلوا من يقول: كذب الله
ورسوله، وتقولون صدق الله ورسوله ".
(و) من ذلك وغير كان (الفرار في حربهم كالفرار في حرب
المشركين و) أنه (يجب مصابرتهم حتى يفيئوا أو يقتلوا) وإن استعاذوا
بالمصاحف والدعوة إلى حكم الكتاب لم يلتفت إلى قولهم إذا كان قد
دعوا إليه فامتنعوا فيقاتلون حينئذ حتى يصرحوا بالفئة على وجه لم يعلم
كونه خديعة، وما وقع من أمير المؤمنين عليه السلام في صفين كان
مغلوبا عليه من جيشه الذي كان أكثره من المخالفين، وإلا فهو قد

(1) الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 7.
(2) دعائم الاسلام ج 1 ص 389 - 390 المطبوعة عام 1383.
(3) دعائم الاسلام ج 1 ص 389 - 390 المطبوعة عام 1383.
326

صابرهم أي مصابرة خصوصا ليلة الهرير في وقعة صفين، وعن
عبد الرحمن السلمي (1) قال: " شهدت صفين مع علي عليه السلام
فنظرت إلى عمار بن ياسر وقد حمل فأبلي وانصرف وقد انثنى سيفه من
الضرب، وكان مع علي عليه السلام جماعة قد سمعوا قول رسول الله
صلى الله عليه وآله لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية، فكان لا يسلك
واديا إلا اتبعوه فنظر إلى هاشم بن عتبة المرقال صاحب راية علي عليه السلام
وقد ركز الراية وكان هاشم أعور فقال له عمار: يا هاشم عورا وجبنا
لا خير في أعور لا يغشى الناس، فانتزع هاشم الراية وهو يقول:
أعور يبغي أهله محلا * قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا
فقال عمار: أقدم يا هاشم - إلى أن قال: فحملا جميعا فما
رجعا حتى قتلا " وعن علي عليه السلام (2) " أنه أعطى الراية يوم
الجمل محمد بن الحنفية وأقامه بين يديه، وقدم الحسن عليه السلام على
الميمنة والحسين عليه السلام على الميسرة، ووقف خلف الراية على بغلة
رسول الله صلى الله عليه وآله الشهباء، قال ابن الحنفية: فدنى منا
القوم ورشقونا بالنبل، وقتلوا رجلا، فالتفت إلى أمير المؤمنين عليه السلام
فرأيته نائما قد استثقل نوما، فقلت يا أمير المؤمنين على مثل
هذا الحال تنام وقد فضخونا بالنبل وقتلوا رجلا منا، هلك الناس،
فقال علي عليه السلام لا أراك إلا تحن حنين العذراء الراية راية
رسول الله صلى الله عليه وآله، فأخذها فهزها وكانت الريح في وجوهنا
فانقلبت عليهم، فحسر علي عليه السلام عن ذراعه وشد عليهم فضرب

(1) دعائم الاسلام ج 1 ص 392 مع اختلاف يسير.
(2) دعائم الاسلام ج 1 ص 353.
327

بسيفه حتى صبغ كم قبائه وانحنى سيفه ".
وكيف كان فقتال البغاة كقتال المشركين في الوجوب وكفائيته وكون
تركه كبيرة، وأن الفرار منه لا خلاف أجده في شئ من ذلك
كما اعترف به في المنتهى، والنصوص من الطرفين وافية به كفعل علي
عليه السلام في قتال الفرق الثلاثة.
والمقتول مع العادل شهيد لا يغسل ولا يكفن بل يصلى عليه بلا
خلاف أجده فيه، بل ظاهر المنتهى الاجماع عليه، وبالجملة فهم
كالمشركين في أصل القتال والمصابرة ونحوهما مما تقدم هناك حتى بالنسبة
إلى قتل الوالد وغيره من الأرحام الذي حكي عن الشيخ هنا كراهته
بل في المنتهى نسبته إلى أكثر العلماء، وإن كان فيه أن التعارض مخصوص
بالوالد، للأمر (1) بالصحبة في الدنيا معروفا، ومع فرض التكافؤ
من جميع الوجوه يتجه التخيير، أما غير الوالد فهو باق على مقتضى
عموم القتل كالمشرك الرحم، بل يمكن منع التكافؤ في الأول، لقوة
دليل وجوب قتلهم المؤيد باعزاز الدين، ونهي النبي صلى الله عليه وآله
أبا بكر وأبا حذيفة عن قتل أبويهما لم يثبت من طرقنا والغرض من
ذلك بيان اتحاد كيفية قتال المشركين والبغاة من هذا الوجه (و) نحوه.
نعم (من كان من أهل البغي لهم فئة يرجع إليها جاز الاجهاز
على جريحهم واتباع مدبرهم وقتل أسيرهم، ومن لم يكن لهم فئة فالقصد
بمحاربتهم تفريق كلمتهم، فلا يتبع لهم مدبر ولا يجهز على جريح
ولا يقتل لهم مأسور) بلا خلاف أجده في شئ من ذلك، نعم في
الدروس ونقل الحسن أنهم يعرضون على السيف، فمن تاب منهم ترك

(1) سورة لقمان - الآية 14.
328

وإلا قتل، إلا أنه لم نعرف القائل به، بل المعلوم من فعل علي عليه السلام
في أهل الجمل خلافه، وحينئذ فلا خلاف معتد به فيه، بل في
المنتهى ومحكي التذكرة نسبته إلى علمائنا، بل عن الغنية الاجماع عليه
صريحا، وهو الحجة بعد خبر حفص بن غياث (1) " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن الطائفتين من المؤمنين إحداهما باغية والأخرى عادلة
فهزمت العادلة الباغية قال: ليس لأهل العدل أن يتبعوا مدبرا ولا
يجهزوا على جريح ولا يقتلوا أسيرا، وهذا إذا لم يبق من أهل البغي
أحد ولم يكن فئة يرجعون إليها، فإذا كانت لهم فئة يرجعون إليها فإن
أسيرهم يقتل، ومدبرهم يتبع، وجريحهم يجهز عليه " وخبر الحسن بن
علي بن شعبة المروي عن تحف العقول (2) عن أبي الحسن الثالث عليه
السلام أنه قال في جواب مسائل يحيى بن أكثم: " وأما قولك إن عليا
عليه السلام قتل أهل صفين مقبلين ومدبرين وأجهز على جريحهم، وأنه
يوم الجمل لم يتبع موليا، ولم يجهز على جريح، ومن ألقى سلاحه أمنه
ومن دخل داره أمنه، إن أهل الجمل قتل إمامهم ولم تكن لهم فئة
يرجعون إليها، وإنما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين
ولا منابذين، ورضوا بالكف عنهم، فكان الحكم فيهم رفع السيف
عنهم، والكف عن أذاهم إذا لم يطلبوا عليه أعوانا، وأهل صفين كانوا
يرجعون إلى فئة مستعدة، وإمام يجمع لهم السلاح والدروع والرماح
والسيوف، ويسني لهم العطاء، ويهيئ لهم المنازل، ويعود مريضهم
ويجبر كسيرهم، ويداوي جريحهم، ويحمل راجلهم، ويكسو حاسرهم
ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم، فلم يساو بين الفريقين في الحكم

(1) الوسائل - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 4.
(2) الوسائل - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 4.
329

لما عرفت من الحكم في قتال أهل التوحيد، لكنه شرح ذلك لهم، فمن
رغب عرض على السيف أو يتوب عن ذلك " وعن شريك (1) قال:
" لما هزم الناس يوم الجمل قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تتبعوا
موليا ولا تجهزوا على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، فلما كان يوم
صفين قتل المقبل والمدبر وأجاز على جريح، فقال أبا بن تغلب لعبد الله
ابن شريك هاتان سيرتان مختلفتان، فقال: إن أهل الجمل قتل طلحة
والزبير وأن معاوية كان قائما بعينه، وكان قائدهم " وفي الدعائم (2)
عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: " سار علي عليه السلام بالمن
والعفو في عدوه من أجل شيعته، لأنه كان يعلم أنه سيظهر عليهم عدوهم
من بعده، فأحب أن يقتدي من جاء بعده به، فيسير في شيعته بسيرته
ولا يجاوز فعله، فيرى الناس أنه قد تعدى وظلم إذا انهزم أهل البغي
وكان لهم فئة يلجئون إليها طلبوا وأجهز على جرحاهم واتبعوا وقتلوا
ما أمكن اتباعهم وقتلهم، وكذلك سار علي عليه السلام في أصحاب
صفين، لأن معاوية كان وراءهم، وإذا لم يكن لهم فئة لو يطلبوا ولم يجهز
على جرحاهم، لأنهم إذا ولوا تفرقوا " إلى غير ذلك من النصوص التي
قد تظافرت في أنه عليه السلام سار في أهل الجمل بالمن والعفو.
قال أبو حمزة الثمالي (3) " قلت لعلي بن الحسين عليهما السلام بما
سار علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: إن أبا اليقظان كان رجلا
حادا رحمه الله فقال يا أمير المؤمنين: بم تسير في هؤلاء غدا؟ فقال

(1) الوسائل - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 3.
(2) ذكر صدوره في المستدرك في الباب 23 من أبواب جهاد العدو
الحديث 4 وذيله في الباب 22 منها الحديث 1.
(3) الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 4.
330

بالمن كما سار رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل مكة " وعن الأصبغ (1)
" إن أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل لما قتل طلحة والزبير وقبض
على عائشة وانهزم أصحاب الجمل نادى مناديه لا تجهزوا على جريح،
ولا تتبعوا مدبرا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ثم دعا ببغلة رسول الله
صلى الله عليه وآله الشهباء فركبها، ثم قال: تعال يا فلان، وتعال
يا فلان حتى جمع إليه زهاء من ستين شيخا، كلهم من همدان قد تنكبوا
الترسة وتقلدوا السيوف ولبسوا المغافر، فسار وهم حوله حتى انتهى إلى
دار عظيمة فاستفتح ففتح له، فإذا هو بنساء يبكين بفناء الدار، فلما
نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن هذا قاتل الأحبة، فلم يقل لهن
شيئا، وسأل عن حجرة عائشة ففتح له بابها وسمع بينهما كلام شبيه
بالمعاذير لا والله وبلى والله، ثم خرج فنظر إلى امرأة أدماء طويلة فقال
لها يا صفية فأتته مسرعة، فقال ألا تبعدين هؤلاء الكلبات يزعمن أني
قاتل الأحبة ولو كنت قاتل الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة ومن في هذه
وأومأ إلى ثلاث حجر، فذهبت إليهن وقالت لهن فما بقيت في الدار
صائحة إلا سكتت ولا قائمة إلا قعدت، قال الأصبغ وكان في إحدى
الحجر عائشة ومن معها من خاصتها، وفي الأخرى مروان بن الحكم
وشباب من قريش، وفي الأخرى عبد الله بن الزبير وأهله فقيل للأصبغ
فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء فقتلتموهم أليس هؤلاء كانوا أصحاب
القرحة فلم استبقيتموهم قال: قد ضربنا والله بأيدينا إلى قوائم سيوفنا
وأحددنا أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر فما فعل وأوسعهم عفوا "
ولعله لهذه النصوص ونحوها قال الشيخ وابنا إدريس وحمزة فيما
حكي عنهم إنه يعتبر في جريان حكم البغاة كونهم في منعة وكثرة لا

(1) المستدرك - الباب 22 من أبواب جهاد الحديث 1.
331

يمكن كفهم وتفريق جمعهم إلا بالاتفاق وتجهيز الجيوش والقتال، فأما
إن كانوا نفرا يسيرا كالواحد والاثنين والعشرة وكيدهم ضعيف لم يجر
عليهم حكم أهل البغي، وهو المحكي عن الشافعي، مستدلين عليه بأن
ابن ملجم (1) لما جرح عليا عليه السلام وقبض عليه أوصى أمير المؤمنين
عليه السلام بالاحسان إليه، وقال: " إن برئت فأنا أولى بأمري وإن
مت فلا تمثلوا به " ولكن عن بعض الجمهور جريان حكم البغاة حتى
على الواحد إذا خرج بالسيف، بل في المنتهى وعن التذكرة أنه قوي
بل قيل إنه مقتضى إطلاق المتن والقواعد والإرشاد وغيرها، وإن كان
قد يناقش بانسياق غير ذلك من الاطلاق المزبور، خصوصا بعد ذكرهم
الفئة ونحوها مما يظهر منه الاجتماع المعتد به، ولا أقل من الشك،
فيبقى الأصل حينئذ بحاله، نعم يجري عليهم حكم المحارب لو فرض
إشهاره للسلاح أو غيره مما يندرج فيه.
وحكي عن الشيخ أيضا وابني حمزة وإدريس اشتراط الخروج عن
قبضة الإمام منفردين عنه في بلد أو بادية في جريان حكم البغاة أما
لو كانوا معه وفي قبضته فليسوا أهل بغي، ولعله للمرسل (2) " إن
عليا عليه السلام كان يخطب فقال رجل بباب المسجد لا حكم إلا لله
تعريضا بعلي عليه السلام أنه حكم في دين الله الرجال، فقال علي عليه السلام
كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث، لا نمنعكم مساجد الله
أن تذكروا اسم الله فيها، ولا نمنعكم الفيئ ما دامت أيديكم معنا
ولا نبدأكم بقتال " إذ المراد من قوله عليه السلام " ما دامت أيديكم
معنا " عدم الانفراد، ولكنه مرسل غير جامع لشرائط الحجية، نعم

(1) الوسائل - الباب 62 من أبواب القصاص في النفس الحديث 4.
(2) المستدرك - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 9.
332

قد يقال إن حكم البغاة لم يعلم إلا من فعل علي عليه السلام كما
اعترف به الشافعي وغيره، ولم يثبت لنا شئ من فعله فيما عدا
الفرق الثلاثة، وقد كانوا كذلك.
وربما حكي عنهم أيضا اشتراط أن يكونوا على المبائنة بتأويل
يعتقدونه، ولم نجد لهم ما يدل عليه، بل الواقع من علي عليه السلام
من أهل الجمل وصفين خلافه، ضرورة عدم شبهة لهم، نعم قد كان
ذلك في خصوص الخوارج، ففي خبر السكوني (1) عن جعفر عن أبيه
عن آبائه عليهم السلام " لما فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من أهل
النهر قال لا يقاتلهم أحد بعدي إلا من هم أولى بالحق منه " كما
هو المحكي عن خط العلامة بيده، فيكون حينئذ إخبارا لا نهيا، وفي
بعض " إلا من هو أولى بالحق منهم " وفي خبره الآخر (2) عن جعفر
عن أبيه عليهما السلام أيضا قال: " ذكرت الحرورية عند علي عليه
السلام قال: إن خرجوا على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم، وإن
خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم، فإن لهم في ذلك مقالا " وفي
خبر جميل بن دراج (3) قال " قال رجل لأبي عبد الله عليه السلام
الخوارج شكاك فقال: نعم، قال: فقال بعض أصحابه: كيف وهم
يدعون إلى البراز، قال: ذلك مما يجدون في أنفسهم " وفي نهج
البلاغة (4) عن أمير المؤمنين عليه السلام " لا تقتلوا الخوارج بعدي،
فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه يعني معاوية

(1) الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 6 - 13
(2) الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو 3 عن
ابن المغيرة إلا أن الموجود في علل الشرائع عن السكوني.
(3) الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 6 - 13
(4) الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 6 - 13
333

وأصحابه " والغرض من ذلك تنقيح موضوع البغاة على وجه تجري عليه
أحكامهم، وإلا فقد يجب قتلهم لكونهم محاربين، أو لأنهم نصاب،
ولاستحلالهم دماء المسلمين وتكفيرهم أمير المؤمنين عليه السلام ونحو
ذلك مما هو ضروري الدين، أو لغير ذلك من موجبات القتل
التي هي مذهبهم، فإنهم لم يبقوا على ما كانوا حال خروجهم، بل صارت
لهم عقائد ملعونة خرجوا بها عن ربقة الاسلام، ولذا حكم الأصحاب
بنجاستهم في كتاب الطهارة من غير خلاف يعرف فيه بينهم.
وكيف كان فقد عرفت عدم اعتبار الشبهة أيضا في البغي للقطع
بكون أهل الجمل وصفين منهم، ولا شبهة لهم، كما أن من حكم
أهل البصرة والنهر يعلم أيضا عدم اعتبار نصب أمام لأنفسهم كما
عن بعض العامة.
نعم الظاهر عدم الخلاف بل والاشكال في اعتبار إرشادهم قبل
القتل، وذكر ما يزيح عنهم الشبهة كما فعله أمير المؤمنين عليه السلام
في حربهم بنفسه وبرسله حتى ما ذكر لهم جريا على مذاقهم، ولم
يكتف بذلك حتى بدأوه بالحرب ففعل بهم ما فعل، والله العالم.
(مسائل: الأولى لا يجوز سبي ذراري البغاة) وإن تولدوا بعد
البغي (ولا تملك نسائهم إجماعا) محصلا ومحكيا عن التحرير وغيره
بل عن المنتهى " نفي الخلاف فيه بين أهل العلم " وعن التذكرة " بين
الأمة " لكن في المختلف والمسالك نسبته إلى المشهور، ولعله لما في
الدروس، قال: ونقل الحسن أن للإمام عليه السلام ذلك إن شاء،
لمفهوم قول علي عليه السلام " إني مننت على أهل البصرة كما من
رسول الله صلى الله عليه وآله على أهل مكة، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله أن
يسبي فكذا الإمام عليه السلام " وهو شاذ، قلت: بل لم نعرفه لأحد
334

منا، مع احتمال كون مراده أنه قد كان ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام
لو أراده، إلا أن التقية جعلت الحكم كذلك كما استفاضت به
النصوص، ففي خبر عبد الله بن سليمان (1) " قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: إن الناس يروون أن عليا عليه السلام قتل أهل البصرة
وترك أموالهم، فقال: إن دار الشرك يحل ما فيها، وأن دار الاسلام
لا يحل ما فيها، فقال: إن عليا عليه السلام إنما من عليهم كما من
رسول الله صلى الله عليه وآله على أهل مكة، وإنما ترك علي عليه اسلام
لأنه كان يعلم أنه سيكون له شيعة، وأن دولة الباطل ستظهر عليهم،
فأراد أن يقتدى به في شيعته، وقد رأيتم آثار ذلك هو ذا سائر في
الناس سيرة علي عليه السلام، ولو قتل علي عليه السلام أهل البصرة
جميعا واتخذ أموالهم لكان ذلك له حلالا، لكنه من عليهم ليمن على
شيعته من بعده " وخبر زرارة (2) عن أبي جعفر عليه السلام
" لولا أن عليا عليه السلام سار في أهل حربه بالكف عن السبي والغنيمة
للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما، ثم قال: والله لسيرته كانت خيرا
لكم مما طلعت عليه الشمس " وخبر أبي بكر الحضرمي (3) " سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: لسيرة علي عليه السلام في أهل البصرة
كانت خيرا لشيعته مما طلعت عليه الشمس، إنه علم أن للقوم دولة،
فلو سباهم لسبيت شيعته، قلت فأخبرني عن القائم عليه السلام يسير
بسيرته، قال: لا إن عليا سار فيهم بالمن لما علم من دولتهم، وإن
القائم عليه السلام يسير فيهم بخلاف تلك السيرة، لأنه لا دولة لهم "
وخبر الحسن بن هارون بياع الأنماط (4) قال: " كنت عند أبي عبد الله

(1) الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 6 - 8 - 1 - 3.
(2) الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 6 - 8 - 1 - 3.
(3) الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 6 - 8 - 1 - 3.
(4) الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 6 - 8 - 1 - 3.
335

عليه السلام جالسا فسأله معلى بن خنيس أيسير الإمام عليه السلام
بخلاف سيرة علي عليه السلام؟ قال: نعم، وذلك أن عليا سار بالمن
والكف لأنه علم أن شيعته سيظهر عليهم، وأن القائم عليه السلام إذا
قام سار فيهم بالسيف والسبي لأنه يعلم أن شيعته لن يظهر عليهم من
بعده أبدا " إلى غير ذلك من النصوص المروية في الكافي والتهذيب وغيرهما
بل يمكن دعوى القطع بمضمونها إن لم يمكن دعوى تواترها
بالمعنى المصطلح، فلعل القائل المزبور أراد هذا المعنى، لا أن المراد
جواز السبي في زمان الهدنة إلى ظهور صاحب الأمر عليه السلام، قال
محمد بن مسلم (1) " سألت أبا جعفر عليه السلام عن القائم عليه السلام
إذا قام بأي سيرة يسير في الناس فقال: بسيرة ما سار به
رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يظهر الاسلام، قلت: وما كانت سيرة
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: أبطل ما كان في الجاهلية واستقبل
الناس بالعدل، وكذلك القائم عليه السلام إذا قام يبطل ما كان في
الهدنة مما كان في أيدي الناس ويستقبل بهم العدل " ولا ينافي ذلك ما
في جملة من النصوص من جواب علي عليه السلام لما سئل عن السبي
فقال: " أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه " منها خبر مروان بن
الحكم (2) قال: " لما هزمنا علي بالبصرة رد على الناس أموالهم، من
أقام بينة أعطاه، ومن لم يقم بينة أحلفه، فقال له قائل يا أمير المؤمنين
أقسم الفيئ بيننا والسبي، قال: فلما أكثروا قال: أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه،
فكفوا " وعن الصدوق رحمه الله قد روي (3) " أن الناس اجتمعوا إلى

(1) الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 5 - 7.
(2) الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 5 - 7.
(3) الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 5 - 7.
336

أمير المؤمنين عليه السلام يوم البصرة فقالوا يا أمير المؤمنين أقسم بيننا
غنائمهم، قال أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه " ضرورة كون ذلك منه
إسكاتا للخصم، وإلا فالأصل هو ما تضمنته النصوص السابقة الذي لا يمكنه
أن يبوح به، فإن أكثر جيشه مخالفون كما صرح عليه السلام به في بعض
خطبه، بل هو من المعلوم من كتب السير والتواريخ، ويكفيك خبر النهي (1)
عن الاجتماع في نافلة شهر رمضان المشتمل على صيحة الكوفة من جميع
جوانبها وا سنة عمراه فكف عن النهي عن ذلك، فالعمدة حينئذ هذا
وهو تكليف كالأصلي، بل الأجر في التعبد به أعظم من الأجر بالعمل
بالأول حال عدم التقية، وإلا فقوله عليه السلام: " أيكم يأخذ
أم المؤمنين " إلى آخره يمكن الجواب عنه باستثنائها خاصة، إلا أنه
عليه السلام أبدى ذلك إسكاتا لهم وجوابا على ما عندهم من الاعتقاد،
وبه قطع حجة الخوارج لما أنكروا عليه ما فعله بالبصرة من سفك الدماء
وعدم السبي أو غير ذلك من الحكم التي هو أدرى بها، ولكن الأمر
المخزون المكنون هو الذي أبداه أئمة الهدى عليهم السلام، على أنه
عليه السلام مع منه عليهم بما من وكانت سيرته معلومة لديهم وقد
فعلوا في كربلاء ما فعلوا.
ومما تضمنته النصوص المزبورة تنكشف الشبهة عن جملة من الأمور،
منها نكاح عمر لأم كلثوم، ومنها ملاقاتهم بالرطوبة ونحوها وغير ذلك
من المعاملة معاملة المسلم الحقيقي، وحاصله أن هذا الزمان المسمى
في النصوص بزمان الهدنة يجري عليهم فيه جميع أحكام المسلمين في
الطهارة وأكل الذبائح والمناكحات وحرمة الأموال ونحو ذلك حتى يظهر

(1) الوسائل - الباب 10 من أبواب نافلة شهر رمضان من
كتاب الصلاة
337

الحق فيجرى عليهم حينئذ حكم الكفار الحربيين، ومنه خبر مسعدة بن
زياد (1) المروي قرب الإسناد عن جعفر عن أبيه عليهم السلام " إن
عليا عليه السلام لم يكن ينسب أحدا من أهل البغي إلى الشرك ولا إلى
النفاق، ولكن كان يقول: إخواننا بغوا علينا " وخبر الفضل بن
شاذان (2) عن الرضا عليه السلام المروي مسندا عن العيون في حديث
طويل " فلا يحل قتل أحد من النصاب والكفار في دار التقية إلا قاتل
أو ساع في فساد، وذلك إذا لم تخف على نفسك وأصحابك " وفي
الدعائم (3) عن علي عليه السلام " أنه سئل عن الذين قاتلهم من أهل
القبلة أكافرون هم؟ قال: كفروا بالأحكام وكفروا بالنعم، ليس كفر
المشركين الذين دفعوا النبوة ولم يقروا بالاسلام، ولو كانوا كذلك ما حلت
لنا مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا مواريثهم " إلى غير ذلك من النصوص
الدالة على جريان حكم المسلمين على البغاة من حيث البغي في زمن
الهدنة، فضلا عما هو المعلوم من تتبع كتب السير من مخالطتهم وعدم
التجنب عن أسئارهم وغير ذلك من أحكام المسلمين، وإن وجب قتالهم
على الوجه الذي ذكرناه، لكن ذلك أعم من الكفر، نعم الخوارج منهم
قد اتخذوا بعد ذلك دينا، واعتقدوا اعتقادات صاروا بها كفارا لا من
حيث كونهم بغاة، وأما تغسيلهم ودفنهم والصلاة عليهم فقد فرعه بعضهم
على الكفر وعدمه، ولكن قد يقال بعدم وجوب ذلك وإن لم نقل بكفرهم
حال حياتهم، ولكن لهم حكمهم بعد موتهم كما سمعته سابقا في
مطلق منكر الإمامة.

(1) الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 10 - 9
(2) الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 10 - 9
(3) المستدرك - الباب - 24 - من أبواب جهاد العدو - الحديث 14.
338

ومن ذلك يعلم الحال في المسألة (الثانية) التي هي (لا يجوز
تملك شئ من أموالهم التي لم يحوها العسكر سواء كانت مما تنقل
كالثياب والآلات أو لا تنقل كالعقارات، لتحقق الاسلام المقتضي لحقن
الدم والمال) بلا خلا أجده في شئ من ذلك، بل في المسالك هو
موضع وفاق، بل في صريح المنتهى والدروس ومحكي الغنية والتحرير
الاجماع عليه، بل يمكن دعوى القطع به بملاحظة ما وقع من
أمير المؤمنين عليه السلام في حرب أهل البصرة والنهر بعد الاستيلاء
عليهم، مضافا إلى ما سمعته من النصوص السابقة، نعم ما حكاه الحسن
ابن أبي عقيل مثله يأتي هنا أيضا، وقد سمعت تحقيق الحال فيه على
وجه لا يقدح في محكي الاجماع ولا محصله، فمن الغريب دعوى بعض
الناس الشهرة سابقا بالنسبة إلى سبي الذرية والنساء، والاجماع في
المقام على عدم جواز تملك المال الذي لم يحوه العسكر مع اتحاد المقامين،
ولكن الأمر سهل.
(وهل يؤخذ ما حواه العسكر مما ينقل ويحول) كالسلاح
والدواب وغيرهما (قيل) والقائل المرتضى وابن إدريس والفاضل في
جملة من كتبه والشهيد في الدروس على ما حكي عن بعضهم (لا)
يؤخذ (لما ذكرناه من العلة) التي قد عرفت دلالة النصوص عليها
عموما وخصوصا، بل عن الناصريات لا أعلم خلافا من الفقهاء فيه،
وعن السرائر إجماعنا بل المسلمين عليه، وعن التذكرة نسبته إلى كافي
العلماء (وقيل) والقائل العماني والإسكافي والشيخ في محكي الخلاف
والنهاية والجمل والقاضي والحلبي وابن حمزة والفاضل في المختلف وثاني
الشهيدين والكركي على ما حكي عن بعضهم (نعم) يؤخذ (عملا
بسيرة علي عليه السلام، وهو الأظهر) عند المصنف وفي المختلف نسبته
339

إلى الأكثر، وعن الخلاف ما يحويه عسكر البغاة يجوز أخذه والانتفاع
به، ويكون غنيمة يقسم في المقاتلة، وما لم يحوه العسكر لا يتعرض له،
واستدل على ذلك باجماع الفرقة وأخبارهم، وهو جيد لو ثبت أن ذلك
سيرة علي عليه السلام، ضرورة كونها حينئذ المخصصة للعمومات الدالة
على حرمة مال المسلم، ودعواها من المصنف وغيره معارضة بدعواها
من غير كالشهيد في الدروس وغيره على العكس، حتى استدل بها على
العدم، قال: وهو الأقرب عملا بسيرة علي عليه السلام في أهل البصرة،
فإنه أمر برد أموالهم، فأخذت حتى القدور، كما أن ما عن العماني
من أنه روي (1) " أن رجلا من عبد القيس قام يوم الجمل فقال
يا أمير المؤمنين عليه السلام: ما عدلت حين تقسم بيننا أموالهم ولا تقسم
بيننا نسائهم ولا أبنائهم، فقال له: إن كنت كاذبا فلا أماتك الله حتى
تدرك غلام ثقيف، وذلك أن دار الهجرة حرمت ما فيها، وإن دار
الشرك أحلت ما فيها، فأيكم يأخذ أمه من سهمه، فقام رجل فقال:
وما غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ فقال: عبد لا يدع لله حرمة إلا انتهكها
قال: يقتل أو يموت قال: بل يقصمه الله قاصم الجبارين " والشيخ في
المبسوط روي أصحابنا (2) " إن ما يحويه العسكر من الأموال فإنه
يقسم " معارض بما عن المبسوط من أنه روي " أن عليا عليه السلام
لما هزم الناس يوم الجمل قالوا له يا أمير المؤمنين ألا نأخذ أموالهم؟
قال: لا لأنهم تحرموا بحرمة الاسلام، فلا تحل أموالهم في دار
الهجرة " وفيه أيضا روي أبو قيس " أن عليا عليه السلام نادى من

(1) المستدرك - الباب - 23 - من أبواب جهاد العدو - الحديث 10
إلا أنه ترك ذيله.
(2) الوسائل - الباب - 41 - من أبواب جهاد العدو.
340

وجد ماله فليأخذه، فمر بنا رجل فعرف قدرا نطبخ فيها فسألناه أن
يصبر حتى ينضج فلم يفعل فرمى برجله فأخذه " وبما تقدم من خبر مروان
وغيره مما سبق مضافا إلى العلة المزبورة، ولعل الجمع بين النصوص أنه
عليه السلام قد أذن لهم بأخذ المال الذي عند العسكر ثم بعد أن
وضعت الحرب أوزارها غرمه من بيت المال لأهله حتى أنه عليه السلام
كان يكتفي من المدعي باليمين.
وأما إجماع الخلاف فمعارض بما سمعته من الاجماع على عكسه،
وعدالة العماني مع أنه مرسل لا تقتضي صحة الرواية، كقول الشيخ في
المبسوط روى أصحابنا خصوصا بعد أن روي في الخلاف ما سمعت فلا أقل
من التعارض، فتبقى العمومات حينئذ سليمة، خصوصا بملاحظة
ما سمعته من مراعاة علي عليه السلام حال شيعته من بعد.
نعم لا يضمن ما تلف من مال الباغي حال الحرب من دابة أو
سلاح أو غيرهما وإن كان المباشر لاتلافه تابع العادل، لأن السبب فيه
أقوى من المباشر، ولذا لم يضمن لعايشة جملها الذي كان شيطانا حين
أمر بعقره، بل الأمر بقتالهم ودفاعهم يستلزم عرفا ذلك، بل عن
أبي حنيفة والمرتضى منا جواز الانتفاع بدوابهم وسلاحهم حال الحرب
في قتالهم، وهو لا يخلو من وجه، لاطلاق الأمر بقتالهم، خلافا للشافعي
فالأظهر حينئذ الأول لا الثاني، ومن ذلك يظهر لك ما في المختلف فإنه
أطنب في الاستدلال بأمور ما كنا لنؤثر وقوعها منه، منها أن القائل
بالأخذ أكثر فالظن به أقوى، ومنها أن المرسل للرواية العماني وهو
شيخ من علمائنا تقبل مراسيله، ومنها أن البغاة عند بعض علمائنا
كفار، وهي كغيرها مما ذكره بعد كما ترى، والله العالم.
المسألة (الثالثة ما حواه العسكر للمقاتلة خاصة يقسم للراجل
341

سهم وللفارس سهمان ولذي الفرسين أو الأفراس ثلاثة) بلا خلاف
أجده بين القائلين به، ولعله لالحاق حكم البغاة بحكم أهل الحرب
في ذلك، لما سمعته من بعض النصوص الدالة عليه كخبر أبي البختري (1)
عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم السلام " القتل
قتلان قتل كفارة وقتل درجة، والقتال قتالان قتال الفئة الباغية حتى
يفيئوا، وقتال الفئة الكافرة حتى يسلموا " ونحوه ما يستفاد منه كونهم
كأهل الحرب، وحينئذ يتجه في غنيمتهم ما سمعته في قسمة الغنيمة من
إخراج الخمس وغيره مما تقدم سابقا، لكن لم يحك من فعل أمير المؤمنين
عليه السلام الذي هو الأصل في حكم البغاة كما اعترف به المؤالف
والمخالف مراعاة شئ من ذلك، بل لعل المتحقق خلافا، نعم قد
أخذ الناس ما أخذوا وفيهم الأعراب وغيرهم ممن لا معرفة ولا مبالاة
له في هذه الأمور، ولذا نادى مناديه بما سمعت، وغرم للمدعي بيمينه،
ومن ذلك يظهر لك زيادة على ما عرفت ضعف القول الثاني المتقدم في
المسألة الثانية الذي مبني الحكم هنا عليه، كما هو واضح.
ولو تترسوا بالأطفال ونحوهم ممن هو غير مقاتل ولم يمكن التوصل
إليهم إلا بقتلهم قتلوا كما سمعته في المشركين، ترجيحا لما دل على
قتالهم على حرمة النساء والأطفال، كما أنهم كذلك لو قاتلوا
معهم، ولذا رشق الهودج بالنبال، وإن استؤسروا أطلقوا، لكن عن
الشيخ في الخلاف أنهم يحبسون، وفي الدروس وهو ظاهر ابن الجنيد،
ولم نعرف مأخذه، وإذا استؤسر منهم مقاتل ففي الدروس " حبس
حتى تنقضي الحرب، لكن في بعض الأخبار (2) أن عمارا جاء

(1) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب جهاد العدو - الحديث 11
(2) المستدرك - الباب - 21 - من أبواب جهاد العدو - الحديث 2.
342

لأمير المؤمنين عليه السلام بأسير منهم فقتله، والله العالم ".
(خاتمة منع الزكاة لا مستحلا فليس بمرتد) قطعا كمن
ترك الصلاة والصوم، وإطلاق ذلك عليه في بعض النصوص (1) منزل
على إرادة بيان عظم الذنب وعظم العقوبة (و) لكن (يجوز قتاله
حتى يدفعها) كما صرح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا كما
اعترف به بعضهم، بل عن المنتهى نسبته إلى قول العلماء، بل في محكي
التذكرة الاجماع عليه، وهو الحجة بعد خبر أبان بن تغلب (2) عن
الصادق عليه السلام " دمان في الاسلام حلال من الله تعالى لا يعصي
فيهما أحد حتى يبعث الله قائمنا أهل البيت عليهم السلام - إلى أن
قال - الزاني المحصن نرجمه، ومانع الزكاة نضرب عنقه " وإن كان يمكن
حمله على مستحل المنع من المسلمين الذي لا إشكال ولا خلاف في كفره
بانكاره الضروري كغيرها من الضروريات، فحكمه حينئذ حكم المرتد
أما الأول فليس بمرتد قطعا، خلافا للعامة فسموه مرتدا تبعا لما وقع
من أبي بكر في قوم منعوا الزكاة، فأرسل إليهم خالد بن الوليد لعنه الله
فقتل رجالهم وسبى نسائهم حتى دخل بزوجة مالك في تلك الليلة،
ولكن ذلك قد كان لأغراض فاسدة، خصوصا بعد أن كان منعها عليه
منهم لعدم إمامته المقتضية وجوب طاعتهم له، وهذا هو الذي دعاه إلى
ذلك، وإلا فمانع الزكاة عاص يقهر على أخذها منه، فإن لم يمكن
إلا بالقتال قوتل، وهل غير الزكاة كذلك لم يحضرني الآن من تعرض لذلك.
ولكن يقوى في النظر إلحاق الخراج ونحوه من الحقوق العامة بها

(1) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب ما تجب فيه الزكاة.
(2) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب ما تجب فيه الزكاة
الحديث 6.
343

في ذلك، كما يلوح من توعد أمير المؤمنين عليه السلام ابن عباس (1)
لما أخذ خراج البصرة وهرب، بل فيه أنه لو فعل ذلك الحسن والحسين
عليه السلام لفعلت كذا وكذا، بل لعل الخمس أيضا كذلك، إذ
الظاهر كون الوجه منع الناس حقوقها، وهو مشترك بين الجميع، ولكن
ذلك كله من وظائف الإمام عليه السلام الذي يجوز له القتال مع كل
من خالف أمره في حق وجب عليه أداؤه كما عساه يشعر به ما صنعه
أمير المؤمنين عليه السلام حال قتال الخوارج فإنه قد طالبهم على ما في
بعض الأخبار بالقود عن شخص قتلوه، فقالوا نحن جميعا قتلناه،
وأبوا فنابذهم، كما أن كثيرا من الأحكام التي تقدمت مخصوصة به لا يتعدى
منه إلى غيره، والله العالم.
(ومن سب الإمام العادل وجب قتله) بلا خلاف أجده فيه،
بل في ظاهر المنتهى ومحكي التذكرة الاجماع عليه، كما عن صريح
جماعة، وهو الحجة بعد قول النبي (2) صلى الله عليه وآله وسلم " من
سمع أحدا يذكرني فالواجب عليه أن يقتل من شتمني، ولا يرفع إلى
السلطان، وإذا رفع إليه كان عليه أن يقتل من نال مني " المتمم بعدم القول
بالفصل بينه وبين غيره من الأئمة عليهم السلام الذين سبهم سبه أيضا
مع ما في آخر (2) " عمن سمع يشتم عليا عليه السلام فقال والله حلال
الدم " بل لعل إطلاق الفتاوى كصريح بعض النصوص عدم التوقف
على إذن الإمام عليه السلام كما عن الغنية الاجماع عليه، بل لا ريب

(1) البحار - ج 42 ص 181 الطبع الحديث.
(2) الوسائل - الباب - 25 من أبواب حد القذف - الحديث 2
(3) الوسائل - الباب - 27 من أبواب حد القذف - الحديث 2
344

في اندراج الساب من المسلمين في الناصب الذي ورد فيه (1) أنه حلال
الدم والمال، بل ينبغي القطع بكفر الساب مع فرض استحلاله، إذ
هو من منكري الضرورة حينئذ، بل الظاهر كفره وإن لم يكن مستحلا
باعتبار كونه فعل ما يقتضي الكفر، كهتك حرمة الكعبة والقرآن،
بل الإمام أعظم منهما، ولعله ظاهر المنتهى وغيره، لتعليله القتل بأنه
كافر مرتد.
بل الظاهر إلحاق سب فاطمة عليها السلام بهم وكذا باقي الأنبياء
عليهم السلام بل والملائكة، إذ الجميع من شعائر الله تعالى شأنه،
فهتكها هتك حرمة الله تعالى شأنه، بل لا يبعد القول بقتل الساب حدا
وإن تاب وقلنا بقبول توبته كالمرتد الفطري وإن لم يكن منه.
نعم لا ينبغي التغرير بالنفس في زمان الهدنة إذا سمع العارف
السب من بعض المخالفين، قال الصادق عليه السلام في خبر إسحاق
ابن عمار (2) " لولا إنا نخاف عليكم أن يقتل رجل منكم برجل منهم
ورجل منكم خير من ألف رجل منهم لأمرناكم بالقتل لهم، ولكن
ذلك إلى الإمام عليه السلام " وقد تقدم خبر الفضل بن شاذان (3) وعن
الريان بن الصلت (4) " قلت للرضا عليه السلام إن العباسي يسمعني
فيك ويذكرك كثيرا وهو كثيرا ما ينام عندي ويقيل فترى أن آخذ
عليه وأعصره حتى يموت ثم أقول مات فجائة فقال ونفض يديه ثلاث
مرات لا يا ريان، فقلت: إن الفضل بن سهل هو ذا يوجهني إلى العراق
في أمواله والعباسي خارج بعدي بأيام إلى العراق فترى أن أقول لمواليك

(1) الوسائل - الباب - 27 - من أبواب حد القذف الحديث 5
(2) الوسائل - الباب 26 - من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 9 - 12.
(3) الوسائل - الباب 26 - من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 9 - 12.
(4) الوسائل - الباب 26 - من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 9 - 12.
345

القميين أن يخرج منهم عشرون وثلاثون رجلا كأنهم قاطعوا طريق أو
صعاليك فإذا اجتاز بهم قتلوه فيقال قتله الصعاليك فسكت فلم يقل نعم
ولا لا قلت: لعله لعدم وثوقه باستتار الأمر، وإلا فلا إشكال في
الجواز بل الوجوب معه، وقد أشبعنا الكلام في المسألة في مقام آخر،
ولو عرض بالسب عزر كما في غيره، خلافا لبعض العامة فلم يوجبه،
لعدم تعزير علي عليه السلام من عرض له بنحو ذلك المحتمل وجوها
متعددة، والله العالم.
(وإذا قاتل الذمي مع أهل البغي خرق الذمة) بلا خلاف
أجده فيه بل ولا إشكال بعد أن كان عقدها على خلاف ذلك، فيجري
عليه الحكم الحربي حينئذ، نعم عن التذكرة والمنتهى وغيرهما قبول
دعواه لو ادعى الشبهة المحتملة في حقه، فيبقى على ذمته حينئذ، وفي
الدروس لو ادعوا الجهل أو الاكراه فالأقرب القبول، ولا بأس به.
(وللإمام عليه السلام أن يستعين بأهل الذمة) مع الضرورة
(في قتال أهل البغي) الذين هم كأهل الحرب، وقد استعان
رسول الله صلى الله عليه وآله بأهل الذمة عليهم (1) كما تقدم
سابقا بلا خلاف أجده فيه إلا من الشيخ في محكي المبسوط، بل في المنتهى
هو خلاف ما عليه الأصحاب، وإنما سار إليه لتخريج من الشافعي،
وهو أن أهل الذمة يقتلون أهل البغي مقبلين ومدبرين، وذلك غير جائز
وهو كما ترى، خصوصا بعد أن كان في عسكر علي عليه السلام يوم
الجمل مثل من قتل الزبير وهو نائم تحت شجرة وقتل محمد بن طلحة

(1) كتاب نصب الراية ج 3 ص 422.
346

ولم يكن يقاتل بل قيل نهى علي عليه السلام عن قتله وغيره ممن
لا يعرف هذه الحدود، ويخطر في البال أن عليا عليه السلام كان يجوز
له قتل الجميع إلا خواص شيعته، لأن الناس جميعا قد ارتدوا بعد
النبي صلى الله عليه وآله يوم السقيفة إلا أربعة سلمان وأبا ذر
والمقداد وعمار، ثم رجع بعد ذلك أشخاص، والباقون استمروا على
كفرهم حتى مضت مدة أبي بكر وعمر وعثمان، فاستولى الكفر عليهم
أجمع حتى آل الأمر إليه عليه السلام، ولم يكن له طريق إلى إقامة
الحق فيهم إلا بضرب بعضهم بعضا، وأيهم قتل كان في محله إلا خواص
الشيعة الذين لم يتمكن من إقامة الحق بهم خاصة، والله العالم.
(ولو أتلف الباغي على العادل) أو تابعه ولو ذميا (مالا أو
نفسا في حال الحرب) فضلا عن غيره (ضمنه) بلا خلاف أجده
فيه بيننا كما اعترف به الفاضل في محكي التذكرة، بل ظاهره فيها وفي
المنتهى الاجماع عليه، وهو كذلك، مضافا إلى عموم الأدلة المقتضية
له دون العكس كما عرفته سابقا
(و) حينئذ ف‍ (من أتى منهم ما يوجب
حدا واعتصم بدار الحرب فمع الظفر به يقام عليه الحد) بلا خلاف
أجده فيه، كما هو ظاهر المسالك وغيرها، بل ولا إشكال لما عرفت،
وإن لم يكن كذلك في أهل الحرب لخبر الجب (1) المستفاد من قوله
تعالى (2) " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن

(1) المستدرك - الباب - 15 من أبواب أحكام شهر رمضان
الحديث 2 والخصائص الكبرى ج 1 ص 249 وكنز العمال ج 1 ص 17
الرقم 243 والجامع الصغير ج 1 ص 123.
(2) سورة الأنفال الآية 39.
347

يعودوا فقد مضت سنة الأولين " فلا يرجع عليهم بما أتلفوه من نفس
أو مال إذا أسلموا، بل في الدروس وكذا جناية حربي على حربي هدر
إذا أسلما، ولا يخلو من بحث وإن كان خبر الجب يقتضيه.
وليكن فيما ذكرناه من أحكام الجهاد كفاية، فإن كثيرا منها
موكولة إلى دولة الحق التي يكون صاحبها أعلم من غيره بها عجل الله
فرجه وسهل مخرجه،
ولكن لا بأس بختم الكتاب بخبر حفص بن
غياث (1) المروي في الكافي والتهذيب عن أبي عبد الله عليه السلام ليكون
ختامه مسكا قال: " سأل رجل أبي عن حروب أمير المؤمنين عليه السلام
وكان السائل من محبينا، فقال له أبو جعفر عليه السلام: بعث الله
تعالى شأنه محمدا صلى الله عليه وآله بخمسة أسياف ثلاثة منها
شاهرة فلا تغمد حتى تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها
حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها آمن
الناس كلهم في ذلك اليوم، فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من
قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، وسيف منها مكفوف وسيف منها مغمود سله
إلى غيرنا وحكمه إلينا، وأما السيوف الثلاثة الشاهرة فسيف على مشركي
العرب، قال الله تعالى (2): " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا - يعني آمنوا -
وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " فهؤلاء لا يقبل منهم إلا
القتل أو الدخول في الاسلام وأموالهم وذراريهم سبي على ما سن رسول الله
صلى الله عليه وآله، فإنه سبى وعفى وقبل الفداء، والسيف الثاني

(1) الوسائل - الباب - 5 من أبواب جهاد العدو الحديث 2.
(2) سورة التوبة الآية 5.
348

على أهل الذمة، قال الله تعالى (1) " وقولوا للناس حسنا " نزلت هذه
الآية في أهل الذمة ثم نسخها قوله عز وجل (2) " قاتلوا الذين لا
يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا
يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون " فمن كان منهم في دار الاسلام فلن يقبل منه إلا الجزية أو
القتل، ومالهم فئ، وذراريهم سبي، وحلت لنا مناكحتهم، ومن كان
منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم وأموالهم، ولم تحل لنا مناكحتهم
ولم يقبل منهم إلا دخول دار الاسلام أو الجزية أو القتل، والسيف
الثالث سيف على مشركي العجم يعني الترك والديلم والخزر قال الله
تعالى في أول سورة الذين كفروا فقص قصتهم (3) ثم قال " فضرب
الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى
تضع الحرب أوزارها " فإن قوله " فإما منا بعد " يعني السبي منهم،
" وإما فداء " يعني المفاداة بينهم وبين هؤلاء الاسلام، فهؤلاء لا يقبل
منهم إلا القتل أو الدخول في الاسلام، ولا يحل لنا مناكحتهم ما
داموا في الحرب، وأما السيف المكفوف فسيف على أهل البغي والتأويل
قال الله تعالى (4) " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما،
فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر
الله " فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله إن منكم

(1) سورة البقرة - الآية 77.
(2) سورة التوبة - الآية 29.
(3) سورة محمد صلى الله عليه وآله - الآية 4 و 5.
(4) سورة الحجرات - الآية 9.
349

من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل النبي صلى الله عليه وآله
من هو؟ فقال: خاصف النعل يعني أمير المؤمنين عليه السلام
، فقال عمار بن ياسر قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله
عليه وآله ثلاثا، وهذه الرابعة، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا السعفات
من هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، وكانت السيرة فيهم
من أمير المؤمنين عليه السلام ما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله
في أهل مكة يوم فتح مكة، فإنه لم يسب لهم ذرية، وقال: من أغلق
بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه أو دخل دار أبي سفيان فهو آمن،
وكذلك قال: أمير المؤمنين عليه السلام يوم البصرة نادى فيهم ألا لا
تسبوا لهم ذرية، ولا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرا، ومن
أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن، وأما السيف المغمود فالسيف الذي
يقام به القصاص، قال الله تعالى (1) " النفس بالنفس والعين بالعين "
فسله إلى أولياء المقتول وحكمه إلينا، فهذه السيوف التي بعث الله تعالى
بها محمدا صلى الله عليه وآله، فمن جحدها أو جحد واحدا منها أو
شيئا من سيرها وأحكامها فقد كفر بما أنزل الله تعالى على محمد
صلى الله عليه وآله ".
هذا كله في الجهاد الأصغر، وأما الجهاد الأكبر الذي هو جهاد
النفس فقد تكفلت بجميع ما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وآله
الذي قال الله تعالى شأنه (2) فيه " وإنك لعلى خلق عظيم " ومن أخيه
وابن عمه ووصيه وخليفته وصهره وأبي ذريته أمير المؤمنين وسيد
الوصيين عليه السلام الذي هو باب مدينة العلم، ومن أولاده الأئمة

(1) سورة المائدة - الآية 49.
(2) سورة القلم - الآية 4.
350

المعصومين الغر الميامين الكتب المصنفة في هذا الفن لأصحابنا وغيرهم،
قال الصادق عليه السلام (1) " إن النبي صلى الله عليه وآله بعث بسرية
فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر
قيل يا رسول الله: وما الجهاد الأكبر قال: جهاد النفس " نسأل الله
تعالى شأنه التوفيق له، والحمد لله تعالى شأنه أولا وآخرا وظاهرا
وباطنا، والشكر له، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا
محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد النفس - الحديث 1.
351

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
(كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
الذي قال الله عز وجل في بيانه (1): " ولتكن منكم أمة يدعون
إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون "
وقال تعالى (2): " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر " وقال تعالى (3) " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة وأمروا بالمعروف ونهو عن المنكر " إلى غير ذلك مما ذكره تعالى في كتابه
العزيز، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله (4) " إذا أمتي تواكلت الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله تعالى " وقال صلى الله عليه وآله
أيضا (5): " كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبانكم
ولم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر، فقيل له: ويكون ذلك
يا رسول الله فقال: نعم وشر من ذلك، فيكف بكم إذا أمرتم بالمنكر
ونهيتم عن المعروف فقيل له يا رسول الله ويكون ذلك فقال: نعم وشر

(1) سورة آل عمران - الآية 100 و 106.
(2) سورة آل عمران - الآية 100 و 106.
(3) سورة الحج - الآية 42.
(4) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 5 - 12
(5) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 5 - 12
352

من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا " وقال
صلى الله عليه وآله أيضا (1) " إن الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف
الذي لا دين له فقيل له وما المؤمن الذي لا دين له؟ قال: الذي لا ينهى
عن المنكر " وقال أيضا (2) " لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهو
عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا نزعت منهم البركات، وسلط
بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء " وجاء رجل
من خثعم (3) فقال يا رسول الله: أخبرني ما أفضل الاسلام؟ فقال:
الايمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: صلة الرحم، قال: ثم ماذا؟
قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال الرجل: فأي الأعمال
أبغض إلى الله تعالى عز وجل؟ قال: الشرك بالله، قال: ثم ماذا؟
قال: قطيعة الرحم، قال: ثم ماذا؟ قال: النهي عن المعروف
والأمر بالمنكر " وقال أمير المؤمنين عليه السلام (4): " من ترك
إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميت بين الاحياء " وخطب عليه
السلام يوما (5) فحمد الله وأثنى عليه، وقال: " أما بعد فإنه إنما
هلك من كان قبلكم حيث ما علموا من المعاصي، ولم ينههم الربانيون
والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات، فأمروا بالمعروف وانهوا عن
المنكر، وأعملوا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلا

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 13.
(2) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 18 - 11 - 7 إلا أنه من ترك ذيل الأخير وذكر تمامه في الكافي
ج 5 ص 57.
(3) تقدم آنفا تحت رقم 2.
(4) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 4.
(5) تقدم آنفا تحت رقم 2.
353

ولن يقطعا رزقا، إن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر
إلى كل نفس بما قدر الله لها من زيادة أو نقصان " إلى آخره " وقال
أيضا " اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه
على الأحبار إذ يقول (2) " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم
الإثم " وقال (3) " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود
وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وكانوا لا يتناهون عن
منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون " وإنما عاب الله تعالى ذلك عليهم
لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا
ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون،
والله يقول (4) " فلا تخشوا الناس واخشون " وقال (5) " والمؤمنون والمؤمنات
بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " فبدء الله تعالى بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه،
لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها، وذلك
أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع رد المظالم
ومخالفة الظالم، وقسمة الفيئ والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها
ووضعها في حقها " إلى آخره، وقال الباقر عليه السلام (6) " يكون
في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤون يتقرؤن ويتنسكون حدثاء وسفهاء

(1) الوسائل - الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 9.
(2) سورة المائدة - الآية 68 - 82 - 48.
(3) سورة المائدة - الآية 68 - 82 - 48.
(4) سورة المائدة - الآية 68 - 82 - 48.
(5) سورة التوبة - الآية 72.
(6) ذكره في الوسائل مقطعا في الباب 2 من أبواب الأمر والنهي
الحديث 6 والباب 1 منها الحديث 6 والباب 3 منها الحديث 1 وتمامه
في الكافي ج 5 ص 55 والتهذيب ج 6 ص 180 الرقم 372.
354

لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر إلا إذا آمنوا الضرر
يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير، يتبعون زلات العلماء وفساد
علمهم، يقبلون على الصلاة والصيام، وما لا يكلمهم في نفس ولا مال
ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما
رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب الله عليهم، فيعمهم
بعقابه، فيهلك الأبرار في دار الفجار، والصغار في دار الكبار، إن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصالحين،
فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب،
وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر،
فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في
الله لومة لائم، فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم " إنما
السبيل (1) على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك
لهم عذاب أليم " هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، وابغضوهم بقلوبكم،
غير طالبين سلطانا، ولا باغين مالا، ولا مريدين بالظلم ظفرا حتى
يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته " قال أبو جعفر عليه السلام (2)
" أوحى الله تعالى إلى شعيب " ع " إني معذب من قومك مأة ألف أربعين
ألفا من شرارهم وستين ألفا من خيارهم، فقال: يا رب هؤلاء
الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عز وجل إليه أنهم داهنوا أهل
المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي " وقال أبو جعفر عليه السلام (3) " بئس

(1) سورة الشورى - الآية 40.
(2) الوسائل - الباب 8 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1.
(3) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2.
355

القوم قوم يعيبون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " وقال هو أيضا
والصادق عليهما السلام (1) " ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر " وقال الصادق عليه السلام أيضا (2): " الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله، فمن نصرهما أعزه الله ومن
خذلهما خذله الله تعالى " وقال الباقر عليه السلام أيضا (3): " من
مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوفه كان له مثل أجر
الثقلين: الجن والإنس ومثل أعمالهم إلا الإمام عليه السلام " وقال
الصادق عليه السلام (4): ما أقر قوم بالمنكر بين أظهرهم لا يغيرونه
إلا أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " إلى غير ذلك من النصوص.
وكيف كان ف‍ (المعروف) على ما في المنتهى ومحكي التحرير
والتذكرة (هو كل فعل حسن اختص بوصف زائد على حسنه إذا عرف
فاعله ذلك أو دل عليه، والمنكر كل فعل قبيح عرف فاعله قبحه أو
دل عليه) فالأول بمنزلة الجنس، ضرورة كون المراد بالحسن الجائز
بالمعنى الأعم الشامل لما عدا الحرام فإنه على ما عرفوه بما للقادر عليه
العالم بحاله أن يفعله، أو بما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم
ويقابله القبيح، والاختصاص بوصف إلى آخره بمنزلة الفصل لاخراج
المباح الذي لا وصف فيه زائدا على حسنه المراد به جواز فعله، ويتبعه

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث
1 - 20 والثاني عن الباقر عليه السلام إلا أن الموجود في التهذيب
ج 6 ص 177 الرقم 357 قال: قال أبو عبد الله عليه السلام.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
(3) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 11.
وليس في ذيله " إلا الإمام ".
(4) الوسائل - الباب 4 من أبواب الأمر والنهي الحديث 3.
356

المكروه وإن دخل في تعريفي الحسن بالأولوية، أو لأنه لا وصف فيه
زائدا على حسنه بمعنى الجواز بناءا على كون المراد الزيادة في الحسن
كالندبية والوجوبية، فلا تدخل المرجوحية في الفعل حينئذ فيه، وقد
يطلق الحسن على ما له مدخلية في استحقاق المدح، فيختص حينئذ
بالواجب والمندوب، ويخرج عنه المباح والمكروه، لكن لا يحمل المتن
عليه، ضرورة أنه لو كان المراد به ذلك لم يحتج إلى قيد الاختصاص
بوصف زائد في إخراجهما بعد خروجهما عنه بالحسن، وأما المنكر
فليس إلا القبيح الذي هو الحرام كما سمعته من مفاد التعريفين، بل
والثالث المقابل للحسن بالمعنى الأخير: أي ما كان على صفة تؤثر في
استحقاق الذم، وحينئذ فالمباح والمكروه فضلا عن ترك المندوب ليسا
من المعروف ولا من المنكر، فلا يؤمر بهما ولا ينهى عنهما، وربما
حكي عن بعض إدراج المكروه في المنكر على معنى ما كان فيه صفة
تقتضي رجحان تركه وحينئذ يكون النهي على قسمين: واجب ومستحب
كالأمر بالمعروف، إلا أنه خلاف المعروف في المراد منه، وفي المسالك
يمكن دخوله في المندوب باعتبار استحباب تركه، فإذا تركه مندوبا
تعلق الأمر به، وهذا هو الأولى، وفيه ما لا يخفى، ولكن الأمر
سهل بعد معلومية رجحان النهي عن فعل المكروه، كمعلومية رجحانه
أيضا عن ترك المندوب، ولذا صرح باستحباب الأول أبو الصلاح
وابن حمزة والشهيدان والسيوري على ما حكي، اندرج في عنوان
معروف ومنكر أو لم يندرج، وعلى كل حال فالمراد بالتقييد بقوله
" إذا " إلى آخره من حيث يؤمر به وينهى عنه لا في حد ذاته إذ
العلم به غير شرط كونه حسنا ومعروفا وقبيحا، كما أن الظاهر
إرادة الإشارة إلى العلم بالاجتهاد والتقليد مثلا من قوله " عرفه أو دل
357

عليه " وهو واضح.
(و) كيف كان ف‍ (الأمر بالمعروف) الواجب (والنهي عن
المنكر واجبان إجماعا) من المسلمين بقسميه عليه، مضافا إلى ما تقدم
من الكتاب والسنة وغيره، بل عن الشيخ والفاضل والشهيدين والمقداد
أن العقل مما يستقل بذلك من غير حاجة إلى ورود الشرع، نعم هو
مؤكد، وإن كان الأظهر أن وجوبهما من حيث كونهما كذلك سمعي
كما عن السيد والحلي والحلبي والخاجا نصير الدين الطوسي والكركي
وفخر المحققين ووالده في بعض كتبه، بل عن المختلف نسبته إلى الأكثر
بل عن السرائر نسبته إلى جمهور المتكلمين والمحصلين من الفقهاء،
ضرورة عدم وصول العقل إلى قبح ترك الأمر بذلك على وجه يترتب
عليه العقاب بدون ملاحظة الشرع، ودعوى أن إيجابهما من اللطف
الذي يصل العقل إلى وجوبه عليه جل شأنه واضحة المنع، كوضوح
الاكتفاء من الله تعالى بالترغيب والترهيب ونحوهما مما يقرب معه العبد
إلى الطاعة ويبعد عن المعصية دون الالجاء في فعل الواجب وترك المحرم
بل في المنتهى " لو وجبا بالعقل لما ارتفع معروف ولما وقع منكر، أو
كان الله تعالى شأنه مخلا بالواجب، والتالي بقسميه باطل، فالمقدم مثله
بيان الشرطية أن الأمر بالمعروف هو الحمل على فعل المعروف، والنهي
عن المنكر هو المنع منه، فلو كانا بالعقل لكانا واجبين على الله
تعالى، لأن كل واجب عقلي يجب على كل من حصل فيه وجه الوجوب
ولو وجبا على الله تعالى لزم أحد الأمرين، وأما بطلانهما فظاهر،
أما الثاني فلأنه حكيم لا يجوز عليه الاخلال بالواجب، وأما الأول
فلأنه يلزم الالجاء وهو ينافي التكليف، لا يقال: إن هذا وارد عليكم
في وجوبهما على المكلف، لأن الأمر هو الحمل، والنهي هو المنع، ولا
358

فرق في اقتضاء الحمل والمنع الالجاء بين ما إذا صدرا من المكلف أو من
الله تعالى، وذلك قول بابطال التكليف، لأنا نقول: لا نسلم أنه
يلزم الالجاء، لأن منع المكلف لا يقتضي الامتناع، أقصى ما في الباب
أن يكون مقربا، ويجري مجرى الحدود في اللطفية، ولهذا تقع القبائح
مع حصول الانكار وإقامة الحدود " وإن كان لا يخفى عليك ما في ذلك
كله، والعمدة الوجدان، ضرورة عدم وصول العقل إلى ذلك على وجه
يترتب عليه الذم والعقاب، نعم يمكن دعوى وصوله إلى الرجحان في
الجملة لا على الوجه المزبور، والأمر سهل بعد ما عرفت من ثبوته
بالشرع كتابا وسنة وإجماعا.
(ووجوبها على الكفاية) وحينئذ ف‍ (يسقط بقيام من فيه غناء
وكفاية) كما هو خيرة السيد والحلبي والقاضي والحلي والفاضل والشهيدين
والمحقق الطوسي في التجريد والأردبيلي والخراساني وغيرهم على ما حكي
عن بعضهم (وقيل) والقائل الشيخ وابن حمرة وفخر الاسلام والشهيد
في غاية المراد والسيوري على ما حكي عن بعضهم (بل) هو (على
الأعيان) بل ربما حكي عن الحلي بل عن الشيخ حكايته عن قوم من
أصحابنا (وهو أشبه) عند المصنف بأصول المذهب وقواعده التي منها
أصالة العينية في الوجوب، مضافا إلى الأمر بهما على جهة العموم في
جملة من النصوص منها بعض ما تقدم سابقا، ومنها النبوي (1)
" لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليعمكم عذاب الله " وفي
آخر (2) " مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله، وانهو عن المنكر
وإن لم تنتهوا عنه كله " إلى غير ذلك.

(1) الوسائل - الباب 3 الأمر والنهي الحديث 12.
(2) الوسائل الباب 10 من أبواب الأمر والنهي الحديث 10.
359

لكن لا يخفى عليك انقطاع الأصل بمعلومية كون الغرض منهما
حصول ذلك في الخارج لا أنهما مرادان من كل شخص بعينه، بل يمكن
دعوى عدم تعقل إرادة الحمل على المعروف باليد مثلا من الجميع،
كما أنه يمكن القطع بكون المراد من هذه العمومات مثل ما ورد منها
في تغسيل الميت ودفنه ونحوهما مما هو متعلق بالجميع على معنى الاجتزاء
به من أي شخص منهم والعقاب على الجميع مع الترك أصلا، لا أن
المراد فعله من كل واحد الذي لا يمكن تصوره باعتبار معلومية عدم
إرادة التكرار كمعلومية عدم إمكان الاشتراك، كما هو واضح، هذا
كله مضافا إلى الاستدلال عليه أيضا بظاهر قوله تعالى (1) " ولتكن
منكم أمة يدعون " إلى آخره المراد منه التبعيض، خصوصا بعد
استدلال الصادق عليه السلام، قال مسعدة بن صدقة (2) " سئل أبو
عبد الله عليه السلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو
على الأمة جميعا؟ فقال: لا، فقيل ولم؟ قال إنما هو على القوي
المصاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضعفة الذي لا يهتدون
سبيلا - إلى أن قال - والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل " ولتكن
منكم أمة " إلى آخرها، فهذا خاص غير عام، كما قال الله عز وجل (3)
" ومن قوم موسى أمة يهدون إلى بالحق وبه يعدلون " ولم يقل على أمة
موسى ولا على كل قوم، وهو يومئذ أمم مختلفة، والأمة واحد فصاعدا

(1) سورة آل عمران - الآية 100.
(2) الوسائل - الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1.
(3) سورة الأعراف - الآية 159.
360

كما قال الله عز وجل (1) " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله " يقول
مطيعا لله عز وجل وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا
كان له قوة له ولا عدد ولا طاعة " وقال مسعدة (2) " سمعت أبا
عبد الله عليه السلام يقول: وسئل عن الحديث الذي جاء عن النبي صلى
الله عليه وآله أن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر ما معناه؟
قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه،
وإلا فلا ".
ولكن يمكن كون المراد من الخبر المفسر للآية الإمام العادل،
بل كاد يكون صريح قوله عليه السلام " والأمة واحد " إلى آخره، بل
يمكن القطع به بناءا على ما هو المعروف عندنا من تعلق الواجب الكفائي
بالجميع من حيث الخطاب وإن سقط بفعل البعض، مع أن الآية ظاهرة
في الوجوب على معنى أمة من المؤمنين لا جميعهم فضلا عن الناس،
وهو إنما يوافق ما ذهب إليه غيرنا من أن المخاطب في الكفائي البعض
المبهم، نحو ما قالوه في الواجب المخير بالنسبة إلى المكلف به، وقد
أبطلناه في محله، وحينئذ فالمقصود أنه مع بسط يده الواجب عليه
جميع أفراد الأمر بالمعروف التي منها الجهاد وقتال البغاة وإقامة الحدود
والتعزيرات ورد المظالم العامة والخاصة وغير ذلك مما لا يقوم به إلا
الإمام عليه السلام، فهو خارج عما نحن فيه من بعض أفراد الأمر
بالمعروف، فالعمدة حينئذ ما ذكرناه أولا لكن ينبغي أن يعلم أن
القائل بالعينية موافق على السقوط مع حصول المطلوب بترك العاصي
الاصرار على معصيته، ضرورة امتناع التكليف حينئذ به بامتناع متعلقه

(1) سورة النحل - الآية 121.
(2) الوسائل الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1.
361

وإنما يظهر فائدة القولين في وجوب قيام الكل به قبل حصول
الغرض وإن قام به من فيه كفاية على الوجوب العيني، وسقوط الوجوب
عمن زاد على ما فيه الكفاية من القائمين على القول الآخر، وحينئذ
فلو أمر أو نهى بعض وتخلف بعض كان آثما وإن حصل المطلوب
بالبعض الآخر.
ويمكن أن يقال بعينية الانكار القلبي على كل مكلف، ودونه في
الاحتمال الأمر اللساني، وأما الحمل عليه بضرب ونحوه فيمكن القطع
بعدم العينية فيه، فيكفي حينئذ وقوعه من البعض فيسقط عن الآخر
ولا إثم عليه وإن كان قادرا على ما وقع من غيره أيضا، كما أنه
يمكن القطع بملاحظة السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار بعدم
الوجوب العيني فيهما، ولذا يكتفي ذو القدرة عليهما بارسال من يقوم
بهما عن مضيه بنفسه وعن مضي غيرهم ممن هو مشترك معهم في التكليف
كما هو واضح.
وعلى كل حال فلا إشكال في سقوط الوجوب بامتثال المأمور على
القولين وإن اختلفت الجهة على التقديرين، كما أنه لا إشكال في سقوط
المبادرة على الكفائية مع القطع بقيام الغير، حتى لو بان بعد ذلك
فساد القطع ولم يكن محل بعد التكليف لم يكن آثما، للسيرة المستمرة
في سائر الأعصار والأمصار على عدم المبادرة بمجرد العلم بموت زيد
مثلا لتغسيله مع القطع بقيام الغير به وإن ظهر بعد ذلك فساد القطع
بل لا يبعد الاكتفاء بالظن الغالب المتاخم للعلم لها أيضا، بل ربما
احتمل الاكتفاء بمطلق الظن وإن كان فيه نظر أو منع، للأصل السالم
عن المعارض، وعلى كل حال فهو بحث في حكم الكفائي من حيث كونه
كذلك لا مدخلية لخصوص المقام فيه، وقد ذكرنا الكلام فيه وفي باقي
362

أحكامه في مطاوي المباحث.
(و) على كل حال فقد ظهر لك مما ذكرنا سابقا أن (المعروف
ينقسم إلى الواجب والندب) ضرورة كون كل منهما معروفا، بل قد
سمعت احتمال اندراج ترك المكروه في الثاني منهما أيضا، وحينئذ
(ف‍) المدح والثناء في الكتاب والسنة على الآمرين بالمعروف شامل
لهما، نعم (الأمر بالواجب واجب، وبالمندوب مندوب) كما صرح
به الحلي والديلمي والفاضل والشهيدان وغيرهم، بل عن المفاتيح الاجماع
عليه، مضافا إلى ما قيل من عدم زيادة الفرع على أصله وإلى ما جاء
به من النصوص كقوله عليه السلام (1): " الدال على خير كفاعله "
" ومن أمر بمعروف ونهى عن منكر أو دل على خير أو أشار به فهو
شريك (2) " " ولا يتكلم الرجل بكلمة حق يؤخذ بها إلا كان له مثل
أجر من أخذ بها (3) " إلى غير ذلك مما جاء من الحث على الأمر بالخير
بل جميع ما في الكتاب والسنة من المدح على الأمر بالمعروف شامل
لهما ولو على إرادة مطلق الرجحان من صيغة الأمر، اللهم إلا أن
يقال إن مجاز التخصيص أولى من ذلك، ولكن رجحانه عليه هنا
بحث، لقوة إرادة ما يشملهما من المعروف، بل لولا الاجماع الذي
قد عرفت أمكن القول بوجوب الأمر بالمعروف الشامل لهما وإن لم
يجب المندوب على المأمور، أو نقول بأن المراد وجوب الأمر بالمعروف
كل على حاله نحو ما قيل في آية (4) " أوفوا بالعقود " على تقدير

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 19 - 21.
(2) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 19 - 21.
(3) الوسائل - الباب 16 من أبواب الأمر والنهي الحديث 4.
(4) سورة المائدة - الآية 1.
363

تناولها للجائز، فيكون المراد حينئذ من الوفاء بها إعطاء كل منها ما
يقتضيه، وإن كان ذلك كله لا يخلو من بحث، ولكن الأمر سهل بعد
معلومية الحال
نعم ينبغي الرفق في ذلك، قال عمار بن أبي الأحوص (1)
" قلت لأبي عبد الله عليه السلام إن عندنا قوما يقولون بأمير المؤمنين
ويفضلونه على الناس كلهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم، أنتولاهم؟
فقال لي نعم في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله صلى
الله عليه وآله، ولرسول الله صلى الله عليه وآله ما ليس عندنا، وعندنا
ما ليس عندكم، وعندكم ما ليس عند غيركم، إن الله وضع الاسلام
على سبعة أسهم: على الصبر والصدق واليقين والرضا والوفاء والحلم،
ثم قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل
محتمل، ثم قسم لبعض الناس السهم، ولبعضهم السهمين، ولبعضهم
الثلاثة الأسهم، ولبعض الأربعة الأسهم، ولبعض الخمسة الأسهم،
ولبعض الستة الأسهم، ولبعض السبعة الأسهم، فلا تحملوا على صاحب
السهم سهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة أسهم، ولا على صاحب الثلاثة
أربعة أسهم، ولا على صاحب الأربعة خمسة أسهم، ولا على صاحب
الخمسة ستة أسهم، ولا على صاحب الستة سبعة أسهم، فتثقلوهم
وتنفروهم، ولكن ترفقوا بهم وسهلوا لهم المدخل، وسأضرب لك مثلا
تعتبر به، إنه كان رجل مسلم وكان له جار كافر، وكان الكافر يرافق
المؤمن، فلم يزل يزين له الاسلام حتى أسلم، فغدا عليه المؤمن
فاستخرجه من منزله فذهب به إلى المسجد ليصلي معه الفجر جماعة
فلما صلى قال: لو قعدنا نذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس فقعد معه

(1) الوسائل - الباب 14 من أبواب الأمر والنهي الحديث 9.
364

فقال له: لو تعلمت القرآن إلى أن تزول الشمس وصمت اليوم كان
أفضل فقعد معه وصام حتى صلى الظهر والعصر، فقال له لو صبرت حتى
تصلي المغرب والعشاء الآخرة كان أفضل فقعد معه حتى صلى المغرب
والعشاء الآخرة، ثم نهضا وقد بلغ مجهوده وحمل عليه ما لا يطيق،
فلما كان من الغد غدا عليه وهو يريد مثل ما صنع بالأمس فدق عليه
بابه ثم قال: اخرج حتى نذهب إلى المسجد فأجابه أن انصرف عني
إن هذا دين شديد لا أطيقه، فلا تخرقوا بهم، أما علمت أن إمارة
بني أمية كانت بالسيف والعنف والجور، وإن إمامتنا بالرفق والتأليف
والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد، فرغبوا الناس في
دينكم وفيها أنتم فيه ".
(و) أما (المنكر) ف‍ (لا ينقسم) إذ ليس هو إلا القبيح
المحرم كما عن الشيخ التصريح به، لما عرفته من عدم كون المكروه
منكرا، وحينئذ (فالنهي عنه كله واجب) كما صرح به غير واحد
وكأنه اصطلاح، وإلا فيمكن قسمته إليهما أيضا على معنى وجوب النهي
عن الحرام واستحباب النهي عن المكروه، فيكون حينئذ قسمين كالمعروف
ولعله لذا قال ابن حمزة فيما حكي عنه " النهي عن المنكر يتبع
المنكر، فإن كان المنكر محظورا كان النهي عنه واجبا، وإن كان مكروها
كان النهي عنه مندوبا " وإن كان فيه أن إطلاق المنكر على المكروه غير
معروف، وفي المختلف استجود هنا عبارة أبي الصلاح، قال: الأمر
والنهي كل منهما واجب ومندوب، فما وجب فعله عقلا أو سمعا الأمر
به واجب، وما ندب إليه فالأمر به مندوب، وما قبح عقلا أو سمعا
النهي عنه واجب، وما كره منهما النهي عنه مندوب " ولا بأس به
والله العالم.
365

(و) كيف كان ف‍ (لا يجب النهي عن المنكر) ولا الأمر
بالمعروف الواجب (ما لم يكمل شروط أربعة) كما صرح بذلك
الفاضل والشهيدان وغيرهم، ولعل اقتصار المصنف على الأول لإرادة
الأعم من ترك الحرام وفعل الواجب من المنكر على أن يكون المراد
بالنهي عن الثاني هو الأمر بالفعل الذي هو المعروف، أو لوضوح أنها
شرائط فيهما، أو لغير ذلك.
وعلى كل حال ف‍ (الأول أن يعلمه) معروفا و (منكرا ليأمن)
من (الغلط في) التعريف و (الانكار) كما صرح به الحلي والفاضل
والشهيدان والمقداد وغيرهم على ما حكي عن بعضهم، بل عن المنتهى
نفي الخلاف فيه، ومقتضاه كون ذلك شرطا للوجوب كالاستطاعة للحج
وحينئذ فالجاهل معذور، لكن في حاشية الكركي والمسالك النظر في
ذلك، قال في الأول: " ولقائل أن يقول: إن في اشتراط الوجوب
به نظرا، فإن من علم أن زيدا قد صدر منه فعل منكر أو ترك معروفا
في الجملة بنحو شهادة العدلين ولا يعلم المعروف والمنكر ينبغي أن
يتعلق به وجوب الأمر والنهي، ويجب عليه تعلم ما يصح معه الأمر
والنهي، كما يتعلق بالمحدث وجوب الصلاة، ويجب عليه تحصيل
شروطها، والأصل في ذلك أنه لا دليل يدل على اشتراط الوجوب بهذا
الأمر، فإن الأمر بهما ورد مطلقا، وتقييده يتوقف على الدليل، وهو
منتف، وظاهر تعليلهم يرشد إلى ذلك فإنه كما هو ظاهر لا يستلزم
ما ادعوه، لأنا على ذلك الاحتمال نوجب عليه - بعد الإحاطة بترك
المعروف في الجملة - التعلم ثم الأمر " وقال في الثاني منهما: " وقد
يناقش بأن عدم العلم بالمعروف والمنكر لا ينافي تعلق الوجوب بمن لم
يعلم، وإنما ينافيه نفس الأمر والنهي حذرا من الوقوع في الأمر بالمنكر
366

والنهي عن المعروف، وحينئذ فيجب على من علم بوقوع النكر أو ترك
المعروف من شخص معين في الجملة بنحو شهادة العدلين أن يتعلم ما
يصح معه النهي والأمر ثم يأمر أو ينهى، كما يتعلق بالمحدث وجوب
الصلاة ويجب عليه تحصيل شروطها، وحينئذ فلا منافاة بين عدم جواز
أمر الجاهل ونهيه حال الجهل وبين وجوبهما عليه كما تجب الصلاة على
المحدث والكافر، ولا تصح منهما على تلك الحال " وفيه - مع أنه
مناف لما سمعته من الأصحاب من دون خلاف فيه بينهم كما اعترف
به في المنتهى - أنه مناف أيضا لما في خبر مسعدة (1) السابق الذي
حصر الوجوب فيه على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر، بل
يمكن دعوى أن المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هو ما علمه المكلف من الأحكام من حيث كونه مكلفا بها، لا أنه
يجب أن يتعلم المعروف من المنكر زائدا على ذلك مقدمة لأمر الغير
ونهيه اللذين يمكن عدم وقوعهما ممن يعلمه من الأشخاص، وأما ما
ذكراه من المثال فهو خارج عما نحن فيه، ضرورة العلم حينئذ بتحقق
موضوع الخطاب بخلاف من فعل أمرا أو ترك شيئا ولم نعلم حرمة ما
فعله ولا وجوب ما تركه، فإنه لا يجب تعرف ذلك مقدمة للأمر والنهي
لو فرضنا كونهما منه، بل أصل البراءة محكم، وهو مراد الأصحاب
بكونه شرطا للوجوب، والله العالم.
و (الثاني أن يجوز تأثير إنكاره، فلو غلب على ظنه أو علم أنه
لا يؤثر لم يجب) بلا خلاف أجده في الأخير، بل في ظاهر المنتهى
الاجماع عليه، لكن قد يشكل بالنسبة إلى المرتبة الأولى منه، وهو
الانكار القلبي الذي ستعرف وجوبه على الاطلاق، اللهم إلا أن يقال

(1) الوسائل - الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1.
367

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعقل كونهما بالقلب وحده،
ضرورة عدم كون ذلك أمرا ونهيا، كضرورة عدم كون المعرف والمنكر
بالقلب آمرا وناهيا، وإنما هو من توابع الايمان بما جاء به النبي صلى
الله عليه وآله فلا بد من اعتبار أمر آخر في المرتبة الأولى به تعد في
الأمر والنهي، وهو إظهار عدم الرضا بضرب من الاعراض وإظهار
الكراهة ونحو ذلك، والأمر في ذلك سهل.
إنما الكلام فيما ذكره المصنف وجماعة، بل ربما نسب إلى
الأكثر من السقوط أيضا بغلبة الظن بعدم التأثير، مع أن الأوامر
مطلقة، ومقتضاها الوجوب على الاطلاق حتى في صورة العلم بعدم
التأثير، إلا أنه للاجماع وغيره سقط في خصوصها، أما غيرها فباق
على مقتضى الاطلاق من الوجوب، و لعله لذا كان ظاهر جماعة بل صريح
آخرين الاكتفاء بالتجويز الذي معناه الامكان الذي يخرج عنه الامتناع
خاصة، بل هو مقتضى عنوان المتن أولا، وإن كان قد فرع عليه غلبة
الظن، ودعوى انصراف الاطلاق إلى غير ذلك فيبقى أصل البراءة سليما
ممنوعة، كما أن الصادق عليه السلام في خبر مسعدة (1) المتقدم
لما سئل عما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله: " إن أفضل الجهاد كلمة
عدل عند إمام جائر ": " هذا على أن يأمره بعد معرفته، ومع ذلك
يقبل منه، وإلا فلا - كقوله عليه السلام في خبر يحيى (2) " إنما
يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن متيقظ أو جاهل متعلم، وأما

(1) الوسائل - الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1 - 2 مع اختلاف في الثاني.
(2) الوسائل - الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1 - 2 مع اختلاف في الثاني.
368

صاحب سوط وسيف فلا " وفي خبر داود الرقي (1) " لا ينبغي للمؤمن
أن يذل نفسه، قيل له وكيف ذلك؟ قال: يتعرض لما لا يطيق "
وفي خبر حرث (2) " ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل ما تكرهون
وما يدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتؤنبوه وتعذلوه وتقولوا له قولا
بليغا، قلت جعلت فداك إذا لا يقبلون منا، قال: اهجروهم واجتنبوا
مجالسهم " وفي خبر أبان (3) " كان المسيح عليه السلام يقول: إن
التارك شفاء المجروح ممن جرحه شريك جارحه لا محالة - إلى أن قال -
فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا، ولا تمنعوها أهلها فتأثموا
وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعا لدوائه، وإلا
أمسك " - لا دلالة فيه على السقوط مع الظن كما زعمه بعض الأفاضل
خصوصا فيما عدا الأول، بل يمكن ظهوره خصوصا الأخير في عكسه
فإن الطبيب قد يعطي الدواء مع احتمال الشفاء، وأما الأول فلا دلالة
فيه على العلم بالقبول، مع أن الخصم لا يقوله أيضا، ضرورة الوجوب
عنده مع تساوي الطرفين، ويمكن حمل عبارة المصنف ونحوها على أن
المراد بغلبة الظن الطمأنينة العادية التي لا يراعي معها الاحتمال لكونه
من الأوهام فيها، لا أن المراد عدم وجوبه مع الاحتمال المعتد به عند
العقلاء الذي هو مقتضى إطلاق الأدلة، خصوصا بعد تصريح غير واحد
بأن الساقط مع العلم بعدم التأثير الوجوب دون الجواز، بل عن
بعض الأصحاب استحبابه، والله العالم.
و (الثالث أن يكون الفاعل له) أي المنكر ولو ترك الواجب

(1) الوسائل - الباب 13 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1.
(2) الوسائل - الباب 7 من أبواب الأمر والنهي الحديث 3.
(3) الوسائل - الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 5.
369

(مصرا على الاستمرار، فلو لاح منه أمارة الامتناع) عن ذلك
(سقط الانكار) بلا خلاف مع فرض استفادة القطع من الأمارة
بل ولا إشكال ضرورة عدم موضوع لهما، بل هما محرمان حينئذ كما
صرح به غير واحد، كما أنه لا إشكال في عدم السقوط بعد العلم
باصراره، إنما الاشكال في السقوط بالأمارة الظنية بامتناعه كما هو
مقتضى المتن وغيره باعتبار إطلاق الأدلة واستصحاب الوجوب الثابت
اللهم إلا أن يريد الظن الغالب الذي يكون معه الاحتمال وهما لا يعتد
به عند العقلاء كما سمعته آنفا، بل قد يقال بوجوبهما في حال عدم
العلم بالاصرار، للحكم بفسقه ما لم تعلم توبته، فيجري عليه حينئذ
جميع الأحكام التي منها أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ما لم تتحقق
التوبة ولو بالطريق الذي يتحقق به مثلها من إظهار الندم ونحوه، ومن
ذلك ينقدح الاشكال فيما عن السرائر والإشارة والجامع من كون شرط
وجوبهما ظهور أمارة الاستمرار، بل وفيما عن جماعة من كون الشرط
الاصرار، ولعل الأولى جعل الشرط عدم ظهور أمارة الاقلاع، بل لا بد
من تقييد الأمارة بما يكتفي في تحقق التوبة، بل لعل هذا هو
المراد مما في الدروس من القطع بالسقوط لو لاح منه أمارة الندم،
ولذا قال في الكفاية بعد حكايته عنه: وهو حسن إن أفادت الأمارة
غلبة الظن، وحينئذ فلو شك في امتناعه وعدمه اتجه الوجوب كما
صرح به في المسالك، قال فيها في شرح العبارة: لا إشكال في الوجوب
مع الاصرار، وإنما الكلام في سقوطه بمجرد ظهور أمارة الامتناع،
فإن الأمارة علامة ضعيفة يشكل معها سقوط الواجب المعلوم، وفي الدروس
أنه مع ظهور الأمارة يسقط قطعا، ويلحق بعلم الاصرار اشتباه الحال
فيجب الانكار وإن لم يتحقق الشرط الذي هو الاصرار، ومثله القول
370

في الأمر بالمعروف، وهو موافق لكثير مما ذكرناه، خلافا لما سمعته من
ظاهر السرائر والجامع والإشارة من اعتبار ظهور أمارة الاستمرار في
الوجوب، بل وظاهر من اعتبر الاصرار في الوجوب أيضا، ضرورة
مخالفة ذلك كله لاطلاق الأدلة، وهل يكفي مجرد الامتناع أو لا بد من
التوبة؟ استظهر بعض الناس من أكثر الأصحاب السقوط بالأول، ثم
قال: نعم إن ظهر استمراره على ترك التوبة كان اللازم أمره بها،
ولكن هذا غير الأمر بالمعروف الذي وجب عليه التوبة بتركه، وفي
الكفاية قالوا: لو ظهر الاقلاع سقط، ولا ريب فيه إن كان المراد
بالاقلاع الندم، ولو كان مجرد الترك ففيه تردد، قلت: لا ريب في
أولوية مراعاة التوبة كما أشرنا إليه سابقا، والله العالم.
و (الرابع أن لا يكون في الانكار مفسدة، فلو) علم أو (ظن
توجه الضرر إليه أو إلى ماله) أو إلى عرضه (أو إلى أحد من
المسلمين) في الحال أو المآل (سقط الوجوب) بلا خلاف أجده فيه
كما اعترف به بعضهم، لنفي الضرر والضرار والحرج في الدين، وسهولة
الملة وسماحتها، وإرادة الله اليسر دون العسر وقول الرضا عليه السلام
في الخبر المروي (1) عن العيون: " والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
واجبان على من أمكنه ذلك ولم يخف على نفسه " كقول الصادق عليه السلام
في حديث شرائع الدين (2) مع زيادة " ولا على أصحابه "
وقوله عليه السلام أيضا في خبر مسعدة (3) السابق " وليس ذلك في

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 22.
(2) الوسائل - الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 22.
(3) الوسائل - الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1 مع اختلاف يسير.
371

هذه الهدنة إذا كان لا قوة له ولا مال ولا عدد ولا طاعة " بل وقوله عليه السلام
في خبر يحيى (1) الطويل السابق، بل وقوله عليه السلام أيضا
في خبر مفضل بن زيد (2): " من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية
لم يؤجر عليها ولم يرزق الصبر عليها " وغير ذلك من النصوص
السابقة وغيرها.
والمناقشة بأن التعارض بينها وبين ما دل على الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر من وجه يدفعها أولا أن مورد جملة منها في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، نعم هو كذلك بالنسبة إلى نحو قوله
صلى الله عليه وآله (3) لا ضرر ولا ضرار " وقوله تعالى (4): " ما جعل عليكم في
الدين من حرج " ونحوهما، ومن التخصيص في السابقة يعلم الرجحان
حينئذ في هذه العمومات، خصوصا بعد ملاحظة غير المقام من التكاليف
التي تسقط مع الضرر كالصوم ونحوه، وقول الباقر عليه السلام في
الخبر (5) السابق: " يكون في آخر الزمان قوم مراؤون يتقرؤون - إلى
أن قال -: لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر إلا إذا أمنوا
الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير " محمول على أناس مخصوصين
موصوفين بهذه الصفات، أو على إرادة فوات النفع مع الضرر، بل
في الوسائل أو على وجوب تحمل الضرر اليسير، أو على استحباب تحمل
الضرر العظيم، وإن كان لا يخلو من نظر بل منع في الأخير ضرورة

(1) الوسائل - الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 3.
(2) الوسائل - الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 3.
(3) الوسائل - الباب 12 من كتاب إحياء الموات.
(4) سورة الحج - الآية 77.
(5) الوسائل الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 6.
372

ثبوت الحرمة حينئذ كما صرح به الشهيدان والسيوري، وما وقع من
خصوص مؤمن آل فرعون وأبي ذر وغيرهما في بعض المقامات فلأمور
خاصة لا يقاس عليها غيرها.
ثم إن ظاهر الأصحاب اعتبار العلم أو الظن بالضرر، ويقوى
إلحاق الخوف المعتد به عن العقلاء، هذا، وعن البهائي رحمه الله في
أربعينه عن بعض العلماء زيادة أنه لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر إلا بعد كون الآمر والناهي متجنبا عن المحرمات وعدلا، لقوله
تعالى (1): " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " وقوله تعالى (2):
" لم تقولون ما لا تفعلون " وقوله تعالى: " كبر مقتا عند الله أن
تقولوا ما لا تفعلون " وقول الصادق عليه السلام في خبر محمد بن
عمر (4) المروي عن الخصال وعن روضة الواعظين: " إنما يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به،
تارك لما ينهى عنه وقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة:
" وأمروا بالمعروف وائتمروا به، وانهوا عن المنكر وانتهوا عنه، وإنما
أمرنا بالنهي بعد التناهي " وفي الخبر " ولا يأمر بالمعروف من قد أمر
أن يؤمر به، ولا ينهى عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه " على أن
هداية الغير فرع الاهتداء، والإقامة بعد الاستقامة، وفيه أن الأول

(1) سورة البقرة - الآية 41.
(2) سورة الصف - الآية 2 - 3.
(3) سورة الصف - الآية 2 - 3.
(4) الوسائل - الباب 10 من أبواب الأمر والنهي الحديث 3 عن
محمد بن أبي عمير رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام والباب 2 منها
الحديث 10.
(5) الوسائل - الباب 10 من أبواب الأمر والنهي الحديث 8.
373

إنما يدل على ذم غير العامل بما يأمر به لا على عدم الوجوب عليه،
واحتمال الثاني اللوم على قول فعلنا أو ما يدل على ذلك ولا فعل،
والثالث الإشارة إلى الإمام القائم بجميع أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، والتعريض بأئمة المتلبسين بلباس أئمة العدل، كل ذلك
لاطلاق ما دل على الأمر بهما كتابا وسنة وإجماعا من غير اشتراط
للعدالة، بل ظاهر حصرهم الشرائط في الأربعة عدم اشتراط غيرها،
بل عن السيوري والبهائي والكاشاني التصريح بعدم اعتبار العدالة،
نعم يعتبر في الأمر التكليف، كما أنه يعتبر في المأمور والمنهي، ومنع
الصبي والمجنون عن إضرار الغير ليس من الأمر بالمعروف، بل هو كمنع
الدابة المؤذية، فما في كنز العرفان - من أنه لا يشترط في المأمور والمنهي
أن يكون مكلفا، فإن غير المكلف إذا علم إضراره للغير منع من ذلك
وكذا الصبي ينهى عن المحرمات لئلا يتعودها، ويؤمر بالطاعات ليتمرن
عليها - واضح الفساد بعد ما عرفت من أن المنكر المحرم المعروف
الواجب، ولا واجب ولا محرم بالنسبة إلى غير المكلف.
(و) كيف كان ف‍ (مراتب الانكار ثلاث) بلا خلاف أجده
فيه بين الأصحاب: الأولى الانكار (بالقلب) كما سمعته سابقا في الخبر (1)
المروي عن الباقر عليه السلام " فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم
وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم - إلى أن قال - فجاهدوهم
بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم " إلى آخره، وفي المروي (2) عن
أمير المؤمنين عليه السلام أيضا " من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده
ولسانه فهو ميت في الأحياء " وفي الآخر المروي (3) عنه عليه السلام

(1) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1 - 4 - 10 مع اختلاف يسير في الثالث.
(2) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1 - 4 - 10 مع اختلاف يسير في الثالث.
(3) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1 - 4 - 10 مع اختلاف يسير في الثالث.
374

أيضا " إن أول ما تقبلون عليه من الجهاد الجهاد بأبدانكم ثم بألسنتكم
ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف معروفا ولم ينكر منكرا قلب فجعل أعلاه
أسفله " وفي المروي (2) عن العسكري (ع) عن النبي صلى الله عليه وآله
" من رأى منكرا فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبقلبه،
فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره " إلى غير ذلك من النصوص
لكن عن النهاية تفسيره باعتقاد الوجوب والحرمة، بل في المسالك هو
الظاهر من الاطلاق، وجعل في القواعد ذلك الاعتقاد مع عدم الرضا
بالمعصية أول مراتب الانكار القلبي، وعن التنقيح تفسيره بذلك أيضا
مع الابتهال إلى الله تعالى في إهداء العاصي، وفي الكفاية بعدم الرضا
بالفعل، ولعله لاستفاضة النصوص (2) بأن الراضي بالحرام كفاعله،
بل به علل (3) قتل ذراري قتلة الحسين عليه السلام، وعن المفاتيح
تفسيره بالبغض في الله، ولعله لبعض الأخبار، وظاهر المنتهى وما تسمعه
من المتن أنه إظهار الكراهية، ولعله لقول أمير المؤمنين عليه السلام (4):
" أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه
مكفهرة " والصادق (5) عليه السلام: " قد حق لي أن آخذ البرئ
منكم بذنب السقيم، وكيف لا يحق ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل
منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تنهرونه ولا تؤذونه حتى يترك "
وقوله عليه السلام أيضا: " لو أنكم إذا بلغكم عن الرجل شئ

(1) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 12.
(2) الوسائل - الباب 5 من أبواب الأمر والنهي الحديث 0 - 4
(3) الوسائل - الباب 5 من أبواب الأمر والنهي الحديث 0 - 4
(4) الوسائل - الباب 6 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1.
(5) الوسائل - الباب 7 من أبواب الأمر والنهي الحديث 4 - 5.
(6) الوسائل - الباب 7 من أبواب الأمر والنهي الحديث 4 - 5.
375

تمشيتم إليه فقلتم يا هذا إما أن تعتزلنا وتتجنبنا، وإما أن
تكف عن هذا، فإن فعل، وإلا فاجتنبوه " وقوله عليه السلام أيضا (1):
" إن الله عز وجل بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها فلما
انتهيا إلى المدينة فوجدا فيها رجلا يدعو ويتضرع - إلى أن قال - فعاد
أحدهما إلى الله تعالى فقال: يا رب إني انتهيت إلى المدينة فوجدت
عبدك فلانا يدعوك ويتضرع إليك، فقال: امض إلى ما أمرتك، فإن
ذا الرجل لم يتمعر - أي يتغير - وجهه غضبا لي " إلى غير ذلك من
النصوص التي تقدم بعضها الآمرة بهجرانهم وهجران مجالسهم.
لكن لا يخفى عليك ما في جملة من هذه التفاسير، إذ الأول
كما ذكرنا سابقا ليس من الأمر بالمعروف ولا من النهي عن المنكر
لغة وعرفا، وإنما هو من أحكام الايمان حال وجود موضوعهما وعدمه
وكذا زيادة عدم الرضا بالمعصية معه، فإن الرضا وإن كان محرما في
نفسه لكن عدمه ليس أمرا ولا نهيا، وكذا البغض ما لم يظهر، وأغرب
من ذلك زيادة الابتهال الذي لا مدخلية له في الأمر بالمعروف، بل
لا قائل بوجوبه، نعم إظهار الكراهة والهجر ونحوهما دالان على طلب
الفعل أو الترك، ومن هنا قلنا سابقا أنه لا بد من ضميمة في الانكار
بالقلب يكون بها داخلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنه
بهذا المعنى مشروط أيضا بتجويز التأثير وبعدم الضرر.
فلا يتم قول المصنف بل والعلامة في المحكي عن جميع كتبه:
(وهو) أي الانكار بالقلب (يجب وجوبا مطلقا) على معنى أنه
لا يتوقف على التجويز ولا على أمن الضرر كما صرح به غير واحد،

(1) الوسائل - الباب 6 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2.
376

وبالجملة الانكار القلبي بمعنى الاعتقاد ونحوه ليس من الأمر بالمعروف
بل وكذا عدم الرضا أو البغض أو نحو ذلك مما هو في القلب من دون
إظهار منه وإن قلنا بوجوبه في نفسه لبعض النصوص، وأما الاظهار
ونحوه فهو منه، لدلالته على طلب الفعل أو الترك، إلا أن ذلك ليس
واجبا مطلقا بل هو مشروط بما عرفت.
ومن هنا كان المتجه للمصنف والفاضل تفسيره بذلك مع ترك
إطلاق وجوبه،
وذلك لكونه حينئذ كالمرتبة الثانية والثالثة (و) هي
الانكار (باللسان وباليد) اللتين لا خلاف في اشتراطهما بما سمعت
كما لا خلاف في وجوبهما أيضا لما سمعته من النصوص السابقة
مضافا إلى خبر (1) يحيى الطويل عن أبي عبد الله عليه السلام " ما
جعل الله بسط اللسان وكف اليد، ولكن جعلهما يبسطان معا ويكفان
معا " وغيره أيضا، نعم يستفاد منها أيضا خصوصا خبر العسكري (ع)
السابق عن النبي صلى الله عليه وآله (2) الانكار القلبي المحض، لقوله
صلى الله عليه وآله: " من رأي منكرا فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم
يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره " وخبر
يحيى (3) الطويل صاحب المقري عن الصادق عليه السلام " حسب
المؤمن عزا إذا رأى منكرا أن يعلم الله عز وجل من قلبه إنكاره " مع
زيادة المقت والبغض كما يستفاد من غيرها (4) ولكنه ليس من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، ضرورة عدم دلالته من الطلب من المأمور

(1) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 12.
(2) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 12.
(3) الوسائل الباب 5 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1.
(4) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1.
377

والمنهي بوجه من الوجوه مع فرض عدم أمارة تدل على ذلك حتى تغير
الوجه ونحوه.
وكيف كان فقد صرح الفاضل وابن سعيد والسيوري والشهيدان
وغيرهم على ما حكي عن بعضهم بوجوب مراعاة الأيسر فالأيسر في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل نسبه بعض الأفاضل إلى الشهرة
بل لم أجد من حكى الخلاف في ذلك، وإليه أشار المصنف بقوله:
(ويجب دفع المنكر بالقلب أولا كما إذا عرف أن فاعله ينزجر باظهار
الكراهية، وكذا إذا عرف أن ذلك لا يكفي وعرف الاكتفاء بضرب
من الاعراض والهجر وجب، واقتصر عليه) مراعيا للأيسر فالأيسر،
(ولو عرف أن ذلك لا يرفعه انتقل إلى الانكار باللسان مرتبا للأيسر
من القول فالأيسر، ولو لم يرتفع إلا باليد مثل الضرب وما شابهه)
من فرك الإذن والحبس ونحوهما (جاز) ودعوى أن إطلاق الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي الترتيب المزبور - بل قد
سمعت ما في بعض الأخبار السابقة من التزام ارتكاب الأثقل من
الانكار - يدفعها ما يستفاد من غيرها من مراعاة الترتيب مضافا إلى
قاعدة حرمة إيذاء المؤمن وإضراره المقتصر في الخروج منها على مقدار
ما ترتفع به الضرورة، بل لعل قوله تعالى (1): " فأصلحوا بينهما،
فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر
الله " إلى آخره ظاهر في ذلك باعتبار تقديم الصلح أولا، على أن
التعارض بين إطلاق الأمر بالمعروف وبين النهي عن الاضرار بالمؤمن
والإيذاء له من وجه، والمعلوم من تخصيص الأخير بالأول حال الترتيب
الذي ذكرناه، وحينئذ فالمتجه الاقتصار فيهما على أول مراتب الانكار

(1) سورة الحجرات - الآية 9.
378

بالقلب على وجه يظهر للمأمور والمنهي ذلك، ثم المرتبة الأخرى منه
الأيسر فالأيسر إلى أن تنتهي مراتبه بأقسام الهجر وتغير الوجه ونحوهما
فإن لم يجد استعمل اللسان أيضا بمراتبه الأيسر فالأيسر، فإن لم يجد
استعمل اليد أيضا بمراتبها.
ولكن ذلك كله مع فرض ترتبها في الايذاء، وإلا فلو فرض أن
الهجر أشد إيذاء من بعض القول وجب الثاني، ولو علم من أول
الأمر أنه لا يجدي إلا المرتبة الأخيرة من المراتب استعملها من غير
تدرج، إذ هو في مجهول الحال، لكن عن الشيخ وابن حمزة " يجب
أولا باللسان ثم باليد ثم بالقلب " وعن سلار " باليد أولا، فإن لم
يمكن فاللسان، فإن لم يمكن فالقلب " وعن الحلبي في الإشارة " يجب
باليد واللسان، فإن فقدت القدرة أو تعذر الجمع فيه بين ذلك فباللسان
والقلب خاصة، فإن لم يمكن الجمع فيه بينهما لأحد الأسباب المانعة
فلا بد منه باللسان، ولا يسقط الانكار به شئ ".
ولا يخفى عليك ما في الجميع، خصوصا الأخير، ضرورة سقوط
الانكار باللسان مع الضرر والخوف وعدم تجويز التأثير، وربما يكون
المراد من الاختلاف بيان مراتب سقوط الانكار بالنسبة إلى التمكن وعدمه
على معنى سقوطه باليد عند الحاجة إليه مع عدم التمكن، ولكن لا يسقط
باللسان مع التمكن ولو بالنسبة إلى غير الفرد الذي يتوقف إنكاره على
الضرب باليد، فإن لم يتمكن منه أيضا باللسان بالنسبة إلى بعض
الأشخاص اقتصر على القلب بالطريق الذي ذكرناه، وهكذا، وعلى ذلك
فلا يكون خلافا في المسألة، وحينئذ فالسقوط مترتب أيضا كالثبوت،
ولعل هذا أولى مما في المختلف، فإنه بعد أن حكى بعض ما ذكرناه من
الاختلاف قال: " ولا أرى في ذلك كثير بحث، والتحقيق أن النزاع
379

لفظي، فإن القائل بوجوبه باللسان أولا ثم باليد أشار إلى أنه يعد
فاعل المعروف بالخير، ويعظه بالقول، ويزجره على الترك، فإن أفاد
وإلا ضربه وأدبه، فإن خاف وعجز عن ذلك كله اعتقد وجوب الأمر
بالمعروف وتحريم المنكر، وذلك مرتبة القلب، والقائل بتقديم القلب
يريد أنه يعتقد الوجوب ويغضب في قلبه غضبا يظهر على وجهه الكراهة
والاعراض، والقائل بتقديم اليد يريد أنه يفعل المعروف ويتجنب المنكر
بحيث يتأسى الناس به، فإن لم ينجع وعظ وخوف باللسان، فإن لم
ينجع اقتصر على الانكار القلبي " وهو كما ترى، ولعله لذا قال في
محكي التنقيح: " أنه مجرد تخمين لا دليل عليه ".
وعلى كل حال فمما ذكرنا يعلم وجوب مراعاة الأيسر فالأيسر في
المراتب كلها، كما يعلم منه أيضا أن المراد بالجواز في المتن الوجوب
بل ويعلم أيضا التخيير في الأفراد مع فرض تساويها مرتبة، ولو كان المنكر
مثلا يرتفع بالقول الغليظ والضرب الخفيف اقتصر على الأول بناءا على
ما ذكرنا من الترتيب بين اللسان واليد، مع احتمال التخيير مع فرض
التساوي في الايذاء، وإلا وجب الأسهل، لما سمعته من القاعدة السابقة
التي منها يعلم الحال في أفراد المراتب، فرب إعراض وهجر من بعض
الأشخاص بالنسبة إلى بعض الأشخاص يكون أشد إيذاء من بعض الكلام
وبالجملة الميزان ما عرفت، وهو مع أنه أحوط به تجتمع النصوص.
ثم إن ظاهر المصنف وغيره الاجماع على عدم توقف الضرب الخالي
عن الجرح على إذن الإمام عليه السلام أو القائم مقامه، لكن في محكي
نهاية الشيخ " الأمر بالمعروف يكون باليد واللسان، فأما اليد فهو أن
يفعل المعروف ويتجنب المنكر على وجه يتأسى به الناس، وأما باللسان
فهو أن يدعو الناس إلى المعروف، ويعدهم على فعله المدح والثواب،
380

ويزجرهم ويحذرهم عن الاخلال به من العقاب، فإن لم يتمكن من
هذين النوعين بأن يخاف ضررا عليه أو على غيره اقتصر على اعتقاد
وجوب الأمر بالمعروف بالقلب، وليس عليه أكثر من ذلك، من ذلك، وقد يكون
الأمر بالمعروف باليد بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب والردع وقتل
النفوس وضرب من الجراحات، إلا أن هذا الضرب لا يجب فعله إلا
بإذن السلطان الوقت المنصوب للرئاسة العامة، فإن فقد الإذن من جهته
اقتصر على الأنواع التي ذكرناها، وإنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة
التي ذكرناها، فأما اليد فهو أن يؤدب فاعله بضرب من التأديب، إما
الجراح أو الألم أو الضرب، غير أن ذلك مشروط بالإذن من جهة
السلطان حسبما قدمناه " وفيه نظر من وجوه، وأغرب من ذلك ما في
مجمع البرهان " أنه لو لم يكن جوازهما بالضرب إجماعيا لكان القول
بجواز مطلق الضرب بمجرد أدلتهما مشكلا ".
إذ لا يخفى على من أحاط بما ذكرناه من النصوص وغيرها أن
المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمل على ذلك بايجاد المعروف
والتجنب من المنكر لا مجرد القول، وإن كان يقتضيه ظاهر لفظ الأمر
والنهي، بل وبعض النصوص الواردة في تفسير قوله تعالى (1): " قوا
أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " المشتملة على الاكتفاء
بالقول للأهل افعلوا كذا واتركوا كذا " قال الصادق عليه السلام في
خبر عبد الأعلى مولى آل سام (2): " لما نزلت هذه الآية " يا أيها
الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا " جلس رجل من المسلمين يبكي
وقال: أنا عجزت عن نفسي وكلفت أهلي، فقال رسول الله صلى الله

(1) سورة التحريم - الآية 6.
(2) الوسائل - الباب 9 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1.
381

عليه وآله: حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى
عنه نفسك " وخبر أبي بصير (1) في الآية " قلت كيف أقيهم؟ قال:
تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عما نهاهم الله، فإن أطاعوك فقد وقيتهم
وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك " وفي خبره الآخر (2) عن أبي
عبد الله عليه السلام في الآية أيضا " كيف نقي أهلنا؟ قال تأمرونهم وتنهونهم "
لكن ما سمعته من النصوص والفتاوى الدالة على أنهما يكونان
بالقلب واللسان واليد صريح في إرادة حمل الناس عليهما بذلك كله، بل هو
معنى قوله عليه السلام: " ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد ولكن جعلهما
يبسطان معا ويكفان معا " فيمكن إرادة ما يشمل الضرب ونحوه من أمر
الأهل ونهيهم، كما أنه صرح في النصوص أيضا بالهجر وتغير الوجه
وغيرهما مما يراد منه الطلب بواسطة هذه الأمور لا مجرد القول كما هو
واضح بأدنى تأمل ونظر، بل منه يعلم أن المراد حينئذ من إطلاق
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الكتاب والسنة حمل تارك المعروف
وفاعل المنكر على الفعل والترك بالقلب على الوجه الذي ذكرناه،
وباللسان وباليد كذلك، بل قد سمعت دعوى الاجماع من الأردبيلي
على الأخير فضلا عن الأولين.
نعم من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها
وأتقنها وأشدها تأثيرا خصوصا بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء
المعروف واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهه، ويستكمل
نفسه بالأخلاق الكريمة وينزهها عن الأخلاق الذميمة، فإن ذلك منه
سبب تام لفعل الناس المعروف، ونزعهم المنكر وخصوصا إذا أكمل
ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة والمرهبة، فإن لكل مقام مقالا، ولكل

(1) الوسائل - الباب 9 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 3.
(2) الوسائل - الباب 9 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 3.
382

داء دواء، وطب النفوس والعقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة
وحينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف، نسئل الله التوفيق
لهذه المراتب.
(و) كيف كان ف‍ (لو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟
قيل) والقائل السيد والشيخ في التبيان والحلبي والعجلي والفاضل في
جملة من كتبه ويحيى بن سعيد والشهيد في النكت على ما حكي عن
بعضهم: (نعم) يجب (وقيل) والقائل الشيخ والديلمي والقاضي وفخر
الاسلام والشهيد والمقداد والكركي على ما حكي عن بعضهم: (لا)
يجوز (إلا بإذن الإمام عليه السلام) بل في المسالك هو أشهر، بل
في مجمع البرهان هو المشهور بل عن الاقتصاد الظاهر من شيوخنا الإمامية
أن هذا الجنس من الانكار لا يكون إلا للأئمة عليهم السلام أو لمن
يأذن له الإمام عليه السلام فيه (وهو الأظهر) للأصل السالم عن معارضة
الاطلاق المنصرف إلى غير ذلك، خصوصا بعد ما سمعت من اشتراط
الوجوب بتجويز التأثير المشعر ببقاء المأمور والمنهي، بل لعل ذلك هو
مقتضى الأمر والنهي الواجبين، ضرورة عدم موضوعهما مع القتل،
ودعوى كون المراد منهما حمل الشخص على ترك المنكر ولو ترك الواجب
الذي يحصل بقتله عدم وقوع المنكر منه كما ترى مجاز لا قرينة عليه
بل لعلها على العكس موجودة، كل ذلك مضافا إلى ما في جواز ذلك
لسائر الناس عدولهم وفساقهم من الفساد العظيم والهرج والمرج المعلوم
عدمه في الشريعة، خصوصا في مثل هذا الزمان الذي غلب النفاق فيه
على الناس، وبالجملة لا يكاد ينكر اقتضاء تجويز ذلك لسائر الناس
على مقتضى إطلاق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فساد النظام، فدعوى اقتضاء إطلاق ما دل على وجوبهما خصوصا ما
383

دل منه على وجوبهما باللسان واليد الشاملة للجرح والقتل واضحة الفساد
كدعوى اقتضاء وجوبهما على النبي صلى الله عليه وآله والإمام عليه السلام
على هذا الوجه الوجوب على الناس أيضا كذلك للتأسي ولأصالة
الاشتراك، وأوضح منهما فساد الاستدلال على ذلك بأنهما إنما وجبا
لمصلحة العالم فلا يقفان على شرط كغيرهما من المصالح بعد ما عرفت
من اقتضاء وجوبهما على هذا الوجه فساد نظام العالم، وكذا ما قيل
من أن إذن الإمام عليه السلام شرط فيما إذا كان الضرر مقصودا،
وأما إذا كان المقصود أمرا آخر غيره فلا وإن حصل منه الضرر، ومحل
البحث فيه الأخير، إذ هو شبه المدافعة والممانعة اللذين قد يتولد منهما
ضرر غير مقصود.
نعم في المروي (1) عن تاريخ الطبري عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى قال: " إني سمعت عليا عليه السلام يوم لقينا أهل الشام يقول:
أيها المؤمنون أنه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره
بقلبه فقد سلم، ومن أنكره بلسانه فقد أوجر، وهو أفضل من صاحبه
ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك
أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين " كقول الباقر
عليه السلام (2): " فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم وصكوا بها
جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا
فلا سبيل عليهم، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في
الأرض بغير الحق، أولئك لهم عذاب أليم، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم

(1) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 8 - 1.
(2) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 8 - 1.
384

وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا، ولا باغين به مالا، ولا مريدين
بالظلم ظفرا حتى يفيئوا إلى أمر الله ويمضوا على طاعته " إلى غير ذلك
من النصوص.
ولكن من المعلوم أنه أشار بذلك إلى نفسه ومن يقوم مقامه من
أولاده عليهم السلام لا سائر الناس كخطابات الحدود وقتال البغاة وجهاد
الكفار ونحو ذلك، على أنه ظاهر في الجواز دون الوجوب الذي هو
مقتضى الأمر بالمعروف، ونحو قوله عليه السلام أيضا (1) الذي رواه
عنه الرضي " فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ويده ولسانه، فذلك المستكمل
لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه التارك بيده فذلك متمسك
بخصلتين من خصال الخير، ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه التارك
بيده ولسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك
بواحدة، ومنهم تارك لانكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت
الأحياء " الحديث، وكأنه لبعض ما ذكرنا فصل ثاني الشهيدين بين
الجرح والقتل فجوز الأول ومنع الثاني، وهو مع أنه خرق للاجماع
على الظاهر فيه الفساد الذي ذكرناه، ضرورة عدم انحصار الجريح في
غير المؤدي للقتل، بل قد سمعت عن الشيخ سابقا ما يقتضي عدم جواز
الضرب إلا بإذن الإمام عليه السلام وإن كن فيه ما عرفت، فلا ريب
في أن القول بعدم الجواز مطلقا أقوى، نعم في جوازه لنائب الغيبة
- مع فرض حصول شرائطه أجمع التي منها أمن الضرر والفتنة والفساد
لعموم ولايته عنهم عليهم السلام - قوة، خصوصا مع القول بجواز إقامة
الحدود له، وإن كان ذلك فرض نادر بل معدوم في مثل هذا الزمان.
هذا (و) لعله لبعض ما ذكرنا من لزوم الفساد بايكال ذلك

(1) الوسائل - الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 9.
385

إلى عامة الناس
(لا يجوز لأحد إقامة الحدود إلا الإمام عليه السلام
مع وجوده) وبسط يده (أو من نصبه) الإمام (لإقامتها) خاصة
أو لما يشملها وإن كان ربما فرق بينهما بأن الحد مطلوب شرعا لذاته
من حيث أنه حكم شرعي متعلق بمنصب الإمامة فلا بد من إذن
الإمام عليه السلام، وأما الجرح والقتل فإنهما مطلوبان لامتثال الأمر
والنهي لا لذاتهما، فلا يشترطان بإذن الإمام عليه السلام كالدفاع، ولذا
وقع الخلاف في الأول دون الثاني، لكن فيه أن الكلام في جواز ذلك
مقدمة للأمر والنهي، وعلى كل حال فلا خلاف أجده في الحكم هنا،
بل عن الغنية والسرائر الاجماع عليه، بل في المحكي عن الثاني دعواه
من المسلمين، قال: " والاجماع حاصل منعقد من أصحابنا ومن
المسلمين جميعا أنه لا يجوز إقامة الحدود، ولا المخاطب بها إلا الأئمة
عليهم السلام، والحكام القائمون بإذنهم في ذلك، وأما غيرهم فلا يجوز
التعرض لها على حال، فلا يرجع عن هذا الاجماع بأخبار الآحاد،
بل باجماع مثله أو كتاب الله أو سنة متواترة مقطوع بها " إلى آخره
كل ذلك مضافا إلى النصوص الدالة على ذلك المذكورة في كتاب الحدود
وغيره التي منها يعلم التقييد في الخطابات العامة الآمرة بإقامة الحدود
نحو غيرها من خطابات الجهاد وغيرها المعلوم كون المراد منها مباشرة
الإمام أو من نصبه لذلك.
(نعم مع عدم ظهوره " ع ") وعدم بسط يده (يجوز للمولى) وإن
لم يكن مجتهدا (إقامة الحد على مملوكه) وفاقا للمشهور نقلا وتحصيلا
بل كاد يكون إجماعا كما أعترف به بعضهم، بل في المسالك لم يخالف
فيه إلا الشاذ النادر، ولعله كذلك، إذ لم يحك الخلاف فيه إلا من
المفيد والديلمي، بل عن الغنية الاجماع عليه، بل مقتضى جواز الحلي
386

له بعد ما سمعته منه سابقا كونه مجمعا عليه أو أن النصوص به
متواترة، بل المحكي عنه الاستلال عليه بما ورد من الأخبار المستفيضة
بين العامة والخاصة وإن كأن لا يحضرني شئ منها - مضافا إلى عموم
ما دل على تسلط السيد على عبده، ومضافا إلى ما عن الكركي من أنه
ذكر أصحابنا أنه قد ورد بذلك رخصة - إلا خصوص النبوي (1)
المروي في بعض كتب الفروع " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم "
وخبر عنبسة بن مصعب (2) " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: جارية
لي زنت أحدها قال: نعم، وليكن في سر، فإني أخاف عليك السلطان "
وخبر علي بن جعفر (3) عن أخيه موسى عليه السلام " سأله عن
رجل هل يصلح له أن يضرب مملوكه في الذنب يذنبه قال: يضربه
على قدر ذنبه، وإن زنى جلده، وإن كان غير ذلك فعلى قدر ذنبه
السوط أو السوطين وشبهه، ولا يفرط في العقوبة " بل يمكن دعوى
القطع من السيرة بجواز التعزيرات له التي هي قسم من الحدود أيضا
والمناقشة باحتمال الإذن الخاصة من الإمام عليه السلام واضحة الفساد
في غير خبر عنبسة المحمول على غيره، وبذلك كله يقيد حينئذ ما دل
على أن الحد للإمام عليه السلام أو لمن يأذن له، مع إمكان كون ذلك
إذنا منه على جهة العموم، فيتساوى حينئذ الإذن في الحكم.
ثم إن مقتضى إطلاق النص والفتوى عدم الفرق في المولى بين العدل
والفاسق والذكر والأنثى، بل والمملوك كما إذا كان مكاتبا وغيره، بل
عن الشيخ التعبير بالانسان الشامل للذكر والأنثى، لكن في الدروس

(1) المستدرك - الباب 27 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 2.
(2) الوسائل - الباب 30 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 6 - 7.
(3) الوسائل - الباب 30 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 6 - 7.
387

" في جواز إقامة المرأة الحد على رقيقها والمكاتب على رقيقه والفاسق
مطلقا نظر " ولعله مما سمعت، ومن الشك في التناول، وعدم استئمان
الفاسق على مثل ذلك، والأصل عدم الجواز، ولو اشترك الموليان
اجتمعا في الاستيفاء، ولا يجوز لأحدهما الاستقلال، كما لا يجوز
إقامته على المبعض، بل في الدروس والمكاتب وإن كان لا يخلو من نظر
إذا لم يتحرر بعضه، وكذا لا فرق في الحد بين الجلد والرجم والقتل
نعم يعتبر مشاهدته لمقتضى الحد أو إقرار المولى على وجه يترتب عليه
ذلك، أما الثبوت بالبينة ففي المسالك يتوقف على الحاكم الشرعي،
وفيه نظر بناءا على جواز العمل بها لغيره من باب الأمر بالمعروف،
وكذا يعتبر معرفته لمقدار الحد وباقي ما يعتبر فيه، ومع ذلك الأحوط
عدم التعرض له مع فرض كون الحكم رخصة كما هو مقتضى المحكي
عن الشيخ وغيره، لا عزيمة لعموم النهي عن تعطيل الحد لمن كان له
إقامته، وأحوط من ذلك مباشرة نائب الغيبة له بإذن السيد بناءا على
جواز إقامة الحدود له فيها.
(و) كيف كان ف‍ (هل) يجوز أن (يقيم الرجل الحد
على ولده وزوجته) كما عن الشيخ والقاضي واختاره أول الشهيدين
أو لا يجوز كما عن المفيد وابني زهرة وإدريس والطبرسي وغيرهم،
واختاره الكركي وثاني الشهيدين، بل لعله المشهور كما استظهره بعض
الأفاضل (فيه تردد) كما في النافع والقواعد من دعوى الشيخ وجود
الرخصة في ذلك، وليس ما يحكيه إلا كما يرويه مؤيدة بما دل (1)
على كمال سلطنة الوالد والزوج على الولد والزوجة، والسيرة المستمرة

(1) الوسائل - الباب 78 من أبواب ما يكتسب به والباب 79
و 91 من أبواب مقدمات النكاح.
388

على تأديبهما وتعزيرهما الذي هو قسم من الحدود، وخصوص ما دل
على تأديب الزوجة بالضرب والهجر مع التقصير في حقوق الزوجية
كتابا (1) وسنة وإجماعا، مضافا إلى عموم الأمر بإقامة الحدود
ومن عدم صلاحية ذلك كله لتخصيص ما دل على أن إقامة الحد للإمام
عليه السلام من خبر حفص (2) " سألت أبا عبد الله عليه السلام من
يقيم الحدود السلطان أو القاضي فقال: إقامة الحدود إلى من إليه
الحكم " وغيره، مضافا إلى ما سمعته من إجماع السرائر المقتصر في
الخروج منه على السيد، بل في محكي الغنية ويجوز للسيد إقامة الحد
على من ملكت يمينه بغير إذن الإمام عليه السلام، ولا يجوز لغير السيد
ذلك إلا بإذنه، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة عليه، ومن ذلك وغيره
يعلم أن المراد بالعموم ما سمعته سابقا من الإمام ومن أذن له في ذلك
فالأقوى حينئذ عدم الجواز.
وعلى الأول فقد صرح في الدروس بأن المراد بالولد وإن نزل،
كما أنه صرح فيها وفي غيرها بعدم الفرق بين التزويج الدائم والمنقطع
بل صرح فيها أيضا بأنه لا فرق في الزوج والزوجة بين الحرين والعبدين
أو أحدهما فتجتمع حينئذ على الأمة ولاية الزوج والسيد، وهل يتوقف
إقامته حينئذ عليهما أو لكل منهما إقامته، وصرح فيها أيضا بأنه لا
فرق بين المدخول بها وغيرها، وأنه لا فرق بين الجلد والرجم قال:
لما روي (3) أنه لو وجد رجلا يزني بامرأته فله قتلهما، ومنع الفاضل

(1) سورة النساء - الآية 38.
(2) الوسائل - الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 1.
(3) الوسائل - الباب 45 من أبواب حد الزنا الحديث 2.
389

من الرجم والقطع بالسرقة، ولا يخفى عليك ما في استدلاله بالرواية
المزبورة المعلوم كون ما فيها من غير الحدود، بل للغيرة ونحوها، ولذا
لم يعتبر في الرجل كونه محصنا، على أن الحد فيه الرجم لا القتل كما
أوضحنا ذلك في كتاب الحدود، ومنه يعلم ما في الاستدلال بنحو ذلك
للقول الأول الذي قد بان لك ضعفه، هذه، وفي المسالك ويظهر من
المختلف أن موضعه ما لو كان الأب والزوج بل المولى فقيها، وحينئذ
يتجه الجواز لما سيأتي من جواز ذلك لهم في حال الغيبة، قلت: عبارته
في المختلف في غاية التشويش، وربما حكي عنه جواز ذلك لهم وإن لم
نقل بجوازه للفقيه في غير ذلك زمن الغيبة، ولكنه في غير محله، كما
أن دعوى كون النزاع في خصوص ذلك كذلك، ضرورة ظهور كلام
الأصحاب أو صريحه في كون ذلك من حيث كونه مولى وأبا وزوجا،
والأمر سهل بعد أن عرفت التحقيق في المسألة، والله العالم.
(ولو ولي وال) من الشيعة (من قبل الجائر وكان قادرا على
إقامة الحدود) بلا ضرر عليه (هل له إقامتها؟ قيل) والقائل
المفيد في محكي المقنعة والشيخ في محكي النهاية (نعم) له ذلك
(بعد أن يعتقد أنه يفعل ذلك بإذن الإمام الحق عليه السلام) قال
في الأخير: " ومن استخلفه سلطان ظالم على قوم وجعل إليه إقامة
الحدود جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال، ويعتقد أنه إنما يفعل
ذلك بإذن سلطان الحق، ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك
ما لم يتعد الحق في ذلك وما هو مشروع في شريعة الاسلام، فإن
تعدى ما جعل الله الحق لم يجز له القيام به، ولا لأحد معاونته على
ذلك، اللهم إلا أن يخاف في ذلك على نفسه، فإنه يجوز له حينئذ
أن يفعل في حال التقية ما لم يبلغ قتل النفوس، وأما قتل النفوس
390

فلا يجوز فيه التقية على حال " وفي المنتهى قد روي أن من استخلفه
سلطان إلى قوله في النهاية: " اللهم " ثم قال: أورد هذه الرواية
شيخنا أبو جعفر في نهايته، وفي محكي السرائر أنه أوردها إيرادا من
طريق الخبر لا اعتقادا من جهة الفتيا والنظر.
(و) من هنا (قيل) والقائل الحلي والفاضل والشهيدان
وغيرهم، بل المشهور (لا) يجوز له ذلك (وهو أحوط) بل وأقوى
بل ينبغي القطع به، ضرورة ظهور كلام الأصحاب بل صريح بعضهم
كما اعترف به في المسالك أن هذا المتولي غير فقيه شرعي، بل وليس
مضطرا كما يومي إليه ذكر حكم الاضطرار بعد ذلك، وقد عرفت
الاجماع بقسميه والنصوص على عدم جواز إقامتها لغير الإمام عليه السلام
ومن أذن له في ذلك، والرواية المزبورة بعد عدم جامعيتها
لشرائط الحجية وإعراض المشهور بل الجميع عدا من عرفت عنها لا
تصلح لاثبات ذلك قطعا.
(نعم لو اضطره السلطان إلى إقامة الحد جاز حينئذ إجابته ما
لم يكن قتلا ظلما فإنه لا تقية في الدماء) بلا خلاف أجده فيه كما
اعترف به في المنتهى ومحكي السرائر، بل في مجمع البرهان الظاهر الاجماع
على جواز الإجابة في ذلك على الوجه المزبور، كل ذلك مضافا إلى
عموم أدلة التقية (1) المؤيدة بما دل (2) على جواز تناول غير الباغي
والعادي الميتة وغيرها من المحرمات عند الاضطرار، لكن في إلحاق
الجرح بالقتل كما هو مقتضى التعليل وعدمه خلاف، وعن الشيخ القطع
بالأول، وفي المسالك ألحق به الشيخ رحمه الله الجرح، وهو مناسب

(1) الوسائل الباب 25 من أبواب الأمر والنهي.
(2) سورة البقرة - الآية 168.
391

لتعليل المصنف، فإن التقية المنفية في الدماء نكرة في سياق النفي،
فتعم، وفي بعض العبارات لا تقية في قتل النفوس، فيخرج الجرح
الذي لا يفضي إليه، ولا يحضرني مستند يترتب عليه الحكم، قلت:
يمكن إرادة النفوس من الدماء في المرسل فيتحد حينئذ مع ما في محكي
السرائر قال: إن خاف الانسان من ترك إقامة الحدود فإنه يجوز له
أن يفعل ذلك في حال التقية ما لم يبلغ قتل النفوس، فإنه لا يجوز
التقية فيه عند أصحابنا بلا خلاف فيه، بل هو المراد من قول الصادق
عليه السلام في خبر الثمالي (1): " لم تبق الأرض إلا وفيها منا عالم
يعرف الحق من الباطل، قال: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم
فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية، وأيم الله لو دعيتم لتنصرونا لقلتم
لا نفعل إنما نتقي، ولكانت التقية أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم
ولو قد قام القائم عليه السلام ما احتاج إلى مسائلتكم عن ذلك،
ولا قام في كثير منكم من أهل النفاق حد الله تعالى " بل هو مقتضى
ما تسمعه من المتن أيضا، بل يمكن القطع بملاحظة ما يأتي من
المتن وما هنا بإرادة النفوس من الدماء لا مطلق الجرح، وخصوصا
المعلوم عدم تأديته إلى القتل، لا أقل من الشك، فيبقى عموم الجواز
للتقية في محله، بل ينبغي القطع به فيما إذا كان المجروح من غير
الشيعة، بل قد يقال بجواز القتل فيه إذا كان الاكراه بالقتل، بل
وإذا كان يخافه، خصوصا بعد ما ورد (2) من عدم مساواة الألف
منهم لواحد من الشيعة، وأنهم مستحقون للقتل عند ظهور الصاحب

(1) الوسائل الباب 31 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2.
(2) الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو - الحديث 2.
392

روحي له الفداء، وأن إجراء حكم الاسلام عليهم للتقية الزمانية
وللهدنة ما دامت دولة الحق مستورة، بل قد يقال أيضا إن من كان
عليه الحد مخالفا وكان حده القتل في مذهبهم يجوز قتله وإن لم يصل إلى
حد الاكراه، لقاعدة إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم وغيرها.
فتحصل من جميع ما ذكرنا أنه يجوز لغير الفقيه إقامة الحد
الثابت شرعا ولو قتلا إذا كان مجبورا على ذلك، لعموم أدلة التقية،
ولا يجوز مع عدم الجبر، وهل يعتبر في حال الجواز نية كونه عن
الإمام عليه السلام؟ ظاهر المرسل المزبور ذلك، لكن قد عرفت قصوره
عن إثبات نحو ذلك وإن كان لا ريب في أنه أحوط، أما إذا كان القتل
ظلما وكان المقتول من الشيعة فلا يجوز قطعا لما عرفت، وفي إلحاق
الجرح الغير المؤدي إلى القتل قول، ولكن الأقوى خلافه، بل يقوى
جوازه في غير معلوم التأدية، ولو كان من غير الشيعة ولو مخالفا فالأقوى
جواز قتله فضلا عن الجرح خصوصا إذا كان ذلك مقتضى مذهبه،
وخصوصا إذا علم قتل الجائر له إن لم يقتله، هذه، وربما احتمل في
عبارة المصنف أن المراد بالوالي الفقيه في زمن الغيبة، وفيه أنه لا وجه
حينئذ لافراده عن المسألة الآتية، اللهم إلا أن يقال إنه باعتبار صورة
النيابة عن الجائر يتوهم المنع وإن جاز هناك، وهو كما ترى، أو يقال
إنه وإن لم نقل بالجواز في تلك المسألة يجوز هنا باعتبار كونه واليا
عن الجائر، فلا يخاف عليه حينئذ من السلطان، بخلاف ما إذا لم
يكن، أو غير ذلك، والأمر سهل بعد ما عرفت وتعرف أن الحكم
جائز له على كل تقدير.
(و) كيف كان فقد (قيل) والقائل الإسكافي والشيخان
والديلمي والفاضل والشهيدان والمقداد وابن فهد والكركي والسبزواري
393

والكاشاني وغيرهم على ما حكي عن بعضهم:
(يجوز للفقهاء العارفين)
بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية العدول (إقامة الحدود في حال
غيبة الإمام عليه السلام كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر
سلطان الوقت، ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك) كما يجب
مساعدة الإمام عليه السلام عليه، بل هو المشهور، بل لا أجد فيه
خلافا إلا ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة وإدريس، ولم نتحققه، بل
لعل المتحقق خلافه، إذ قد سمعت سابقا معقد إجماع الثاني منهما
الذي يمكن اندراج الفقيه في الحكام عنهم منه، فيكون حينئذ إجماعه
عليه لا على خلافه، كما أن ما في التنقيح من الحكاية عن سلار أنه
جوز الإقامة ما لم يكن قتلا أو جرحا كذلك أيضا، فإن عبارته في
المراسم عامة للجميع، قال فيها: فقد فوضوا عليهم السلام إلى الفقهاء
إقامة الحدود والأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدوا واجبا، ولا يتجاوزوا
حدا، وأمروا عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك ما استقاموا
على الطريقة.
فمن الغريب بعد ذلك ظهور التوقف فيه من المصنف وبعض كتب
الفاضل سيما بعد وضوح دليله الذي هو قول الصادق عليه السلام في
مقبول عمر بن حنظلة (1) " انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا
ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فلترضوا به حاكما، فإذا
حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف، وعلينا رد،
والراد علينا راد على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله عز وجل "
وفي مقبول أبي خديجة (2) " إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل

(1) الوسائل - الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 1.
(2) الوسائل - الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 5.
394

الجور، لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه
بينكم، فإني قد جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه " وقول صاحب الزمان
روحي له الفداء وعجل الله فرجه في التوقيع (1) المنقول عنه: " وأما
الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم
وأنا حجة الله " وعن بعض الكتب روايته " فإنهم خليفتي عليكم " إلى
آخره إما بدعوى أن إقامة الحد من الحكم سيما في مثل حد القذف
مع الترافع إليه، وثبوته عنده، وحكمه بثبوت الحد على القاذف،
فإن المراد من الحكم عليه إنفاذ ما حكم به لا مجرد الحكم من دون
إنفاذ، أو لظهور قوله عليه السلام: " فإني قد جعلته عليكم حاكما "
في إرادة الولاية العامة نحو المنصوب الخاص كذلك إلى أهل الأطراف
الذي لا إشكال في ظهور إرادة الولاية العامة في جميع أمور المنصوب
عليهم فيه، بل قوله عليه السلام: " فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله "
أشد ظهورا في إرادة كونه حجة فيما أنا فيه حجة الله عليكم، ومنها
إقامة الحدود، بل ما عن بعض الكتب " خليفتي عليكم " أشد ظهورا،
ضرورة معلومية كون المراد من الخليفة عموم الولاية عرفا، نحو قوله
تعالى (2): " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس
بالحق " أو لما سمعته من قول الصادق عليه السلام (3) " إقامة الحدود
إلى من إليه الحكم " جواب من سأله من يقيم الحدود السلطان أو
القاضي، كل ذلك مضافا إلى التأييد بما (4) دل على أنهم ورثة

(1) الوسائل - الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 10.
(2) سورة ص - الآية 25.
(3) الوسائل - الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 1.
(4) الوسائل الباب 8 من أبواب صفات القاضي الحديث 2
والمستدرك الباب 11 منها الحديث 30.
395

الأنبياء، وأنهم كأنبياء بني إسرائيل، وأنه لولاهم لما عرف الحق من
الباطل، وبنحو قول أمير المؤمنين عليه السلام (1) " اللهم إنك قلت
لنبيك صلواتك عليه وآله فيما أخبر به: من عطل حدا من حدودي
فقد عاندني وطلب بذلك مضادتي " الظاهر في العموم لكل زمان،
والاجماع بقسميه على عدم خطاب غيرهم بذلك، فانحصر الخطاب بهم
ولو لما عرفت من نصبهم إياهم على ذلك ونحوه.
بل منه ينقدح التأييد بعموم الأمر بالجلد للزاني والقطع للسارق
ونحوهما فيه، وبأن تعطيل الحدود يفضي إلى ارتكاب المحارم وانتشار
المفاسد، وذلك مطلوب الترك في نظر الشرع، وبأن المقتضي لإقامة
الحد قائم في صورتي حضور الإمام وغيبته، وليست الحكمة عائدة
إلى مقيمه قطعا، فتكون عائدة إلى مستحقه، أو إلى نوع من المكلفين
وعلى التقديرين لا بد من إقامته مطلقا، بثبوت النيابة لهم في كثير من
المواضع على وجه يظهر منه عدم الفرق بين مناصب الإمام أجمع، بل
يمكن دعوى المفروغية منه بين الأصحاب، فإن كتبهم مملوة بالرجوع
إلى الحاكم المراد به نائب الغيبة في سائر المواضع، قال الكركي في
المحكي من رسالته التي ألفها في صلاة الجمعة: " اتفق أصحابنا على
أن الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في
الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى عليهم السلام في حال الغيبة
في جميع ما للنيابة فيه مدخل، وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود "
ولعل مقصوده ببعض الأصحاب مشيرا به إلى ابني زهرة وإدريس اللذين
قد عرفت عدم ظهور المحكي عن الثاني منهما، بل ظاهر العكس، بل
ينبغي الجزم بإرادته ذلك، خصوصا بعد فتواه نفسه في غيرها من كتبه

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 6.
396

بالجواز، وحكايته له عن غيره، وبفحوى ما سمعته من جواز إقامة
السيد الحد والوالد والزوج على القول بهما مع أمن الضرر، بل القطع
بأولوية الفقيه منهما في ذلك بعد أن جعله الإمام عليه السلام حاكما
وخليفة، وبأن الضرورة قاضية بذلك في قبض الحقوق العامة والولايات
ونحوها بعد تشديدهم في النهي عن الرجوع إلى قضاة الجور وعلمائهم
وحكامهم، بعد علمهم بكثرة شيعتهم في جميع الأطراف طول الزمان،
وبغير ذلك مما يظهر بأدنى تأمل في النصوص وملاحظتهم حال الشيعة،
وخصوصا علمائهم في زمن الغيبة، وكفى بالتوقيع (1) الذي جاء للمفيد
من الناحية المقدسة، وما اشتمل عليه من التبجيل والتعظيم، بل لولا
عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة.
فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنه ما ذاق من
طعم الفقه شيئا، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمرا، ولا تأمل
المراد من قولهم إني جعلته عليكم حاكما وقاضيا وحجة وخليفة ونحو
ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور
الراجعة إليهم، ولذا جزم فيما سمعته من المراسم بتفويضهم عليهم
السلام لهم في ذلك، نعم لم يأذنوا لهم في زمن الغيبة ببعض الأمور
التي يعملون عدم حاجتهم إليها، كجهاد الدعوة المحتاج إلى سلطان
وجيوش وأمراء ونحو ذلك مما يعلمون قصور اليد فيها عن ذلك ونحوه
وإلا لظهرت دولة الحق كما أومأ إليه الصادق عليه السلام بقوله:
" لو أن لي عدد هذه الشويهات وكانت أربعين لخرجت " وبالجملة فالمسألة
من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة.
وأغرب من ذلك كله استدلال من حلت الوسوسة في قلبه بعد

(1) البحار - ج 53 ص 174 و 176.
397

حكم أساطين المذهب بالأصل المقطوع، وإجماع ابني زهرة وإدريس
اللذين قد عرفت حالهما، وببعض النصوص الدالة على أن الحدود
للإمام عليه السلام خصوصا المروي عن كتاب الأشعثيات لمحمد بن
محمد بن الأشعث (1) بإسناده عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن علي
عليهم السلام " لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلا بإمام "
الضعيف سندا، بل الكتاب المزبور على ما حكي عن بعض الأفاضل
ليس من الأصول المشهورة بل ولا المعتبرة، ولم يحكم أحد بصحته من
أصحابنا، بل لم تتواتر نسبته إلى مصنفه، بل ولم تصح على وجه تطمئن
النفس بها، ولذا لم ينقل عن الحر في الوسائل ولا المجلسي في البحار
مع شدة حرصهما، خصوصا الثاني على كتب الحديث، ومن البعيد
عدم عثورهما عليه، والشيخ والنجاشي وإن ذكرا أن مصنفه من أصحاب
الكتب إلا أنهما لم يذكرا الكتاب المزبور بعبارة تشعر بتعيينه، ومع
ذلك فإن تتبعه وتتبع كتب الأصول يعطيان أنه ليس جاريا على منوالها
فإن أكثره بخلافها، وإنما تطابق روايته في الأكثرية رواية العامة إلى
آخره، كل ذلك مع اشتمال الخبر المزبور على الحكم الذي يرجع إليه
فيه بالضرورة من المذهب، وأما الجمعة ففيها البحث المعروف، ولا
يبعد كون المراد منه بيان أنها من مناصب الإمامة وإن أذنوا فيها
لفقهاء شيعتهم، وحينئذ فلا إشكال كما لا خلاف في وجوب مساعدة
الناس لهم على ذلك نحو مساعدتهم للإمام عليه السلام، ضرورة كونه
من السياسات الدينية التي لا يقوم الواحد بها، ومن البر والتقوى اللذين
أمرنا بالتعاون عليهما، وحينئذ لا يبعد وجوب الإقامة عليه مع أمن

(1) لم نعثر عليه وإنما رواه في المستدرك عن دعائم الاسلام في
الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة الحديث 4.
398

ضرر السلطان عليه أو على غيره من الشيعة ولو بقبول الولاية من قبله
وإظهارها عنه، وإن كان مقتضى خبر حفص (1) وكثير من عبارات
الأصحاب أو جميعها ثبوت الرخصة في ذلك، إلا أنه يمكن كون
المقام من المواضع التي متى جاز فيها الحكم وجب، ولعل تعبير الأصحاب
بالجواز لكون المهم بيان أصل جوازه في مقابل احتمال الحرمة بعد
معلومية كون ذلك من مناصب الإمامة، ومن هنا كان لا إشكال ولا
خلاف في وجوب الحكم عليه بين المتخاصمين مع طلب ذي الحق له،
فالمتجه حينئذ كونه عزيمة، خصوصا بعد ما سمعت من الأدلة التي
مقتضاها ذلك، مضافا إلى التشديد في تعطيل الحد، والظاهر كونه فيمن
له إقامته، والله العالم.
(و) كيف كان ف‍ (لا يجوز أن يتعرض لإقامة الحدود) غير
من سمعته من السيد والوالد والزوج في قول عرفت الحال فيه (ولا
للحكم بين الناس) ولا للفتوى ولا لغير ذلك مما هو مختص بالإمام
عليه السلام ونائبه (إلا عارف بالأحكام) الشرعية جميعها ولو
ملكة (مطلع على مأخذها وعارف بكيفية) استنباطها منها
وب‍ (ايقاعهما) أي الحكم والحدود (على الوجوه الشرعية) وبالجملة
المجتهد المطلق الجامع للشرائط المفروغ من تعدادها وتفصيلها في محله،
إذ هو المتيقن من النصوص والاجماع بقسميه، بل الضرورة من المذهب
نيابته في زمن الغيبة عنهم عليهم السلام على ذلك ونحوه، وفي المسالك
في شرح العبارة " المراد بالعارف المذكور الفقيه المجتهد، وهو العالم
بالأحكام الشرعية بالأدلة التفصيلية، وجملة شرائطه مفصلة في مظانها
وهذا الحكم وهو عدم جواز الحكم لغير المذكور موضع وفاق بين أصحابنا

(1) الوسائل - الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود الحديث 1.
399

وقد صرحوا فيه بكونه إجماعيا " إلى آخره، وحينئذ فلا يجوز لغيره
حتى المتجزئ بناء على ثبوته وصحة عمله بظنه، ضرورة عدم اندراجه في مقبولة
ابن حنظلة السابقة التي هي العمدة في الباب وإليها ترجع مقبولة أبي خديجة
والتوقيع عن صاحب الأمر روحي له الفداء، بل وصحيح أبي بصير (1) عن
الصادق عليه السلام " أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق
فدعاه إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى
هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل (2) " ألم تر إلى الذين يزعمون
أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا
إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به " على أن الأخير إنما هو في
بيان عدم جواز الترافع إلى قضاة المخالفين، لا أن المراد منه مطلق
الأخ وإن لم يكن عدلا عارفا بالأحكام، وفي خبره الآخر (3) " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام قول الله عز وجل في كتابه (4) ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الحكام، فقال: يا أبا بصير إن
الله عز وجل قد علم أن في الأمة حكاما يجورون، أما إنه لم يعن
حكام العدل، ولكنه عنى حكام الجور، يا أبا محمد إنه لو كان لك على
رجل حق فدعوته إلى حكم أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى
حكام أهل الجور ليقضوا له كان ممن حاكم إلى الطاغوت، وهو قول

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 2 - 3.
(2) سورة النساء - الآية 63.
(3) الوسائل - الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 2 - 3.
(4) سورة البقرة الآية 184.
400

الله عز وجل ألم تر إلى آخره " كما أن المراد بما في التوقيع
" من رواة حديثنا " الإشارة إلى الفقيه المزبور لا مطلق الراوي لحديثهم
وإن لم يكن فقيها ذا بصيرة فيها عارف عامها وخاصها ومطلقها ومقيدها
وناسخها ومنسوخها وغير ذلك مما أشاروا (ع) إليه في كلامهم كذا ما في
مقبول أبي (2) خديجة، لا أن المراد منه مطلق العالم بشئ من
قضاياهم ولو المسألة الواحدة في الطهارة أو الصلاة، خصوصا بعد ما
ورد (3) عنهم عليهم السلام " أنه لا يكون الفقيه فقيها حتى نلحن له
بالقول فيعرف ما نلحن له " وخصوصا بعد عدم الجابر لسندها بالنسبة
إلى ذلك، بل الموهن متحقق، فإني لم أجد من أثبت جميع أحكام
المطلق للمتجزئ عدا ما يحكى عن الأردبيلي مستدلا بخبر أبي خديجة
وصحيح أبي بصير ونحوهما مما عرفت المراد به ولو بقرينة الشهرة العظيمة
بل الاجماع بقسميه على اختصاص الأحكام المزبورة بالمجتهد المطلق
دون غيره.
نعم قد احتملنا في كتاب القضاء إن لم يكن إجماع جواز القضاء
لمقلد المجتهد المطلق بفتوى مجتهده، وجوازه أيضا بالمعلوم من أحكام
أهل البيت عليهم السلام، ويدل عليه قوله عليه السلام (1) في تعداد
القضاة: " رجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة " بل حكينا ذلك
عن بعض، وخصوصا مع عدم المجتهد المطلق، أو عدم إمكان الوصول

(1) الوسائل - الباب 11 من أبواب صفات القاضي الحديث 10.
(2) الوسائل - الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 5.
(3) المستدرك - الباب 15 من أبواب صفات القاضي الحديث 5.
مع اختلاف يسير.
(4) الوسائل - الباب 4 من أبواب صفات القاضي الحديث 6.
401

إليه، وعدم إمكان رفع النزاع والقتال بالصلح ونحوه، فلاحظ، فإنه
قد ذكرنا هناك أيضا جملة من المسائل المتعلقة بالقضاء وبالفتوى وغيرهما
مضافا إلى المسائل المذكورة في مظانها.
منها تقليد الميت الذي أطنب فيه الكركي هنا في حاشيته على
الكتاب، مع أن عدم جوازه ابتداء مفروغ منه بين أصحابنا، وقد حكى
الاجماع عليه غير واحد، إنما الكلام في جواز بقائه على ما قلده فيه
زمن حياته وعدمه، فبين قائل بوجوبه، وقائل بحرمته، والتحقيق
التخيير كما هو ظاهر الكركي في الجعفرية وغيره، بل الظاهر ذلك
أيضا بالنسبة إلى المجتهد الحي، اللهم إلا أن يكون إجماعا ولم أتحققه
وإن حكاه بعض الناس، إلا أن الظاهر كون المسلم منه عدم الرجوع فيما
عمل به من فتواه في الزمان الماضي، أما المتجدد من الزمان فهو مخير
فيه بينه وبين غيره، كما كان مخيرا في ابتداء التقليد مع فرض التساوي
في الفضيلة وغيرها مما هو معتبر في التقليد، وإن كان التحقيق عندنا
جواز تقديم المفضول مع وجود الفاضل من غير فرق بين العلم
بالخلاف وعدمه.
نعم لا طريق للعامي الذي لا أهلية له للنظر في أمثال هذه المسائل
إلا الرجوع إلى الأفضل من أول الأمر، لأنه المتيقن له في زمن الغيبة
المعلوم عدم سقوط التكليف فيه، ثم العمل بقوله حتى في أمثال هذه
المسائل التي لا قابلية له للاجتهاد فيها، للحرج المنفي كتابا وسنة
واجماعا، والسيرة المعلومة التي تزيد على الاجماع، بل تقرب من
الضرورة، وبالجملة فهذه المسائل وغيرها مما يتعلق بالاجتهاد والتقليد
محررة في محالها.
ثم من المعلوم أنه كما لا يجوز الحكم إلا لمن عرفت كذلك لا
402

تجوز الفتوى إلا له، ضرورة اشتراطهما معا بالاجتهاد، والفرق بينهما
أن الحكم إنشاء قول في حكم شرعي متعلق بواقعة مخصوصة، كالحكم
بأن الدار ملك لزيد، وأن هلال شهر رمضان سنة كذا قد حصل
ونحو ذلك مما هو في قضايا شخصية، والفتوى حكم شرعي على وجه
كلي، كقوله: المعطاة جائزة، أو شخصي يرجع إلى كلي، كقوله
لزيد إن صلاتك باطلة، لأنك تكلمت فيها مثلا، إذ مرجعه إلى بطلان
صلاة من تكلم في صلاته، وزيد منهم، وحكاية الفتوى عن الغير أو
إطلاقها مع القرائن الدالة على ذلك ليست فتوى من الحاكي، وإنما
هو راو يجوز العمل بقوله مع عدالته.
(و) كيف كان ف‍ (مع اتصاف المتعرض للحكم بذلك) أي
الاجتهاد الجامع للشرائط (يجوز الترافع إليه) للحكم (و) الفصل
بل (يجب على الخصم إجابة خصمه إذا دعاه للتحاكم عنده) كما
يجب القول على من حكم له وعليه منهما بلا خلاف أجده في شئ
منهما، لما سمعته من قول الصادق عليه السلام في مقبولي ابن حنظلة
وأبي خديجة وصاحب الزمان روحي له الفداء في التوقيع المعتضد
بالاجماع بقسميه عليه.
نعم قد يظهر من بعض عدم الوجوب بمجرد طلب الخصم ذلك،
بل يتوقف على طلب الحاكم له، ولكن ظاهر النصوص وجوب الإجابة
عليه بمجرد طلب خصمه ذلك، كما أن الظاهر كون التعيين مع التعدد
بيد المدعي الذي له حق الدعوى، ويجب عليه الحكم والافتاء كفاية
مع عدم المانع، لقوله تعالى (1): " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من
البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله

(1) سورة البقرة - الآية 154.
403

ويلعنهم اللاعنون " وقال تعالى (1): " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة
ليتفقهوا في الدين " وغير ذلك من الكتاب والسنة والاجماع بقسميه،
كما يجب تحصيل المرتبة المزبورة كذلك أيضا على المشهور، لتوقف
النظام عليها، بل قيل بوجوب تحصيلها عينا، وإن كان واضح الضعف
نعم قد يصير الواجب الكفائي عينيا بعدم قيام الناس به، فإنه حينئذ يجب
عليهم جميعا التحصيل حتى يوجد من فيه الكفاية، بل لا يكفي ظن
وصول الناهض إلى ذلك للأصل وغيره.
(و) على كل حال ف‍ (لو امتنع) الخصم (وآثر المضي
إلى قضاة الجور كان مرتكبا للمنكر) لأن ذلك كبيرة عندنا كما في
المسالك، وقد عرفت وجوب النهي عن المنكر على الناس كفاية، وقال
الصادق عليه السلام (2) " أيما مؤمن قدم مؤمنا في خصومة إلى قاض
أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم الله فقد شركه في الإثم " بل
قد سمعت ما في خبري أبي بصير (3) عنه عليه السلام أيضا من كونه
من أهل آية " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما
أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن
يكفروا به " بل قال (ع) في مقبولة ابن حنظلة (4): " من تحاكم إلى طاغوت
فحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتا " إلى غير ذلك من
النصوص المعتضدة بالاجماع بقسميه.

(1) سورة التوبة - الآية 123.
(2) الوسائل - الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 1.
(3) الوسائل - الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 2 و 3.
(4) الوسائل - الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 4
مع اختلاف يسير.
404

نعم لو توقف تحصيل الحق على ذلك أمكن اختصاص الممتنع
بالإثم دون الآخر، ولا ينافيه ما سمعته في المقبولة المحمولة على كون
ذلك بالاختيار لا في نحو الفرض.
هذا كله في المرافعة لإرادة الفصل والحكم، أما المرافعة للاصلاح
ونحوه فلا بأس بها عند الغير الجامع للشرائط للأصل وعموم الأمر
بالصلح بين المتخاصمين، والحث عليه كتابا (1) وسنة (2) بل قد يقال
بجواز طلب البينة له أيضا، والأمر على مقتضى قيامها من باب الأمر
بالمعروف لا من القضاء والفصل بناءا على عدم اختصاص العمل بها
بالحاكم، بل قد يقال بجواز الصلح عن إسقاط الدعوى بيمين المنكر
مثلا، فإن القضاء فيه من خواص الحاكم لا ما إذا اندرج في معاملة
لا فرق فيها بين الحاكم وغيره، فجائز كالصلح بمال ونحوه وإن كان
لا يخلو من نظر فيما لو علم المدعي عمد المنكر على اليمين الكاذبة،
وجواز تحليفه في مجلس الحكومة وإن علم بعمده إلى الكذب في اليمين
للأدلة على ذلك، وعلى سقوط الدعوى بها حينئذ، وأنها ذهبت بما فيها حتى
لو استعمل التورية عند فعله، فإن المدار على قصد من له اليمين دونه
كما حررناه في محله.
ومن ذلك يظهر لك النظر فيما قيل من أن الناس بطريق الاحتياط
وطريق الصلح غنى عن المجتهد في أغلب الفتاوى والأحكام، ويسهل
الخطب على من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من عالم وحاكم عادل أو ظالم إذا
شهدت عنده البينة العادلة بثبوت الحق، فإن له الحكم على المشهود
عليه بالتسليم كما لو علم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

(1) سورة الحجرات - الآية 10.
(2) الوسائل - الباب 1 من كتاب الصلح.
405

بل لو لم تكن بينة وطلب المدعي اليمين أورده المنكر عليه أمكن ذلك
أيضا لغيره بايقاع الصلح بين المنكر والمدعي باسقا الدعوى باليمين
أو ثبوتها بيمين الرد، فتخرج المسألة عن حكم المرافعات التي يختص
ثبوت الدعوى أو سقوطها فيها باليمين عند الحاكم، وتدخل في قسم
المعاملات التي يستوي فيها الخواص والعوام، ودعوى أن ذلك داخل في
الصلح على الحرام فلا يصح مردودة بأن ذلك مسدود في باب الأحكام
وإلا لم يجز لمدع يعلم ثبوت حقه على المنكر تحليفه، ولا للمنكر الرد
مع علمه بكذب المدعي، إذ لا يخفى عليك ما في الأخير بعد ما عرفت
بل لا يخلو اتكال الاكتفاء بالبينة إلى الظلمة والفساق وأهل الأغراض
الفاسدة - مع عدم معرفتهم العدالة وعدم معرفتهم معنى الشهادة وكيفيتها
ومعنى الجرح وغير ذلك من الأمور التي لا يحسنها إلا الماهر - من فساد
عظيم، بل قد يؤول إلى الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
نعم لا بأس بما يجوز منه للعارف وإن لم يصل إلى رتبة الاجتهاد
كل ذلك بعد الاغضاء عن الاشكال في كون الدعوى من الحقوق التي
تقابل إثباتا وإسقاطا بمال، وإنما هي من قبيل الأحكام وأن لا تسقط
بالاسقاط، واشتهار الصلح عن إسقاطها بمال مرجعه إلى الصلح على
المدعي به بزعم المدعي، لا عن إسقاطها، ولذا يحرم عليه المال لو كان
عالما بعدم مال له مثلا عند المنكر ولكن يكون الصلح قاطعا للدعوى
على زعم المدعي نحو شراء من اعترف بحرية عبد من يد من يدعي
ملكيته، فإن فائدته تمحض العبد للحرية وقطع دعوى الملكية، واحتمال
الترام القائل في الفرض بأنه صلح أيضا عن مال المدعي بزعمه الذي
هو عند المنكر بأن يحلف بالله كذبا أنه ليس له كما ترى لا يرجع
إلى محصل، خصوصا إذا فرض في غير حال الدعوى بأن يصالحه على
406

مال معلوم أنه له بالحلف بالله كذبا على قيام زيد مثلا، ودعوى اغتفار
نحو ذلك في خصوص الدعاوي مسلم بالنسبة إلى أحكامها كيمين الانكار
والرد في مجلس الحكومة لا في مثل عقد الصلح الذي يراد به إخراجها
عن حكم الدعاوي واندراجها في حكم العقود التي لا فرق فيها بين
المجتهد وغيره، والله العالم.
(ولو نصب الجائر) مؤمنا (قاضيا) لم يكن له رتبة الاجتهاد
(مكرها له) على ذلك بما يتحقق معه مسمى الاكراه الذي أشبعنا
الكلام فيه في كتاب الطلاق (جاز) له (الدخول معه) بل قد
يجب (دفعا لضرره، لكن عليه اعتماد الحق والعمل به ما استطاع)
بلا خلاف أجده في شئ من ذلك، بل ولا إشكال بعد ما دل من
الكتاب (1) والسنة (2) على رفع الإثم عن المكره، خصوصا الأخير
الذي قال الله تعالى (3) فيه: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون " وقال الصادق عليه السلام في خبر أبي بصير (4) " من
حكم في درهم بغير ما أنزل الله عز وجل فهو كافر بالله العظيم "
وخبر السكوني (5) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام " أنه
اشتكى عينه فعاده رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا علي عليه السلام
يصيح فقال له النبي صلى الله عليه وآله أجزعا أم وجعا يا علي؟ فقال
يا رسول الله: ما وجعت وجعا أشد منه قال يا علي: إن ملك الموت

(1) سورة النور - الآية 33.
(2) الوسائل - الباب 56 من أبواب جهاد النفس.
(3) سورة المائدة - الآية 48.
(4) الوسائل - الباب 5 من أبواب صفات القاضي الحديث 2.
(5) الوسائل - الباب 12 من أبواب آداب القاضي الحديث 1.
407

إذا نزل بقبض روح الفاجر أنزل معه سفودا من نار فيقبض روحه به
فتصيح جنهم، فاستوى علي عليه السلام جالسا فقال يا رسول الله: أعد
علي حديثك فقد أنساني وجعي ما قلت، فهل يصيب ذلك أحدا من
أمتك؟ فقال: نعم حكاما جائرين وآكل مال اليتيم وشاهد الزور "
إلى غير ذلك.
نعم الظاهر كما صرح به غير واحد عدم اعتبار الاكراه في جواز
قبول ذلك لمن جمع شرائط الاجتهاد وتمكن معها من إجراء الأحكام
الشرعية على وجهها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل قد يجب
عليه القبول، بل يجوز أو يجب عليه التعرض لها مع علمه بعدم
التعدي عن الواجب وعدم ارتكاب القبيح، وأنه متمكن من وضع الأشياء
مواضعها، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإغاثة المظلوم ونحو
ذلك، ولعل منه ما كان من علي بن يقطين (1) وابن بزيع (2) وغيرهما
ممن أمرهم الأئمة عليهم السلام بذلك ووعدوهم على ذلك بالثواب الجزيل
حتى في بعضها " أن بيوت هؤلاء تضئ لأهل السماء كما تضئ النجوم
لأهل الأرض، فكن يا محمد أنت منهم " بل قد يقال إنه يكفي ظنه
الغالب بذلك، وإن قال في المنتهى: لا يجوز لأحد أن يعرض نفسه
للتولي من قبل الظالمين إلا أن يقطع ويعلم علما يقينا أنه لا يتعدى
الواجب ولا يرتكب القبيح، ويتمكن من وضع الأشياء مواضعها ومن
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن علم أنه يخل بواجب أو يرتكب
قبيحا أو غلب على ظنه ذلك فلا يجوز له التعرض بحال من الأحوال

(1) الوسائل - الباب 46 من أبواب ما يكتسب به الحديث 16.
(2) تنقيح المقال - ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع.
408

مع الاختيار، فإن أكره على الدخول فيه واضطرته التقية جاز له حينئذ
ذلك، ويجتهد ويتحرز لنفسه من المظالم حسبما أمكن، لكن يمكن
إرادته أيضا ما ذكرناه بملاحظة المفهوم في صورة المنع، بل إن لم يكن
إجماع أو ظاهر نصوص في عدم قبول ذلك منهم أمكن القول بالجواز
مع عدم العلم بارتكاب محرم مطلقا، ضرورة عدم وجوب التحرز من
احتمال الحرمة التي يمكن رفع الإثم عنها مع فرض الاكراه عليها
وإن كان قد حصل بقبوله الولاية اختيارا وتسمع تمام الكلام في قبول
الولاية من الجائر في المكاسب.
ومنه يعلم اعتبار الاكراه في جواز قبول الولاية المستلزمة لظلم
الغير ونحوه من المحرمات، فلا يجزي حينئذ مجرد الخوف على النفس
أو العرض أو المال في جواز ظلم الغير لنفي الضرار مع احتماله إذا
كان ذلك هو الداعي للجائر على ظلمه وإن لم يتوعده به، بل ربما
كان ذلك من الاكراه أيضا، نعم ليس له دفع الضرر عن نفسه باضرار
غيره قطعا.
كما أن منه يعلم الحال في كثير من المسائل المتعلقة في المقام
الذي هو فرد أيضا من المسألة الآتية حتى يتحقق موضوع الاكراه،
وإن كان تسمع إن شاء الله تمام الكلام فيه في كتاب الطلاق، ومنه
يعلم عدم كون المسألة من التقية الدينية، وإنما هي الاكراه ولو من
غير المخالفين.
كما لا فرق في المكره على ذلك بين الفقيه وغيره، بل ولا بين
الاكراه على العمل بمذهب المخالفين أو غيرهم، ضرورة اشتراك الجميع
مع الاكراه عليها في الجواز المعلوم نقلا بل عقلا مع فرض عدم تمكنه
من التخلص على وجه يكون به غيره مكره، وإلا كان ظالما آثما ضامنا
409

لجميع ما يباشره من إتلاف مال الغير، لأن عليه اتباع الحق والتجنب
عن الباطل على حسب إمكانه، بخلافه في الحال الأول، فإنه لا ضمان
عليه وإن باشر، لقوة السبب على المباشر كما أوضحناه في محله إلا في
الدماء على الوجه الذي عرفته سابقا،
وإلى ذلك كله أشار المصنف
رحمه الله بقوله: (وإن اضطر إلى العمل بمذهب أهل الخلاف جاز إذا
لم يمكن التخلص من ذلك ما لم يكن قتلا لغير مستحق، وعليه تتبع
الحق ما أمكن) هذا، وفي المسالك ويجب عليه أي في حال الاضطرار
إلى مذاهب أهل الخلاف التعلق بالأقرب فالأقرب إلى الحق إذا أمكن
ولا ريب في رجحانه، أما الوجوب فلم يحضرني دليل له عدا الاعتبار
الذي لا يصلح دليلا، كما أن من المعلوم عدم اعتبار خصوص الاكراه
في أصل العمل بأحكامهم تقية، لعموم أدلتها وشدة الحث والتأكيد
في مراعاتها، قال علي بن الحسين عليه السلام (1): " إذا كنتم
في أئمة جور فامضوا أحكامهم ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا " والله هو
العالم بحقائق أحكامه، والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وله
الشكر على إفضاله علينا بالنعم الجسام والمنن العظام التي لا تعد ولا
تحصى، وكان الفراغ من ذلك يوم السبت سادس وعشرين من جمادي
الثاني سنة الألف والمأتين وسبعة وخمسين من الهجرة النبوية على
مهاجرها ألف صلاة وتحية، القسم الثاني في العقود.

(1) الوسائل - الباب 1 من أبواب صفات القاضي الحديث 7.
(2) وفي النسخة الأصلية " هذا آخر صورة ما كتبه المصنف سلمه
الله تعالى وكان هذا المجلد آخر ما صنفه سلمه الله تعالى فكمل بكماله
شرح جميع شرائع الأسلم جعله الله عونا له ولنا في جميع المهام في
الدنيا ويوم القيام والحمد لله رب العالمين.
410

تم الجزء الحادي والعشرون من كتاب جواهر الكلام بحمد الله
ومنه، وقد احتوى على كتاب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وقد بذلنا الجهد غايته في تصحيحه ومقابلته
للنسخة الأصلية المخطوطة المصححة بقلم
المصنف نور الله ضريحه، وقد خرج
بعون الله ولطفه خاليا عن
الأغلاط إلا نزرا
زهيدا زاغ
عنه
البصر
عباس القوجاني
411