الكتاب: جواهر الكلام
المؤلف: الشيخ الجواهري
الجزء: ١
الوفاة: ١٢٦٦
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: تحقيق وتعليق : الشيخ عباس القوچاني
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٣٦٥ ش
المطبعة: خورشيد
الناشر: دار الكتب الإسلامية - طهران
ردمك:
ملاحظات: نهض بمشروعه : الشيخ علي الآخوندي

جواهر الكلام
" في شرح شرائع الاسلام "
تأليف
شيخ الفقهاء وإمام المحققين الشيخ محمد حسن النجفي
المتوفى سنة 1266
الجزء الأول
قوبل بنسخة الأصل المخطوطة والمصححة بقلم المصنف طاب ثراه
حققه وعلق عليه الشيخ عباس القوچاني
نهض بمشروعه
الشيخ علي الآخوندي
نام كتاب: جواهر الكلام
تيراژ: 2000 نسخه
نوبت چاپ: سوم
تاريخ انتشار: پائيز 1367
چاپ از: چاپخانه خورشيد
دار الكتب الاسلامية
: تهران، بإزار سلطاني، تلفن 520410
تعريف الكتاب 1

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
ترجمة المؤلف
بقلم الحجة الشيخ محمد رضا المظفر
من هو؟
هو (محمد حسن) بن الشيخ باقر بن الشيخ عبد الرحيم بن أغا محمد الصغير بن
عبد الرحيم الشريف الكبير.
هو عنوان الأسرة الجواهرية العلمية المعروفة بالنجف الأشرف، وبكتابة
(جواهر الكلام) عرفت. ومنه ابتدأت شهرتها وطار صيتها، وانتشرت آثارها،
وتوطدت أركانها.
وإذا كان قصير النسب فهو المطول لمجد أسرته، والمجدد لها الذكر الذائع وبعد
الصيت، وطيب الأحدوثة، والفخر الخالد. والمؤسس لمحتدها والباني لصرح عزها.
ولم يقتصر جهد هذا الشيخ الجليل على تصنيف كتابه العظيم (الجواهر) فحسب -
وإن كان هذا وحده ليس بالشئ القليل، فقد جعله في مصاف العظماء النوابغ على
ما سيأتي - ولكنه كان من عظماء القرن الثالث عشر الهجري ونوابغه في كتابه هذا
المقدمة 2

وفي قوة عارضته، ولسانه المفوه، وبراعة تدريسه، وإدارته لشؤون النجف والعالم
الاسلامي التابع لها، وأخلاقه الفاضلة المحمدية وملكاته العالية الملكوتية، وعنايته
الفريدة بتربية تلامذته أبطال الحوزة العلمية الذين تبوأوا بعده منصة الزعامة الروحية المطلقة.
وقد انتهت إليه الرئاسة العامة والمرجعية في التقليد باستحقاق، فنهض بها خير
ما ينهض به المجاهدون العاملون، وتفرد بها لا يشاركه مقارن ولا يزاحمه معارض في النجف
وخارجها، مع وفرة العلماء الكبار في عصره.
تولده ووفاته
لم ينص المؤرخون لحياته على تأريخ ولادته - على العادة في أكثر العظماء المغفلة
نشأتهم الأولى - أما وفاته فالمتفق عليه أنها كانت سنة 1266 وعين بعضهم أنها ظهر يوم
الأربعاء غرة شعبان.
وقد استنتج شيخنا آغا بزرك الطهراني حفظه الله أن ولادته في حدود سنة 1200
أو 1202 من أمرين: (الأول) أن المسموع من الشيوخ أنه حين الشروع في تأليف
الجواهر كان عمره خمسا وعشرين سنة. و (الثاني) أنه ابتدأ في تأليفه في حياة أستاذه
الشيخ كاشف الغطاء المتوفى سنة 1228. - وستأتي الإشارة إلى ذلك - وإذا طرحنا
25 من 1228 كان ما استنتجه شيخنا على نحو التقريب.
وإذا صح أن الشيخ ممن تلمذ على الأستاذ الأكبر الآغا الوحيد البهبهاني المتوفى
سنة 1208 وأدرك صحبته - كما نقله الشيخ عباس القمي في الفوائد الرضوية عن بعضهم -
فلا بد أن تكون ولادته أسبق من ذلك بكثير، نظرا إلى أنه لا يصح في ابن ثمان أو ست -
مهما كان نبوغه - أن يتلمذ على مثل الأغا البهبهاني ويصطحبه.
ثم إن صاحب الروضات - وهو ممن عاصر الشيخ وحضر درسه - خمن
عمره في سنة 1262 بسن السبعين، فتكون - على هذا - حوالي سنة 1192.
فلا ويبعد حينئذ أنه أواخر أيام درس الوحيد البهبهاني.
المقدمة 3

ومن هذين القولين يمكن القول بتقدم تولده على ما قر به الشيخ أغا بزرك. أما
أنه ابتدأ في تأليف كتابه في حياة أستاذه كاشف الغطاء فلا يدل على أن ذلك كان
في أخريات أيام أستاذه، بل يجوز أن يكون ذلك في حدود سنة 1217 مثلا.
فتتقارب المنقولات.
وعليه فالأقرب أن تولده في حدود سنة 1192. ويساعد على ذلك الاعتبار،
لا سيما - كما قيل - أنه ممن تلمذ على السيد بحر العلوم المتوفى سنة 1212 أو روى عنه.
فهل تلمذ عليه أو روي عنه وهو ابن عشر أو ثمان؟!
نشأته
لم يكن شيخنا المترجم له مبتدئا في اختياره المسلك الديني، بل ورث ذلك من
أسرته العلمية التي ورثت هذا المسلك أبا عن جد، فإن جده الأعلى عبد الرحيم المعروف
بالشريف الكبير هو الذي هاجر إلى النجف لطلب العلم، وصار ممن يشار إليه بالفضيلة
حتى توفي فيها أوائل القرن الثاني عشر. وانجب ولدين عالمين كبيرين هما آغا محمد
الكبير واغا محمد الصغير.
أما الأول الكبير فهو الذي تزوج بنت العالم الجليل المولى أبي الحسن الشريف العاملي
الفتوني صاحب كتاب ضياء العالمين في الإمامة المعروف الذي لا يزال مخطوطا عند الأسرة
الجواهرية. فأنجب منها بنتا واحدة فقط تزوجها الشيخ عبد الرحيم ابن عمها آغا محمد
الصغير، فأنجبت هي بدورها له الشيخ باقر والد المترجم له.
فالشيخ باقر هذا سبط آغا محمد الكبير وحفيد آغا محمد الصغير، فهما جداه لأمه
وأبيه، فقد ولده الشريف الكبير عبد الرحيم مرتين.
كما أن الشيخ باقر سبط الشريف أبي الحسن الفتوني من جهة أمة. ولذا كان
شيخنا صاحب الجواهر يعبر عن الفتوني بجدنا.
فشيخنا المترجم له نقطة نقطة التقاء الأسر العلمية ومجمع فضائلها من جهة الآباء والأمهات
المقدمة 4

ووالده الشيخ باقر بالخصوص كان من فضلاء أهل العلم.
كما أن أخاه الذي يكبره سنا الشيخ محمد حسين كان من نوابغ طلاب العلم،
وقتل في ريعان شبابه خطأ وهو في طريقه إلى مسجد السهلة، بطلقة نارية طائشة من
أحد طلاب العلم الذين كانوا - بأمر الشيخ كاشف الغطاء وتوجيهه - يتدربون في الصحراء
خارج النجف على الرمي بالبنادق لغرض الدفاع عن هجمات الوهابيين التي كانت مستمرة
على النجف وكربلاء.
ومن الغريب أن والدتهما العلوية - على ما هو المشهور عند الأسرة الجواهرية -
أسفت أن يكون المقتول ولدها الأكبر محمد حسين ويبقى الأصغر على قيد الحياة الذي
لم تكن تتوسم فيه النبوغ كالقتيل، ولله في خلقه شؤون. ولكنها بقيت حية إلى العصر
الذي تسنم فيه ولدها الصغير هذا دست الزعامة الكبرى حيث انقادت له الأمور وطبق
صيته الخافقين، فرأت بأم عينها من اقتحمته عينها.
نسبه
أن نسبه الشريف كما سقناه في أول ترجمته ينتهى إلى الشريف الكبير جده الأعلى
عبد الرحيم، كما أنهاه هو في آخر كتاب القضاء من كتابه الجواهر. ولم يعلم من نسبه
إلى أبعد من ذلك.
كما لم يعلم من أين كانت هجرته جده الأعلى إلى النجف. ولعل في تلقيبه بالشريف
ما يقرب أن يكون من أسرة الشيخ الفتوني أبي الحسن الملقب بالشريف أيضا، وإن كان
شيخنا آغا بزرك يرى أن لقب الشريف يعطي في تلك العصور لمن كانت أمه علوية.
أما القول بأنه من نجار غير عربي فلم يظهر لنا ما يدل عليه، والتلقيب بأغا -
وقد لقب هو به جده الثاني محمد في آخر كتاب القضاء - ليس دليلا على الأصل الإيراني
فإن هذا اللقب كان معروفا في ذلك العصر للإيرانيين وللأتراك ولغيرهم حتى للعرب
المقدمة 5

ممن لهم منزلة رفيعة وتقدير واحترام.
وأما تسجيل الأسرة بالتبعية الإيرانية فقد حدث متأخرا كسائر الأسر النجفية.
الأخرى لأجل التخلص من الجندية الاجبارية في عهد الأتراك.
ولهذا الأمر قصة طريفة خلاصتها أن الحكومة العثمانية شددت في إحدى السنين
على تجنيد الناس بالنجف وطلبت من المرحوم الشيخ علي الجواهري المتوفى 1318 ه‍ حفيد
المترجم له المعروف ب‍ (علاوي) أن يحضر المشمولين من أسرته. وحينما رأت دائرة التجنيد
تباطؤه أرسلت عليه ثلة من الشرطة (الجاندرمة) وهو في المسجد للصلاة فأخذ مخفورا.
وكان طريقهم على دار رئيس البلدية يومئذ الحاج محمد سعيد شمسة جد رئيس بلدية النجف
السابق الحاج محمد سعيد، وكان هذا واقفا على باب داره لاستقبال الناس لمجلس التعزية
عنده. فلما رأى الشيخ وقد حفت به الشرطة وقع عليه مقبلا يديه ونهرهم وأخذ بيده
إلى أن أدخله المجلس. ولما علم أهل النجف بهذا التحدي ثارت ثائرتهم وعطلت الأسواق
وتجمهروا، مما اضطر القائم مقام إلى زيارة الشيخ في ديوانه (براني آل الجواهر المعروف
متعذرا، ولكن التدابير قد سبقته فقد عزم الشيخ أن يسجل أسرته بالتبعية الإيرانية
مع أسر أخرى نجفية رغبت في ذلك، وأرسل إلى القنصل الإيراني للحضور، فاتفق
حضوره في وقت حضور القائم مقام، فتشادا في الأمر ومنعه القائم مقام من التسجيل
والقنصل رفع قلنسوته (الكلاه) وأقسم ألا يضعها على رأسه قبل أن يتم تسجيل الأسرة
الجواهرية بالتبعية الإيرانية.
وهكذا استمر الجدال مما اضطر المرحوم الشيخ جواد نجل الشيخ علي أن يسافر
في يومه إلى بغداد وهو يومئذ ابن خمس وعشرين، واتصل هناك بالسفارة الإيرانية،
وبالمقام العالي بالاستانة، فاهتمت الحكومة الإيرانية بالأمر، وأوعزت إلى ممثلها عند
الباب العالي أن يفهم الحكومة العثمانية بضرورة الخضوع لهذا الأمر. أما السلطان فقد
أوعز إلى والي بغداد أن يترك هذه الأسرة وباقي الأسر النجفية الطالبة للتبعية الإيرانية
المقدمة 6

وشأنها، ولكن الوالي لم يحفل بأمر السلطان، والسلطان يكرر عليه الأمر ثلاث مرات
وهو مصر على عناده، مما أثار حفيظة الحكومة الإيرانية حتى قطعت علاقتها مع الحكومة
العثمانية فقد أمر الشاه ناصر الدين سفيره في الآستانة بإنزال العلم.
وحينما رأى السلطان ذلك أرسل إلى العراق رسولا خاصا بهذه المهمة، وهذا
الرسول جاء مع الشيخ جواد إلى النجف وحل ضيفا عليه، فسجلت الأسرة بحضوره
وحضور القائم مقام والقنصل في ديوان آل الجواهر، كما سجلت كثير من الأسر كآل
الصافي وآل سميسم في ذلك المجلس. ووجه الشيخ جواد كلاما قارصا إلى القائم مقام مهددا
له بالتحاق جميع رعايا الدولة العلية بإيران إن بقي موظفوها على مثل هذه الغطرسة.
وكان ذلك الموقف باكورة أعمال الشيخ جواد ومنه ارتفع شأنه وعلا صيت فعاليته.
ولا شك أنه سجل بذلك - يومئذ - نصرا مبينا للحوزة العلمية بالنجف وللحكومة
الإيرانية معا، فإن النجف التي هي مرجع تقليد الأقطار الشيعية وقبلة أنظارهم كانت
موضع عناية الحكومة الإيرانية واعتزازها، فكيف إذا طلب عيون أهلها التبعية لهم
والالتحاق، لا سيما وإن النجف كانت تلاقي من اضطهاد الدولة العثمانية ما لا يوصف،
ولم يكن شئ يقف في وجهها غير تعهد الحكومة الإيرانية بصيانة العتبات المقدسة وأهلها،
ولو ذلك لنسفوها نسفا وما أبقوا فيها ديارا.
* * *
هذا نسب شيخنا المترجم له من قبل الآباء، أما من جهة الأمهات، فهو ينتهي
من قبل أم أبيه - كما تقدم - إلى الشيخ أبي الحسن الفتوني العالم الجليل. ومن قبل
أمه إلى السادة العذاريين المعروفين بآل حجاب، فإنها علوية منهم. ولذا كان يقضي
شيخنا شطرا من أوقاته في أيام نشأته الأولى في العذارات (وهي من قرى الحلة) عند
أخواله. وسيأتي في سبب تأليفه الجواهر أنه ألفه ليكون له مذكرة فقهية يرجع إليها
حيث لا تتهيأ له هناك الكتب للمراجعة عند الحاجة.
المقدمة 7

آثاره العلمية
ألف الشيخ - عدا جواهره التي سيأتي تفصيل الحديث عنها - كتاب نجاة العباد،
وهو رسالة عملية صنعها لمقلديه، وهي من الرسائل العلمية التي حظيت بالتعاليق والشروح
بعد عصره. وله أيضا عدة رسائل أخرى في الدماء الثلاثة والزكاة والخمس وأحكام
الأموات، كلها ألحقت بنجاة العباد، وصارت جميعها رسالة واحدة بهذا الاسم.
وله هداية الناسكين في مناسك الحج، ورسالة في المواريث وهي آخر مؤلفاته
فقد فرغ منها سنة الوباء 1264.
وله كتاب في الأصول تلفت نسخته الوحيدة التي هي بخطه، وقصتها أن له
وليدا صغيرا تناول هذا الكتاب أثناء لعبه وألقاه في البئر. وبعد اخراجه وجدوا أنه
قد انمحت كلماته ولم يكن وقت الشيخ يسمح له يومئذ وهو المرجع للتقليد أن يعيد تأليفه
ولو لم يكن إلا جواهر الكلام لكفى. هذا الكتاب الكبير الواسع الذي
بلغت أجزاؤه حسب تقسيمه 44 جزءا، وإن كان الناشرون حشدوا هذه الأجزاء
في ستة مجلدات ضخام حشدا، رعاية للاقتصاد. وسيأتي وصف هذا الكتاب الجليل
الحركة العلمية في عصره
كانت الحركة العلمية في عهد شيخنا المترجم له في القمة من الحركات العلمية التي
امتاز بها القرن الثالث عشر الهجري في خصوص النجف الأشرف وكربلاء.
فإن النهضة العلمية التجديدية في الفقه وأصوله - بعد الفتور العام الذي أصابها في
القرن الحادي عشر وأكثر الثاني عشر - ابتدأت في كربلاء على يد المؤسس العظيم الاغا
محمد باقر البهبهاني المتوفى سنة 1208.
وبقيت بعده النجف تنازع كربلاء وتشاطرها الحركة العلمية بفضل تلميذيه العظيمين
السيد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1212 والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة 1228
المقدمة 8

ذا تحول قسم من الاتجاه العلمي شطر النجف بسببهما، وإن كانت كربلا بقيت محافظة
على مركزها الأول حتى وفاة المربي العظيم المعروف بشريف العلماء وهو الشيخ محمد
شريف المازندراني المتوفى سنة 1245 الذي قيل إن حضار درسه كانوا يبلغون ألف
طالب، وكفى أن أحد طلابه وتلاميذه الشيخ الأنصاري. وبوفاة شريف العلماء فقدت
كربلا تلك المركزية العلمية حتى اتجهت الأنظار صوب النجف لوجود الشيخ صاحب
الجواهر المترجم له الذي اجتذب إليه طلاب العلم بفضل براعته البيانية وحسن تدريسه
وغزارة علمه وثاقب فكره الجوال وبحثه الدؤب وانكبابه على التدريس والتأليف ولعل
هناك أسبابا أخرى لهذا التحول ولا يبعد أن من أهمها أن كربلا بالخصوص كانت
عرضة للغارات السعودية وضغط الحكومة العثمانية وتعدياتها.
وعلى كل حال، فقد شهد هذا القرن وهو القرن الثالث عشر حركة علمية واسعة
في كربلا والنجف مبتدئة بالوحيد البهبهاني، وبلغت غاية ازدهارها في عصر شيخنا
المترجم له في خصوص النجف، فإن عصره ازدهر بكبار الفقهاء فطاحل العلماء من
أساتذته وأقرانه وتلاميذه ما لم يشهده أي عصر مضى. ويكفي أن يكون من نتاج ذلك
العصر حبر الأمة وإمام المحققين الشيخ مرتضى الأنصاري المتوفى سنة 1281 الذي
أنسى الأولين والآخرين، إذ تجدد على يديه الفقه وأصوله التجدد الأخير، وخطابهما
شوطا بعيدا قلب فيه المفاهيم العلمية رأسا على عقب، ولا يزال أهل العلم إلى يومنا هذا
يدرسون على مدرسته العلمية الدقيقة ويستقون من نمير تحقيقاته، ويتغذون بآرائه،
ويتخرجون على كتبه البارعة الفاخرة.
وكان شيخنا وأستاذنا العظيم ميرزا حسين النائيني المتوفى سنة 1355 يفتخر بأنه
من تلامذة مدرسته، وإن كل ما عنده من تحقيق ومعرفة فهو فهم أسرار آراء الشيخ
الأنصاري وتحقيقاته وعرضها عرضا مبسطا. وكم صرح بهذا المعنى على منبر الدرس
معتزا بذلك. وفي الحقيقة كان الميرزا النائيني يعد فاتحا مظفرا، ومجددا موصلا لما
المقدمة 9

انقطع - أو كاد - من المنهج البحثي للشيخ. وهو وتلاميذه يعتزون بهذه الصلة
والوصلة العلمية بالشيخ.
* * *
نعم، لقد ازدهر عصر شيخنا صاحب الجواهر بالعلم والعلماء والطلاب، فازدحمت
النجف يومئذ برواد العلم من كل حدب وصوب لا سيما من القطر الإيراني، وبلغت
القمة في رواج العلم فيها.
ومرد ذلك - فيما اعتقد - هو الاستقرار السياسي وفترة السلم التي سادت في
البلاد الاسلامية يومئذ، لا سيما بين الدولتين العثمانية والإيرانية اللتين كانتا يتطاحنان
ويتصارعان للتغلب على العراق مدة قرنين تقريبا، أنهكت فيها الأمة العراقية أيما أنهاك
وتأخرت تأخرا أفقدها كل حيوية، فسادها الوباء والجهل والفقر وأنواع الأمراض الفتاكة
وابتدأت الهدنة بين الدولتين قبيل عصر شيخنا المترجم له، وذلك في أخريات
أيام الشيخ جعفر كاشف الغطاء، إذ سافر إلى إيران بقصد اطلاق سراح أسرى
جيوش الحكومة العثمانية بعد موقعة حربية سنة 1221 توغلت فيها إلى حدود إيران
ففشل الجيش العثماني وأسر أكثره. فاستطاع الشيخ كاشف الغطاء أن نقنع شاه إيران
فتح علي شاه وابنه مرزا محمد علي قائد الجبهة بالعفو عن الأسرى وارجاعهم إلى حكومتهم
بعد أن فشلت كل الوسائط التي استعملتها الحكومة العثمانية.
فكان الصلح بعد ذلك بين الدولتين على يد مصلح الدولتين العظيم الشيخ موسى
نجل الشيخ كاشف الغطاء المتوفى سنة 1241، وفتح الباب واسعا أمام الهجرة الإيرانية
إلى العتبات المقدسة، وأمام الأموال التي كانت ترسل لتعمير العتبات وصيانتها ولرجال
الدين ومراجع التقليد. فزاد ذلك في نشاط الحركة العلمية لا سيما أنها كانت تحظى
بتشجيع شاه إيران بتقديره للعلماء تقديرا منقطع النظير. وكفى من تقديره الحفاوة البالغة
التي لاقاها الشيخ كاشف الغطاء في إيران، وقبول وساطته في أعظم أمر كان يحرص
عليه الشاه، وهو الاحتفاظ بأسرى الترك تأديبا للحكومة العثمانية، لا سيما قائد الجيش
المقدمة 10

كهيا سليمان باشا ابن أخ والي بغداد يومئذ علي باشا.
وبلدة النجف - مع كل هذا - أصبحت في ذلك العهد في أمان من الغارات
الوهابية التي كانت لا تنقطع والتي كانت النجف وكربلاء مهددتين بها دائما، بعد أن
فشلت الغارة الأخيرة لهم سنة 1221 على النجف بأعجوبة ومعجزة وقد بيتوها على حين غرة.
نعم قد أصبحت النجف في أمان من الغارات بسببين - الأول - تسليح أهلها
لا سيما رجال الدين بأمر وإشراف الشيخ كاشف الغطاء، فإنه جلب لهم السلاح الكافي
الرائج يومئذ وأمر بتدريبهم عليه، فكانوا يخرجون خارج البلد كل يوم للتدريب وبسبب
هذا قتل خطأ شقيق صاحب الجواهر كما تقدم. وكان حمل السلاح والتدريب عليه فرضا
دينيا للدفاع حتى ألف السيد الجليل صاحب مفتاح الكرامة السيد جواد العاملي المتوفى سنة 1226 رسالة في وجوب الذب عن النجف، وهو أحد تلامذة كاشف الغطاء المبرزين
وأستاذ صاحب الجواهر، كما أن الشيخ كاشف الغطاء شجع طلاب العلم على الرياضة
الدارجة في ذلك العصر، وصنع (زورخانة) في نفس داره. وإن كان تسليح النجف
قد أسئ استعماله بعد ذلك بوقوع الفتن بينهم لا سيما فتنة الشمرت والزكرت المعروفة التي امتدت زمنا طويلا مدة قرن تقريبا. ولا تزال آثارها باقية في التحزبات النجفية إلى اليوم
وإن بدأت تتضاءل على ممر الزمن
والثاني من الأسباب لأمان النجف من الغارات: بناية سورها الأخير والخندق
حوله الذي اتفق عليه مبالغ طائلة خيالية في ذلك العصر الصدر الأعظم نظام الدولة جد
أسرة آل نظام النجفية. ويومئذ كان وزيرا لفتح علي شاه. وقد تم بناؤه سنة 1226
أي قبل وفاة الشيخ كاشف الغطاء بسنتين.
فصارت النجف بسببه قلعة حصينة لا تستطيع أية قوة في ذلك العصر أن تقتحمها. وبسببه
استطاعت أن تقاوم الجيوش البريطانية أكثر من شهر في حصار النجف المعروف سنة 1336
* * *
المقدمة 11

وإذا اطمأنت النجف على سلامتها من عادية الوهابيين من جهة وعادية الحكومة
العثمانية من جهة أخرى، لا سيما بعد وساطتها وتأثيرها لدى الحكومة الإيرانية كما سبق،
ورعاية الحكومة الإيرانية لها - ابتدأت حياة الاستقرار والاطمئنان فيها تزدهر عند
سكانها والمهاجرين إليها، ونشطت فيها أيضا - تبعا لذلك الحياة الاقتصادية، ونشط
العمل لجلب المياه من الفرات إليها بشتى الوسائل.
إن كل تلكم الأسباب اجتمعت في عصر الشيخ صاحب الجواهر بالذات أكثر
من كل عهد مضى، فزادت الهجرة إليها من أهل العلم زيادة ملحوظة، وانصرف
أهل العلم إلى التحصيل والجد والدرس والتدريس والتأليف. فلذلك كان نشاط الحركة
العلمية في ذلك العهد في القمة.
وإلى جانب ذلك نشطت الحركة الأدبية أيضا نشاطا لم تعهده البلاد الاسلامية
كلها بعد القرن الخامس الهجري. فنبع في القرن الثالث عشر بالنجف (والحلة أيضا)
شعراءهم في الدرجة الأولى من الشعر العربي، وفي الطليعة من شعراء كافة العصور الاسلامية
كشعراء آل الأعسم وآل محيي الدين وآل النحوي والشيخ عباس الملا علي. ثم طبقة
السيد حيدر الحلي والشيخ محسن الخضري والسيد جعفر الحلي ومن إليهم ممن جاء تلوهم
من طبقة المجاهد الحجة السيد محمد سعيد الحبوبي والسيد إبراهيم بحر العلوم الذين كانوا
من نوابغ القرنين الثالث عشر والرابع عشر.
ولا شك أن نشاط الحركة الأدبية كان من نتائج ازدهار النجف بالعلم والعلماء،
واستقرارها من نواحي الأمان والحياة الاقتصادية، فكثرت محافلها ومجالسها،
والمباريات الأدبية، وتوطدت فيها البيوت العلمية توطنت.
وجميع هذا مما ساعد على ظهور نوابغ في العلم هم في جبين الدهر غرة بيضاء مشرفة
وفي صفحات القرون صفحة مليئة بالمعرفة مرصونة بالآثار العلمية القيمة.
ونكرر أنه في القمة كان شيخنا صاحب الجواهر وكتابه، وكان عهده أيضا كذلك،
المقدمة 12

وذلك من ناحية إقبال الناس على تحصيل العلم وكثرة الطلاب حتى قيل كان مجلس بحثه
يضم أكثر من ستين مجتهدا من المعترف لهم بالفضيلة. وقد تخرج على يديه من أعلام
الدين ما يفوت الحصر. واستمر هذا الارتفاع في الأرقام العلمية للمؤلفات والعلماء حتى
القرن الرابع عشر الذي ورثنا فيه ذلك المجد العلمي والأدبي.
ولولا الوباء الكاسح الذي كان ينتاب العراق والنجف الخصوص بين آونة
وأخرى، ولولا فتنة الشمرت والزكرت التي استفحلت بالنجف في تلك العهود وصارت
سببا لقلق السكان الدائم وخطرا على الأرواح والأموال وكرامة الناس - لكان للنجف
شأن آخر لم يحلم به المقدر.
كتاب الجواهر
تقدم في الفصل السابق وصف الحركة العلمية في القرن الثالث عشر خصوصا في
النجف وقلنا: إن ذلك القرن شهد تحولا جديدا في الاتجاه العلمي، ابتدأ على يد
الوحيد البهبهاني.
وقد برز في ذلك القرن أقطاب لعلم الفقه وأصوله هم في الدرجة الأولى علما وتأليفا
وتقوى وصلاحا. وخلفوا لنا آثارا قيمة خالدة تشهد على مدى التوسع العلمي في ذلك
العهد، مثل كتاب كشف الغطاء ومفتاح الكرامة والرياض والمكاسب في الفقه، والقوانين
والفصول والضوابط وحاشية المعالم للشيخ محمد تقي الأصفهاني ورسائل الشيخ الأنصاري
وتعليقاتها في أصول الفقه، إلى غير ذلك من كتب مطولة.
وكان في القمة من تلك الآثار الفقهية كتاب (جواهر الكلام) في شرح شرائع
الاسلام الموسوعة الفقهية التي فاقت جميع ما سبقها من الموسوعات سعة وجمعا وإحاطة بأقوال
العلماء وأدلتهم. فوفق الكتاب توفيقا منقطع النظير في إقبال أهل العلم عليه رجوعا
ونسخا. وبالأخير توفق للنشر بعد وفاة المؤلف بقليل، فطبع على الحجر بإيران خمس
المقدمة 13

طبعات في ستة مجلدات ضخام، ووقف منه مئات النسخ على طلاب العلم بالنجف
وكربلاء وإيران.
والسر في هذا الاقبال على الكتاب يرجع إلى أنه كتاب لم يؤلف مثله في سعته
وأحاطته بأقوال العلماء وأدلتهم ومناقشتها، مع بعد نظر وتحقيق.
مضافا إلى أنه كتاب كامل في أبواب الفقه كلها جامع لجميع كتبه. وميزة ثالثة
تفرد بها أنه على نسق واحد وأسلوب واحد وبنفس السعة التي ابتدأ بها انتهى إليها.
ورابعا، أن به الغنى عن كثير من الكتب الفقهية الأخرى ولا يستغني بها عنه،
فإن المجتهد - إذا حصل على نسخة صحيحة منه - يستطيع أن يطمئن إلى استنباط الحكم
الشرعي بالرجوع إليه فقط. وليس له أن يطمئن إلى ذلك عند الرجوع إلى ما سواه في
أكثر المسائل الفقهية حتى في هذه العصور الأخيرة. ونقل عن صاحبه رحمه الله أنه قال:
" من كان عنده جامع المقاصد والوسائل والجواهر فلا يحتاج إلى كتاب للخروج عن عهدة
الفحص الواجب على الفقيه في آحاد المسائل الفرعية ". وهذه من الشيخ شهادة قيمة
في جامع المقاصد للمحقق الثاني الشيخ على الكركي. وهو بحق أروع الكتب الفقهية
في تحقيقاته. وميزة خامسة في الجواهر، أنه احتوى على كثير من التفرعات الفقهية النادرة
بما قد لا تجده في غيره من الموسوعات الأخرى. فهو جامع لأمهات المسائل وفروعها.
فالجواهر جواهر بجميع ما تعطي هذه الكلمة من دلالة، فهو اسم على مسماه.
وهذا كله سر خلوده وتفوقه وبقائه مرجعا للفقهاء على طول الزمن. ولعدم استغناء
الفقيه عنه لا نجد في جميع الأقطار العلمية طالبا للفقه تخلو مكتبته من هذا الكتاب مهما
كانت فقيرة ومهما كانت حاجته إلى المال.
وليس - مع هذا كله - يخلو الكتاب من لعل وعسى، فإن أبرز ما يلاحظ
عليه أنه قد يحتاج في جملة من مباحثه إلى إعادة نظر المؤلف لتوضيح بعض العبارات - على
المقدمة 14

الأقل - ولتنظيمه في عرض الأدلة ومناقشتها وعرض الأقوال وأدلتها. ولكن أنى لمثل هذه
الموسوعة الكبيرة أن يسع عمر مؤلفها إعادة النظر فيها. ولا ينقضي العجب كيف تم لشخص
واحد تأليف كتاب بهذه الضخامة ووسعه عمره، مع أنه أصبح مرجعا دينيا عاما لجميع
الأقطار. وعن بعض العلماء أنه قال: لو أراد مؤرخ زمانه أن يثبت الحوادث العجيبة
في أيامه لم يجد حادثة أعجب من تصنيف الجواهر.
* * *
وعقدة العقد في هذا الكتاب - مع أنه توفق لأن يطبع عدة مرات - أن كل
طبعاته سقيمة في نسخها وإخراجها وتشويشها وتشويه عناوينها وأبوابها، وإن اختلفت
الطبعات في هذه الميزات. بل حتى ترقيم الصفحات ضن به بعض نساخ الطبعات الحجرية،
مع كثرة الغلطات الفاحشة المغيرة للمعنى خصوصا في الطبعات الأولى، حتى تكاد أن
تضيع جملة من مقاصده وآرائه.
والمطالع يعاني في قراءة تلك الطبعات كثيرا من الأتعاب المضنية المجهدة التي
لا يذللها إلا الشوق الجبار الملح إلى استخراج كنوز الكتاب والاستفادة من اللفتات
القيمة فيه.
وكم كان جميلا، بل واجبا، أن يطبع طبعا سليما صحيحا متقنا مفهرسا، ولو
على الحجر كطبعات بعض الكتب الأخرى مثل شرح اللمعة والشرائع والوافي والكافي.
ونرجوا أن تكون هذه الطبعة الجديدة - على الحروف - التي نقدمها بترجمة
المؤلف قد وافاها التوفيق في اخراج الكتاب اخراجا يليق بشأنه وبالحاجة.
ونرجو أن يكون القائمون على طبعه وإخراجه ولجنة التصحيح - وهم الآن في
أول الطريق - قد توفقوا لتدقيقه وتصحيحه وإبرازه بحلة جميلة تريح الطالب وتملأ
نفس المطالع اطمئنانا وثقة، وهم يملكون من أسباب تصحيحه ما لم يكن يملكها الناشرون
له قبلهم، وأهمها أن تكون النسخة الأصلية المصححة بخط المؤلف تحت تصرفهم.
المقدمة 15

ونسأله تعالى أن يوفقهم لا خراجه كله على نسق واحد وإن طال بهم الزمن،
واستدعى جهودا جبارة وأموالا كثيرة لا ينهض بها إلا الرجال الأفذاذ المجاهدون في
سبيل العلم. وأجرهم غير ضائع عند الله تعالى من الثواب وعند أهل العلم من التقدير والدعاء.
تأريخ تأليف الكتاب
المعروف أنه شرع في تأليفه من كتاب الخمس على غير الترتيب، وكتاب الخمس
فرغ منه بتأريخ 1231 كما سجل في آخره، وآخر ما كتبه منه الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وانتهى منه سنة 1257 كما سجل في آخره أيضا.
ولكن الشيخ آغا بزرك الطهراني حفظه الله تعالى استنتج أن أول كتاب شرع
فيه هو كتاب الطهارة بدليل أنه ذكر في مبحث أحكام الاستنجاء أستاذه الشيخ كاشف
الغطاء وقال عنه (سلمه الله)، كما تنطق به النسخة الأصلية المخطوطة. ومن المعلوم أن
الشيخ الكبير توفي سنة 1228.
أما نحن فقد استظهرنا - فيما سبق أن شروعه في تأليفه له كان قبل ذلك،
إذا صح أنه شرع فيه وهو ابن خمس وعشرين المعلوم أن
الشيخ الكبير توفي سنة 1228.
أما نحن فقد استظهرنا - فيما سبق -.
سبب تأليف الكتاب
نقل عن التكملة أن الشيخ قال في جملة كلام له مع تلميذه فقيه عصره الشيخ
محمد حسن آل يس عن كتابه الجواهر في قصة طويلة: " والله يا ولدي أنا ما كتبته على
أن يكون كتابا يرجع إليه الناس، وإنما كتبته لنفسي حين كنت أخرج إلى (العذارات)
وهناك أسأل عن المسائل وليس عندي كتب أحملها لأني فقير، فعزمت على أن أكتب
كتابا يكون لي مرجعا عند الحاجة. ولو أردت أن أكتب كتابا مصنفا في الفقه لكنت
أحب أن يكون على نحو رياض المير السيد علي فيه عنوان الكتابية في التصنيف ".
وقد علق صاحب التكملة على هذا الخبر بما بمعناه: إن حسن نية الشيخ هذه
المقدمة 16

وخلوصها من طلب الجاه والسمعة هي السبب في توفيق مؤلفه إلى إكماله والسبب في رواجه
عند الناس.
والحق أن الكتاب بما فيه من البسط وعدم الترتيب شاهد على صحة هذا النقل،
من أنه كتبه ليكون مذكرات ومرجعا له خاصة لا على أسلوب التأليفات المنمقة.
ومن هنا تعرف السر فيما كان يصنعه كثيرا من اقتطاف نص عبارات الرياض
وشرح اللمعة من دون الإشارة إلى المصدر ولا إلى ما يشعر بالاقتطاف.
أعلام تلاميذه.
ذكرنا فيما سبق كيف نشطت الحركة العلمية في النجف الأشرف في عهد الشيخ
المترجم له، وأقبل طلاب العلم على الهجرة إليها. وكان درس الشيخ بالخصوص
ملتقى النوابغ والمجتهدين من الطلاب، فتخرج على يديه جماعة كبيرة من أعلام الفقه
انتشر أكثرهم في البلاد، حتى قيل أنه لم تبق بلدة شيعية ليس فيها مرجع للناس من
تلاميذه. وكان هو يمدهم برعايته ويسددهم ويغدق عليهم. وقصة الشيخ محمد حسن آل يس
أحد أعلام تلاميذه معروفة، فإن الشيخ وجه به إلى بغداد ليكون مرجعا للناس هناك،
وبعد مدة قدم النجف أحد تجارها يحمل إلى الشيخ من الحقوق الشرعية ثلاثين ألف
(بيشلك) العملة المتداولة يومئذ. فأنكر عليه أن يحمل مثل ذلك إليه مع وجود الشيخ محمد
حسن بين ظهرانيهم ورده وقال أظن أن الشيخ محمد حسن سيهلك جوعا. ثم بعد هذا
توافد أهل بغداد لزيارة الغدير فحجبهم الشيخ عن ملاقاته معلنا غضبه وهم يجهلون السبب،
وفي عصر يوم الغدير حيث مجتمع الوفود دعا الناس للاجتماع في الصحن العلوي المطهر
وخطب فيهم مذكرا لهم فضل العلماء وندد بالبغدادين إذ قصروا في حق الشيخ محمد
حسن وبين لهم أن هذا سبب غضبه عليهم وحجبه لهم، فما كان من البغداديين إلا أن
نهضوا إلى الشيخ محمد حسن وكان حاضرا معتذرين وحملوه معهم مبجلا إلى بغداد فكان
له من الشأن ما طبق ذكره الخافقين.
المقدمة 17

وأحب أن أذكر جماعة من أعلام طلابه الذين كانت لهم الشهرة العلمية والزعامة
الدينية على الحروف الهجائية:
1 - ميرزا إبراهيم شريعتمدار السبزواري
العلوي
2 - السيد إبراهيم اللواساني
3 - السيد أسد الله الأصفهاني
4 - السيد إسماعيل البهبهاني
5 - الشيخ محمد باقر الأصفهاني ولد صاحب
حاشية المعالم
6 - الشيخ جعفر الأعسم
7 - الشيخ جعفر التستري
8 - الميرزا حبيب الله الرشتي
9 - الشيخ محمد حسن آل يس
10 - السيد حسن المدرس الأصفهاني
11 - الشيخ حسن بن الشيخ أسد الله
صاحب المقابس الكاظمي
12 - الشيخ حسن المامقاني
13 - الشيخ محمد حسن الشرقي
14 - الاغا حسن النجم آبادي
15 - ميرزا حسين الخليلي
16 - الشيخ محمد حسين الكاظمي
17 - السيد حسين الترك
18 - السيد حسين حفيد بحر العلوم
19 - الشيخ محمد حسين الطالقاني القزويني
20 - الشيخ راضي النجفي جد الأسرة
العلمية المعروفة باسمه
21 - الشيخ زين العابدين الحائري
22 - الميرزا صالح الداماد
23 - الشيخ عبد الحسين شيخ العراقين
الطهراني
24 - الشيخ عبد الرحيم النهاوندي
25 - الشيخ عبد الله نعمة العاملي
26 - السيد علي حفيد بحر العلوم
27 - المولى علي الكنى
28 - المولى علي الخليلي
29 - الاغا ميرزا علي تقي
30 - الشيخ عيسى زاهد
31 - ملا محمد الفاضل الإيرواني
32 - الملا محمد الاندرماني
33 - الملا محمد الاشرافي
34 - السيد محمد الشهشهاني الأصفهاني
35 - السيد محمد الهندي
المقدمة 18

36 - السيد ميرزا محمود البروجردي
37 - الشيخ مهدي الكوجوري
38 - ميرزا نصر الله الخراساني
39 - الشيخ نعمة الطريحي
40 - الشيخ نوح القرشي النجفي
آثاره ومآثره
أشرنا - فيما سبق - إلى الأمور التي رافقت حياة شيخنا المترجم له، لا سيما
أيام زعامته الدينية من الاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي واطمئنان النجف على
سلامتها. وهذه الأمور - بطبيعة الحال - كان لها أثر كبير في رفعة شأن المقام الروحاني
والزعامة الدينية في ذلك العصر، حتى، أصبح الزعيم الديني في النجف الرجل الأول
في البلاد، وله الكلمة العليا في الدولة الاسلامية.
وقد تمثل هذا النفوذ الكبير للزعيم الديني في شخص شيخنا المغفور له، فأحسن
الاستفادة منه في مجالات كثيرة للتوجيه وتربية رجال العلم وأعزاز شأنهم وأعلاء كلمتهم.
فوجه بأقطاب العلم إلى أنحاء كثيرة في البلاد ونشرهم في شتى الأصقاع وثبت مراكزهم،
كما قرأت في نصبه للشيخ محمد حسن آل يس علما في بغداد وهو من أفذاذ المجتهدين،
وكيف وجه إليه الأنظار وفتح له المجال، حتى صار من مراجع التقليد بعد ذلك.
ولا شك أن هذا من سعة أفقه وبعد نظره وحسن تدبيره.
ومن سعة أفقه وبعد نظره واخلاصه تنصيبه للسيخ الأنصاري خلفا له، فقد
دعاه في مرض موته بحضور أكثر أعلام تلاميذه وأولاده الذين يرى كل واحد منهم في
نفسه الكفاية لهذا المنصب الرفيع، ولقد اشرأبت إليه أعناقهم. ولكنه عهد إليه دونهم
بهذا المنصب حتى - قيل - عض أحد تلاميذه على إصبعه فأدماها وهو لا يدري.
والأنصاري يومئذ مغمور لا يعرفه كل أحد، فقد كان (ملا مرتضى) وخرج من ذلك
المجلس وهو (الشيخ مرتضى)، على أنه لم يكن معدودا من تلاميذه وإنما كان يحضر درسه
المقدمة 19

في أواخر أيامه تيمنا لا حضور التلميذ المستفيد، ولذا كان يعبر عنه في كتبه ببعض المعاصرين
لا أكثر، ولما رأى شيخنا فيه الأهلية لهذا المنصب الإلهي في علمه وتقواه وورعه قدمه
على جميع تلامذته، فكان في اختياره موفقا كل التوفيق، وأعطى بذلك درسا بليغا
في القدسية ونكران الذات لا ينسى تغمده الله تعالى برحمته.
ومن الأمور الجليلة التي استغل فيها نفوذه للصالح العام واستعمل كل براعته فتح
النهر المعروف باسمه لا رواء النجف التي كانت تعاني من العطش ما تعاني من قرون طويلة.
فإنه رحمه الله فكر أن يفتح من نهر الفرات قناة كبيرة إلى وادي النجف مهما كلفه الأمر،
ولما قيل له أن هذا المشروع يتطلب نفقات هائلة يعجز عنها الملوك إذ يجب حفر القناة إلى
مقدار عمق الآبار النجفية - قال: اعلم بمقدار ما يتطلب من مال وقد قدرت له ما يقابل
وزن ما أخرجه من الرمل ذهبا، فهل هذا لا يكفي أيضا؟ هذا هو التصميم والإرادة
الجبارة التي تذلل كل صعب.
وبالفعل تم حفر النهر المعروف باسمه الواقع على يسار الذاهب إلى الكوفة قرب
سور النجف، وقد شهدنا آثاره قبل أن تمتد دور الجديدة إليه، ومنبعه يتصل يا راضي
بني حسن العشيرة المعروفة. وجرى الماء فيه حتى قيل أن الشيخ مناع المعروف بطول
القامة (الذي كان يهتف به الناس باللغة الدارجة: شيخ مناع. رأسك بالسما ورجليك
بالكاع) أنزله الشيخ إلى النهر لقياس عمق الماء فغمره الماء إلى أعلى أطراف أصابعه وهو
رافع يديه. وكان الشيخ مناع يتحدث بهذه المكرمة لنفسه، وقد عمر بعد هذا
إلى زمن طويل حتى أدركه أحفاد الشيخ وسمعوا منه القصة منهم العلم المعروف الشيخ محسن
ابن الشيخ شريف الجواهري.
ولكن النهر كانت تعوزه أمور فنية غير متهيئة في ذلك العصر، فقضت عليه
بسرعة إذ انهارت الرمال في كثير من مواقعه. ولم ينفع معها بعده قيام تلميذه الجليل
السيد أسد الله الأصفهاني علم أصفهان المعروف، إذ سعى - بعد أن زار النجف بعد
المقدمة 20

وفاة أستاذه - إلى إكماله وصرف عليه مدة ست سنوات أموالا طائلة حتى جرى الماء
فيه سنة 1288 مرة أخرى، ثم انطمس وترك إلى الأخير تذروه الرياح، وعادت
النجف إلى عطشها المعهود تشكو إلى الله تعالى عناءها.
ومن (آثار الشيخ) بناء مأذنة مسجد الكوفة وروضة مسلم بن عقيل وصحنها وسورها
الذي لا يزال ماثلا. وكان ذلك ببذل ملك الهند أمجد علي شاه، وقد أرخ الشيخ
إبراهيم صادق ذلك من قصيدة مدح بها الشيخ والملك هذا، فقال مؤرخا للمأذنة
في آخرها:
واستنار الأفق من مأذنة * أذن الله بأن ترقى زحل
لهج الذاكر في تأريخها * علنا حي على خير العمل
1260
ومن (آثاره) البناية الملاصقة لمسجد السهلة من حيث الدخول من بابه، فإنه بناها
للمحافظة على قدسية المسجد لتكون مسكنا لخدامه وموضعا لقضاء حاجات المصلين
والمترددين إليه. وكانت للشيخ عناية خاصة بهذا المسجد، فإنه هو الذي سن عادة
الخروج إليه ليلة الأربعاء لاستجارة، وكان يصطحب معه في كل مرة تلاميذه ويهئ
لهم جميع ما يحتاجون إليه للمبيت هناك من أكل وفرش ومركب، ويتأنق لهم في كل ذلك،
وتروى عن اجتماعات تلك الليالي واحيائها نوادر وطرائف تعطى صورة لذيذة عما كان
يجري فيها، وتشهد على ما كان يتمتع به الشيخ من روح عالية ونفس كبيرة موجهة
وأبوة شفيقة على طلاب العلم.
أخلاقه وسيرته
من الأشياء المعروفة عن شيخنا مغالاته في التأنق والظهور بمظهر الأبهة في ملبسه
ومنزله وإغداقه على طلاب العلم والشعراء. ولا شك أن عامل الزمن كان له الأثر الكبير
في اختيار هذه الطريقة لرفع شأن رجال الدين، أمام الحكومة العثمانية التي بدأت في عصره
المقدمة 21

تتدخل في شؤون الناس وتختلط بالأمة العراقية وتفرض سيطرتها وتستعمل عتوها وتغرق
في استعمارها.
وإلى جنب ذلك كان على جانب عظيم من التواضع وكسر النفس فكان مع
تلاميذه كأحدهم ومع الناس كالأب الرؤوف. ومما يصور لنا ذلك الخلق الرفيع ما تنقل
عنه من كلمات قيمة تدل على أنصافه وما يتجلى به من تواضع للحق وكسر النفس، مثل:
1 - كلمته المتقدمة في الثناء على الرياض بما يشعر أن كتابه دونه في منهج التأليف.
2 - كلمته في كشف اللثام بما معناها أني لو لم يحضرني كشف اللثام لما استطعت
تأليف كتابي (الكنى والألقاب ج 3 ص 8)
3 - كلمته في القصيدة الأزرية وتمنيه أن تكتب في صحيفة أعماله بدل الجواهر،
لتكتب الجواهر في صحيفة أعمال شاعرها (مفاتيح الجنان ص 328) والكنى والألقاب
في ترجمة الآزري.
أساتذته
تلمذ رحمه الله في أول نشأته - شأن كل طالب مبتدئ - على جماعة من
الأساتذة، وليس من العادة أن يذكر مثلهم في ترجمة أحد الأعلام، ولكن الشيخ ذكر
مترجموه واحدا من أساتذته في السطوح، هو الشيخ قاسم محيي الدين المتوفى سنة 1238
فإنه أحد العلماء الأعلام المدرسين في النجف تلمذ عليه أقطاب العلم في عصره.
وتلمذ في دروسه العالية على الشيخ الكبير كاشف الغطاء، وعلى ولده الشيخ
موسى. وقيل تلمذ على ولده الآخر الشيخ محمد. كما تلمذ أيضا على السيد جواد العاملي
صاحب مفتاح الكرامة، وقيل على السيد محمد المجاهد صاحب المفاتيح المتوفى سنة 1242.
وربما قيل بتلمذه على السيد بحر العلوم، بل قيل بتلمذه - كما في الفوائد الرضوية وروضات
الجنات - على الوحيد البهبهاني وادراكه لصحبته. وهو بعيد.
المقدمة 22

أما روايته فقد روى عن جملة من هؤلاء الأعلام، وعن الشيخ أحمد الأحسائي
المتوفى 1243.
أولاده
أنجب رحمه الله ثمانية أولاد ذكور أعقب كلهم إلا الشيخ حسين الذي توفي في
شبابه قبل أن يتزوج، ذكرهم بأسمائهم مجردة وهم: أكبرهم محمد (المعروف بالشيخ حميد
بالتصغير) توفي في حياة والده وكان مبرزا وكان ولده الشيخ عبد الحسين يقيم الجماعة في مسجدهم ووالده في مسجد
الشيخ الطوسي، والباقون: عبد علي وعبد الحسين وباقر وموسى وحسين وحسن وإبراهيم
وهم ليسوا لأم واحدة، فإن الشيخ تزوج أربع نساء كلهن أعقبن، وأخيرتهن
العلوية كريمة السيد رضا بحر العلوم التي توفيت بعده وكان أوصى أن تدفن معه.
وقد توارث أولاده وأولادهم كابرا عن كابر العلم والفضيلة وزعامة النجف،
فأصبحت بعده أسرته من أشهر الأسر العلمية التي لها مكانها المرموق وزعامتها المعترف بها.
أقوال العلماء فيه
ترجم لشيخنا من قبل جماعة العلماء في عدة كتب - على ما يأتي في الفصل
الآتي - ونذكر هنا كلمة لبعضهم، لأجل أن نعطي صورة من ثنائهم عليه وعلى
كتابه، لتكون شهادة على ما سقناه من ترجمة له، فنقول:
قال الشيخ المحدث النوري الثقة الثبت المتوفى سنة 1320 في مستدرك الوسائل ج 3
ص 397: " مربي العلماء وشيخ الفقهاء المنتهى إليه رئاسة الإمامية في عصره الشيخ محمد
حسن ابن الشيخ باقر النجفي صاحب كتاب جواهر الكلام الذي لم يصنف في الاسلام
مثله في الحلال والحرام. "
وقال أيضا: " حدثني الشيخ المتقدم - يعني أستاذه الشيخ عبد الحسين الطهراني -
عن بعض العلماء أنه قال: لو أراد مؤرخ زمانه أن يثبت الحوادث العجيبة في أيامه
المقدمة 23

ما يجد حادثة بأعجب من تصنيف هذا الكتاب في عصره. وهذا من الظهور بمكان
لا يحتاج إلى الشرح والبيان " وقد تقدمت الإشارة إلى هذه الكلمة الأخيرة.
المترجمون له
1 - السيد محمد الهندي في (نظم اللئالي) 2 السيد حسن الصدر في (تكملة أمل الآمل).
3 - السيد حسين البروجردي في (نخبة المقال).
4 - السيد محمد باقر الخونساري في (روضات الجنات) ص 181
5 - الشيخ علي كاشف الغطاء في (الحصون المنيعة)
6 - الشيخ عباس كاشف الغطاء في (نبذة الغري).
7 - الميرزا حسين النوري في (مستدرك الوسائل) ج 3 ص 397.
8 - الميرزا محمد التنكابني (قصص العلماء) ص 82.
9 - المولى محمد علي في (نجوم السماء) ص 409 - استطرادا.
10 - الفاضل المراغي في (المآثر والآثار) ص 135.
11 - المولى محمد علي المدرس في (ريحانة الأدب) ج 2 ص 419.
12 - الشيخ عباس القمي في (الفوائد الرضوية) ج 2 ص 452 و (الكنى
والألقاب) ج 2 ص 156 - استطرادا. و (هدية الأحباب) ص 171.
13 - الشيخ أغا بزرك الطهراني في (أعلام الشيعة) الجزء الثاني - الكرام
البررة في القرن الثالث بعد العشرين ص 310 و (الذريعة) ج 5 ص 275.
14 - الشيخ جعفر محبوبة في (ماضي النجف وحاضرها) ج 2 ص 138.
15 - والأخير - وليس آخرهم إن شاء الله تعالى - هو المخلص الراجي رحمة ربه:
محمد رضا المظفر
المقدمة 24

جواهر الكلام
" في شرح شرائع الاسلام "
تأليف
شيخ الفقهاء وإمام المحققين الشيخ محمد حسن النجفي
المتوفى سنة 1266
الجزء الأول
قوبل بنسخة الأصل المخطوطة والمصححة بقام المصنف طاب ثراه
حققه وعلق عليه الشيخ عباس القوچاني
نهض بمشروعه
الشيخ علي الآخوندي
الناشر
دار الكتب الإسلامية
تهران - بإزار سلطاني
تمتاز هذه الطبعة عما سبقها بعناية تامة
في التصحيح
الشيخ محمد الآخوندي
1392 - ه‍ ق
حقوق الطبع والتقليد محفوظة للناشر
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ختم الشرائع بأسمحها طريقة. وأوضحها حقيقة، وأظهرها برهانا،
وأكثرها أعوانا. واصطفى لوحيه أشرف الأنبياء قبيلة، وأقربهم إليه وسيلة المبعوث
آخر الأمم محمد (صلى الله عليه وآله) وعترته الذين هم لمعجزة نبوته وقرآن معجزته
وآية رسالته.
وبعد فيقول العبد القاصر العاثر (محمد حسن بن المرحوم الشيخ باقر) أحسن
الله إليهما وأذاقهما حلاوة نشأتيهما: إني قد رأيت (كتاب الشرائع) من مصنفات الإمام
المحقق المدقق (نجم الملة والدين) أسكنه الله في أعلى عليين قرآنا في الأحكام الشرعية،
وفرقانا في العلوم الفقهية، فائقا من تقدمه إحاطة وجزالة وإتقانا، وأنموذجا لمن تأخر
عنه، ولسانا. وكثيرا ما كنت أتمنى وأرجو من الله سبحانه فضلا منه ومنا أن
أمزجه بشرح يكشف للناظرين لثام قواعده ويفتق أكمام شقائقه، ويخرج للعارفين
كنوز فوائده ويوضح للمتأملين رموز دقائقه، ويعرف الماهر الخبير انطباق المسائل
على قواعدها وارتباط الدلائل بمقاصدها، ويوقف الناقد البصير على مزال أقدام
شراحه، ويرفع الاجمال، ويدفع الاشكال عن المطالب بحسن تحريره وإيضاحه،
ويشتمل على ذكر الأقوال ومستندها بأوجز عبارة، وبين الحال في تزييف غير
2

معتمدها تصريحا وإشارة. لكن العوائق تمنعني والحوادث تردعني، غير أني
قابلتها.
بعزمة دونها العيوق منزلة
وساعد ليس تثنية الملمات -
فاستخرت الله عز وجل وشرعت فيما كنت أتسوف وأتعلل، وسميته
(جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام) والله سبحانه أسأل أن يجعله خير الزاد
ليوم المعاد، وأن يقرنه بالتوفيق لتمام المراد ويمده بالتأييد والسداد، فإنه أكرم من سئل
فجاد. قال قدس سره:
(كتاب الطهارة) الكتاب: مصدر ثان لكتب من الكتب بمعنى الجمع، أو ثالث بادخال
الكتابة، أو رابع بادخال الكتبة. أي هذا مكتوب فيه مباحث الطهارة،
أو مجموعة مسائل الطهارة، أو ما يجمع به مباحثها، كالنظام لما ينظم به. ويحتمل أن
يكون منقولا عرفيا. كما أنه ربما احتمل أن يكون مجموع الكلمتين علم جنس أو اسم
جنس لما يتعلق بها، ولا يضر تفاوتها زيادة ونقصا، وإن قدح ذلك في العلم الشخصي.
لكنه مع بعده في نفسه يزيده إعادته بلفظها أو بضميرها وذكر التعريف، فليتأمل.
وعبر عما يجمعها بالكتاب دون المقصد والمطلب، لاتحاد مسائله بالجنس واختلافها
بالنوع، بخلاف الثاني فإنه اسم لما يجمع المسائل المتحدة في النوع المختلفة في الصنف،
ومثله الباب والفصل. والثالث فإنه للمتحدة في الصنف المختلفة بالشخص. كذا قيل
لكنه غير مطرد، نعم الظاهر أن المناسبة بين مسائل المقصد والمطلب يعتبر كونها أتم
من مسائل الكتاب.
و (الطهارة) مصدر طهر بضم العين وفتحها، والأسم الطهر لغة: النظافة والنزاهة
يقال: ثياب طاهرة، أي من القذر والوسخ، وهو المناسب للاستعارة للذنوب والحيض
3

وسوء الخلق، ولذا استدل على ذلك بقوله تعالى: (ويطهركم تطهيرا) (1) (وأزواج
مطهرة) (2) أي من الحيض وسوء الخلق. ولعله ظاهرا من باب استعمال اللفظ
في حقيقته ومجازه، أو في القدر المشترك، وهو أولى و (إن الله اصطفاك وطهرك) (3)
أي نزهك و (أناس يتطهرون) (4) أي ينتزهون، وفي القاموس: إن الطهارة نقيض
النجاسة، وعن الطراز: طهر طهرا بالضم وطهارة بالفتح، نظف ونقي من النجس
والدنس. وهما يرجعان إلى ما تقدم.
وعرفا على ما هو المعروف كما قيل، بل عن آخر أنه عليه أكثر علمائنا (اسم
للوضوء أو الغسل أو التيمم على وجه له تأثير في استباحة الصلاة) فيخرج وضوء الحائض
والتجديدي والأغسال المندوبة ووضوء الجنب والتيمم للنوم ونحو ذلك. أو أنها لها
مع التأثير في العبادة إباحة أو كمالا، فيدخل فيها بعض ما تقدم، وإن خرج منها
أيضا الأغسال للأوقات والغسل بعد التوبة فهي أعم من الأول. أو أنها لها مطلقا،
فيدخل فيها جميع ما ذكرنا. أو أنها لها على أحد الوجوه الثلاثة مع إزالة الخبث
الشرعي. فتكون حينئذ الاحتمالات ستة. لكن الظاهر مراعاة الصحة في السابقين:
إما لأن لفظ الطهارة خارج من بين أسماء العبادات فلا يجري فيه النزاع أنها للأعم
أو للصحيح. بعد اعتبار الاستباحة فعلا في مفهومها على وجه لا يكون الفاسد طهارة،
أو يكون المعرف إنما هو الصحيح. وكيف كان فهل هي عبارة عن نفس الأفعال،
أو الحالة الحاصلة بعدها من الإباحة، أو ما يجده الانسان من القرب الروحاني في الثلاثة
الأول، أو الأعم؟ احتمالات، وتكثر بملاحظة الضرب مع المتقدمة. إلا أن الأقوى
الأول هنا، لتبادره. كما أن الأقوى الأول أيضا بالنسبة للستة، لعدم ثبوت غيره، ولأنه
المعروف بين المتشرعة كمعروفية البحث فيه عنه، ولقوله (عليه السلام) في الحائض:

(1) سورة الأحزاب آية 23.
(2) سورة آل عمران آية 13.
(3) سورة آل عمران آية 37.
(4) سورة الأعراف آية 80.
4

" أما الطهر فلا " (1) ولا غناء المعنى اللغوي في إزالة النجاسة فلا يتكلف مؤنة النقل
لكن قد يستدل على شمولها لإزالة النجاسة بالتبادر، وبكثرة إطلاقها في الكتاب
والسنة ولسان المتشرعة، وباستبعاد جعل البحث عنها بالعرض. كما أنه قد يستدل
على شمولها لغير المبيح بتقسيم الطهارة إلى واجبة ومندوبة، وتقسيم الثانية إلى المبيح
وغيره، وبأن ما تفعله الحائض وضوء وكل وضوء طهارة. وفيه أن التبادر المدعى
ممنوع، ولاستعمال في الكتاب والسنة في الغالب مع المعنى اللغوي وبدونه مع القرينة،
واستعمالها في لسان المتشرعة قد عرفت أن المعروف ما قلنا، كما صرح به الشهيد
على ما ستسمع، والاستبعاد يهون أمره أنه ليس عرضا بحتا بل له تعلق بالطهارة
الحدثية، والتقسيم المشهور إنما هو تقسيم الثلاثة وهو لا ينافي كونها اسما للمبيح منه،
وإن وقع في كلام بعضهم تقسيمها فلا بد من التزام كون المقسم أعم من المعرف للتصريح
الأول والظاهر لا يعارضه. والقول بأن كل وضوء طهارة مصادرة محضة. نعم يحتمل القول
باختصاص لفظ (الطهارة) في ذلك بخلاف باقي المشتقات كطهر وطهور وطاهر، ويؤيده
أنه وجه الجمع بين نصهم هنا على كونها اسما للمبيح، وبين استدلالهم بمثل هذه الألفاظ
على إزالة النجاسات كلفظ الطهور ونحوه قال الشيخ في الخلاف: " الطهور عندنا هو المطهر
المزيل للحدث والنجاسة " وعن التبيان وفقه القرآن ومجمع البيان وغيرها " طهورا أي
طاهرا مطهرا مزيلا للأحداث والنجاسات " إلى غير ذلك. ولعله أولى من التزام الوضع
حتى في لفظ الطهارة للقدر المشترك الشامل لإزالة النجاسة، دفعا لمحذور الاشتراك
أو المجاز والتحكم لازم من التخصيص، مع شيوع استعمالها في الأعم في كل من نوعيه
بحيث لا يقصر بعضها عن بعض. ويحمل التعريف حينئذ على خصوص الطهارات
التي هي نوع من العبادات، فتخرج الإزالة وتدخل في الخطابات الشرعية، ويزول

(1) المروية في الوسائل - في الباب - 22 - من أبواب الحيض - حديث 3 وفي الباب
- 40 - حديث 4.
5

الاشكال عن التفسير والاستدلال، بل يرتفع الخلاف بين القول بدخولها وخروجها،
واختاره العلامة الطباطبائي، وهو لا يخلو من قوة. إلا أن الأقوى خلافه، لما فيه
من التجشم في تأويل ما لا يقبل التأويل من التصريح الواقع من بعضهم وغيره، مع أن
دعوى شيوع استعمال لفظ الطهارة في ذلك في حيز المنع، فلعل ما ذكرنا من الفرق بينها
وبين غيرها من التصرفات أولى، ولا يلزم من نقل المشتقات نقل المصدر، بل هو
منقول لمعنى آخر، ولا يشترط وجود المشتق منه معها بل يكفي اقتطاعها منه بذلك
المعنى، فليتأمل.
لا يقال إن النزاع في نحو ذلك ما هو إلا اختلاف اصطلاح، لأنا نقول أنه
نزاع في إثبات المعنى المتشرعي الذي هو ضابطة للحقيقة الشرعية ما لم يعلم الحدوث،
كما يظهر من تحرير محل النزاع فيها، وقد وقع تعريفها على لسان كثير من علمائنا (رحمهم
الله) فعن الشيخ في النهاية " إن الطهارة في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة "
وعن القاضي ابن البراج في الروضة كذلك بزيادة " ولم يكن ملبوسا أو ما يجري
مجراه " وعن المهذب والموجز: " إنها استعمال الماء والصعيد على وجه يستباح به
الصلاة أو تكون عبادة تختص بغيرها " وعن الشيخ في المبسوط والاقتصاد: " الطهارة
عبارة عن إيقاع أفعال في البدن مخصوصة على وجه مخصوص يستباح به الصلاة " وعن
ابن إدريس أنه ارتضاه، وعن قطب الدين الراوندي " إن الاحتراز التام أن الطهارة
الشرعية هي استعمال الماء أو الصعيد نظافة على وجه يستباح به الصلاة وأكثر العبادات "
وعن نجيب الدين محمد بن أبي غالب في المنهج الأقصد (1) " الطهارة الشرعية هي إزالة
حدث أو حكم لتؤثر في صحة ما هي شرط فيه " وعن المصنف في المعتبر " أنها اسم
لما يرفع حكم الحدث " وعن المسائل المصرية " أنها استعمال أحد الطهورين لإزالة الحدث

(1) وفي نسخة الأقصى.
6

أو لتأكيد الإزالة " وعن العلامة في التحرير والتلخيص " الطهارة شرعا ما لها صلاحية
التأثير في استباحة الصلاة من الوضوء والغسل والتيمم " وعن بعض كتبه هي " وضوء
أو غسل أو تيمم يستباح به عبادة شرعية " وفي القواعد: " الطهارة غسل بالماء أو مسح
بالتراب متعلق بالبدن على وجه له صلاحية التأثير في العبادة " وعن علي بن محمد القاشي
" إنها إذا أخذت صحيحة استعمال طهور مشروط بالنية " وعن الشيخ أبي علي في شرح
النهاية " إنها التطهير من النجاسات ورفع الأحداث). ولعله وافق بذلك بعض العامة،
وإلا فالمعروف بين أصحابنا كما أشرنا إليه سابقا أن إزالة الأخباث ليست من الطهارة.
ومن هنا قال الشهيد في نكت الرشاد: " إن إدخال إزالة الخبث فيها ليس من
اصطلاحنا " وفي كنز العرفان " وقد تطلق مجازا بالاتفاق على إزالة الخبث عن الثوب
والبدن " وعن بعضهم " إنها وضع الطهور مواضعه " وعن الجرجاني تعريفها " بماله
صلاحية رفع الحدث أو استباحة الصلاة مع بقائه ".
قلت: وهل اختلاف هذه التعاريف هو بعد الاتفاق على معنى ولكنهم
يختلفون في التعبير عنه إما لتسامح أو غيره، أو أن هذا الاختلاف لاختلاف في المعنى
لكون الطهارة اسما لصحيح أو للأعم، أو أنها لما تشمل إزالة الأخباث مثلا أو لا،
أو أنها تشمل وضوء الحائض أو لا، أو أنها تشمل الأغسال المندوبة أو لا، أو أنها
تشمل الوضوء التجديدي أو لا؟ إلى غير ذلك الذي يظهر في النظر أن كثيرا من
الاختلاف لاختلاف في المعنى، فلا وجه حينئذ للايراد (1) على البعض مثلا بخروج
وضوء الحايض، وعلى آخر بدخوله، إذ قد يقول الأول أنه ليس طهارة والآخر
طهارة، فكل يعرف على مذهبه، ويرجع النزاع حينئذ معنويا. وهذا الذي ينبغي أن
يلحظ بالنسبة للاستقراء والتتبع، وإلا فكثير من الايرادات حتى نقل أنه اعترض
على تعريف العلامة في القواعد بتسعة عشر اعتراضا لا ثمرة فيها، فمما رجع منها إلى

(1) هذا تعريض بما في مفتاح الكرامة.
7

ما ذكرنا كان للفقيه أن يتعرض له إذ لعله تترتب عليه فوائد بناء على ثبوت الحقيقة
الشرعية، فاستقرئ وتتبع وتأمل جيدا. وإن أردت النقض في كثير من هذه
التعاريف والابرام فانظر ما كتبه الشهيد في غاية المراد في نكت الإرشاد فإنه قد
حاول الإحاطة لذلك. ولعل قيد (الاستباحة) في عبارة المشهور مع إرادة ما يقابل الحرمة التشريعية
منه يقتضي عدم حصول الطهارة من المميز. إما لأن عبادته تمرينية، وإما لأن شرعية
الوضوء منه أعم من كونه طهارة، كشرعية وضوء الحائض، مع احتمال حصول
الطهارة به على أن يكون المراد من الاستباحة الصحة فتأمل جيدا.
(وكل أحد منها) أي الثلاثة المتقدمة (ينقسم إلى واجب وندب) دون باقي
الأحكام وإطلاق الكراهة في بعض المقامات على ضرب من التأويل.
(فالواجب من الوضوء)
وجوبا شرعيا ولو لوجوب مقدمة الواجب (ما كان لصلاة واجبة) أصلا
أو عارضا وأجزائها المنسية إجماعا وكتابا وسنة (أو طواف واجب) في حج أو عمرة
ولو مندوبين لوجوب إتمامهما إجماعا كما عن المنتهى وسنة (أو لمس كتابة القرآن إن وجب)
لعارض ويأتي الكلام فيه في الوضوء إن شاء الله.
والظاهر من المصنف بل كاد يكون صريحه كالظاهر من غيره ممن حصر الغايات
التي يجب لها الوضوء أنه واجب لغيره ولا يجب لنفسه وصرح به جماعة بل هو المشهور
نقلا وتحصيلا، بل عن العلامة والكركي والشهيد الثاني نقل الاجماع عليه. ولعل
الأمر فيه كذلك كما لا يخفى على من لاحظ كلماتهم في المقام وسيرتهم في كل عصر
ومصر، من عدم الالزام والالتزام برفع الحدث الأصغر عند ظن الوفاة، عدم أمرهم
المرضى به أو التيمم بدله مع وقوع الحدث غالبا منهم، وخلو المواعظ والخطب، وعدم
الجواهر 1
8

إشارة من أحد من الفقهاء لا في مقام الاحتضار ولا في غيره مع محافظتهم غالبا على
المستحبات والآداب فضلا عن الواجبات. ومع ذلك كله فلم نعلم فيه خلافا، ولم ينقله
أحد ممن يتعاطي نقل الشاذ من الأقوال، لكن الشهيد في الذكرى بعد أن ذكر
الكلام في الغسل بالنسبة للوجوب النفسي والغيري قالا: " ربما قيل يطرد الخلاف
في كل الطهارات لأن الحكمة ظاهرة في شرعيتها مستقلة " ويظهر للمتأمل في كلامه
السابق أن هذا القول ليس لنا، ومما يدلك على هذا نقضه التمسك بالأوامر المطلقة
الدالة على وجوب الغسل بأن حال هذه كحال أوامر الوضوء وغسل الأواني. ثم قال:
" وهم يوافقون على أن المراد بوجوبها المشروط " فقد يراد بالطهارة في كلامه باقي
الأغسال لا الوضوء، لأن الخلاف إنما هو معروف في غسل الجنابة. ويظهر أيضا من
المنقول عنه في القواعد أنه قول بعض العامة قال: " لا ريب أن الطهارة والستر والقبلة
معدودة من الواجبات في الصلاة مع الاتفاق على جواز فعلها قبل الوقت والاتفاق في
الأصول على أن غير الواجب لا يجزي عن الواجب، فاتجه هنا سؤال وهو أن أحد
الأمرين لازم أما القول بوجوبها على الاطلاق ولم يقل به أحد أو يقال بالاجزاء وهو
باطل " ثم قال: " وهذا الاشكال اليسير هو الذي ألجأ بعض العلماء إلى اعتقاد أن
وجوب الوضوء أو غيره من الطهارات نفسي موسعا قبل الوقت وفي الوقت وجوبا
مضيقا عند آخر الوقت، ذهب إليه القاضي أبو بكر العنبري وحكاه الرازي في التفسير
عن جماعة، فصار بعض الأصحاب إلى وجوب الغسل بهذه المثابة " انتهى. وكيف
كان فعبارة الشهيد في الذكرى هي التي أوقعت بعض المتأخرين في الوهم حتى عدوه
قولا، وربما جنح إليه بعضهم. وعلى هذا التقدير فهم لا يمنعون الوجوب الغيري
وتظهر الثمرة في نية الوجوب قبل الوقت وفي العقاب عند ظن الموت مع التمكن منه
أو الوصول إلى حد التهاون عرفا، كما في غيره من الواجبات الموسعة.
لنا الأصل مع عموم البلوى به والاجماعات المنقولة فيه، في التيمم مع عموم
9

البدلية المؤيدة بنفي الخلاف صريحا وظاهرا، مع السيرة القاطعة بين العوام والعلماء
وخلو الخطب والمواعظ وعدم ذكر أحد له في الواجبات، لا سيما عند الاحتضار وعدم
الالزام به من النبي (ص) والصحابة والتابعين والأئمة (ع) لأحد من المحتضرين من
نسائهم وأصحابهم، وعدم أمر النبي (ص) أصحابه عند جهاد المشركين، ولا
أمير المؤمنين في جميع حروبه لا سيما حرب صفين، ومفهوم قوله تعالى (إذا قمتم) (1) الدال
على نفي وجوب الوضوء عند عدم الشرط. وما يقال إن المنفى إنما هو الوجوب لها لظهور
المنطوق فيه وهو لا ينافي الوجوب النفسي، يدفعه شهادة العرف بخلافه، كما أنه يدفع أيضا
احتمال عدم حجية المفهوم في خصوص المقام لمكان وجود فائدة له غير التعليق وهي التنبيه
على شرطيته للصلاة، مع أن اعتبار مثل ذلك ساد لباب حجية مفهوم الشرط. وكذا ما يقال
من أن المراد بالأمر بالغسل إنما هو الوجوب الشرطي دون الشرعي بدليل شمول الصلاة
للنافلة ولا يجب ذلك شرعا لها اجماعا، بمنع الشمول أولا لتبادر العهدية الذهنية. وعلى تقديره
فخروج النافلة عن الحكم الشرعي المستفاد من الأمر دون الوضعي المستفاد منه أيضا غير قادح،
فتأمل. كما أنه لا يقدح تقييد وجوب الوضوء في الفريضة بما بعد دخول الوقت لعدم وجوبه
قبله، إذ أقصاه زيادة قيود في سبب الوجوب ويكون المفهوم حينئذ عدم الوجوب عند عدمها
أو عدم واحد منها. والحاصل أن خروج بعض ما يدخل في المنطوق لدليل كخروج
ذلك من المفهوم أيضا لا يقدح فيما ذكرنا. ولقد وقع في المقام في المدارك ما يقضي
منه العجب فلاحظ وتأمل، وكأن دلالة الآية على ما ذكرنا من الظهور لا يحتاج إلى
التطويل، ولذا جعلها جماعة من الأصحاب قرينة على وجوب الغسل لغيره باعتبار عطف
قوله تعالى: (وإن كنتم جنيا) (2) على ما هو كذلك كما ستسمعه في محله إن شاء الله،
وقوله (عليه السلام) في خبر زرارة (3): " فإذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة "

(1) سورة المائدة آية 8
(2) سورة المائدة آية 8
(3) المروي في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب الوضوء، حديث 1
10

فإنه ظاهر بمقتضى المفهوم أنه إن لم يدخل الوقت فلا يجب الطهور ولا الصلاة، ومع
استفادة التجدد والحدوث من لفظ وجب، فتأمل. وحمل الواو على المعية فيكون
المعنى أنهما يجبان معا فإن لم يدخلا الوقت فلا يجبان معا ويكفي في صدق ذلك عدم
وجوب الصلاة ووجوب الوضوء في غاية البعد مخالف لمقتضى الظاهر في الواو. وكذا ما يقال
أن المراد إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة أي وجب كل واحد منهما فإن لم يدخل الوقت
فلا يجب كل واحد منهما فيكون رفعا للإيجاب الكلي لما هو معلوم أن حرف العطف تقضي بأن
المعطوف بمنزلة المعطوف عليه فهو في الحقيقة جواب شرط مستقل اختص بحرف العطف،
على أنه لا داعي إلى هذه التمحلات الباردة. وما يقال إن ارتكابها لمكان وجود المعارض
الصحيح (1) أن عليا (عليه السلام) كأن يقول: " من وجد طعم النوم قاعدا أو قائما
فقد وجب عليه الوضوء " وقوله (عليه السلام) في صحيح زرارة (2): " إذا
نامت العين والأذن والقلب فقد وجب الوضوء " وصحيح ابن خلاد: (3) " إذا
خفي عليه الصوت فقد وجب عليه الوضوء " إلى غير ذلك مما أمر به بالوضوء بمجرد
وجود هذه الأسباب، فإن ذلك كله يدل على وجوب الوضوء لنفسه، يدفعه أن
ارتكاب مثل ذلك لا يصدر من فقيه ماهر، فإن ظاهر الآية والرواية المعتضدتين
بما سمعت من الاجماعات المنقولة والسيرة التي كادت تكون قاطعة، بل يمكن دعوى
تحصيل الاجماع، لا يعارضهما مثل هذه الظواهر، حتى أنه يرتكب التأويل في تلك
دونها على أنه قد يدعى أنه لا ظهور فيها، بل المقصود منها إنما هو ثبوت الوضوء بهذا
السبب عند مجئ الخطاب بما هو واجب له، واستعمال هذه العبارة في إفادة ذلك غير
منكر، مثل ما جاء في السنة من الأوامر بغسل الأواني والثياب المتنجسات وغيرها مما

(1) المروي في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء حديث - 8
(2) المروي في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 1
(3) المروي في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 1
11

لم يقل أحد بوجوب شئ منها لنفسه، بل يمكن دعوى الحقيقة العرفية في ذلك كما
لا يخفى على من لاحظ كثيرا من نظائره والمسألة خالية من الاشكال بحمد الله تعالى.
(والمندوب من الوضوء)
سواء كان رافعا لحدث أو لا (ما عدا الواجب) بالأصل أو بالعارض، وإن
كان شرطا في صحة بعضها، ومن جهته أطلق عليه بعضهم اسم الوجوب مجازا.
وهو أمور:
(منها) - الصلاة المندوبة. والطواف المندوب، وطلب الحاجة، وحمل
الصحف، وأفعال الحج عدا الطواف والصلاة، وصلاة الجنازة، وزيارة قبور
المؤمنين، وتلاوة القرآن. ونوم الجنب، وجماع المحتلم، وجماع غاسل الميت ولما
يغتسل، ولمريد غسل الميت وهو جنب، وذكر الحائض، والتأهب للفرض قبل
وقته، والتجديد، والكون على طهارة، قال في الذكرى: كل ذلك للنص. وكفى
بارساله حجة على جميع ما ذكرنا. وفي المدارك بعد أن ذكر هذه الأشياء وغيرها:
إلا مريد غسل الميت وهو جنب. وقيد جماع غاسل الميت ولما يغتسل بما إذا كان
الغاسل جنبا، وكأنه فهم ذلك من الرواية التي ستسمعها، قال: " وقد ورد بجميع
ذلك روايات ".
هذا مع ما يدل (على الأول) من الجماع المنقول عن الدلائل، إن لم يكن محصلا،
بل في الحدائق أنه نقله جماعة. ومن كونه شرطا في صحتها بناء على أن مقدمة
المستحب مستحب.
(وعلى الثاني) من شرطيته به على القول بها، ومن عموم المنزلة في وجه، ومن
حمل بعض الأخبار المشعرة بالوجوب الشرطي عليه. وما في الذكرى أنه يستحب
للطواف بمعنى الكمالية على الأصح للخبر. منه كذلك لما تعرفه في كتاب الحج إن شاء الله
12

تعالى. ومنه يعلم أنه لا يجب له حتى لو نذر مثلا، ضرورة كونه كالوضوء لقراءة
القرآن ونحوها مما هو شرط للكمال لا الصحة.
(وعلى الثالث) قول الصادق (عليه السلام) (1) في خبر عبد الله بن سنان:
" من طلب حاجة وهو على غير وضوء فلم تقض فلا يلومن إلا نفسه ". وما يقال من أنه
لا دلالة فيه على استحباب الوضوء لذلك بل مفاده أنه ينبغي أن تطلب إذا كان الانسان
على وضوء لأمر شرع له الوضوء كالصلاة ونحوها. فيه أن الظاهر من مثل هذه
العبارة طلب الوضوء لها كما لا يخفى على من لاحظ أخبار التحنك ونحوها، فتأمل، ولا تغفل
عن هذه المناقشة وجوابها، فإنها جارية في كثير ما تسمع. كما أن المناقشة بأن
الموجود في الخبر الوضوء وهن أعم من الطهارة ضرورة صدقه على الصوري يدفعها ظهور
إرادتها منه في كل مقام أمر به، لا ما جامع الحدث كما يشعر به مقابلتها به فيما ستسمع
في صلاة الجنازة، مضافا إلى قوله (عليه السلام) (2): " لا ينقض الوضوء إلا
حدث " ونحوه.
(وعلى الرابع) مع مناسبة التعظيم ما في خبر إبراهيم بن عبد الحميد (3): " لا تمسه
على غير طهر ولا جنبا ولا تمس خيطه ولا تعلقه ". وعن بعض النسخ لا تمس خطه، واحتمال
المناقشة في هذه الرواية بدلالتها على كراهية التعليق ونحوه دون ما نحن فيه من استحباب
الوضوء، مدفوعة بتبادر الأمر بالوضوء لذلك من أمثال هذه العبارة.
(وعلى الخامس) قول الصادق (عليه السلام) (4) في خبر معاوية بن عمار:
" ولا بأس أن تقضى المناسك كلها على غير وضوء إلا الطواف بالبيت فإن فيه صلاة،

(1) المروي في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب الوضوء حديث 1.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 4.
(3) المروي في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب الوضوء حديث 3.
(4) المروي في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب الوضوء حديث 1.
13

والوضوء أفضل ". وفي كشف اللثام: أنه ورد في خصوص السعي والوقوف والرمي
أخبار. ولعل التعبير بالمناسك كما وقع لبعضهم لهذه الرواية، لأن فيها المناسك.
وربما اشعر التعليل بجزئية الصلاة في الطواف يصح تعليل اعتبار الوضوء فيه بذلك،
بعد ظهور إرادة ما كان بعض أفعال الحج بقرينة ذكر النسك، أما الطواف المندوب
ابتداء الذي قد ذكرنا اعتبار الوضوء في كماله لا صحته فلعل الصلاة غير معتبرة فيه
وإنما هي مستحبة فيه ولذا كان الوضوء فيه كذلك. بل قد يستشعر من هذا الخبر أن
أصل المرسل المشهور (في الطواف بالبيت صلاة) (1) إلا أنه أسقط من أوله لفظ (في)
فظن أنه من التشبيه ولا ينافي ذلك استفادة اعتبار بعض شرائط الصلاة لأن التعليل
كاف فيه كالوضوء.
(وعلى السادس) ما رواه (2) عبد الحميد بن سعيد قال: " قلت لأبي الحسن
(عليه السلام): الجنازة تخرج ولست على وضوء فإن ذهبت أتوضأ فاتتني أيجزيني
أن أصلي عليها وأنا على غير وضوء؟ قال: تكون على طهر أحب إلي " كأن المراد
بيان أفضلية الصلاة بطهر عليها مع عدمه، وإلا فلا ريب في أولوية الصلاة بدونه على
عدمها كما فرضه السائل، أو يكون المراد أن الكون على طهر أولى من الصلاة على
الجنازة بغير طهر.

(1) المروي في مستدرك الحاكم ج 1 ص 459 وفي سنن البيهقي ج 5 ص 87 والجامع
الصغير للسيوطي ج 2 ص 56 وكنز العمال ج 3 ص 10 رقم 206 عن الطبراني وحلية
الأولياء وسنن البيهقي ومستدرك عن ابن عباس قال رسول الله (ص) الطواف بالبيت
صلاة ولكن الله أحل فيه المنطق فمن نطق فلا ينطق إلا بخير والحديث عن سفيان الثوري
عن عطاء بن السائب وأنه كان يختلط اختلاطا شديدا وقال ابن معين عطاء بن السائب
اختلط وقال شعبة حدثنا عطاء بن السائب وكان نسيا وكتب عن عبيدة ثلاثين حديثا ولم
يسمع من عبيدة فلا يحتج بحديثه تهذيب التهذيب لابن حجر ج 7 ص 204.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 21 - من أبواب صلاة الجنائز حديث 2.
14

(وعلى السابع) أنه أفتى به جماعة، ولعله يكتفي به في المستحب، مع ما نقل
عن الدلائل من أن في الخبر تقييدها بالمؤمنين، فهذا المرسل مع احتمال كونه غير المرسلين
المتقدمين في الذكرى والمدارك كافية في ثبوته. في كشف اللثام: إني لم أعثر على
نص بخصوصه. هذا كله في غير زيارة قبور أئمة المسلمين الذين زيارتهم زيارة الله
تعالى شأنه. فإن النصوص الواردة في الطهارة لزيارتهم بل الغسل أكثر من أن تحصى،
كما لا يخفى على من لاحظ الكتب المؤلفة في ذلك والله أعلم.
(وعلى الثامن) مع التعظيم، ما روي (1) عن الخصال قال أمير المؤمنين (عليه
السلام)
: " ولا يقرأ العبد القرآن إذا كان على غير طهر حتى يتطهر " وما عن قرب الإسناد عن محمد بن الفضيل (2) قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) اقرأ
المصحف ثم يأخذني البول فأقوم وأبول وأستنجي وأغسل يدي وأعود إلى المصحف وأقرأ
فيه، قال: لا، حتى تتوضأ الصلاة " والظاهر أن مراده مثل الوضوء للصلاة.
وفي كشف اللثام (3) لقول الصادق (عليه السلام) فيما وجدته مرسلا عنه: " لقارئ
القرآن بكل حرف يقرأ في الصلاة قائما مائة حسنة وقاعدا خمسون حسنة ومتطهرا في غير
الصلاة خمس وعشرون وغير متطهر عشر حسنات " وأرسل نحوه عن أمير المؤمنين
(عليه السلام) " انتهى. واحتمل الأستاذ في كشف الغطاء أنه تختلف مراتب الفضل
بتفاوت فضل المقروء وقلته وكثرته. وفيه ما لا يخفى.

(1) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب قراءة القرآن حديث 2 من
كتاب الصلاة.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب قراءة القرآن حديث 1 من
كتاب الصلاة.
(3) المروي في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب قراءة القرآن حديث 3 من
كتاب الصلاة.
15

(وعلى التاسع) ما رواه الحلبي (1) عن الصادق (عليه السلام) " سئل عن الرجل
أينبغي له أن ينام وهو جنب؟ فقال: يكره ذلك حتى يتوضأ " وعن الغنية والمنتهى
والتذكرة الاجماع عليه، وفي المعتبر يكره للجنب ذلك عليه علماؤنا. ولا يخفى أنه
ليس الاستحباب هنا مبنيا على أن ترك المكروه مستحب، بل إما لأنه في خصوص
المقام، أو لقوله (حتى يتوضأ). وفي الموثق (2) - على ما قيل -: " عن الجنب
يجنب ثم يريد النوم قال: إن أحب أن يتوضأ فليفعل والغسل أحب إلي وأفضل من
ذلك ". واحتمال القول بالجريان في كل محدث بالحدث الأكبر ضعيف، كضعف
الاستدلال له بما دل على استحباب التطهر لمن أراد النوم الشامل للمقام، إذ هو مع
الغض عما فيه لم يفد الاستحباب الخصوصي للجنب.
(وعلى العاشر) مع أنه نقل الفتوى به عن جمع من الأصحاب كالنهاية المهذب
والوسيلة والجامع والشرائع والنافع والنزهة وكتاب الأشباه والنظائر وغيرها والمرسلين
السابقين في الذكرى والمدارك، قد يستدل عليه بما ورد (3) من الأمر بالوضوء للمجامع
إن أراد المعاودة.
(وعلى الحادي عشر والثاني عشر) ما رواه (4) شهاب بن عبد ربه قال: " سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) عن الجنب أيغسل الميت؟ ومن غسل الميت أيأتي أهله ثم
يغتسل؟ فقال: هما سواء لا بأس بذلك إذا كان جنبا غسل يديه وتوضأ وغسل الميت
وهو جنب، وإن غسل ميتا توضأ ثم أتى أهله، ويجزيه غسل واحد لهما ". وفي كشف

(1) المروية في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الجنابة حديث 1.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 25 - من أبواب الجنابة حديث 5.
(3) المروي في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب الوضوء الحديث 2.
(4) المروية في الوسائل في الباب - 34 - من أبواب غسل الميت حديث 1.
16

اللثام: ونحو ذلك عن الرضا (عليه السلام) والظاهر أن السؤال فيها وقع عن أمرين
عن تغسيل الجنب الميت وعن جماع الغاسل وليس بجنب، وجواب الإمام (عليه السلام)
على ذلك فإن كان تقييد صاحب المدارك جماع الغاسل بالجنب لهذه الرواية ففيه ما فيه
وإن كان لغيره فهو أدري.
(وعلى الثالث عشر) الأخبار الكثيرة المتضمنة للفظ (عليها) وللأمر،
ولذلك نقل عن علي بن بابويه القول بالوجوب، لكنه ضعيف للأصل، مع عموم
البلوى به، المؤيد بالشهرة العظيمة، ولما في بعض الأخبار من لفظ ينبغي، وعن
كتاب دعائم الاسلام (1) عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " إنا نأمر نساءنا
الحيض أن يتوضأن عند وقت كل صلاة فيسبغن الوضوء ويحتشين بخرق ثم يستقبلن القبلة،
إلى أن قال: فقيل لأبي جعفر (عليه السلام): إن المغيرة زعم أنك قلت يقضين. فقال:
كذب المغيرة ما صلت امرأة من نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا من نسائنا
وهي حائض. وإنما يؤمرن بذكر الله كما ذكرت ترغيبا في الفضل واستحبابا " هذا مع
عدم صراحة كلامه في الخلاف إذ قد يحمل لفظ الوجوب على الثبوت كما وقع مثل ذلك
في عبادته على ما قيل. وتمام الكلام فيه في الحيض إن شاء الله تعالى.
(وعلى الرابع عشر) مضافا إلى إمكان تعليله باستحباب الصلاة في أول الوقت،
ولا يمكن إلا بتقديمه، ما رواه في الحدائق (2) عن الشهيد في الذكرى من قولهم
(عليهم السلام): " ما وقر الصلاة من أخر الطهارة حتى يدخل الوقت " وعن النهاية أنه قال: للخبر. هذا مع أنه نقل أنه أفتى به في الوسيلة والجامع والنزهة والدروس
والبيان والنفلية والمنتهى ونهاية الاحكام والدلائل، وقد تقدم ما في الذكرى، وكأنه

(1) المروي في المستدرك في الباب - 29 - من أبواب الحيض حديث 3 بأدنى تغيير.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 4 - من أبواب الوضوء، حديث 5.
17

مستغن عن الدليل لأن المعروف من السلف التأهب للفريضة والمحافظة على نوافل الزوال
والفجر. فما في كشف اللثام أن الخبر لم أعثر عليه، وأما الاعتبار فلا أرى الوضوء
المقدم إلا ما يفعل للكون على الطهارة، ولا معنى للتأهب للفرض إلا ذلك، غير
واضح. والفرق بينه وبين الكون على الطهارة في غاية الوضوح.
(وعلى الخامس عشر) مضافا إلى نفي الخلاف عنه في كشف اللثام، الأخبار
الكثيرة منها (1) " الوضوء على الوضوء نور على نور) وقضية اطلاقها عدم اشتراط فصل فعلي
كصلاة ونحوها، ولا زماني في مشروعيته كما أن قضيتها استحبابه لنفسه لا مشروطا
بصلاة من فرض أو نقل. فما عن بعضهم من التقييد به كما عن آخر التفصيل بين من
يحتمل صدور الحدث منه فلا يشترط فيه وبين غيره فيشترط ضعيف. نعم لا أستبعد
تأكده للصلاة لا سيما الغداة والمغرب والعشاء. وعن بعضهم استحبابه لسجود التلاوة
والشكر واحتمل ذلك في الطواف ولم يثبت الجميع. وهل يجري التجديد في غير
الوضوء من الأغسال أو المختلفين؟ وجهان أقواهما العدم لظاهر الفتوى، وربما
احتمل لقوله (عليه السلام) (2) " الطهر على الطهر " ومنه ينقدح الاستحباب في المتخالفين.
(وعلى السادس عشر) قوله (صلى الله عليه وآله) (3) " يا أنس أكثر من الطهور
يزد الله في عمرك، وإن استطعت أن تكون بالليل والنهار على طهارة فافعل فإنك تكون
إذا مت على طهارة شهيدا " وعن الإرشاد للديلمي (4) عنه (صلى الله عليه وآله): " يقول
الله تعالى من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني " وعن نوادر الراوندي (5) عن أمير المؤمنين

(1) المروي في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء حديث 7.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب الوضوء حديث 3
(3) المروي في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الوضوء حديث 3.
(4) المروي في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب الوضوء حديث - 2 -.
(5) المروي في البحار في المجلد 18 في باب إسباغ الوضوء
18

عليه السلام: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله إذا بالوا توضؤا أو تيمموا
مخافة أن تدركهم الساعة ".
و (منها) - جماع الحامل لما أرسله في المدارك، ولقول النبي (صلى الله عليه وآله)
في وصيته (1) لعلي (عليه السلام) " يا علي إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلا وأنت على
وضوء فإنه إن قضي بينكما ولد يكون أعمى القلب بخيل اليد ".
و (منها) - أكل الجنب بل وشربه لرواية الحلبي (2) " أنه إذا كان الرجل
جنبا لم يأكل ولم يشرب حتى يتوضأ وقوله (عليه السلام) بعد أن سأله عبد الرحمن (3)
أيأكل الجنب قبل إن يتوضأ؟ قال: " إنا لنكسل ولكن يغسل يده والوضوء أفضل "
وعن بعضهم حمل الوضوء في هذه الخبار على غسل اليد. ولوجه كما ورد (4) في بعض
الأخبار: " الجنب إذ أراد أن يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض وغسل وجهه "
واستقر به آخر لكثرته في الأخبار، ولا يبعد التخيير بينهما أو حمل هذه على تكملة
الوضوء. يأتي تمام الكلام في باب الجنابة إن شاء الله.
(ومنها) - دخول المساجد لما أرسله في المدارك أيضا، ولرواية مراز بن
حكيم (5) المروية عن كتاب المجالس الصدوق عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " عليكم
باتيان المساجد فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهرا طهره الله من ذنوبه

(1) المروي في الوسائل - 13 - من أبواب الوضوء حديث 1.
(2) المروية في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الجنابة حديث 4.
(3) المروي في الوسائل في الباب 20 - من أبواب الجنابة حديث 6 وفي الوافي
" ويشبه أن يكون مما صحف وكان إنا لنغتسل ".
(4) المروي في الوسائل في الباب - 20 - من أبواب الجنابة حديث 1.
(5) المروية في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الوضوء حديث 2.
19

وكتب من زواره " وللمرسل الآخر (1) " إن في التوراة مكتوبا أن بيوتي في الأرض
المساجد فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي " الحديث. وربما استدل عليه
بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) (2): " من أحسن الطهور ثم مشى إلى المسجد فهو في
الصلاة ما لم يحدث ". وقد يتأكد الاستحباب إذا أراد الجلوس فيه، لمرسلة العلا
ابن الفضيل (3) عمن رواه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إذا دخلت المسجد وأنت
تريد أن تجلس فلا تدخله إلا طاهرا ". والوهن في الدلالة مجبور بفتوى كثير من
الأصحاب كما عن الوسيلة والنزهة والجامع والنهاية والإرشاد والمنتهى والسرائر والبيان
والمفاتيح وغيرهن وبه صرح في كشف الغطاء والحدائق وكشف اللثام وشرح شيخنا
للقواعد. وعن ابن حمزة إلحاق كل موضع شريف. وفي كشف الغطاء: " ويقوى القول
برجحانه للدخول في كل مكان شريف على اختلاف المراتب بقصد تعظيم الشعائر من
قباب الشهداء ومحال العلماء والصلحاء من الأموات والأحياء ".
و (منها) - النوم لقوله (عليه السلام) (4): " من تطهر ثم آوى إلى فراشه
بات وفراشه كمسجده " وعن الشهيد احتمال ارجاعه إلى الكون على الطهارة والظاهر
خلافه ولا مانع من كون الحدث غاية للوضوء للرواية وعن جماعة الفتوى به.
و (منها) للمجامع إذا أراد أن يجامع مرة أخرى قبل الغسل لتلك الموطوءة
أو غيرها لقول الصادق (عليه السلام) (5) في مرسل ابن أبي نجران " إذا أتى الرجل جاريته

(1) المروي في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب الوضوء حديث 4 وأبواب
أحكام المساجد باب 39 حديث من كتاب الصلاة
(2) المروي في البحار في المجلد 18 في باب علل الوضوء.
(3) المروية في الوسائل في الباب - 39 - من أبواب أحكام المساجد حديث 2 من كتاب الصلاة
(4) المروي في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب الوضوء حديث 1.
(5) المروي في الوسائل في الباب - 154 - من أبواب مقدمات النكاح وآدابه حديث 1
20

ثم أراد أن يأتي الأخرى توضأ " وقول الرضا (عليه السلام) (1) في خبر الوشا " كان
أبو عبد الله (عليه السلام) إذا جامع وأراد أن يجامع مرة أخرى توضأ وإذا أراد أيضا توضأ "
و (منها) - كتابة القرآن لخبر علي بن جعفر (2) سأل أخاه (عليه السلام)
" أيحل أن يكتب القرآن في الألواح والصحف وهو على غير الوضوء؟ قال: لا ".
و (منها) - القدوم من سفر لقوله (عليه السلام) (3): " من قدم من سفره
فدخل على أهله وهو على غير وضوء فرأى ما يكره فلا يلومن إلا نفسه ".
و (منها) - للزوجين ليلة الزفاف لقول أبي جعفر (عليه السلام) (4) في خبر
أبي بصير " إذا دخلت عليك إن شاء الله فمرهم قبل إن تصل إليك أن تكون متوضأة ثم
لا تصل إليها حتى تتوضأ قبل ".
و (منها) - جلوس القاضي في مجلس القضاء كما عن النزهة ولم نقف له على
دليل بالخصوص كما اعترف به كاشف اللثام والحدائق لكنه ذكره بعض الفقهاء ويحتمل
أن يلحق به كل مجلس انعقد لطاعة الله كمجلس الدرس والوعظ وغيرهما لكن قد عرفت
أن الملحق به غير ثابت.
و (منها) - ادخال الميت القبر لقول الصادق (عليه السلام) (5) في خبر عبيد الله
الحلبي ومحمد بن مسلم " توضأ إذا أدخلت الميت القبر " وقيل (منها) تكفينه إذا أراد
من يغسله أن يكفنه ويأتي إن شاء الله الاستدلال عليه وقيل (ومنها) قبل غسل الجنابة

(1) المروي في الوسائل في الباب - 13 - من أبواب الوضوء حديث 2 وفي الوسائل
إذا جامع وأراد يعاود توضأ وضوء الصلاة وإذا أراد أيضا توضأ للصلاة.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب الوضوء حديث 4.
(3) المروي في المستمسك عن المقنع في الوضوءات المستحبة.
(4) المروي في الوسائل - 55 - من أبواب مقدمات النكاح وآدابه حديث 1
(5) المروي في الوسائل في الباب - 53 - من أبواب الدفن حديث 1
21

عند الشيخ في كتابي الأخبار لأن أبا بكر الحضرمي (1) سأل أبا جعفر (عليه السلام) " كيف
يصنع إذا أجنب؟ فقال: اغسل كفك وفرجك وتوضأ وضوء الصلاة ثم اغتسل " واحتمل
كاشف اللثام تنزيله على إرادة السائل كيف يصنع إذا أجنب وأراد النوم فقال له افعل
ذلك (ومنها) وضوء الميت مضافا إلى غسله ويأتي دليله إن شاء الله تعالى. هذا كله فيما
يستحب الوضوء له، بقي الكلام.
(فيما يستحب الوضوء منه)
وهو أمور: (الأول) الضحك في الصلاة، لخبر زرعة (2) عن سماعة سأله " عما
ينقض الوضوء؟ فقال: الحدث تسمع صوته أو تجد ريحه، والقرقرة في الأثناء تصبر
عليها والضحك في الصلاة والقي " وفي المدارك: " القهقهة في الصلاة عمدا ". ولم أقف
له على نص في ذلك، وعن ابن الجنيد: " إن من قهقه في صلاته متعمدا لنظر أو سماع
ما أضحكه قطع صلاته وأعاد وضوءه ": كالمنقول عن أبي حنيفة من أن القهقهة في كل
صلاة ذات ركوع وسجود توجب الوضوء، إلا أنه لم يقيد كما قيد. وعلى كل حال
فالاجماع منعقد على خلاف ابن الجنيد، وستسمع أن شاء الله فيما يأتي الأخبار الحاصرة
للأحداث التي توجب الوضوء، وهذا ليس منها، ولعل عبادته محمولة على
الإعادة استحبابا.
(والثاني والثالث والرابع) الكذب والظلم والاكثار من انشاد الشعر الباطل،
لخبر زرعة (3) عن سماعة " عن نشيد الشعر هل ينقض الوضوء أو ظلم الرجل صاحبه

(1) المروية في الوسائل في الباب - 34 - من أبواب الجنابة حديث 6 بأدنى تغيير.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 11
وفي الوسائل القرقرة في البطن إلا شيئا تصبر عليه.
(3) المروي في الوسائل في الباب - 8 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 2.
22

أو الكذب؟ فقال: نعم إلا أن يكون شعرا يصدق فيه أو يكون يسيرا من الشعر
الأبيات الثلاثة أو الأربعة فأما أن يكثر من الشعر الباطل فهو ينقض الوضوء " وقيد في
المدارك انشاد الشعر الباطل بما زاد على أربعة أبيات. ولعله لما سمعت من الخبر.
وقد يراد به التمثيل، والانشاء أقوى من الانشاد، وتكرير البيت والبيتين لا يوصفهما
بالكثرة. ولو أنشد ثم حذف منه بحيث أفسد شعريته احتمال خروجه عن الحكم،
ولعل الأولى خلافه، ولا دخل للاتصال والانفصال فلو قرأ في أوقات متعددة بحيث
يكون مجموعها كثرة ترتب لحكم.
(الخامس) خروج الودي بالمهملة بعد خروج البول والاستبراء منه، لقول الصادق
(عليه السلام) (1) في خبر ابن سنان: " والودي فمنه الوضوء لأنه يخرج من دريرة
البول " وربما حملت على ما إذا لم يستبرئ من البول لأنه حينئذ لا ينفك من ممازجة
أجزاء. منه والأولى خلافه لأنه لا يعرف كونه وديا إلا بعد الاستبراء وإلا لكان من
البلل المشتبه وهو محكوم عليه بالبولية، وإلا لو فرض أنه يعلم كون الخارج وديا لم يكن
عليه وضوء وإن لم يستبرئ، فتأمل. ويمكن حمل رواية على التقية، لأنه مذهب
الجمهور كما نقل في المعتبر.
وهنا (فائدة نافعة) في المقام وغيره، وهي قد ذكر بعض مشايخنا: أن
الخبر إذا علم خروجه مخرج التقية في وجوب أو تحريم يحكم من جهته بالاستحباب أو
الكراهة. وربما يكون الذي دعاه إلى ذلك حكم الأصحاب بالاستحباب في كثير
من هذه المقامات مع كون أخبارها موافقة للعامة. وقد يناقش فيه بأن حمل الأمر على
التقية يقتضي البقاء على الحقيقة استعماله في الندب يقتضي المجاز، واحتمال أن يقال
إنا نستفيد منه حكم الندب من دون استعمال اللفظ فيه كما ترى، كالقول بأن الأمر

(1) المروي في الوسائل في الباب - 12 - من أبواب الوضوء حديث 14.
23

الخارج أفاد شيئين الأول الوجوب والثاني الرجحان وكون الأول للتقية لا يصير الثاني
كذلك، نعم لو لم يعلم خروجه مخرج التقية لكنه قابل للحمل عليها وعلى الاستحباب
بعد أن علم عدم إرادة ظاهره احتمل ترجيح التقية، لأنها أقرب الاحتمالات بالنسبة
إلى أخبارهم عليهم السلام، مع كونه فيه ابقاء للأمر على حقيقته. واحتمل ترجيح
الندب لأنه المجاز الشائع حتى قيل إنه مساو للحقيقة. مضافا إلى أصالة عدم وجود سبب
التقية، وللفهم العرفي بعد تأليف الخبرين مثلا والقطع ببقاء الأول على حقيقته، فإنه
إذا قال لا ينقض الوضوء إلا هذه الأشياء المخصوصة، وليس الودي منها، ثم قال
توضأ من الودي، وكنا قاطعين ببقاء الأول على حقيقته وعدم العلم بوجود سبب
التقية، ينصرف الذهن إلى إرادة حمل الأمر على الندب، ولعله لذا حكم بعض
الأصحاب بالندب، وإن وافق الخبر العامة، لأنه لا يعلم بذلك أنه خرج لها، فحمله
على الندب حينئذ أولى فتأمل جيدا.
(السادس) المذي، وقيل بناقضيته، والصحيح العدم وتحمل الأخبار المعارضة
على الندب أو التقية كما سيأتي إن شاء الله.
(السابع والثامن والتاسع) الرعاف والقي والتخليل يسيل الدم، وفي المدارك
تقييدهما بما إذا كرههما الطبع، قال الصادق عليه السلام (1) في خبر أبي عبيدة:
" الرعاف والقي والتخليل يسيل الدم، إذا استكرهت شيئا ينقض الوضوء " لعله لذلك
قيده في المدارك بما سمعت. وتحتمل الرواية أن تكون ردا على القائلين بالنقض فيكون
المعنى أنه لا ينقض الوضوء إلا إذا استكرهت، كناية عن الأحداث.
(العاشر والحادي عشر) مس باطن الدبر أو باطن الإحليل لخبر عمار (2): " من
الجواهر 3

(1) المروي في الوسائل في الباب - 6 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 12.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 10.
24

مس باطن دبره أو باطن إحليله أعاد الوضوء ".
(الثاني عشر) نسيان الاستنجاء قبل الوضوء لقول أبي جعفر (عليه السلام) (1) في خبر سليمان بن خالد: فيمن توضأ ونسي غسل ذكره " ثم يعيد الوضوء ".
(والثالث عشر والرابع عشر) التقبيل بشهوة أو مس الفرج كما في المدارك
وعن النفلية والتهذيب والاستبصار في وجه، لقول الصادق (عليه السلام) (2): " إذا
قبل الرجل المرأة بشهوة أو مس فرجها أعاد الوضوء " ولعل الاستحباب في هذه الأمور
وما شابهها إنما هو تأكد استحباب التجديد.
(الخامس عشر) قبل الأغسال المسنونة كما عن الكافي والبيان والنفلية،
لقول الصادق عليه السلام (3): " كل غسل قبله وضوء إلا غسل الجنابة " وفيه
المناقشة السابقة. (السادس عشر) قبل الأكل وبعده كما عن النزهة، قيل للأخبار، وألفاظ
الشارع تحمل على الحقائق الشرعية فلا معنى لحمل الوضوء فيها على غسل اليد.
(السابع عشر) بعد الاستنجاء بالماء للمتوضي قبله وإن كان قد استجمر كما في
المدارك وعن النفلية والبيان، لقول الصادق (عليه السلام) في خبر عمار: (4) " في
الرجل ينسي غسل دبره بالماء حتى صلى إلا أنه قد تمسح بثلاثة أحجار، إن كان في
وقت تلك الصلاة فليعد الصلاة ولا يعد الوضوء وإن كان قد خرجت تلك الصلاة التي

(1) المروي في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 9 راجع
الوسائل.
(2) المروي في الوسائل في الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 9
(3) المروي في الوسائل في الباب - 35 - من أبواب الجنابة حديث 1
(4) المروي في الوسائل في الباب - 10 - من أبواب أحكام الخلوة حديث 1 بأدنى
تغيير.
25

صلى فقد جازت صلاته وليتوضأ لما يستقبل من الصلاة ".
(الثامن عشر) الغضب، لما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) (1): " إذا
غضب أحدكم فليتوضأ ". والظاهر عدم استحباب الوضوء بأكل ما مسته النار، أو لمس
النساء، أو أكل لحم الجزور، أو قص الشارب، أو تقليم الأظفار، أ ونتف
الإبط، أو الاحتجام، أو مس كلب، أو مصافحة مجوسي، والأمر بالوضوء في
الأخيرين (2) محمول على التنظيف - ولا من الردة، ولا من الدم السائل من أحد
السبيلين إذا لم يستصحب حدثا، ولا من المضاجعة، لأن كثيرا من هذه الأشياء
ذهب إليه بعض العامة. وربما نقل عن بعض الأصحاب كابن الجنيد والصدوق،
ولكن بعض منها فاقد للدليل، والبعض الآخر متروك العمل به ولو على جهة
الاستحباب بين الأصحاب، وإنا وإن تسامحنا في أدلة السنن لكن لا إلى هذا المقدار.
ويأتي إن شاء الله تعالى تحقيق مسألة التسامح في أدلة السنن، وكثير من الأحكام.
المتقدمة مبينة عليها، والعمدة فيها نصوص (3) " من بلغه ثواب على عمل أوتيه وإن
لم يكن كما بلغه " وفيها الصحيح وغيره وهي متقاربة المضمون، لا ما ذكره بعضهم
من الاحتياط والرجحان العقلي ونحوهما مما لا يصلح مدركا لذلك، النصوص
المزبورة لولا الانجبار بالشهرة لا تدل على ذلك بحيث تكون مخصصة لما دل على اعتبار العدالة
في حجية خبر الواحد، على أن التعارض من وجه، بل لا تخلو نفس الدلالة على ذلك
من اشكال من وجوه، فتأمل جيدا.
(فائدتان)
(الأولى أنه لا بأس بجمع غايات متعددة في وضوء، وليس ذلك من التداخل

(1) المروية في المستدرك في الباب - 47 - من أبواب الوضوء حديث 1
(2) المروي في الوسائل في الباب - 11 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 4 و 5
(3) المروي في الوسائل في الباب - 18 - من أبواب مقدمة العبادات
26

في شئ لعدم تعدد المأمور به، إذ رفع الحدث غير قابل للتعدد في زمان واحد، ولا
يشترط في هذا الجمع أن يلاحظ علية كل غاية، بل يكفي ولو كان المجموع علة، بل
لو ضم وكان المقصود غيره اكتفى به بمعنى حصول الثواب له بمجرد ذلك، وإن لم
بوقع فعل الغاية بعده، على اشكال في الأخير، نعم لا اشكال في حصول ثواب فعل
الغاية لو فعلت معه، بل وإن لم تكن ملاحظة، فضلا عن أن تكون كذلك،؟ تبعا
لكون المدار فيه على ايقاع الفعل حال الطهارة.
(الثانية) إن الوضوء المستحب الذي لم يجامع الحدث الأكبر وكان المقصود به
ما لا يشترط فيه الطهارة كدخول المساجد وقراءة القرآن أو الكون على الطهارة قد ذكر
في الذخيرة أن فيه أقوالا ستة: (الأول) صحة الوضوء مطلقا ورفع الحدث ويجوز
الدخول به في الفريضة، ونسب إلى المحقق في المعتبر الميل إليه، بل عن بعض المتأخرين
أنه الظاهر من مذهب الأصحاب كما عن آخر دعوى الاجماع عليه (الثاني) عدم ارتفاع
الحدث به مطلقا كما عن الشيخ في جواب المسائل الحلبيات (الثالث) صحة الوضوء
مطلقا ويجوز الدخول به في الفريضة إلا إذا نوى وضوء مطلقا كما عن المنتهى.
(الرابع) صحته بالمعنى المذكور إن نوى ما يستحب له الطهارة لأجل الحدث
كقراءة القرآن وعدمها إن نوى ما يستحب لا للحدث كتجديد الوضوء كما عن التذكرة
(الخامس) عدم الصحة إن كان الاستحباب لا باعتبار الحدث كتجديد الوضوء وكذا
إن كان باعتباره لكن لم يقصد اكمال وصحته إن قصد كما عن العلامة في النهاية
(السادس) الصحة إن قصد ايقاع ما الطهارة مكملة له، وكذا إن قصد الكون على
الطهارة وعدم الصحة في غير الصورتين كما عن الشهيد في الذكرى، وعنه إن قال:
" وفي نية الوضوء للنوم نظر لأنه نوى وضوء الحدث ".
(قلت): هذا الكلام كغيره من كلام بعض الأصحاب لا يخلو من إجمال، وتحرير
البحث أن يقال إن في المقام مسألتين (الأولى) اشتراط صحة الوضوء بنية رفع الحدث خاصة
27

أو به أو بينة ما هو شرط في صحته، كالصلاة، أو بهما، أو بما هو شرط في كماله
كقراءة القرآن ودخول المساجد ونحو ذلك، وعدم اشتراط ذلك كما هو الأقوى على ما سيأتي
إن شاء الله في النية (الثانية) إن الوضوء المندوب بعد انعقاده صحيحا باستجماعه للشرائط
هل يرفع الحدث ويخل به في الفريضة أو لا؟ فنقول لا اشكال بل لا خلاف في صحة
الدخول في الفريضة بما كان من الوضوء المندوب لصلاة نافلة ونحوها مما يشترط في صحته
رفع الحدث وإن لم تكن الغاية واجبة، وأما ما لم يكن كذلك كدخول المساجد وقراءة
القرآن ما لا يشترط في صحته الوضوء فالظاهر أنه كذلك أيضا، إذ عدم جواز الدخول
به في الفريضة أما لكون مثل هذه الوضوءات كالأغسال المندوبة لا ترفع حدثا والفرض
أن رفعه شرط في صحتها، وأما لأن الصلاة مشروطة بالوضوء وإن كان الشخص
مرفوع الحدث، لقوله تعالى " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " (1) وإما لأن الوضوء فيها
إنما يرفع حكم الحدث بالنسبة لتلك الغاية دون غيرها كالصلاة ونحوها. والكل كما
ترى، أما الأول فهو مع منافاته لاطلاق لفظ الطهارة على كثير منها التي قد عرفت أنها
حقيقة في الرافع للحدث، وللمقطوع به على الظاهر من ملاحظة الأدلة - يمكن تحصيل
الاجماع على خلافه، كالثاني لتخصيص الآية بالمحدثين منقولا عليه الاجماع من
المفسرين (عليه) بل في المعتبرة (2) أن المراد إذا قمتم من النوم. ونحوهما الثالث لاتحاد
حكم الحدث بالنسبة إلى جميع آثاره، إذ لم نعهد شخصا متطهرا من الحدث للمسجد
غير متطهر بالنسبة إلى غيره. وذلك كله واضح، وفي السرائر دعوى الجماع على
جواز الدخول في الفريضة، قال فيها: " ويجوز أن يؤدي بالطهارة المندوبة الفرض من
الصلاة بدليل الاجماع من أصحابنا "، وفي التذكرة: " يجوز أن يصلي بوضوء واحد
جميع الصلوات فرائضها وسنتها ما لم يحدث سواء كان الوضوء فرضا أو نفلا سواء توضأ

(1) سورة المائدة آية 8
(2) المروية في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 7
28

لنافلة أو فريضة قبل الوقت أو بعده مع ارتفاع الحدث بلا خلاف، أما مع بقاء الحدث
فقولان سيأتي تحقيقهما " انتهى قلت: نعم قد يقع الاشكال في الوضوءات
المندوبة التي لم تكن مشروعة لرفع الحدث كوضوء التجديد والمجامع للأكبر والذي هو
لأحد الأسباب المتقدمة من القي والرعاف ونحو ذلك لو صادفت حدثا، كما لو ظهر
فساد الوضوء الأول أو عدم وجود حدث أكبر. ولعل الأقوى فيها جميعها ذلك
أيضا على الاشكال في الأخيرين سيما في أولهما، وذلك لما ستعرف إن شاء الله تعالى من أن المستفاد من الأدلة كون الوضوء من باب الأسباب، وإن رفع الحدث إنما هو من
الآثار المترتبة عليه التي لا مدخلية لنية المكلف فيها، مع ما يستفاد من أن مشروعية
التجديد إنما هو لتلافي خلل الأول. وقد يستدل عليه مضافا إلى ذلك بقوله (عليه
السلام) (1): " لا ينقض الوضوء إلا حدث " وقوله (عليه السلام) (2): " إذا
استيقنت أنك توضأت فإياك أن تحدث وضوء أبدا حتى تستيقن أنك أحدثت "
ونحوهما، لظهور هما في كون الوضوء والحدث متعاقبين لا يمكن حصول أحدهما مع الآخر
إلا بالدليل ولأن حصر الناقض له في الحدث كالصريح بكون رافعا لما يرد عليه منه.
وقد يفرق بين التجديدي وغيره من المجامع للأكبر بكون مشروعية الأول لتلافي
الطهارة الأولى دون الثاني والأقوى ما ذكرنا، فتأمل.
(والواجب من الغسل)
من غير اشكال في الذي سببه جنابة (ما كان لأحد الأمور الثلاثة) المتقدمة
على قياس الوضوء، (أو لدخول المساجد أو لقراءة) شئ من سور (العزائم إن وجبا)

(1) المروي في الوسائل في الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 4
(2) المروي في الوسائل في الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 7 مع
التغيير في اللفظ.
29

كما سيظهر لك في باب غسل الجنابة، ومثله في ذلك بالنسبة إلى الخمسة أيضا
غسل الحيض والنفاس، بل هو اجماعي في الثلاثة الأول، ولا أعرف فيه خلافا في
الاثنين أيضا، كما يشعر بنفيه عنه المحكي عن الروض والمسالك، حيث جعل
ما يحرم على الحائض أقسام ثلاثة منها ما غايته النقاء دون الغسل كالطلاق، ومنه ما غايته
الغسل دون النقاء، وذكر الخمسة، ومنه ما هو مختلف فيه كالصوم، قيل. وكذا
كلام العلامة في نهاية الإحكام يشعر بذلك أيضا. وعن الجامعية الاجماع على
الوجوب للمساجد وقراءة العزائم، لكن في المدارك عن بعض أنه قوى عدم وجوب
الغسل لهما، واكتفى في الجواز بانقطاع الدم لعدم التسمية بعده عرفا ولغة أيضا. وإن قلنا
أن المشتق لا يشترط في صدقه بقاء أصله كما في مثل المؤمن والكافر والحلو والحامض كما
قرر في محله، قال: وما ذكره غير بعيد غير أن المشهور أقرب. قلت: ويدل
على المختار مضافا إلى ما سمعت وإلى استصحاب المنع الثابت قبل انقطاع الدم أن الظاهر
كون المنشأ هو الحدث، كما يشعر به الجمع بين الحايض والجنب في الحكم، واطراد
المنع في النقاء المتخلل، وعدم قصور حدث الحيض عن الجنابة إن لم يكن أشد منه.
واطلاق اسم الحائض باعتبار الحدث كثير شائع، منه قولهم: يجب على الحائض
الغسل ويجوز وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الغسل ونحو ذلك. والمراد بالحائض
هنا هذا المعنى لا ذات الدم. والقول في النفساء كما في الحائض حرفا بحرف، مع
نقل الاتفاق على تساويهما في الأحكام. وأما المستحاضة فلا نزاع في وجوب الغسل
فيها للصلاة والطواف، وكذا مس كتابة القرآن لحرمته في حال الحدث، مع عدم
الاشكال في كون دمها حدثا. وأما دخولا المسجد وقراءة العزايم فالظاهر من المصنف
(رحمه الله) وغيره ممن عبر كعبارته اشتراطهما أيضا بالغسل، وهو الظاهر من كلمات
الأصحاب فيما يأتي في المستحاضة من تعليقهم صيرورتها بمنزلة الطاهر على فعل ما وجب
عليها من الأغسال، وفي جملة منها يظهر منها أنها إن لم تفعل حرم عليها ما كان يحرم
30

على الحائض. وعن حواشي التحرير: وأما الاستحاضة الموجب للغسل فظاهر
الأصحاب أنه كالحيض. وعن شارح النجاة: الاجماع على تحريم الغايات الخمس على
المحدث بالأكبر مطلقا عدا المس وربما يشعر به أيضا المحكي من عبارة الغنية والمعتبر
والتذكرة.
فظهر لك حينئذ أنه لا ينبغي الاشكال في ذلك، فما ينقل عن الروض من
جواز دخولها المساجد مع أمن التلويث من دون توقف على غسل ضعيف. كالمنقول
عن المعالم من جواز قراءة العزائم خاصة من دون غسل، وما عن ظاهر المجمع من
جوازهما معا، لما عرفت وتعرف إن شاء الله فيما يأتي.
وأما غسل المس فلا ينبغي الاشكال في أصل وجوبه على المشهور شهرة كادت
تكون اجماعا بل هي كذلك، لعدم قدح خلاف المرتضى (رحمه الله) في ذلك،
إما لمعلومية نسبه أو لغيره، مع أنا لم نعرف له موافقا قديما وحديثا، لذا حكى
الشيخ في جنائز الخلاف الاجماع، فقال: " دليلنا اجماع الفرقة ومن شذ منهم لا يعتد
بقوله ". قلت: ويدل عليه مضافا إلى ذلك الأخبار الكثيرة التي كادت تكون
متواترة، بل قيل إنها كذلك المشتملة على أنواع الدلالة على المطلوب. ويأتي التعرض
لذكرها في محله إن شاء الله، لكن ليس فيها على كثرتها ما يدل على الوجوب الغيري
وعلى شرطية الصلاة أو غيرها عدا الرضوي: (1) " إذا اغتسلت من غسل الميت
فتوضأ ثم اغسل كغسلك من الجنابة. وإن نسيت الغسل فذكرته بعد ما صليت
فاغتسل أعد صلاتك " ومن هنا توقف في المدارك فقال: " لم أقف على ما يدل
على ما يقتضي اشتراطه في شئ من العبادات ولا مانع من أن يكون واجبا لنفسه،
كغسل الجمعة والاحرام عند من أوجبهما. نعم إن ثبت كون المس ناقضا للوضوء اتجه

(1) المروي في المستدرك في الباب - من أبواب غسل المس حديث 1.
31

وجوبه للأمور الثلاثة، إلا أنه غير واضح " انتهى. وربما تبعه عليه بعض متأخري
المتأخرين، وقد يؤيد بما في صحيح الحلبي عن الصادق (عليه السلام) (1) في رجل
أم قوما فصلى بهم ركعة ثم مات، قال: " يقدمون رجلا آخر ويعتدون بالركعة
ويطرحون الميت خلفهم ويغتسل من مسه " لاشعاره بإرادة الاغتسال بعد الصلاة، إلا
أنه مع عدم صراحته بذلك قد يكون المراد منه الندب لعدم وجوب الغسل هنا لكون
المس حال الحرارة، كما يقتضي به قرب موته منه. وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في
ضعفه، بل بحسب الظاهر كأنه خرق للاجماع المركب، لاتفاق القائلين بوجوبه على
حدثيته وناقضيته للطهارة كما حكاه عنهم في المصابيح، ناقلا للتصريح به عن المقنعة
والنهاية والاقتصاد والجمل والعقود والكافي والغنية والإشارة والوسيلة والسرائر
والمنتهى والدروس والذكرى والبيان والروض وكفاية الطالبين جامع المقاصد وفوائد
الشرائع ومنهج السداد والرسالة الفخرية وغيرها من كتب المتقدمين والمتأخرين،
قال: " هو أمر مقطع به في كلامهم ولا خلاف فيه إلا ممن نفى وجوب غسل المس "
قلت: ويؤيده السيرة المستقرة والعمل المستمر في الأعصار والأمصار على عدم فعل
شئ مما يشترط بالطهارة كالصلاة ونحوها قبل فعله، وقد نقل عن جماعة التصريح
بتوقف الغايات الثلاثة عليه وهي الصلاة الطواف ومس كتابة القرآن، كما هو ظاهر
المصنف وغيره ممن عبر كعبارته، ولعله قضية كلام من صرح بحدثيته وناقضيته للطهارة
ممن عرفت، لمكان اشتراط هذه الغايات الثلاثة بارتفاع الحدث. وربما استدل عليه
كما في المصابيح وغيرها بعموم قوله (ع) (2): " في كل غسل وضوء إلا الجنابة "، مع
اتفاق الأصحاب على ذلك إلا من شذ، ولأن المس ناقض، وإلا لم يجب به الوضوء
الجواهر 4

(1) المروي في الوسائل - 43 - من أبواب صلاة الجماعة حديث 1
(2) المروي في الوسائل الباب - 35 - من أبواب الجنابة حديث 2.
32

قطعا، فإنه لا يجب إلا على المحدث اتفاقا كما قيل. لكن قد يناقش فيه بأن أقصى
ذلك ناقضية الطهارة به، وهي لا تستلزم وجوب الغسل للصلاة إذ قد يكتفي في رفع
الحدثية بالوضوء حينئذ، وإن وجب الغسل تعبدا بناء على استقلاله في رافعية الأصغر
وإن كان منضما مع الأكبر، اللهم إلا يقال إن المنساق منها أنه حدث لا ترتفع
حدثيته إلا بالوضوء والغسل. وربما استدل عليه أيضا بما (1) في روايتي الفضل بن شاذان
ومحمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) من تعليل الأمر بغسل المس بالطهارة لما أصابه
من نضج الميت قال (عليه السلام) في الأولى: " إنما أمر من يغسل الميت بالغسل لعلة
الطهارة مما أصابه من نضح الميت لأن الميت إذا خرج منه الروح بقي أكثر آفته " وكذا
في الثانية مع زيادة " فلذلك يتطهر منه ويطهر " وهو وإن أمكن المناقشة فيه سيما
في الأولى، لكنه لا بأس به مؤيدا، وإنما العمدة ما عرفت من ظهور اتفاق
الأصحاب على ذلك مع التأييد بما في الفقه الرضوي (2) وما عساه يشعر به ضمه في
الأخبار مع ما يوجب الغسل من جهة الحدث، بل لعله المنساق من الأمر بالاغتسال
منه، بعد ملاحظة ما كان من قبيله من هذه الأغسال. لكن جميع ذلك إنما يقضي بوجوب
الغسل لهذه الغايات الثلاثة دون غيرها من اللبث في المساجد وقراءة العزائم، وإن كان
ظاهر المصنف وغيره ممن أطلق وجوب الغسل للغايات الخمس ذلك، بل عن بعضهم
نسبته إلى الأشهر، إلا أنه لا دليل عليه، فالأصل يقتضي عدمه والقياس لا نقول به
وفاقا للمنقول عن الروض والموجز وغاية المرام ومعالم الدين وجامع المقاصد وحواشي التحرير
والإرشاد والجعفرية والطالبية ومنهج السداد وشارح النجاة بل في السرائر دعوى الاجماع
على جواز دخوله المسجد وجلوسه فيه. فظهر حينئذ أن الأقوى عدم وجوب غسل المس
لغير ما تجب له الطهارة الصغرى.

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب غسل الميت - حديث 11 و 12
(2) المستدرك - الباب - 1 - من أبواب غسل الميت - حديث 1
33

(وقد يجب) الغسل إذا كان من جنابة (إذا بقي لطلوع الفجر من يوم يجب
صومه) مضيقا أو موسعا (بمقدار ما يغتسل الجنب) لمكان توقف صحة الصوم عليه
على المشهور شهرة كادت تكون اجماعا، بل هي كذلك على الظاهر كما حكى في الانتصار
والخلاف والسرائر والوسيلة. وعن الغنية وكشف الرموز وحواشي التحرير والروض
والمقاصد العلية وكشف اللثام، وعن المعتبر والمنتهى والتذكرة نسبته إلى علمائنا، وكنز
العرفان إلى أصحابنا، والمهذب البارع أن القول بخلاف ذلك منقرض، وجامع المقاصد
أنه استقر عليه مذهب الأصحاب وعن المنتهى والمختلف والسرائر تكرار حكايته
في مسألة وجوب الغسل لنفسه. ويدل عليه مضافا إلى ذلك خبر أبي بصير (1) عن الصادق
(عليه السلام) فيمن أجنب في شهر رمضان ثم ترك الغسل متعمدا حتى أصبح،. قال:
" يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا " وأخبار القضاء
والقضاء مع الكفارة إذا نام فإنه إذا بطل مع النوم فبدونه أولى. فما ينقل عن ظاهر
الصدوق من الخلاف في ذلك وربما مال إليه جماعة من متأخري المتأخرين ضعيف جدا
كأدلتهم من الأصل وظاهر الكتاب، وخبر حماد بن عمار (3) عن الصادق (عليه
السلام) عن رجل أجنب في شهر رمضان من أول الليل وأخر الغسل إلى أن طلع الفجر
فقال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجامع نساءه من أول الليل ثم يؤخر
الغسل حتى يطلع الفجر ولا أقول كما يقول هؤلاء الأقشاب يقضي يوما مكانه " وخبر
العيص (4) سأل الصادق (عليه السلام) عن رجل أجنب في شهر رمضان في أول الليل

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب ما يمسك الصائم عنه ووقت الامساك -
حديث 2.
(2) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب ما يمسك الصائم عنه ووقت الامساك -
حديث 2.
(3) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب ما يمسك الصائم عنه ووقت الامساك - حديث 3
وفي الوسائل حماد بن عثمان. الأقشاب جمع قشب ككتف وهو من لا خير فيه من الرجال.
(4) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب ما يمسك الصائم عنه ووقت الامساك - حديث 4
34

فأخر الغسل حتى طلع الفجر قال: " يتم صومه ولا قضاء عليه " وقوله (عليه السلام)
في خبر حبيب الخثعمي (1): " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلي صلاة الليل
في شهر رمضان ثم يجنب ثم يؤخر الغسل متعمدا حتى يطلع الفجر " إلى غير ذلك، إذ
يجب الخروج عنها في مقابلة ما ذكرنا، وحمل ما يقبل التأويل من الأخبار على إرادة
التعجب والانكار أو مقاربة الفجر الأول أو العذر أو التقية، ولعلها أصوب
كما يلوح من ملاحظتها، وكيف لا مع اشتمالها على ما سمعت من فعل النبي (صلى الله
عليه وآله) وهو مناف لمنصب النبوة سيما بعد اشعارها بالمداومة منه على ذلك،
مع أنه لا إشكال في كراهته واقتضاءه تأخير صلاة الصبح عن أول وقتها،
بل ترك صلاة الليل وهي واجبة عليه. فلا ينبغي الاشكال في هذا الحكم
وعدم الالتفات إلى الخلاف المذكور، مع إمكان ارجاع عبارة الصدوق إلى المختار
فلا حظ وتأمل.
ثم إنه قد تشعر عبارة المصنف كغيره من بعض العبارات باختصاص هذا الحكم
في غسل الجنابة دون غيره، ويؤيده خلو عبارات القدماء كما قيل عن التعرض لاشتراط
صحة الصوم بغسل الحيض والنفاس والمس، اللهم إلا أن يكون اكتفوا عن الأولين
بذكرهم شرط صحة الصوم الخلو من الحيض، وتردد في المعتبر في وجوب غسل الحيض
للصوم. قلت: وهو مما ينبغي القطع به بالنسبة إلى غسل المس كما نص عليه بعضهم ونقل
عن آخرين، بل في المصابيح للعلامة الطباطبائي أن المستفاد من كلام الأصحاب هنا
وفي كتاب الصوم القطع بعدم توقف الصوم عليه، ولعل الأمر كما ذكر. ويؤيده مضافا
إلى ذلك وإلى الأصل مع عدم الدليل عليه اطباق المسلمين في سائر الأعصار والأمصار
على تغسيل الأموات في شهر رمضان نهارا من غير نكير سيرة يحصل القطع بها برأي

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب ما يمسك الصائم عنه ووقت الامساك حديث 5
35

المعصوم. فما ينقل عن والد الصدوق في الرسالة من إيجاب القضاء للصوم والصلاة لمن
نسي الغسل ضعيف شاذ، مع أنه احتمل الناقل لذلك أن في عبارته وهما من النساخ،
ويؤيده عدم نقل غيره عنه ذلك، مع أن عبارته فيها غالبا على وفق عبارة الفقه الرضوي
وهي خالية عن ذلك. ومن العجيب ما ينقل عن الحديقة من نسبة اشتراط صحة الصوم
به إلى المشهور بعد ما عرفت، ولعله أخذه من ذكر الأصحاب له في جملة ما يجب الغسل
فيه لذلك وهو كما ترى. وأما بالنسبة للحيض فالمشهور بين المتأخرين أنه كالجنابة في ذلك،
بل عن بعضهم نفي الخلاف فيه كآخر دعوى الاجماع، ولعل المراد المتأخرين، وإلا
فلم ينقل عن أحد من القدماء سوى بن أبي عقيل، وفي المصابيح أن كتب المتقدمين
كالنهاية والمقنعة والمبسوط والخلاف والجمل والانتصار والمراسم والكافي والمهذب
والوسيلة والغنية والسرائر خالية عن اشتراط الصوم بغسل الحيض والنفاس ووجوبهما
فيما يجب فيه. وقد ضبطوا في كتاب الصوم ما يوجب القضاء والكفارة أو القضاء وحده
ولم يذكروا ذلك في شئ من القسمين. قلت: وكيف كان فلا ريب أن الأقوى
وجوبه لذلك، ويدل عليه مضافا إلى ما تقدم وإلى الأصل في وجه سيما أن جعل الكف
عنه داخلا في ماهية الصوم، وإلى غلبة مشاركة غسله لغسل الجنب في كثير من الأحكام.
بل قد يدعى أولويته من الجنابة بالنسبة إلى كل ما يشترط به لما دل أن حدث الحيض
أعظم، كما ذكره بعض الأصحاب، ويشعر به قوله (عليه السلام): (قد جاء
ما هو أعظم من ذلك) موثق أبي بصير (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" إن طهرت بليل من حيضها ثم توانت أن تغتسل في شهر رمضان حتى أصبحت، عليها
قضاء ذلك اليوم " وهي وإن كان لا تعرض فيها لغسل النفاس إلا أن الاجماع على

(1) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب الحيض - حديث 2 وفيه قد أتاها ما هو
أعظم من ذلك.
(2) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب ما يمسك الصائم عنه وقت الامساك - حديث 1
36

مشاركة النفاس للحيض كاف في ذلك، بل ادعى بعضهم في خصوص المقام أن كل
من قال بوجوب غسل الحيض للصوم قال به بالنسبة إلى غسل النفاس. نعم ظاهر الرواية
مختص في شهر رمضان، وربما يلحق به قضاؤه. ولذا اقتصر عليهما جماعة من المتأخرين
كما نقل عنهم ذلك أيضا بالنسبة إلى غسل الجنابة، لكنه لعله مخالف للمشهور، بل
الاجماع كما قيل، إذ الأصحاب بين القول باشتراط مطلق الصوم واجبا كان أو مندوبا
بارتفاع هذا الحدث كما لعله الظاهر من ملاحظة كلامهم في الصوم، وبين القول باشتراطه
في خصوص الصوم الواجب مطلقا مع قطع النظر عن غيره، فخصوص الواجب حينئذ
متيقن من غير تفصيل في أفراده. ويأتي تمام الكلام فيه في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى
وكيف كان فظاهر المصنف (رحمه الله) والقواعد وعن التذكرة ونهاية الاحكام
وجماعة من متأخري المتأخرين اختصاص وجوب الغسل للصوم في آخر الوقت، وظاهرهم
أنه متى قدم الغسل على ذلك نوي الندب، وعلل بعدم تعقل وجوب الشرط قبل
وجوب المشروط إلا أنه نزل ضيق الوقت بمنزلة دخوله، ويقرب منه غيره. قلت:
وحاصل الاشكال في المقام أنه لا إشكال في وجوب الغسل للصوم مقدما عليه، مع أنه
لا وجه لوجوب مقدمة الواجب قبل وجوب ذي المقدمة، وكيف مع استفادة وجوبها
من وجوبه، فمن هنا احتاجوا إلى ما سمعت من التعليلات الضعيفة التي لا تدفع ضيما
بالنسبة إلى ذلك، إذ ضيق الوقت لا يحقق وجوب الصوم قبل وقته وهو الذي يجدي
في وجوبها. ودعوى استفادة ذلك من شرطية الصوم به وإن لم يتحقق وجوب الصوم
فعلا لا تقصر الوجوب عند الضيق، بل مقتضاها الوجوب قبله أيضا. ولذلك ارتكب
بعضهم كالعلامة القول بالوجوب النفسي في التفصي عن ذلك. وهو غير مجد أيضا إذ
لا يليق به مع ذلك إنكار الوجوب الغيري المعلوم ثبوته، ضرورة توقف صحة الصوم
عليه، وأقصى القول بالوجوب النفسي أنه اثبات له مع الوجوب الغيري، والاشكال
إنما جاء من جهته لكونه مستلزما إما إنكار مقدميته أو إنكار وجوب مقدمة الواجب
37

وهما معا باطلان. ومن العجيب أن العلامة (ره) مع قوله بالوجوب النفسي ذكر كما ذكر
المصنف (رحمه الله) من أنه إنما يجب عند ضيق الوقت. وقيل إنه حكي عنه الاعتذار
عن ذلك بأن المراد تضيق الوجوب بسببه وإنما الموجب له الجنابة. وفيه أنه مشعر بأن
الغسل لا يجب إلا بوجوب واحد نفسي حاصل من حين وجود سببه لا يتضيق إلا بظن
الموت أو بتضيق العبادة المشروطة به، وهو وإن كان مطابقا لظاهر المنقول عن القائل
بالوجوب النفسي في جميع الطهارات من وجوبها بحصول سبابها وجوبا موسعا لا يتضيق
إلا بظن الوفاة أو تضيق العبادة المشروطة بها، ولاستدلال القائلين بوجوب غسل
الجنابة لنفسه بأنه لو كان واجبا لغيره لزم جواز الاصباح على الجنابة في شهر رمضان لعدم
وجوب الواجب للغير إلا بعد دخول الوقت، لكن ينبغي القطع بفساد ذلك كله لما
عرفت من أنه لا اشكال ولا نزاع في الوجوب الغيري عند القائلين بالوجوب النفسي
وأن الذي يتضيق بتضيق العبادة إنما هو الأول دون الثاني كالعكس في ظن الوفاة،
نعم قد يجتمعان ولا مانع من ذلك كما في غيرهما مما وجب لنفسه ولغيره. وكيف كان
فقد ظهر لك أن القول بالوجوب النفسي لا يحسم مادة الاشكال، ولذلك نقل عن البهائي
أنه سلك مسلكا آخر في التخلص عن ذلك وهو صرف وجوب الغسل لصوم عن ظاهره
وجعل الغاية توطين النفس على إدراك الفجر طاهرا. وفيه مع وضوح فساده في نفسه
أن وجوب التوطين على إدراك الفجر طاهرا فرع وجوب الغسل قبل الوقت، فإن صح
فلا حاجة إلى غيره، وإلا لم يجب التوطين. وأعجب من ذلك ما أجاب به ابن إدريس
في السرائر بعد أن أورد الاعتراض على القول بالوجوب الغيري بما حاصله أن الجنب
في ليالي شهر رمضان إن أوجبتم عليه الاغتسال قبل الفجر فقد رجعتم إلى القول
بالوجوب النفسي من حيث لا تشعرون لعدم وجوب الواجب للغير قبل الوقت، وإن
قلتم لم يجب كما هو قضية قولكم بندبيته قبل الوقت خالفتم الاجماع إذ لا خلاف في
اشتراط صحة الصوم بالطهارة من الجنابة قبل الفجر، فيجب حينئذ لوجوب ما لا يتم
38

الواجب إلا به. وأجاب عن ذلك بوجهين الأول أن الأمة بين قائلين: قائل بوجوب
الغسل في جميع الشهور والأيام والأوقات وهذا المعترض منهم، وقائل بوجوبه فيما عيناه
وشرحناه يعني به الوجوب للغير بعد الوقت وليس هاهنا قائل بالندب في طول أوقات
السنة إلا الموقت المتقدم وليالي شهر رمضان، قال: فانسلخ من الاجماع بحمد الله تعالى
وحسبه بهذا عارا وشنارا، والثاني إنا نسلم وجوب ما لا يتم الواجب إلا به لكن
ما نحن فيه ليس من هذا القبيل وذلك لتمامية الصوم بالاغتسال من دون نية الوجوب
بل يكتفي بنية الندب قربة إلى الله فيصح حينئذ صومه بلا خلاف. قلت: وهو كما ترى
فيه نظر من وجوه بل لا يكاد يستقيم له محصل، ولذا قال العلامة في المنتهى في الاعتراض
عليه بعد ن نقل ذلك وغيره عنه: (ومن أعجب العجائب إيجاب الغسل عليه وأن
لا ينوي الوجوب بل الندب، فللمغتسل أن يقول إن كان الغسل ندبا فلي أن لا أفعله
فإن سوغ له الصوم من دون اغتسال فهو خلاف الاجماع، وإلا لزمه القول بالوجوب
أو القول بعدم وجوب ما لا يتم الواجب إلا به، وإن كان واجبا فكيف أنوي الندب
في فعل واجب، وعندك الفعل إنما يقع على حسب القصود والدواعي. فانظر إلى هذا
الرجل كيف يخبط في كلامه ولا يحترز عن التناقض فيه) انتهى.
قلت: ويمكن التخلص عن هذا الاشكال الذي ألجأ هؤلاء الأصحاب إلى مثل
هذا الاضطراب بمنع اختصاص وجوب مقدمة الواجب بما بعد الوقت في مثل ما نحن
فيه من الواجبات المنطبقة على تمام أوقاتها ونحوها من الواجبات المضيقة مما كانت
المقدمات فيها تقدمها عليها لعدم سعة زمان فعلها إلا لها، دون مقدماتها، بشهادة جميع
ما دل على وجوب مقدمة الواجب عليه من العقل والعرف وغيرها، إذ لا ينبغي الشك
في أن السيد إذا أمر عبده بالصعود على السطح عند الزوال من غير تأخير عنه كان
مخاطبا بوضع السلم وغيره مما يتوقف عليه ذلك قبل الزوال، وإلا عد عاصيا مفوتا للواجب
عن وقته، ومثله قطع المسافة للحج ونحو ذلك. وقولهم لا معنى لوجوب الشرط قبل
39

وجوب المشروط يدفعه بعد الاجماع على وجوب ما لا يتم الواجب إلا به من غير فرق
بين سعة وقت الواجب له ولمقدماته أولا، أنهم إن أرادوا قبل الوجوب الأدائي فهو
ممنوع إذ لا شاهد له من عقل ولا نقل بل هما شاهدان على خلافه، وإن أرادوا قبل
الوجوب التعليقي فهو مسلم لكن المفروض في المقام وجوده، ضرورة تقدم الأمر على
المأمور به، وهو كاف في إثبات الوجوب للمقدمات سيما ما اعتبر تقدمها عليه في
صحة الفعل.
لا يقال: إن قضية ذلك إيجاب مقدمات الواجب المشروط قبل حصول شرط
الوجوب ضرورة كون ما نحن فيه من الواجب الموقت واجبا مشروطا بالنسبة للوقت
فلو وجبت مقدماته قبل الوقت لوجب حينئذ فعل سائر مقدمات الواجبات المشروطة
من الحج وغيره قبل تحقق شرط الوجوب وهو واضح الفساد، لأنا نقول أما أولا فقد
يفرق بين ما علق عليه الوجوب من المقطوع بحصول شرط الواجب فيه وعدمه فنلتزم
بايجاب مقدمات كل واجب مشروط يقطع فيه بحصول شرط الوجوب دون غيره،
وثانيا بامكان الفرق أيضا بين ما علق فيه نفس الوجوب كالاستطاعة بالنسبة للحج
وبين ما كان التعليق فيه لأداء المكلف به مثل ما نحن فيه، وثالثا وهو الأوجه بالفرق
بين المشروط بالوقت وغيره باعتبار الاكتفاء بظن السلامة في الأول دون الثاني، وبالفهم
العرفي وغير هما، فتأمل جيدا فإن التحقيق عدم الفرق بين الوقت وغيره مما يكون الوجوب
مشروطا، نعم الظاهر عدم اعتبار الوقت في الموقت في وجوبه وإنما هو في صحته،
إلا أن يدل دليل على ذلك، فالايجاب فيه حينئذ مطلق قبل الوقت لا مشروط فيكفي
حينئذ في وجوب مقدمته سيما إذا كان سبقها عليه معتبرا في صحته، ضرورة كونها
حينئذ مقدمة واجب مطلق، وإن كانت الصحة معلقة على الوقت، فإن ذلك لا يقتضي
كون الوجوب فيه مشروطا، وحينئذ يتجه الجواب الثاني لا الثالث، وبه يفرق بين المعلق
الجواهر 5
40

والمشروط، وبعبارة أخرى بين المقيد والمطلق، وثالثة بين شرط الوجوب وتعليقه
وبين صحة الواجب والمأمور به، والله العالم.
فاتضح لك بذلك كله وجه ما يندفع به ما ذكر سابقا بحذافيره من غير حاجة
إلى القول بالوجوب النفسي ولا اسقاط وجوب ما لا يتم الواجب إلا به ولا إنكار
مقدمية الغسل للصوم، نعم يتجه بناء على ما ذكرنا عدم اختصاص الوجوب بآخر
الوقت كما هو ظاهر المصنف (ره) ومن تبعه. لعدم الدليل، بل لدليل العدم وهو
إطلاق ما دل على وجوب المقدمات من الأمر بذي المقدمة، بعد فرض العلم باشتراط
تقدمها من غير تقييد بوقت كسائر الواجبات المطلقة، لكنها تتضيق في آخر الليل
لمكان انتهاء وقت وجوبها، ولا ينافي ذلك القول بوجوبها للغير إذ المراد أن العلة في
وجوبها الغير ولو تقدمت عليه بل تسرى العلامة الطباطبائي (رحمه الله) حتى قال:
" أنه لولا النص والاجماع على تأخير وجوب هذا الغسل عن وقت الصلاة لأمكن القول
بمثله هنا أيضا، فإن الصلاة في أول الوقت متصفة بالوجوب الموسع وهي موقوفة على الطهارة
قبل الوقت، لكن الدليل الشرعي أوجب صرف الوجوب إلى صورة مخصوصة وهي
ما إذا صادف المكلف أول الوقت متطهرا، فتكون الصلاة في أول الوقت واجبا مشروطا،
وأما الغسل للصوم فحيث لم يمكن تأخيره إلى الوقت ولم يضرب له وقت في الشرع وجب
أن يكون وقته من حصول السبب ويتضيق وجوبه في آخر الليل كما هو الغالب وربما
تضيق في غيره كما إذا علم عدم تمكنه منه في الأخير " انتهى، وكيف كان فقد صار
حاصل هذا التخلص أنا نقول بوجوب غسل الجنابة للصوم بمجرد حصول سبب الجنابة
موسعا، ويتضيق إذا بقي من الليل بمقدار زمانه، وأنه لا مانع من وجوب المقدمة قبل
الوقت الذي هو شرط صحة الفعل لا الوجوب، فهي حينئذ مقدمة واجب مطلق لا مشروط
كما أنه لا دليل على تخصيص الوجوب في الآخر، وما تخيلوه من أنه لا يجب الشرط قبل
المشروط مع فساده بما سمعت لا يدفعه دعوى التضيق المذكورة واختاره العلامة الطباطبائي
41

(رحمه الله) في المصابيح وقال بعد ذكر تحقيقه وتنقيحه: (ومن ثم ذهب جماعة من
المحققين منهم المحقق الأردبيلي والسيد الفاضل صاحب الرجال والقاشاني في المفاتيح
وشرحه وجميع من عاصرناهم من المشايخ إلى عدم اختصاص الوجوب بآخر الوقت وهو
ظاهر إطلاق العلامة في الإرشاد والشهيد في جميع كتبه، بل هو قضية كلام المعظم فإنهم
اشترطوا في صحة الصوم تقديم الغسل ولم يعينوا له وقتا مخصوصا والتحديد بآخر الليل
لم يعرف لأحد من الفقهاء إلا المحقق في الشرائع وقد وافقه العلامة في أكثر كتبه مع
قوله بالوجوب النفسي) انتهى قلت: وهو وإن كان قد أجاد وجاء بما هو فوق المراد،
لكن قد يناقش فيه بعد الاغضاء عما في بعض كلماته مما لا تعلق لها فيما نحن فيه بأن
قضيته كما صرح به غير مرة في كلامه أنه يجب غسل الجنابة للصوم بمجرد حصول سببه
من غير تقييد في وقت، هو يقتضي تحقق معنى الشرطية في غسل الجنابة ولو مع الفصل
بين زمان الجنابة وشهر رمضان مثلا بتمام السنة، فينوي الوجوب فيه حينئذ متى وقع،
وكأنه مما ينبغي القطع بعدمه، إذ لا يعرف ذلك إلا من القائلين بالوجوب النفسي دون
أهل القول بالغيري، نعم نقل عن بعض من لم يخص الوجوب في حل التضيق أنه
ينوي الوجوب فيه من أول الليل بتوهم كون ابتداء الخطاب منه بالصوم فيه، ولا ريب
في فساده ضرورة عدم اختصاص الأمر بالصوم في أول الشهر، بل الأمر بصوم شهر
رمضان مطلق، وقوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " (1) يراد منه عدم
وجوبه على المسافر كما يراد من نحو قوله (صلى الله عليه وآله): (صوموا لرؤيته) (2)
عدم وجوب صوم يوم الشك.
وكشف الحال أنه قد تقرر في محله كون المراد بالشرط هو ما يلزم من عدمه
العدم ولا يلزم من وجوده الوجود، ولا ريب أن الذي هو شرط هنا ومقدمة للصوم

(1) سورة البقرة - آية 181.
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب أحكام شهر رمضان حديث 17 وفي الوسائل فصوموا
42

إنما هو الطهارة من الجنابة، والذي ينطبق عليه معنى الشرط المتقدم إنما هي الطهارة
المقارنة لفجر يوم الصوم، إذ هي التي ينعدم بانعدامها المشروط لا المتقدمة عليه بقليل
فضلا عن الكثير، فالطهارة الحاصلة قبل ذلك لا مدخلية لها في صحة الصوم قطعا ولذلك
لا يقدح عدمها فيه، فمن أجنب حينئذ قبل دخول شهر رمضان بيوم أو يومين واغتسل
لم يكن لما حصل عنده من وصف الطهارة حين الغسل مدخلية في صحة الصوم، نعم إن
الذي له مدخلية في ذلك إنما هو حال مثل هذا الحال عند طلوع الفجر، وهو تارة
يحصل بالبقاء والاستمرار على ما حصل له من ذلك وتارة يحصل بايجاد غسل في وقت الضيق.
لا يقال إن الغسل الأول حينئذ أحد فردي ما يحصل به مقدمة الواجب، فيجب
حينئذ تخييرا إذ لا نشترط في المقدمة انحصارها في فرد واحد لأن المقدمات لا زالت تتعدد
كأفراد الماهية بالنسبة للأمر بها، لأنا نقول: أما أولا فبالمنع من استناد الحالة التي قد
ذكرنا أنها هي المعتبرة في صحة الصوم أي المقارنة للفجر إلى الغسل السابق بناء على عدم
استغناء الباقي في بقائه إلى المؤثر، وأما ثانيا فبعد التسليم بمنع التلازم بين اتفاق حصول
شرط الواجب به وبين وجوبه، إذ لا إشكال عندهم في حصول شرط الصلاة من الطهارة
عن الخبث مثلا بالتطهير قبل الوقت واستمرار الطهارة إليه مع عدم صيرورة التطهير
بذلك واجبا قبل الوقت، بل أقصاه أنه سقط وجوب التطهر بعد الوقت لمكان حصول
المقدمة التي هي الطهارة كسقوطه بفعل الغير والمطر ونحوهما من الأشياء الغير المقدورة
للمكلف، ولا ينافي ذلك كله مقدميتها إذ المقدمة إنما هو القدر المشترك بين المقدور
وغيره وهو الطهارة، فلا مانع حينئذ أن يقال في المقام أن المقدمة التي هي شرط في صحة الصوم
وهي الطهارة من الجنابة مقارنة للفجر بالواجب من الغسل وهو الذي لا يزيد على مقدار
زمان ذلك وبالمندوب وهو الحاصل قبل ذلك على معنى سقوط الخطاب بها نحو من لم
يجنب أصلا، بل لعله كذلك قطعا بناء على ما ذكرنا، إذ كيف يتصور وجوب الغسل
لدفع جنابة لا مدخلية لها في صحة الصوم، لما عرفت أن المانع من صحته إنما هو وصف
43

الجنابة المتأخر لا المتقدم ضرورة كون ذلك هو مفاد الخبر المزبور المقتضي فساد الصوم
بالاصباح جنبا، من المعلوم أن الزمان تدريجي فلا يتعقل الخطاب وجوبا برفع هذا المانع
قبل حصوله وصيرورته مانعا.
فظهر لك من ذلك كله أنه لا وجه لدعوى وجوب الغسل للصوم قبل وقت
الضيق، كما أنه لا معنى لانكاره فيه بعد ما عرفت سابقا من استفادته من الأمر
بالصوم بعد ثبوت شرطية تقدمه عليه، وأنه لا مانع من وجوب المقدمة قبل تحقق وقت
أداء ذي المقدمة، وبه ظهر وجه تخصيص المصنف ومن تابعه بوقت الضيق. ولعله يشير
إلى بعض ما ذكرنا ما في كشف اللثام من تعليل ذلك بأنه إنما يجب له إذا وجب. ولذا
لا يجب الوضوء للصلاة ما لم تجب ولا يجب إلا إذا دخل وقته، لكنه لما اشترط الطهارة
من أول يوم وجبت قبله ولكن بلا فصل إذ لا وجوب له ولا اشتراط به قبل ذلك
(و) يجب الغسل أيضا (لصوم المستحاضة إذا غمس دمها القطنة) سال منها أو لم يسل،
فيشمل حينئذ حالتي الوسطى والعليا، كما هو قضية إطلاق غيره من الأصحاب، بل في
جامع المقاصد وعن حواشي التحرير ومنهج السداد والطالبية والروض الاجماع عليه
مع التصريح بالتعميم المتقدم. فما في البيان وعن الجعفرية والجامع من التقييد بالكثرة
شاذ أو محمول على ما يقابل القلة، وربما ظهر ذلك أيضا من النص في هذا الحكم، وهو
صحيح علي بن مهزيار (1) قال: " كتبت إليه امرأة طهرت من حيضها أو من دم نفاسها
في أول شهر رمضان، ثم استحاضت فصلت وصامت شهر رمضان كله، غير أنها لم
تعمل ما تعلمه المستحاضة من الغسل لكل صلاتين، هل يجوز صومها وصلاتها أم لا؟
قال: تقضي صومها ولا تقضي صلاتها، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان
يأمر فاطمة والمؤمنات من نساءه بذلك " لكن ذلك إنما هو في خصوص السؤال فلا
منافاة فيه حينئذ لما قدمنا مع أنه ترك فيه غسلها للفجر المقطوع باعتباره في الصوم.

(1) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب ما يمسك الصائم عنه ووقت الامساك - حديث 1
44

وكيف كان فلا إشكال في وجوب غسل الاستحاضة وتوقفه عليها في الجملة، بل
في المصابيح أنه موضع نص ووفاق، نعم هل هو متوقف بالنسبة للكثيرة على جميع
أغسالها الليلية والنهارية كما يقتضيه إطلاقهم فساد الصوم باخلالها بما وجب عليها من الغسل،
أو أنه مختص بالنهارية فلا يتوقف على غسل الليلة المستقبلة كما نقل القطع به عن جماعة
منهم العلامة والشهيد، لسبق الانعقاد وامتناع تأخر الشرط عن المشروط وعزاه في
المدارك إلى المشهور، قال: " وفي توقفه على غسل الليلة الماضية احتمالات ثالثها إن
قدمت غسل الفجر ليلا أجزأها عن غسل العشاءين وإلا بطل الصوم " انتهى. وعن
العلامة في نهاية الإحكام احتمال توقفه على غسل الفجر خاصة وهو ضعيف، ويأتي إن
شاء الله تعالى تمام الكلام في محله، لكن ينبغي القطع بتوقفه على غسل الفجر من الأغسال
في الكثيرة بل وفي المتوسطة أيضا كما عرفت، نعم يشترط فيه تقدم وجود سبب
الغسل على صلاة الفجر سواء كان قبل الفجر أو بعده لعدم وجوب الغسل له لو حدث
بعدها، وعن الروض أنه احتمل الاختصاص بما كان قبل الفجر، وهو ضعيف لتبعية
اشتراط الصوم به لاشتراطه للصلاة ولا إشكال في وجوبه لها وإن حدث بعد الفجر.
ولذا قال المحقق الثاني في حواشي التحرير على ما نقل عنه: " قد وقع في الحواشي
المنسوبة إلى الشهيد (رحمه الله) على نظير قول المصنف (وصوم الاستحاضة) من
القواعد أن ذلك ليس على إطلاقه بل هو مقيد بقبلية الفجر أو حصول السيلان) قال:
" وظاهره أن الغسل إنما يجب لصوم المستحاضة مع الغمس دون السيلان إذا كان قبل
الفجر دون ما بعده، وهذا يكاد أن يكون مخالفا للاجماع فإني لا أعلم مخالفا بين أصحابنا
في أن المستحاضة يشترط في صحة صومها فعل ما يلزمها من الأغسال النهارية سواء الواحد
وغيره، صرح بذلك جملة أصحابنا " قال: " ويمكن أن يقال أنه أراد بالفجر صلاة
الفجر وإن لفظ الصلاة سقط سهوا من قلم الناسخ أو أن أحد تلامذته تصرف فيها كما
45

تصرف في غيرها، وحينئذ يستقيم هذا القيد لأن غمس القطنة لو كان بعد الصلاة لم
يجب الغسل للصوم قطعا، لأن الغسل غير واجب هنا أصلا ورأسا بخلاف ما لو سال
بعد الصلاة " انتهى.
ثم إنه قد ظهر لك ما ذكرنا من تبعية اشتراط الصوم به لاشتراطه بالصلاة من
غير زيادة لعدم الدليل عليها أنه لا يجب عليها تقديمه على الفجر بل يكتفى بصحة الصوم
لو فعل متأخرا عنه وإن كان سببه متقدما، كما هو المحكي عن ظاهر المعظم وصريح
البعض، فما عن الذكرى ومعالم الدين من إيجاب التقديم لكونه حدثا له مدخلية في صحة
الصوم فيجب تقدمه كالحائض المنقطع دمها قبل الفجر ضعيف، كضعف التردد المنقول
عن بعضهم فيه من ذلك وما تقدم، لعدم التلازم بين مدخليته في الصوم ووجوب
تقدمه عليه، وجعله كالحائض لا دليل عليه مع ظهور اختلاف الحال بين الحدثين،
إذ لا إشكال في توقف صحة الصوم على غسل الظهرين مع عدم إمكانه تقدمه على الفجر.
ثم إنه على تقدير القول بالوجوب فهل يجب التأخير إلى التضيق اقتصارا على ما يحصل
به الغرض مع تقليل الحدث ورعاية اتصال الغسل بالصلاة؟ وجهان أوجههما الوجوب.
ولو انقطع الدم قبل الفجر فهل يجب به الغسل للصوم أو لا يجب؟ وجهان أيضا ينشئان
مما سيأتي في محله إن شاء الله من إيجاب الغسل لانقطاع دم الاستحاضة مع عدم اشتراط
وجوبه بحصوله في أوقات الصلاة وعدم ذلك، أما لو انقطع ثم عاد قبل الصلاة فلا إشكال
في وجوب الغسل للصوم كما هو واضح لما عرفت، أما غسل البرء بناء على وجوبه فلم
يحضرني الآن من تعرض لاعتباره في الصوم ولا لكيفية ذلك على تقديره، والأقوى
اعتباره فيه، والأحوط استقبالها الفجر به على نحو غسل الحيض مع فرض برئها في الليل
بعد العشائين أو لم تفعله لهما ولو عصيانا والله العالم.
ثم إن ظاهر المصنف (رحمه الله) هنا كظاهر المبسوط وغيره وجوب الغسل
لغيره لا لنفسه سواء كان جنابة أو غيره، وينبغي القطع به بالنسبة إلى غير الجنابة،
46

بل نفى الخلاف عنه في المصابيح، كما أنه حكى الاجماع عليه المحقق الثاني كما عن الأول
والشهيدين والعلامة في نهاية الإحكام أيضا ذلك، فما عساه تشعر به عبارة الذكرى من
وجود المخالف فيه ليس في محله، كالاحتمال في المنتهى من وجوب غسل الحيض لنفسه.
وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في وجوب غير غسل الجنابة لغيره بل وفيه أيضا، كما أنه
صريح السرائر والدروس والبيان وجامع المقاصد وغيرهم، بل نسبه في البيان إلى الأكثر
والسرائر إلى محققي هذا الفن ومصنفي كتب الأصول، وعن الذكرى إلى ظاهر كلام
الأصحاب، وعن العزية أن الذي عليه فتوى الأصحاب أن الطهارة وجبت لكونها
شرطا في غيرها فوجوبها موقوف على وجوب ذلك المشروط. ومن متأخري الأصحاب
من أوجب غسل الجنابة وإن لم يكن إلى غيره. والذي عليه متقدموا الأصحاب
أن الطهارة بأجمعها لا تجب إلا وصلة إلى ما هي شرط فيه، وحكاه في المصابيح زيادة
على ما سمعت عن المهذب والكافي ومجمع البيان ومسائل ابن إدريس وعزيات المحقق
ومنهج السداد والروض والجامعية وشارح النجاة وغيرها، خلافا لظاهر الوسيلة بل
صريحها وصريح المنتهى والتحرير وعن المسائل المدنية والايضاح وكنز العرفان وكفاية
الطالبين ومعالم الدين وغيرها، وحكاه العلامة عن والده والشهيد عن الراوندي والفاضل
الهندي عن ابن شهرآشوب، وربما نقل عن علم الهدى، وأنكر في السرائر أن يكون
ذلك قولا له، بل نقل عنه ما يشعر بموافقة المشهور. ولا ريب أن الأقوى الأول
للأصل ولظاهر المنساق من قوله تعالى: " وإن كنتم جنبا " (1) للأذهان الخالية عن
التشكيكات الواهية، وظاهر قوله (عليه السلام): " إذا دخل الوقت وجب الطهور
والصلاة) (2) لشمول لفظ الطهور له، وحسن الكاهلي (3) أو صحيحه عن الصادق

(1) سورة المائدة - آية 8.
(2) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الوضوء - حديث 1.
(3) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الجنابة - حديث 1.
47

(عليه السلام) قال: " سألته عن المرأة يجامعها زوجها فتحيض وهي في المغتسل تغتسل
أو لا تغتسل؟ قال: قد جاءها ما يفسد الصلاة لا تغتسل " لما فيها من الظهور بارتباط
الغسل بالصلاة، فلا يتوف حينئذ الاستدلال بها على جواز ارتفاع حدث الجنابة حال
الحيض كما ظنه في المنتهى، وخبر سعيد بن يسار (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام) المرأة ترى الدم وهي جنب تغتسل عن الجنابة أم غسل الجنابة والحيض واحد؟
قال قد أتاها ما هو أعظم من ذلك ".
وربما استدل عليه أيضا بأمور أخر واهية، منها وقوع الاجماع على جواز تأخير
الغسل إلى الصبح لمن أجنب ليلا، حتى ورد (2) فعل مثال ذلك عن الإمام والنبي
(عليهما السلام). وفيه أنه لا ينافي الوجوب الموسع، نعم يمكن الاستدلال بالأخير بضميمة
ما في بعض الأخبار (3) أنه " لا يبات الإمام (عليه السلام) ولله في عنقه حق " فعدم
اغتساله (عليه السلام) قاض بعدم وجوبه عليه حينئذ. كل ذا مضافا إلى ما تقدم
ما عساه تشعر به قصة الأنصاري (4) لما خرج للجهاد جنبا فقتل وهي مشهورة أنا لا نعرف
للخصم شيئا يعتد به في اخراج غسل الجنابة عن باقي الطهارات، إذ هو إن كان ظاهر
قوله (عليه السلام): " إذا التقي الختانان فقد وجب الغسل وإنما الماء من الماء " (5) ونحو
ذلك فهي مع مساواتها لما ورد بالنسبة للوضوء وغسل الحيض والاستحاضة ومس الأموات
الجواهر 6

(1) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب الحيض - حديث 2.
(2) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الجنابة - حديث 2. وفي الباب - 13 -
من أبواب ما يمسك الصائم عنه ووقت الامساك - حديث 3.
(3) المروي في أصول الكافي - في باب أن الأرض كلها للإمام (عليه السلام) - من كتاب الحجة
(4) الفقيه - باب غسل الميت - حديث 46. وفي سفينة البحار ص 317 في
مادة غسل.
(5) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب الجنابة - حديث 5 ولكن ليس في قول الإمام (عليه السلام) " إنما الماء من الماء ".
48

من الأوامر المطلقة، بل وفي غسل الأخباث من غسل الأواني وتطهير
الثياب والبدن ونحو ذلك، لا يخفى على من لاحظها أن المراد منها بيان كون الجنابة
سببا للخطاب بالغسل عند حصول ما يتوقف عليه، لا إرادة الوجوب الفعلي النفسي،
ولذلك استدلوا بها على ثبوت الغسل لمن لم يكن مخاطبا بالغسل حين الفعل كالصبي
والمجنون وغيرهما، بل لعل المتبادر من نحو هذه بعد ثبوت الوجوب الغيري المسلم عند
الخصم أيضا وإن قال بالوجوب النفسي كون المراد منها الوجوب الشرطي سيما بعد ملاحظة
ذلك في نظائرها. بل يظهر من المنقول عن العزية أن ذلك حقيقة عرفية في مثل ذلك
وقال: إن اخراج غسل الجنابة من بينها تحكم بارد. ويشعر به أيضا مضافا إلى ما تقدم
عد الجنابة في سلك غيرها مما هو واجب لغيره، بل ربما جاء بأمر واحد بالغسل للجنابة
ولغيرها. فظهر لك أنه لا حاجة حينئذ إلى ارتكاب دعوى وجوب الطهارات بأسرها
لغيرها، وإن لم يتحقق وجوب غيره، فيجب الوضوء مثلا بمجرد تحقق خروج البول
وإن كان في غير وقت الصلاة أخذا بظاهر تلك الأوامر، لما عرفت من انصرافها
إلى إرادة مطلق التسبيب منها الذي لا ينافي الوجوب الشرطي، على أن ذلك كأنه
مخالف للاجماع بحسب الظاهر على عدم وجوب الطهارات غيريا إلا بعد وجوب ذي
المقدمة، فتأمل.
وإن كان لمكان وجوب بتقديم غسل الجنابة على الصوم إذ لو كان واجبا للغير
ما وجب تقديمه كما استدل به في المنتهى، فهو مع إمكان إيراد مثله عليه بالنسبة إلى غسل
الحيض بناء على ما عرفت سابقا من وجوب تقديمه على الصوم أيضا، مع عدم الخلاف
على الظاهر في وجوبه للغير، قد عرفت أنه مبني على عدم تعقل وجوب مقدمة الواجب
قبل وقت وجوب ذي المقدمة، وتقدم لك سابقا بيان فساد ذلك، وأنه لا مانع منه
عقلا وعرفا وشرعا، كما أنه تبين لك أيضا أنه لا يمكن التخلص عن ذلك بارتكاب
القول بالوجوب النفسي، إذ هو مع ذلك لا ينكر الوجوب الغيري والاشكال من جهته
49

وإن كان لمكان قوله تعالى: " وإن كنتم جنبا " بدعوى أن الواو للاستيناف
أو للعطف على جملة الشرط. فيفيد حينئذ أنه واجب لنفسه، فهو بعده في نفسه لما
فيه من ترك بيان ما ينبغي بيانه من الوجوب للصلاة إذ هو المهم المتكرر في كل يوم
بخلاف الواجب الموسع الذي لا يتضيق إلا بظن الوفاة، وما فيه من عدم الاتساق في
الجمل فيها لمسبوقيته بالواجب للغير وملحوقيته به من الوضوء والتيمم، وما فيه من
ارتكاب جعل صيغة الأمر بالتيمم لنفسه ولغيره بناء على قيامة مقام الوضوء والغسل،
مع إمكان منعه في خصوص المقام وإن جاز ذلك في نفسه بإرادة القدر المشترك أو غيره،
وذلك لأن جملة الأمر بالتيمم إما أن تكون معطوفة على جواب الشرط الأول وهو
فاغسلوا أو على الشرط نفسه فعلى الأول يكون واجبا غيريا وعلى الثاني واجبا نفسيا
مطلقا، وحيث بطل الثاني لأنه ثبت كون الوضوء واجبا غيريا فلا يكون بدله واجبا
نفسيا، فتعين الأول وهو يقضي بكون التيمم مطلقا سواء كان عن الوضوء أو الغسل
واجبا غيريا، فيستلزم كون الغسل كذلك حينئذ لمكان بدليته عنه، إلى غير ذلك من
المبعدات الكثيرة - ليس بأولى من جعل العطف فيها على جواب الشرط الأول أو على
شرط محذوف وهو إن كنتم محدثين بالأصغر محافظة على ما هو المنساق من تصدير الآية
باشتراط القيام إلى الصلاة، وتكون الطهارات فيها حينئذ على نمط أحد. فظهر لك حينئذ
أن الأولى الاستدلال بالآية على المختار كما ذكرناه. وما يرد عليها على هذا التقدير قد
أشرنا إلى دفعه سابقا عند الكلام على وجوب الوضوء لنفسه. ويؤيده وقوع الاستدلال
بها حينئذ من غير واحد من الأصحاب حتى من العلامة على الاجتزاء بغسل الجنابة عن
الوضوء، ورواه أيضا محمد بن مسلم (1) عن الباقر (عليه السلام) قال: " قلت إن أهل
الكوفة يروون عن علي (عليه السلام) أنه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة،

(1) الوسائل - الباب - 34 - من أبواب الجنابة - حديث 5 وفي الوسائل كذبوا
على علي (عليه السلام) ما وجدوا ذلك في كتاب علي (عليه السلام).
50

فقال: كذبوا على علي (عليه السلام) قال الله تعالى: (وإن كنتم جنبا فاطهروا) "
وهو لا يكون إلا على ذلك، وإلا فعلى الوجوب النفسي لا تعرض فيها لذلك، بل قد
تدل الآية حينئذ على وجوب الوضوء معه أخذا بعموم الشرط فيها.
لا يقال إن ما ذكرتموه من العطف على الجواب أو على الشرط المقدر مستبعد
جدا بل الثاني ممنوع لعدم الدليل على التقدير حتى يصح العطف عليه، لأنا نقول قد
ظهر لك سابقا ما يرفع هذا الاستبعاد بل ما يحقق أقربيته على دعوى الاستيناف أو العطف
على الشرط، وأما ما ذكر من عدم الدليل على التقدير ففيه أنه قد نقل عن اتفاق
المفسرين أن المراد إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم محدثين بالحدث الأصغر، لكن يحتمل
أن يكون المراد خصوصية النوم كما يدل عليه موثق ابن بكير (1) وغيره، قال: " قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام) قوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة) ما يعنى بذلك، قال: إذا
قمتم من النوم، قلت: ينقض النوم الوضوء؟ قال نعم) إلى آخره وعلى هذا التقدير
يراد حينئذ بالجنابة في قوله وإن كنتم جنبا الجنابة الحاصلة بالاحتلام، فيكون المعنى إذا
قمتم إلى الصلاة فتوضؤا إن لم يكن احتلام وإن كنتم جنبا بحصول الاحتلام في النوم
فاغتسلوا، ويستفاد منه حينئذ أن النوم حدث كما أنه يستفاد منه حينئذ الاستغناء بالغسل
عن الوضوء لدخول الأصغر الذي هو النوم في ضمن الأكبر الذي هو الجنابة، ولعل
هذا التفسير للآية أولى من غيره لما فيه مع موافقته للنص السابق من السلامة عن الحزازات
في غيره كالاستغناء عن قوله: (أو جاء أحد منكم من الغائط) (2) بدلالة المضمر عليه
وعن قوله (أو لامستم النساء) بقوله (وإن كنتم جنبا)، بل قيل وعن قوله (فلم تجدوا
ماء) بقوله (وإن كنتم مرضى أو على سفر) لأن ذكر السفر في موجبات التيمم لكونه
مظنة فقد الماء فكأنه عبر به عنه وأما المرض فإنما يوجب التيمم لأجل التضرر باستعمال

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 7.
(2) سورة المائدة - آية 8.
51

الماء لا لفقده فلا وجه للتقييد به، ومع ذلك فإنما يستقيم بجعل (أو) في قوله: (أو جاء
أحد منكم من الغائط) بمعنى الواو وهو بعيد جدا بل أنكره كثير من النحاة، ولا يلزم
شئ من ذلك على هذا التفسير إذ عليه يكون قوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط)
عطفا على ما سمعته من المقدر في قوله (إذا قمتم إلى الصلاة) ويكون المستفاد من صدر
الآية وجوب الوضوء من حدث النوم والغسل من الجنابة المسببة عن الاحتلام مع
التمكن من استعمال الماء، ومن قوله (وإن كنتم مرضى أو على سفر) وجوب التيمم
في الحدثين السابقين مع عدم التمكن من استعمال الماء لفقده أو التضرر باستعماله،
ويكون جواب الشرط محذوفا بقرينة اللاحق والوضوء والغسل من الغائط والجنابة
داخلان والتيمم منهما يستفاد من منطوق الآية ومفهومها كما ستعرف. ويحتمل أن يكون
قوله (أو جاء أحد) إلى آخرها عطفا على المقدر في قوله (كنتم مرضى) على معنى وكنتم
محدثين بالحدثين السابقين أي النوم والجنابة الاحتلامية ويكون قوله (فتيمموا) جوابا
للجميع، ويستفاد حينئذ من منطوق قوله (أو جاء أحد منكم) إلى آخره وجوب
التيمم من حدث البول والغائط ومن الجنابة الحاصلة بالملامسة أي الجماع عند عدم وجدان
الماء، ومن مفهومه وجوب الوضوء والغسل من تلك الأحداث عند وجدانه فتأمل جيدا
وكيف كان فلم نجد شيئا يعتد به للقول بالوجوب النفسي، نعم قد يستدل له
بصحيحة عبد الرحمن (1) قال " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يواقع أهله
أينام على ذلك؟ قال: إن الله يتوفى الأنفس في منامها ولا يدري ما يطرقه من البلية.
إذا فرغ فليغتسل " وفيه أنه لا دلالة على أزيد من الاستحباب إذ الأمر بالاغتسال
عند الفراغ محمول عليه قطعا، حتى على القول بالوجوب النفسي، لكونه موسعا عندهم.
وبخبر معاذ بن مسلم (2) المروي عن المحاسن للبرقي عن الصادق (عليه السلام) أيضا

(1) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الجنابة - حديث 4.
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب مقدمة العبادات - حديث 38.
52

" أنه سأله عن الدين الذي لا يقبل الله من العباد غيره ولا يعذرهم على جهله، فقال:
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والغسل
من الجنابة وحج البيت والاقرار بما جاء من عند الله جملة والائتمام بأئمة الحق من آل
محمد (صلوات الله عليه وآله) " وفيه مع الغض عما في سنده أنه لا ينافي الوجوب
الغيري كالمروي عن العلل باسناده (1) عن الحسن بن علي (عليهما السلام) قال: " جاء نفر من
اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسأله أعلمهم عن مسائل فكان سأل لأي شئ
أمر الله بالاغتسال من الجنابة ولم يأمر بالغسل من الغائط والبول، فقال (صلى الله عليه وآله):
إن آدم (عليه السلام) لما أكل من الشجرة دب ذلك في عروقه وشعره وبشره فإذا
جامع الرجل خرج الماء من كل عرق وشعرة في جسده، فأوجب الله عز وجل على ذريته
الاغتسال من الجنابة إلى يوم القيامة، والبول يخرج من فضلة الشراب الذي يشربه
الانسان والغائط يخرج من فضلة الطعام الذي يأكله الانسان، فعليه في ذلك الوضوء "
بل يشهد له فيه جعله الوضوء على البول والغائط مع أنه واجب غيري، وكالمروي (2)
عن الرضا (عليه السلام) في خبر محمد بن سنان: " أنه كتب إليه علة غسل الجنابة
النظافة لتطهير الانسان مما أصابه من أذى وتطهير سائر جسده لأن الجنابة خارجة عن
كل جسده ولذلك كان عليه تطهير جسده كله، وعلة التخفيف في البول والغائط أنه
أكثر وأدوم من الجنابة فرضي فيه بالوضوء لكثرته ومشقته ومجيئه بغير إرادة منه،
والجنابة لا تكون إلا بالاستلذاذ منهم والاكراه لأنفسهم) وفيه الشاهد المتقدم أيضا،
وكالمروي عن الاحتجاج (3) في حدث الزنديق الذي سأل الصادق (عليه السلام)
قال: أخبرني عن المجوس كانوا أقرب إلى الصواب في دينهم أم العرب في الجاهلية،
فقال (عليه السلام): " العرب كانت أقرب إلى الدين الحنفي من المجوس كانت المجوس

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الجنابة - حديث 2 - 1.
(2) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الجنابة - حديث 2 - 1.
(3) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الجنابة - حديث 14. وفي الوسائل مع زيادة كثيرة
53

لا تغتسل من الجنابة والعرب تغتسل والاغتسال من خالص شرائع الحنفية قال: فما
علة غسل الجنابة وإنما أتى الحلال وليس في الحلال تدنيس؟ قال (عليه السلام): إن
الجنابة بمنزلة الحيض لأن النطفة دم لم يستحكم ولا يكون الجماع إلا بحركة شديدة وشهوة
غالبة فإذا فرغ تنفس البدن ووجد الرجل في نفسه رائحة كريهة فوجب الغسل لذلك،
وغسل الجنابة مع ذلك أمانة ائتمن الله تعالى عليها عبيده ليختبرهم بها " وهو كالأخبار
السابقة أيضا مع شهادة تنزيله منزلة دم الحيض بذلك.
وربما استدل له أيضا بما ورد (1) أن علة غسل الميت خروج النطفة منه، وبما
ورد (2) في عدة أخبار أن الجنب إذا مات يغسل غسلا واحدا من غسل الميت والجنابة
معا، مع التعليل في بعضها أنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة. ومن هذا الباب
غسل الملائكة لأنصاري (3) الذي قتل وهو جنب وهي مشهورة، وبخبر عمار (4)
سأله عن المرأة يواقعها زوجها ثم تحيض قبل أن تغتسل قال: (إن شاءت أن تغتسل
فعلت وإن لم تفعل فليس عليها شئ إذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة "
وخبر زرعة (5) عن سماعة سأله عن الجنب يجنب ثم يريد النوم قال: " إن أحب أن
يتوضأ فليفعل والغسل أحب إلي وأفضل من ذلك " والجواب عن الجميع واضح سيما
الأخير، بل لعل فيه دلالة على المطلوب لظهوره في إرادة الاستحباب وكذا سابقه فإنه
مع ابتنائه على إمكان رفع حدث الجنابة حال الحيض والمشهور منعه لا دلالة فيه على

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب غسل الميت - حديث 3 و 4 وفي باب - 3 -
في غالب الأحاديث.
(2) الوسائل - الباب - 1 3 - من أبواب غسل الميت.
(3) الفقيه - باب غسل الميت - حديث 46
(4) الوسائل - الباب - 43 - من أبواب الجنابة - حديث 7
(5) الوسائل - الباب - 25 - من أبواب الجنابة - حديث 6
54

الوجوب النفسي، بل لعله في غيره أظهر سيما بعد معارضته بما تقدم من قوله (لا تغتسل)
المحمول بعد البناء على ذلك على إرادة نفي الوجوب، فتأمل جيدا.
(والمندوب) من الغسل (ما عداه) أي الواجب كما سيأتي تفصيله إن شاء الله
(والواجب من التيمم)
بدلا عن الوضوء والغسل بحصول أحد مسوغاته (ما كان لصلاة واجبة) إجماعا
محصلا ومنقولا وسنة، لكن هل هو (عند تضيق وقتها) مطلقا أو يجوز مع السعة
مطلقا أو يفصل بين الرجاء وعدمه؟ أقوال يأتي الكلام فيها. وقد يشعر اقتصار المصنف
على الصلاة كالعلامة في المنتهى بعدم وجوبه للطواف الواجب. وهو مما ينبغي القطع
بفساده لبدليته عن الوضوء فيه، بل عن شرح الإرشاد للفخر الاجماع عليه. بل وكذا
ينبغي القطع به بالنسبة للغسل أيضا، وإن نقل عن العلامة أنه لا يرى التيمم بدلا عنه
فيه، مع أنه مناف لاطلاقه الوجوب للصلاة والطواف في القواعد والإرشاد والتحرير
مناف لعموم ما دل على بدليته عن الماء بالنسبة للطهارتين (1) كقوله (عليه السلام):
(إن التيمم أحد الطهورين) وفي آخر: (إن الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء
طهورا) (2) وفي ثالث (هو بمنزلة الماء) (3) إلى غير ذلك، وهو الموافق أيضا لما يأتي
في باب التيمم من إطلاق كثير منهم أنه يستباح بالترابية ما يستباح بالمائية، بل عن
المصنف في المعتبر أنه يجوز التيمم لكل من وجب عليه الغسل إذا عدم الماء، وكذا
كل من وجب عليه الوضوء، وهو إجماع أهل الاسلام إلا ما حكي عن عمر وابن مسعود
إنهما منعا الجنب من التيمم. وقد يستفاد من المنتهى أيضا نفي الخلاف بيننا عن مشروعيته
لكل ما اشترط فيه الطهارة المائية. إذ قال فيه في باب التيمم: " التيمم مشروع لكل

(1) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب التيمم - حديث 1 وفي الباب 23 - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب التيمم - حديث 1
(3) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب التيمم - حديث 3
55

ما يشترط الطهارة فيه ولصلاة الجنازة استحبابا " ولم ينقل فيه خلافا من أحد في الأول
نعم نقله في الثاني عن بعض العامة، وقال فيه أيضا: " يجوز التيمم لكل ما يتطهر له
من فريضة ونافلة ومس مصحف وقراءة عزائم ودخول مساجد وغيرها، وبه قال عطا
ومكحول والزهري وربيعة ويحيى الأنصاري ومالك والشافعي والثوري وأصحاب
الرأي، وقال أبو محرمة: لا يتيمم إلا لمكتوبة، وكره الأوزاعي أن يمس المتيمم
المصحف " انتهى، وهو يعطي ما ذكرنا. ومن ذلك كله يظهر لك أنه يجب أيضا
بدلا عن الغسل الواجب للصوم وإن نفاه في المنتهى صريحا وفي غيره ظاهرا، كما عساه
تشعر به عبارة المصنف أيضا واختاره في المدارك بعد أن حكى عن جماعة التعبير أن التيمم
يجب لما يجب له الطهارتان، قال: " وهو مشكل لانتفاء الدليل عليه، والأظهر
إن التيمم يبيح كل ما يبيحه المائية " واستدل عليه بالأخبار المتقدمة وقال:
" فما ثبت توقفه على مطلق الطهارة من العبادات يجب له التيمم وما ثبت توقفه
على نوع خاص منها كالغسل في صوم الجنب مثلا فالأظهر عدم وجوب التيمم له مع تعذره
إذ لا ملازمة بينهما ". انتهى، وأنت خبير بما فيه بعد الغض عن ظهور الاضطراب
والتناقض في كلامه، لما عرفت من أن المستفاد من الأدلة أن واجد التراب كواجد الماء
بالنسبة إلى ذلك، ومن العجيب ذكره لتلك الأخبار التي منها أنه بمنزلة الماء، مع
صدر هذا التفصيل منه، ومن المعلوم أن المتبادر من كل ما علق على الغسل أو الوضوء
إرادة التعليق على الطهارة. فظهر حينئذ أن الأولى أن التيمم يجب لكل ما تجب له
المائية من الغايات كما تعطيه عبارة المبسوط والدروس جامع المقاصد وغيرها.
(و) يجب أيضا (للجنب في أحد المسجدين ليخرج به) كما أشبعنا به الكلام في
باب الجنابة فلاحظ وتأمل (والمندوب ما عداه) من الغايات التي تندب فيها الطهارة
المائية وضوءا كانت أو غسلا، سواء كانت شرطا في صحتها كالنافلة مثلا أولا.
الجواهر 7
56

وظاهر أن المراد المندوب أصالة وإلا فمتى وجبت بالعارض وجب لها التيمم حينئذ،
فلا تدل العبارة حينئذ على عدم وجوب التيمم عند وجوب ما لا يستباح إلا بالطهارة،
فلا منافاة بينها وبين ما سيأتي من أنه يستباح به كل ما يستباح بالمائية، نعم قد سمعت
سابقا أن ظاهرها يقضي بعدم الوجوب لما هو واجب أصلي غير الصلاة وقد مضى بما فيه،
وعن فخر الاسلام في شرح الإرشاد أنه لا يبيح التيمم من الأكبر إلا الصلاة والخروج
من المسجدين ناسبا له فيه إلى والده، وعنه في الايضاح أنه استثنى من كلية الاستباحة به
ما يستباح بالغسل الجنب لدخول المسجدين واللبث في المساجد ومس كتابة القرآن.
وهو ضعيف مخالف للعمومات المتقدمة وغيرها. نعم إنما يشكل الحال في قيام التيمم
مقام الماء في غير رفع الحدث أو الإباحة كالأغسال المندوبة ووضوء الجنب والحائض
ونحوهما، بل وكذا الوضوء آت التي لم يقصد فيها ذلك وإن كان لو اتفق معها لرفعته كالتجديد
والوضوء من الأسباب المندوبة كالمذي والقي والرعاف ونحوها، ولم نجد للأصحاب
كلاما منقحا في ذلك، بل قد يظهر من مطاوي كلماتهم المنع كما يشعر به نص التحرير والمنتهى
وجامع المقاصد وغيرها في باب الحيض على عدم قيام التيمم مقام وضوءها للذكر، وقال
في جامع المقاصد في المقام: " وهل يستحب التيمم في كل موضع يستحب فيه الوضوء
والغسل؟ لا اشكال في استحبابه إذا كان المبدل رافعا أو مبيحا وإنما الاشكال فيما سوى ذلك.
والحق أن ما ورد النص به أو ذكره من يوثق به من الأصحاب كالتيمم بدلا من وضوء
الحائض للذكر يصار إليه وما عداه على المنع حتى يثبت بدليل " وفي المدارك: " وهل يستحب
التيمم بدلا عن الغسل المستحب مع تعذره؟ فيه وجهان أظهرهما العدم وإن قلنا أنه رافع لعدم
النص، وجزم جدي (قدس سره) بالاستحباب على هذا التقدير وهو مشكل " انتهى
وحكى في كشف اللثام عن المبسوط بدليته عن الغسل للاحرام. وكيف كان فلعل الأقوى
الاستحباب أيضا أخذا بما دل من تنزيل التراب منزلة الماء وأنه يكفيك (1) عشر سنين

(1) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب التيمم - حديث 7.
57

وغير ذلك، اللهم إلا أن يدعى أن المنساق منها إرادة الطهارة دون غيرها سيما مع عدم
العموم اللغوي في شئ منها. وفيه منع، فتأمل جيدا
(وقد تجب الطهارة بالنذر وشبهه)
من العهد واليمين وغيرهما بعد فرض وجود شرائط كل منهما كالرجحان في المنذور
مثلا، فلو نذر طهارة غير مشروعة كالوضوء مع غسل الجنابة مثلا وكالتيمم الذي هو
بدل عن المائية مع القدرة عليها لم ينعقد قطعا حتى لو قلنا بانعقاد النذر على المباح، لمكان
التشريع المحرم فلا إباحة، اللهم إلا أن يريد مجرد فعل الصورة فيصح حينئذ وتلزمه
الكفارة مع المخالفة. ثم إنه إن كان متعلق النذر مطلق الطهارة رافعة أو مبيحة من غير
تقييد بنوع خاص منها كالوضوء أو الغسل مثلا اكتفي في حصول الامتثال بما هو مسماها
شرعا، بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية. أو عرفا ما لم يكن هناك فرد متبادر ينصرف
إليه الاطلاق، وإلا التزم به إذا لم يقصد التعميم والشمول، هذا إن لم نقل بكون لفظ
الطهارة مشتركا لفظيا وإلا احتمل فساد النذر إلا إذا قصد عموم الاشتراك. وربما احتمل
الصحة والرجوع إلى التخيير كالأول وإن لم يقصده. لكنه لا يخلو من اشكال. ثم
إن لم يقيدها بوقت خاص كان التكليف بها كسائر التكليفات المطلقة لا تتضيق إلا بما
تتضيق به، وإن قيدها فيه فلا إشكال في وجوبها عليه حينئذ مع التمكن من الامتثال
ومع عدمه فالأقوى سقوطه عنه في خارجه لانكشاف فساد النذر حينئذ. نعم قد يشكل
فيما لو كان في حال يتمكن من إزالتها فيكون حينئذ مكلفا بالطهارة، كما لو كان في ذلك
الوقت مثلا متطهرا وكان يمكنه إزالة تلك الطهارة بأن يحدث مثلا، فيكون حينئذ مكلفا
بالطهارة النذرية. ومنشأ الإشكال كون ذلك مقدمة واجب مشروط فلا يجب تحصيلها
أو مطلق فيجب، ولعل الأقوى الأول كما عن جماعة لظهور اشتراط كون متعلق النذر
راجحا في نفسه وحد ذاته لا أن يصيره المكلف كذلك فلا تشمله حينئذ أدلة الوفاء
بالنذر، ولا يجب عليه حينئذ إراقة الماء لو كان المنذور التيمم ولا إيجاد الجنابة لو كان
غسلا فتأمل جيدا.
58

ومن ذلك كله يظهر لك الحال فيما لو كان متعلق النذر نوعا خاصا منها مقيدا
بوقت خاص أو لا على حسب ما تقدم. وهل يجتزى بنحو الوضوء الصوري كوضوء
الجنب والحائض؟ الظاهر ذلك، وربما احتمل العدم إما لكون لفظ الوضوء مثلا حقيقة
في غيره أو لانصرافه إلى غيره وإن كان حقيقة فيه، وهو لا يخلو من قوة بالنسبة للوضوء
فتأمل. نعم لا ينبغي الاشكال في الاجتزاء بالتجديدي. ولو نذره أي التجديدي
بخصوصه لكل فريضة وجب، وفائدته لزوم الكفارة بالمخالفة لا بطلان الصلاة
لاستباحتها بالطهارة الأولى. ولو أعاد الصلاة جماعة لم يبعد عدم وجوب التجديدي سواء
قلنا باستحباب المعادة أو كون الفرض إحداهما لا بعينها، مع احتماله على التقدير الثاني.
ولو أراد قضاء صلاة منسية التعيين وجب ثلاث صلوات أو خمس على الخلاف، لكن
هل يكفيه تجديد واحد أو يفتقر في كل واحدة إلى تجديد؟ وجهان ينشئان من أن الواجب
فعله مع الفرائض وهي هنا واحدة وما عداها وسيلة إلى تحصيلها، ومن وجوب كل واحدة
بعينها فأشبهت الواجبة بالأصالة. والأقوى الأول. ولو نسي صلاتين من يوم وأو جبنا الخمس،
قال في نهاية الإحكام على ما حكاه عنها في كاشف اللثام مع فرض المسألة في نذر تعدد التيمم
لكل صلاة: " احتمل تعدد التيمم لكل صلاة والاقتصار على تيممين تجديديين وزاد في عدد
الصلاة، فيصلي بالتيمم الأول الفجر والظهرين والمغرب، وبالثاني الظهرين والعشاءين،
فيخرج عن العهدة، لأنه صلى الظهر والعصر والمغرب مرتين بتيممين فإن كانت الفائتتان من
هذه الثلاث فقد تأدت كل واحدة بتيمم، وإن كانت الفائتتان الفجر والعشاء فقد أدى الفجر
بالتيمم الأول والعشاء بالثاني، وإن كانت إحداهما من الثلاث والأخرى من الأخيرتين
فكذلك " إلى أن قال: " والضابط أن يزيد في عدد المنسي فيه عددا لا ينقص عما يبقى
من المنسي فيه بعد اسقاط المنسي، وينقسم المجموع صحيحا على المنسي كالمثال، فإن المنسي
صلاتان والمنسي فيه خمس زيد عليه ثلاثة لأنها لا تنقص عما يبقى من الخمسة بعد اسقاط
59

الاثنين بل تساويه، والمجموع هو ثمانية ينقسم على الاثنين على صحة " إلى أن قال:
" لكن يشترط في خروجه عن العهدة العدد المذكور أن يترك في كل مرة ما يبتدئ به
في المرة التي قبلها ويأتي في المرة الأخيرة بما بقي من الصلاة، فلو صلى في المثال بالتيمم
الأول الظهرين والعشاءين وبالثاني الغداة والظهرين والمغرب، فقد أخل بالشرط إذ لم
يترك في المرة الثانية ما ابتدأ به في المرة الأولى وإنما ترك ما ختم به في المرة الأولى،
فيجوز أن يكون ما عليه الظهر أو المغرب مع العشاء فبالتيمم الأول صحت تلك الصلاة
ولم يصح العشاء بالتيمم وبالثاني لم يصل العشاء فلو صلى العشاء بالتيمم الثاني خرج عن
العهدة " ثم أطنب في صور أخر أعرضنا عنها إذ يكفي في تشحيذ الذهن منها ذلك،
لكنه لعله لا يخلو دعوى مشروعية زيادة الصلوات كما ذكر محافظة على التجديد المنذور
من تأمل ونظر بل ومنع، بل المتجه حينئذ تجديد التيمم لكل واحدة من الخمس، إذ
كما أن الصلاتين مترددتان في الخمس فكذا التيممان، ومع فرض عدم التمكن من ذلك
يسقط المتعذر، فتأمل جيدا.
(وهذا الكتاب) وما ألحق به من البحث في النجاسات بعد أن ذكرنا البحث عن
ماهية الطهارة (يعتمد على أربعة أركان) وركن الشئ جانبه الأقوى أو ما يتقوم به
ذلك الشئ. وإنما كان الاعتماد على أربعة، لأن الطهارة إما أن تكون اختيارية أو
اضطرارية. فجعل البحث في كل منهما ركنا، ولما كان ما تحصل به الأولى معرضا
لأحكام كثيرة جعله أيضا ركنا بخلاف ما تحصل به الثانية، وإذ لم يدخل البحث في
النجاسات وأحكامها في شئ من ذلك جعله ركنا أيضا، ولا يقدح في ذلك كون البحث
عنه استطرادا. والحاصل أن الفقيه يبحث في الطهارة عن أمور خمسة: الأول ماهية الطهارة
الثاني في أقسامها، الثالث ما تفعل به، الرابع ما يبطلها، الخامس توابعها، ولما قدم
المصنف البحث عن الأول بقيت أربعة أدرج بعضها في بعض وأوردها فأربعة
أركان، فقال (الركن الأول):
60

(في المياه)
جمع ماء، وهو وأمواه دليل إبدال الهمزة عن الهاء. وجمعه باعتبار ما تسمعه من
أقسامه المختلفة بالأحكام، (وفيه أطراف) وقطع من الكلام (الأول في الماء المطلق)
والظاهر استغناؤه عن التعريف كما في سائر الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، بل هو
أولى منها فيدور الحكم مدار صدق اسمه وعدم صحة سلبه، فمن هنا كان التعريف
الواقع من الأصحاب على نحو التعاريف اللغوية من إبدال لفظ مجهول بآخر معلوم، بل
كان الأولى تركه، لأنه لا لفظ أوضح من لفظ الماء، نعم لما كان امتياز المطلق
عن المضاف بالاطلاق والإضافة أراد التنبيه على ذلك فقال: (وهو كل ما يستحق)
عرفا (إطلاق اسم الماء عليه من غير إضافة) وقيد، ووقوع بعض الأفراد منه مضافة
كماء البحر وماء البئر لا تنافي استحقاق الاطلاق بدونها، بخلاف غيرها فلا معنى للايراد
على هذا ونحوه بوقوع لفظ (كل) فيه واشتماله على المعرف ونحو ذلك، لما عرفت أنه
ليس تعريفا حقيقيا. وإنما لم يعرفوه بتعريفه الحقيقي لأنه لا غرض يتعلق للفقيه بذلك
لانحصار غرضه بالحكم الشرعي الدائر مدار صدق الاسم عرفا. وربما زاد بعضهم على
ما ذكره المصنف ويمتنع سلبه عنه، وكأنه مستغنى عنه. واحتمال القول أنه ذكره لأنه قد
يطلق لفظ الماء مطلقا على المضاف في حال الحمل فيقال لماء الورد ونحوه أنه ماء
لكنه يصح سلبه عنه. فيه أن هذا الاطلاق بدون قرينة ممنوع ومعها خروج عن البحث،
فإن المراد بالإضافة والقيد ونحو ذلك الواقعة في كلامهم عدم الاحتياج إلى قرينة موجودة
أو مقدرة فتأمل. وليعلم أنه لا ينافي دوران الحكم مدار الصدق وقوع الاشتباه في
بعض المقامات، فإنه قد يصدق لفظ الماء على ما ليس بماء في الواقع لو علم بحاله، بل هو
بول مثلا كما في سائر الموضوعات. ولو شك في الصدق فإن كان لعروض عارض جرى
عليه حكم معلوم الصدق بناء على صحة استصحاب الموضوع فيه وفي نظائره من الألفاظ
61

العرفية. وإلا جاز شربه وسائر استعماله في كل ما لم يشترط فيه المائية، أما ما كان
كذلك كإزالة الخبث أو الحدث فلا للأصل في المقامين. (وكله) سواء نبع من
الأرض أو نزل من السماء أو أذيب من ثلج مع بقائه على أصل خلقته من دون عارض
يعرض له من نجاسة أو استعمال على بعض الأقوال
(طاهر مزيل للحدث والخبث)
كتابا وسنة كادت تكون متواترة، واجماعا محصلا ومنقولا نقلا مستفيضا بل متوترا،
فما عن سعيد بن المسيب من عدم جواز الوضوء بماء البحر وما عن عبد الله بن عمر من أن
التيمم أحب إليه - لا يلتفت إليه، على أن الثاني غير متحقق الخلاف، بل لا يبعد أن
يكون الأول قد أنكر ضروريا من ضروريات الدين. والمراد بالحدث إما نفس الأمور
المؤثرة الموجبة لفعل الطهارة، ويراد حينئذ بالإزالة له الإزالة لحكمه، وإما الأثر الحاصل
منها. والمراد بالخبث النجاسة. والفرق بينهما أن الأول محتاج رفعه إلى النية دون الثاني.
وربما فرق بأن الأول لا يدرك بالحس والثاني ما يدرك.
وكيف كان فمما يدل على كون الماء مزيلا للحدث والخبث من الكتاب
قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " (1)
فإن المراد من الطهور هنا المطهر
فيوافق قوله تعالى: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهر كم به " (2) وقد وقع استعمال
طهور في هذا المعنى في جملة من الأخبار المعتبرة كقوله (صلى الله عليه وآله) (3):
" جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وإيما رجل من أمتي أراد الصلاة فلم يجد ماء
ووجد الأرض لقد جعلت له مسجدا وطهورا " و " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فهه
الكلب أن يغسله سبعا " (4) و " التراب طهور المسلم " (5) " والتوبة طهور

(1) سورة الفرقان - آية 50.
(2) سورة الأنفال - آية 11.
(3) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب التيمم - حديث 3
(4) المستدرك - الباب - 43 - من أبواب النجاسات والأواني حديث 3 و 4 مع تغيير في اللفظ
(5) المستدرك - الباب - 5 - من أبواب التيمم - حديث 3 مع الاختلاف في اللفظ
62

للمذنب (1) و " النورة طهور " (2) و " النورة نشرة وطهور للجسد " (3) و " أطل
فإنه طهور " (4) و " غسل الثياب يذهب الهم والحزن وهو طهور للصلاة " (5) وقوله
(عليه السلام) (6) وقد سئل عن الوضوء بماء البحر: " هو الطهور ماؤه الحل ميته "
وقال الصادق (عليه السلام) (7): " كان بنوا إسرائيل إذا أصابهم قطرة من بول
قرضوا لحومهم بالمقاريض وقد وسع الله عليكم بما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء
طهورا فانظروا كيف تكونون " إلى غير ذلك. وقد يكون منه قوله: " عذاب الثنايا
ريقهن طهور " فإنه أنسب من الطاهر فقط. وكذلك قوله تعالى " وسقاهم ربهم شرابا
طهورا " (8) بمعنى المنظف لأنه ينظف عما أكل فيخرج عن جلده رشحا على ما قيل،
أو لأنه يطهر شاربه عن الميل إلى غير الحسنات أو الالتفات إلى ما سوى الحق تعالى،
بل في الذخيرة أنه قيل قد روي مثل ذلك (9) عن الصادق (عليه السلام).
فظهر أن من أنكر استعمال طهور بهذا المعنى مكابر وكيف وقد نسبه الشيخ في
التهذيب إلى لغة العرب، وأنهم لا يفرقون بين قول القائل ماء طهور وماء مطهر وفي
الخلاف عندنا أن الطهور هو المطهر للحدث والنجاسة، واختاره في المعتبر، ونقله عن
الشيخ وعلم الهدى في المصباح، وهو المنقول عن الترمذي من أكابر أهل اللغة،

(1) البحار باب - التوبة المجلد - 3 - وفيه " التوبة مطهرة للذنب " ولم تجد في الأخبار
" التوبة طهور للمذنب "
(2) الوسائل - الباب - 28 - من أبواب آداب الحمام - حديث 1 - 3
(3) الوسائل - الباب - 28 - من أبواب آداب الحمام - حديث 1 - 3
(4) الوسائل - الباب - 32 - من أبواب آداب الحمام - حديث 3
(5) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب أحكام الملابس من كتاب الصلاة حديث 11
(6) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4
(7) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4
(8) سورة الدهر آية 21
(9) مجمع البيان سورة الدهر آية 21.
63

قال إن الطهور بالفتح من الأسماء المتعدية وهو المطهر غيره، وهو ظاهر التذكرة
والمنتهى وصريح الذكرى ونسبه المقداد إلى أصحابنا والشافعية. وهو المنقول عن التبيان
ومجمع البيان والمسالك الجوادية لقولهم: ماء طهور أي طاهر مطهر مزيل للأحداث
والنجاسات، وعن نهاية ابن الأثير أن الطهور في الفقه هو الذي يرفع الحدث ويزيل
النجس، لأن فعولا من أبنية المبالغة فكأنه تناهي في الطهارة. قال: ومنه حديث ماء
البحر إلى آخره، وعن المصباح المنير قال، وطهور قيل هي مبالغة وأنه بمعنى طاهر والأكثر
أنه لو صف زائد، قال ابن فارس: الطهور، هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وقال
الأزهري الطهور في اللغة هو الطاهر المطهر وقوله (عليه السلام) هو الطهور ماؤه أي هو
الطاهر المطهر، قاله ابن الأثير، وفي القاموس الطهور المصدر واسم ما يطهر به أو الطاهر
المطهر انتهى، وعن الزمخشري أنه حكاه عن أحمد بن يحيى، وعن المغرب أنه حكاه
عن تغلب، وفي المصابيح للسيد المهدي أن المشهور بين المفسرين وأصحاب الحديث
والفقهاء وأئمة اللغة أنه بمعنى المطهر أو الطاهر المطهر انتهى.
فظهر لك من جميع ما ذكرنا أنه لا ينبغي الشك في استعمال طهور في ذلك، فما
نقل عن أبي حنيفة والأصم وأصحاب الرأي من إنكار ذلك وجعله بمعنى الطاهر لا غير
مستدلين بأن فعول الذي للمبالغة لا يكون متعديا وبوروده لهذا المعنى كما في قول الشاعر
" ريقهن طهور " وقوله تعالى: " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " غير صحيح لما عرفت،
على أن ذلك لا ينافي ما ذكرنا أيضا إذ كما أن استعماله بمعنى فاعل على تقدير تسليمه غير
مطرد فإنه لا يقال ثوب طهور وخشب طهور ونحو ذلك فكذا ما نحن فيه فتأمل. نعم
قد يقال أنه توقيفي لا يقتضيه القياس من جهة أن فعول الذي هو للمبالغة لا يكون متعديا
واسم الفاعل منه غير متعد ولا ريب أن طاهرا لا يتعدى، ومن هنا اعترف في المعتبر
وكنز العرفان كلام أبي حنيفة موافق لمقتضى القياس اللغوي غير موافق لمقتضي الاستعمال،
الجواهر 8
64

لما عرفت، وما في التهذيب بعد أن أورد الدليل لأبي حنيفة من أنه لا يكون فعول متعديا
والفاعل منه غير متعد، قال: " إنه غلط لأنا وجدنا كثيرا ما يعتبرون في أسماء المبالغة
التعدية وإن كان اسم الفاعل منه غير متعد، ألا ترى إلى قول الشاعر:
حتى شآها كليل موهنا عمل * باتت طرابا وبات الليل لم ينم
تعدى كليل إلى موهنا وكان اسم الفاعل منه غير متعد وهذا كثير في كلام
العرب " انتهى. ولعله لا ينافي ما ذكرنا لكون مثل ذلك بعد تسليم أنه مما
نحن فيه لا يثبت أنه قياسي وكيف وهو من المعلوم أن فعولا للمبالغة في مادة فاعل فهو
تابع له. نعم هنا مسلك آخر لافادته التطهير لا من جهة الوضع اللغوي فيقال إنه لما
كان مثل ذلك موضوعا للمبالغة الحاصلة من التكرار كضروب، فإنه لا يقال إلا بعد
حصول التكرار. وكانت صفة الطهارة الشرعية غير قابلة للزيادة والنقيصة، كان معنى
المبالغة منصرفا إلى المطهرية حتى يكن لها وجه مناسب. وقد ارتكب هذا الطريق
جماعة بل ربما أضافوه إلى النقل عن اللغة، وليس هذا من باب اثبات اللغة بالاستدلال
بل هو اثبات المراد باللفظ بواسطة الفهم العرفي من قبيل حمل اللفظ على أقرب المجازات
بعدت عذر الحقيقة. قال الزمخشري على ما نقل عنه في الكشاف: " طهورا أي بليغا في
طهارته. وعن أحمد بن يحيى هو ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. فإن كان ما قاله
شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا ويعضده قوله تعالى: " وينزل عليكم من السماء
ماء ليطهركم به " (1) وإلا فليس فعول من التفعيل في شئ " انتهى. وقال في المغرب
على ما نقل عنه: وما حكي عن تغلب أن الطهور ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره
إن كان مراده بيان لنهايته في الطهارة فصواب حسن وإلا فليس فعول من التفعيل في
شئ، وقياس هذا على ما هو مشتق من الأفعال المتعدية كقطوع ومنوع غير

(1) سورة الأنفال - آية 11.
65

سديد " انتهى. وعن الطراز: " إن فعولا ليس من التفعيل في شئ وقياسه على ما هو
مشتق من الأفعال المتعدية كمنوع وقطوع غير سديد إلا أن يكون المراد بذلك بيان
كونه بليغا في الطهارة فهو حسن صواب إذ كانت الطهارة بنفسها غير قابلة للزيادة فمرجع
الزيادة إلى انضمام التطهير لا أن اللازم قد صار متعديا " انتهى. قال السيد المهدي في
المصابيح: " فهؤلاء وهم عمدة القائلين بخروج التطهير عن معنى الطهور اعترفوا بدلالته
عليه باللزوم من جهة المبالغة، ولعل غيرهم لا يمنع ذلك فإن الدلالة بهذا الوجه ليس
لدخوله في الموضوع له فلا ينافي القول بخروجه عنه " انتهى.
قلت: قد يظهر بعد التأمل في كلام هؤلاء أن مرادهم بعد معرفة كون الماء بهذا
الوصف الذي لم يخالف فيه أحد من المسلمين، بل هو من جملة ضروريات الدين يحمل
لفظ الطهور المراد منه المبالغة عليه بعد تعذر المعنى الحقيقي، لا أنه لو لم يعلم كون الماء
بهذا الحال وأطلق لفظ الطهور عليه مع عدم تسليم كونه بمعنى المطهر يستفاد منه ذلك من
جهة المبالغة التي لا تصح بدونه، والمفيد تسليمه إنما هو الثاني لا الأول فتأمل جيدا.
وربما ظهر من شيخ الطائفة في التهذيب والخلاف الاستدلال بهذا الطريق قال
في الأول: " والطهور هو المطهر في لغة العرب فيجب أن يعتبر كل ما يقع عليه الماء
بأنه طاهر مطهر إلا ما قام الدليل عليه على تغير حكمه، وليس لأحد أن يقول إن
الطهور لا يفيد في لغة العرب كونه مطهرا، لأن هذا خلاف على أهل اللغة. فإن قال
قائل كيف يكون الطهور هو المطهر واسم الفاعل منه غير متعد وكل فعول ورد في كلام
العرب متعديا لم يكن متعديا إلا وفاعله متعد. قيل له هذا كلام من لم يفهم معاني الألفاظ
العربية، وذلك أنه لا خلاف بين أحد من أهل النحو أن فعولا موضوع للمبالغة وتكرر
الصفة وعدم حصول المبالغة على ذلك الوجه لا يستلزم عدم حصولها بوجه آخر، وهو هنا
باعتبار كونه مطهر " ثم ذكر المنع المتقدم الذي نقلنا عنه سابقا. وقال في الخلاف:
" عندنا أن الطهور هو المطهر المزيل للحدث والنجاسة وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
66

والأصم: الطهور والطاهر بمعنى واحد. دليلنا هو أن هذه اللفظة وضعت للمبالغة والمبالغة لا تكون
إلا فيما يتكرر فيه الشئ الذي اشتق الاسم منه، ألا ترى أنهم يقولون فلان ضارب إذا
ضرب ضربة واحدة، ولا يقال ضروب إلا بعد أن يتكرر منه الضرب، وإذا كان
كونه طاهرا مما لا يتكرر ولا يتزايد فينبغي كون طاهرا طهورا لما لا يتزايد (1) والذي
يتصور التزايد فيه أن يكون مع كونه طاهرا مطهرا مزيلا للحدث والنجاسة وهو الذي
نريده " إلى آخره، انتهى. وربما أورد عليه بعض المتأخرين بأن هذا إثبات اللغة
باستدلال وهو غير جائز، وقد يظهر من بعض هؤلاء إنكار استعمال طهور وصفا،
نعم سلم استعماله في اسم الآلة أي لما يتطهر به كالوضوء لما يتوضأ به والسحور وغير ذلك.
وفيه أنه قد يكون مراد الشيخ التأييد بذلك، وإلا فالمعتمد ما نقله أولا عن أهل
اللغة، وإن كان ظاهر قوله في الخلاف (دليلنا) إلى آخره ينافي ذلك أو يكون مراده
ما ذكرناه سابقا من الاستناد إلى الفهم العرفي بد تعذر المعنى الحقيقي، فتأمل جيدا.
وأما إنكاره مجئ فعول وصفا فهو كأنه مخالف للمجمع عليه بينهم، وأبو حنيفة وأصحابه
لم ينكروا ذلك بل أنكروا وصفيته بمعنى مطهر لا أصل الوصفية، ولذلك قال في
المصابيح: أنه لا خلاف في مجيئه وصفا وإنما الخلاف في تعيين المراد منه حينئذ، فهل
الطاهرية أو هي مع المطهرية.
لا يقال إن وجه المبالغة غير منحصر في ذلك فإن الطهارة قابلة للزيادة والنقصان
كالوضوء بالآجن والمشمس، لأنا نقول إن رفع الحدث معنى واحد لا يختلف وكراهة
استعمال بعض المياه لا يقتضي نقصا فيها، نعم قد يقال إنه بناء على أن المراد بالطهارة
المعنى الذي يحصل في نفس المكلف من القرب إلى الله تكون قابلة للزيادة والنقيصة من
جهة القرب والأقربية، وأنت خبير أن العمدة في الاستدلال إنما هو النقل والتبادر
لا هذه الوجوه فتأمل جيدا.

(1) وفي نسخة الخلاف المطبوعة فينبغي أن يكون كونه طهورا لما يتزايد.
67

وربما سلك بعضهم في استفادة التطهير من لفظ طهور في الآية طريقا آخر،
وهو أن الظاهر من قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " إرادة الطاهر منه لكونه
واقعا في معرض الامتنان المستلزم لذلك فإنه لا امتنان بالنجس، فتعين حينئذ طهور
لإرادة المطهرية لا استفادة أصل الطهارة بدونه. وهو لا يخلو من وجه، كاحتمال القول
أنه يراد المطهرية منه ولو مجازا بقرينة قوله تعالى: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به "
والأولى الاستناد في ذلك إلى ما ذكرناه أولا من النقل اللغوي والاستعمال.
وتذكر المبالغة واستفادة الطاهرية بدونه وقوله تعالى ليطهركم به وغير ذلك مؤيدات له.
وقد يسلك لاستفادة ذلك طريق آخر مغاير للأول كما وقع من جماعة، وهو
بأن يقال إن لفظ الطهور يأتي مصدرا كما عن النهاية والمغرب والقاموس والطراز وعن
الزمخشري وابن الأثير حكايته عن سيبويه، ومنه قولهم تطهرت طهورا حسنا. وهل
هو حينئذ بمعنى التطهر أو الطهارة؟ احتمالان: عن المغرب النص على الأول، كما عن
كنز العرفان والكشاف التفسير بالثاني، وكذا عن الطراز وعنه أيضا أنه مصدر لتطهر
على غير القياس ويأتي اسما للآلة فيكون معناه ما يتطهر به كالوضوء والغسول والفطور كما
نص عليه في الصحاح، وهو المنقول عن المحيط والأساس والكشاف والغريبين
والمغرب والنهاية والطراز. وفي الذخيرة أنه قد جاء طهور لما يتطهر به باتفاق من وصل
إلى كلامه من أهل اللغة وهو بالفتح لا غير بخلافه مصدرا فإنه بالفتح والضم، وعن النهاية
ضبط المصدر بالضم، ونقل الفتح عن سيبويه. وكيف كان فيقال حينئذ أما حمله على
المصدر في المقام بناء على مجيئه مفتوحا فممنوع بناء على جعله نعتا للماء إلا على تأويل،
ولعل تأويله بمطهر حينئذ أولى لوجوه منها موافقة الآية الثانية وكونه أقرب للفعل الذي
هو مصدر له على بعض الوجوه، بل أولى من ذلك بقاؤه على المصدرية وجعله منصوبا
على معنى اللام، فيوافق التعليل في الآية الثانية فتأمل جيدا. وأما حمله على الآية فقد
صرح به هنا جماعة كصاحب الصحاح وغيره. وربما استشكله بعضهم أنه حينئذ لا يصلح
68

أن يكون نعتا للفظ الماء لكونه من قبيل الأسماء الجامدة وإن دل على المبدأ إلا على
تأويل، كما يلتزم في الجامد المحض، ومن هنا لم يلتفت إليه صاحب الكشاف مع
اعترافه بأصل المعنى. ويمكن أن يجاب عن ذلك بحمله على البدلية من لفظ الماء، أو يراد
من طهور حينئذ يتطهر للاستغناء عن الموصوف بلفظ ماء فيكون المعنى وأنزلنا من السماء
ماء يتطهر به، كما عن الهروي فإنه قال ماء طهور أي يتطهر به أو يراد وأنزلنا من السماء
ماء هو آلة للطهارة، كما عن النيشابوري. والحاصل أن أمر التأويل في ذلك سهل.
وقد يقال إن من ذكر أنه يراد بالطهور المطهر أخذه من هذا المعنى، لا أن
المراد بالطهور المطهر وضعا إذ لا ريب في استفادة المطهرية منه على تقدير كونه اسما
للآلة، وربما يرشد إلى ذلك ما ذكره المحقق في المعتبر فإنه قال: " الطهور هو المطهر لغيره
قاله الشيخ في الخلاف وعلم الهدى في المصباح، خلافا لبعض الحنفية. لنا النقل
والاستعمال، أما النقل فما ذكره الترمذي قال: الطهور بالفتح من الأسماء المتعدية وهو
المطهر غيره، وقال الجوهري: الطهور هو ما يتطهر به كالسحور والبرود. وأما الاستعمال "
إلى آخره، فإن نقله عن الجوهري استشهاد لما ادعاه من كون الطهور هو المطهر، مع أن
الذي ذكره الجوهري إنما هو اسم الآلة إشارة إلى أن المطهرية المرادة من الطهور إنما
هي مأخوذة من اسم الآلة، نعم ما نقله عن الترمذي ليس كذلك لقوله: " من الأسماء
المتعدية " مع أنه قد يحمل لفظ التعدية في كلامه على معنى آخر فتأمل. وقال العلامة في
التذكرة: " والطهور هو المطهر لغيره وهو فعول بمعنى ما يفعل به أي يتطهر به
كغسول، وهو الماء الذي يغتسل به لقوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا)
ثم قال: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) لأنهم فرقوا بين ضارب وضروب
وجعلوا الثاني للمبالغة في المعنى " انتهى. فإنه صريح فيما ذكرنا، وقال في كنز العرفان:
" وقالت الشافعية وأصحابنا أنه بمعنى المطهر فيكون مأخوذا من الوضع الثاني " انتهي.
والوضع الثاني في كلامه أنه اسم لما يتطهر به فتأمل جيدا. وقد يؤيده أيضا أنه من المستبعد
69

جدا كون هذا المعنى أي كونه بمعنى المطهر معروفا عند أهل اللغة حتى ادعى الاجماع
عليه ويخفى على مثل الزمخشري والمطرزي وصاحب الطراز وأبي حنيفة والأصم وأصحاب
الرأي، ولم يذكره في الصحاح، بل يظهر من بعضهم أنه غير مذكور في أكثر كتب
أهل اللغة، وقول كثير من أصحابنا أنه يفيد التطهير وبمعنى المطهر ليس صريحا في ذلك،
بل قد يكون من جهة كونه اسما لما يتطهر به فإنه يفيد هذا المعنى أيضا، وإن كان لا تنطبق
عليه كلمات بعضهم، ومن هنا نقل عن بعضهم أنه أورد على الزمخشري أن اعترافه
بمجئ الطهور لما يتطهر به يرفع أصل النزاع، لكونه حينئذ مفيدا للمطهرية.
وكيف كان فلا يخلو القول بإنكار كون الطهور بمعنى المطهر وضعا من قوة، نعم
هو يفيده من كونه اسما لما يتطهر به وكثير مما ذكرنا من الأمثلة لا تأبى الحمل عليه،
فتأمل، وإن كان ما ذكرناه أولا هو الأقوى.
وليعلم أنه بناء على تسليم الأول فهل بمعنى الطاهر المطهر أو المطهر؟ ربما ظهر
من بعضهم الأول كما ظهر من بعض الثاني ولعله هو الأقوى، وعليه ظاهر إجماع التهذيب
والخلاف وكنز العرفان فإنهم ذ كروا أنه بمعنى المطهر من دون قولهم الطاهر المطهر،
ولعل من ذكره أراد التصريح بلازم المعنى، لأنه متى كان مطهرا كان طاهرا.
والمناقشة في الملازمة كما يظهر من البحث في الغسالة ليست على ما ينبغي لوجوه ليس
هذا محل ذكرها.
(بقي شئ) وهو أنه لا ريب في كون حمل الطهور على المطهرية بالمعنى الشرعي
ليس معنى لغويا، بل هو إما أن يكون من باب بالنقل الشرعي أو المجاز. والظاهر الأول
لثبوت الحقيقة الشرعية فيه، لكن دعوى أن المراد منه حينئذ المطهر من الأحداث
والأخباث محل منع، فإنهم صرحوا أن استعمال لفظ الطهارة في الثاني من باب المجاز
فيكون اللفظ مستعملا في حقيقته ومجازه، وحمله على عموم المجاز لا قرينة عليه.
70

قد يقال إن وروده في معرض الامتنان مع عدم التشخيص يعين ذلك، لكنه لا يخلو من
نظر. وأورد بعضهم على الاستدلال بالآية أن أقصى ما تدل عليه طهورية ماء السماء
لا مطلق الماء، وبأن لفظ ماء نكرة في سياق الاثبات فلا تفيد العموم. والجواب عن
الأول أولا بالاجماع المركب، لا يقال إنه خروج عن الاستدلال بالآية حينئذ لأنا
نقول إن الاجماع المركب لا يفيد بدونها شيئا. وثانيا إن المياه كلها أصلها من السماء
بدليل قوله تعالى " وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به
لقادرون " (1) وربما أشارت إليه بعض الأخبار، وعن الثاني بأن النكرة في سياق
الاثبات تفيد العموم إذا وقعت في معرض الامتنان، كما في قوله تعالى: " فيهما فاكهة ونخل
ورمان " (2) مضافا إلى الاجماع المزبور، والأمر سهل.
(بقي شئ) ينبغي التنبيه عليه، وهو أن ما دل على طهورية الماء من الكتاب
وغيره هل يقضي بشمول المطهرية لسائر المتنجسات أو لا شمول فيه لذلك فما شك في
قابليته للطهارة به من دون انقلابه إليه يبقى على أصل النجاسة؟ لا يبعد في النظر الثاني،
وما دل على كونه مخلوقا طاهرا مطهرا لا يستلزم شموله للجميع، بل يكفي في صدق ذلك
تطهيره لكثير من الأشياء، وإن كان الأول لا يخلو من وجه ولعله هو مبنى كلام
العلامة في تطهير المضاف من حكمه بطهارته بمجرد اتصاله بالكثير وإن بقي على إضافته.
وفيه أنه لو سلمنا شمول المطهرية لكن لا يكفي ذلك في بيان كيفية التطهير ولا عموم
يرجع إليه في الكيفية، فعمومها حينئذ غير مفيد شيئا لمكان الاجمال في الكيفية المتوقف
حصولها على بيان الشارع. فحينئذ على كل حال هذه العمومات لا تثمر للفقيه ثمرة ولا
متيقن يرجع إليه، وربما تسمع فيما يأتي بعض الكلام في ذلك أن شاء الله.
(و) كيف كان فالماء (باعتبار وقوع النجاسة فيه) وتأثيرها وعدمه (ينقسم إلى)
ثلاثة أقسام (جار ومحقون وماء بئر).

(1) سورة المؤمنون - آية 18.
(2) سورة الرحمن - آية 68.
71

(أما الجاري)
فهو على ما قيل النابع السائل على الأرض ولو في الباطن سيلانا معتدا به.
وربما عرف بأنه النابع غير البئر، كما وقع من بعض المتأخرين، مع التصريح بأنه لا فرق
بين جريانه وعدمه. وتسميته حينئذ جاريا إما حقيقة عرفية خاصة أو من باب التغليب
لتحقق الجريان في كثير من أفراده، فمثل العيون التي لا تدخل تحت اسم البئر من
الجاري حينئذ. ولا أعلم السبب الذي دعاهم إلى ذلك، مع أنه مناف للعرف الذي
تثبت به اللغة، إذ لا يصدق الجاري إلا مع تحقق الجريان، وليس في الأخبار ولا في
كلام الأصحاب ولا غيرهم ما يحقق تلك الدعوى، بل ربما يشير قولهم في تطهير الجاري
" أنه يطهر بكثرة الماء الجاري عليه متدافعا حتى يزول التغيير " وما في بعض الأخبار (1)
" عن الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم أيتوضأ منه؟ " إلى آخره، إلى خلافه،
كما يظهر من بعض العبارات من كون الجاري ما تحقق فيه الجريان. ومن هنا صرح
بعض المتأخرين كالفاضل الهندي وغيره باعتبار السيلان في الجاري، خلافا لما وقع من
الشهيد الثاني ومن تبعه من كونه النابع غير البئر تعدى أو لم يتعد، ولعله أخذه من
حصرهم المياه في الجاري والمحقون وماء البئر، مع استظهاره كون العيون ونحوها لا تدخل
في المحقون ولا ماء البئر. أما الثاني فلعدم صدق الاسم وأما الأول فلان لها مادة، فلم يبق
إلا دخولها في الجاري، ولا يكون ذلك إلا بالتزام أن الجاري هو النابع غير البئر
لعدم التعدي فيها، وفية أن هذا الحصر لم يقع من الجميع بل ولا من الأكثر، وأيضا
لا مانع من إرادة من حصر ذلك الجاري أو ما في حكمه. كما يظهر من إلحاقه ماء الحمام
ونحوه كما صنع المصنف، فتأمل. أو يلتزم دخولها تحت اسم البئر وارتكابه مثل ذلك
في لفظ الجاري ليس بأولى من ارتكاب شمول لفظ البئر بل هو أولى. فالتحقيق حينئذ
الجواهر 9

(1) المستدرك - الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2
72

إدخالها فيه إن ساعد العرف على ذلك، وإلا كان لها حكم الجاري وإن لم تدخل الاسم
هذا كله في النابع المتعدي وهل يلحق به المتعدي مما يخرج رشحا؟ وجهان ينشئان:
من اعتبار النبع في الجاري كما يظهر من كثير من كلماتهم، حتى أنه قال في
جامع المقاصد: إن الجاري لا عن نبع من أقسام الراكد يعتبر فيه الكرية اتفاقا ممن
عدا ابن أبي عقيل، بل ربما زاد بعضهم فاعتبر كونه من ينبوع وهي ما يدفق منه الماء
كالفتق. وكيف كان فلا يدخل الرشيح فيه، إذا لمراد بالنبع الخروج من عين، كما
في المصباح، وعن القاموس والمجمع، وهي ما يشخب منها الماء، نعم قد تكبر وقد
تصغر، والرشيح ليس كذلك، بل هو في الحقيقة كالعرق للانسان. وعن الخليل في
العين بعد أن ذكر أن الرشيح اسم للعرق والراشح والرواشح جبال تندي، فربما اجتمع
في أصولها ماء قليل وإن كثر سمى واشلا، وإن رأيته كالعرق ويجري خلال الحجارة
يسمى راشحا. هذا مع الشك في شمول ذي المادة لمثله، فينقدح الشك حينئذ في إلحاقه
بحكم الجاري، فضلا عن كونه جاريا، من غير فرق في ذلك بين المتعدي منه وغيره،
ولعله هو الذي يسمى في عرفنا الآن بالنزيز.
ومن صدق اسم الجاري، ومنع عدم صدق اسم النبع، سيما على ما فسره في
الصحاح من أنه مطلق الخروج، على أنه لو سلم أن مثله لا يسمى نبعا نمنع اعتبار النبع في
الجاري، نعم غاية ما علم أن الجاري لاعن مادة ملحق بالراكد، فيبقى غيره، كما أنا
نمنع الشك في شمول ذي المادة له. ومنه يظهر احتمال أنه كالجاري أحكاما وإن لم يجر
بعد تسليم عدم شمول الجاري لمثله، سيما بعد جريانه فعلا وصيرورته نهرا كبيرا مثلا.
والتزام إجراء حكم المحقون عليه لا يخفى عليك ما فيه. فالأقوى كونه من الجاري مع
جريانه ومن ذي المادة مع عدمه.
وأما (الثمد) وهو ما يتحقق تحت الرمل من ماء المطر، كما عن الأصمعي، على
73

ما نقل عن الأساس، قال: هو ماء المطر يبقى محقونا تحت رمل فإذا انكشف (1) عنه
أدته الأرض. وعن الخليل في العين أن الثمد الماء القليل يبقى في الأرض الجلد، ولعله هو
مراد الصحاح والقاموس والمجمع وشمس العلوم على ما نقل عنهم من أنه الماء القليل
الذي لا مادة له، إذ ما كان على وجه الأرض لا يسمى ثمدا قطعا. فالأقوى إلحاقه
بالمحقون مطلقا جرى أو لم يجر للاستصحاب مع الظن أو القطع بعدم شمول ذي المادة له،
لا أقل من الشك، فيبقى على حكم المحقون من القليل أو الكثير. اللهم إلا أن يفرض
كونه على وجه يصدق ذو المادة عليه، أو يقال إنه مطلقا من ذي المادة أو بحكمه ولو
مع الشك كما ستعرف.
فإن قلت ما تقول في البئر الذي يخرج ماؤها رشحا فهل تجري عليها أحكام
البئر، قلت الظاهر فيه الوجهان الناشئان من تفسير النبع لما ستعرف أن البئر هي الماء
النابع، على أنه قلما يوجد بئر ماؤها رشح، بل الغالب أن تخرج من منابع، نعم قد تتفق
دفاقا تشتبه بالرشيح فلا تشملها إطلاقات البئر. ويؤيده أيضا أصالة عدم لحوق أحكام
البئر، وإليه ينظر ما نقله صاحب الحدائق عن والده من عدم تطهير الآبار التي في بعض
البلدان بالنزح بل بالقاء كر، لأن ماءها يخرج رشحا، لكن قد عرفت أن النبع أعم
من الرشح بل قيل الغالب في الآبار الرشح. فالتحقيق إجراء حكم البئر عليها مع الصدق
عرفا وإن كان الخارج رشحا، أما إذا لم يصدق عرفا لقلة الحفر ونحوه فهو من ذي المادة
إن لم يجر وإلا كان جاريا أيضا كما أشرنا إلى ذلك سابقا. وقد يقال أن عموم الأدلة
في المياه يقتضي كونها طاهرة مطهرة لا تنجس إلا بالتغير، والتفصيل بالكر وما دونه
إنما هو في المياه المعلوم عدم المادة لها كالحياض والغدران ونحوهما، ولذا كان المشهور عدم
اعتبار الكرية في الجاري بل وفي كل ذي مادة. وحينئذ يتجه إلحاق الرشح والنزيز
بل والثمد بحكم الجاري أو ذي المادة ولو مع الشك للعموم المزبور الذي يمكن أن يؤيد

(1) وفي الأساس (فإذا كشف).
74

أيضا بقاعدة الطهارة مع فرض الشك في حكمه، للشك في اندراجه فيما دل على النجاسة
أو التنجيس لمثل الموضوع المزبور فتأمل جيدا. ولكن من الغريب ما عن الشيخين في
المقنعة والتهذيب من تسوية الأول بين البئر والغدير إن قصر عن الكر فحكم بنجاستهما
بموت الانسان وطهارتهما بنزح السبعين، وحمله الشيخ على الغدير الذي له مادة بالنبع
من الأرض، قال: وما هذا سبيله فحكمه حكم الآبار فأما إذا لم يكن له مادة فلا يجوز
استعماله إذا وقع فيه ما ينجسه متى نقص عن الكر. ومقتضى ذلك طهارة ذي المادة
غير البئر مع الكثرة ولحوقه بالبئر مع القلة، فيكون حكمه مخالفا لسائر المياه، لمفارقته الجاري
في نجاسة القليل، والبئر في طهارة الكثير، والراكد في طهارة قليله بالنزح. بل قيل
قد يظهر من كلام الشيخ لحوقه بالبئر مطلقا. وعلى كل حال فهو قول غريب. هذا وربما
يأتي لذلك مزيد تحقيق إن شاء الله. ولا فرق فيما ذكرنا من الجاري بين جميع أنواعه
من الأنهار والعيون والآبار إذا أجريت وتسمى القناة، قال في الذكرى: " الآبار
المتواصلة إن جرت فكالجاري وإلا فالحكم باق لأنها كبئر واحدة " وقال أيضا: " لو
أجريت البئر فالظاهر أنها بحكم الجاري لا تنجس بالملاقاة ولو تنجست ثم أجريت ففي
الحكم بطهارتها ثلاثة أوجه طهارة الجميع لأنه ماء جار تدافع فزال تغيره ولخروجه عن
مسمى البئر، وبقائه على النجاسة لأن المطهر النزح، وطهارة ما بقي بعد جريان قدر
المنزوح إذ لا يقصر ذلك عن الاخراج بالنزح " قلت وأوجه الوجوه الأول كما هو
ظاهر، ولو وقف الجاري لتكاثر مائه بعد تحقق الجري فيه لكن بقي استعداده للجريان
فهل يجري عليه حكم الجاري؟ وجهان.
وكيف كان فهو (لا ينجس) بشئ من النجاسات ولا المتنجسات
(إلا باستيلاء) عين (النجاسة على أحد أوصافه) الثلاثة: اللون والطعم والرائحة.
أما نجاسة الجاري بذلك بل جميع المياه فلا أعلم فيه خلافا بل عليه الاجماع محصلا ومنقولا
كاد يكون متواترا، بلا في المعتبر أنه مذهب أهل العلم كافة. وفي المنتهي أنه قول كل
75

من يحفظ عنه العلم. وهو الحجة، مضافا إلى النبوي المشهور (1) المروي عند الطرفين
بل في السرائر أنه من المتفق على روايته، وعن ابن أبي عقيل إنه تواتر عن الصادق
(عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ إلا
ما غير لونه أو طعمه أو ريحه " وفي الذخيرة أنه عمل الأمة بمدلوله وقبلوه، والأخبار
المستفيضة (2) المروية على ألسنة المشايخ الثلاثة. وهي وإن خلت عن التغيير اللوني إلا أن
النبوي المتقدم المعتضد بما سمعت كاف في إثباته. مضافا إلى ما نقل عن دعائم السلام (3)
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في الماء الجاري يمر بالجيف والعذرة والدم:
" يتوضأ منه ويشرب وليس ينجسه شئ ما لم يتغير أوصافه طعمه ولونه وريحه "
وعن الصادق (عليه السلام) (4) " إذا مرا لجنب بالماء وفيه الجيفة أو الميتة فإن كان
قد تغير لذلك طعمه أو ريحه أو لونه فلا تشرب منه ولا تتوضأ ولا تتطهر به " وعن الفقه
الرضوي (5) " كل غدير فيه من الماء أكثر من كر لا ينجسه ما يقع فيه من النجاسات
إلا أن يكون فيه الجيف فتغير لونه وطعمه ورائحته فإن غيرته لم تشرب منه ولم تتطهر "
وخبر العلاء بن الفضيل (6) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحياض
يبال فيها قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول " ويدل عليه أيضا الأخبار (7) المتضمنة
لنجاسة الماء بتغيره بالدم فإنه ظاهر في التغير اللوني، وكذلك الأخبار (8) التي أطلق

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 9.
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق.
(3) المستدرك - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1. وفي المستدرك
ليس جملة (وليس ينجسه شئ).
(4) المستدرك - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 - 7.
(5) المستدرك - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 - 7.
(6) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7.
(7) المستدرك - الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 3
(8) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق
76

فيها النجاسة مع التغير فإنه لا ريب في شمولها للتغير اللوني، بل قد يدعى أنه أظهر الأفراد،
كما أشار إلى ذلك الصحيح (1) " قلت: فما التغير؟ قال: الصفرة " إلى غير ذلك.
والضعف والارسال في بعض متقدم غير قادح للاعتضاد بما سمعت. فما وقع من بعض
المتأخرين من التشكيك في نجاسة الماء بالتغير اللوني مما لا ينبغي الالتفات إليه، بل هو
من قبيل التشكيك في الضروري، مع أن هذا المشكك قد استدل بالنبوي المتقدم في
غير موضع من كتابه. ويحتمل أن يكون ترك التعرض للتغير اللوني في كثير من الأخبار
من جهة لزومه لتغير الريح والطعم لكونه أسرع منه تغيرا.
وهل يشترط في التغير أن يكون إلى لون النجاسة وطعمها ورائحتها أو يكفي
التغير بها ولو إلى غير وصفها؟ المتبادر المتيقن الأول، وفي المعتبر: نريد باستيلاء
النجاسة ريحها على ريح الماء وطعمها على طعمه ولونها على لونه. ويحتمل الثاني للاطلاق
الذي هو كالعموم، مع التأييد بعدم العلم بطعم بعض النجاسات وبقوله (عليه السلام)
في جواب السؤال عن التغيير فقال: " هو الصفرة " من غير ذكر له أنه لون النجاسة.
وعليه فينجس لو حصل للماء لون باجتماع نجاسات متعددة لا يطابق لون أحدها. ولعل
الأول هو الأقوى استصحابا للطهارة مع الاقتصار على المتيقن.
وهل يشترط في التغير أن يكون حسيا فلا ينجس الجاري مثلا بمسلوب الصفات
من سائر النجاسات، أو لا يشترط فيكفي التقديري فينجس حينئذ بما تقدم بعد التقدير
وحصول التغيير معه؟ قولان صريح أكثر من تأخر عن العلامة كما هو ظاهر من تقدمه
الأول لتعبيرهم بالتغير الظاهر في الحسي، ومن هنا نسبه بعضهم إلى الأكثر والمشهور
والمعظم ونحو ذلك، وفي الذكرى وعن الروض نسبته إلى ظاهر المذهب. وظاهر العلامة
وبعض من تأخر عنه كالمحقق الثاني وغيره الثاني. والأقوى في النظر الأول للأصل
بل الأصول، ولتبادر الحسي من التغيير الذي هو مدار النجاسة شرعا، ولصحة السلب

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حد
77

عن غيره وعدمها فيه، فيكون حقيقة فيه مجازا في غيره، فيدخل حينئذ تحت الاجماع المنقول
وغيره مما دل على عدم نجاسة غير المتغير، ولقوله (عليه السلام) في مصحح شهاب المروي
عن بصائر الدرجات " قلت فما التغير؟ قال: الصفرة " على أن اعتبار التقدير في مسلوب الصفة
يقتضي اعتباره في فاقدها وفي الواجد الضعيف منها، مع أن الاجماع على عدمه كما عن المصابيح.
وأيضا فالتقدير في مسلوب الصفة لا يخلو من إجمال لأنه إما أن يراد صفة نوعه أو صفته التي
كانت فيه. ولكل منهما أحوال مختلفة في الشدة والضعف بالنسبة إلى الأزمنة، فلا يعلم تقدير
أيها في المسلوب فهل الحالة المتأخرة ولو كانت ضعيفة أو غيرها؟ ولو فرض تقدير المتوسطة
مع أن الحالة المتأخرة الضعيفة لوجب تقدير الضعيف إلى المتوسط وهو لا معنى له، مع أن اعتباره في النجاسة يقتضي اعتباره في الماء، والظاهر من كلام القائلين اختصاصه
بها، وإن احتمله بعض المتأخرين تفريعا على هذا القول. كل ذا مع ضعف الخلاف فيه
بل عدمه، فإن أول من نقل عنه ذلك العلامة وكلامه في القواعد والمنتهي غير صريح
فيه، قال في الأول: " ولو وافقت النجاسة الجاري في الصفات فالوجه عندي الحكم
بالنجاسة إن كان يتغير بمثلها على تقدير المخالفة " وقال في الثاني: " الخامس لو وافقت
النجاسة الماء في صفاته فالأقرب الحكم بنجاسة الماء إن كان يتغير بمثلها على تقدير
المخالفة وإلا فلا ويحتمل عدم التنجيس لانتفاء المقتضي وهو التغير " فإنه يحتمل أن يكون
مراده فيما إذا كانت النجاسة غير مسلوبة وكان الماء في صفتها كما إذا كان الماء
مصبوغا مثلا بأحمر ووقع فيه دم، فإن الحكم بالنجاسة حينئذ متجه كما أفتى به كل من
تعرض لهذه المسألة على ما نقل، بل في الحدائق أنه قطع به متأخرو الأصحاب من
غير خلاف معروف في الباب، وفي جامع المقاصد أنه ينبغي القطع به لأن التغير هنا على
تقديره فهو تحقيقي غاية ما في الباب أنه مستور عن الحس وكذلك في المدارك ونحوه
عن المعالم، وعن المصابيح: " أما إذا كانت موافقة في صفته الأصلية كما في المياه
الزاجية والكبريتية أو العارضة كما لو وقع في الماء المتغير بطاهر أحمر دم فإن الماء
78

ينجس قطعا لظهور وصف النجاسة عليه حقيقة " بل قد يقال إنه لا بد أن تؤثر النجاسة
فيه اشتدادا فيتحقق التغير حسا.
والحاصل الفرق بين المسألتين وانتقال الذهن في الثانية إلى التقدير دون الأولى
يكاد أن يكون من الواضحات، وكذا كل ما كان من هذا القبيل مما منع من ظهور
التغيير فيه مانع، وكأن التقدير هنا كالتقدير فيما لو مزج بالنجاسة ما هو بلونها مثلا ثم
تغير الماء بذلك إذ الظاهر أنه لا إشكال في التقدير، وما وقع في الحدائق من التوقف
في الفرق بين الصورتين، والرياض من الجزم بعدم الفرق بينهما كأنه ليس في محله سيما
ما في الأخير فإنه يظهر منه أنه لا فرق في ذلك عند كثير ممن صرح بعدم وجوب التقدير
في المسلوب. وهو وهم على الظاهر، ولعلهما أخذاه من ظاهر عبارة الذكرى. نعم قد
يتم إلحاق نحو ذلك في المسلوب فيما لو فرض وجود المانع عن أصل التغير لا عن ظهوره
لكونه في الحقيقة تقديرا للتغيير كالمسلوب بخلاف ما تقدم. ودعوى إرجاع ذلك إليه
محل منع، ومنهما يظهر الوجه فيما شك فيه فتأمل. وكيف كان فمما يرشد إلى ما ذكرنا
من الاحتمال في كلام العلامة أن المحقق الثاني في شرحه على القواعد قال بعد أن ذكر
عبارتها: " وكان حق العبارة أن يقول لو وقعت نجاسة مسلوبة الصفات لأن موافقة
النجاسة الماء في الصفات صادق على نحو الماء المتغير بطاهر أحمر إذا وقع فيه دم فيقتضي
ثبوت التردد في تقدير المخالفة وينبغي القطع بوجوب التقدير " إلى آخره. قلت: لكن
عرفت أنه لا مانع من حمل العبارة على ذلك، ولعل وجه التردد فيه أنه كالتقدير لخلو
الماء من الصفة فلا يصدق معه التغير أيضا وإلا لوجوب تقدير الصفة في النجاسة المسلوبة،
ولهذا استشكل بعضهم في الفرق بين المسألتين.
وكيف كان فغاية ما استدل به للعلامة أن التغيير الذي هو مناط التنجيس دائر
مع الأوصاف فإذا فقدت وجب تقديرها. وفيه مع أنه إعادة للمدعى وجار في الفاقد
أيضا أن المراد بدورانه مع الأوصاف هو صدقه وتحققه ولا يحصل بالتقدير.
79

وبأن التقدير في المضاف المسلوب الأوصاف إذا امتزج مع المطلق ثابت فيثبت
في النجس بطريق أولى. وفيه أنه ممنوع هناك أيضا أولا، وثانيا أن الفرق بينهما واضح،
وذلك لأن أمر الاطلاق والإضافة يرجع إلى العرف، فلعل اعتبار التقدير هناك يكشف
عن أمر متحقق ثابت وهو الصدق العرفي بخلافه هنا، فإن أمر النجاسة شرعي وقد
أحالها على التغير الذي مدركه الحس. وما يقال أن التقدير هنا كتقدير الحر عبدا
بالنسبة إلى الحكومة ومعرفة مقدار أرش الجناية، فيه ما لا يخفى.
وبأن عدم التقدير يفضي إلى جواز الاستعمال وإن زادت النجاسة على الماء أضعافا
مضاعفة. وفيه أنه استبعاد لغير البعيد مع بقاء اسم المائية، وماذا يقول في الفاقد غير
المسلوب وفي الواجد الضعيف.
وبأن الماء مقهور فإن الماء كلما لم يصر مقهورا بالنجاسة لم يتغير بها على تقدير
المخالفة وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلما تغير على تقدير المخالفة كان مقهورا. وفيه
إنا نمنع المقهورية وإن قلنا بالتغير على تقدير المخالفة. اللهم إلا أن يريد المستدل شيئا آخر
وهو أن الوارد في الأخبار ليس مجرد التغير فقط بل علق الحكم تارة عليه وأخرى على
الغلبة والغلبة وصف متحقق ثابت في الواقع والتغير علامة وكاشف، فحيث لم يوجد
الكاشف يقدر أو يستكشف بطريق آخر، والأولى الأول.
ولعل هذا أولى ما يستدل به للعلامة، وقد أشار إليه في المنتهى قال فيه قبل هذه
المسألة: " الرابع بلوغ الكرية حد لعدم قبول التأثير عن الملاقي إلا مع التغير، من
حيث أن التغير قاهر للماء عن قوته المؤثرة في التطهير. وهل التغير علامة على ذلك
والحكم يتبع الغلبة أم هو المعتبر؟ الأولى الأول فلو زال التغير من قبل نفسه لم يزل عنه
حكم التنجيس " وهو صريح فيما قلنا. وقد يؤيده حينئذ بأنه لو كان المدار على التغير
وليس المدار على الغلبة لكان لا معنى للتقدير في الموافق الذي منع من ظهور التغير فيه
الجواهر 10
80

مانع سيما فيما إذا كانت صفات الماء أصلية لا عارضية كما في المياه الكبريتية ونحوها وبأنه
لو كان المدار عليه أيضا لكان الحكم دائرا مداره وجودا وعدما، وهو لا معنى له،
وإلا لم يثبت التنجيس مع زوال التغيير من قبل نفسه وبالقاء أجسام طاهرة.
ولكن قد يقال في الجواب عن ذلك أن المراد بالغلبة كما هو الظاهر من بعضها
الغلبة بالأوصاف فتتحد حينئذ مع التغير كقوله (عليه السلام): " إذا غلب لون الماء
لون البول " (1) وقوله (عليه السلام): " إلا أن يغلب على الماء الريح فينتن " (2)
وقوله (ع): " فيما لم يكن في تغير أو ريح غالبة " (3) إلى غير ذلك. وكان كلام العلامة في المنتهي
ليس مخالفا لما نحن فيه، لأنه وإن قال إن المدار على الغلبة لكنه جعل العلامة على ذلك التغيير
فلا يحكم بحصوله ابتداء بدونه، نعم لو ذهب التغير بعد الحكم بحصول النجاسة لم تذهب
النجاسة: أما بناء على كلامه فلتحقق الغلبة التي كان علامتها التغير، وأما بناء على مختارنا
فللاستصحاب إذ الشارع حكم بالنجاسة مع التغير ولم يعلم أن الاستمرار علة للاستمرار أولا
فيستصحب. وليس للعقل مدخلية في الطهارة والنجاسة حتى يقال بالمغلوبية والمقهورية
التي لم يبق مها قوة الماء. وأيضا لو كان المدار على الغلبة كيف يصح تعليق الحكم على
التغير الذي هو وصف مفارق لها وجعلها دائرة مداره. وأيضا ينبغي القول حينئذ بما إذا
كشف عن الغلبة غيرها من الكثرة ونحوها. وأيضا لو كان المدار على الغلبة لوجب
القول بالتقدير حينئذ في فاقد الصفات وفي الواجد الضعيف وقد عرفت نقل الاجماع على
خلافه. وأيضا فإنا نمنع تحقق الغلبة فيما نحن فيه بمجرد ذلك مع بقاء الاسم فإنه لا يعلم أن المدار على صدقها عرفا، بحيث يقال إن الماء غلب على النجاسة أو شرعا، وكيفما
كان فالتقدير لا يحقق شيئا منهما بل المتحقق خلافه. وأيضا بقرينة الشهرة ونحوها تحمل
الغلبة على إرادة التغير، فتأمل جيدا والله أعلم.

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7.
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11 - مع اختلاف في اللفظ
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11 - مع اختلاف في اللفظ
81

ثم إنه على تقدير اعتبار التقدير فهل يعتبر الأشد أو الأوسط أو الأضعف؟
احتمالات. أما الأول فللاحتياط، وأما الثاني فللغالب وأما الثالث فلترجيح جانب
الطهارة. قلت: هذه الاحتمالات غير متجهة فيما إذا كانت النجاسة على صفة خاصة ثم سلبت عنه،
فإنه حينئذ لا معنى لتقديرها بالأشد وقد كانت على الأوسط، كما أنه لا معنى لتقدير الأوسط
وقد كانت على الأضعف، نعم قد يتجه ذلك أن لم يعلم كيف وجدت صفة هذه
النجاسة، وإن كان تقدير الوسط حينئذ أولى لأنه الغلب المعتاد، مع عدم تمامية الاحتياط
في جميع المقامات.
ثم إنه هل يعتبر تقدير الماء أيضا على الحد الوسط من العذوبة والملوحة والصفا
والكدورة فإن لها أثرا بينا في التغيير؟ احتمله بعضهم وظاهر الباقين العدم، وهو أولى
سيما فيما إذا كان الماء على صفة معلومة إذ لا معنى لفرض عدمها لعدم المانع في اختلاف
المياه في الانفعال وإن كانت فردا نادرا، ولعله من ذلك ينقدح الفرق في السابق أي
في الموافق للنجاسة في الصفة بين الصفة الأصلية والعارضية فيقدر في الثانية دون الأولى
فتأمل. وكيف كان فما ذكرناه من عدم النجاسة في المسلوب إنما هو إذا لم يستهلك الماء،
أما إذا استهلك بحيث دخل الماء تحت اسم الخليط فلا إشكال في نجاسة. وأما إذا سلبه
اسم الاطلاق ولم يدخل تحت الاسم فلا إشكال في كونه غير مطهر، وهل يبقي على
الطهارة؟ وجهان أقواهما ذلك، واحتمال ذهاب الاطلاق مع بقاء اسم الخليط معارض
باحتمال عدمه إذ ذهاب الاطلاقية وذهاب اسم الخليط حادثان والأصل يقتضي تأخر كل
منهما عن الآخر، فيبقي أصل الطهارة سالما. نعم لو كان المغير للماء من الأجسام التي
علم بقاؤه بعد زوال الاطلاقية لاتجه الحكم بالنجاسة.
ثم اعلم أنه قد يظهر من قول المصنف لا ينجس إلا باستيلاء النجاسة إلى آخره أن
التغيير لا بد وأن يكون بعد ملاقاة النجاسة، فلو تغيرت أحد أوصاف الماء بالمجاورة لم
ينجس، ولعله لا خلاف فيه بل مجمع عليه للأصل بل الأصول والعمومات، ولا شمول
82

في النبوي المتقدم ونحوه لظهور تبادره في الملاقاة كما هو واضح. فلا ينبغي الاشكال
في ذلك كما أنه لا ينبغي الاشكال في عدم التنجيس بسبب حصول التغيير في غير الصفات
الثلاثة كالحرارة والرقة والخفة ونحوها، بلا خلاف أجده في ذلك، للأصل وظهور
الأخبار في حصر النجاسة بالأوصاف الثلاثة، وما في الذكرى عن الجعفي وابني بابويه
أنهم لم يصرحوا بالأوصاف الثلاثة بل اعتبروا أغلبية النجاسة للماء لا صراحة فيه بل
ولا ظهور، لأن المتعارف في تحقق الغلبة إنما هو بالأوصاف الثلاثة بحيث صار هو
المتبادر من غلبة النجاسة للماء، فليتأمل جيدا. ولعله لذا قال في كشف اللثام:
كأنه لا خلاف فيه.
ثم إن مقتضي قول المصنف ككثير من الأصحاب مضافا إلى تصريح الفاضل
والشهيدين والكركي وغيرهم لذلك للتعبير بالنجاسة أنه لا ينجس لو تغير الماء بأحد
أوصاف المتنجس، كما لو تغير بدبس نجس ونحوه، خلافا للمنقول عن الشيخ في باب
تطهير المضاف كما تسمع نقل عبارته. وربما ظهر من التحرير موافقته للأصل والعمومات،
مع أنه ليس في أخبار التغيير إشارة إلى ذلك، بل فيها الإشارة إلى خلافه. بل قد يدعى
أنه يستفاد من ملاحظتها وملاحظة ما اشتملت عليه أسئلتها الجزم به، مع كونه هو المتبادر
فتأمل، كما لا يخفى على من لاحظها، إلا النبوي فإنه قد يستدل بظاهره على مثل المقام، وهو
- مع إمكان دعوى ظهوره في النجاسة دون المتنجس سيما بعد شيوع مثل هذه العبارة
في المشتملة على الأوصاف الثلاثة في ذلك - لا جابر له في المقام المصير ظاهر المشهور
إلى خلافه هنا، ومنه لا يحصل الظن بشمول لفظ (ما) للمتنجس. ويمكن استنباط
الاجماع عند التأمل على عدمه، وذلك لذكرهم في المقام الفروع التي لا ينبغي أن تسطر
كالتغير بالمجاورة وبغير الأوصاف الثلاثة ونحو ذلك ولم يذكروا ما نحن فيه، ولم يتعرضوا
له، بل عبروا بلفظ النجاسة التي لا تشمله مع كون الشيخ هو المخالف، ومن عادتهم
التعرض لذكر خلافه، بل قد يدعى أن عبارة الشيخ المنقولة عنه غير صريحة بالخلاف،
83

قال على ما نقل عنه: " ولا طريق إلى تطهير المضاف إلا بأن يختلط بما زاد على الكر
من المياه الطاهرة المطلقة، ثم ينظر فيه فإن سلبه إطلاق اسم الماء وغير أحد أوصافه
إما لونه أو طعمه أو رائحته فلا يجوز استعماله بحال، وإن لم يغير أحد أوصافه ولا سلبه
إطلاق اسم الماء جاز استعماله في جميع ما يجوز استعمال المياه المطلقة " والتأمل فيها يعطي
أنها ليست بصريحة فيه بل ولا ظاهرة، وذلك لأخذه في الحكم الأول وهو عدم جواز
الاستعمال سلب الاسم مع تغير أحد الأوصاف وأخذه في الثاني بقاء الاسم وعدم التغير،
فلم تكن عبارته دالة على ما إذا بقي الاسم وتغيرت الأوصاف ولم يظهر منه الحكم بنجاسة
مثل ذلك، وهو الذي يفيد في المقام، وقد يكون مبني كلامه على الاستهلاك وعدمه.
نعم بقي في المقام شئ لا بد من التنبيه عليه، وهو أن التغير بالمتنجس إن كان بصفاته
الأصلية فقد عرفت أن الأقوى عدم التنجيس، وأما إذا كان التغير به بالصفات
المكتسبة من النجاسة فمثل الماء أو اللبن ونحوهما من المتنجس بدم ونحوه حتى غير لونهما
ثم إنهما تنجس بهما الجاري أو الكثير حتى تغير لونهما بذلك أي باللون المكتسب من النجاسة
بالدم، ففيه إشكال، والأقوى في نظري أنه متى حصل التغير في الجاري أو الكثير
مع استناد التغير إلى تلك النجاسة التي تنجس بها المتنجس نجس الماء وإلا فلا: أما الأول
فلدخوله تحت الأدلة حينئذ وأما الثاني فلعدم صدق تغيره مع ملاقاة عين النجاسة، إذ
ليس المدار على وصف النجاسة كيفما كان، بل لا بد من مباشرة عينها للماء فلونها المكتسب
منها بعد اضمحلال عينها واستهلاكها لا ينجس الماء حينئذ للأصول والعمومات، والنبوي
لا جابر له. ولعله إلى ذلك يرجع ما أطنب به العلامة الطباطبائي من النجاسة إذا كان
التغير بواسطة المتنجس بخلاف ما إذا كان بلون المتنجس وطعمه وريحه التي هي صفات
أصلية له، وإلا كان محلا للنظر باعتبار عدم ملاقاة عين النجاسة له ولا عبرة بأوصافها مع
عدم ملاقاتها ضرورة كونها حينئذ كالمجاورة خصوصا في الريح ونحوه فتأمل جيدا.
وظاهر المصنف بل كاد يكون صريحه عدم نجاسة الجاري مطلقا سواء كان
84

قليلا أو كثيرا، لتقييده في المحقون بالكرية وإطلاقه في الجاري، ومثله كثير من
الأصحاب، بل قال في المعتبر: " ولا ينجس الجاري بالملاقاة وهو مذهب فقهائنا أجمع "
إلى أن قال بعد ذلك: " ولا الكثير من الراكد " فعلم أنه لا فرق بين قليل الجاري
وكثيره.
وعن شرح الجمل لابن البراج نقل الاجماع على عدم نجاسة الجاري مع
التصريح فيه بعدم الفرق بين القليل والكثير، ومثله عن الغنية، وربما ظهر من عبارة
الخلاف نقل الاجماع على ذلك، وفي الذكرى إني لم أقف فيه على مخالف ممن سلف أي
ممن تقدم على العلامة، ونسب رأى العلامة في جامع المقاصد إلى مخالفة مذهب الأصحاب،
وعن حواشي التحرير نقل الاجماع صريحا على عدم اشتراط الكرية. وربما ظهر من
المصابيح دعوى الاجماع أيضا. ويمكن للمتأمل المتروي في كلمات الأصحاب تحصيل
الاجماع على عدم اشتراط الكرية، وخالف في ذلك العلامة (ره) في بعض كتبه، وفي بعضها
وافق المشهور كما قيل، ولم أعثر على موافق له في هذه الدعوى ممن تأخر عنه سوى
الشهيد الثاني، وما لعله يظهر من المقداد في التنقيح، مع أن المنقول عن الأول أنه رجع
عنه وأن الذي استقر رأيه عليه آخرا الطهارة، وعبارة الثاني غير صريحة في ذلك قال
في التنقيح: " وهل يشترط كريته أم لا؟ أطلق المصنف الحكم بطهارته وقيده العلامة
بالكرية وهو أولى، ليدخل تحت إطلاق قوله (صلى الله عليه وآله) (1): " إذا بلغ الماء
كرا لم يحمل خبثا " والاجماع على العمل بمفهومه " وقال الشهيد: " إن جرى عن مادة
فلا يشترط الكرية ولا عنها يشترط وهو حسن عليه الفتوى " وكلامه الأخير ظاهر
فيما ذكرنا فتأمل، ولا نقل عن أحد ممن تقدمه، نعم نقل عن المرتضى (رحمه الله)
والصدوقين بعض العبارات المفصلة في الكرية وعدمها من غير تعرض للجاري وغيره.
وهي ليست صريحة في ذلك، بل نقل عن الصدوقين أن لهم عبارات أخر في غير المقام
الأول حاكمة على ذلك فتأمل جيدا. وكيف كان فالأقوى الأول للأصل بل الأصول

(1) المستدرك - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6.
85

وما سمعت من الاجماعات المنقولة، بل يمكن دعوى تحصيله والأخبار الحاكمة بعدم نجاسة
الماء بغير التغيير والغلبة وهي كثيرة قد سمعت جملة منها، (ومنها) (1) الدالة على أن ماء
الحمام بمنزلة الجاري، إذ لو كان الجاري يشترط فيه الكرية لم يكن للتشبيه به
من جهة الطهارة معنى. (ومنها) (2) الأخبار المتضمنة للمادة المعللة عدم النجاسة
بوجود المادة، وخصوص موردها لا يخصها بذلك، على أنه لو كانت الكرية
شرطا لم يكن للتعليل معنى. وربما استدل (3) بما دل على نفي البأس عن البول
في الماء الجاري ولعله لا يخلو من تأمل لكن لا بأس بأخذه مؤيدا سيما مع الانجبار بما
سمعت. (ومنها) ما دل على عدم نجاسة الجاري كقول أمير المؤمنين (عليه السلام) (4)
فيما روى عنه " الماء الجاري لا ينجسه شئ " وعن دعائم الاسلام (5) " في الماء الجاري
يمر بالجيف والعذرة والدم يتوضأ منه ويشرب وليس ينجسه شئ ما لم تتغير أوصافه
طعمه ولونه وريحه " وعن الفقه الرضوي (6) " اعلموا رحمكم الله إن كل ماء جار
لا ينجسه شئ " قلت: ولو كان الجاري يشترط فيه الكرية لم يكن للتعليق عليه بالنسبة
إلى النجاسة معنى يعتد به. كل ذا مع أنه ليس للعلامة شئ يتمسك به سوى ما دل (7)
على نجاسة القليل من العمومات وغيرها. وفيه أنه لا شمول فيها لمثل المقام لعدم العموم
اللغوي في شئ منها، وستعرف المناقشة في دلالة العمدة منها الذي هو المفهوم، وعلى
تقدير العموم فبينهما التعارض من وجه والترجيح للأولى من وجوه كثيرة لا تخفى،

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق.
(2) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق.
(3) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق.
(4) المستدرك - الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
(5) المستدرك - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
(6) المستدرك - الباب - 4 - من أبواب الماء المطلق - حديث - 6.
(7) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق.
86

على أنا لو تركناها والمعارض وأخذنا نتمسك بالأصول والاجماعات لكفى. فالمسألة
من الواضحات التي لا ينبغي إطالة الكلام فيها. وكأنه لمكان استبعاد صدور مثل ذلك
من العلامة فسر كشف اللثام اشتراطه للكرية بشئ يقطع الناظر في كلام العلامة بأنه
لا يريده، وقد ذكرناه في باب تطهير الجاري وغيره فراجع وتأمل.
وليعلم أن الشهيد في الدروس قال: ولا يشترط فيه الكرية على الأصح نعم
يشترط فيه دوام النبع. وعن الموجز لأبي العباس بن فهد موافقته على ذلك، وقد سمعت
أنه استحسنه في التنقيح وقال: عليه الفتوى. قلت: وليته اتضح لنا ما يريده بهذه
العبارة فضلا عن الصحة، فإنها تحتمل وجوها: (منها) أن يريد بدوام النبع عدم
الانقطاع في زمان دون زمان مثل العيون التي تنقطع بالصيف دون الشتاء أو بالعكس،
فإنه حينئذ يشترط الكرية. وفيه ما لا يخفى بل لا ينبغي أن ينسب مثل ذلك لمثله إذ
انقطاعه في بعض الأزمنة لا يخرجه عن حكم الجاري في غير زمان الانقطاع، ولا
يساعده على ذلك شئ من الأخبار، بل ولا الاعتبار، على أنه كيف يعلم أنها من دائم
النبع أو منقطعه إذا لم يعلم، ولعله يتمسك حينئذ باستصحاب بقاء النبع فيصيرها حينئذ
من دائمه حتى يعلم. وفيه ما فيه. والحاصل لا ينبغي إطالة الكلام في فساد مثل ذلك.
(ومنها) أن يراد بدوام النبع أي عند ملاقاة النجس للماء يشترط فيه أن يكون نابعا
فإنه متى لم يكن كذلك جرى عليه حكم المحقون. وهذا المعنى وإن كان في نفسه صحيحا
على بعض الأحوال إلا أنه يبعد إرادة الشهيد له، على أن ذلك ليس فيه زيادة حينئذ
على أصل معنى الجاري كونه مما له مادة، لكن الأمر في ذلك سهل إذ لعله حينئذ
احترز به عما يتوهم من أن الجاري هو الماء النابع وإن انقطع النبع، فأراد (رحمه الله)
التنبيه على أنه لا ينجس بالملاقاة ونحوها بشرط أن يكون دائم النبع أي نابعا حين الملاقاة.
وقد يقال إنه احترز به عن بعض أفراد النابع كالقليل الذي يخرج بطرق الرشح فإن
العلم بوجود المادة فيه عند ملاقاة النجاسة مشكل لأنه يترشح آنا فآنا، فليس له فيما بين
87

الزمانين مادة، وهذا يقتضي الشك في وجودها عند الملاقاة فلا يعلم حصول الشرط،
فاللازم من ذلك الانفعال حينئذ عملا بعموم ما دل على انفعال القليل. وفيه إن اخراج
مثل ذلك عن الجاري بمجرد الفتور في نبعه مما لا يخلو من تأمل، على أنه كيف يحكم
بالانفعال مع عدم العلم بالانقطاع وتنقيح ذلك بالأصل مع كون عادة نبعه هكذا فيه
ما لا يخفى. مع أنه قد يقال إن الأصل يقضي بخلافه. (ومنها) أن يقال إن النبع
يقع على وجوه: أحدها أن ينبع الماء حتى يبلغ حدا معينا ثم يقف ولا ينبع ثانيا إلا
باخراج بعض الماء. وثانيها أن يكون كذلك لكن لا يخرج إلا بحفر جديد. وثالثها
أن ينبع الماء ولا يقف على حد بل يبقى مستمرا على النبع. فلعل مراد الشهيد (رحمه الله)
باشتراط دوام النبع اخراج مثل الصورة الثانية فإن إدخالها تحت الجاري محل شك، فتبقى
داخلة تحت ما دل على اشتراط الكرية. وفيه أنه لا معنى لذلك أن أراد حتى في حال النبع
فإن وقوفها إلى حد بحيث تحتاج إلى حفر جديد لا يخرجها عن اسم الجاري حينه فتأمل
جيدا. (ومنها) أن يراد بدوام النبع دوام الاتصال بالمادة فمتى انقطع أو قطعه قاطع أو نحو
ذلك لم يجر على الماء الموجود حكم الجاري، بل إن كان كرا عصم نفسه وإلا فلا، وليس
المراد من هذا الشرط أنه ينكشف أنه ليس بجار عند فقده بل المراد أنه يكون حينئذ
ليس بجار، ولعله عند التأمل يرجع هذا إلى بعض ما تقدم فتأمل جيدا فإن الأمر في
ذلك سهل بعد معرفة الصحيح والفاسد من الوجوه المتقدمة في حد ذاتها.
ثم ليعلم أنه قد تبين أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير، فنقول حينئذ أن التغير
لا يخلو إما أن يكون مستوعبا لجميع الماء أولا، أما الأول فلا إشكال في نجاسة جميعه،
وأما الثاني فلا يخلو إما أن يكون التغيير قاطعا لعمود الماء بمعنى أنه مستغرق لحافتي الماء
من العرض والعمق أولا، وكيف كان فلا إشكال في نجاسة المتغير منه وأما غيره فإن
كان التغيير غير قاطع لعمود الماء بل كان غير المتغير متصلا بعضه ببعض فلا نجاسة
الجواهر 11
88

في شئ من ذلك لكونه من الجاري ولا ينجس غير المتغير منه، ولا فرق في ذلك بين
القليل والكثير بناء على الصحيح من عدم اشتراط الكرية. وأما إذا كان التغير قاطعا
لعمود الماء فلا إشكال في طهارة ما يلي المادة وإن لم يكن كرا على المختار من عدم اشتراط
الكرية، بل ربما قيل وكذا بناء على الاشتراط لأن جهة المادة في الجاري أعلى سطحا
من المتنجس وإن كانت أسفل حسا والسافل لا ينجس العالي. وفيه منع ظاهر لكون
المعتبر العلو أو السفل الحسيين فتأمل. وأما الماء الذي في جانب المتغير مما لا يلي المادة فإن
كان كرا فلا إشكال في الطهارة أيضا، وأما إذا لم يكن كرا فالمتجه النجاسة لكونه
مفصولا عن المادة بفاصل حسي، فيجري عليه حكم المحقون فينجس حينئذ بالملاقاة،
ولعل بعض الاطلاقات الواقعة من بعض الأصحاب أنه متى تغير شئ من الجاري
اختص المتغير بالتنجيس منزلة على غير ذلك. واحتمال أن الماء المتغير وإن حكمنا بنجاسته
لكن لا مانع من كونه سببا لاتصال غير المتغير بالمادة فيصدق عليه حينئذ أنه ماء متصل
بالمادة فيكون طاهرا. في غاية الضعف، لأن جعل التغير سببا للاتصال ليس بأولى من
جعله سببا للانفصال، مع أن المعلوم والمتيقن من الاتصال الذي تحصل العصمة بسببه
إنما هو غير هذا الاتصال، فيشك في شمول أدلة الجاري له. والمسألة لا تخلو من تأمل،
لأنه يمكن أن يقال إن تغير بعض الجاري لا يخرج البعض الآخر من هذا الاطلاق.
وأيضا احتمال الدخول تحت الجاري معارض باحتمال الخروج فيبقى أصل الطهارة سالما
فيحكم عليه حينئذ بالطهارة فتأمل جيدا. ثم اعلم أن الحكم بالنجاسة فيما ذكرنا بسبب
الملاقاة للمتغير مع تساوي السطوح أو يكون هو السافل وإلا فلو فرض العكس بأن كان
المتغير السافل والملاقي له العالي لم ينجس وإن لم يكن كرا، لعدم نجاسة العالي بالسافل
ولو كان علو انحدار لا تسنم. نعم قد عرفت أن المعتبر العلو الحسي لا المادي على الأقوى
فتأمل جيدا، كما أنه يشترط أن يكون علوا معتدا به بحيث يقال عند أهل العرف أن
أحدهما عال ولآخر سافل لا متساويين، بل الحكم كذلك في الجاري عن غير مادة،
89

بل كل نابع بلا خلاف أجده، بل يمكن تحصيل الاجماع عليه، فضلا عن السيرة القطعية
ومحكي لاجماع والأصل وغيره.
(بقي شئ) وهو أن ما اعتبر من تساوي السطوح في الراكد بالنسبة إلى عدم
نجاسته بالملاقاة لا يعتبر هنا بالنسبة للجاري فلا ينجس بالملاقاة وإن اختلفت سطوحه على
ما هو الظاهر من كلام الأصحاب، لصدق اسم الجاري على الجميع من غير فرق بين
السافل والعالي، بل لعله كذلك حتى على ما يقوله العلامة من اشتراط الكرية وإن اعتبر
ذلك في الراكد، لأنه أطلق هنا كاطلاق الأصحاب. ولعله لأنه يرى له خصوصية على
الواقف وإن شاركه في نجاسة القليل، وذلك لأن الغالب في مثله عدم الاستواء فلو اعتبرت
فيه المساواة على حد الواقف لزم الحكم بنجاسة الأنهار العظيمة بمجرد ملاقاة النجاسة
لأوائلها التي لا تبلغ مقدار الكر. وهو معلوم الانتفاء. وصدق الجاري عليه عرفا
وإن اختلفت سطوحه كالوحدة، مع احتمال أن يقال إن إطلاقه هنا مبني على
تفصيله الآتي فتأمل.
(ويطهر بكثرة الماء) أي يطهر بهذا لا أنه لا يطهر بغيره، وإلا فهو يطهر بزوال
التغيير ولو بتصفيق الرياح أو بوضع أجسام طاهرة أو بالقاء ماء أو نحو ذلك كما ستعرف
لاتصاله بالمادة (الطاهر عليه متدافعا) من المادة (حتى يزول تغييره) سواء كان كرا
أو لا على المختار، ومقتضى اشتراط العلامة الكرية في الجاري أن لا يطهر المتغير منه
بما ذكرنا. بل هو إما بالقاء كر عليه أو بأن يبقى من غير المتغير مما هو متصل بالمادة
مقدار كر فينزل تغيره به ونحو ذلك. ومن هنا قال في الروضة: " وجعل العلامة
وجماعة الجاري كغيره في انفعاله بمجرد الملاقاة مع قلته وعدم طهره بزوال التغيير مطلقا
بل بملاقاة كر. لكن قال في المنتهى: المتغير إما أن يكون جاريا أو واقفا فالجاري
إنما يطهر باكثار الماء المتدافع حتى يزول التغيير لأن الحكم تابع للوصف فيزول بزواله ولأن
الطارئ لا يقبل النجاسة لجريانه والمتغير مستهلك فيه فيطهر " وهو ظاهر المدافعة لاشتراطه
90

الكرية. وتصدى لدفعه في كشف اللثام وقال: " إن ذلك مبني على اعتبار الدفعة في
إلقاء الكر المطهر وقد عرفت أن معناها الاتصال وهو متحقق في النابع، وأما منبع
الأنهار الكبار الذي ينبع الكر أو أزيد منه دفعة فلا إشكال فيه. نعم ينبغي التربص
في العيون الصغار ريثما ينبع الكر فصاعدا متصلا، إذ ربما ينقطع في البين فينكشف عدم
اتصال الكر، فاتصال تجدد النبع إلى نبع الكر كاشف عن الطهر بأول تجدده، لا أنه
إنما يطهر بنبع الكر بتمامه. كما أن الراكد يطهر بأول إلقاء الكر عليه وإن لم يلق عليه
جميعه، نعم على اعتبار الممازجة في الطهر لا بد من نبعه بتمامه وممازجته، كما لا بد في الكر
الملقى على الراكد " وفيه مع أنه مبني على عدم اعتبار العلو أو المساواة في المطهر فيفترق
حينئذ عن الراكد بناء على اشتراطه فيه، وتقوم العالي بالسافل في بعض الأحوال أنه
حينئذ لا ينبغي القول بنجاسة ما يخرج من الجاري إذا كان أقل من كر حتى ينتهي
جريه، فإن انقطع في الأثناء وكان أقل من كر نجس وإن لم ينقطع حتى يستكمل كرا
فلا نجاسة. وهو مخالف لصريح المنقول عنه سابقا. وأيضا لا حاجة إلى خروج كر منه
إذا علم أن ما في المادة يزيد على أكرار وخرج منه ما أزال تغيير المتغير ثم قطعه قاطع
بسدو نحوه، اللهم إلا أن يلتزم ذلك فيكون مراده بخروج تمام الكر إنما هو للكشف،
وإلا فما يقال إن هذا الخارج لا يتقوم إلا بما يخرج من المادة دون ما كان فيها يدفعه أنه
حينئذ لا بد من القول بنجاسة هذا الخارج ولا ينفعه تكاثره حتى يبلغ كرا، فإنه كلما
يخرج منه شئ ينجس. وعلى كل حال فكلام العلامة مخالف لما هو متفق عليه هنا
بحسب الظاهر، من أن تطهير الجاري بما يخرج من المادة متدافعا عليه حتى يزول تغييره
من غير اشتراط لكون الخارج مقدار كرا أولا. وقد سمعت تعليل المنتهى ومثله
في المعتبر.
وكيف كان فغاية ما يمكن الاستدلال به في المقام بعد الاجماع على الظاهر
91

قوله (عليه السلام) (1): " ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا " وفحوى قوله
(عليه السلام) (2): " ماء البئر واسع لا يفسده إلا ما غير طعمه أو ريحه فينزح حتى
يذهب الريح ويطيب الطعم لأن له مادة " وما يظهر من العلامة في القواعد من عدم
تطهير الواقف بالماء النابع من تحت، لعله مخصوص بغير الجاري لظهور الاتفاق عليه
في المقام، قال في الحدائق: أنه صرح به الأصحاب من غير خلاف فيه بينهم، فحينئذ
لا ريب في حصول الطهارة إذا تدافع من المادة عليه حتى زال تغيره، وأما إذا لم يتدافع
عليه كما في بعض العيون المتوقف نبع مائها من المادة على اخراج بعض الماء حتى تنبع،
سواء قلنا أنها من الجاري أو بحكمه أو أنها جرى ماؤها إلى مكان ثم وقف، وتوقف
الخروج من المادة على أخذ شئ من مائها، فالظاهر أن الاتصال بالمادة كاف في حصول
الطهارة إذا زال تغيره كما أشرنا إليه سابقا. والحصر المستفاد من كلام العلامة في
المنتهى المتقدم مبني على الغالب. هذا إن لم نقل أنه مع اتصاله بالمادة في كل آن يتجدد
ماء لعدم استقرار سطوح الماء، فإنه في الآن الواحد الحكمي يختلف ظهره وبطنه فليتأمل.
نعم ربما يتجه على الظاهر كلام الشهيد في الدروس من اشتراط دوام النبع في الجاري
أو على القول باشتراط الامتزاج عدم القول بالطهارة، مع احتمال أن يقال إن مراده
بدوام النبع أن لا يجف مثلا في وقت دون وقت مثل العيون التي تجف في الصيف دون
الشتاء، فإنها حين جفافها لا يجري عليها حكم الجاري، أو يكون منقطعا لعارض اتفاقي
من سد ونحوه، أما مثل العيون المذكورة فهي عنده من دائم النبع وتوقف النبع مثلا
على اخراج شئ منها لا يخرجها عن ذلك الحكم فليتأمل جيدا. ومما يؤيد ما ذكرنا
مضافا إلى ما يظهر من التعليل بالمادة الصادق بمجرد الاتصال بها وإن لم تنبع فعلا أنه
يصدق عليه مضمون قوله (عليه السلام): " ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا "

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7.
(2) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 و 7 مع اختلاف يسير.
92

في بعض الأحوال، كما لو فرضنا أن هذا الماء المجتمع أجري وإن لم يخرج من المادة شئ
ثم تنجس السافل بما ينجسه وبقي العالي المتصل بالمادة وكان أقل من كر فجرى عليه
وأزال تغيره، فإنه داخل في مضمون الرواية. وبعد فالمسألة لا تخلو من إشكال لظاهر
كلامهم في المقام، فإنه كالصريح في اشتراط التجدد من المادة، واحتمال تنزيله على عدم
إرادة الحصر كما ذكرنا، أو أنه ليس شرطا في التطهير ولكنه لزوال التغيير مما لم
يقطع به. واستصحاب النجاسة محكم. وهل يعتبر التدافع فلا يجزي ما يخرج من المنابع
الدقاق أو لا؟ الظاهر الثاني لعموم الأدلة وكلامهم، مع أنه ليس باجماع منزل على الغالب،
ومن المعلوم أن هذه الأحكام كلها للمادة الأرضية أو ما نزل منزلتها كما يأتي الكلام
عليه إن شاء الله دون غيرها فإنها لا تسمى مادة.
(ويلحق به) أي بالجاري (ماء الحمام) أي ما في حياضه الصغار لقوله
(عليه السلام) (1): (إذا كانت له مادة). وإيكال معنى الحمام إلى العرف أولى من
التعرض لتحديده. والظاهر عدم اختصاص الأحكام بالهيئة السابقة الموجودة في ذلك
الزمان بحيث لو انتفى شئ منها لم تجر عليه الأحكام، وإن كان قد يتوهم لانتفاء المركب
بانتفاء أحد أجزائه، ولأن أحكام الحمام مخالفة للأصل فيقتصر فيها على المتيقن، بل
إذا شك في كون الموجود الآن كالسابق أو لا لم تجر عليه الأحكام أيضا، وإن أطلق
عليه الاسم الآن، لعدم جريان أصالة عدم التغير هنا، إذ هي إنما تجري حيث يكون
المعنى قديما ورأينا اللفظ الأول مستعملا فيه والآن شككنا فيه بالنسبة للزمن السابق
فنحكم به كذلك لأصالة عدم التغير، لا فيما إذا شككنا في كون هذا المعنى موجودا
سابقا أولا. وفرق واضح بين المقامين. وإصالة عدم الاشتراك لا يثبت بها وجود
المعنى، إذ غاية ما يمكن إثباته بها نفي الاشتراك بعد فرض وجود المعنى أما إنها تثبت

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4.
93

أن هذا الموضوع موجود في السابق فلا. لكن قد يقال مع إمكان المناقشة في بعض
ما تقدم: الظاهر أن لفظ الحمام موضوع لقدر مشترك وهو هيئة خاصة يميزها أهل العرف
فلا يضر النقيصة والزيادة في الأفراد. نعم الحق أن الحمام له أركان ينتفي بانتفائها ومن
ذلك المادة ونحوها، ولا ينفع هنا لو أطلق الاسم للعلم حينئذ بأنه معنى آخر غير المعنى
الأول بل يكون حاله مثل ما سميت الآنية بالحمام فإنه لا تجري عليها الأحكام قطعا
فتأمل جيدا.
وأما كون المراد بماء الحمام هو ما في حياضه الصغار فهو الظاهر منهم وقد صرح به
جماعة، وربما يستفاد من قوله (عليه السلام) (1) كما عن الفقه الرضوي: " إن ماء الحمام سبيله
سبيل الماء الجاري إذا كان له مادة " فإن الظاهر أن المراد بالمادة إنما هي مادة ماء الحمام، فيعلم حينئذ
أنها غير ماء الحمام والذي هو غيرها إنما هو ما في الحياض، واحتمال أن المراد بقوله (إذا) قيد
للجاري فيكون مشبها بالجاري الذي له مادة لا مطلق الجاري فيدخل حينئذ ما في المادة في ماء
الحمام بعيد خلاف المتبادر والمنساق، على أن الظاهر من التشبيه بالجاري وبماء النهر أن
يكون المراد ما يخرج من المادة، لأنه هو الذي فيه صورة الجريان والنهرية، والحوض
الكبير بمنزلة المادة التي يخرج منها الماء. (فإن قلت) أنه كما يستفاد من الأخبار تنزيل
ما في الحياض بمنزلة الجاري أيضا يستفاد منها تنزيل مادته منزلة مادة الجاري (قلت) حق
لكنه لم يثبت هناك أحكام لاحقة للمادة من حيث كونها مادة لتثبت لها هنا، وأما
الأحكام اللاحقة لها لغيرها مثل عصمتها لغيرها ونحو ذلك فهي هنا كذلك، وفي رواية
بكر بن حبيب عن أبي جعفر (عليه السلام) (2) قال: " ماء الحمام لا بأس به إذا كان له
مادة " والتقريب فيها كما تقدم من أن الظاهر أن المراد بالمادة إنما هي الحوض الكبير
فيكون المراد بماء الحمام غيرها.

(1) المستدرك - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2.
(2) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4.
94

وكيف كان فالذي يدل على إلحاق ماء الحمام بالجاري في الجملة مضافا إلى ما تقدم
وإلى الاجماع محصله ومنقوله قول الصادق (عليه السلام) (1) في خبر ابن أبي يعفور حيث
قال له أخبرني عن ماء الحمام يغتسل فيه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي،
فقال: " إن ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا " وخبر حنان (2) قال: " سمعت
رجلا يقول لأبي عبد الله (عليه السلام) إني أدخل الحمام في السحر وفيه الجنب وغير ذلك
فأقوم أغتسل فينتضح علي بعد ما أفرغ من مائهم. قال: أليس هو جار؟ قلت:
بلى قال: لا بأس " وصحيح داود بن سرحان (3) " قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)
ما تقول في ماء الحمام؟ قال: بمنزلة الماء الجاري " وما رواه في الوسائل (4) عن كتاب
قرب الإسناد عن إسماعيل بن جابر عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) " قال ابتدأني
فقال: ماء الحمام لا ينجسه شئ " إلى غير ذلك. وما كان في هذه الروايات من ضعف
في السند أو الدلالة فهو منجبر بما سمعت من الاجماع المنقول بل المحصل على أن ماء
الحمام أي ما كان في حياضه الصغار سواء كان قليلا أو كثيرا هو بمنزلة الجاري،
لكن يشترط اتصاله بالمادة اجماعا، مع أنه المنساق من أخبار المادة ويشعر به التشبيه
بالجاري وماء النهر. فلا عبرة بما عساه يظهر من خبر حنان، على أنه لا دلالة فيه على
نجاسة ذي السؤر. نعم وقع النزاع بينهم في أنه هل يشترط في المادة أن تكون كرا أو لا؟
والمنقول عن الأكثر اشتراط الكرية، لكن في كشف اللثام نقل عن الجامع
فقط موافقة العلامة على الاشتراط وقال بعد ذكر مذهب المحقق من عدم اشتراط
الكرية لاطلاق النصوص والفتاوى: وظاهره أن الفتاوى مطلقة. ولعل مراد من نسبه

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7. وفي الوافي والوسائل
" يغتسل منه الجنب ".
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 8.
(3) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 8.
(4) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 8.
95

إلى الأكثر أنه أراد أكثر المتأخرين عن المحقق (رحمه الله).
وكيف كان فالذي ذهب إليه المصنف عدم الاشتراط وتبعه عليه بعض متأخري
المتأخرين ولعله الظاهر من السرائر أيضا، قال في المعتبر: " ولا اعتبار بكثرة المادة
وقلتها لكن لو تحقق نجاستها لم تطهر بالجريان " انتهى، وهو لا يخلو من قوة لما سمعته
من الروايات فإنها كالصريحة في عدم اشتراط الكرية، مع أن أقصى ما يمكن أن
يستند به للخصم ما في المدارك فإنه بعد أن ذكر مستند الحكم رواية بكر بن حبيب
وصحيحة داود بن سرحان قال: " وهما مع ضعف سند الأولى بجهالة بكر بن حبيب
وعدم اعتبار المادة في الثانية لا يصلحان لمعارضة ما دل على انفعال القليل بالملاقاة إذ
الغالب في مادة الحمام بلوغ الكرية فينزل عليه الاطلاق " وفيه أما أولا أن مضمون
رواية بكر مما لا كلام فيه والاجماع منقول بل محصل عليه، مع أن في سندها صفوان
وقد قيل فيه أنه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، وعن الشيخ في العدة
أنه قال في حقه لا يروي إلا عن ثقة، مضافا إلى أن المشايخ ذكروها على سبيل الاعتماد
والاعتداد، مع أنها معتضدة بما سمعت من الأخبار وفيها الصحيح وغيره. وأما صحيحة
داود بن سرحان فهي وإن لم تشتمل على المادة لكنها اشتملت على التشبيه بالجاري،
ومعلوم أن عدم انفعال الجاري إنما هو من جهة المادة فالظاهر من التشبيه أن وجه
الشبه ذلك، مع أن الحمام مما له مادة. ولو سلمنا فنقول إن الاجماع والأخبار الأخر
مقيدة لها بما إذا كان له مادة والمعلوم من المقيد إنما هو العاري عن المادة أصلا فيبقى
الباقي داخلا سواء كانت كرا أو أقل. وأما ثانيا فأنت خبير أن بين ما دل على انفعال
القليل وبين ما نحن فيه تعارض العموم من وجه، والترجيح مع أخبار الحمام لكثرتها
وتعاضدها وعدم وجود المعارض فيها وكونها منطوقا وتلك أكثر ها مفاهيم، وبعضها
قضايا في موارد خاصة، مع معارضتها بكثير من الأخبار كما سيأتي التعرض لها إن شاء الله
الجواهر 12
96

مضافا إلى أن أخبار الحمام معتضدة بأصالة البراءة، لأن النجاسة تكليف بالاجتناب،
وباستصحاب الطهارة وبأصل الطهارة المستفاد من العمومات على وجه، وبما دل على عدم
انفعال الماء إلا بما يغير ريحه أو طعمه أو لونه كما تقدم في الجاري. ودعوى ترجيح أخبار
القليل بذهاب الأكثر هنا إلى النجاسة وبأن الغالب كون مادة الحمام كرا فينزل الاطلاق
عليه، يدفعها أن الأكثرية لم نتحققها إلا من متأخري المتأخرين، وقد سمعت
ما قاله كاشف اللثام أن الفتاوى مطلقة، فتكون أخبار الحمام أولى بالترجيح بها.
واحتمال أن هذا الاطلاق معارض باطلاقهم الآخر لنجاسة ماء القليل فيه أن ذلك وإن
احتمل في الأخبار إلا أنه يبعد احتماله في كلام الأصحاب مع ذكرهم الجاري وما في حكمه
كماء الحمام وماء الغيث قسما برأسه والمحقون قسما آخر ومنه القليل، فليتأمل جيدا.
وأما الأغلبية المذكورة فأما أولا فإنا نمنع وصولها إلى حد بحيث يكون الأقل من كر ولو
قليلا من الأفراد النادرة بحيث لا يشمله اللفظ، وثانيا لو سلمنا الندرة فهي ندرة وجود
لا ندرة إطلاق، ولذلك ترى صدق ماء الحمام على مثله من غير استنكار كما هو ظاهر
للمنصف المتأمل. على أن غلبة كرية المادة في الابتداء وإلا ففي الأثناء بعد استعمال ما في
الحياض وإذهابها من كثرة الاستعمال يبقى غالبا أقل من كر. وأيضا فالتأمل الصادق
قاض بفساد القول بأن المادة إن بقيت مقدار كر كانت من الأفراد الشائعة وإن نقصت
مقدار عشرين مثقالا صارت من الأفراد النادرة أن ذلك واضح المكابرة. على أن
القول باشتراط الكرية ينافي ما هو كالصريح من الأخبار من أن ماء الحمام له خصوصية
على غيره من المياه، إذ على تقدير الاشتراط يكون حاله كغيره من المياه كما اعترف به
الشهيد في الذكرى. واحتمال القول بأن أخبار الحمام محمولة على بيان ما هو كائن في غير
الحمام أيضا فيكون المراد أن الحمام كالجاري لأن له مادة كثيرة وكل ما كان له مادة كثيرة
فهو كذلك، فلا يكون للحمام حينئذ خصوصية، بعيد غاية البعد وقد اعترف الخصم
بفساده، كما لا يخفى على من لاحظ أخبار الباب وكلمات الأصحاب، فإنها كالصريحة
97

في أن له خصوصية على غيره وهي منتفية على هذا التقدير، بل قد يقال إن غيره حينئذ
أولى منه لأن العلامة وغيره قد صرحوا في مسألة الغديرين الموصول بينهما بساقية أنه
يكفي بلوغ مجموعهما مع الساقية كرا، ومن هنا رجح بعضهم عدم اشتراط الكرية ولكن
يشترط بلوغ مجموع ما في الحياض والمادة كرا، فيشمله حينئذ قوله (عليه السلام) (1):
" إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شئ " وفيه أيضا أنه لم تبق خصوصية لماء الحمام بل يكون
مساويا لغيره، على أنه مناف لاطلاقهم اشتراط كرية المادة. واحتمال تقييده بما لم تكن
المادة مساوية للحياض في السطوح كما هو الغالب في الحمامات وإلا فيكفي بلوغ المجموع
كرا كالغديرين ويكون كلامهم في الغديرين منزلا على الغالب من استواء السطوح،
أو يقال إن اشتراط الكرية للرفع إذا تنجست الحياض وإلا فبالنسبة للدفع يكفي بلوغ
المجموع كرا فلا ينافي كلامهم في الغديرين لأنهم قد ذكروه بالنسبة للدفع لا الرفع - بعيد
كالقول أن خصوصية الحمام تقوى الأسفل بالأعلى وإن كان متسنما لا منحدرا،
بخلاف غيره من المياه فإنه لا يتقوم فيها السافل بالعالي، فإن فيه مع أنه مناف لما هو
الظاهر من إطلاقهم اشتراط كرية المادة سواء كانت متساوية أو لا أن حكم الغديرين
ذكره بعضهم فلا ينزل عليه كلام الجميع، مع أن تنزيل الغديرين على متساوي السطوح
لا شاهد عليه، وكيف وقد نقل في المدارك عن العلامة في التذكرة والشهيد في الذكرى
الجزم بتقوى الأسفل بالأعلى في مسألة الغديرين دون العكس، فكيف ينزل كلامهم
فيه على متساوي السطوح. وأيضا على فرض التقييد المذكور فحيث لم تكن المادة
مساوية كما هو الغالب في الحمام فهل يتقوى الأسفل بالأعلى أو لا؟ فإن قالوا بالتقوى
كان يكفي في دفع النجاسة بلوغ المجموع كرا لأن الفرض أن السافل يتقوى بالعالي فلا
معنى حينئذ لاشتراط كرية المادة، وإن لم يقولوا بتقوي السافل بالعالي فلا تنفعهم
كرية المادة مع فرض علوها إذ لا معنى للقول بالتقوى حيث يكون العالي كرا دون غيره

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 و 2 و 6.
98

على ما ستعرفه في محله. فإن قالوا إن هذا الحكم هو خصوصية الحمام قلنا هذا ليس أولى
من القول بأن خصوصية عدم الانفعال وإن لم تكن كرا، بل هذا أولى تحكيما للاطلاق
ولأنه المنساق من التشبيه بالجاري ومن ذكر المادة. ونظيره وارد على القول بالاكتفاء
بكرية المجموع مطلقا إذ يلزم إما القول بعدم الخصوصية إن أجري هذا الحكم في غيره
من غير مستوى السطوح مع التسنم أو الحكم بخصوص هذه الخصوصية من غير دليل، بل
لعل إطلاق الأخبار ظاهر في غيرها. وكذا يرد على القول بأن اشتراط الكرية إنما هو
بالنسبة للرفع دون الدفع، وإلا فيكفي في الثاني بلوغ المجموع كرا إذ هو مع أنه خلاف
الظاهر من كلام المشترطين أنه إما لازم لعدم الخصوصية إن قالوا أن غيره مثله في هذا
الحكم أو للحكم بها من غير دليل. وكذا ما يقال إن الخصوصية فيه تطهير حياضه بما
يخرج من المادة وإن لم يكن الخارج كرا دفعة بخلاف غيره من الماء المحقون فإنه يشترط
فيه القاء الكر عليه دفعة كما عن كثير منهم التقييد بها هناك، ونادر لم يقيد بها إلا أنه
قد أخذ أيضا القاء الكر، وأما الحمام فلا كلام في تطهر الحياض بما يخرج من المادة
وإن لم يبلغ الخارج مقدار كر، نعم اختلفوا في أنها هل تطهر بالاتصال أو لا بد من
الامتزاج. قلت أما أولا فهو غير منطبق على مذهب الجميع إذ مقتضى مذهب العلامة
(رحمه الله) عدم إمكان تطهيره بما يخرج إن لم يكن كرا إذ لا يزيد على الجاري،
وعنده أن الجاري ينجس بالملاقاة قبل إن يستكمل كرا بناء على ما فهمناه منه، بل وكذا
على ما تقدم من توجيه كاشف اللثام السابق في تطهير الجاري في أحد الوجهين فيه.
وأما ثانيا فلأن هذه الخصوصية مع ابتنائها على اعتبار الدفعة في غير ماء الحمام وعدم
تقوي الأسفل بالأعلى هي مأخوذة من قوله (عليه السلام): " ماء الحمام كالجاري " (1)
و " أنه كماء النهر يطهر بعضه بعضا " (2) وهي كما أنها قاضية بما ذكر قاضية بالمختار، فلم
يلتزم بهذه الخصوصية لمكان هذه الأخبار ولم يلتزم بالأخرى؟

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 7.
(2) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 7.
99

والحاصل بعد أن علمنا أن للحمام خصوصية على غيره كما صرحوا به، ولم يظهر
من الأخبار بيان خصوصية الخصوصية، كان العمل بالاطلاق، واثبات الجميع له، وأنه
يجري على ماء المادة حكم الجاري بشرط جريانها كما أشار إليه قوله (عليه السلام):
" أليس هو جار؟ قلت: بلى، قال: لا بأس " هو المتجه وأولى من غيره. نعم ربما
يقال باختصاص الحكم بما يخرج من المادة لا ما كان فيها، فتنجس حينئذ بملاقاة
النجاسة إذا كانت أقل من كر، لما علمت أن المراد بماء الحمام ما كان في حياضة الصغار
وما يجري إليها من المادة. ومن هنا قد استبعد العلامة (رحمه الله) الحكم بأن المادة إذا
كانت أقل من كر فليست لها قوة على أن تعصم نفسها فكيف تعصم غيرها وتفيده حكما
ليس لها. ولعل ما استبعده (رحمه الله) يراه الخصم قريبا بعد ما قضت الأدلة به. مع
أنه يحتمل أن يقال - وإن بعد بشمول ماء الحمام للجميع حينئذ، أي ما في المادة
والحياض ولا ينجس ما في المادة وإن كان أقل من كر، لكن بشرط جريانه. وقوله
(عليه السلام) (2) في بعض الأخبار " إذا كانت به مادة " لا يقضي صريحا بأن ماء الحمام
ما عداها، بل قد يشعر بمساواة مادته لمادة الجاري، إلا أن الأظهر ما تقدم سابقا من أن ماء الحمام ما عداها فتأمل.
فصار حاصل البحث أن ما في الحياض حاله كحال الماء الخارج من عين الجاري،
والحوض الكبير الذي يأتي منه الماء بمنزلة العين التي ينبع منها الماء فلا يقبل ما في الحياض
النجاسة سواء كان ما في الحوض الكبير كرا أو لا، وسواء كان المجموع مقدار كر
أو لا، لكن بشرط اتصالها بالمادة وتتجدد الخروج منها. وأما حيث تنجس ما في
الحياض إما بالتغيير أو أنها انقطعت عنها المادة فتنجست، فطريق تطهيره كطريق تطهير
الجاري بما يخرج من المادة متدافعا عليه حتى يزول تغييره إن كان متغيرا. نعم هناك

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 8.
(2) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4.
100

بحث في شرطية الامتزاج يأتي الكلام فيه إن شاء الله.
هذا الذي يقتضيه النظر في أخبار الباب، فإن ثبت اجماع على خلاف ما ذكرنا
كلا أو بعضا قلنا به، وإلا فلا، ولعله ثابت بالنسبة للتطهير، لأن المحقق (رحمه الله)
الذي هو الأصل في الخلاف في المقام قد صرح بعد حكمه بعدم اعتبار الكرية، قال:
" لكن لو تنجس ما في الحياض لم يطهر بمجرد جريانها إليه " ولما ستسمع من إجماع
كاشف اللثام. لكن قد تحمل عبارة المحقق (رحمه الله) على عدم حصول التطهر
بمجرد الجريان بل لا بد من الامتزاج وحصول التدافع كما هو مذهبه بالنسبة إلى
الغديرين، ولذا ربما يظهر من حاشية الآغا على المدارك وكذا الحدائق عدم الاشتراط
وهو لا يخلو من وجه.
ثم إن مقتضى اشتراط العلامة (رحمه الله) كرية الجاري أنه يلزمه أن يعتبر كرية ما في
الحياض لأنها هي المشبهة بالجاري واشتراطه كرية المادة لا يدفع عنه ذلك، اللهم إلا أن يقول
أن ماء الحمام عبارة عما في الحياض والمادة فحينئذ يناسب مذهبه في الجاري. أو يقال إن
تشبيه ما في الحياض بالجاري يكفي فيه اشتراط اتصال ما في الحياض بكر لأنه بمنزلة
الكرية فيه، بل يكتفي بذلك في الجاري أيضا لو اتفق أنه اتصل بكر خارج عنه.
(فإن قلت) لم لم يكتف باتصال الجاري بمادته كما أنه اكتفى بذلك في الحمام؟ (قلت)
قد يفرق بين المادتين أو يلتزم ذلك في الجاري أيضا، ويكون هذا مؤيدا لما فهمه منه في
كشف اللثام في باب تطهير الجاري فراجع وتأمل. وكيف كان فالمعروف بين المشترطين
اشتراط الكرية لا أزيد لكن قال العلامة في التحرير " وحكم ماء الحمام كحكم الجاري
إذا كانت له مادة تزيد على كر " وربما حمل على التوسع في العبارة، أو يقال إن اشتراط
الزيادة على الكر إنما هو حتى يتحقق اشتراط اتصال الحياض بمادة هي كر، إذ مع
فرض عدم زيادة المادة عنه تنقص عن الكر بمجرد جريانها إليه. وقال في كشف اللثام:
101

" ويمكن الحمل على زيادتها عليه قبل إجراء شئ منها إلى الحوض الذي ينجس ماؤه بعد
انقطاع الجريان ليبقي منها قدر كر فيطهر ما في الحوض باجرائها إليه ثانيا فيوافق ما في
سائر كتبه. وينقدح منه أنه يمكن أن يكون مراده في كتبه باشتراط الكرية فيها
اشتراطها قبل الاجراء إلى الحوض، فيكون المعنى أنها إذا كانت كرا فأجريت لم تنجس
بالملاقاة ما دام الجريان والاتصال. وهو الأظهر عندي إذ ما دام الجريان فهو كماء واحد
كثير فلا ينفعل سواء أجري إلى سطح يساوي سطحها أو غيره. فيرتفع الخلاف لأن
من البين أن المحقق إنما يسوي بين الكر والأقل من الباقي منها، لا ما جرى في الحوض،
ولا يقول بأن الباقي إذا نقص عن الكر فانقطع الجريان ثم تنجس ما في الحوض يطهر
بالاجراء ثانيا للاتفاق على أنه لا يطهر الماء النجس إلا الكر أو الجاري. فالمحصل
أن ماء الحمام إذا بلغ كرا فصاعدا لم ينجس بملاقاة النجاسة وإن أجرى إلى حوض صغير
ونحوه مساوي السطح لسطح محله أم لا ما لم ينقطع الجريان، فإذا انقطع ونجس ما جرى
فيه منه لم يطهر بالاجراء ثانيا إلا إذا كان الباقي كرا فصاعدا والظاهر انسحاب
الحكمين في غير الحمام " انتهي، وفيه نظر: أما أولا فإن ما ذكره من توجيه كلام العلامة
في التحرير لا ينطبق عليه بحسب الظاهر حيث قال فيه بعد ذكر أحكام الجاري:
" ويشترط في ذلك كله زيادة الجاري على الكر وحكم ماء الحمام حكمه إذا كانت له
مادة تزيد على الكر " انتهى. إذ أخذ الزيادة في الجاري ومادة الحمام يشعر بأنهما من
واد واحد، وأيضا قوله: إذا كانت إلى آخره كالصريح في أن هذا الشرط مأخوذ في
أصل كون ماء الحمام كالجاري دفعا ورفعا. وأما ثانيا فإنه يرجع حاصل ما ذكره من
الانقداح أنه يكفي بالنسبة إلى الدفع أن يكون مجموع ما في الحياض والمادة كرا، ولو
تنجس ما في الحياض وأردنا تطهيره بالمادة فحينئذ لا بد من كونها كرا، وحمل على ذلك
عبارة المحقق (رحمه الله) وقال: إنه يريد لا فرق فيها بين أن يكون كرا أو لا بالنسبة
102

إلى الباقي منها بعد إجراء شئ منها إلى الحياض لا بالنسبة إلى ما فيها وما في الحياض
وأما بالنسبة إلى الرفع فقال لا بد من كونها كرا، ولا يقول المحقق (رحمه الله) أنها تطهر
ما في الحياض وإن لم تكن كرا لأن الاجماع منعقد على أن الماء النجس لا يطهره إلا
الكر أو الجاري فيرتفع الخلاف حينئذ. وفيه أنه مناف لما هو كالصريح من كلام
العلامة من اشتراطه في طهارة ما في الحياض وكونها كالجاري كونها متصلة بمادة كر،
فإنه (رحمه الله) قد صرح في المنتهى بكون ذلك مشروطا باتصاله بمادة وأن تكون تلك
المادة كرا، وجعل الكرية كاشتراط أصل الاتصال بمادة، ومناف لما هو كالصريح
من كلام المحقق (رحمه الله) وفهمه الجماعة منه أيضا. ودعوى أن ذلك من البين فيه
كمال الخفاء، كما أن استبعاده لما ذكر غير بعيد بعد ما قضت به الأدلة. نعم دعواه الاجماع
في الصورة الثانية قد يتخيل أنها حق، لما سمعت من عبارة المحقق سابقا وهو الأصل في
الخلاف في هذه المسألة، ولكن قد سمعت أيضا إمكان تأويلها، ولذلك لم يستند إليها
في كاشف اللثام. ومنه يكون الاجماع في المقام محل تأمل، سيما بعد ما نقل عن كثير
منهم أنهم جعلوا حكم الحمام حكم الجاري فيكون حكم مادته حكم مادة الجاري. ويؤيد
ذلك أنهم لم يشترطوا القاء الكر عليه دفعة أو القاءه وإن لم يكن دفعة بل يكفي ما تدافع
منها وإن لم يكن مقدار كر. نعم لهم كلام بالنسبة للامتزاج وعدمه وسيأتي تحقيق القول فيه
إن شاء الله، إن كان متحد الحكم مع ما يأتي، وإلا فيحتمل قويا الفرق بينهما فإنه وإن
اشترط الامتزاج هناك لكنه لا يشترط هنا أخذا باطلاق قوله (عليه السلام):
" ماء الحمام كالجاري " فيكون تطهيره بما يتدافع إليه من المادة من غير اشتراط
الامتزاج فتأمل جيدا.
ثم إن عبارة كشف اللثام قد تشعر بالفرق بين أن تكون المادة هي كر فأجريت وبين ما
يكون في الحوض شئ وفي المادة شئ وكان كل منهما أقل من كر ثم وصل ما في المادة وما في
الحوض. ولعله لأن الأول يسمى ماء واحدا بخلاف الثاني، والظاهر عدم الفرق.
103

والغرض من طول البحث في المقام بيان قوة كلام المحقق وإن كان الأحوط خلافه،
إن لم يكن أقوى، فيكتفي بكرية مجموع ما في الحياض والمادة بالنسبة إلى دفع النجاسة
ويشترط كرية المادة في رفع النجاسة عن الحياض. وأحوط من ذلك اشتراط كرية
المادة بالنسبة إليهما معا، وإن كان القول به ضعيفا بالنسبة إلى ما تقدم فتأمل جيدا
والله أعلم بحقيقة الحال.
(ولو مازجه) أي الجاري وما في حكمه (طاهر فغيره) لونا أو طعما أو رائحة
(أو تغير من قبل نفسه) من غير ممازجة لشئ (لم يخرج عن كونه) طاهرا (مطهرا
ما دام إطلاق الاسم باقيا) للأصل بل الأصول والاجماع المحصل والمنقول. وربما يرشد
إليه أيضا كراهية الطهارة بالماء الآجن إذا وجد غيره، ولعدم انفكاك السقاء أول استعماله
من التغير ولم ينقل عن الصحابة الاحتراز منه، وقد قيل أيضا أن الصحابة كانوا يسافرون
وغالب أوعيتهم الأديم وهو يغير الماء، فلا ينبغي الالتفات إلى ما في النبوي (1)
ونحوه مما دل على حصول النجاسة بكل شئ يغيره. قال في المنتهى: " متى كان
التغير بملاقاة جسم طاهر ولم يسلبه إطلاق الاسم فهو باق على طهارته ويصلح التطهير به
إجماعا، إن لم يمكن التحرز منه كالطحلب وما ينبت في الماء وما يتساقط من ورق
الشجر النابت فيه " إلى أن قال: " أما لو امتزج بما يمكن التحرز منه كقليل الزعفران
فإنه باق على أصله في الطهورية إجماعا منا " ثم نقل خلاف الشافعي ومالك في ذلك ثم
قال فيه أيضا: " لو كان تغير الماء لطول بقائه فإن سلبه إطلاق الاسم لم يجز الطهور به
ولا يخرج عن كونه طاهرا، وإلا فلا بأس ولكنه مكروه، ولا خلاف بين عامة أهل
العلم في جواز الطهارة به إلا ابن سيرين " وقد يرشد إلى الطهارة فيما نحن فيه ما نقل
من الاجماع على عدم حصول النجاسة بالتغير بالمجاورة لها من ريح أو غيره. ولا ريب
أن ما نحن فيه أولى وكان المسألة غير محتاجة إلى طول البحث.
الجواهر 13

(1) المستدرك - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 10.
104

(وأما المحقون)
الذي ليس بجار ولا بحكمه ولا ماء بئر (فما كان منه دون الكر) المقدر بما
يأتي (فإنه ينجس بملاقاة النجاسة) والمتنجس، وإن لم يغير أحد أوصافه، للنصوص (1)
المستفيضة بل المتواترة وفيها الصحيح وغيره وستسمعها، وللإجماع محصلا، ومنقولا
نصا، وظاهرا مطلقا في لسان بعض، ومستثنى منه ابن أبي عقيل فقط في لسان
آخرين. وحجية الثاني لعله من جهة نقل الكاشف دون المنكشف. وقد وقعت
حكاية الاجماع للأساطين من علمائنا كما عن المرتضى (رحمه الله) في الناصريات والشيخ
في الخلاف الاستبصار وابن زهرة في الغنية، وفي المختلف مستثنيا ابن أبي عقيل،
ومثله في المدارك، وعن المهذب شرح النافع الاجماع وندر ابن أبي عقيل. وربما استدل
أيضا بما وقع من نقل الاجماع على نجاسة سؤر اليهودي والنصراني، والاجماع على غسل
إناء الولوغ ثلاثا، والاجماع على تحديد الكر بالأرطال على ما دلت عليه مرسلة
ابن أبي عمير (2) وهو لا يخلو من تأمل إن لم يكن في الكل ففي البعض سيما في الأخير،
فإن السؤر والولوغ لا يختص بالماء القبيل، وكذلك تحديد الكر بالأرطال فإن القائل
بعدم النجاسة لا يقول بعدم الكرية نعم ينفي أن تكون عنوانا للطهارة والنجاسة، ولها
فوائد أخر عنده. نعم يظهر من الشيخ في الخلاف عند نقل الاجماع في مسألة الولوغ
ونجاسة الكلب ما يشمل الماء بل هو صريح كلامه كما لا يخفى على من لاحظه، وكان
عليه أن لا يقتصر على ما ذكر بل الأولى ذكر إجماع التحرير والمنتهى على نجاسة
ما يغتسل به الجنب وغيره إذا كان على البدن نجاسة عينية، والاجماع من العلامة والمصنف
على سلب الطهورية عما تزال به النجاسة، وما في المعتبر أن تخصيص قوله (عليه السلام):

(1) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق.
(2) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
105

" الماء طهور لا ينجسه شئ " (1) بما دون الكر للاجماع ذكر ذلك عند الكلام في
تقدير الكر، إلى غير ذلك. والمتتبع يجد كثيرا من ذلك.
ثم إن مقتضى نقل الاجماع من المرتضى سيما في الناصريات والاقتصار من غيره
على كون المخالف ابن أبي عقيل دون غيره أن يكون المراد إثباته في المقام هو عدم كون
الماء القليل كالكر لا ينجس إلا بالتغير كما يدعيه ابن أبي عقيل. فحينئذ كل ما دل على
نجاسة القليل بغير التغير بأي نجاسة كانت وكيف ما كان حجة عليه، لأن السلب الكلي
يكفي في رفعه الايجاب الجزئي، فيتجه حينئذ الاستدلال عليه بالمفهوم وإن لم نقل
بعمومه أو عدم إثباته للنجاسة بكل شئ، وبعض (2) الأخبار الخاصة في خصوص
بعض الأشياء ونحو ذلك، وأما القول بطهارة بعض المياه القليلة كطهارة الغسالة خاصة
وماء الحمام مثلا ونحو ذلك فليس المقام مقام رده، بل يأتي ذلك في مقامه. وكيف
يدعى ذلك وتنزيل الاجماع عليه مع أن القائل بطهارة الغسالة مثلا جمع كثير، حتى
ادعي أنه الأشهر بين القدماء، بل ربما كان ناقل الاجماع هنا هو المخالف هناك فتأمل
والسنة منها الصحيح في التهذيب والكافي وعن الاستبصار كذلك، وعن الصدوق
مرسلا (3) عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) " وسأل عن الماء الذي
تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب، قال: إذا كان الماء قدر
كر لم ينجسه شئ " ورواه الشيخ في الصحيح كما قيل والكليني في الحسن بإبراهيم
ابن هاشم وكذلك عن معاوية بن عمار (4) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا
كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ ". ولا ريب في إفادتها نجاسة القليل بغير التغير وإلا
لتوافق حكم المنطوق والمفهوم. والمناقشة فيها بمنع حجية المفهوم معلومة البطلان بما تقرر في

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 9.
(2) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق.
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 2
(4) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 2
106

محله. والغرض كما هو الواقع عدم ظهور فائدة للاشتراط غير الانتفاء عند الانتفاء،
كالمناقشة بأن التنجس لم يثبت له حقيقة شرعية فيبقى على اللغوي فلا يفيد المطلوب،
فإنها أوضح من الأولى بطلانا أولا بثبوت الحقيقة لها، وثانيا بصيرورتها كذلك في
زمن الأئمة قطعا والفرض أن الخبر عنهم (عليهم السلام) وثالثا أن المقصود واللائق
بحالهم إنما هو الحكم الشرعي وإلا فالمعنى اللغوي يتساوي فيه كل أحد غير محتاج
للشارع في بيانه. نعم في استفادة التنجيس من هذه الأخبار على وجه العموم أي يراد
كل ماء قليل ينجس بكل شئ نجسا كان أو متنجسا بحيث يشمل المستعمل في غسل
الأخباث حال استعماله وحال انفصاله إشكال لابتنائه على عدة أمور وإن سلمنا بعضها
لكن لا يفيد ذلك، كعموم الموضوع في القضية وهو لفظ الماء، وهو مسلم في المقام
قطعا في المنطوق ويتبعه المفهوم، وأن (إذا) وإن كانت من أدوات الاهمال لكن
المقام مقام إعطاء قاعدة وضرب قانون، فيستفاد منها العموم، والعرف أعدل شاهد على
ذلك، وكعموم المفهوم، ولعلنا نسلمه وإن ظهر من العلامة في المختلف عدمه، ولعله
يستفاد مما دل على حجية الشرط وهو العرف فإن أهل العرف يفهمون انتفاء حكم المنطوق
عن جميع أفراد المفهوم ولا يكتفون بانقسام المفهوم إلى قسمين موافق للمنطوق ومخالف
له، وفيه تأمل، ولكن ذلك كله لا يفيد المطلوب فإن تسليم جميع ما ذكرنا لا يستفاد
منه أزيد من انتفاء حكم المنطوق عن جميع أفراد المفهوم، والحكم في المنطوق إنما هو
السلب الكلي أي عدم تنجيسه بشئ، فاللازم منه أن ما عداه ينجس بشئ ويستفاد
ذلك الشئ من خارج كتضمن السؤال ونحوه، فيقتصر على ما علم دون ما لم يعلم، فلا
يشمل المستعمل في إزالة النجاسة مثلا. وما يقال إن عموم شئ في المفهوم حينئذ
لكونها واقعة في سياق العموم وكل نكرة وقعت كذلك أفادته، كقوله: " وكل
حتف امرئ يجري بمقدار " فإن عموم امرئ لذلك. وفيه مع إمكان منع ذلك
ووجود القرينة في المثال لم نعلم ما المراد بالسياق؟ فإن كان من قبيل المثال فما نحن فيه
107

ليس منه حينئذ قطعا كما هو واضح، وإن أراد غير ذلك كان عليه أن ينص عليه.
ولعل التأمل فيما نحن فيه وفي نظائره من التراكيب يشهد لما قلنا من عدم العموم فتأمل.
وكذا ما يقال من أن المستفاد من علماء المعاني أن المفهوم تابع للمنطوق أن عاما فعاما
وإن خاصا فخاصا، كما ذكروا ذلك في وجه فساد قول القائل (ما أنا رأيت أحدا)
قالوا تخصيص المتكلم نفسه بعدم الرؤية على وجه العموم يقتضي أن يكون أحد غيره
رأى كل أحد. فيه ما لا يخفى فإن ذكر علماء المعاني لو سلم وسلم منافاته لما قلنا ليس
حجة في نفسه، وكيف والعرف أعدل شاهد في ذلك كله. ونحوهما ما يقال أيضا من
أنه يلزم كلام الحكيم عن الفائدة في المفهوم حينئذ. وفيه أنه موقوف على العلم بأن
الشارع جاء بهذه العبارة لأجل بيان الحكم في المنطوق والمفهوم، وأنه أراد فهم ذلك
من هذه العبارة حتى يحمل لفظ شئ في المفهوم على العموم، ودون إثباته خرط القتاد،
فإنه قد يكون لبيان حكم المنطوق، أوله ولما سئل عنه من النجاسات الخاصة، فإنه يستفاد
منه النجاسة بها. على أنه إن سلمنا ذلك فليس عمومه حينئذ إلا من جهة الحكمة وحاله
كحال المطلق لا يشمل مثل ماء الغسالة، وتمام الكلام في ذلك المبحث.
ومنها قول الصادق (عليه السلام) (1) في صحيح محمد بن مسلم قال: " قلت إن
الغدير فيه ماء مجتمع تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب، قال:
إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ ". ومنها قول الكاظم (عليه السلام) (2) في صحيح
علي بن جعفر (عليه السلام) قال: " سألته عن الدجاجة وأشباهها تطأ العذرة ثم تدخل
في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا إلا أن يكون كثيرا قدر كر من ماء " ومنها قول
الصادق (عليه السلام) (3) في صحيح إسماعيل بن جابر قال: " سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) عن الماء الذي لا ينجسه شئ، قال: كر، قلت: وما الكر " إلى آخره.

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5.
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 7.
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 7.
108

ومنها قول الصادق (عليه السلام) في صحيح إسماعيل أيضا (1) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام) الماء الذي لا ينجسه شئ، قال: ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته ".
ومنها قول الصادق (عليه السلام) (2) في صحيح صفوان بطريق الشيخ وفي الكافي
بطريق فيه سهل بن زياد قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحياض التي بين
مكة والمدينة تردها السباع وتلغ فيه الكلاب ويشرب منه الخنزير ويغتسل منه ويتوضأ
منه، فقال: وكم قدر الماء؟ قلت: إلى نصف الساق وإلى الركبة، قال: توضأ منه "
فإن سؤاله (عليه السلام) عن قدر الماء بمقتضى الحكمة لا بد وأن يكون له تعلق في
ذلك، ولما كانت الحياض معلومة المساحة اكتفى بالسؤال عن العمق عن غيره. ومنها
قول الصادق (عليه السلام) (3) في صحيح أبي العباس الفضل بن عبد الملك البقباق
قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والبغال
والحمار والوحش والسباع فلم أترك شيئا حتى سألته، فقال: لا بأس به - حتى انتهيت إلى
الكلب، فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله وأصبب ذلك الماء واغسله بالتراب
أول مرة ثم بالماء ".
ومنها قول الصادق (عليه السلام) (4) أيضا في خبر محمد بن مسلم قال: " سألته
عن الكلب يشرب من الإناء، قال: اغسل الإناء ". ومنها صحيح علي بن جعفر
عن أخيه (عليه السلام) (5) قال: " سألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع
به؟ قال: يغسل سبع مرات ". ومنها صحيحه الآخر عن أخيه عليه السلام قال:

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 12 مع اختلاف في اللفظ.
(3) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الأسئار حديث 4.
(4) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب النجاسات حديث 3.
(5) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب النجاسات - حديث 1.
109

" سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه
للصلاة إذ كان لا يجد غيره والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدا للوضوء وهو متفرق؟
فكيف يصنع به وهو يتخوف أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال (عليه السلام):
إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفا من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه وكفا عن
إمامه " إلى آخره (1) فإن اشتراطه (عليه السلام) نظافة اليد فيه دلالة على ذلك. ومنها
صحيحه الآخر عن أخيه (عليه السلام) أيضا (2) قال: " سألته عن رجل رعف
وهو يتوضأ فقطرت قطرة في إنائه هل يصح الوضوء منه؟ قال: لا ". ومنها صحيح
شهاب بن عبد ربه (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في الرجل الجنب يسهو فيطمس
يده في الإناء قبل أن يغسلها أنه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شئ ".
ومنها صحيحه الآخر (4) المنقول عن بصائر الدرجات قال: " أتيت أبا عبد الله
(عليه السلام) - إلى أن قال: وإن شئت سل وإن شئت أخبرتك؟ قلت:
أخبرني، قال: جئت تسأل عن الجنب يسهو فيغمس يده في الماء قبل إن يغسلها، قال:
قلت: ذلك جعلت فداك، قال: إذا لم يكن أصاب يده شئ فلا بأس ". ومنها صحيح
البزنطي (5) قال: " سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي فذرة،
قال: يكفي الإناء ". ومنها صحيح داود بن سرحان (6) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه
السلام ما تقول في ماء الحمام؟ قال: هو بمنزلة الجاري " فإن تشبيهه عليه السلام بالجاري دليل
على أن ليس كل قليل كالجاري. ومنها صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المضاف - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 3
(3) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 3
(4) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الجنابة - حديث 3 مع اختلاف في اللفظ
(5) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7.
(6) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء الطلق - حديث 1
110

عليه السلام (1) قال: " سألته عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام، قال: إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام، إلا أن يغتسل وحدة على الحوض فيغسله ثم
يغتسل ". ومنها حسن سعيد الأعرج (2) بإبراهيم بن هاشم قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن سؤر اليهودي والنصراني. قال: لا ". ومنها حسنة زرارة
مضمرة (3) قال: " قلت كيف يغتسل الجنب؟ فقال: إن لم يكن أصاب شئ
يده غمسها في الماء ثم بدأ بفرجه فأنقاه ". ومنها مضمرة زرارة (4) في الحسن أيضا،
قال: " إذا كان أكثر من رواية لم ينجسه شئ تفسخ فيه أو لم يتفسخ إلا أن يجئ
له ريح يغلب على ريح الماء ". ومنها موثقة سماعة (5) عن الصادق عليه السلام قال: " إذا
أصابت الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس إذا لم يكن أصاب يده شئ من
المني ". ومنها موثقة عمار (6) عن الصادق عليه السلام أيضا قال: " سألته عن ماء
شرب منه باز أو صقر أو عقاب، فقال: كل شئ من الطير يتوضأ بما يشرب إلا أن
ترى في منقاره دما فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب ". ومنها
موثقته (7) عن الصادق عليه السلام قال: " سئل عن ماء شربت منه الدجاجة قال:
إن كان في منقارها قذر لم تتوضأ منه ولم تشرب وإن لم تعلم أن في منقارها قذرا توضأ
واشرب. وعن ماء يشرب منه باز أو صقر أو عقاب، قال: كل شئ من الطير
يتوضأ مما يشرب منه إلا أن ترى في منقاره دما فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ
منه ولا تشرب ". ومنها موثقته (8) أيضا عن الصادق عليه السلام: " أنه سأل عن

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب النجاسات - حديث 9 - 8.
(2) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب النجاسات - حديث 9 - 8.
(3) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الجنابة - حديث 2.
(4) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق حيث 9
(5) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 9
(6) (7) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الأسئار - حديث 2 - 3
(8) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 مع اختلاف يسير
111

الرجل يجد في إنائه فارة وقد توضأ من ذلك الإناء مرارا أو اغتسل أو غسل ثيابه وقد
كانت الفارة متسلخة، فقال عليه السلام: إن كان رآها قبل أن يغتسل أو يتوضأ
أو يغسل ثيابه ثم فعل ذلك بعد ما رآها فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كل ما أصابه ذلك
الماء ويعيد الوضوء والصلاة وإن كان إنما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمس من
الماء شيئا وليس عليه شئ لأنه لا يعلم متى سقطت فيه " ثم قال: " لعله أن يكون إنما
سقطت تلك الساعة التي رآها " ومنها موثقة سعيد الأعرج (1) قال: " سألت
أبا عبد الله عليه السلام عن الجرة تسع مائة رطل من ماء يقع فيها أوقية من دم أشرب
منه وأتوضأ؟ قال: لا " وحمله على التغير بعيد، لأن الأوقية أربعون درهما كما عن نص
أهل اللغة، والرطل مائة وثلاثون درهما فنسبتها إليه نسبة الثلث تقريبا، فنسبته إلى
مائة رطل يكون نسبة ثلث عشر العشر.
ومنها موثقة أبي بصير (2) عن الصادق عليه السلام قال: " ليس بفضل السنور
بأس أن تتوضأ منه وتشرب، ولا يشرب من سؤر الكلب إلا أن يكون حوضا كبيرا
يستقى منه ". ومنها موثقة أبي بصير (3) عنهم عليهم السلام قال: " إذا أدخلت يدك
في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس إلا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة، فإن أدخلت
يدك في الماء وفيه شئ من ذلك فأهرق ذلك الماء ". ومنها قوية أبي بصير (4) قال: " سألته
عن الجنب يحصل الركوة أو التور فيدخل إصبعه، قال: إن كان أصابها قذر فليهرقه
وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه. هذا مما قال الله عز وجل ما جعل عليكم في الدين
من حرج " (5).
الجواهر 14

(1) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 8 والباب - 13 - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الأسئار - حديث 7.
(3) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 11 مع اختلاف يسير.
(4) لأن في السند في التهذيب ابن سنان وابن مسكان والظاهر من الثاني أنه عبد الله (منه رحمه الله).
(5) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 11 مع اختلاف يسير.
112

ومنها خبر بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه السلام (1) قال: " ماء الحمام لا بأس
به إذا كانت له مادة " فإن تقييده بالمادة يقضي بثبوت البأس مع عدمها وعلى الطهارة
لا تفاوت. ومنها خبر معاوية بن شريح (2) قال: " سأل عذافر أبا عبد الله
عليه السلام وأنا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل
والسباع يشرب منه أو يتوضأ منه قال: نعم اشرب منه وتوضأ. قال: قلت: له
الكلب؟ قال: لا، قلت: أليس هو سبع؟ قال: لا والله إنه نجس " وقيل إن مثله
ما رواه الشيخ عن معاوية بن مسيرة. ومنها مرسلة حريز (3) عن الصادق عليه السلام
قال: " إذا ولغ الكلب في الإناء فصبه ". ومنها ما عن فقه الرضا عليه السلام (4) قال: " إذا
ولغ كلب في الماء أو شرب منه أهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرات مرة بالتراب
ومرتين بالماء ثم يجفف ". ومنها خبر أبي بصير (5) عن الصادق عليه السلام وفيه " إن مايل
الميل من النبيذ ينجس حبا من ماء " يقولها ثلاثا. ومنها خبر عمر بحنظلة (6) قال:
" قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب
عاديته ويذهب مسكره؟ فقال: لا والله ولا قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك
الحب ". ومنها ما عن قرب الإسناد (7) عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليهما السلام

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4.
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الأسئار - حديث 6 - 5
(3) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الأسئار - حديث 6 - 5
(4) المستدرك - الباب - 43 - من أبواب النجاسات والأواني - حديث 1. ولكن
فيه " إن وقع كلب " وليس فيه " ثم يجفف " وبعده رواية عن المقنع مطابقة للجواهر.
(5) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب النجاسات - حديث 6
(6) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب الأشربة المحرمة - حديث 1
(7) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 16. وفي الوسائل
رواها عن كتاب علي بن جعفر قال سألته " عن جرة ماء فيه ألف رطل " الخ ولم نجدها
في كتاب قرب الإسناد.
113

قال: " سألته عن حب ماء وقع فيه أوقية بول هل يصلح شربه أو الوضوء؟ قال:
لا يصلح " وقد عرفت نسبة الأوقية إلى الرطل فكيف إلى الحب. ومنها مرسلة عبد الله
ابن المغيرة (1) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه
شئ ". ومنها خبر حفص بن غياث (2) عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: " لا يفسد الماء إلا ما كانت له نفس سائلة ". ومنها خبر محمد بن يحيى (3) رفعه إلى الصادق عليه السلام
كما في الوسائل. وغاية ما علم اشتراطه إنما هو الملاقاة فيبقى غيره الزائد عليه وهو التغيير
لأنه ملاقاة وزيادة منفيا بالأصل. لا يقال إن الرواية ظاهرة في أن ذا النفس مفسد
لسائر أفراد المياه وهذا لا يكون إلا بالتغيير حتى يشمل الكر والجاري، لأنا نقول
المراد أنه لا يفسد فردا من أفراد المياه إلا ذو النفس السائلة وهذا لا يشمل الجاري
ونحوه. ومنها خبر علي بن جعفر عليه السلام (4) عن كتاب المسائل وقرب الإسناد
عن أخيه موسى عليه السلام قال: " سألته عن الرجل يتوضأ في الكنيف بالماء يدخل
يده فيه أيتوضأ من فضله للصلاة؟ قال: إذا أدخل يده وهي نظيفة فلا بأس ولست أحب
أن يتعود ذلك " ومنها ما عن نوادر الراوندي (5) بإسناده عن موسى بن جعفر عن
آبائه عليهم السلام قال قال: علي عليه السلام " الماء الجاري لا ينجسه شئ " ودلالته على المطلوب
بالمفهوم. ومنها ما عن الرضوي (6) قال عليه السلام: " كل غدير فيه من الماء أكثر من كر
لا ينجسه ما يقع فيه من النجاسات إلا أن يكون فيه الجيف فتغير لونه وطعمه ورائحته
فإذا غيرته لم يشرب ولم يتطهر ". و " اعلموا رحمكم الله أن كل ماء جار لا ينجسه

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 8.
(2) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الأسئار - حديث 2 - 4
(3) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الأسئار - حديث 2 - 4
(4) البحار - المجلد 18 - باب سنن الوضوء وآدابه - حديث 1.
(5) المستدرك - الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4.
(6) المستدرك - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7.
114

شئ " وقال عليه السلام (2): " إن اجتمع مسلم مع ذمي في الحمام اغتسل المسلم قبل
الذمي وماء الحمام سبيله سبيل الجاري إذا كانت له مادة ".
ويمكن أن يستدل أيضا بما ورد (3) في البئر وأنه واسع لا يفسده شئ لأن
له مادة، فإن التعليل ظاهر في ذلك، وبما ورد (4) من نهي النائم أن يدخل يده في الإناء
قبل الغسل لأنه لا يدري بها أين باتت، وبما جاء من النهي (5) عن الاغتسال في غسالة
الحمام لما فيها من غسالة الناصب وغيره وأنه أنجس من الكلب وأخبار (6) الإنائين
المشتبهين، وأخبار النهي عن سؤر الحائض (7) مع التهمة وخبر العيص بن القاسم (8)
الذي رووه في ماء الغسالة فيمن أصابته قطرة من طست فيه وضوء، فإنه عليه السلام
أمره بالغسل من ذلك، وخبر عبد الله بن سنان (9) لتضمنه في النهي عن الوضوء فيما يغسل به
الثوب ويغتسل به من الجنابة لعدم القائل بالفصل. إلى غير ذلك من الأخبار الدالة والمؤيدة
وهي كثيرة جدا. وهي وإن ناقشنا في دلالة المفهوم منها على العموم، لكنه يستفاد منها بعد
التأمل في أسئلتها قاعدة وهي نجاسة القليل بالملاقاة للنجس أو المتنجس. كما لا يخفى على
من لاحظها مع التأمل، وذلك لاشتمالها علي نجاسة القليل بولوغ الكلب وملاقاة الدم
وبدخول الدجاجة وشبهها واطئة للعذرة وشرب الخنزير، واشتراطه عليه السلام نظافة اليد
من غير تخصص لها بالنظافة من شئ خاص قاض بالنجاسة بكل النجاسات، ومثله

(1) المستدرك - الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6
(2) المستدرك - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2.
(3) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 و 7.
(4) الوسائل - الباب - 27 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(5) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف - حديث 5.
(6) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
(7) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الأسئار.
(8) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 14 - 13.
(9) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 14 - 13.
115

اشتراطه عليه السلام عدم البأس بإصابة اليد للإناء في الجنب بما إذا لم يكن أصابت يده
شيئا، ووقوع قطرة من الدم في الإناء، وترك الاستفصال عن قذارة اليد التي دخلت
في الإناء مع الأمر بالاهراق، وبملاقاته لليهودي والنصراني، وبملاقاته للمني والفارة
الميتة والبول والنبيذ وكل ماله نفس سائلة، ومن المعلوم المقطوع الذي لا يعتريه شك
أنه ليس المراد القصر على هذه الأشياء، وكيف وقد عرفت أن ترك الاستفصال
في بعضها قاض بالجميع. فيستفاد منه حينئذ قاعدة وهي انفعاله بملاقاة سائر النجاسات
والمتنجسات.
ويمكن الاستدلال عليه أيضا بالقاعدة المستفادة من استقراء أخبار النجاسات
فإنها قاضية بنجاسة كل ملاقاة فيه مع الرطوبة.
نعم يبقى تأمل في أنه هل يمكن استفادتها بالنسبة للكيفية أي يحصل الانفعال
سواء كانت النجاسة واردة على الماء وبالعكس، ولو كان ورود الماء لا يفيده استقرارا
معها، بحيث يشمل ماء الغسالة؟ ولعل إمكان ذلك إنما هو من جهة الاجماع الجابر لفهم
ذلك من الأخبار، ويأتي تمام البحث فيه إن شاء الله.
وغاية ما يمكن أن يستدل به لابن أبي عقيل الأصل براءة وطهارة واستصحابا
في الماء نفسه وفي الملاقي، وقوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " (1) والماء كله من
السماء بدليل قوله تعالى " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض
ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه " (2) " وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض
وإنا على ذهاب به لقادرون " (3) مع أنه روى عن الباقر عليه السلام (4) أنها هي العيون

(1) سورة الفرقان: آية 50.
(2) سورة الزمر آية 22
(3) سورة المؤمنون آية 18
(4) تفسير على إبراهيم القمي في سورة المؤمنون: آية 18.
116

والآبار، وقوله تعالى: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به " (1) وقول تعالى:
" فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " (2) خرج المتغير خاصة، والأخبار منها الخبر
المستفيض عن الصادق عليه السلام (3) أنه قال: " الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر " وهي
شاملة لما يعلم حكمه من الشرع. ومنها ما عن الصادق عليه السلام أيضا (4): " أن الماء
طاهر لا ينجسه إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته " وعن ابن أبي عقيل إنه ادعى تواتره.
ومنها صحيح محمد بن حمران وجميل (5) عن الصادق عليه السلام: " أن الله جعل التراب
طهورا كما جعل الماء طهورا " والمعرف حيث لا عهد إما للجنس أو الاستغراق والكل
يفيد المطلوب. ومنها صحيح داود بن فرقد (6) عن الصادق عليه السلام: " قال:
كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، وقد وسع
الله عليكم بأوسع مما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهورا فانظروا كيف تكونون ".
ومنها صحيح حريز (7) عن أبي عبد الله عليه السلام: " كلما غلب الماء ريح الجيفة فتوضأ
من الماء واشرب، فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ منه ولا تشرب ". ومنها صحيح
أبي خالد القماط (8) " أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام في الماء يمر به الرجل وهو نقيع فيه
الميتة والجيفة إن كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب منه ولا تتوضأ، وإن لم يتغير
ريحه وطعمه فتوضأ واشرب ".
ومنها صحيح شهاب بن عبد ربه قال: " أتيت أبا عبد الله عليه السلام

(1) سورة الأنفال: آية 11
(2) سورة النساء آية 46، وسورة المائدة: آية 9
(3) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5
(4) المستدرك - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5
(5) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 4
(6) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 4
(7) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب النجاسات - حديث 1 - 4.
(8) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب النجاسات - حديث 1 - 4.
117

أسأله فابتدأني، فقال إن شئت يا شهاب فاسأل وإن شئت أخبرتك، قال: قلت له
أخبرني، قال جئت لتسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضأ منه أو لا؟ قال:
نعم، قال فتوضأ من الجانب الآخر إلا أن يغلب الماء الريح فينتن " (1) إلى آخره.
ومنها صحيح عبد الله بن سنان (2) قال: " سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام وأنا جالس عن
غدير أتوه وفيه جيفة. فقال: إذا كان الماء قاهرا ولا يوجد فيه الريح فتوضأ ". ومنها صحيح
ابن مسكان (3) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " سألته عن الوضوء مما ولغ فيه
الكلب والسنور أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك أيتوضأ منه أو يغتسل؟ قال:
نعم إلا أن تجد غيره فتنزه عنه ". ومنها صحيح ابن مسلم (4) قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن الثوب يصيبه البول، قال: اغسله في المركن مرتين ". ومنها صحيح
ابن بزيع (5) قال: " كتبت إلى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء ويستقى فيه
من بئر فيستنجى فيه الانسان من بول أو يغتسل فيه الجنب ما حده الذي لا يجوز؟
فكتب لا تتوضأ من مثل هذا إلا من الضرورة إليه ". ومنها صحيح زرارة (6) عن الصادق
عليه السلام: " وقد سأل عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر أيتوضأ
منه؟ قال لا بأس ". ومنها صحيح علي بن جعفر (7) عن أخيه عليهما السلام " أنه
سأل عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا إلا أن
يضطر إليه ". ومنها صحيحه الآخر عن أخيه أيضا قال: سألته عن رجل رعف

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11
(3) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الأسئار - حديث 6.
(4) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب النجاسات - حديث 1
(5) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 15
(6) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2.
(7) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب النجاسات - حديث 9
118

فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه هل يصلح الوضوء منه؟ فقال إن لم يكن شيئا
يستبين في الماء فلا بأس وإن كان شيئا بينا فلا تتوضأ منه " (1). ومنها حسنة محمد بن ميسر (2)
قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق
ويريد أن يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان، قال يضع يده ويتوضأ
ويغتسل، هذا مما قال الله عز وجل: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) ".
ومنها موثقة سماعة (3) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " سألته عن الرجل يمر
بالماء وفيها دابة ميتة قد انتنت قال: إن كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضأ ولا تشرب "
ومنها موثقة أيضا (4) قال: " سألته عن الرجل يمر بالميتة في الماء، قال يتوضأ من
الناحية التي ليس فيها الميتة " ومنها الموثق عن أبي بصير (5) قال: " قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: إنا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون في جانب القرية فيكون فيه
العذرة ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدابة وتروث، فقال: إن عرض في قلبك شئ
فقل هكذا - يعني أفرج الماء بيدك ثم توضأ فإن الدين ليس بمضيق، فإن الله عز وجل
يقول: " ما جعل عليكم في الدين من حرج ". ومنها خبر الفضيل (6) عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: " سألته عن الحياض يبال فيها قال: لا بأس إذا غلب لون الماء لون
البول ". ومنها خبر أبي حمزة (7) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الماء الساكن
والاستنجاء فيه وفيه الجيفة، فقال: توضأ من الجانب ". ومنها خبر عثمان الزيات

(1) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 5
(2) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 5
(3) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6
(4) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5
(5) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 14
(6) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7 وهو عن العلاء بن الفضيل
(7) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 13
119

(1) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام أكون في السفر فآتي الماء النقيع ويدي
قذرة فأغمسها في الماء، قال: لا بأس ". ومنها مرسل إسماعيل بن مسلم (2) عن جعفر
عن أبيه عليه السلام: " إن النبي صلى الله عليه وآله أتي الماء فأتاه أهل الماء، فقالوا:
يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن حياضنا هذه تردها السباع والكلاب والبهائم، فقال
صلى الله عليه وآله: لها ما أخذت ولكم سائر ذلك ". ومنها ما عن الصدوق مرسلا (3)
عن الصادق عليه السلام: " إنه سئل عن غدير فيه جيفة، قال إن كان الماء قاهرا ولا
يوجد فيه الريح فتوضأ واغتسل ". ومنها خبر زرارة (4) عن أبي جعفر عليه السلام
قال: " قلت له راوية من ماء سقطت فيه فارة أو جرذ أو صعوة ميتة، قال: إن تفسخ
فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضأ وصبها وإن كان غير متفسخ فاشرب منه وتوضأ
واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية، كذلك الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلك من
أوعية الماء ". ومنها خبر زرارة (5) قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن جلد
الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء، قال: لا بأس ". ومنها خبر أبي مريم الأنصاري (6)
قال: " كنت مع أبي عبد الله عليه السلام في حائط له فحضرت الصلاة فنزح دلوا
للوضوء من ركي له فخرج عليه قطعة عذرة يابسة فأكفى رأسه وتوضأ بالباقي ". ومنها خبر
عمر بن يزيد (7) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أغتسل في مغتسل يبال فيه ويغتسل
من الجنابة فيقع في الإناء ماء ينزو من الأرض، فقال لا بأس به ". ومنها خبر ابن
أبي بكر (8) قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يضع الكوز الذي يغرف به

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث - 16 - 10
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث - 16 - 10
(3) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 13 - 8
(4) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 13 - 8
(5) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 16
(6) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 12
(7) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 7
(8) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 17 الجواهر 15
120

من الحب في مكان قذر ثم يدخله الحب، قال: يصب من الماء ثلاث أكف ثم يدلك
الكوز ". ومنها خبر الأحول (1) قال: " دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله
عن الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجي به، فقال: لا بأس به. فسكت،
فقال أتدري لم صار لا بأس به؟ قلت: لا والله جعلت فداك، فقال لي: إن الماء
أكثر من القذر ". ومنها ما عن كتاب قرب الإسناد والمسائل (2) عن علي بن جعفر
(عليه السلام) قال: " وسألته عن جنب أصابت يده من جنابة فمسحه بخرقة ثم أدخل يده
في غسله قبل أن يغسلها هل يجزيه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال: إن وجد ماء غيره
فلا يجزيه أن يغتسل وإن لم يجد غيره أجزأه ". ومنها ما عن دعائم الاسلام (3) عنه
(عليه السلام) قال: " إذا مر الجنب في الماء وفيه الجيفة أو الميتة فإن كان قد تغير لذلك
طعمه أو ريحه أو لونه فلا يشرب منه ولا يتوضأ ولا يتطهر ". ومنها ما في المختلف
مرسلا (4) عن الباقر (عليه السلام) " إنه سئل عن القربة والجرة من الماء يسقط فيها فارة
وجرذ أو غيره فيموتون فيها، فقال: إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه،
وإن لم يغلب عليه فاشرب منه وتوضأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية ". ومنها ما في
الكتاب المذكور أيضا مرسلا (5) عن الصادق (عليه السلام) " أنه سئل عن النقيع
والغدير وأشباههما فيه الجيف والقذر وولوغ الكلب وتشرب منه الدواب وتبول
يتوضأ منه؟ فقال لسائله: إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضأ وإن كان
الماء غالبا على النجاسة فيتوضأ منه ويغتسل ". ومنها ما في الكتاب المذكور أيضا (6)

(1) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف - حديث 2.
(2) البحار - المجلد 18 - باب نجاسة البول والمني - حديث 1
(3) المستدرك - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3
(4) المختلف - صحيفة 3 - 2.
(5) المختلف - صحيفة 3 - 2.
(6) المستدرك - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 8 وفي المختلف ص 3.
121

قال: " ذكر بعض علماء الشيعة أنه كان بالمدينة رجل يدخل على أبي جعفر محمد بن علي
(عليهما السلام) وكان في طريقه ماء فيه العذرة والجيف وكان يأمر الغلام بحمل كوز
من ماء يغسل رجله إن أصابه، فأبصره يوما أبو جعفر فقال: إن هذا لا يصيب شيئا إلا
طهره فلا تعد منه غسلا ".
وأضيف إلى ذلك وجوه ثلاثة (الأول) الحديث المشهور المروي بعدة طرق
من الطرفين كما قيل (1): " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ إلا ما غير لونه أو
طعمه أو ريحه " وما رواه السكوني (2) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله) الماء يطهر ولا يطهر " ووجه الاستدلال بالأخير أنه إن غلب على
النجاسة حتى استهلكت فيه طهرها ولم ينجس حتى يحتاج إلى التطهير، وإن غلب عليه
النجاسة حتى استهلك فيها صار في حكم النجاسة ولم يقبل التطهير إلا باستهلاكه في الماء
الطاهر، وحينئذ لم يبق منه شئ (الثاني) أنه لو كان ينجس بملاقاة النجاسة لما أجاز
إزالة الخبث بشئ منه بوجه وذلك لأن كل جزء من أجزاء الماء الواردة على المحل النجس
ينجس بملاقاة المتنجس فيخرج عن الطهورية في أول آنات اللقاء، والفرق بين وروده
على النجاسة وورودها مع أنه مخالف المنصوص لا يجدي إذ الكلام في ذلك الجزء
الملاقي ولا يعصمه القدر المستعلي لكونه أدون من الكر، والقول بالطهارة عند الملاقاة
والنجاسة بعد الانفصال في غاية البعد فإنه لا معنى للطهارة عند الملاقاة للمتنجس والنجاسة
بعد الانفصال عنه (الثالث) إن اشتراط الكر مثار الوسواس ولأجله شق الأمر على
الناس، وكيف يصنعون أهل مكة والمدينة إذ لا يكثر فيها المياه الجارية ولا الراكد
الكثير، ومن أول عصر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى آخر عصر الصحابة لم تنقل
واقعة في الطهارات ولا سؤال عن كيفية حفظ المياه من النجاسات، وكانت أواني
شربهم مثلا يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يتحرزون عن النجاسات بل الكفار.

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 9 - 6
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 9 - 6
122

وربما أيد بالأخبار (1) المصرحة بطهارة ماء الاستنجاء وباختلاف الروايات
الواردة في تقدير الكر فيحمل على التخمين والمقايسة بين قدر الماء والنجاسة، إذ لو
كان أمرا مضبوطا وحدا محدودا لم يقع الاختلاف الشديد في تقديره لا مساحة ولا وزنا
وقد وقع الاختلاف فيهما حسا، والوجوب لا يقبل الدرجات بخلاف الاستحباب كما اعترف
جماعة به في باب البئر، لمكان الاختلاف. وأيضا أخبار الطهارة أقوى لكونها منطوقا ونصا
وتلك مفهوما وظاهرا، والمفهوم لا يعارض المنطوق الظاهر لا يعارض النص. وأيضا لو عمل
بأخبار الطهارة أمكن حمل الأمر في أخبار النجاسة على الاستحباب والنهي على الكراهة ولا
كذلك العكس. وأيضا قد عرفت أن أخبار الكر من جهة اختلافها قابلة للحمل على
إرادة المقدار المعتاد التغير وعدمه. وأيضا قد تحمل بعض الأخبار على النهي عن خصوص
الوضوء أو الغسل لما يفهم أن ماء الوضوء مثلا ليس كباقي المياه.
و (الجواب) أما عن الأصول فهي - مع كون أصل البراءة ونحوه منها لا يفيد
تمام المطلوب لعدم جريانه في مثل الوضوء به والاغتسال على وجه ونحو ذلك، لمعارضته
بأصالة شغل الذمة، ومع كون استصحاب طهارة الملاقي للماء القليل الملاقي للنجاسة
لا يفيد طهارة بالنسبة للماء. والتتميم بعدم القول بالفصل، مع كونه لا معنى له لكونه
ليس قولا بالطهارة في بعض دون بعض بل إنما ساغ الشرب مثلا ولبس الثوب الملاقي
في الصلاة لعدم العلم بالنجاسة لا للعلم بالطهارة، خروج عن الاستدلال بالأصول. فلم
يبق إلا استصحاب طهارة الماء نفسه على القول بجريانه في قدح العارض، وإصالة الطهارة
فإنه لا يعارضه شغل الذمة ويقتضي طهارة الماء - لا تعارض ما سمعت من الاجماعات
والأخبار الكثيرة التي كادت تكون متواترة، بل هي متواترة، وما يستفاد من القاعدة
في نجاسة كل ما تلاقيه هذه النجاسات مع الرطوبة.
وأما الآيات فهي - مع إمكان منع كون كل الماء منزلا من السماء، وما ذكر

(1) الوسائل - الباب - 60 - من أبواب النجاسات. والباب - 13 - من أبواب الماء المضاف.
123

من الآية وتفسيرها معارض بغيره، مع أن احتمال ذلك لا يقتضي حمل اللفظ عليه وإن
كان متبادرا في غيره كماء المطر. ولعل التعليل بقوله تعالى " لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه
مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا " (1) يقضي به، كما نقل عن البيضاوي، ويؤيده أنه ورد
في سبب نزول الثانية (2) أن المسلمين نزلوا في غزوة بدر في كثيب وقد غلب المشركون
على الماء واتفق أنه احتلم في تلك الليلة كثير من المسلمين وقد وقع بسبب ذلك وسواس في
قلوب بعضهم فأنزل الله مطرا في تلك الليلة حتى جرى الوادي وتلبد الرمل الذي بينهم
وبين العدو حتى يثبت الأقدام وذلك قوله تعالى: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به
ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام " (3) لا تقضي
إلا بثبوت هذه الصفة للماء المنزل من السماء إما في الجملة أو حين الانزال، كما هو الظاهر
من قولك ضربت رجلا راكبا، فإنه ظاهر في أن الركوب حال الضرب لا حال
الأخبار. والتمسك على دوامه بثبوته رجوع للتمسك بالاستصحاب وقد عرفت ما فيه.
وقوله تعالى " فلم تجدوا... " إلى آخره (4) مع كون الظاهر من إطلاقها أنه غير مساق لشمول
مثل هذا، لا ريب في أن المراد منها كما بين في محله من لم يقدروا على استعمال الماء عقلا
أو شرعا. ودخول ما نحن فيه تحت القدرة محل الكلام فهي لا تفيد ما نحن فيه، على
أنه قد عرفت بالأدلة المتقدمة أن واجد الماء القليل غير واجد للماء فيكون كواجد
المغصوب والمتغير ونحو ذلك. والرجوع إلى الأصل ونحو ذلك خروج عن الاستدلال.
وأما الأخبار فإنها فاقدة لما تحتاج إليه من الجابر لقصور سند كثير منها أو دلالته،
وربما جمع بعضها الأمرين، بل الوهن متطرق إليها بما عرفت من إعراض الأصحاب

(1) سورة الفرقان آية 51.
(2) تفسير الصافي - سورة الأنفال آية - 11
(3) سورة الأنفال آية 11
(4) سورة النساء آية 46 - وسورة المائدة آية 9
124

عنها ونقل الاجماعات على خلافها. مع أن كثيرا منها مع ظهوره في الماء الكثير إنما
دلالته بترك الاستفصال الذي لا تعارض ما ذكرنا من الأدلة. مع أن الأول (1) في
مجهول الموضوع لا مجهول الحكم، وما يقال من رجوع الأول إلى الثاني فلا يبقى
موضوع للخبر تكلف وتعسف غير مجد بعد ظهور المقصود وامتياز كل من القسمين
عن الآخر بجهل الحكم في الثاني ابتداء وأصلا بخلاف الأول. ولا يكاد يخفى الفرق
بين وقوع الشك في طهارة نطفة الغنم مثلا وبين الشك في عروض النجاسة لمعلوم الطهارة.
وما يقال إن المنجس هنا عارض قطعا إلا أن الشك وقع في تنجيسه مما لا ينبغي أن
يصغى إليه لأن ثبوت تنجيسه في الجملة غير مجد إنما الكلام في تنجيسه في المقام وهو شك
في الحكم عند الشارع. والحاصل فرق بين وقوع الشك في حصول التنجيس عند الشارع
بسبب المباشرة لبعض الأشياء وبين وقوع الشك في عروض ما يعلم ثبوت التنجيس بعد
العلم بمباشرته، والدليل إنما هو الظاهر في الثاني وعدم الالتفات إلى الشك دون الأول.
وعلى تقدير التسليم فنقول إن العلم حاصل في المقام قطعا لما سمعت من الأخبار المتواترة
مع القاعدة المتقدمة في النجاسات مع الاجماعات المنقولة، بل يحصل من ملاحظتها
الاجماع المحصل. وعلى تقدير التسليم فنقول إنه يكفي حصول الظن للمجتهد من الأدلة
ويقوم مقام العلم كالظن المستند إلى الدليل الشرعي في الموضوعات من البينة ونحوها،
فما دل على كبرى الشكل في ظن المجتهد شامل لمثل المقام. لا يقال إن بينهما تعارض
العموم من وجه، لأنا نقول لا يخفى على الممارس المتتبع الخبير الماهر القطع بعموم حجية
ظن المجتهد في سائر الأحكام من غير استثناء للمقام وغيره، وكيف وسائر أحكام الطهارة
والنجاسة في غير المقام مبنية على ظنه في أصل ثبوت النجاسة والتنجيس ولم يسمع من
أحد المناقشة في ذلك بل لو ادعاه مدع لأنكر عليه غاية الانكار، والفقه من أوله إلى
آخره مبني على ذلك. نعم ربما وقع من بعضهم المناقشة في المقام الأول أي عروض

(1) وهو قوله عليه السلام " الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر ".
125

النجاسة لمعلوم الطهارة في الاكتفاء بخبر العدل ونحوه مع أن الظاهر عدمه، وأما في المقام
الثاني فلم يعثر على مناقش فيه فإنه لا يكاد يسمع ممن يعمل بأخبار الآحاد أنه لو جاء
خبر صحيح السند في نجاسة موضوع الحكم بعدم النجاسة لكونه لا يفيد اليقين، إن
ذلك من المكابرات التي لا يصغى إليها، وكيف والاستدلال بهذه الرواية على عدم
الاكتفاء بالظن مبني على حجية ظن المجتهد الحاصل من الأخبار فيتحقق التعارض
والترجيح لما ذكرنا لاستفادته من الأدلة الكثيرة.
وأما الرواية التي ادعى ابن أبي عقيل تواترها فهي - مع أنا لم نقف عليها بعد
التتبع التام في شئ من كتب الأخبار، وكيف يقبل منه هذا النقل مع تبين خلافه بما
سمعت من الأخبار الكثيرة الصحيحة، بل ربما نقل عن بعضهم أنه عثر على ثلاثمائة
خبر تقريبا يدل على النجاسة، مع ما عرفت من اشتهار العمل بين قدماء الصحابة
القريبين إلى عهد الأئمة عليهم السلام ومتأخريهم، وابن إدريس نقل عن المؤالف والمخالف
رواية قوله (صلى الله عليه وآله): " إذا كان الماء قدر كر لم يحمل خبثا " (1) عند الكلام على
طهارة الماء النجس باتمامه كرا. وما سمعت من الاجماعات المنقولة إلى غير ذلك من الأدلة
والشواهد - هي قابلة للتخصيص لظهور إرادة التواتر اللفظي، وإلا فقد عرفت ما فيه،
فإن نقل التواتر لا يزيد على نقل الاجماع، وهو مع ما عرفت لا ينبغي أن يصغى إليه.
ووجود هذه الرواية مرسلة في بعض الكتب لا يقضي بما ادعاه كنقل بعض العامة
لما يقرب منها عن النبي (صلى الله عليه وآله) (2) كما قيل. نعم في السرائر جعل من المتفق

(1) المستدرك - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6. واختلف نقل
المؤلف لمتن الرواية هنا وفي ما يأتي فهنا " إذا كان الماء قدر كر " وفي ما يأتي مرة " إذا بلغ
كرا " وهو النص الموجود في السرائر والمستدرك وأخرى " إذا بلغ الماء قدر كر " وثالثة
" متى بلغ الماء قدر كر ".
(2) وفي تاج العروس في الجزء الثالث في الصحيفة 519 الكر بالضم مكيال لأهل
العراق ومنه حديث ابن سيرين " إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا ".
126

على روايته قول الرسول (صلى الله عليه وآله) " خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شئ إلا
ما غير لونه أو طعمه أو رائحته " (1) وفيه مع إمكان المنع أنه مخصص بما عرفت من نقله
الأول وادعائه إجماع المخالف والمؤالف على رواية " إذا كان الماء قدر كر لم يحمل خبثا "
وأما مصححة ابن حمران فهي لم تدل على أزيد من تشبيه التراب بالماء في
الطهورية، وهو لا يقتضي عدم قبول الماء الانفعال. والحاصل أن كثيرا من هذه الروايات
مع الغض عما في أسانيدها لا دلالة فيها إلا من جهة الاطلاق أو ترك الاستفصال وهو
لا يعارض مما ذكرنا، بل كثير منها ظاهر في كون الماء كثيرا مثل الأخبار الواردة في
الغدران والماء النقيع والحياض ونحو ذلك. كما يقتضيه شرب الدواب وأبوالها، وعدم
تغيرها بالميتة والجيف، والأمر بالوضوء من الجانب الآخر، ونحو ذلك. وأما ما دل
منها بالخصوص كرواية المركن فهي لا تفيد أزيد من عدم اشتراط ورود الماء في غسل
النجاسة به فيطهر المحل ويتنجس الماء، مع أن الأمر بغسله مرتين لا يقضي بوحدة الماء
وعدم غسل الإناء. بل قد يدعى أن المراد وضع الثوب في المركن ثم يصب الماء عليه
ويغسل مرتين. ولعلهم يقولون بصيرورة الثوب والإناء شيئا واحدا فلا يتنجس الثوب
به من ماء الغسالة الأولى وستسمع الكلام فيه إن شاء الله في باب الغسالة.
وأما صحيحة زرارة المشتملة على حبل الخنزير فهي مع ابتنائها على نجاسة
ما لا تحله الحياة من نجس العين لا دلالة فيها على مباشرة الحبل لما يخرج من البئر
مع كونه قليلا.
وأما صحيحة علي بن جعفر عليه السلام المشتملة على إدخال اليهودي والنصراني في الماء
فهي - مع ابتنائها على نجاسة أهل الكتاب وكون الماء قليلا - صالحة للرد كما أنها صالحة
للاستدلال لاشتمالها على النهي حالة الاختيار والرخصة حالة الاضطرار، وكما أنه لا قائل
بالفصل في الثاني فكذلك في الأول، مع احتمالها لحمل الضرورة على التقية وهو الأقوى في ظني.

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 9
127

وأما صحيحة الآخر المشتمل على الرعاف فهو - مع ابتنائه على (عدم) (1) نجاسة
الماء بما لا يدركه الطرف من الدم ومعارضته بخصوص ذلك في خبر علي بن جعفر المتقدم
في أدلة النجاسة - مشتمل على التفصيل بالاستبانة وعدمها. وهي كما أنها حجة له حجة عليه
وحمل الاستبانة على التغير فهو مع بعد حصول تغير الإناء بالقطع الصغار من الدم بعد
الامتخاط، ليس بأولى من حمل الاستبانة وعدمها على العلم بالإصابة وعدمها، بل قد يدعى
ظهوره. وإصابة الإناء مع احتمال إرادة ظن إصابته لا يقتضي إصابة الماء.
وأما حسنة محمد بن ميسر فقد قيل إنها نص في المطلوب فمع الغض عما في
السند وإرادة النجس شرعا من لفظ القذر وموافقتها للعامة وربما يرشد إليه الأمر
بالوضوء، لم يعلم أنه أراد بالقليل ما دون الكر. وظهور ذلك في لسان الفقهاء لا يقتضى
ظهوره في ذلك الزمن، بل الظاهر عدمه، بل في هذا الزمان، والاطلاق إنما هو في
ألسنة الخواص، مع ظهور الرواية أن ذلك لمكان الضرورة فيجري فيها ما ذكرنا.
وكيف كان فدعوى النصوصية لا وجه لها.
وأما خبر زرارة الدال على سقوط الفارة في الراوية، فمع كونها في غاية الضعف كما
قيل وكون الراوية أقل من كر، قد اشتملت على ما لا يقول به الخصم من التفصيل بالتفسخ
وعدمه. وحمله على التغير لا وجه له لانفكاكه عنه. مع أنه إن لم تغيره قبل التفسخ من الانتفاخ
ونحوه لم تغيره بالتفسخ. مع أن ظهورها في عدم جريان الحكم في غير أوعية الماء قاض
بعدم حمل التفسخ على التغير وإلا لتساوي الجميع، والإمام لا يناسب حاله بيان المقدار
الذي يتغير والذي لا يتغير فإنه أمر حسي غير محتاج إلى البيان. وكيف كان فهي
ضعيفة السند متروكة الظاهر.
وأما روايته الأخرى المشتملة على كون جلد الخنزير دلوا فهي مع الغض عما في
سندها لا دلالة فيها على استعمال ما يخرج به، والاستقاء به لا يقضي بذلك بل الظاهر

(1) كلمة (عدم) أضيف في نسخة الأصل تصحيحا ولعل الأولى حذفها الجواهر 16
128

منها السؤال عن جواز ذلك في جلد الخنزير لتخيل حرمة استعماله.
وأما خبر أبي مريم فمع الغض عما في السند أيضا لا ظهور فه في كونها عذرة
الانسان، وفي بعض أخبار البئر (1) إطلاقها على البعرة، مع عدم نصوصية الرواية في
كونها في الماء.
وأما خبر عمر بن يزيد فمع الطعن في السند غير صريح في وقوع ذلك في الماء مع أن
كون الموضع يبال فيه لا يقتضي القطع بكون ما ينزو من الأرض واقعا على مكان البول
والعبارة تقال في مثل هذا المقام.
وأما خبر الأحول فمع الطعن في السند قد يحمل التعليل على مدخلية الاستنجاء
في التعليل، ولعله يستفاد منه طهارة الغسالة.
وأما خبر قرب الإسناد فمع الطعن في السند أيضا وعدم صراحته في نجاسة اليد
ولا كون الغسل أقل من كر قد اشتملت على تفصيل لا يقوله الخصم، وعدم القائل
بالفصل مشترك فيهما.
وأما رواية المختلف المشتملة على سقوط الفارة في القربة فالظاهر أنها مختصرة من
رواية زرارة المتقدمة وقد تقدم الكلام فيها.
والحاصل هذه الأخبار لو كانت صحيحة صريحة في المطلوب لما صلحت للمعارضة
لما ذكرنا لكثرتها وإعراض الأصحاب عما يخالفها والاجماعات على مضمونها، فكيف
وهي كما عرفت من الضعف في سندها والقصور في دلالة الكثير منها، مع موافقتها
لكثير من العامة كما نقل ذلك عنهم.
وأما الوجوه الثلاثة ففي (الأول) ما عرفت من منع الاستفاضة من طرقنا،
كما قدمنا ذلك عند الخبر الذي ادعى ابن أبي عقيل تواتره، نعم في السرائر قد ادعى
أنه من المتفق على روايته عن النبي (صلى الله عليه وآله). وفه مع إمكان المنع وأنه

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - 21.
129

قد ادعى أيضا إجماع المخالف والمؤالف على رواية قوله (صلى الله عليه وآله): " إذا
بلغ الماء قدر كر لم يحمل خبثا " محكوم عليه بما ذكرنا من الأدلة. ورواية السكوني مع
الطعن في السند هي مؤلة فيما ذكر (مضافا إلى ما ذكر في السؤال) (1) وليس حجة، مع
عدم انحصار التأويل فيما ادعاه، مع أنها مشتركة الالزام في المتغير إذا زال تغيره، مع أنها قد يقال لا تتأتى على القول باشتراط الامتزاج، وأيضا لما قام الاجماع على قابلية الماء
للتطهير وجب حمل الرواية على ما لا ينافي ذلك، فيحتمل أن يراد منها أن الماء يطهر غير
ولا يطهره غيره، أو يكون المقصود منها أن لا يطهر كتطهير باقي الأجسام بل لا يكون إلا بصيرورته مع الغير ماء واحدا.
وأما (الوجه الثاني) فهو مع التسليم لا يقضي إلا بطهارة الغسالة خاصة كما هو
المختار، مع أنه يمكنهم الالتزام بنجاسة وحصول التطهير به. والاجماع على عدم جواز
التطهير بالنجس المعلوم منه ما سبقت نجاسته ولتحقيقه مقام آخر.
وما (الثالث) فجميع ما فيه من الترويجات التي لا يرتكبها متحرج في دين الله
وأين إثارة الوسواس والعسر والحرج والناس مستقيمة على ذلك في سائر هذه الأزمنة
ولم ينقل القول إلا عن ابن أبي عقيل إلى إن ظهر الكاشاني. وكيف يجعل اختلاف
روايات الكر دليلا على ذلك مع أن جل أخبارنا لا تخلو من مثل هذا الاختلاف، إنما
ذاك حيث يكون اختلافا يظهر للناظر فيه ذلك. وما ذكره من الجمع بين الأخبار مما
لا يلتفت إليه، ومنصبية الإمامة أجل من أن يكون جميع هذا الوارد منها محمولا على
بيان ما ليس محتاجا إليه في بيانها لكونها من الأمور الحسية. ولا أظنك تحتاج إلى
بيان فساد ما جمع به بين الأخبار فإنه مع عدم تأتيه في بعضها كاد أن يكون خارقا
للاجماع من التفصيل بين الاختيار والاضطرار واستحباب التنزه ونحو ذلك. وكأن
هذه المسألة من البديهيات التي لا ينبغي إطالة الكلام فيها لكن تبعنا في ذلك أثر جملة

(1) الظاهر أن العبارة بين القوسين مقحمة ولم يظهر لها معنى.
130

من علمائنا الأبرار فإنهم قد أطالوا في ذلك سيما جناب سيدنا وأستاد أساتيذنا
السيد المهدي والمهدي، فإنه قد كتب في ذلك رسالة، ولعمري أنها قد تجاوزت الغاية والنهاية،
وكأن الذي دعاهم إلى ذلك خلاف الكاشاني وتمزيقه جملة من الأخبار الدالة على المقام
فكان الباعث على جمعها من سائر الأبواب.
ثم ليعلم أن قاعدة نجاسة القليل قد استثنى الأصحاب منها أمورا بعضها محل وفاق
كماء الاستنجاء وماء المطر بشروط، وبعضها محل كلام كماء الحمام وماء الغسالة وسمعت
الكلام في الأول وتسمع الكلام في الثاني إن شاء الله. وأنت خبير أن هذه الشبهة
المقررة في غسل الأخباث قد ألجأت الكاشاني للقول بطهارة القليل جميعه، والمرتضى
وابن إدريس بطهارة الوارد على النجاسة، وغيرهما غير ذلك. قال المرتضى في الناصريات
على ما نقل عنه بعد قول الناصر ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه
ما حاصله (إني لم أعرف لأصحابنا نصا في ذلك ولا قولا والذي يقوى في نفسي قبل
أن يقع التأمل لذلك صحة ما ذهب إليه الشافعي من الفرق بين الورودين، والوجه فيه
إنا لو حكمنا بنجاسة القليل الوارد على النجاسة لأدى ذلك إلى أن الثوب لا يطهر من
النجاسة إلا بايراد كر من الماء عليه وذلك يشق، فدل على أن الماء الوارد على النجاسة
لا يعتبر فيه القلة ولا الكثرة كما تعتبر فيما ترد النجاسة عليه) انتهى، وفي السرائر
قال محمد بن إدريس: " ما قوي في نفس السيد صحيح مستمر على أصل المذهب
وفتاوي الأصحاب به " انتهى. وربما يؤيد ما ذهب إليه المرتضى (رحمه الله) بأن
أخبار القليل عدا المفهوم منها ظاهرة في غير الوارد على النجاسة. وأما المفهوم ففيه أولا
منع العموم، وثانيا ما عرفت من أنه لا يقتضي سوى أن ما دون الكر ينجسه شئ
ويكفي في مصداقه ما علمنا ثبوته مما كانت النجاسة واردة عليه، ويمكن أن يؤيد أيضا
بخبر عمر بن يزيد المتقدم في المغتسل في مكان يبال فيه ثم ينزو من الأرض على الإناء.
قلت: ومع ذلك فالذي يقوى في نفس بطلانه. لأن الظاهر أن الذي دعى
131

السيد لتخصيص ما هو معلوم من نجاسة القليل حتى نقل عنه أنه في الكتاب المذكور
نقل الاجماع عليه، إنما هو ما ذكره من عدم طهارة الثوب إلى آخره وأنت خبير أنه أخص
من الدعوى، بل اللازم منه حينئذ طهارة ما يستعمل في غسل الأخباث خاصة، مع
إمكان التخلص منه بغير ذلك كما وقع من بعضهم وتسمعه إن شاء الله في الغسالة.
وأما القول بعدم شمول أخبار القليل مضافا إلى خبر عمر بن يزيد المتقدم،
فنقول قد عرفت الكلام في خصوص هذا الخبر، كما أنك عرفت أيضا أنه يستفاد من
ملاحظتها ثبوت قاعدة شاملة للمقام، كما أنه أيضا تستفاد قاعدة أخرى من ملاحظة
أخبار النجاسات أنها تنجس كل ما تلاقيه، نعم غاية ما خرج المعصوم والعالي غير الملاقي
فيبقى الباقي. وأيضا بعض إطلاقات الروايات قد يقال بشمولها لمثل المقام فتأمل.
وأما المفهوم فقد بينا أن التحقيق العموم فيه وهو لا ينافي ما ذكرناه سابقا من المناقشة
لأنها من وجه آخر، وكلام المرتضى لا يكون إلا على عدم العموم، لأنه صار ما دون
الكر على قسمين منه ما ينجسه كل شئ والآخر لا ينجسه شئ، وأما ما ذكرناه من
المناقشة سابقا فهي لا تفيده، وذلك لأنا نقول إن ما دون الكر بجميعه ينجسه شئ
من غير فرق بين الوارد وغيره وهو متحقق في ملاقاة النجاسات والمتنجس عند عدم
تحقق الغسل، نعم هو لا ينجس مثلا بالمتنجس الذي يفيده طهارة ولا أمنع أن ذلك
عند التأمل يرجع إلى عدم عموم المفهوم أيضا فتأمل، على أنا قد قلنا بطهارة الغسالة
لتعارض القاعدتين وعدم شمول مثل هذه العموم الذي يجئ من جهة الحكمة لمثل
الغسالة ونحوها كما تسمعه إن شاء الله، فلا ينافينا إبطال كلام المرتضى بهما هنا، مع أن التأمل في الأدلة يشرف الفقيه على القطع أنه لا خصوصية لما في السؤال من ورود
النجاسة بل قد يدعى عمومية الجواب وخصوص السؤال لا يخصصه، على أنه لو سلمنا
كون المفهوم نجاسة شئ لما دون الكر فالأخبار الأخر تثبت ذلك الشئ وتثبت
النجاسة له على كل حال فتأمل.
132

والحاصل كيف كان يرده بعد ما عرفت من أخصية الدليل من الدعوى
القاعدتان، مع إطلاق بعض الاجماعات، وإطلاق بعض الأخبار مع المفهوم، وما ذكرناه له
من خبر عمر بن يزيد قد عرفت الكلام فيه عند الكلام على القول بالطهارة مطلقا.
ثم إني لم أعلم ماذا يريد بالوارد؟ فإن كان يريد به مجرد وقوعه مستعليا وإن اتحد مع
النجاسة واستقر معها في ثان الأزمان، كما لو فرضنا أن هناك عذرة مثلا ثم وقع عليها
ماء قليل من عال حتى صارت مستقرة في وسطه، أو يريد بالوارد إنما هو مع عدم
الاستقرار مع النجاسة في ثان الأزمان. فإن كان الأول فبطلانه واضح. بل قد يدعى
صراحة بعض الأخبار المتقدمة فيه كترك الاستفصال في آخر، نحو قوله (عليه السلام)
" لا يفسد الماء إلا ما له نفس سائلة " (1) ونحوه من الفارة ونحوها (2)، إذ لا يلزم أن يكون الماء سابقا عليها بل قد تكون سابقة عليه، وأيضا فالمتجه بناء عليه لو رأينا ميتة
في ماء في إناء لكنا لم نعلم بسبق أيهما الحكم بالطهارة وهو واضح الفساد. وإن أراد
الثاني فهو ليس كالأول في الفساد وإن كان فاسدا في نفسه أيضا ولعل كلامه في طهارة
الثوب يقضي بالأول فإن الماء يستقر معه ثم ينفصل سيما إذا غسل في إجانة ونحوها بأن
صب الماء عليه، ومثله غسل الأواني ونحوها. ويحتمل وإن بعد أن يكون مراد
المرتضى بعدم نجاسة الوارد إنما هو عدم نجاسة العالي بالسافل حتى يكون لما ذكره
ابن إدريس من أن فتاوى الأصحاب به وجه صحة فيرتفع الخلاف في البين، ومثله
إجماع كاشف اللثام في المطهرات في الفرع الرابع الذي ذكره العلامة وهو " ينبغي في
الغسل ورود الماء على النجس فلو عكس نجس الماء " قال في كاشف اللثام في شرح قوله
ينبغي إلى آخره: " كما في الناصريات والسرائر ليقوى على إزالة النجاسة ويقهرها " إلى أن
قال: " وإنما لا ينفعل مع الورود للحرج والاجماع " انتهى فإنه إن لم يحمل على إرادة

(1) الوسائل - الباب - 35 - من أبواب النجاسات - حديث 2 و 5.
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 8.
133

عدم انفعال الماء الذي ورد بعضه الذي بسببه يصدق على مجموع الماء أنه وارد فيرجع
إلى عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى كان حجة لنا على عدم نجاسة الغسالة فتأمل
(ويطهر) الماء القليل المتنجس متغيرا أولا (بالقاء كر) فصاعدا إذا زال تغيره
بذلك (دفعة) عرفية لا تدريجا ولا دفعات. وهنا مقدمات لعل لها دخلا في البحث
(الأولى) كل ما شك في قابليته للطهارة فالأصل فيه عدم القابلية، وإطلاق
ما دل على طهورية الماء وأنه أنزل للتطهير بعد القول بشمولها لرفع الخبث لا يقتضه
لاستصحاب النجاسة، ولأن كيفية التطهير ما يرجع فيها إلى الشرع والفرض أنها مفقودة،
ولأن هذه الاطلاقات إنما هي شاملة لأفراد المطهر لا المطهر، ويكفي في صدق الطاهرية
والمطهرية وجودها في بعض أفراد المطهر بالفتح، اللهم إلا أن يستند في ذلك للحكمة سيما
في مثل قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " (1) من حيث وروده في
معرض الامتنان.
(الثانية) كل ما شك في اعتباره في كيفية التطهير فالظاهر اعتباره لاستصحاب النجاسة.
والاطلاقات المتقدمة لا يحصل منها كيفية التطهير، فتبقى على القاعدة. والفرق بين هذه
والسابقة أن هذه في المقطوع في قابليته للطهارة كالماء لكن وقع الشك في كيفية التطهير
من اعتبار الامتزاج مثلا واستعلاء المطهر ونحو ذلك بخلاف تلك.
(الثالثة) قد يظهر في بادئ النظر أن السراية على وفق الأصل أي القاعدة
المستفادة من الأدلة، وذلك بعد قيام الاجماع أن المتنجس ينجس، فمثل الماء المضاف
المستطيل إذا وقعت فيه نجاسة في طرف منه ينجس الطرف الآخر منه في آن وقوع
النجاسة، وذلك لا لسريان عين النجاسة لمكان كونه رقيق الأجزاء فتنفذ فيه النجاسة،
للقطع بعدمها، بل إنما ينجس لكون الجزء الأول ينجس فينجس الجزء الآخر وهو ينجس
الآخر وهكذا، ولا يحتاج في ذلك إلى زمان لحصول علة النجاسة متقدمة على ما يحصل

(1) سورة الفرقان آية - 50.
134

به ذلك وهو الاتصال، ففي الآن الواحد الحكمي يصدق عليه كل واحد من أجزائه
لاقى متنجسا. ولا نريد بالعلة العلة التامة بل المقصود أن العلة في النجاسة إنما هي ملاقاة
المتنجس فهو غير موقوف إلا على حصول ملاقاة عين النجاسة ولو لجزء منه لأنه في ذلك الحين
كل واحد من أجزائه لاقى متنجسا، ومثل ذلك يقرر في الطهارة بعد حصولها لجزء منه.
لا يقال إن ذلك بعينه وارد في الجامد كالدهن مثلا إذا لاقى نجاسة فإن كل جزء منه
لاقى متنجسا، لأنا نقول إنه لم يقم إجماع على أن ملاقاة المتنجس تنجس في الجامد بل
الاجماع على خلافه، بخلافه في المايع ومرادنا بموافقة الأصل في السابق إنما هو بعد هذا
الاجماع. وفيه أنه يرجع بالأخرة إلى القول بأنه قام الاجماع على عدم السراية في الجامد
دون المايع ومن هنا يتجه احتمال أن يقال إن السراية على خلاف الأصل وتنجيس
المايع كله بتنجيس طرف منه لعله للصدق عليه أنه لاقى نجسا ولو لاقى بعض أجزائه، فما
دل على نجاسته بمجرد الملاقاة يشمله، والقول بأنه قام الاجماع على أنه إذا لاقى متنجسا
ينجس وهذا متحقق هنا يدفعه أنه إن دخلت مثل هذه الملاقاة لمثل هذا المتنجس تحت
معقد الاجماع فالنجاسة فيه حينئذ من الاجماع لا من السراية، وإلا فهو مبني على
مسألة السراية. فالتحقيق الرجوع إلى ما تقتضيه الأدلة الشرعية فيتبع مضمونها في
الجامد والمايع والعالي والسافل وغيرهما مع تحكيم أصل الطهارة فيما لا يندرج تحتها.
(الرابعة) لا مانع عقلا من كون الماء الواحد بعضه طاهرا وبعضه نجسا سيما
مع سبق الوصفين لماءين ثم اختلطا، لامتناع تداخل الأجسام فتكون الأجزاء الطاهرة في علم
الله باقية على الطهارة والنجسة على النجاسة، ولو ارتمس فيه مرتمس ارتفعت جنابته باشتمال
الماء الطاهر عليه وإن كان ينجس حين يخرج. بل ولا شرعا، اللهم إلا أن يدعى الاجماع.
وقد يناقش فيه بأنه لازم للقول باشتراط الامتزاج إذ أول جزء من الطاهر إذا لاقى
أول جزء من النجس لا ريب في صيرورة هذين المتلاقيين ماء واحدا مع أنه لا يقول
بالطهارة إلا بعد الامتزاج، فيلزمه أن يكون ما قبله بعضه طاهر وبعضه نجس، وكذلك
135

يلزم بناء على اشتراط الاستعلاء في الكر المطهر. وجعل ما ذكرنا إلزاما لهم ليس
بأولى من جعله إنكارا لهذه الدعوى، مع أن فيهم الفضلاء الذين يبعد عدم تنبههم
لمثل ذلك فتأمل.
إذا عرفت هذا فنقول لا كلام في حصول الطهارة بما ذكره المصنف بل نقل
الاجماع عليه بعضهم وكأن ذلك منهم مبني إما على عدم اشتراط الامتزاج في مثل هذا
الطريق من التطهير أو أنه متى ألقي الكر دفعة عرفية تحقق الامتزاج. وهو متجه مع
قلة المطهر أو الاكتفاء بامتزاج البعض، إنما الكلام في أنه لا يطهر إلا بهذا إذا كان التطهير
بالماء المحقون أو أنه يحصل بدون ذلك؟ قد يظهر من المصنف وغيره الأول لأن عبارات
الفقهاء كالقيود، ويستفاد منها حينئذ أمور ثلاثة: (الأول) الالقاء و (الثاني) أن
يكون كرا و (الثالث) أن يكون دفعة، وفي الكل خلاف.
أما (الأول) أي اشتراط الالقاء فهو مشعر باشتراط كون المطهر مستعليا،
وكذا ما في الروضة من أن المشهور اشتراط طهر القليل بالكر وقوعه عليه دفعة. وما في
التذكرة أنا نشترط في المطهر وقوع كر دفعة إلى غير ذلك مما وقع من الأصحاب مما
يشعر به. لكن أظن أن مراد من وقعت منه مثل هذه العبارة إنما هو في مقابلة الشيخ
المكتفي بالتطهير ولو بالنبع من تحت، أو أمر آخر لا مدخلية له فيما نحن فيه، وإلا فلا
أظن أحدا ينازع في الطهارة مع مساواة المطهر، بل عن الروض الاتفاق على حصول
الطهارة بذلك. ولعله كذلك فإن دعوى عدم حصولها فيما لو كان حوضان مثلا مفصول
بينهما بفاصل وكان أحدهما طاهرا والآخر نجسا ثم رفع الفاصل بينهما بحيث صارا حوضا
واحدا مما لا يصغى إليها. وكذا لو ألقي الماء القليل في الكر، ولعل ما وقع من المحقق
(رحمه الله) من عدم طهارة أحد الغديرين بالغدير الطاهر الآخر الكر إذا وصل بينهما
بساقية مبني على عدم حصول الامتزاج كما فهمه منه بعضهم، ويشعر به تعليله بتمييز
الجواهر 17
136

الطاهر عن النجس، وبأن النجس لو غلب الطاهر لنجسه فليبق على حاله إذا لم يغلب،
لا لعدم حصول الاستعلاء. وربما يشير إلى ما ذكرنا من إرادة ذلك في مقابل الشيخ
أن العلامة في التذكرة ذكر العبارة السابقة في الرد على الشافعي حيث اكتفى بالتطهير
بالنبع من تحت، وكذا ما في القواعد: " وإنما يطهر بالقاء الكر عليه دفعة ولا يطهر
باتمامه كرا ولا بالنبع من تحت ".
والحاصل من أعطى التأمل في كلامهم علم أنهم يكتفون بمجرد المساواة. لا يقال
إن اشتراطهم للدفعة يقضي بالاستعلاء، ولذلك قيل إنه مما يدل على اتفاقهم على اشتراط
الدفعة تصريح بعضهم بعدم طهارة أحد الغديرين الموصول بالآخر بساقية إذا كان كرا،
لأنا نقول إن اشتراط الدفعة في كلامهم لعله لاخراج الالقاء ليس دفعة بل تدريجا، كما
إذا كان الكر في آنية ضيقة الرأس وصب على النجس، فتكون الدفعة إنما هو شرط
في الالقاء لا شرط في التطهير، يعني إذا ألقي الكر عليه يشترط فيه أن يكون دفعة،
أو لاخراج إلقائه دفعات. ومما يرشد إلى ذلك أن العلامة (رحمه الله) في المنتهى في الغديرين
قال " أما لو كان أحدهما أقل من كر ولاقته نجاسة فوصل بغدير بالغ كرا، قال بعض
الأصحاب: الأولى بقاؤه على النجاسة لأنه ممتاز عن الطاهر مع أنه لو مازجه وقهره لنجسه.
وعندي فيه نظر فإن الاتفاق واقع على أن تطهير ما ينقص عن الكر بالقاء كر
عليه، ولا شك أن المداخلة ممتنعة فالمعتبر إذا الاتصال الموجود هنا " وقال أيضا بعد
ذلك بورقة وصفحة تقريبا: (مسألة الماء القليل إن تغير بالنجاسة فطريق تطهيره القاء
كر عليه أيضا دفعة فإن زال تغيره فقد طهر إجماعا " إلى أن قال: " قال الشيخ في
الخلاف (يشترط في تطهير الكر الورود) وقال في المبسوط (لا فرق بين كون الطارئ
نابعا من تحته أو يجري إليه أو يغلب) فإن أراد بالنابع ما يكون نبعا من الأرض ففيه
إشكال من حيث أنه ينجس بالملاقاة فلا يكون مطهرا وإن أراد به ما يوصل إليه من
تحته فهو حق " انتهى. ولا ريب أن الذي يقتضيه التدبر في جميع كلامه - من اكتفائه
137

بمجرد الملاقاة مع اشتراطه الدفعة، وعدم مناقشته الشيخ إلا في النابع، وفهمه من خلاف
بعض الأصحاب في الغديرين الامتزاج، ومما نقل الاجماع عليه من القاء كر عليه -
إرادة ما ذكرنا، بل يلوح منه عدم ظهور الالقاء في الاستعلاء. نعم ربما ظهر من نقله
عن الشيخ في الخلاف أنه مخالف في ذلك، لكنه يهونه إنا لم نجده فيه. هذا كله مع
التساوي، وأما حيث يكون من تحت فإن كان من نبع من الأرض فإن كان من فوارة
بحيث يكون مستعليا على الماء النجس فالظاهر حصول التطهير به إن كان استعلاء بحيث
لا يمس الماء النجس إلا بعد نزوله نعم يبقى إشكال الدفعة ويأتي الكلام فيه إن شاء الله،
نعم قد يتجه على كلام العلامة (رحمه الله) من اشتراط الكرية في الجاري عدم التطهير إلا على
ما فهمه كاشف اللثام سابقا في تطهر الجاري وإن كان لا من فوارة، بل إنما ينبع
ملاقيا للماء النجس، فبناء على الاكتفاء بالاتصال في التطهير بمثله على تسليم الملازمة السابقة
من أنه ليس لنا ماء واحد بعضه طاهر وبعضه نجس وقلنا لا يشترط في الجاري الكرية
يتجه القول بالطهارة، وإلا أمكن المناقشة فيه لاستصحاب النجاسة كما عرفت سابقا.
واحتمال توجه المناقشة في الطهارة هنا وإن سلمت تلك المقدمة من جهة عدم استعلاء المطهر
ومساواته في غاية الضعف. لأن هذا الشرط قد وجد في بعض عبارات المتأخرين
وكأنه خال عن السند. وكيف يتجه لهم اشتراطه مع تسليمهم تلك المقدمة وهي أنه ليس
لنا ماء واحد بعضه طاهر وبعضه نجس، فإنه لو فرض هذا النابع امتزج بما فوقه مع
كونه غير قابل للنجاسة لا محيص عن القول بالطهارة وإلا انتقضت تلك المقدمة. واحتمال
القول بها بشرط إحراز هذا الشرط وهو الاستعلاء أو المساواة وإلا فلا مانع من كون
ماء واحد بعضه طاهر وبعضه نجس فيه ما لا يخفى إذ مرجعه إلى الشرط التعبدي المحض
وهو لا دليل عليه. على أنه كيف يتجه لهم ذلك مع أنه من المقطوع به أنه لو ألقي
الماء النجس في الكثير طهر به مع أنه لا استعلاء فيه ولا مساواة. لا يقال إنه بعد أن
ألقي فيه صار مساويا له فيطهر حينئذ من هذه الجهة، لأنا نقول كذلك أيضا الماء النابع
138

من تحت بعد خروجه صار مساويا لما اتصل به، إذ لا نريد بالمساواة المساواة لأعلى
سطح الماء، وإلا لكان لا يطهر الماء النجس إذا كان في إناء ثم كسر في قعر الحوض.
فإن قلت: هذا التطهر لما يلقى في الكثير إنما هو من جهة الاستهلاك فحينئذ لا فرق بين
أن يلقى عليه الطاهر أو بالعكس قلت: هو مع كونه تخصيصا لمحل النزاع من غير مخصص،
وأنه ينبغي أن يلتزموا بطهارة ما إذا كان مستهلكا في جنب النابع، أنه لا معنى للقول بالاستهلاك
في المتنجس، نعم إنما يظهر وجه الاستهلاك فيما يكون مدار النجاسة فيه الاسم لا الذات،
على أنا نفرض ما أوردناه في كثير متنجس القي في مثله طاهر أو يقرب منه بحيث لا يظهر فيه
استهلاك له. وكيف كان فلا أرى وجها لاشتراط استعلاء المطهر أو مساواته بعد تسليم تلك
المقدمة وتحققها واحتمال التمسك باستصحاب النجاسة ولا إطلاق قاطع له فيه مع أنه لا يصلح
سندا للمشترطين نعم إنما يتجه لغيرهم بعد حصول الاشتراط منهم حتى يحصل الشك أنك
قد عرفت أنه لا معنى له بعد تسليم المقدمة السابقة. ويؤيده أيضا إطلاق قولهم يطهر
الجاري بما يخرج إليه من المادة متدافعا، مع أن الغالب في المادة عدم العلو. وكذا
ما يأتي في تطهير البئر لو تغير، إذ الطاهر للمتأمل في أخبارها أنها تطهر بما يتجدد من
الذي يخرج منها. هذا كله في النابع حيث يكون من ينبوع، وأما حيث يكون ترشحا
فالظاهر ابتناء حصول التطهير به على ما تقدم من أنه هل يدخل في الجاري أو غيره من
أفراد النابع أو لا؟ ويجري جميع ما ذكرنا فيما كان الخارج من تحت وليس نبعا من
أرض بل كان راكدا ولكن أخرج بفوارة أو نحوها فتأمل. وظاهر عبارة المنتهى
السابقة المشتملة على الترديد في كلام الشيخ عدم اشتراط الاستعلاء والمساواة. وأما
استشكاله في النابع من الأرض فمن جهة بنائه على النجاسة بالملاقاة ما لم يكن كرا. ونقل
في كشف اللثام عن المعتبر مثل عبارة المنتهى في الترديد. فيكونان موافقين لما قلنا من
عدم اشتراط الاستعلاء، لكن لم أعلم أن المحقق استشكل أيضا في النابع من الأرض
من تحت كما في المنتهى أو لا، فإنه على تقديره مشكل لعدم اشتراطه الكرية فتأمل.
139

وعن نهاية الإحكام أنه لو نبع من تحت فإن كان على التدريج لم يطهره وإلا طهره.
ولعل هذا الكلام منه (رحمه الله) ليس خلافا لما ذكرنا بل هو من جهة اشتراط الدفعة،
وكذا ما في التذكرة " لو نبع الماء من تحته لم يطهر وإن أزال التغير خلافا للشافعي لأنا
نشترط في المطهر وقوعه كرا دفعة " إذ لعله أيضا من جهة اشتراط الكرية، وقوله:
وقوعه ليس صريحا في ذلك، بل ولا ظاهرا عند التأمل الدقيق، وقد سمعت ما نقله
في المنتهى عن المبسوط من عدم الفرق بين المستعلي وغيره وقال في الذكرى: " وطهر
القليل بمطهر الكثير ممازجا فلو وصل بكر مماسة لم يطهر، للتمييز المقتضي لاختصاص
كل بحكمه. ولو كان الملاقاة بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين
أو علو الكثير كماء الحمام ولو نبع الكثير من تحته كالفوارة فامتزج طهره لصيرورتهما
ماء واحدا، أما لو كان ترشحا لم يطهر لعدم الكثرة الفعلية " انتهى ويظهر للمتأمل
فيها موافقته لما ذكرنا، وقوله: (كالفوارة) ليس نصا في الاستعلاء فتأمل.
وأما اشتراط (الكرية) فكأنه لا خلاف فيه بناء على القول بأنه ينجس بالملاقاة.
والقول بطهارة الماء القليل باتمامه كرا ليس خلافا فيما نحن فيه لأنه لا يقول إن المطهر أقل
من كر بل المطهر إنما هو بلوغه هذا الحد، ولذلك يقول به لو كمل بمتنجس، مع أنه
لا معنى للقول بالتطهير به. وأما بناء على القول بأن الماء القليل لا ينجس بالملاقاة فالظاهر
عدم حصول تطهير الماء المتنجس به ولعله يلتزم أن يكون الماء الواحد بعضه طاهر وبعضه
نجس. لكن يحتمل القول بالتطهر بناء على هذا القول إذ يكون حاله كحال الكر
لا ينجس إلا بالتغير فيطهر كل شئ يلاقيه، بل لعله الأقوى حينئذ.
وأما اعتبار (الدفعة) فقد وقع في كلام جملة من علمائنا كالمصنف والعلامة
وغيرهما وفي الحدائق الظاهر أنه المشهور بين المتأخرين. ويظهر من كلام آخرين عدم
اعتبارها وصرح به بعضهم. والمراد بالدفعة إنما هي العرفية لا الحكمية لتعذرها واعتبارها
يفيد أمرين: الأول أن يلقى تمام الكر فلو اتصل به ثم انقطع لم يكف وإن حصل
140

الامتزاج، الثاني أن يكون دفعة والمرجع فيها إلى العرف، وفي كاشف اللثام في تفسير
عبارة العلامة من اعتبار الدفعة بأن المراد بها لا دفعتين ولا دفعات بأن يلقى عليه مرة
نصف كر ثم نصف آخر. وهو تأويل بعيد جدا، فإن هذا المعنى يجزي عنه قوله القاء
كر إذ الظاهر منه المجتمع. وكيف كان فغاية ما يمكن الاستناد إليه في اعتبار الدفعة
النص المرسل عن المحقق الثاني. وما في المدارك من أنا لم نعثر عليه في كتب الحديث
ولا نقله ناقل في كتب الاستدلال غير قادح، إذ عدم الوجدان لا يقضي بعدم الوجود.
وعن المحقق الثاني أيضا نسبته إلى تصريح الأصحاب فيكون هذا وما في الحدائق من
نسبته إلى المشهور بين المتأخرين على الظاهر جابرين لهذا المرسل، مع أن استصحاب
النجاسة محكم ولا بيان لكيفية التطهر. هذا كله مع التأييد بأن مع التدريج ينجس كل
جزء يصل إلى الماء النجس لعدم تقوي السافل بالعالي. وعن الشيخ علي بعد أن ذكر كلام
الشهيد في الذكرى بأنه يطهر بالقاء كر عليه متصل ولم يشترط الدفعة، بأن فيه تسامحا لأنه
بوصول أول جزء منه إلى النجس يقتضي نقصانه عن الكر فلا يطهر واعترضه في المدارك
بأنه يكفي في الطهارة بلوغ المطهر الكر حال الاتصال إذا لم يتغير بعضه النجاسة وإن
نقص بعد ذلك، مع أن مجرد الاتصال لا يقتضي النقصان كما هو واضح، وكأن كلام
المحقق ينحل إلى أنه لا معنى للاقتصار على الكر بل لا بد من الزيادة، لا أنه تعليل
لاعتبار الدفعة. وما في المدارك أيضا من أن تصريح الأصحاب بالدفعة ليس حجة، مع
أن العلامة في التحرير والمنتهى اكتفي في تطهير الغدير القليل النجس باتصاله بالغدير
البالغ كرا، ومقتضى ذلك الاكتفاء في طهارة القليل باتصال الكر وإن لم يلق كله،
فضلا عن كونه دفعة - يدفعه ما عرفت سابقا من أن ذلك لا ينافي اعتبار الدفعة،
لما قدمنا أن المراد أنه إذا كان التطهير بالقاء الكر يعتبر فيه أن يكون دفعة، فحينئذ
لا ينافي قولهم طهارة أحد الغديرين بالآخر لأنه ليس تطهيرا بالالقاء، فلا معنى
لما ذكره في المدارك، ومما يرشد إلى هذا تنظير العلامة في جريان ماء الحمام إلى سواه.
141

وما ذلك إلا من جهة استعلاء المادة وعدم حصول الدفعة.
والتحقيق الذي لا ينبغي المحيص عنه إلا لدليل خاص تعبدي هو أن يقال إنه
إن قلنا أن السافل يتقوم بالعالي وإنه ليس لنا ماء واحد بعضه طاهر وبعضه نجس لا بد
من الالتزام بعدم اشتراط الدفعة، بل ولا القاء تمام الكر، وذلك لأنه إذا ألقي الكر
تدريجا من علو فالسافل حينئذ متقوم بالعالي كما هو الفرض، فإذا اتصل أو امتزج
على اختلاف الرأيين بالماء النجس فلا ريب في صيرورة القدر الذي اتصل مع المتصل
به ماء واحدا. وإن قلنا أن العالي مع الماء النجس غير متحد فحينئذ إما أن يطهر
النجس أو ينجس الطاهر أو يبقى كل على حكمه: أما الأول فهو المقصود، وأما الثاني
ففاسد لما عرفت من تقوي السافل بالعالي، وأما الثالث فقد عرفت أنه ليس لنا ماء
واحد بعضه طاهر وبعضه نجس. وأما احتمال أن يقال إنها تطهر الأجزاء الملاقية دون
الباقي، ففيه أولا أنه لا معنى لطهارة بعض الماء النجس دون بعض مع توافق الصفات،
وثانيا أنه إذا طهرت تلك الأجزاء فقد تقوت بما لا قت - وإلا نجست ما بعدها - فتطهر
غيرها وهكذا، ولا يحتاج إلى زمان لحصول الاتصال سابقا، هذا إن قلنا أن السراية
في الطهارة على مقتضى الأصل، وثالثا بعد تسليم تلك المقدمة وهي أنه ليس لنا ماء واحد
إلى آخره لا معنى للقول بطهارة الأجزاء الملاقية فقط، وذلك لأنه لا شك في أن هذه
الأجزاء التي طهرت مع غيرها ماء واحد، ولا معنى لكون بعضه طاهرا وبعضه نجسا وهكذا
بالنسبة للباقي. هذا ولكن قد عرفت المناقشة في هذه المقدمة وأنه لم نعرف مستندها من إجماع
أو غيره، إلا أنه لا يلزم من ذلك اشتراط الدفعة بل أقصاه اشتراط وقوع تمام الكر
ولو تدريجا، لأن النجاسة مستصحبة ولا يحصل اليقين برفعها إلا بذلك وما يقال إن مثل
ذلك أيضا يقرر في اشتراط الدفعة حينئذ يدفعه أنه لا شك بالنسبة إليها عند التأمل حتى يتمسك
بالاستصحاب. وما في كلام المحقق الثاني من نسبته إلى الأصحاب مع النص لم نتحققه،
بل الظاهر خلافه ولذلك نسبه في كاشف اللثام إلى بعض المتأخرين. بل قد يناقش في
142

اشتراط وقوع تمام الكر فضلا عنها، لما يستفاد من النظر في أخبار الحمام (1) من حصول
الطهارة لما في الحياض بما يخرج من المادة من غير اشتراط ذلك، لكن هل يخص بالحمام
أو يسري إلى غيره؟ ولعل القول بالتعدي لا يخلو من قوة. ومنه يعلم عدم اشتراط
الدفعة أيضا، لكن الظاهر أنه بناء على وقوعه تماما يعتبر فيه أن يقع من غير أن يقطع
الماء النجس عمود الماء الواقع، ومتى شك في الانقطاع فالاستصحاب قاض بعدمه فتأمل.
هذا كله بناء على المختار من تقوم السافل بالعالي وإلا فقد يتجه حينئذ اعتبار الدفعة.
وأما بناء على ما يظهر من بعضهم من الفرق بين تقويم السافل العالي وبين تقوم السافل
بالعالي فمنع الأول وأجاز الثاني. والفرق بينهما أن الأول يكون الكر فيه مجموع السافل
والعالي وهو ممنوع، والثاني ماء قليل سافل متقوم بكر عال، وحينئذ يشترط فيه أن
يكون العالي كرا فصاعدا ومتى نقص لا يتقوم السافل به. وكأن وجهة تسرية ماء الحمام
إلى غيره بعد أن فهم من أخباره هذا المعنى لتقوم ما في الحياض بما في المادة، والغالب
أن ما في المادة يزيد على كر دائما فحينئذ يقتصر على تقوم السافل بالعالي إذا كان كرا
فصاعدا، بخلاف تقويم السافل للعالي فإنه لا دليل عليه - فالظاهر أنه على هذا المذهب
يشترط في المطهر أن يكون زائدا على الكر حتى يكون هذا الواقع الملاقي متقوما بذلك
العالي الذي هو كر. وكأن كلام المحقق الثاني المتقدم مبني على ذلك فتأمله. وحينئذ
يكون كلام صاحب المدارك في الاعتراض عليه لا يخلو من تأمل.
وأما (الامتزاج) فقد اعتبره جماعة ونسب إلى الأشهر، وهو الذي يظهر من
المحقق في المعتبر والعلامة في التذكرة والشهيد في الذكرى قال في الأول: " الغديران
الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد فلو وقع في أحدهما نجاسة لم ينجس
ولو نقص كل واحد منهما عن الكر إذا كان مجموعهما كرا فصاعدا " ثم قال: " الثالث
لو نقص الغدير فنجس فوصل بغدير فيه كر ففي طهارته تردد والأشبه بقاؤه على النجاسة

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق.
143

لأنه ممتاز عن الطاهر " وفي التذكرة: " لو وصل بين الغديرين بساقية اتحدا إن اعتدل
الماء، وإلا ففي حق السافل فلو نقص الأعلى عن الكر انفعل بالملاقاة فلو كان أحدهما
نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتصال وانتقاله إلى الطهارة مع الممازجة، لأن النجس
لو غلب الطاهر نجسه مع الممازجة فمع التمييز يبقى على النجاسة "، وفي الذكرى: " وطهر
القليل بمطهر الكثير ممازجا فلو وصل بكر مماسة لم يطهر للتمييز المقتضي لاختصاص كل
بحكمه ولو كان الملاقاة بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين
أو علو الكثير " وقد ناقشهم بعض المتأخرين بحصول التدافع بين الحكمين، فإنه
متى كان وصل الغديرين بساقية قاضيا باتحادهما في القسم الأول يلزمهم الاعتراف به
في القسم الثاني إذ الموجب لذلك كونهما ماء، والنجاسة لا تخرجه عن المائية الموجبة
للاتحاد في الصورة الأولى. قلت لعل كلامهم هنا مؤيد لما ذكرنا سابقا من المناقشة في
تلك الملازمة أي بين الوحدة وحصول الطهارة، وأنه لا مانع من كون الماء الواحد
بعضه طاهرا وبعضه نجسا. فإن قلت تعليلهم بالتمييز قاض بعدم الوحدة فيحصل التدافع
حينئذ، قلت هو غير قاض بذلك بل مقصودهم عدم حصول الامتزاج وإنهما متميزان
وإن كان الرائي غير العالم بحالهما يحسبهما ماء واحدا غير متميز أحدهما عن الآخر، فليس
المقصود من هذا التعليل عدم حصول الاتحاد. ومما يؤيد ذلك أن الشهيد الثاني نقل عنه
في الروض أنه صرح بالاتحاد، ومع ذلك حكم بعدم حصول الطهارة لكون الامتزاج
شرطا ولم يحصل. وكأن مستندهم في ذلك الاستصحاب والتميز المقتضي لاختصاص
كل بحكمه. وقد يستدل لهم أيضا بأنه حيث يكون طاهرا ووصل دخل تحت قوله
(عليه السلام): " إذا كان الماء قدر كر " إلى آخره بخلاف ما إذا كان نجسا لاشتراط كون
ذلك الماء طاهرا وإلا لم يكون وجه لقوله " لم ينجسه شئ " نعم على رواية لم يحمل خبثا ربما
يكون داخلا، لكن لا نقول بمقتضاها كما ستعرف عند قوله: (ولا يطهر باتمامه كرا)
الجواهر 18
144

وبأن المعروف من الماء المطهر حيث يطهر أن يداخل المطهر ويتخلل في أجزائه ويجري
عليه حيث يكون جسما قابلا لذلك، وإلا فلا معنى للقول بطهارة الطرف البعيد المتناهي
في البعد بمجرد ملاقاته لأول أجزاء الطرف الآخر، والقول أن الأجزاء الملاقية طهرت
بالملاقاة وهي طهرت غيرها للملاقاة والامتزاج وهكذا خيال حكمي لا يصلح أن يكون مستندا
للحكم الشرعي من غير دليل، على أنه مبني على السراية وهي مخالفة للأصل في وجه.
وكأنه لذلك ظهر من بعض المتأخرين أنه لا يحصل الطهارة إلا مع استهلاك الماء النجس
في الماء الطاهر واضمحلاله بأن يكون الماء الكثير أوسع سطحا من الماء القليل ونحو ذلك.
فالمدار حينئذ حصول الامتزاج على وجه يستهلك الماء النجس في جنب الماء الطاهر
ويضمحل. وربما أيد هذا الوجه بما نقل عن صاحب المعالم من التحقيق بأنه لما دل النص
والاجماع على أن وقوع النجاسة في الكثير لا تمنع من استعماله ولا تؤثر فيه تنجيسا
وإن كثرت ما لم يتغير بها لاستهلاكها فيه واضمحلالها في جنبه، فيدل بمفهوم الموافقة
على أن الماء النجس بهذه المثابة فإذا وقع الماء عليه وصار مستهلكا فيه بحيث شاعت أجزاؤه
ولم يتميز وجب الحكم بطهارته. والظاهر أن مراده بالاستهلاك امتزاج الجميع بالجميع
لا من جهة القلة والكثرة.
ويتوجه على ما ذكره هذا المتأخر أنه إن أراد بالاستهلاك من جهة القلة والكثرة
بمعنى أنه لا بد وأن المطهر أكثر من المطهر بالفتح بحيث يستهلك في جنبه كما يقضي به
استدلاله عليه بالحديث المشهور (1) " إن الماء يطهر ولا يطهر " بالحمل على أن المراد أنه
ليس صورة يطهر فيها إلا بالاستهلاك والاضمحلال وحينئذ يكون كالمعدوم، فيتجه قوله
لا يطهر ففيه أنه مخالف للاجماع الذي ستسمعه من المحقق الثاني في رده القول بالامتزاج.
وقال في كشف اللثام: " لا خلاف في طهر الزائد على الكر أضعافا كثيرة بالقاء كر عليه
وإن استهلكه " وفي المختلف: " إن الاتفاق واقع على أن تطهير ما نقص عن الكر

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 و 6 و 7.
145

بالقاء كر عليه دفعة " وهو باطلاقه شامل للنقصان الذي لا يستهلك بالقاء الكر بأن
كان ناقصا قليلا، على أنه يحتمل أن يريد بالنقصان عن الكر من باب المثال لتحقق
النجاسة وإلا فلا تفاوت. وإن أراد بالاستهلاك حصول الامتزاج أي الجميع بالجميع فله
وجه بل يمكن حمل كلام القائلين باشتراط الامتزاج عليه، فإن الظاهر من التأمل في
كلامهم أن امتزاج بعض الأجزاء مع بعض لا يكفي في تطهير الجميع، ومما يرشد
إلى ذلك قوله في كاشف اللثام في تحرير محل النزاع: " وهل يعتبر الممازجة واختلاط
أكثر الأجزاء بالأكثر أو الكل بالكل اعتبرها في التذكرة كالمعتبر ونحوهما الذكرى "
وهو ظاهر فيما ذكرنا، لكن عن المحقق الثاني أنه قال: " في إلزام القائلين بالامتزاج
إن أريد به امتزاج مجموع الأجزاء بالمجموع لم يتحقق الحكم بالطهارة لعدم العلم بذلك
بل ربما علم عدمه. وإن أريد به البعض لم يكن المطهر للبعض الآخر الامتزاج بل مجرد
الاتصال. وحينئذ فيلزم إما القول بعدم طهارته وهو باطل قطعا للاجماع على أنه ليس
وراء الامتزاج المذكور شرط آخر لطهر الجميع، أو القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال
وحينئذ فيلزم القول به مطلقا " وفيه أنه يراد الأول قوله لم يتحقق الحكم بالطهارة
قلت إن أراد به دائما فهو ممنوع فإنه في غالب الأوقات يحصل العلم بالامتزاج كما إذا
كان النجس قليلا أو كان ذا صفات قد اضمحلت ونحو ذلك، وإن أراد أنه يتفق في
بعض الأوقات عدم حصول العلم أو العلم بالعدم ففيه أنه لا مانع من التزام عدم الطهارة
حينئذ. وكيف لا وهو ثمرة المسألة. أو يراد الثاني لكن الأكثر بالأكثر، قوله (لم يكن
المطهر للبعض الآخر الامتزاج) إلى آخره فيه أن مسألة التطهير تتبع الدليل الشرعي
ولعله الاجماع في المقام كما ادعاه، وكيف يقاس هذا على ما لم يحصل الامتزاج بالمرة،
فإنه قد يكون لهذا الامتزاج مدخلية لا سيما إن قلنا الأكثر بالأكثر، ولذلك عدل عن
هذا التقرير في كاشف اللثام ويظهر منه أن امتزاج البعض كاف في طهارة البعض
الممتزج، بل يظهر منه دعوى الاجماع وهو لا يخلو من نظر. فقال: " أنه مع الاتصال
146

لا بد من اختلاط شئ من الأجزاء فأما أن ينجس الطاهر أو يطهر النجس أو يبقيان
على ما كانا عليه والأول والثالث خلاف ما أجمع عليه فتعين الثاني، وإذا طهر ما اختلط
من الأجزاء طهر الباقي إذ ليس لنا ماء واحد في سطح واحد تختلف أجزاؤه طهارة
ونجاسة بلا تغير. وأيضا لا خلاف في طهر الزائد على الكر أضعافا كثيرة بالقاء كر عليه
وإن استهلكه وربما كانت نسبة ما يقع فيه الاختلاط منه ومن أجزاء النجس إلى مجموع
أجزائه كنسبة ما يقع فيه الاختلاط بين القليل والكثير عند أول الاتصال، فإما أن
يقال هنا أنه يطهر الأجزاء المختلطة ثم هي تطهر ما جاورها وهكذا إلى أن يطهر الجميع،
فكذا في ما فيه المسألة، وإما أن لا يحكم بالطهارة إلا إذا اختلط الكر الطاهر بجميع
أجزاء النجس ويحكم ببقائه على الطهارة وبقاء الأجزاء الغير المختلطة من النجس
على النجاسة إلى تمام الاختلاط، وقد عرفت أنه ليس لنا ماء واحد في سطح واحد تختلف
أجزاؤه من غير تغيير، وأيضا فالماء جسم لطيف سيال تسري فيه الطهارة سريعا كما
تسري فيه النجاسة ولا دليل على الفرق بينهما ".
وفيه أنه مبني على تلك المقدمة التي قد عرفت المناقشة فيها سابقا وأنه لم يقم
عليها دليل. وأيضا لا مانع من التزام أن يقال في تطهير الكر الملقي على الأكرار يشترط
أن يمتزج بما طهره وهما معا يمتزجان بغيرهما بشرط أن لا يقطع النجس عمود الماء وهكذا
إلى أن يستوعب الماء، فليس الممتزج الكر وحده بل هو وما طهره بالامتزاج وهكذا،
ولا ينفع الامتزاج السابق قبل حصول الطهارة، لأنه امتزاج نجس، والقول أنه يحصل
حين امتزاج البعض الأول الامتزاج للجميع فيحصل الطهارة في غاية الضعف، لأن
الامتزاج أمر عرفي، ولا ريب أن هذا الماء الآن في هذا المكان غير ممتزج بالآخر
قطعا. ودعوى امتزاج كل بالقريب منه مغالطة واضحة، على أنا نقول إن المعتبر
الامتزاج بالمعنى الذي ذكرنا ولا يلزم منه القول بما ذكر فلا وجه لإلزامهم بما يقطع
بعدم إرادتهم له من ذكر الامتزاج. وقوله أخيرا (لا دليل على الفرق) فيه أن الدليل
147

واضح، أما النجاسة فللأدلة (1) التي دلت على أن الماء القليل ينجس بالملاقاة وليس
النجاسة فيه للسراية حتى يورد عليه أن الطهارة مثله. ومما ذكرنا ظهر لك متمسك
القائلين بالطهارة بمجرد الاتصال كالعلامة في المنتهى وعن التحرير ونهاية الأحكام
والقول بعدم حصول الطهارة إلا بالامتزاج إما امتزاج الكر نفسه أو هو وما طهره بأن
يمتزج حتى يمتزج الجميع لا يخلو من قوة، لما عرفت من الاستصحاب وغيره. وما يقال
من أن الاستصحاب يقطعه العموم فيه ما قد عرفت من أنه لا عموم، وعلى تقديره فهو
لا يفيد كيفية التطهر. واحتمال أخذ ذلك من قوله (عليه السلام) (2): " ماء الحمام
كماء النهر يطهر بعضه بعضا " فإنه يفيد التطهير بمجرد الاتصال يدفعه - مع أنه لا دليل
على التعدية واحتمال إرادة الدفع لا الرفع - أنه لا ظهور فيه فيما يدعون، والله أعلم
بحقيقة الحال.
وأما المقدمة السابقة فقد سمعت المناقشة فيها فإن ثبتت باجماع ونحوه قلنا به وإلا
فلا، اللهم إلا أن يدعى استفادته من نحو قوله (صلى الله عليه وآله) (3): " إذا بلغ الماء
قدر كر لم يحمل خبثا " فتأمل.
ثم إنه قد يقال إن اشتراط الامتزاج الواقع في كلام الجماعة ونسب إلى الأشهر
إنما هو في غير التطهير بالقاء الكر عليه دفعة، وأما فيه فلا يشترط شئ من ذلك لاطلاق
الاجماعات المنقولة مع نفي الخلاف عن حصول الطهارة بالقاء الكر عليه دفعة ولم يذكروا
شرطا آخر. وما وقع من مثل المحقق والعلامة (رحمهما الله) في اشتراط الامتزاج إنما هو
في غير ذلك كمسألة الغديرين ونحوهما. ودعوى التلازم بين المسألتين ممنوعة. وبذلك
تعرف ما في كلام كاشف اللثام المتقدم من أنه (لا خلاف في طهارة الزائد على الكر

(1) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق.
(2) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7.
(3) المستدرك - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6.
148

أضعافا بالقاء كر) إلى آخره لفرق بينهما من عدم اشتراط الامتزاج هنا تمسكا باطلاق
الدليل وهو الاجماع المنقول بخلاف غيره، اللهم إلا أن ينزل كلامهم فيه على ما إذا
حصل الامتزاج بذلك كما إذا كان الماء الملقى عليه كر قليلا كما هو ظاهر المتن لا فيما إذا
كان أكرارا كما هو المفروض في كلام كاشف اللثام فتأمل جيدا، فإنه نافع جدا في
أصل النزاع في المسألة، بل وفي تحقيقها أيضا، وذلك لصيرورة المدار حينئذ على وصول
الكر المطهر مجتمعا للماء على وجه لا يقطع عموده الماء المتنجس ثم يمتزج معه ولو بالتموج،
فيطهر حينئذ كل ما لاقاه كذلك حتى يستوعب الماء لو فرض كثيرا، ولا فرق في
وصول الكر المزبور على الوجه المذكور بين أحواله بالنسبة إلى المساواة والاستعلاء
وغيرهما، مع فرض اجتماع ما ذكرناه، بل الظاهر عدم الحاجة إلى القائه جميعه لو فرض
حصول الطهر به مقدار ما يكون كرا قبل إتمامه، فإن ذلك كاف إذا أريد تطهير الباقي
لو كان، بأن يموجه مع غيره حتى يحصل الامتزاج. ولعل الدفعة والالقاء للكر ونحو
ذلك في كلامهم إنما هو لإرادة الاطمئنان بحصول الحال الذي ذكرناه، سيما على القول
بعدم الاكتفاء بأصالة بقائه مجتمعا حتى يحصل الامتزاج في تطهير المتنجس الذي هو على
مقتضى إصالة البقاء على النجاسة حتى يعلم حصول الطهر على الوجه المزبور. كل ذلك
بعد البناء على منع السراية في التطهير كما قيل بها في التنجيس، ومنع دعوى أن ليس لنا
ماء واحد في سطح واحد بعضه طاهر وبعضه نجس بغير التغير، ومنع استفادة كيفية
التطهر للفرض من نحو إطلاق طهور ونحوه، وبعد الاجماع على عدم اعتبار أمر زائد
على الامتزاج بعد العلم بقبوله للتطهير ويكفي في تحقق الامتزاج باعتبار كون الماء جسما
سيالا اختلاطه بالمطهر على الوجه المزبور ثم به وبالذي طهره ولو بالتموج لو فرض كثرة
الماء النجس والله العالم. هذا كله في القاء الكر وأما إذا كان تطهيره باتصاله بالجاري
فهل يعتبر الامتزاج والاستعلاء ونحو ذلك أو لا؟ قد يظهر من التأمل في جميع ما تقدم
حكم ذلك ومثله ماء المطر، وربما يقوى هنا عدم اعتبار الامتزاج لظاهر الأدلة
149

كقوله (عليه السلام): (1) " كل شئ رآه ماء المطر فقد طهر " وغيره. ولا فرق بين
الجاري غير المطر وبين المطر، بل لعله هو أقوى منه كما يومي إليه التشبيه به،
وكيف كان (فلا يطهر باتمامه) بنجاسة أو بمتنجس مثله أو طاهر (كرا على
الأظهر) كما في المعتبر والتحرير والمختلف والمنتهى والقواعد والذكرى وكشف اللثام
وغيرها، ونسبه المحقق الثاني إلى المتأخرين، وهو المنقول عن ابن الجنيد والشيخ في
الخلاف وعن المبسوط أنه تردد. وقيل يطهر بالاتمام كما عن المرتضى وابن البراج
وسلار ويحيى بن سعيد، ونسبه المحقق الثاني إلى أكثر المحققين وهو مختار ابن إدريس
ونسبه في السرائر إلى المحققين، وهم بين قائل بعدم الفرق بين كون المتمم طاهرا
أو متنجسا وهو الظاهر من السرائر لكنه اشترط فيها كون الزيادة يطلق عليها اسم
الماء، وقائل باشتراط كون الاتمام بطاهر. ولم نقف على من اكتفى بالاتمام بالبول
ونحوه، وإن اقتضاه نقل الخلاف في هذه المسألة على لسان بعضهم وما تسمعه من أدلتهم.
وكيف كان فالأقوى ما ذهب إليه المصنف للاستصحاب وإطلاق كثير من أدلة القليل
الشاملة لصورة الاتمام بكر، والنهي (2) عن استعمال غسالة الحمام مع أنها غالبا تبلغ أكرارا
مع شمول ما دل (3) على النجاسة بالتغير لما كانت النجاسة مغيرة للقليل ثم زال بالاتمام
بكر. ومما يرشد إلى ذلك أيضا أن ابن إدريس الذي حكم هنا بالطهارة بالاتمام بكر لما
تسمعه من الأدلة قال بعدم طهارة الكر المتغير بزوال تغييره فتأمل، فإنه قد يفرق
بينهما. كل هذا مضافا إلى الاستبعاد سيما على القول بالاتمام بالماء النجس، وأبعد منه
الاتمام بعين النجاسة إذا استهلكت وصارت ماء، بل يكاد يقطع المتأمل في مذاق
الشرع بعدمه. وأقصى ما يستدل به للقول بالطهارة الأصل براءة وطهارة، والعموم،

(1) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف.
(3) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق
150

والاطلاق في المياه الشامل للمقام. والعلم بخروج غير هذا الفرد لا يقضي بخروجه منه،
وما رواه في السرائر من قول الرسول مدعيا أنه المجمع عليه بين المخالف والمؤالف:
(إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا). وما فيها أيضا " أن إجماع أصحابنا على هذه المسألة إلا
من عرف اسمه ونسبه " انتهى، وبأنه لو لم يحكم بالطهارة بذلك لم يحكم بطهارة الماء
الذي وجد فيه نجاسة إذا لم يعلم كونها قبل الكرية وبعدها، وبأن الكثرة إن كانت
مانعة من قبول الماء الانفعال فلا فرق في ذلك بين سبقها ولحوقها. وفي الكل نظر
أما الأول والثاني فلا يعارض الاستصحاب لكونه خاصا، مع عدم جريان أصل البراءة
في بعض صور المسألة كالوضوء والغسل في وجه فتأمل ولاحظ ما ذكرناه في الماء القليل،
مع أن إطلاقات المياه إن أراد بها الخصم مثل قوله (صلى الله عليه وآله) (1): " إذا وجدت
الماء فامسسه جلدك " وقوله تعالى " فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " (2) ونحو ذلك فهي
لا تدل على المقام للقطع باشتراطها بالطهارة الغير المعلوم تحققها هنا، إذ من المسلم عندنا
وعند الخصم خروج النجس إنما الكلام في كون هذا منه أو لا فلا يمكن إثباته بذلك،
وهي غير مسافة لبيانه، فيكون الاستدلال بها من قبيل الاستدلال على طهارة صيد الكلاب
بقوله تعالى: " فكلوا مما أمسكن عليكم " (3) وهو باطل كما بين في محله. وأما ما في
السرائر من الرواية فقد أنكرها جماعة منهم المحقق في المعتبر فإنه قال: " إنا لم نروه
مسندا والذي رواه مرسلا المرتضى (رحمه الله) والشيخ أبو جعفر الطوسي (رحمه الله)
وآحاد ممن جاء بعده، والمرسل لا يعمل به، وكتب الحديث عن الأئمة خالية عنه
أصلا. وأما المخالفون فلا أعرف به عاملا سوى ما يحكى عن ابن حي وهو زيدي منقطع
المذهب. وما رأيت أعجب ممن يدعي إجماع المؤالف والمخالف فيما لا يوجد إلا نادرا،

(1) سنن البيهقي المجلد 1 - صحيفة 179 - 194 - 217.
(2) سورة النساء - آية 43 - وسورة المائدة - آية 9.
(3) سورة المائدة - آية 9.
151

فإذن الرواية ساقطة " انتهى. والظاهر منهم تسليم دلالتها وأنها فرق بينها وبين الوارد
من طرقنا كما صرح به بعضهم، وهي " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (1)
لظهورها في عدم القبول بعد كونه كرا ولا ملازمة بينهما. ومن هنا تتجه المناقشة فيقوى
كلام ابن إدريس، وذلك لأن الرواية وإن كانت مرسلة إلا أنها قد رواها من
لا يطعن في روايته كالمرتضى مع العمل بها وهو لا يعمل بأخبار الآحاد والشيخ في
الخلاف فإنه قال في الماء المستعمل في الكبرى إذا بلغ كرا بعد أن ذكر عدم جواز
استعماله وإن بلغ للاستصحاب قال: " ويمكن أن يقال إذا بلغ كرا جاز استعماله
لظاهر الأخبار (2) والآيات (3) المتناولة لطهارة الماء وما نقص عنه أخرجناه بدليل،
وبقولهم (عليهم السلام) (4): (إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا) " انتهى، فإن الظاهر من
قوله وبقولهم (عليهم السلام) إلى آخره أنه معطوف على قوله لظاهر الأخبار، مع أن
ابن إدريس لا ينبغي الطعن في نقله وعدم الوجدان لا يقضي بعدم الوجود. وأيضا
فقد نقل هو إجماع أصحابنا إلا ممن عرف نسبه على طهارة القليل باتمامه كرا فيكون
جابرا للرواية أيضا. ولا ريب في أن ذلك كله يسوغ العمل بمثل هذه الرواية، مع أنه لا معارض لها حقيقة إلا الاستصحاب ومثله لا يعارض مثلها. فالمتجه حينئذ المناقشة
في دلالتها بأن يقال إن الظاهر منها أن المراد بها أنه لم يحمل خبثا مبتدأ. والمراد ببلوغه
ليس بعد تحمل الخبث، فيكون معناها هو معنى الرواية المشهورة أنه إذا كان الماء قدر
كر لم ينجسه شئ، ومن هنا احتمل بعضهم أن توهم ابن إدريس في نقله إجماع المؤالف
والمخالف على الرواية السابقة تخيله أنهما بمعنى واحد. قلت وهو الظاهر سببا ومعنى فتأمل.
الجواهر 19

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 و 2 و 6
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق.
(3) وهي آية 11 - من سورة الأنفال. وآية - 50 - من سورة الفرقان وغيرهما.
(4) وهو مروي عن النبي لا عن الأئمة.
152

وأما الاجماع المنقول فهو بناء منه على أن خروج معلوم النسب غير قادح،
وهو لا يتم على طريقتنا، مع أنه رده في المعتبر " بأنا لم نقف على هذا في شئ من كتب
الأصحاب ولو وجد كان نادرا، بل ذكره المرتضى وبعده اثنان أو ثلاثة ممن تابعه.
ودعوى مثل هذا إجماعا غلط، إذ لسنا بدعوى المائة نعلم دخول المعصوم (عليه السلام)
فيهم فكيف بفتوى الثلاثة والأربعة " والشهيد في الذكرى " بأنه لا إجماع لخلاف
ابن الجنيد والشيخ في الخلاف، مع نقله الخلاف عن الأصحاب في المبسوط " وقال فيها
أيضا " وخلاف الشيخ في المبسوط بطهورية المستعمل إذا بلغ كرا على التنزل لبنائه على
ما سبق من التردد وبناه في الخلاف على ذلك أيضا " قلت قد سمعت عبارة الخلاف
والذي نقله في السرائر عن الشيخ في المستعمل خال عن البناء المذكور، بل هو ظاهر
فيما ادعاه والله أعلم.
وأما الاستدلال بالملازمتين السابقتين ففي الأولى منهما أنه لا مانع من الحكم
بالطهارة للأصل أو بالاجماع ونحو ذلك، مع أن الالتزام به ليس من المنكرات فلا
يحكم عليه بالطهارة ولا النجاسة، فهو لا ينجس الطاهر ولا يطهر النجس، فيكون حاله
حال المشكوك في كريته إذا لاقته النجاسة على وجه قوي، لأنه كما أن الكرية شرط
وقد شك فيها فكذلك الطهارة شرط وقد شك فيها، مع إمكان الفرق بينهما بأن الشرط
عدم العلم بالنجاسة قبل البلوغ لا الطهارة. والحاصل إن تم هذا الفرق ارتفعت الملازمة
وإلا كان الالتزام به غير منكر فتأمل. وأما الملازمة الثانية فمع كونها قياسا ومع الفارق
في كثير من صور المسألة قد دلت الأدلة على أحدهما دون الآخر، فيبقى الاستصحاب
فيه محكما. وأنت خبير أن الذي يقتضيه ما سمعت من الأدلة عدم الفرق بين كون المتمم ماء
طاهرا أو نجسا أو نجاسة كالبول ونحوه، ولا بين كون النجاسة مغيرة للماء القليل ثم زالت
وبين كون نجاسته بالملاقاة من دون تغيير فتأمل.
(وما كان) من المحقون مجتمعا مقدار (كر فصاعدا لا ينجس) بشئ من النجاسات
153

للأصل، بل الأصول، والاجماع المحصل والمنقول، والسنة التي كادت تكون متواترة.
وما يأتي من خلاف المفيد وسلار ليس في أصل حكم الكر وإنما خلافهما في خصوص
الحياض والأواني (إلا أن تغير النجاسة) دون المتنجس (أحد أوصافه) من اللون
أو الطعم أو الرائحة فإنه ينجس المتغير وغيره أيضا إن لم يكن مقدار كر أو مستعليا على
المتغير استعلاء معتدا به. ودليله الاجماع والأخبار (1) وقد تقدما في الجاري ككثير
من الأبحاث فراجع وتأمل.
نعم بقي الكلام هنا في مسألة أغفلها المتقدمون وتعرض لها بعض المتأخرين،
وهي اعتبار تساوي السطوح وعدمه. لكن ليعلم (أولا) أن النجاسة لا تسري من
الأسفل إلى الأعلى إجماعا من غير فرق بين قلة العالي وكثرته ولا بين علو التسنم
والانحدار الذي يقرب منه، أما إذا كان انحدارا بحيث يتحقق به الجريان لكنه غير
ظاهر تمام الظهور للحس كما في بعض الأنهار الصغار التي يجري بها الماء لا عن مادة،
فإن الناظر لا يكاد يظهر له اختلاف سطوحها وإن كانت هي كذلك، ولعله من ذلك
ما لو انكفت آنية مثل الإبريق ونحوه في أرض نجسة من حيث اعتبار علو فمها مثلا
وعدمه - فلم أر تنقيحا لذلك في كلامهم، نعم قد يظهر من بعضهم جريان الحكم على
مثل ذلك، وأنه مندرج في عدم نجاسة الأعلى بالأسفل. ويؤيده أن السراية على خلاف
الأصل، مضافا إلى أصل الطهارة وعمومها ونحو ذلك مما يدل عليها، ولكن مع هذا
والمسألة محتاجة إلى التأمل وهي سيالة في الماء وغيره من المايعات. وليعلم (ثانيا) أنه متى
شك في شمول إطلاقات الكر لفرد من الأفراد وشك في شمول إطلاقات القليل فلم يعلم
دخوله في أي القاعدتين، فالظاهر أن الأصل يقضي بالطهارة وعدم تنجسه بالملاقاة،
نعم لا يرفع الخبث به بأن يوضع المتنجس فيه كما يوضع في الجاري والكثير، وإن كان
لا يحكم عليه بالنجاسة بمثل ذلك بل يحكم عليه بالطهارة فيؤخذ منه ماء ويرفع به الخبث

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق
154

على نحو ما يرفع بالقليل، ولا مانع من رفع الحدث به لكونه ماء طاهرا، وكلما كان
كذلك يجري عليه الحكم. وكان السبب في ذلك أن احتمال الكرية فيه كافية في حفظ
طهارته وعدم نجاسته بملاقاة النجاسة، ولكن لا يكفي ذلك في الأحكام المتعلقة بالكر
المعلوم أنه كر كالتطهر به من الأخباث بوضع المتنجس في وسطه ونحو ذلك. فليست
أحكام الكر موافقة للأصل من جميع الوجوه، وستسمع في آخر البحث احتمال جواز
التطهير به من الخبث على نحو الكر فتأمل.
فنقول: قد أطلق كثير من الأصحاب ككثير من الأخبار أن مقدار الكر
من الماء لا ينجس بملاقاة النجاسة من غير تعرض لشئ من كون سطوح الماء متساوية
أو مختلفة، وعلى تقدير الاختلاف فهل على طريق التسنم أو الانحدار؟ وليس في الأخبار
ما يمكن أن يتصيد منه بعض أحكام هذه المسألة غير أخبار الحمام بناء على اشتراط
الكرية في المادة، فإنه يستفاد منها حينئذ أن السافل يتقوم بالكثير العالي، وبناء على
الاكتفاء بكرية المجموع يستفاد منه حينئذ أن السافل والعالي إذا كانا مقدار كر من
الماء يكفي ذلك في عدم قبول النجاسة، لكن يبقى الأمر دائرا في أن كلا من السافل
والعالي يتقوم بالآخر أو أنه يخص ذلك بالسافل دون العالي. هذا كله إن قلنا بجريان
حكم ماء الحمام على غيره من المياه، وفيه بحث تقدم في ماء الحمام، وكيف كان فالعمدة
هو استظهار شمول قوله (عليه السلام): " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " (1)
وعدم شموله، وهو مبني على معرفة وحدة الماء وتعدده. والظاهر أن كثيرا من أبحاث
المسألة مختصة بالماء للحوقها له من حيث المائية دون المائعية (2).

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق.
(2) كمسألة تقوى السافل بالعالي وبالعكس فإنها لا تجرى في غير الماء، نعم قد
يبحث عنه بالنسبة إلى اختلاف السطوح في باقي المايعات من جهة الطهارة والنجاسة، وهي
ليست مبنية على التعدد والوحدة، بل هي مبنية على الملاقاة وعدمها، وذلك كما لو فرضنا
حوضا من ماء وآخر من دهن وكان أحدهما نجسا ووصل بينهما بثقب ضعيف جدا
فإنه لا ريب في تحقق النجاسة في الآخر وإن لم يحصل اتحاد، وكذلك بالنسبة للسفل والعلو،
واحتمال القول أن السفل والعلو يجعلهما بمنزلة ما إذا كانا في إنائين متعددين فنجاسة أحدهما
لا تسري بالنسبة إلى الآخر في غاية البعد، بل قد يدعى الاجماع على خلافه، نعم المستثنى
ما عرفت من عدم سراية النجاسة من السافل إلى العالي، وبذلك ظهر لك أن مناط البحثين في
المسألتين مختلف جدا (منه رحمه الله).
155

وعلى كل حال فنقول: ينبغي القطع بفساد القول بأن مطلق اختلاف السطوح
كيف كان انحدارا أو تسنما سبب لاختلاف حكم الماءين بحيث يكون السافل ماء مستقلا
تلحقه أحكامه لنفسه والعالي كذلك، إذ لا ريب في شمول قوله (عليه السلام): " إذا
كان الماء قدر كر " إلى آخره لكثير من هذه الأفراد سيما إذا كان العلو علو انحدار
لا تسنم فيتقوى السافل بالعالي وبالعكس في مثل ذلك. نعم هناك بعض أفراد يشك
في تقوي كل منهما بالآخر، كما لو كان حوض فيه ماء ناقص عن كر وكان إبريق
مثلا فيه ماء فصب من علو على ذلك الحوض بحيث اتصل به وكان العلو علو تسنم وكان
ما يصب منه ثقب ضيق، فمثل هذا يتقوم كل منهما بالآخر أو لا يتقوم شئ منهما أو يتقوم
السافل بالعالي دون العكس؟ وجوه. ومن جملة الأفراد التي هي محل شك لا من جهة العلو
والسفل بل من جهة الاتصال كالحوضين اللذين ثقب ما بينهما وكان في غاية الضيق.
فمثل ذلك يصيرها من جملة أفراد الكر؟ ولعل مثل هذه الأفراد ونحوها بقاؤها على
ما تقدم من القاعدة أولى من إدخالها تحت أفراد الكر أو إدخالها تحت قاعدة القليل.
وينبغي التعرض لبعض كلمات الأصحاب في المقام فنقول: قال في التذكرة:
" لو وصل بين الغديرين بساقية اتحدا إن اعتدل الماء وإلا ففي حق السافل، فلو نقص
الأعلى عن كر انفعل بالملاقاة، ولو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتصال
وانتقاله إلى الطهارة مع الممازجة " وقال في الذكرى: " وطهر القليل بمطهر الكثير
156

ممازجا فلو وصل بكر مماسة لم يطهر للتمييز المقتضي لاختصاص كل بحكمه ولو كان
الملاقاة بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير "
وقال في الدروس: " لو كان الجاري لا عن مادة ولاقته النجاسة لم ينجس ما فوقها
مطلقا ولا ما تحتها إن كان جميعه كرا فصاعدا إلا مع التغير " ثم قال: " لو اتصل الواقف
بالجاري اتحدا مع مساواة سطحيهما أو كون الجاري أعلى لا العكس. ويكفي في العلو
فوران الجاري من تحت الواقف " وقال العلامة (رحمه الله) في القواعد: " لو اتصل
الواقف القليل بالجاري لم ينجس بالملاقاة ولو تغير بعضه بها اختص المتغير منه
بالتنجيس " وقال المحقق الثاني في شرح ذلك: " يشترط في هذا الحكم علو الجاري
أو مساواة السطوح أو فوران الجاري من تحت القليل إذا كان الجاري أسفل لانتفاء
تقويمه بدون ذلك " وقال هذا المحقق بعد قول العلامة (رحمه الله): " وماء الحمام
كالجاري إن كانت له مادة هي كر فصاعدا " " اشتراط الكرية في المادة إنما هو مع
عدم استواء السطوح بأن يكون المادة أعلى أو أسفل، لكن مع اشتراط القاهرية
بفوران ونحوه في هذا القسم أما مع استواء السطوح فيكفي بلوغ المجموع كرا كالغديرين
إذا وصل بينهما بساقية " قلت: ويظهر من الشهيد الثاني وبعض من تأخر عنه عدم اشتراط
شئ من استواء السطوح فيتقوى السافل بالعالي والعالي بالسافل، ويؤيده إطلاق النص
والفتوى: أما النص فقوله عليه السلام (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ) وأما الفتوى
فإنه أولا قد ذكروا حكم الكر من غير تقييد، وذكروا مسألة الغديرين وإنه لو وصل
بينهما بساقية اتحدا ولم يقيدوا أيضا، وذكروا مسألة اتصال القليل الواقف بالجاري وأنه
يتحد معه من غير تقييد بالاستواء ونحوه، وذكروا أيضا في نجاسة الجاري أنه ينجس
متى تغير ولو قطع التغير عمود الماء لم ينجس ما فوق المتغير مطلقا ونجس ما تحته إن لم
يبلغ كرا، فإنه لولا تقوي الأعلى بالأسفل لنجس ما تحته سواء كان كرا أو لا لتحقق
النجاسة في الملاصق للمتغير، والمفروض أنه لا يتقوى بما تحته على فرض السفل فتأمل.
157

وتفصيل الحال يحصل في البحث في جملة من المسائل تظهر مما نقلناه عنهم سابقا.
(الأولى) الأقوى تقوي السافل بالعالي وبالعكس إذا كان المجموع كرا من غير
فرق بين التسنمي والانحداري ما لم يكن العلو فاحشا مع ضعف الاتصال كما لو اتصل من
علو المنارة بنحو ثقب الإبرة ونحوها، مع احتمال القول به كما سمعته من إطلاق النص
والفتوى المؤيد بموافقة الأصل في كثير من الأحكام، ولحكمهم بالاتحاد بالنسبة للسافل
وهو لازم للعكس كما ستعرف، خلافا لما يظهر من عبارة التذكرة المتقدمة من تقوي السافل
بالعالي دون العكس، لكن لم يعلم تقويه به إذا كان العالي كرا فيكون من المسألة
الثانية أو تقويه به إذا كان العالي متمما لكرية السافل فيكون مما نحن فيه، وقوله:
(فلو نقص الأعلى عن كر) لا دلالة فيه على شئ من ذلك، ولما يظهر من عبارة الشهيد
والمحقق الثاني التي قدمنا هما سابقا من أن السافل ينعصم بالعالي الكر ولا ينعصم به إذا
كان العالي متمما لكريته فتأمل، فيتحصل حينئذ أن الاحتمالات فيما نحن فيه ثلاثة بل
لعلها أقوال: (الأول) عدم تقوي أحدهما بالآخر من غير فرق بين الانحدار والتسنم.
وهذا لم أعثر عليه لأحد قبل الشهيد والمحقق الثاني، فإن عبارتهما التي نقلناها عنهما ظاهرة
في ذلك، لكنها ليست ظاهرة في عدم الفرق بين العلو الانحداري والتسنمي. نعم ربما
ظهر من بعض متأخري المتأخرين ذلك وتعرف مما يأتي إن شاء الله مستندهم. وهذا
القول مما يقطع المتأمل فيما قدمنا سابقا وفيما يأتي منا لاحقا بفساده (الثاني) تقوي السافل
بالعالي دون العكس وهذا قد تعطيه إطلاق عبارة التذكرة ولم أقف على مصرح به
بالخصوص في كلام من تقدم من الأصحاب (الثالث) تقوي كل منهما بالآخر وهو المختار
كما ذهب إليه جماعة من متأخري المتأخرين، نعم ينبغي تخصيصه ببعض الأفراد التي
هي محل شك. وعلى تقدير الفرق بين العلو الانحداري والتسنمي تكون الاحتمالات
أربعة. على تقدير هذا الفرق مع ارتكاب التفصيل المتقدم من الفرق بين السافل
والعالي تزداد الاحتمالات. قلت: الظاهر التلازم بين تقوي السافل بالعالي والعكس لأن
158

مبنى التقوي وحدة الماء والدخول تحت إطلاق قوله (عليه السلام): (إذا بلغ الماء قدر كر)
ودعوى أن ذلك يتحقق بالنسبة للسافل دون العالي كما ترى. فما سمعته من العلامة
(رحمه الله) في التذكرة لا يخلو من إشكال، بل نقول إن ما تسمعه في المسألة الثانية
من تقوي السافل بالكر العالي وكأنه مجمع عليه كما عن شارح الدروس يلزم منه الحكم
في مسألتنا، لأن كرية العالي لا دخل لها في وحدة الماء، إذ متى كان السافل يتقوى
بالعالي الكر ونحوه لاتحاده معه تقوي بالعالي وإن لم يكن كذلك، لما عرفت أن كرية
العالي لا مدخلية لها في الوحدة. اللهم إلا أن يقال إن مبني ذلك ليس الوحدة بل لعلهم
أخذوه من حكم الحمام وأخبار المادة فيقتصر حينئذ عليه، لكن ذلك بعيد كما يقضي به
اختلاف كلمتهم في الحمام واتفاقها هنا، على أن الحكم والموضوع في الحمام غير منقح
حتى يكون باعثا لا تفاقم. هذا وتسمع فيما يأتي ايضاحا لذلك. فصار الحاصل أن ظاهر
اتفاقهم في المسألة الثانية الآتية يلزم منه القول بتقوي السافل بالعالي وإن لم يكن كرا
فإذا ثبت ذلك لزم منه أن العالي أيضا يتقوى بالسافل إذا كأنه مجموعهما كرا، لأن
وحدة الماء إن تحققت لتحقق فيهما، وإلا فلا.
(المسألة الثانية) تقوي السافل بالعالي الجاري وما في حكمه وكأن الحكم في ذلك
إجماعي كما عرفت، فتوقف العلامة في التذكرة والمنتهى في باب الحمام بعد اختيار
اشتراط الكرية في مادة الحمام في إلحاق الحوض الصغير المتصل بمادة هي كر بماء الحمام
لا وجه له، ومن هنا جزم في التذكرة بما سمعت به. والظاهر إلحاق ما كان بالفوران
من تحت بالعالي لاستيلائه حينئذ كاستيلاء العالي.
(المسألة الثالثة) عكس الثانية، ويظهر من جملة منهم عدم تقوي العالي به، بل
ينجس بملاقاة النجاسة. وهو مشكل بعد الحكم بالاتحاد في المسألة الثانية، إلا على
ما سمعت من احتمال أخذ الحكم هنا من حكم الحمام لا من وحدة الماء، وهو بعيد بل
ممتنع في نحو عبارة الدروس والبيان وغيرهما لصراحتها بتحقق الاتحاد مع استعلاء الكثير
159

واتصال القليل السافل به. ولو كان قد أخذوه من حكم الحمام لم يكن معنى للاستناد
للاتحاد فراجع وتأمل. مع أنه يلزم من عدم تقوية الأسفل للأعلى أن ينجس كل
ما كان تحت النجاسة من الماء المنحدر وإن كان نهرا عظيما ما لم يحصل مقدار كر
مستوي السطوح بالعرض وهو مستبعد بل باطل. وأيضا قد صرحوا بأنه إن تغير بعض
الجاري نجس المتغير خاصة دون ما فوقه وما تحته إلا أن ينقص ما تحته عن الكر ويستوعب
التغيير عمود الماء فينجس حينئذ ما تحت المتغير، هذا على القول بعدم اشتراط الكرية
وأما على القول بذلك فيشترط في عدم نجاسة ما فوق المتغير إما استعلاؤه أو كريته وإلا
نجس. وهذا التفصيل يشعر بتقوي العالي بالسافل وإلا لم يكن معنى للحكم بطهارة ما تحت
المتغير مع استيعاب التغير عمود الماء إذا كان مقدار كر، بل ينبغي الحكم بالنجاسة
وإن بلغ أكرارا لأن الفرض أنه غير مستوي السطوح. لا يقال إن ذلك لم يقع في
كلام الجميع حتى يستشهد به لأنا نقول قد وقع في كلام جملة من المتأخرين، بل وقع
تصريحا في كلام هذا القائل بعدم تقوي العالي بالسافل، بل قد يقال إنه لا خلاف فيه،
على أنه قد وقع في كلام مثل المحقق والعلامة (رحمهما الله) وغيرهما أنه لو تغير الجاري
اختص المتغير بالتنجيس دون غيره، وإطلاقه شاهد لمثل ما نحن فيه قطعا فتأمل جيدا.
لا يقال مقتضى ما ذكرت من حصول الاتحاد على كل حال فلم لم تكتف بالتطهر
بذلك فيطهر العالي النجس باتصاله بالكر السافل مثلا، لأنا نقول أن مدار التطهير
ليس على حصول الاتحاد والتعدد بل يشترط فيه شروطا غير ذلك منها استعلاء المطهر
أو مساواته، فلعل عدم حصول الطهارة لذلك، ومنها اشتراط الامتزاج على ما ذكره
كثير منهم. ويلزم منه عدم طهارة الماء النجس العالي سيما إذا كان متسنما فإن عدم
حصول الامتزاج في مثل ذلك ظاهر إن أريد الامتزاج بالجميع.
لا يقال لو كان التقوي يحصل في كل منهما لحصول الاتحاد للزم حصول
الجواهر 20
160

التنجيس بملاقاة النجاسة مع القلة لكونهما ماء واحدا قليلا لاقى نجاسة، واللازم باطل
لعدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى فالملزوم مثله، لأنا نقول خروج ذلك
بالاجماع لا يقضي بعدم الاتحاد، وإلا لو قضى بذلك لكان اللازم منه عدم سراية
النجاسة من العالي إلى السافل مع حصول النجاسة إجماعا، كما في سائر المائعات، فلو
كان عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى العالي دليلا على عدم الاتحاد وعدم شمول قوله
(عليه السلام): " إذا كان الماء " إلى آخره ونحوه له لأمكن معارضته بأن سرايته
من العالي إلى السافل دليل على الاتحاد، وإلا لما حصل نجاسة السافل بنجاسة العالي.
على أنك قد عرفت سابقا أن مسألة النجاسة ليست مبنية على الاتحاد والتعدد بل المدار
فيها على مطلق الملاقاة مع كون الملاقي بالفتح متصلا بعضه ببعض.
لا يقال إن الأخبار الواردة في حكم الكر اشتراطا وكمية ظاهر أكثرها كون
الماء مجتمعا وكونه واحدا وكثيرا. وشمولها لكثير من أفراد المقام محل نظر بل منع،
وكيف لا مع أنه لا عموم لغوي فيها، بل عمومها إنما هو من جهة الحكمة ونحوها،
ولا ريب أن حملها على الأفراد المعهودة المتعارفة سيما مع تقدم السؤال عن بعضها يكفي
في بيان وجه الحكمة، مع أنها هي بنفسها ظاهرة في المياه المجتمعة المتقاربة الأجزاء،
كقوله (عليه السلام) (1) في خبر إسماعيل بن جابر حين سأله عن الماء الذي لا ينجسه
شئ فقال: " ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته " ونحوها من الأخبار (2) الدالة على
المساحة، وكذلك مثل خبر صفوان (3) المتضمن للسؤال عن الحياض التي بين مكة
والمدينة حيث سأله: وكم قدر الماء؟ قال: قلت إلى نصف الساق إلى آخره، مع أن
الكر الذي وقع تحديد الماء الذي لا ينفعل به عبارة عن مكيال مخصوص يكال به الطعام.
وأيضا فإن اجتماع الأجزاء يورث قوة على قهر النجاسة لتوزعها على الأجزاء بخلاف ما لم

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 -.
(2) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 -.
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 12.
161

يكن كذلك، هذا مع أنه المتيقن من الأدلة المعلوم قطعا وما عداه في محل الشك لعدم
ظهور الدليل عليه، والتمسك بأصالة الطهارة لا يجدي وكيف يصح ذلك مع أن الشارع
قسم الماء إلى شيئين يمتنع خلو الواقع من واحد منهما وهما إما الكر أو دون الكر، فلا
يمكن الحكم بكونه فردا من هذه الكلية أو من هذه الكلية إلا بالعلم أو ما يقوم مقامه،
وليس عندنا عموم يقضي بأن ما شك في كريته شرعا فهو كر.
لأنا نقول لا يخفى على من لاحظ الأخبار الواردة في الكر أن أكثرها على
خلاف تلك الدعوى وما اشتمل منها على السؤال عن بعض الأشياء المخصوصة لا ظهور
فيه بالتخصيص بوجه من الوجوه، وكثير منها إنما هو ابتداء خطاب، مع أنه في مقام
ضرب القاعدة وإعطاء القانون مع اشتمالها على لفظ الماء الذي هو حقيقة في الطبيعة أينما
وجدت، وليس عمومه من جهة الحكمة، مع أن أخبار تحديد الكر سيما أخبار المساحة المفهوم
منها إرادة الضرب وإرادة التقدير وهو كالصريح في عدم اعتبار هذا الاجتماع، وإلا لم تكن
فائدة عظيمة في إناطة الحكم على الضرب وإرجاع الأمر إلى التقدير بالوزن وجعله مقدارا
من غير ملاحظة كيفية من الكيفيات، على أن الاقتصار على ما يدعى ظهوره من هذه
الأخبار من كون الماء مجتمعا في مثل حوض أو مصنع خلاف الاجماع. وأيضا فالتأمل
في أخبار القليل (1) يكاد يحصل القطع منه بعدم شمولها لمثل هذا الرد، فإن أكثرها
متعلق في حكم الإناء وشبهه، وعمدتها في العموم المفهوم وفي شموله لمثل المقام محل نظر
بل منع، وكيف يسوغ للفقيه أن يدرج هذا الفرد تحت أخبار القليل ولا يدرجه تحت
أخبار الكر المبنية على التقدير والضرب ونحوهما الظاهرة في الشمول لجميع الأفراد،
وإن ما ذكر في بعضها من السؤال عن الحياض ونحوها لا دلالة فيه على التخصيص،
بل هو ظاهر في كون المقصود معرفة حكم هذا الموضوع وأنه مورد لا شرط، ولذلك
أجابه الإمام (عليه السلام) بما يشمل المسؤول عنه وغيره، وأيضا فإن التنجيس لمثل

(1) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق.
162

هذا الماء من دون قطع بكونه من أفراد القليل ولا ظن اجتهادي يقوم مقام القطع
مما لا ينبغي أن يرتكب، ودعوى القطع أو الظن في المقام ممنوعة بل أقصى ما يقال بعد
التسليم والتنزل أن المقام محل شك، ولا ريب أن الأصول والعمومات تقضي بطهارته
وعدم نجاسته بشئ من النجاسات، وعدم إفادة الأصل والعمومات جميع أحكام الكرية
التي منها التطهر بمثل هذا الماء من الخبث على نحو التطهر بالكر غير قادح بعد الموافقة
في جميع الأحكام إلا هذا، مع أن العمدة من أحكام الكر إنما هو عدم تنجيسه بشئ
من ملاقاة النجاسة وهو ثابت بالأصل والعموم. كل ذا مع أنك قد عرفت أنهم
صرحوا بالاتحاد في حق السافل وبعضهم أطق ذلك كالعلامة في التذكرة وبعضهم قيد
ذلك بما إذا كان العالي كثيرا. وعلى كل حال قلنا أنه يلزم الاتحاد في حق العالي
إذ لا معنى للتفرقة، وما يقال إن ذلك ليس مبنيا على الاتحاد والتعدد، بل الحكم فيه
مأخوذ من أخبار المادة (1) وأخبار الحمام (2) فيه مع ما عرفت سابقا أن شمول المادة
لمثل ذلك محل منع، بل هي ظاهرة في الماء الذي أصله منها مع تجدده منها آنا فآنا،
وإطلاق المادة على مادة الحمام مبني على الاستعارة الظاهرة في الاقتصار على الحمام بل
احتمال الاختصاص كاف، على أنك قد عرفت احتمال عدم اشتراط الكرية في الحمام
فلا إشكال حينئذ في اختصاص الحكم به. وأيضا قد عرفت أن بعضهم هنا أطلق تقوم
السافل بالعالي وإن كانت الكرية من المجموع دون العكس، ولو كان البناء على الأخذ
من ماء الحمام لكان ينبغي الاقتصار على الكر بل الأكرار، كما يدعون أنه الغالب في مادة
الحمام، وأيضا على تقدير تسليم ذلك فليس في أخبار الحمام ولا غيرها من أخبار المادة ما
يقضي باختصاص التقوم بالسافل نعم هو بالنسبة إليه متحقق، وأما العكس فنقول لا ريب في
ظهورا أخبار الحمام في عصمة المادة لنفسها لأنها إذا عصمت غيرها فلتعصم نفسها بطريق أولى

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق.
(2) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق.
163

ولا تقييد في كونها مستوية السطوح أو مختلفتها، فيثبت المطلوب.
لا يقال إن المادة تصير الماء بحكم الجاري وقد عرفت أنه لا يشترط فيه تساوي
السطوح، لأنا نقول بعد تسليم شمول ذلك لمادة الجاري لا نسلم جعل كل ما له مادة
من الجاري، فإن البئر والعيون مما له مادة وليس لها حكم الجاري. ثم إنك قد عرفت
سابقا أن بعضهم لم يشترط كرية المادة في الحمام بل اكتفى بكرية المجموع أخذا من حكمهم
بالغديرين، وهو متجه إن لم نقل بعدم اشتراط الكرية مطلقا كما قاله المحقق ثم إنه على
تقدير كرية مادة الحمام فلا ريب أن ما يكون به الاتصال بالحوض مما يجري من المادة
تنقص به المادة عن الكرية وجعله متقوما بما فوقه يثبت الاكتفاء بكرية المجموع
ويبطل اشتراط كرية العالي المتقوم به السافل. والحاصل أخذ هذا الحكم من أخبار
المادة وأخبار الحمام مما لا ينبغي أن يرتكبه فقيه لوجوه كثيرة، وما هو إلا قياس لا نقول به.
وإن قلنا بأخذه منه نقول إن الحمام حينئذ مبني على مسألة الوحدة أيضا وإنه لا خصوصية
له من غير حاجة إلى الروايات، لا إنه ليس يبنى عليها، وحكم الحمام إنما جاء من الأخبار
ويلحق به مثل ذلك كما توهمه بعضهم.
فثبت من جميع ما ذكرنا تقوم السافل بالعالي وبالعكس سيما إذا كان السافل
أصله من العالي ولم ينقطع منه، فإنه لا ريب في تحقق الوحدة. نعم هناك بعض أفراد
هي محل شك إما للعلو الفاحش فيها أو ضعف ما به الاتصال كالثقب الضيق جدا ونحو
ذلك، وقد عرفت أن مقتضى الأصول الحكم بجريان كثير من أحكام الكر عليها إلا
في مسألة التطهر بها على نحو التطهر بالكثير، على أنه يمكنه القول به أيضا لأنه ليس لنا
ماء لا ينجس بملاقاة المتنجس ومع ذلك لا يطهر المتنجس بالغسل فيه، بل الحكم بطهارته
مع وضع المتنجس فيه وتحقق الغسل كاف في الحكم بالتطهير به فتأمل جيدا. ومما يرشد
أيضا إلى ما اخترنا من التقوي هو أنه من المعلوم أن محل الاشكال في مسألة التقوي
164

إنما هو في السائل الجاري لا في مثل المستقر، فإنه لو فرضنا أن هناك آنية مستطيلة جدا
ثم ملئت ماء فإنه لا كلام في تقوي ما في رأسها بما في قعرها، فنقول حينئذ أن من
المستبعد أن مجرد السيلان يغير هذا الحكم ويذهب وحدة الماء، مثلا لو ثقب تلك
الآنية من قعرها فأخذ الماء يسيل ووصل إلى الأرض مثلا أو لم يصل بمجرد ذلك
ذهبت وحدة الماء وخرج عن مصداق (إذا كان الماء قدر كر) إلى آخره بعد أن كان
داخلا، إن ذلك من المستبعد جدا فتأمل.
وفصل الخطاب في المسألة أن الشارع لم يعتبر إلا مقدار الكرية في الماء،
والاتحاد والتعدد فيه إنما هو باعتبار أحواله ومحاله، نعم من المعلوم عدم إرادة الماء
المتفرق في أماكن متعددة من الخبر، ضرورة عدم مصداق حينئذ لمفهومه، أما ما عدا
ذلك مما كان الماء فيه متصلا بعضه ببعض بأي طريق كان الاتصال فهو داخل في الخبر
المزبور. وكأن منشأ الوهم هو تقدير شئ في الخبر على وجه يكون عنوانا في الحكم،
والفرض خلوه عنه، بل المراد منه أن العنوان صدق كونه كرا على أي حال كان.
وكيف كان فإذا تنجس المحقون الكر بالتغير إما لجميعه أو لبعضه مع عدم كون
الباقي كرا مع تساوي سطوحه (فيطهر) بما ذكرنا من تطهر القليل النجس من (القاء
كر عليه) فإن تغير الكر الملقي كله أو بعضه بحيث ينجس به (فكر) آخر (حتى
يزول التغيير) فإن لم يتغير الكر الملقي لم يحتج إلى القاء كر آخر بل يكفي الأول إذا
موج فأذهب التغيير، ومثله ما لو بقي من الماء المتنجس بالتغير مقدار كر فإنه لا يحتاج
في تطهيره إلى القاء كر من خارج بل يكفي الباقي مع زوال التغيير، لأنه حينئذ يكون معه
ماء واحد، فيتوجه الاستدلال حينئذ بالملازمة السابقة أو بغيرها مما سمعته سابقا والكلام
المتقدم هناك في اشتراط الامتزاج والقاء الكر ومسألة الدفعة وغير ذلك من المباحث
قد تتأنى هنا كلها أو بعضها فلا حاجة إلى العادة. والتطهر بالجاري وماء المطر على نحو
ما تقدم (ولا يطهر بزوال التغيير من قبل نفسه ولا بتصفيق الرياح ولا بوقوع أجسام
165

طاهرة فيه تزيل التغيير عنه) فضلا عن الأجسام الساترة للتغيير أو المشكوك فيها أنها
من الساترة أو المزيلة. كل ذلك إذا لم يبق منه مقدار الكر وإلا فقد عرفت أنه إذا بقي منه
هذا المقدار ثم أزيل التغيير بأحد الأسباب المتقدمة طهر بمجرد زوال التغيير إن اكتفينا
بمجرد الاتصال وإلا فبعد الامتزاج، ومثله لو بقي مقدار الكر ثم قوي بماء قليل حتى زال
التغيير. وكذلك لو أزيل التغيير بأحد الأسباب المتقدمة ثم ألقي عليه كر من خارج.
والحاصل أنه لا يشترط زوال التغيير بما يطهر به من الماء كما صرح به بعضهم
من غير نقل خلاف فيه، وقول المصنف وغيره حتى يزول التغيير لا دلالة فيه على ذلك،
بل المقصود منه أنه إن كان زوال التغيير بالقاء الكثير فليلق حتى يزول التغيير.
ولعل الاكتفاء بما ذكرنا لعموم مطهرية الماء مع عدم ظهور اشتراط ذلك من أحد،
مضافا إلى نصهم على عدم حصول الطهارة بزوال التغيير من قبل نفسه ونحوه من دون
ملاقاة الكر، ولم يشر أحد منهم إلى اشتراط ذلك، هذا مع ما عرفت من أنه مع
الاتحاد بالكر تتوجه الملازمة المتقدمة سابقا، ولا ينافي ذلك ما تقدم منا سابقا من أن
عمومات مطهرية الماء مجملة بالنسبة إلى كيفية التطهر، لكون المقام بالنسبة إلى هذا الشرط
ليس محل شك، بل قد يدعى الاجماع على حصول الطهارة بالقاء الكر دفعة مع
الامتزاج وإن زال التغيير بغير الماء المطهر فتأمل. وكيف كان فلم ينقل عن أحد الخلاف
في عدم الطهارة فيما ذكره المصنف إلا عن يحيى بن سعيد في الجامع وعن العلامة في نهاية
الأحكام أنه تردد في حصول الطهارة بزوال التغيير من قبل نفسه خاصة، وفي المنتهى
نقل الخلاف فيه عن الشافعي وأحمد ولم ينسبه لأحد من أصحابنا، نعم قال بعضهم أنه
لازم لكل من قال بطهارة القليل باتمامه كرا. وفيه نظر إذ قد يكون مأخذ تلك المسألة
الرواية السابقة التي ادعي إجماع المؤالف والمخالف عليها وهي قوله (صلى الله عليه وآله)
(متى بلغ الماء قدر كر لم يحمل خبثا) وعدم شمولها لمثل المقام ظاهر، إذ أقصى ما تفيده
أن بلوغ الكرية رافع ودافع لكن ذلك لا ينافي القول بأنه إذا تنجس الكر بنجاسة
166

المعتبرة شرعا لا يطهر إلا بالقاء كر. وقد يكون المأخذ الاجماع المدعى في ذلك المقام
وهو معلوم الانتفاء هنا. والحاصل لا تلازم بين المسألتين، ومن هنا ذهب بعض
القائلين بحصول الطهارة بالاتمام إلى عدمها في المقام كما صرح به ابن إدريس وصريح
المنقول عن المهذب مع قرب ما بين المسألتين فيه، ولعل الباعث للقول بالتلازم اشتراك
بعض الأدلة، وفيه ما لا يخفى بعد ما عرفت، وإلا لجاء ذلك في كثير من المسائل.
وعلى كل حال فعمدة أدلة المشهور الاستصحاب، نعم قد يذكر غيره معه في كلام بعضهم
على جهة التأييد أو الالزام، كالقول أن النجاسة ثبتت بوارد فلا تزول إلا بوارد
بخلاف نجاسة الخمر فإنها ثبتت بغير وارد فتطهر بغير وارد. كما أن عمدة ما يستدل
للمخالف هو ظهور أن علة النجاسة التغير فمتى انتفت انتفى معلولها معها، وربما أيد
بشمول ما دل على طهارة غير المتغير له. وربما نوقش في دليل المشهور بعدم حجية
الاستصحاب، ولا يخفى فسادها كما بين في محله، نعم قد يناقش بأن ما دل على النجاسة
بالتغيير هو مما علق الحكم فيه على الوصف الظاهر في نفي الحكم من غير الموصوف فلا
يجري الاستصحاب، وقد يجاب بأنه ليس منه بل قد اشتمل بعضها على الشرط كقوله
عليه السلام (كلما غلب) (1) وقوله عليه السلام (إن تغير) (2) ونحوهما، وهو متحقق
الصدق وإن زال التغيير، بل يكفي في المطلوب عدم تحقق صدق العدم فلا يكون هناك
معارض للاستصحاب المؤيد بالمفهوم من التعليل بالمادة في طهارة البئر بالنزح حتى زال
التغيير وغير ذلك، سلمنا ولكنه يدل على نفي الحكم عن فاقد الوصف لا عمن تلبس
به ثم زال عنه ولا ينافي ذلك كونه مشعرا بالعلية لأنه لم يعلم كونه علة ما دام موصوفا
أو هو علة في الابتداء والاستدامة وهو محل الاستصحاب. ومنه يعلم الكلام في مفهوم
العلة المصرح به، اللهم إلا أن يفرق بينهما. نعم لو دخل بعد سلب الوصف تحت موضوع

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 3.
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 3.
167

آخر كما لو زال السوم عن الغنم، ثم دخلت تحت المعلوفة، فحينئذ يعارض الاستصحاب
ما دل على حكم المعلوفة، وإما في مثل ما نحن فيه فلا معارض للاستصحاب لظهور أدلة
غير المتغير في الذي لم تلحقه صفة التغيير فتأمل جيدا. ولا ينافيه أيضا كون المشتق حقيقة
في الحال لو سلمنا أن بعض الأدلة منه. لأنا لم نتمسك بصدق اسم المتغير عليه، بل
نقطع بعدم الصدق مع القول ببقاء الحكم للاستصحاب، وانتفاء الحكم من حيث عدم
صدق المشتق لا ينافي إثباته من حيثية
أخرى كالاستصحاب ونحوه إذ لا معارضة
بينهما، وكل ذلك محلا للنظر والتأمل فالمسألة لا تخلو من إشكال إن لم يتمسك باطلاق
بعض الأدلة، لكنه لا محيص عن فتوى المشهور وبها يقوى الاستصحاب على معارضة
غيره، خصوصا بعد ما سمعت من الاطلاق المزبور المؤيد بالمفهوم المذكور، وبعد عدم
وجود لفظ المتغير عنوانا للحكم كي يتوهم منه دوران الحكم عليه وجودا وعدما، مضافا
إلى ما سمعت على تقديره والله العالم. وعلى كل حال فمما تقدم تعرف ما في دليل الخصم
وما في تأييده أيضا، فإنه معارض باطلاق ما دل على الاجتناب مع التغيير، على أنها
ظاهرة في الذي لم يتغير أصلا لا في ما تغير ثم زال تغييره فتأمل.
(و) مقدار ما يسعه (الكر) في ذلك الوقت، أو أن المراد بالكر ذلك وإن لم
يسعه المكيال المعروف وضعا شرعيا أو مجازا (ألف ومائتا رطل) إجماعا منقولا بل محصلا
وسنة (بالعراقي) وهو على المشهور مائة وثلاثون درهما ثلثا المدني للخبر عن الرضا
(عليه السلام) (1) كما أرسله في الذكري، ولعله خبر إبراهيم بن محمد الهمداني عن
أبي الحسن (عليه السلام) فما في التحرير في زكاة الغلات أنه مائة وثمانية وعشرون
درهما وأربعة أسباع غفلة، ومثله ما عن المنتهى، مع أنه فيه في المقام مائة وثلاثون
درهما كما في زكاة الفطرة في التحرير أيضا (على الأظهر) وهو المشهور والأقوى،

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب زكاة الفطرة - حديث 1
الجواهر 21
168

لكون المرسل ابن أبي عمير ومشائخه من أهل العراق، مع قوله فيها عن بعض أصحابنا،
وظاهر الإضافة كونه من أهل العراق، وعرف السائل في الكلام مع الحكيم العالم
بعرف المخاطب مقدم على عرف المتكلم والبلد، على أنه لم يعرف كونه (عليه السلام)
قال ذلك وهو في المدينة، قيل ولذلك اعتبر العراقي في الصاع. وربما يظهر من رواية
الكلبي النسابة (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن الرطل في كلامه العراقي فإنه قال
فيها: " قلت: وكم يسع الشن ماء؟ فقال: ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك،
فقلت: بأي الأرطال؟ فقال: أرطال مكيال العراق " فإنه أطلق الرطل وأراد به
العراقي قبل إن يسأله السائل، ولو لم يسأله لاعتمد على ذلك الاطلاق. وربما يؤيده أيضا
ما قيل إن الكر في الأصل كان مكيال أهل العراق، وإنهم قدروا بالكر من جهة أن
مخاطبهم كان من أهل العراق، وموافقته لصحيحة محمد بن مسلم (2) عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: " والكر ستمائة رطل " لعدم القائل بمضمونها فتحمل على الأرطال
المكية لأن الرطلين العراقيين رطل مكي، على أن محمد بن مسلم طائفي كما قيل وهي
من قرى مكة، مع أنه قد روى هذه الرواية أيضا ابن أبي عمير قال روي عن
عبد الله بن المغيرة يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أن الكر ستمائة رطل، مع أنه
راوي الرواية الأولى.
وربما أيد مع ذلك أيضا بأصالة البراءة وبقوله (عليه السلام) (3): " كل ماء

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الماء المضاف - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3
(3) روى في الوسائل - في الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2 - " كل ماء
طاهر إلا ما علمت أنه قذر " وحديث 5 - " الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر " وفي الباب - 4 -
حديث 2 - " الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر " وفي المستدرك - في الباب - 29 - من أبواب
النجاسات حديث 4 - " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر ".
169

طاهر حتى تعلم أنه قذر " وباستصحاب الطهارة، وبالاحتياط، وبموافقته للصحيحة (1)
المتضمنة لتقدير المساحة بالأشبار الثلاثة وبقرب القلتين الوارد في بعض الأخبار (2)
تقدير الكر بها، ومثله قوله (عليه السلام) (3): " نحو حبي هذا " و " أكثر
من راوية " (4) وبأن الأقل متيقن والزائد مشكوك فيه فيجب نفيه بالأصل، وبأن
شرط الانفعال القلة ولم تعلم فلا يحصل الانفعال.
وفي الأول أن أصالة البراءة كما تكون عن وجوب اجتنابه وحرمة شربه تكون
أيضا عن وجوب استعماله ووجوب إزالة النجاسة عن البدن والثوب به في بعض المقامات،
اللهم إلا أن يقال إن النجاسة وإن كانت حكما وضعيا إلا أن مرجعها إلى التكليف
فيتمسك في نفيها بأصالة البراءة، بخلاف الطهارة فإنها من قبيل كون الأشياء على الإباحة
والنجاسة من قبيل الحرمة فيها، فيقال حينئذ الأصل البراءة عن النجاسة فتجب الطهارة
به لعدم القول بالفصل، وليس إثباتا للتكليف بالأصل فليتأمل جيدا.
وفي الثاني والثالث بل والأول أيضا أنه إن كان المراد منها الحكم بالطهارة وعدم
انفعاله بالنجاسة وإن لم يحكم بالكرية منها، فقيل فيه أن المعلوم المقطوع به من الأدلة
أن حكم التنجيس والتطهير دائر مدار الكرية وجودا وعدما. فلا معنى للحكم بطهارة
هذا المقدار من الماء وعدم قابليته للنجاسة إلا بالتغير مع عدم الحكم عليه بالكرية،
إذ لا معنى لثبوت لوازم وجود الشئ بدون وجود الملزوم، قلت قد ظهر لك سابقا أن
لا مانع من جريان الأصول على مقتضاها وإن لم تثبت الكرية، لكن الكلام في أنها
هل تقتضي جميع أحكام الكرية أو لا؟ وقد قدمنا أنها تقتضي أكثر أحكامها وإلا

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7 وفي الباب - 10 -
حديث 4.
(2) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 8.
(3) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7 -
(4) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق - حديث 9
170

فقد يكون المتجه العمل بالأصلين كما في التطهير بمثل ذلك من الخبث على نحو التطهير
بمعلوم الكرية فإن الظاهر حينئذ عدم نجاسة الماء وعدم طهارة الثوب فتأمل. وإن كان
المراد منها الحكم بالكرية ففيه أنه لا يثبت بمثلها، لأنه إن كان له وضع شرعي، فيرجع
حينئذ إلى معنى اللفظ وهو لا يثبت بنحو ذلك، وإن كان المراد به ذلك المكيال المعروف
وأن ما يسعه من الماء تجري عليه الأحكام كما يظهر من قولهم (عليهم السلام) في الروايات
(قدر) فكذلك لا يمكن إثبات مقدار ما يسعه بمثل هذه الأشياء، إذ لا معنى للقول
بأن الأصل البراءة أو كل ماء طاهر أو كان طاهرا، فيكون الكر إنما يسع هذا المقدار.
واحتمال القول بأن الأصل عدم سعة الأزيد معارض بأصالة عدم امتلائه بذلك، ومن هنا
يظهر أنه لا معنى للقول بأنه موضوع يكتفى في اثباته بالظن. واحتمال القول بأن المراد
بالكر هو ما لا يقبل النجاسة ونحوها من الأحكام، ومثل هذه يثبت بمثل هذه الأصول
وليس هو من الموضوع بل هي أحكام صرفة، في غاية الضعف لمنافاته لظاهر الأخبار
كقوله (عليه السلام): " قدر كر والكر ألف ومائتا رطل " ونحو ذلك. نعم قد
يقتضي الاستصحاب ونحوه بعد معرفة مقدار الكر منه في نفسه في الماء الذي لا يعرف
أنه كر أو لا وقد وقعت فيه نجاسة لتحقق مقدار الكرية فيه، مع أن الذي يظهر من
بعضهم عدمه أيضا، وكأنه لأن الظاهر من الأدلة أخذ الكرية شرطا في عدم التنجيس
وهو لا يثبت باستصحاب الطهارة ونحوها. لكن قد عرفت سابقا أن احتمال الكرية
كاف في بقاء استصحاب طهارته فلا حاجة للحكم بها، ولعله المراد من قوله إن
الاستصحاب لا يثبت الموضوع، وإلا فلا ريب في إثبات استصحاب الموضوع.
وفي الرابع أن الاحتياط معارض بمثله حيث يكون موجودا غيره.
وفي الخامس أن المدني أقرب لرواية أبي بصير (1) الذي عمل بها المشهور وهو
الثلاثة والنصف.

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6.
171

وأما القول بأن الأقل متيقن والزائد مشكوك فيه فيجب نفيه بالأصل، ففيه أن
غاية ما يمكن توجيهه أن الأقل متيقن اعتباره واشتراطه في عدم الانفعال والأصل
إما عدم اشتراط الزائد أو براءة الذمة. وفيه أن الاشتراط إنما وقع بقوله عليه السلام:
(قدر كر) ولم نعلم ما كان مقدار الكر، فأي معنى لأصالة عدم اشتراط الزائد، وأما
أصل البراءة فلا وجه له إلا ما ذكرناه سابقا، وفيه ما عرفت.
وأما قوله إن شرط الانفعال القلة، ففيه أنه قد يقال إن الأمر بالعكس فإن
مقتضى قوله (عليه السلام): (إذا كان الماء) إلى آخره اشتراط عدم الانفعال بالكر،
وهو غير معلوم، فيبقى ما دل على نجاسة الدم وما يلاقيه على عمومه أو اطلاقه، قصارى
ما هناك خروج الكر وهو غير معلوم. فالعمدة في المقام هو ما قدمناه أولا بضميمة
الشهرة، ولعلها تكون جابرة لدلالة المرسلة إن قلنا أنها تجبر الدلالة، لكن جبرها للدلالة
بحيث تكون معينة لأحد معنيي المشترك أو صرف الحقيقة ونحو ذلك محل تأمل، إذ عليه
يلزم عدها من المخصصات والمقيدات ونحو ذلك، ولعل التفصيل بأنها حيث تعارض
ظاهر دليل كعموم واطلاق وحقيقة ونحو ذلك لا تثمر بخلاف ما لم تعارض كتعيين
أحد معنيي المشترك كما في المقام لا يخلو من قوة. ومما ذكرنا يستفاد ما يصلح مؤيدا
للقول بالمدني كما هو المنقول عن المرتضى وغيره فلا حاجة إلى ذكره.
(أو ما كان كل واحد من طوله وعمقه وعرضه ثلاثة أشبار ونصفا) أي ما بلغ
تكسيره إلى اثنين وأربعين شبرا وسبعة أثمان شبر حاصلة من ضرب ثلاثة الطول مع
النصف في مثلها من العرض تبلغ اثني عشر وربعا، وتضرب في مساحة العمق تبلغ
المقدار المذكور، لأن الكسر متى ضرب في غيره أخذ مقداره، فالنصف مثلا يأخذ من
الصحيح نصفه ومن نصفه ربعه. وقيل ما بلغ تكسيره إلى سبعة وعشرين شبرا بحذف
النصف. وقيل ما بلغ تكسيره إلى مائة شبر. وهو المنقول عن ابن الجنيد، وربما ظهر
من صاحب المدارك، كما هو المنقول عن المصنف أنه ما بلغ إلى ستة وثلاثين شبرا.
172

وعن قطب الدين الراوندي أنه ما بلغ أبعاده إلى عشرة ونصف ولم يعتبر التكسير.
وعن ابن طاووس العمل بكل ما روي.
و (الأول) هو المشهور والأقوى للاجماع المنقول كما عن الغنية، ولرواية أبي
بصير (1) قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكر من الماء كم يكون قدره؟ قال:
إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض فذلك
الكر من الماء " وخبر الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال:
" إذا كان الماء في الركى كرا لم ينجسه شئ قلت وكم الكر؟ قال ثلاثة أشبار ونصف عمقها
في ثلاثة أشبار ونصف عرضها " ورواه كشف اللثام عن الاستبصار بذكر الأبعاد الثلاثة (3)
ونوقش في الأولى بالضعف في السند والدلالة، أما السند فلاشتماله على أحمد بن محمد بن
يحيى، وهو مجهول، وعثمان بن عيسى، وهو واقفي، وأبي بصير وهو مشترك بين الثقة
والضعيف. وأما في الدلالة فلعدم اشتماله على الأبعاد الثلاثة وإن كان في تعين المتروك
فيها حينئذ وجهان، فعن الروض أنه العمق، وعن آخر خلافه لاستبعاد الانقطاع
(في عمقه)، بل هو إما حال من مثله أو نعت لثلاثة. وفيه أما أولا فلانجبار سندها
بالشهرة والاجماع المنقول، وأما ثانيا فإن الموجود في الكافي إنما هو أحمد بن محمد،
والظاهر أنه ابن عيسى، خصوصا مع رواية محمد بن يحيى العطار عنه، وروايته عن
عثمان بن عيسى، نعم نقل عن التهذيب أنه أثبت يحيى، والظاهر أنه من قلم النساخ
أو أنه تصحيف عيسى. ويؤيده أن العلامة وغيره لم يطعنوا في الرواية إلا بعثمان بن
عيسى وبعضهم بأبي بصير أيضا. وأما عثمان بن عيسى فعن الشيخ في العدة أنه نقل

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6.
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 8.
(3) لكن الأبعاد الثلاثة غير موجودة في النسخة المخطوطة بيد والد الشيخ محمد بن
المشهدي صاحب المزار المصححة على نسخة الشيخ.
173

الاجماع على العمل بروايته، وعن الكشي ذكر بعضهم أنه ممن أجمعت العصابة على
تصحيح ما يصح عنه، وأيضا نقل أنه تاب ورجع من الوقف، على أن الظاهر أنه ثقة
مع وقفه فيكون الخبر موثقا وهو حجة كما تبين في الأصول. وأما أبو بصير فالظاهر أنه
ليث المرادي بقرينة رواية ابن مسكان عنه، فإن الظاهر أن المراد منه عبد الله وهو
يروي عن ليث، مضافا إلى أن عبد الله من أصحاب الاجماع فلا يلتفت إلى ما بعده على
وجه بعد تنقيح حال عثمان، ولعله لمعلومية حال أبي بصير عند العلامة لم يطعن في سند
الرواية في المنتهى إلا بعثمان بن عيسى، على أنه ذكر الأستاذ الأكبر في حاشيته على
المدارك أن أبا بصير مشترك بين ثلاثة كلهم ثقات. وعلى كل حال فلا ينبغي الطعن في
سند الرواية. وأما ما في الدلالة فقد يدفع مضافا إلى الانجبار بالشهرة وغيرها، إما
بدعوى أن هذا متعارف في ذكر الأبعاد الثلاثة بذكر البعض وقياس الباقي عليه،
أو يقال إن قوله (عليه السلام) (في مثله) بيان للعرض والطول ويكون قوله ثلاثة
بيانا للعمق، ويشهد له ما عثرت عليه في نسخة مقروة على المجلسي الكبير مصححة
" في ثلاثة أشبار ونصف في عمقه " واحتمل البهائي اشتمالها على الأبعاد الثلاثة بجعل
الضمير (في عمقه) إلى المقدار في الأرض أي في عمق ذلك المقدار في الأرض، وهو
بعيد. هذا ولكن قال المولى الأكبر في حاشية المدارك: في دلالتها على المشهور نظر
من حيث عدم اشتمالها على الأبعاد الثلاثة وليس هو من قبيل قولهم ثلاثة في ثلاثة لشيوع
الاطلاق وإرادة الضرب في الأبعاد الثلاثة، لوجود الفارق وهو عدم ذكر شئ من
الأبعاد بالخصوص في المثال بخلاف الرواية حيث صرح ببعد العمق، فيكون البعد
الآخر هو القطر، ويكون ظاهرا في الدوري، ويؤيده أن الكر مكيال للعراق والمعهود
منه الدوري، وكذا رواية ابن حي الواردة في الركي إذ لا قائل بتفاوت الكرية،
فيكون الحاصل منهما كون الكر ثلاثة وثلاثين شبرا ونصفا وثمنا ونصف ثمن، ولا قائل به
بخصوصه مع أن الشيخ حمل رواية ابن حي على التقية، فيترجح هذه الرواية أيضا
174

على التقية، فتبقى رواية إسماعيل بن جابر سالمة عن المعارض " انتهى، وقد سبقه إلى
احتمال ذلك في الخبر المجلسي (رحمه الله) معترفا بخروجه حينئذ عن سائر المذاهب. لأنه يبلغ
ثلاثة وثلاثين شبرا وخمسة أثمان شبر ونصف ثمن شبر، وفيه - بعد منع حصر الشائع فيما
ذكر، وابتنائه على أن المحذوف غير العمق - أنه مبني على ما لا يعرفه إلا الخواص من علماء
الهيئة، من ضرب نصف القطر وهو واحد وثلاثة أرباع في نصف الدائرة وهو خمسة وربع،
لأن القطر ثلث الدائرة فيكون مجموع الدائرة عشرة ونصف، إذ المفروض أن القطر ثلاثة
ونصف، ثم يضرب الحاصل من ذلك في ثلاثة ونصف العمق، فيبلغ حينئذ ما ذكره
تقريبا لا تحقيقا، إذ التحقيق أنها تبلغ اثنين وثلاثين وثمنا وربع ثمن. وتنزيل الروايات
على مثل ذلك مما تمجه الأفهام المستقيمة، وكيف يخاطب بذلك الحكيم من هو معلوم
أنه عن هذه المطالب بمعزل على أنه آت في رواية إسماعيل بن جابر، ودعوى أن ذلك
متعارف في الأبعاد الثلاثة كما ادعاه مسلم في غير المعلوم منه الدوري، وأما فيه فيرجع
تقديره إلى القطر، والفرض أن الكر معلوم منه الدوري كما ذكر فتأمل. وأما
ذكره من حمل الشيخ رواية الحسن على التقية فهو ليس لما ذكره، بل لمخالفة حكم
البئر لحكم الغدير، مع أنه اشترط الكرية فيها فمن هذه الجهة حملها على التقية كما فهم منه
في الوسائل. وكيف كان فالذي يقتضيه النظر العمل برواية أبي بصير لانجبارها بالشهرة
والاجماع. وخبر الحسن بن صالح، لا سيما على ما تقدم نقله عن الاستبصار، ولعله ترك
الطول فيها على ما في الكافي وعن التهذيب للعلم به حينئذ من ذكر العرض لأنه إما أن
يكون مساويا لها أو أزيد، والزيادة منتفية عنه بالاجماع لعدم الاعتداد بالمخالف. وربما
يؤيده أيضا ما نقل عن المقنع (1) أنه قال: " روي أن الكر ذراعان وشبر في ذراعين
وشبر " فإنه يمكن أن يراد بالذراع هنا عظم الذراع وهو يزيد عن الشبر يسيرا فيكون
في عشرة ونصف.

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3.
175

ومستند (الثاني) خبر إسماعيل بن جابر (1) قال: " سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن الماء الذي لا ينجسه شئ فقال: كر، فقلت: وما الكر؟ قال: ثلاثة
أشبار في ثلاثة أشبار " وعن المجالس (2) أنه قال: " روي الكر هو ما يكون ثلاثة
أشبار طولا في ثلاثة أشبار عرضا في ثلاثة أشبار عمقا " وربما أيد بالاحتياط، وإصالة الطهارة،
والقرب إلى نحو حبي هذا، وقلتين، وأكثر من راوية، ولما اخترناه من الوزن. وقد عرفت
سابقا أن الاحتياط معارض بمثله وأن الأصول لا تجري على الأظهر، فالعمدة من الدليل
إنما هو ما تقدم من الأخبار، وقد وصفت الرواية الأولى بالصحة في جملة من المصنفات،
بل عن البهائي أنها توصف بالصحة من زمن العلامة إلى زماننا هذا. وربما نوقش فيها
بأن هذه الرواية وإن رواها الشيخ عن عبد الله بن سنان، لكنه رواها أيضا عن ابن
سنان إلا أنه في المقام الظاهر أنه محمد لروايته هذه الرواية أيضا عن محمد بن سنان عن
إسماعيل بن جابر، ومن المستبعد كونهما معا رويا هذه الرواية، مع أنه نقل عن الشيخ
حسن في المنتقى أن الذي تقتضيه مراعاة الطبقات إنما هو محمد، لأنه هو والبرقي في طبقة
واحدة، وأيضا هو الذي تناسب روايته عن الصادق عليه السلام بواسطة بخلاف عبد الله
فإنه من أصحابه، مع أن الموجود في الكافي إنما هو ابن سنان من غير تعيين، على أن
رواية البرقي عن عبد الله من غير واسطة مستبعدة لكونه من أصحاب الرضا عليه السلام
وعبد الله من أصحاب الصادق عليه السلام. وعن البهائي إنكار ذلك كله " وأنه لا
استبعاد في شئ مما ذكر، فإن البرقي وإن لم يدرك الصادق عليه السلام لكنه أدرك
أصحاب الصادق عليه السلام كما يقضي به كثير من الأخبار، لروايته عن داود بن
الجواهر 22

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7
(2) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2
176

أبي يزيد (1) قتل الأسد في الحرم، وعن ثعلبة بن ميمون (2) حديث الاستمناء باليد،
وعن زرعة (3) حديث صلاة الأسير. وأيضا فالشيخ عد البرقي من أصحاب الكاظم
(عليه السلام) وأما الواسطة بينه وبين الصادق (عليه السلام) فإنه قد وجد في الروايات
كتوسط عمر بن يزيد (4) في دعاء آخر سجدة من نافلة المغرب وتوسط حفص
الأعور (5) في تكبيرات الافتتاح، وقد يتوسط شخص بعينه بين كل من محمد وعبد الله
وبين الصادق عليه السلام كإسحاق بن عمار (6) فإنه متوسط بين محمد وبينه عليه السلام
في سجدة الشكر، وهو بعينه أيضا متوسط (7) بين عبد الله وبينه (عليه السلام) في طواف
الوداع، ولعل روايتنا في المقام من ذلك " انتهى لكن الانصاف أنه محمد وكأن البهائي
لم يعثر في شئ من الروايات على رواية البرقي عن عبد الله ولذلك لم يذكره مع أنه العمدة
في المقام، ومن المستبعد أنه شافهه ولم ينقل عنه إلا هذه الرواية. وقد صرح الأستاذ
في حاشية المدارك بأن الظاهر أنه محمد لكنه ذكر أنه حقق في الرجال أنه ثقة. ولعله
لحسن ظنه (رحمه الله) عول على ما نقل عن المفيد (رحمه الله) في إرشاده أنه من خاصة
الكاظم (عليه السلام) وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته وممن روى النص
على الرضا (عليه السلام) وللبحث فيه مقام آخر. وكيف كان فلا شهرة تجبر الرواية
ولا ما أرسله في المجالس، على أن التعارض بينها وبين رواية المشهور بناء على اعتبار

(1) الوسائل - الباب - 40 - من أبواب كفارات الصيد من كتاب الحج
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نكاح البهائم - حديث 3 من كتاب الحدود
(3) وهو حديث سماعة المروي في الوسائل في الباب - 5 - من أبواب صلاة الخوف
والمطاردة - حديث 2 من كتاب الصلاة.
(4) الوسائل - الباب - 46 - من أبواب صلاة الجمعة وآدابها - حديث 3 من كتاب الصلاة
(5) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب تكبيرة الاحرام - حديث 1 من كتاب الصلاة
(6) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب سجدتي الشكر - حديث 4 من كتاب الصلاة
(7) التهذيب - باب - زيارة البيت من كتاب الحج.
177

مفهوم العدد تعارض الاطلاق والتقييد، ولعلك في التأمل فيما ذكرنا من الوزن تستفيد
رجحان المشهور زيادة على ذلك فتأمل.
وأما (الثالث) وهو مذهب ابن الجنيد فلم نقف له على مأخذ، وما أبعد ما ذهب
إليه هنا وما ذهب إليه في الوزن من أنه ألف ومائتا رطل، وما ذهب إليه أيضا من القلتين
ويضعفه غاية الضعف إعراض الأصحاب عنه.
ومستند (الرابع) صحيحة إسماعيل بن جابر (1) قال: " قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): الماء الذي لا ينجسه شئ؟ قال: ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته "
وفي المدارك أنها أصح رواية وقف عليها، ويبلغ تكسيره حينئذ إلى ستة وثلاثين شبرا،
لأن المراد بالذراع القدمان كما يظهر من أخبار المواقيت (2) والقدم شبر، وهو مبني
على أن المراد بالسعة كل من جهتي الطول والعرض، فيكون كل منهما ذراع وشبر فتضرب
الثلاثة في الثلاثة تبلغ تسعة فتضرب في أربعة العمق فتبلغ المقدار المذكور. وفيه أن
هذه الرواية قد أعرض عنها الأصحاب، قال في المنتهي بعد ذكر هذه الصحيحة:
" وتأولها الشيخ على احتمال بلوغ الأرطال، وهو حسن لأنه لم يعتبر أحد من أصحابنا
هذا المقدار " انتهى وهو كذلك ويؤيد حمل الشيخ على ذلك ما نقل عن محمد أمين
أنه قد اعتبرنا الكر وزنا ومساحة في المدينة المنورة فوجدنا رواية ألف ومائتا رطل مع
الحمل على العراقي قريبة غاية القرب من هذه الصحيحة " انتهى وينقدح من ذلك إشكال
من نسبة الوزن والمساحة بناء على المشهور يأتي التعرض له إن شاء الله. ويحتمل
في الرواية أن يراد بالسعة مجموع الطول والعرض فتكون لا قائل بها. ومثله أيضا إن
قرئ وشبر بالرفع أي ذراعان عمقه في ذراع طوله وشبر سعته. ويحتمل حملها على أن المراد
بالسعة إنما هو العرض ويكون الطول محذوفا فيحصل من ضرب العرض في العمق اثني

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
(2) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة.
178

عشر وقد يزاد القدم شيئا يسيرا على الشبر مقدار ربع ومقدار الطول ثلاثة ونصف
لأن الغالب زيادة الطول على العرض، ولما دل على أنه ثلاثة ونصف، فيوافق حينئذ
مذهب المشهور. وربما احتمل تنزيلها على ما يوافق الثلاثة بالتقرير المتقدم سابقا في رواية
أبي بصير من حمل قوله ذراع وشبر سعته على تقدير القطر لكون الكر مدورا لا يعرف
عرضه من طوله، فإذا أردنا معرفة ذلك ضربنا نصف القطر وهو شبر ونصف في نصف
الدائرة وهو أربعة ونصف لكون القطر ثلثها كما هو مقرر في محله يحصل منه ستة وثلاثة
أرباع، فتضرب في أربعة العمق، فيحصل سبعة وعشرون. وأنت خبير ببعد مثل
ذلك في الأخبار لتوقفه على المهارة في فنه المعلوم خلو مثل إسماعيل بن جابر عنه، وإلا
لذكر في ترجمته. والأولى حملها على ما تقدم أو طرحها.
ومستند (الخامس) أي مذهب الراوندي دليل المشهور من رواية أبي بصير
ونحوها إلا أنه فهم منها أن (في) ليست للضرب بل بمعنى مع، فتبلغ عشرة ونصفا، وهو
قد يكون كالمشهور كما إذا كان كل من أبعاده الثلاثة ثلاثة ونصفا وقد يقرب منه كما
لو فرض طوله ثلاثة أشبار وعرضه ثلاثة وعمقه أربعة ونصف فإن مساحته حينئذ أربعون
شبرا ونصف، وقد يكون بعيدا عنه جدا كما لو فرض طوله ستة وعرضه أربعة وعمقه
نصف شبر فإن مساحته اثني عشر شبرا، وأبعد منه ما لو فرض طوله تسعة أشبار
وعرضه شبر واحد وعمقه نصف شبر. فعلى كلامه يكون مثل ذلك كرا تبلغ مساحته
على تقدير الضرب أربعة أشبار ونصف، ولمكان هذا الاختلاف بينه وبين المشهور
يحتمل تنزيل كلامه على ما بلغ عشرة ونصفا مع تساوي الأبعاد الثلاثة في المقدار وهو
عين مذهب المشهور، وإن أبيت فهو فاسد لظهور الأخبار في إرادة الضرب، بل
الاجماع المركب على أنه يلزمه عليه اختلاف مقدار الكر، فتارة ما يملأ قربة أو جرة
وأخرى ما يملأ حبا وراوية وأكثر، وهو من المستبعد جدا.
ومستند (السادس) وهو العمل بكل ما روي لاختلاف الأخبار قيل ومرجعه
179

إلى مختار القميين، وحمل الزائد على الندب. وقد يقال أن الكر عنده اسم لما بلغ
سبعة وعشرين إلى الستة وثلاثين ومنها إلى رواية المشهور، ومتى ما حصل نقصان في
الأربعين مثلا رجع إلى الفرد الآخر فيكون عنده أكرار لا كر واحد حتى يحمل الزائد
على الندب أخذ بظاهر ما دل على أن الكر سبعة وعشرين وستة وثلاثين وثلاثة
وأربعين، فيكون الكر عبارة عن الثلاثة، ومثله يجري في السابق أي كلام الراوندي،
إلا أنه من قبيل المشترك المعنوي وما نحن فيه من قبيل المشترك اللفظي بين الثلاثة،
وإن كان بالنسبة إلى أفرادها بحسب الزيادة والنقصان أيضا مشترك معنوي. وكيف
كن ففساده لا يحتاج إلى بيان لظهور اتحاد معنى الكر. وأي فائدة في بيان الفرد
العالي مع حصوله بالفرد الأدنى، سيما في بيان المقدار الذي تدور الطهارة والنجاسة على
وجوده وعدمه، مع أنه إن أراد أن هذه المعاني وضع لها شرعا ففيه مع أن أصالة عدم
التعدد تقضي بعدمه أن الكر ليس له في الشرع بحسب الظاهر حقيقة شرعية، ولذا
ما ذكر يوما في لسان المتشرعة أن الكر لغة كذا وشرعا كذا، مع أن طريقتنا لضبط الحقيقة
الشرعية إنما هو المتشرعية، وإن أراد لغة فهو معلوم العدم وإن أراد المجاز فهو مع بعده
بل منه لا يتصور فيه هذا الابتداء والانتهاء.
وأما على الوجه الأول من إرادة الندب ففيه - مع بعد استفادة الندب من مثلها
مما ذكر في بيان التقدير، بل امتناعه إذ لا إشعار فيها باستحباب ذلك للمستعمل ولا يتصور
غيره - أنه ليس عملا بكل ما روي بل هو اخراج لها عن ظاهرها، هذا مع أنه يمكن
ادعاء الاجماع على خلافه. وهذا القول كاحتمال حمل الأخبار على الكر الترتيبي فأقصاه
مثلا تقدير المشهور ثم من بعده الصحيحة المذكورة ثم من بعده كر القميين بمعنى أنه مع
وجود الفرد العالي لا يجوز استعمال الأدنى منه وهكذا، لاستلزامه إما المنع من استعمال الأدنى
مع كونه كرا أ وأنه ليس كرا وبعد انعدام الأعلى يكون كرا. واحتمال إرادة الترتيب
بالمعنى الذي ذكرنا في كلام ابن طاووس قد عرفت ما فيه. ومثلهما احتمال القول أن هذا
180

تسامح في تقدير الكر، إذ كيف يعقل التسامح مع هذا التفاوت.
نعم هنا (بحث آخر) وهو أن التحديد بالأشبار أو الوزن على المشهور وغيره
هل هو على التحقيق أو التقريب فمتى نقص منه قليل لا يقدح في كونه كرا؟ الظاهر
الأول لتعليق الحكم فيه على هذا المقدار فلا تسامح فيه. ودعوى احتمال الصدق مع
النقصان يدفعه أنه من المسامحات العرفية لا من الحقائق. لا يقال إن هذا التقريب ربما
يكون وجه جمع بين رواية أبي بصير التي هي دليل المشهور وبين صحيحة إسماعيل بن جابر،
لأنا نقول على تقدير التقريب لا يتسامح في مثل هذا المقدار فإن التفاوت سبعة أشبار
إلا ثمن. ومثل الاحتمال المتقدم سابقا احتمال القول بأن هذا الاختلاف في الأخبار من
جهة اختلاف المياه في الصفا وعدمه فإذا كان الماء صافيا ليس فيه شئ يكون مقدار الكر
سبعة وعشرين بخلاف غيره فيقدر التقديرين الآخرين للاختلاف شدة وضعفا. وأنت
خبير أن ذلك كله تصرف من غير إذن المالك. ثم إنه لو كان هناك ما اختبر بالوزن
فبلغ المقدار المعلوم ولكنه بالمساحة لا يبلغ وبالعكس فهل تجري عليه أحكام الكرية
أو لا؟ والظاهر أن المساحة على المشهور تزيد على الوزن في المشهور فما معنى هذا التقدير؟
وما يصنع بالزيادة؟ على الاستحباب أو غيره؟ والتحقيق في المقام أن يقال قد علمت
أن الكر مكيال معروف، إلا أنه لما كان غير موجود في كل وقت، أو لأنه خشي
أن يجهل حاله مع احتياج الناس لمعرفة الكر لكثرة أسفارهم وعوارضهم، بل هم
محتاجون إلى ذلك في الحضر أراد الشارع ضبطه بالوزن لكونه الأصل وبالمساحة
تسهيلا للخلق، والظاهر أنه مبني تقديره بهما على التقريب لا على التحقيق، وإن كان
بعد تقدير التقريب بذلك صار تحقيقا لا ينقص منه شئ، فيكون تحقيقا في تقريب،
فلا يقدح هذا التفاوت بينهما وحينئذ يكون عدمهما علامة على عدم الكر، كما أن وجود
أحدهما دليل عليها وإن خاصية الوزن لما نقص عنه بالوزن والمساحة للمساحة لا المساحة للوزن
ولا العكس، فيكون مفهوم كل من الروايتين معارض بالأخرى فيسقطان فيبقى منطوقهما
181

سالما، ويكفي في تحقق الكر وجود أحدهما. وبعبارة أخرى هنا كران وزني ومساحي
فلا ينافي نقصان أحدهما عن الآخر إذ ما نقص في الوزن وبلغ في المساحة كر مساحي
لا وزني وبالعكس، فإن أحدهما غير الآخر، فليس الزيادة محمولة على الاستحباب.
لكن قد يشكل بأنه لا داعي إلى هذا التقدير المختلف بعد علمه بنقص الوزن عن المساحة
دائما مع القدرة على ضابط بغير ذلك منطبق عليه. ويدفع أولا بأن دعوى علم النبي
والأئمة (عليهم السلام) بذلك ممنوعة، ولا غضاضة لأن علمهم (عليهم السلام) ليس
كعلم الخالق عز وجل فقد يكون قدروه بأذهانهم الشريفة وأجرى الله الحكم عليه (1)

(1) كتب الحجة المحقق السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم في مقدمة كتابه (مقتل
الحسين عليه السلام) فصلا ضافيا عن سعة علم الإمام المنصوب من المولى سبحانه علما
للعباد وعن إقدام الأئمة (عليهم السلام) على ما فيه الهلكة. قال لقد دلت الآثار المتواترة
معنى على أن الله تعالى منح الإمام الحجة الذي أقامه منارا يهتدى به إلى السبيل بعد انقضاء
أمد الرسالة قوة قدسية عبر عنها في الحديث (بعمود نور) يستعلم به الإمام ما يقع في
الكون من حوادث وملاحم وما تكنه جوانح البشر من خير وشر حتى كأن الأشياء كلها
حاضرة لديه على حد تعبير أبي عبد الله (عليه السلام) كما في مختصر البصائر ص 101 إقدارا
من لدن حكيم عليم تعالى شأنه.
ولا غلو فيه كما يتوهمه من لا فقه له بأسرار الأحاديث الواردة عنهم (عليهم السلام)
ولم يبصر ما تحلت به هذه الشخصيات المتحدة مع الحقيقة (الأحمدية) المتكونة من الشعاع
الأقدس تعالت نورانيته، فإن المغالاة في شخص عبارة عن إثبات صفة له إما أن يحيلها
العقل أو لعدم القابلية لها، والعقل لا يمنع الكرم الإلهي، وهذه الذوات المطهرة بنص
الذكر المجيد (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) قابلة لتحمل
الفيض الأقدس بتمام معانيه والشح منزه عنه (المبدأ الأعلى) جلت عظمته فالتقى مبدأ
فياض وذوات قابلة للإفاضة، إذن لا بدع في كل ما ورد في حقهم (عليهم السلام) من
العلم بالمغيبات والوقوف على أعمال العباد وما يحدث في البلدان من خير وشر منحة من مفيض
النعم عز شأنه على من (فتح بهم الوجود وبهم يختم) اللهم إلا أشياء استأثر بها وحده سبحانه
فالغيب المدعى فيهم غير المختص بالباري تعالى، فإنه فيه ذاتي وفي النبي والأئمة
من أبنائه مجعول من الله تعالى، فبواسطة فيضه ولطفه كانوا يتمكنون من استعلام خواص
الطبائع والحوادث وما كان ويكون وهو كائن.
ويشهد له أن أبا جعفر الجواد عليه السلام لما أخبر أم الفضل بنت المأمون حينما
أدخلت عليه بما فاجأها مما يعتري النساء عند العادة قالت له لا يعلم الغيب إلا الله تعالى،
فقال عليه السلام وأنا أعلمه من علم الله تعالى.
فالأئمة عليهم السلام محتاجون في جميع الآنات إلى الفضل الإلهي بتمكينهم من الوقوف
على ما كان ويكون بحيث لولا دوام الاتصال وتتابع الفيوضات لنفد ما عندهم كما نص عليه
أبو عبد الله عليه السلام، فإنه قال لولا إنا نزداد في كل ليلة جمعة لنفد ما عندنا، ومراده
عليه السلام التعريف بأن علمهم مجعول من الباري تعالى وأنهم في حاجة إلى هذه المنحة
المباركة، والتخصيص بليلة الجمعة من جهة بركتها بنزول الألطاف الرحمانية فيها من أول
الليل على العكس من سائر الليالي، وإلى هذا يرجع قول أبي الحسن الرضا عليه السلام يبسط
لنا العلم فنعلم ويقبض عنا فلا نعلم.
وهل يشك من يقرأ في سورة الجن الآية 26 (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا
إلا من ارتضى من رسول) إن من كان من ربه تعالى قاب قوسين أو أدنى هو الرسول
المرتضى حيث لم يفضله أحد من الخلق مهما ترقى إلى مستوى الفضائل واستقى من منبع
الوحي، وفي ذلك يقول أبو جعفر عليه السلام كان والله محمد (ص) ممن ارتضاه الله تعالى.
ولم يبعد الله سبحانه الخلفاء من آل الرسول عن هذه المنزلة بعد اشتقاقهم من النور
المحمدي، وحازوا جميع ما حبا الله به جدهم الأعظم من المآثر التي لا يدانيها أحد إلا
النبوة والأزواج على حد تعبير أبي عبد الله الصادق كما في المحتضر ص 20.
ولما نفى عمرو بن هداب عن الأئمة عليهم السلام علم الغيب استنادا إلى ظاهر هذه الآية
قال له أبو الحسن الرضا عليه السلام أن رسول الله هو المرتضى عند الله تعالى ونحن ورثة
ذلك الرسول الذي اطلعه الله على الغيب فعلمنا ما كان ويكون إلى يوم القيامة.
ومن لم يفقه المراد من علم الغيب المدعى لهذه الشخصيات نخب العوالم وسر الكائنات
ولا أدرك كنههم تأخذه الحيرة في الايمان بسعة العلم لهم فيتسارع إلى إنكار ما حباهم المولى
سبحانه به، وإذا كان سليمان يفقه منطق الطير وكلام النملة إقدارا له من المهيمن تعالى شأنه
وتمكينا له على ذلك فلا يفوت هذا العلم عمن حاز أرقي صفات الجلال والجمال وتخطى إلى
أعلى مستوى الفضائل.
وإنكار الصادق عليه السلام اطلاعه على هذا العلم مدعيا بأنه لما هم بضرب جاريته
وهربت منه لم يعلم بها في أي بيوت الدار - لا يكون حجة للمنكرين بعد جهالة رواة
الحديث كما في مرآة العقول، وحضور المجلس من لا قابلية له على تحمل غامض علمهم كداود
الرقي ويحيى البزار، فيكون غرضه من النفي تثبيت عقيدتهم وعدم تزلزلهم، ويؤيده أن
سدير الراوي لهذا الحديث دخل عليه في وقت آخر وذكر له استغراب ما سمعه منه من نفى
العلم بالغيب فطمنه أبو عبد الله عليه السلام بأنه يعلم ما هو أرقي منه وهو العلم بالكتاب كله،
وما حواه من فنون المعارف وأسرار الكائنات.
مع أنه يحتمل أن يريد من نفي العلم بمكان الجارية (الرؤية بالبصر) فقوله عليه السلام
(ما علمت) أي ما رأيتها بعيني في أي بيت دخلت والتورية في كلامهم جارية لمصالح
يعرفونها. وإلا فمن يقول في صفة علمه لم يفتني ما سبقني ولم يعزب عنى ما غاب عنى
لا يخفى عليه أمر الجارية.
كما أن ما ورد عنهم عليهم السلام من أن الإمام عليه السلام إذا أراد أن يعلم شيئا
أعلمه الله لا دلالة فيه على تحديد علمهم بوقت خاص، بل الحديث يدل على أن إعمال تلك
182



القوة القدسية الثابتة لديهم منذ الولادة موقوف على إرادتهم المتوقفة على وجود المصلحة
في إبراز الحقائق المستورة وإظهار ما عندهم من مكنون العلم، على أن هذا المضمون ورد
في أحاديث ثلاثة ردها المجلسي في مرآة العقول بضعف بعض رجالها وجهالة الآخرين.
وحكاية الكتاب المجيد عن النبي صلى الله عليه وآله (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت
من الخير) لا تفيد إلا كونه مفتقرا إلى الله تعالى في العلم بالمغيبات وأنه لم يكن عالما به من
تلقاء نفسه، وهذا لا ريب فيه فإن المعتقد أن الله تعالى هو المتلطف على النبي والأئمة من
أبنائه بالملكة القدسية التي تمكنوا بواسطتها من استكشاف ما في الكون، وإرادة النفي
المطلق باطلة لأنه لا ريب في اخباره ببعض المغيبات، مع أن السياق يقتضي أن يراد من النفي
العلم بالساعة لأن السؤال كان عنها.
فالمتحصل مما ذكرناه أن الله تعالى بمنه ولطفه أفاض على نبيه الأقدس صلى الله عليه وآله
وخلفائه المعصومين ملكة نورية تمكنوا بواسطتها من استعلام ما يقع من الحوادث وما
في الكائنات من الخواص وأسرار الموجودات وما يحدث من خير وشر، ولا غلو فيه بعد
قابليتهم لتحمل هذا الفيض المبارك، وعدم الشح في عطاء الرب سبحانه (يهب ما يشاء لمن
يشاء) وصارح الأئمة عليهم السلام بهذه الحبوة الإلهية.
وأنه غير بعيد فيمن تجرد للطاعة وعجنت طينته بماء النزاهة من الأولياء والصديقين
فضلا عمن قبضهم الباري عز شأنه أمناء شرعه وأعلاما لعباده.
وقد اعترف الشيخ المفيد في المقالات ص - 77 - بأن الله سبحانه أكرم الأئمة من آل
محمد عليهم السلام بمعرفة ضمائر العباد وما يكون قبل كونه لطفا منه سبحانه لهذه الذوات
القدسية، وإن لم يجب ذلك عقلا لكنه وجب لهم بالسماع.
وذكر الطبرسي في مجمع البيان عند قوله تعالى في سورة الأنعام الآية 50 (لا أعلم الغيب)
أنه لم يعلم الغيب من تلقاء نفسه وإنما يعلم ما يعلمه الله به وفي مرآة العقول ج 1 ص 187
إن الجمع بين الآيات والروايات أنهم عليهم السلام لا يعلمون الغيب من تلقاء أنفسهم بغير
تعليمه بوحي أو الهام، وإلا فظاهر أن عمدة معاجز الأنبياء والأوصياء من هذا القبيل.
وعلى ضوء الأحاديث المتكثرة مشى المحقق الآشتياني في حاشيته على رسائل الشيخ الأنصاري
ج 2 ص 60 فسجل اعتقاده بما ارتئيناه.
ولم يتباعد العلامة الآلوسي عما قررناه من تمكن المولى سبحانه الخلفاء المعصومين
من الوقوف على المغيبات، فإنه قال في تفسيره (روح المعاني) ج 20 ص 11 عند قوله تعالى
في سورة النمل الآية 65 (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) لعل الحق إن علم
الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص بذاته أي بلا واسطة في ثبوته له، وما وقع
للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شئ، وإنما هو من الواجب عز وجل إفاضة منه عليهم
بوجه من الوجوه، فلا يقال إنهم علموا الغيب بذلك المعنى فإنه كفر، بل يقال إنهم أظهروا
واطلعوا على الغيب.
ويقول ابن حجر في الفتاوى الحديثية ص 223 إعلام الله تعالى للأنبياء والأولياء
ببعض الغيوب ممكن لا يستلزم محالا بوجه، وانكار وقوعه عناد، لأنهم علموا بأعلام الله
واطلاعه لهم، وقد صرح النووي في فتاويه به فقال لا يعلم ذلك استقلالا، وإنما هو
باعلام الله لهم.
ويحكى عبد القادر العيدروس في النور السافر في أعيان القرن العاشر ص 85
إن النيسابوري صاحب التفسير يقول امتناع الكرامة من الأولياء إما لأن الله ليس أهلا
لأن يعطى المؤمن ما يريد، وإما لأن المؤمن ليس أهلا لذلك، وكل منهما بعيد، فإن توفيق
المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده، وإذا لم يبخل الفياض بالأشرف فلأن
لا يبخل بالأدون أولى.
وهؤلاء وإن لم يوافقوا الشيعة على ما يعتقدونه في أئمتهم عليهم السلام من القدرة
على العلم بالحوادث الكائنة والتي تكون، لاعتقادهم أن هذه السعة مختصة بالباري جل شأنه.
ولكن الملاك الذي قرروه لمعرفة الأنبياء والأولياء ببعض الغيب وهو تمكين المولى
سبحانه لهم من الوقوف على المغيبات تفيد ما تعتقده الشيعة من سعة العلم، فإن الميزان للوقوف
على الغيب إذا كان باقدار الله تعالى فمن الجائز أن تكون تلك القوة النورية بالغة أقصى مداها
حتى كأن الأشياء كلها حاضرة لديهم على حد تعبير الإمام الصادق عليه السلام اللهم إلا ما
استأثر به الله وحده فإنه لا وقوف لأحد عليه مهما ترقى إلى فوق ذروة الكمال.
وعلى هذا الذي سجلناه من سعة علم الإمام الشامل لجميع الحوادث وأسرار الكائنات
وخواص الطبايع حبوة من مفيض النعم تعالت نعماؤه يتجلى أنه عليه السلام لم يفته العلم فيما
يحد الكر من المساحة المطابقة تحقيقا للوزن، والأخبار الحاكية عنه تحديدهما مع ما يشاهد
فيهما من الاختلاف فبعد غض النظر عما يقال في بعضها يكون العلاج إما بحمل الزائد
على كونه علامة على وجود الحد قبله، وذلك في صورة زيادة الوزن على المساحة بمقدار
يتسامح فيه، وصورة زيادة المساحة على الوزن بمقدار يتسامح فيه، وهذا نظير ما ورد عنهم
عليهم السلام من تحديد حد الترخص بخفاء الأذان والجدران مع أنهما لا يتطابقان دائما،
فيكون خفاء الجدران علامة على وجود الحد قبله، وإما بترجيح ما يفيد كون المساحة
سبعة وعشرون شبرا فإنها تتفق مع الوزن دائما على الأرطال العراقية كما جربه بعض الأعلام.
182

وثانيا بأنه لا يمكن ضبط مساحة تنطبق على الوزن دائما أو بالعكس لاختلاف المياه ثقلا
وخفة دائما ومن اختبر ذلك وجد ما قلنا، فتارة يزيد الوزن وأخرى بالعكس. فقد
يكون الشارع أخذ مقدارا جامعا وهو هذا التقدير، والله أعلم بحقيقة الحال. والحوالة
183

في الأشبار على المعتاد، ولا يقدح هذا الاختلاف اليسير في تفاوت الأشبار المعتادة،
ولعله لذلك ارتكب القول بالتقريب قائله. وفيه أنه لا يقضي بالتقريب في أصل المقدار
أي الثلاثة الأشبار ونصف بحيث يتسامح بالناقص عنها بالشبر المعتاد، على أن المراد
184

بالتحقيق الذي ذكرناه إنما هو أنه لا ينقص عن أقل أفراد المعتاد. ويحتمل القول أنه
بقدر الشبر المعتاد بتقدير لا يزيد ولا ينقص فيكون تحقيقا في تقريب كأصل المقدار،
إلا أنه بعيد كاحتمال القول أن المعتاد لا يزيد ولا ينقص تحقيقا.
(ويستوي في هذا الحكم) أي عدم نجاسة الكر وغيرها من الأحكام (مياه الغدران
والأواني والحياض على الأظهر). بل لا ظهور في غيره على ما هو المشهور شهرة كادت
تكون إجماعا، بل هي كذلك، ولذا أطلقه بعضهم على عدم نجاسة الكر، إذ لم ينقل
الخلاف فيه إلا عن المفيد في المقنعة وسلار في المراسم، حيث ذهبا إلى نجاسة ما في
185

الحياض والأواني وإن كان كثيرا، مع أن عبارة المقنعة غير صريحة في ذلك بل
تحتمل الحمل على إرادة ما كان دون الكر، كما لعله يظهر من الشيخ في التهذيب
فإنه لم يتعرض في شرحه لهذه العبارة إلى كون ذلك مذهبا للمفيد، بل ظاهره عند شرح
قول المفيد (والمياه إذا كانت في آنية محصورة فوقع فيها نجاسة لم يتوضأ ووجب إهراقها)
أنه فهم منه أن مراده مع القلة لأنه قال: " يدل على ذلك ما قد منا ذكره من أن الماء
متى نقص عن الكر فإنه ينجس بما يحله من النجاسات " إلى آخره لكن التأمل الصادق
في عبارة المقنعة وما اشتملت عليه من التفصيل يمنع من احتمال غير ذلك فيها، بل قد
186

يستفاد منها تخصيص الغدير والقليب بحكم الكر ونجاسة ما عداهما وإن لم يكن حوضا أو
آنية. وعن ظاهر الشيخ في النهاية موافقة المفيد في خصوص الأواني. وكيف كان
فلا ريب في ضعفه ولذلك نسبه بعضهم إلى الشذوذ بل عن آخر أنه لا وجه له، للأصل
وعمومات الطهارة لموافقتها لأكثر أحكام الكرية، بل جميعها على وجه، وإطلاق
ما دل على حكم الكر، بل يكاد يقطع الناظر في أخبار الكر وفيما ورد منها بالضبط
بالضرب والوزن أنه لا خصوصية لمحلل الماء، مضافا إلى قوله (عليه السلام) (نحو حبي
187

هذا) (1) وقوله (لا تشرب من سؤر الكلب إلا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه)
(2) وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3) لما سئل أن حياضنا هذه تردها الكلاب
والبهائم: " لها ما أخذت أفواهها ولكم سائر ذلك " وقول أبي عبد الله (عليه السلام) (4)
لما سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة: " إنها تردها الكلاب إلى أن قال
(عليه السلام): وكم قدر الماء؟ فقيل إلى نصف الساق وإلى الركبة، فقال: توضأ منه "
هذا مع اطلاق الاجماعات على عدم نجاسة الكر إلى غير ذلك. والمناقشة في بعض ما ذكرنا
من الأدلة لا تورث شكا في أصل الدعوى وأقصى ما استدل به للمفيد عموم النهي (5)
عن استعمال الأواني بعد مباشرة النجاسة، والتعارض بينها وبين بعض ما عرفت تعارض
العموم من وجه. وفيه أنه بعد تسليم ذلك وكونه أخص من الدعوى مرجوحة بالنسبة
إلى تلك من وجوه عديدة مع أن الأصل والعمومات كافية في ذلك (وأما) القسم الثالث أي
(ماء البئر)
وهي كما عن الشهيد " مجمع ماء نابع لا يتعداها غالبا ولا يخرج عن مسماها عرفا "
ومن المعلوم أن المقصود من هذا التعريف ضبط المعنى العرفي، وإلا فلا حقيقة له شرعية
قطعا بل ولا متشرعية، بل ولا لغوية تنافي المعنى العرفي، فالذي ينبغي أن يؤكل معناه
إلى العرف كما في غيره من الألفاظ التي بهذه المثابة، لكن لما شاع إطلاق اسم البئر
على ما ليس كذلك كما في آبار المشهد الغروي على مشرفه السلام وآبار أهل الشام ونحو
ذلك أراد (رحمه الله) ضبطه العرف حتى لا يقع الاشتباه فقال مجمع ماء نابع إلى آخره،
إذ ليست الآبار المتقدمة كذلك بل يجري الماء إليها من عيون خارجة عنها، إلا أن قوله

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 - 10 - 12
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 - 10 - 12
(4) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 - 10 - 12
(5) الوسائل - الباب - 51 - من أبواب النجاسات - حديث 1
188

(رحمه الله) (لا يتعداها غالبا) لا يخلو من إجمال، لأنه إن أراد بالغالب بحسب الأزمان
ورد عليه أنه ينبغي حينئذ أن تجري على المتعدي حال التعدي ولو نادرا أحكام البئر
إذ يصدق عليه أنه لا يتعداها غالبا، وإن أراد بحسب أفراد البئر ورد عليه مثل الأول
بالنسبة للفرد النادر. (فإن قلت) أن ذلك كله يدفعه قوله ولا يخرج عن مسماها عرفا،
قلت هو مغن حينئذ عن قوله لا يتعداها إلى آخره، لكن قد يكون مقصوده أن التعدي
إذا كان نادرا لا يخرجها عن البئرية حال عدم التعدي بخلاف ما لو كان التعدي هو الغالب
وعدم التعدي هو النادر فإنه لا يلحقها أحكام البئر، وسئله إذا كانا متساويين لأن الأصل
عدم تعلق أحكام البئر فما لم يعلم بئريته لا يحكم بتعلق الأحكام عليه، إلا أنه - مع أنه
كيف يعرف المتعدي غالبا من غيره في الآبار المجهولة الحال، وتنقيح ذلك بالأصول
لا يخلو من إشكال لا يخفى ما فيه من الاجمال الذي لا يناسب التعريف، بل قيل: " قوله
ولا يخرج عن مسماها عرفا كذلك أيضا، لأن العرف الواقع لا يظهر أي عرف هو أعرف
زمانه أم زمان غيره، وعلى الثاني فيراد الأعم أو الأعم منه ومن الخاص، مع أنه يشكل
إرادة عرف غيره (صلى الله عليه وآله)، وإلا لزم تغير الحكم بتغير التسمية فيثبت في العين
حكم البئر لو سميت باسمه وبطلانه ظاهر " وفيه أن العرف إذا أطلق ظاهر في إرادة
العرف العام وبه تثبت الحقيقة اللغوية إن لم يعلم بمغايرتها ويقدم على اللغوية إن علم ثبوتها
على الأصح (1) على أن ما ذكره هذا المتعرض من التشقيق كله لا محل له في المقام إذ
ليس للبئر في زمانه معنى غير ما عندنا لا عرفا عاما ولا خاصا. وكأن الذي حداه إلى ذلك
هو إطلاق لفظ البئر على مثل آبار المشهد الغروي والشامات في لسان أهل العرف وهو

(1) لحصول الظن بعدم حدوث هذا المعنى العرفي العام بعدهم صلوات الله وسلامه عليهم،
بحيث تطابق أهل العرف العام على ذلك وحصل مثل هذا التغير في مثل هذه المدة، وبذلك
ينقطع أصالة تأخر الحادث الذي هو مستند تقديم اللغوية، ولتحقيق ذلك مقام آخر
(منه رحمه الله).
189

غير العرف العام السابق فأراد أن ينبه على أنه ليس المدار إلا على زمانه (صلى الله عليه وآله)
لكنك تعلم أن هذا الاطلاق لم يكن عند عامة أهل العرف العام، بل كان إطلاق من
أطلق إنما كان لمشاركته للبئر من جهة الحفر ووصوله إلى حد النبع ونحو ذلك مما يشارك
بها البئر النابع، وقد يشير إلى ذلك قولهم بئر جار وبئر نبع فتأمل. والحاصل أن
الذي ينبغي النظر إلى حال العرف في مثل هذا الزمان، فما يعلم حدوثه لا يلتفت إليه
وما لم يعلم تعلق به الحكم لأنه به يستكشف العرف السابق وتثبت اللغة إن لم يعلم
مغايرتها وإلا قدم عليها على الأصح، فمثل الاطلاق في هذا الوقت على مثل آبار المشهد
الغروي وغيره مما علم حدوثه لا يلتفت إليه ولا يتعلق به حكم، وأما غيره فيبقى على
القاعدة. واحتمال المناقشة في حدوث هذا الاطلاق بأنه قد يكون البئر سابقا لما هو أعم
مما ذكره المعرف لا وجه له لاعتبار النبع فيه قطعا. نعم قد يقال إن الذي يقتضيه المنقول
عن كثير من أهل اللغة من تفسير النبع بأنه الخارج من عيون، بل قد يقتضيه التعليل (1)
بأن له مادة عدم دخول البئر الذي يكون ماؤها رشيحا لعدم تبادر ذلك من المادة،
ومثل ذلك فيما يكون مادته من الثمد، مع أن الأصل عدم تعلق أحكام البئر، بل ينبغي
القطع به بالنسبة إلى الثمد لعدم النبع فيه لغة وعرفا لكن الأقوى جريان حكم البئر على
الرشيحية لاطلاق اسم البئر عرفا فيقدم على اللغة، مع أن المنقول عن صاحب الصحاح
تفسير النبع بمطلق الخروج وقد تقدم لنا في الجاري ما يظهر منه ترجيح ذلك.
وهل يشترط في اسم البئر دوام النبع بمعنى أنه لا ينقطع عنها النبع كما قد يشعر
به التعليل بالمادة أو لا؟ وجهان، والظاهر دوران الحكم مدار استعدادها للنبع،
فتوقفه على اخراج بعض مائها لا يقدح في صدق اسم البئر. ولو كان لها وقتان تنقطع
في أحدهما دون الآخر فالظاهر دوران الحكم مداره وجودا وعدما. ولو شك فيها في
هذا الحال لم يبعد التمسك بأصالة عدم الانقطاع إن لم يعلم أن لها حالتين، وأما بعد العلم

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 و 7.
190

لكن لا يعلم أن هذا الحال أيهما، فمع سبق العلم بحصول أحدهما لم يبعد التمسك باستصحابه،
وأما مع عدم العلم فيحتمل عدم جريان أحكام البئر، لأن الشك في الشرط شك في المشروط.
ويحتمل القول بالجريان لصدق اسم البئر عليها فتأمل.
وينبغي القطع بخروج الحفر التي تحفر قرب الماء فيكون فيه ماء لعدم صدق اسم
البئر، كما أنه ينبغي القطع بخروج العيون لذلك وأيضا قد يستفاد من قوله في التعريف
لا يتعداها أن البئر متى أجريت بتصيير نهر لها ولو في باطن الأرض تخرج عن مسمى
البئر. وهو كذلك لدخولها تحت الجاري، نعم يشترط أن يكون جريانا معتدا به.
واحتمال عدم منافاة صدق الجاري للبئر مدفوع بظهورها من جعل البئر قسيما للجاري
وتخصيصه بأحكام له على حدة. والآبار المتواصلة إن تحقق فيها الجريان جرى عليها حكم
الجاري وإلا كانت آبارا متعددة لا بئرا واحدا إن لم تتحد من سافل وأما لو كانت
من سافل شيئا واحدا واختلف الحفر إليها من خارج فهل هي بئر واحد أو آبار متعددة؟
وجهان، وعلى الثاني فهل نزحها بنزح الماء جميعه أو يكفي مقدار ماء بئر؟ لا يبعد الأول،
كما أنه لا يبعد ذلك على الأول أيضا لاستصحاب النجاسة حتى ينزح الجميع. ولو اتصلت
بماء جار وإن ركد عندها فالظاهر عدم إجراء الحكم البئر عليها اقتصارا على المتيقن
لأصالة العدم، بل وكذا الواقف الكر على اشكال.
وكيف كان (فإنه ينجس بتغيره) لونا أو طعما أو رائحة حسا (بالنجاسة)
وفي المتنجس ما مر (إجماعا) مع كون التغير مستوعبا لجميع الماء أو خصوص المتغير
إن لم يقطع التغير عمود الماء، وإلا فالمتغير، والسافل إن لم يكن مقدار كر على ما ستسمع
من مذهب المتأخرين من أن حكم البئر حكم الجاري بالنسبة للطهارة والنجاسة. (وهل ينجس
بالملاقاة) لأي نجاسة وإن كانت أكرارا (فيه تردد والأظهر التنجيس) للاجماع
المنقول في كلام جماعة من الفحول عليه بل في السرائر وعن غيرها نفى الخلاف فيه،
مع التصريح بأنه لا فرق بين قلة الماء وكثرته، مضافا إلى الاجماعات في مقدار النزح،
191

لكن قد يقال إنها مساقة لغير ذلك. ولهذا ربما تقع من القائل بعدم التنجيس. نعم
يمكن الاستدلال عليها أيضا بالعمومات أو الاطلاقات الدالة على نجاسة ما تلاقيه هذه
النجاسات وما دل (1) على نجاسة القليل متمما بعدم القول بالفصل أو ضعفه، وبقوله في
مكاتبة محمد بن إسماعيل بن بزيع (2) في الصحيح قال: " كتبت إلى رجل أسأله أن
يسأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها
قطرات من بول أو دم أو يسقط فيها شئ من عذرة كالبعرة ونحوها ما الذي يطهرها
حتى يحل الوضوء منها للصلاة، فوقع (عليه السلام) بخطه في كتابي ينزح منها دلاء "
وهو في قوة قوله يطهرها نزح دلاء منها، لوجوب تطابق الجواب السؤال وهو قاض
بالنجاسة قبل النزح وبما رواه علي بن يقطين في الصحيح (3) عن أبي الحسن موسى
ابن جعفر (عليه السلام) قال: " سألته عن البئر يقع فيها الدجاجة والحمامة أو الفأرة
أو الكلب أو الهرة فقال يجزيك أن تنزح منها دلاء، فإن ذلك يطهرها إن شاء الله ".
وبقول أبي عبد الله (عليه السلام) (4): " إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلوا
ولا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد، فإن رب المأرب الصعيد ولا تقع في البئر ولا تفسد
على القوم ماءهم " فإن جواز التيمم مشروط بفقد الماء الطاهر مع ظهور إرادة النجاسة
من لفظ الافساد كما اعترف به الخصم ولولا أنه يقبل النجاسة لم يفسد. وربما استدل عليه
أيضا بحسنة زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير (5) قالوا: " قلنا بئر يتوضأ منها يجري
البول من تحتها أينجسها؟ قالوا: فقال: إن كانت في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول
الجواهر 24

(1) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق.
(2) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 21.
(3) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2 وليس فيه لفظ (الفأرة)
(4) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب التيمم - حديث 2.
(5) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1. مع اختلاف يسير.
192

من تحتها وكان ما بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع لم ينجس ذلك وإن كان أقل
من ذلك نجسها. وإن كانت البئر في أسفل الوادي ويمر الماء عليها وكان بين البئر
وبينه تسعة أذرع لم ينجسها وما كان أقل من ذلك فلا تتوضأ منه " كما أنه قد يستدل
عليه بأخبار وجوب النزح التي قيل في حقها أنها متواترة. واحتمال الوجوب التعبدي
بعيد، كل ذلك مع الشهرة العظيمة على النجاسة حتى نقل جماعة منهم السيد أن نقل
الاجماع عليه بين القدماء وأخرى منهم الشيخ والحلي نفي الخلاف عنه. مع قرب عهدهم
وبعد خفاء هذا الحكم على كثرة دورانه عليهم، مع أن المتأخرين وإن خالفوا في ذلك
لكنهم لم يذكروا دليلا يحتمل خفاءه على المتقدمين، بل العمدة عندهم على أخبار خرجت
من أيديهم ومع ذلك أعرضوا عنها وما ذاك إلا لأمور عندهم.
وقيل بالطهارة وعدم حصول النجاسة إلا بالتغير من دون فرق بين القليل
والكثير، وهو المنقول عن ابن أبي عقيل وقيل إنه المنقول عن الشيخ الحسين بن عبيد الله
الغضائري والشيخ مفيد الدين بن الجهم، وإليه ذهب العلامة وأكثر المتأخرين
عنه كما في الذخيرة وهو الأقوى للأصل، وقوله (عليه السلام): (كل ماء طاهر حتى
تعلم أنه قذر) وقول الرضا (عليه السلام) (1) في صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع:
" ماء البئر واسع لا يفسده شئ إلا أن يتغير " وأخرى مثلها، وصحيحته الأخرى عنه
(عليه السلام) (2) قال: " ماء البئر واسع لا يفسده شئ إلا أن يتغير ريحه أو طعمه
فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأن له مادة " ووجه الدلالة فيه من وجوه، فإنه
(عليه السلام) قد حكم بالسعة لماء البئر ومعناها عدم قبول النجاسة، إذ هو اللائق لبيانه
مع ظهوره في أن ماء البئر وإن كان قليلا واسع لكونه ماء بئر، وأيضا لم يكتف بذلك
حتى أردفه بقوله (عليه السلام): (لا يفسده شئ) وشئ نكرة في سياق النفي تفيد
العموم على أن الاستثناء منه قرينة على إرادة الاستيعاب، ولا ريب أن المراد بالافساد

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7 - 6.
(2) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7 - 6.
193

الاجتناب من جهة النجاسة لأنه لا معنى لبيانه (عليه السلام) غير ذلك مما يرى ويعرفه
كل أحد على أنه لا معنى للاستثناء حينئذ. ثم إنه (عليه السلام) لم يكتف بذلك حتى
ذكر الاستثناء فلا يبقى السامع في وجل من جهة غلبة التخصيص، وهذا الاستثناء
من العام يصيره بمنزلة النص، لا سيما إذا ذكر الفرد الظاهر المعلوم الحال فإنه يفيد أنه
لا خارج منه إلا هذا الفرد الذي يعلمه كل أحد. ولو كان هناك فرد خفي لكان هو
اللائق بالبيان. ثم إنه (عليه السلام) لم يكتف بذلك حتى بين أن تطهيره غير محتاج
إلى مطهر خارجي كما في غيره بل تطهره إنما هو بنزحه حتى يذهب الريح ويطيب الطعم.
ثم إنه (عليه السلام) لم يكتف بذلك كله حتى أنه ذكر الاستدلال على ذلك بكونه له
مادة، وهو على كل حال إن كان تعليلا للأول أو الثاني فيه دلالة على المطلوب. فهذه
الرواية مع اشتمالها على المؤكدات الكثيرة لا ينبغي المناقشة في دلالتها وأيضا اكتفاؤه
(عليه السلام) في الطهارة بالنزح المذهب للتغيير وإن لم يبلغ المقدر قاض بذلك إذ على تقدير
النجاسة يجب استيفاؤه مع التغيير بطريق أولى كذا قيل، ولا يخلوا من تأمل لأنه راجع
في الحقيقة إلى تعارض ما دل على التقدير ولو نزح الجميع مع هذه الرواية المكتفية بزوال
التغيير. ولعل التعارض بينهما من وجه أو يقال بتحكيم ما دل على التقدير لخصوصه
على وجه. وكيف كان فلا ينافي القول بالنجاسة ولا دلالة فيه على الطهارة.
وما في الاستبصار من " أن المراد بالرواية أنه لا يفسده شئ إفسادا لا يجوز الانتفاع
بشئ منه إلا بعد نزح جميعه إلا ما يغيره فأما لم يتغير فإنه ينزح منه مقدار وينتفع
بالباقي " غريب أما أولا ففيه أنه لا معنى لتخصيص التغير بالافساد الذي لا يجوز الانتفاع
بشئ منه إلا بعد نزح جميعه، فإن صب الخمر والمنى وأحد الدماء الثلاثة والبعير وغيرها
كلها من ذلك القبيل، كما أنه قد يجوز الانتفاع بشئ منه بدون نزح الجميع مع التغير في صورة
لا يتوقف زوال التغيير على نزح الجميع بمقتضى هذه الرواية. وأما ثانيا فإن هذ التقدير
والاضمار المشتمل على التخصيص الذي مآله إلى الألغاز الغير القابل لأن يخاطب به من
194

أراد تفهيم السامع ما لا يجوز ارتكابه من غير دليل وقرينة عليه، نعم ربما يرتكب في مثل
بعض الأخبار التي أعرض عنها الأصحاب وقوي فيها المعارض إخراجا عن صورة
المخالفة لا في مثل ما نحن فيه، وقد عرفت أن الرواية قد اشتملت على ضروب من الدلالة،
والطعن فيها بالمكاتبة ضعيف لحجية المكاتبة ولذلك أسنده إلى الإمام (عليه السلام)
فقال: قال: والظاهر أن مراده الإمام (عليه السلام)، على أنه نقلت بطريقين أحدهما
فيه كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) إلى آخره فقد يكون
هذا الراوي سمع ذلك تارة مشافهة وأخرى مكاتبة. وما يقال إن هذه الرواية عامة
وما دل على النجاسة بالأشياء الخاصة خاص فيقدم عليه - في غاية الضعف، أما أولا فإنه
على القول بالنجاسة يكون التخصيص مستغرقا للعام إذ لا شئ من النجاسات لا تنجسه
على مختارهم وثانيا أنه إن قصد بما دل على النجاسة أخبار النزح ففيه أنه لا دلالة فيه إذ
ليس منحصرا وجهه في ذلك، لاحتمال التعبد كما يدعيه بعضهم، واحتمال أن يكون ذلك
لطيب الماء وزوال النفرة الحاصلة من وقوع تلك الأعيان، وإن أراد غيرها مما قدمنا
ذكره في أدلة النجاسة ففيه أن شرط التخصيص المقاومة وهي مفقودة لوجوه لعلك تسمع
بعضها إن شاء الله تعالى. وما يقال أيضا أن ظاهر الرواية متروك لحصول النجاسة بالتغير
اللوني - ففيه أنه على تقدير تسليم أن ما في الرواية لا يدل عليه لا يخرجها عن الحجية كما هو
مقرر في محله. وصحيحة علي بن جعفر (عليه السلام) (1) قال: " سألته عن بئر ماء وقع
فيه زبيل من عذرة يابسة أو رطبة أو زبيل من سرقين أيصلح الوضوء منها؟ قال: لا بأس "
ووجه الدلالة واضح. وما يقال إن العذرة والسرقين أعم من النجس وبأن السؤال وقع
عن الزبيل المشتمل عليهما ووقوعه في البئر لا يستلزم إصابتهما الماء وإنما المتحقق إصابة
الزبيل خاصة. وبإمكان أن يراد لا بأس بعد نزح الخمسين ففيه - بعد إمكان الاستدلال
على تقديره بترك الاستفصال - أن العذرة لغة وعرفا فضلة الانسان كما صرح به بعضهم

(1) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 وفي الباب - 14 - حديث 8
195

وظهور إرادته بالخصوص هنا لمقابلته بالسرقين، وعن منتقى الجمان أنه ذكر جماعة من أهل
اللغة أن العذرة الغائط، وعن نهاية ابن الأثير أنها الغائط الذي يلقيه الانسان سميت
بذلك لأنهم كانوا يلقونها في أفنية الدور، بل في المدارك وغيرها أن السرقين وإن كان
أعم من النجس إلا أن المراد به هنا النجس لأن الفقيه لا يسأل عن الطاهر. لكن قد
يقال إنه لا مانع من سؤال الفقيه عن ذلك لا من جهة الطهارة والنجاسة بل لاحتمال أن يكون ماء الوضوء له خصوصية فتأمل. ووقوع الزبيل في البئر يستلزم وصول ما فيه إليها
عادة ولا سيما مع كون العذرة رطبة والرطبة أعم من اللينة مع أنه لا يناسب حال مثل علي
ابن جعفر السؤال عنه. وأما احتماله بعد النزح ففي المدارك أنه ممتنع لما فيه من تأخير
البيان عن وقت الحاجة بل الألغاز المنافي للحكمة كما هو ظاهر. وفيه أن ذلك من قبيل
الاطلاق والتقييد وقد يكون وقت السؤال ليس وقتا للحاجة أو كان السائل عالما بذلك
أو كانت قرائن حالية أو مقالية قد انعدمت من جهة تقطيع الأخبار. نعم ينبغي الجواب
بأن أخبار النزح لا دلالة فيها على النجاسة وليس الحمل على ذلك أولى من حمل تلك
على الكراهة واستحباب النزح، على أن الأخبار المتقدمة هي أرجح لموافقتها للأصول
والعمومات وسهولة الملة وسماحتها وغير ذلك فتأمل جيدا.
وصحيحة معاوية بن عمار (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سمعته
يقول لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا أن ينتن فإن أنتن غسل الثوب
وأعاد الصلاة " وما (2) يقال من المناقشة في السند من اشتراك حماد بين الثقة والضعيف
وبأن لفظ البئر يقع على النابعة والمحقون ماؤها لا عن نبع، فقد يكون السؤال هنا عن
الثانية - فهو في غاية الضعف، أما الأولى فلأن حماد إذا أطلق فالمتبادر منه إنما هو الفرد
الكامل المشهور والظاهر أنه ابن عيسى، أو يقال إنه يبقى دائرا بينه وبين حماد بن عثمان

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 10.
(2) في نسخة الأصل (مما) بدل (ما).
196

الناب وكل منهما في غاية الوثاقة، على أنه يمكن تعيين الأول برواية الحسين بن سعيد
عنه وروايته عن معاوية بن عمار. وأما الثانية فقد عرفت مما تقدم بطلانها وأن البئر
حقيقة في النابع (1).
وصحيحته الأخرى (2) عن الصادق (عليه السلام) " في الفارة تقع في البئر
فيتوضأ الرجل منها ويصلي وهو لا يعلم أيعيد الصلاة ويغسل ثوبه؟ قال: لا يعيد الصلاة
ولا يغسل ثوبه " وهو ظاهر في كون الفأرة ميتة في البئر وكون الاستعمال إنما وقع بعد
وقوعها لعطف الوضوء بالفاء المفيد للترتيب، فلا معنى للقول بأن عدم الإعادة لعدم العلم
بالوقوع سابقا فقد تكون إنما وقعت بعد، على أن ترك الاستفصال كاف.
وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) (3) " في البئر تقع فيها
الميتة، فقال: إن كان لها ريح ينزح منها عشرون دلوا " والظاهر أن المفهوم هنا أنه إن لم
يكن له ريح لم ينزح له شئ، ولذلك قنع السائل وسكت عن الاستفهام عنه مع أنه أحد
شقي السؤال، وكيف يرضى الإمام (عليه السلام) بعدم الجواب عن ذلك مع حاجة
السائل إليه وإن غفل.
وموثقة أبان بن عثمان (4) - أو صحيحته كما قيل عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: " سئل عن الفارة تقع في البئر لا يعلم بها إلا بعد أن يتوضأ منها أيعاد الوضوء فقال: لا "

(1) والظاهر أن مدار هذه التأويلات المخالفة للظاهر غاية ونهاية هو أنه لما ترجح
عندهم أخبار النجاسة وطرحوا أخبار الطهارة أرادوا أن يذكروا لها محامل ولو في غاية الضعف
إخراجا لها عن صورة المخالفة، وإلا ما كان ليخفى عليهم (رحمهم الله) ضعف هذه التأويلات
وخروجها عن الظاهر خروجا تمجها الطباع، نعم يتجه عليهم أنه لا معنى لترجيح تلك
الروايات بل الترجيح في جانب هذه الروايات لما ستسمع أن شاء الله (منه رحمه الله).
(2) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - 9.
(3) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
(4) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11..
197

وهو ظاهر في سبقها على الاستعمال وإن تأخر العلم بذلك.
وموثقة أبي أسامة وأبي يوسف يعقوب بن عثيم (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: " إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفارة فانزح منها سبع دلاء، قلنا: فما تقول
في صلاتنا ووضوئنا وما أصاب ثيابنا؟ فقال لا بأس به "
وموثقة أبي بصير (2) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بئر يستقي منها
ويتوضأ به وغسل منها الثياب وعجن به ثم علم أنه كان فيها ميت، قال: لا بأس ولا يغسل
الثوب ولا تعاد منه الصلاة "
ورواية محمد بن القاسم (3) عن أبي الحسن (عليه السلام) " عن البئر يكون بينها
وبين الكنيف خمسة أذرع أو أقل أو أكثر يتوضأ منها؟ قال: ليس يكره من قرب ولا بعد
يتوضأ. منها ويغتسل ما لم يتغير الماء "
وما رواه في الفقيه مرسلا عن الصادق (عليه السلام) (4) " قال: كانت في
المدينة بئر وسط مزبلة فكانت الريح تهب فتلقي فيها القذر؟ وكان النبي صلى الله (ص) يتوضأ منها ".
إلى غير ذلك من الأخبار وهي كثيرة مثل قوله (عليه السلام) (5) في صحيح جعفر
ابن بشير " عن الفارة تقع في البئر فقال إذا خرجت فلا بأس وإن تفسخت فسبع دلاء.
وسئل عن الفارة تقع في البئر فلا يعلم أحد إلا بعد ما يتوضأ منها أيعيد الوضوء وصلاته
ويغسل ما أصابه، فقال: لا فقد استقى أهل الدار ورشوا " وربما يظهر من العلة أن
تنجيس البئر بالملاقاة ربما يكون سببا للحرج المنفي.
وأنت خبير أن الترجيح لهذه الأخبار لكثرتها وصحة أسانيدها وصراحة دلالة
بعضها مع مخالفتها للعامة وموافقتها للأصول وعمومات الطهارة وموافقتها لسهولة الحنيفية

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 12.
(2) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5 - 4 - 20
(3) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5 - 4 - 20
(4) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5 - 4 - 20
(5) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 13 وهي رواية أبي عيينة
198

وسماحتها وأنه لا حرج فيها، مضافا إلى ما يظهر من أخبار النزح من الأمر بدلاء ودلاء
يسيرة ونحو ذلك مما يدل على المسامحة، وكذا الاختلاف الفاحش في مقادير النزح والجمع
بين الطاهر والنجس، وورود الأمر بالنزح للأمور الطاهرة، وورود التخيير بين
القليل والكثير، وعدم انضباط الدلو، مع اشتمال روايات النزح على ما لا يقولون به حتى
لم تسلم رواية من ذلك، ثم الحكم بنجاسة الدلو والرشا وما يسقط منه ثم الطهارة، على أنه
من المستبعد جدا أن مقدار الكر من مائها الخارج عنها لا ينجس بالملاقاة وماؤها وإن بلغ
ألف كر ينجس بمجرد الملاقاة مع اعتصامه بالمادة دونه، مع أنه فيه من الحرج ما لا يخفى.
وأغرب من ذلك طهارته لو كان كرا مع انقطاع النبع وخروجه عن مسمى البئر ونجاسته
لو كان ألف كر مع دوام النبع الذي يزداد به الكمال لا النقص. كل ذلك مع خلو
الأخبار عن كيفية النزح بحيث يسلم الدلو من النقوب مع أنه في الغالب لا يسلم من ذلك.
وبعض هذه المؤيدات وإن أمكن دفعها مثل نجاسة ما يتقاطر من الدلو مع الدلو بأن يقال
بعدم نجاسة البئر المنزوحة بذلك لما يظهر من الروايات بحصول الطهارة بمجرد النزح المقدر
مع أنه في العادة يستحيل سلامته من ذلك، وينبغي أن يستثنى من قولهم بنجاسة البئر
مطلقا والظاهر أيضا حصول الطهارة للدلو والحبل وما يتعلق بالنازح وحواشي البئر ونحو
ذلك من اللوازم العرفية بتمام النزح. نعم يبقى كلام في أن النازح تطهر ثيابه ونحوها
أو خصوص ما يباشر به؟ وهل يعتبر استمراره على النزح إلى التمام أو لا؟ فمن جاء
في الأثناء حكمه حكم النازح في الابتداء ونحو ذلك من الأحكام الكثيرة والفروع المهمة
بناء على التنجيس، مع أنه ليس في الأخبار لها عين وأثر، حتى أن ما ذكرنا من طهارة
الدلو والحبل والنازح وحواشي البئر ونحو ذلك مجرد استظهار ليس في الأخبار له تعرض
بل هو شك في شك، وكل ذلك دليل على عدم التنجيس وإلا لما ترك في هذه الأخبار
على كثرتها بيان مثل هذه الأمور المهمة.
وكيف كان فلا ينبغي الشك في أن الترجيح لأخبار الطهارة فوجب حينئذ طرح
199

تلك الأخبار أو حملها على خلاف ظاهرها، فنقول: أما مكاتبة ابن بزيع (1) فعلى أن
المراد من الطهارة مطلق النظافة والنزاهة. وهو بعيد لأن مثل ذلك لا ينحصر الرجوع
فيه إلى الإمام (عليه السلام) بحيث لا يعرفه أحد سواه حتى يكتب له من بلاد إلى بلاد،
نعم يحتمل أن يقال إنه إنما تدل على القول بأن النزح تعبد، وذلك لأنه قال فيها
" ما الذي يطهرها حتى يحل الوضوء منها للصلاة " وكان قوله (حتى) إشارة إلى ذلك،
لأن المعنى حينئذ ما الذي يطهرها طهارة تحل الوضوء منها للصلاة. فيكون كأن أصل
وجود الطهارة عنده محقق لكن إشكاله في الطهارة التي يترتب عليها مثل الوضوء.
أو يقال إن ذلك في كلام السائل لا في كلامه (عليه السلام) وكما يمكن تقديره في كلام
الإمام بأن يقال يطهرها نزح دلاء كذلك يمكن أن يقال أنه لما سئل عن هذه الأشياء
قال ينزح منها دلاء وأضرب عن قول السائل يطهرها، فيكون حينئذ هذا الخبر كالأخبار
الأخر الآمرة بالنزح. ومما يؤيد أن هذه الرواية ليست على ظاهرها هو أن محمد بن
إسماعيل بن بزيع راوي هذه الرواية قد روى تلك الرواية الواضحة الدلالة التي لا تقبل
التأويل وهي قوله " ماء البئر واسع لا يفسده إلا أن يتغير طعمه أو ريحه فينزح
حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأن له مادة " (2) مع أنه لم يظهر منه لتوقف في
الحكم من جهة التناقض والتعارض.
وأما الرواية الثانية وهي قوله: " يجزيك أن تنزح منها دلاء فإن ذلك يطهرها
إن شاء الله " فقد احتمل فيها أيضا حمل الطهارة على المعنى اللغوي، وربما أيد هنا
بأن دلاء أقله ثلاثة، مع أنه من جملة المسؤول عنه الكلب والهرة، والفتوى عندهم في ذلك
أربعون دلوا، ولا يبعد حمل هذه الرواية والتي قبلها على إرادة الطهارة مما يكره استعماله،
وذلك لأنه لما كان النجس يحرم استعماله وهذا يكره استعماله شارك النجس في ذلك

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 21 - 6.
(2) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 21 - 6.
200

فصح إطلاق لفظ الطهارة عليه ولفظ الحل الذي ليس معه الكراهة.
وأما الرواية الثالثة فأولا إن الأمر بالتيمم لا دلالة فيه على التنجيس بالاغتسال
فإنه لا ينحصر وجهه في ذلك إذ قد يكون البئر كانت مملوكة أو كان في الاغتسال فيها
عسر وحرج ومشقة، وربما يؤيد ذلك ما في رواية الحسين بن أبي العلا (1) قال:
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " عن الرجل يمر بالركية وليس معه إناء، قال: ليس
عليه أن ينزل الركية أن رب الماء هو رب الصعيد فليتيمم " مع إنه لا تعرض فيه
للنجاسة، وقوله (لا تفسد على القوم ماءهم) لا دلالة فيه على ذلك فقد يكون المراد من
جهة خوف الهلاك فيها أو أنه يهيج ما كان كامنا فيها من الأوساخ، بل غير بعيد أنها
على فرض كونها مباحة وكانت مستقى للناس وكان بالاغتسال فيها يهيج بعض ما كان
كامنا فيها أن لا يسوغ له الاغتسال فيها، لكونه ذلك حقا مشتركا فيجوز له استعماله ما لم
يدخل في ذلك فيه ضرر على غيره، لا سيما إذا كان المقصود منها الاستقاء، على أنه قد
يكون المراد من جهة وجوب النزح لا من جهة النجاسة، على أنه لم يعلم أنه كانت على
بدنه نجاسة. (فإن قلت) إن الافساد كما ورد في هذه الرواية وجد في روايات التنجيس
فأي معنى لحمله هناك له على النجاسة بخلافه هنا (قلت) هو مع أنه في نفسه هناك ظاهر
في ذلك قد يشعر به الاستثناء ووقوع شئ في سياق النفي بخلافه هنا، على أنه كيف
يسوغ لفقيه الاجتراء على طرح تلك الأخبار الكثيرة الصحيحة الصريحة المخالفة للعامة
الموافقة للأصول المرجحة بما سمعته من المرجحات بمثل هذه الاشعارات التي لا يجتري
منها على أن يقطع بها أضعف الأصول.
وأما الرواية الرابعة فلا دلالة فيها وسيأتي التعرض لها إن شاء الله عند التباعد
بين البئر والبالوعة.
نعم أقوى شئ لهم الاجماعات المنقولة، وهي - مع كون المخالف. وجودا ومن

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب التيمم - حديث 4 مع اختلاف يسير.
201

القدماء أيضا، وإطباق متأخري المتأخرين على ذلك، مع مخالفتها لما سمعت من الأخبار -
يضعف الظن بها لقوة الأخبار عليها من وجوه، على أن العلامة في المنتهى يظهر منه
المناقشة في نسبته إلى الأكثر فضلا عن الاجماع فتأمل. ولا استبعاد في خفاء هذا الحكم
على المتقدمين وظهوره لغيرهم، لأن مثله غير عزيز فكم من حكم خفي عليهم وظهر لغيرهم
في الأصول والفروع، وربما سمعت أن المرتضى وغيره قد ادعى الاجماع على عدم جواز
العمل بأخبار الآحاد الذي لا ينبغي الشك في بطلانه.
وأما أخبار النزح فلا دلالة في شئ منها على النجاسة بل هي أن حملت على ظاهرها
من الوجوب اتجه مذهب العلامة وإن حملناها على الاستحباب كما يدعيه المشهور فلا
إشكال حينئذ وستسمع تحقيق الحال فيها إن شاء الله، ولا حاجة إلى بيان فساد باقي
المؤيدات التي ذكرناها للقول بالنجاسة هذا.
ونقل عن البصروي التفصيل في حكم البئر بين أن يكون كرا أو لا، وقال
بعضهم أنه لازم للعلامة لاشتراطه الكرية في الجاري وليست البئر أولى منه. وفيه أنه
قد يكون للبئر حكم بالخصوص فإن لها أحكاما كثيرة قد اختصت بها سواء كان ماؤها
قليلا أو كثيرا لمكان الأخبار، ولذا حكم المشهور بعدم نجاسة الكر مع قولهم أن
البئر إذا بلغت مائة كر تنجس بالملاقاة. وكيف كان فمستنده بعد عموم ما دل (1) على
اشتراط الكر في الماء رواية الحسن بن صالح الثوري (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: " إذا كان الماء في الركي كرا لم ينجسه شئ " وما عن الفقه الرضوي (3) حيث
قال (عليه السلام): " كل بئر عمق مائها ثلاثة أشبار ونصف في مثلها فسبيلها سبيل
الجاري إلا أن يتغير لونها وطعمها ورائحتها " وفي رواية أبي بصير (4) " عن البئر يقع

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث. - 8
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث. - 8
(3) المستدرك - الباب - 13 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3.
(4) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 15. وهي رواية عمار
202

فيه زبيل عذرة يابسة أو رطبة فقال لا بأس به إذا كان فيها ماء كثير ". وفيه - بعد إمكان
دعوى الاجماع المركب وتواتر الأخبار على خلافه فإن أخبار الطرفين حجة عليه - إن بين
ما دل على اشتراط الكرية في الماء وبين أدلة المقام عموما من وجه والترجيح لهذه من وجوه
كثيرة. ورواية الحسن بن صالح الثوري - مع أنها ضعيفة السند به إذ قال الشيخ أنه زيدي
بتري متروك الحديث فيما يختص به، وموافقة للعامة، ودلالتها بالمفهوم - محتملة لأن يراد
بالركي المصانع التي ليست آبارا. وهو وإن كان بعيدا إلا أنه لا مانع منه بعد مخالفته لما سمعته،
أو أن والمراد به إنه وإن انقطع نبعها كما يتفق في بعض الأحيان. ومثله جار في عبارة الفقه
الرضوي، على أن دلالته أضعف من رواية الحسن وأما رواية أبي بصير فلعل المراد باشتراط
الكثير من جهة خوف حصول التغير وهو قريب جدا. وكيف كان فلا ينبغي الاشكال
في عدم الركون لهذا المذهب لو صحت روايته وتعددت بعد إعراض الأصحاب فكيف
وهي بهذه المكانة من الضعف في السند والقصور في الدلالة.
إذا عرفت ذلك فنقول إنه على تقدير الطهارة فهل النزح واجب تعبدي
أو مستحب؟ المشهور الثاني، وإليه ذهب العلامة في جملة من كتبه، ويظهر منه في المنتهي
الأول، وربما نقل عن الشيخ في كتابيه أيضا لكن كلامه في الاستبصار غير صريح
في ذلك، بل ولا ظاهر، وفي كشف اللثام أن كلامه في التهذيب صريح في النجاسة
وعلى كل حال فهو يحتمل وجوها (أحدها) أن يراد بالوجوب التعبدي أنه واجب في
ذمته وليس شرطا في الاستعمال عبادة كان أو غيره، والظاهر أنه على هذا الوجه يكون
الاستعمال موجبا له في الذمة وإلا فلا معنى للقول بالوجوب في نفسه. كما أن الظاهر كونه
من الكفائي يراد منه نفس الوجود في الخارج ولو حصل من غير مكلف. وهذا الوجه
وإن احتمله بعض محققي المتأخرين لكنه في غاية الضعف، على أنه قال في المنتهى
لم نسوغ الاستعمال قبله (الثاني) أن الاستعمال سواء كان عبادة أو غيره مشروط بالنزح
شرعا وهو لا ينافي القول بالطهارة. وتظهر الثمرة مثلا فيما لو أصاب ثيابه منه شئ
203

فالظاهر صحة الصلاة به نعم لا يصح الوضوء به ولا يجوز شربه ولا تحصل الطهارة من
الخبث به فيكون كماء الاستنجاء حينئذ (الثالث) أن يفرق بين الاستعمالات فما كان
منها عبادة لم يصح لحصول النهي المقتضي للفساد دون ما لم يكن كذلك كغسل النجاسة
فترتفع به وإن فعل حراما باستعماله كما لو شربه. لكنه ليس حرمة شرب ماء النجس
بل هي حرمة أخرى.
إلا أن الذي يظهر من العلامة (رحمه الله) إنما هو الثاني لقوله في الجواب عن مكاتبة
ابن بزيع التي هي دليل القائلين بالنجاسة: " وتقريره (عليه السلام) لقول السائل:
(حتى يحل الوضوء منها) بعد تسليمه ليس فيه دلالة على التنجيس فإنا نقول بموجبه
حيث أوجبنا النزح ولم نسوغ الاستعمال قبله " وقوله أيضا في هذه الرواية: (وخامسها
بحمل المطهر هنا على ما أذن في استعماله وذلك إنما يكون بعد النزح لمشاركته للنجس
جمعا بين الأدلة " انتهى لاطلاق عدم تسويغ الاستعمال قبل النزح سواء كان عبادة
أو غيرها. مع احتمال أن يقال إنه أراد بالاستعمال الذي تضمنته الرواية وهو العبادي
لا مطلقا وقد يقال إن الذي يناسب الجمع به بين الروايات (الثالث) لتضمن كثير منها
عدم إعادة غسل الثياب والوضوء والصلاة مع حصول النجاسة قبل العلم، وهو إنما يتم به
لعدم النهي دون الثاني، مع احتمال تنزيل هذه الروايات على حصول العلم بوجود النجاسة
بعد الاستعمال من دون علم بسبقها فعدم إعادة الغسل والوضوء لذلك لا لما تقدم، فيتجه
حينئذ حمله على الثاني. وهذا الوجه الأخير هو الظاهر من الشيخ في الاستبصار لذكره
الخبر الشاهد على الجميع، وهو مشتمل على التصريح بهذه المعنى فلتلحظ عبارته.
وكيف كان فمستنده في الطهارة هو ما عرفت من أدلتها وفي الوجوب أوامر
النزح وهو حقيقة في الوجوب، والمراد به الشرطي للقطع بعدم الوجوب الأصلي،
وكأن الذي دعاه إلى ذلك هو مراعاة العمل بجميع الأخبار لعدم المنافاة بينها إذ ما دل
على الطهارة لا يقتضي نفي النزح وما دل على النزح لا يقتضي نفي الطهارة، فيعمل حينئذ
204

بالأخبار جميعا فيقال إنه طاهر ومع ذلك يجب نزحه. نعم يظهر من الأخبار توقف
الاستعمال على النزح وهو لا ينافي الطهارة. وفيه - مع إمكان ادعاء الاجماع المركب على
خلافه وظهور بعض أخبار الطهارة في نفيه وكونه نوعا من الافساد المنفي بقوله:
(لا يفسده شئ) وظهور قوله (لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا
أن ينتن) في العلم والعمد القاضي بفساد كلامه على بعض الوجوه، وكون الأصل في كل
طاهر أن يرفع الحدث والخبث وعدم استثناء مثل ماء البئر في كلام الأصحاب في المقامات
الأخر مع كثرة تعرضهم لذلك في المقامات المختلفة أن أخبار النزح مختلفة اختلافا لا يصلح
لأن يكون معه سندا لهذا الحكم المخالف للأصل، بل للأصول والعمومات كما اعترف
به (رحمه الله) في رد القائلين بالنجاسة، قال: " وأما ثالثا فلأن الأخبار اضطربت في
تقدير النزح فتارة دلت على التضيق في التقديرات المختلفة وتارة دلت على الاطلاق
وذلك مما لا يمكن أن يجعله الشارع طريقا إلى التطهير " قلت: هو بعينه وارد عليه لأنه
لا فرق بين المنع من استعماله من جهة النجاسة أو من جهة أخرى. وكيف يكون مثل هذا
الاختلاف مانعا من الحمل على الأول مع إمكان ادعاء ظهورها فيه لتضمنها غالبا السؤال
عن النجاسات ومقارنة الجواب عن ذلك بالنزح الظاهر في كون ذلك تطهيرا كما هو
الشأن في جميع الأوامر التي استفادوا منها نجاسة النجاسات عند الأمر بغسل الثوب مثلا
إذا مسته ونحو ذلك، ولا يكون مانعا من الحمل على ما يقول، على إنها قد تضمنت
النزح للطاهر وغيره ويلزمه أن يقول بوجوبه له بخلاف القائلين بالنجاسة، وكيف يمكن
دعوى حملها على الوجوب مع ورودها في مثل الفارة (1) ففي بعضها خمس دلاء وفي آخر
دلاء وفي آخر ثلاث دلاء وفي آخر كلها، وفي الكلب (2) خمس دلاء وفي آخر سبع
دلاء وفي آخر نزح الجميع وفي آخر نزح دلاء وفي آخر عشرون أو ثلاثون أو أربعون،

(1) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق.
(2) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
205

وفي بول الصبي (1) ففي بعضها دلو واحد وفي آخر سبع دلاء وفي آخر كله، مع أن غاية
ما ينزح لبول الرجل أربعون دلوا، وفي السنور (2) فمنها دلاء وفي آخر عشرون
أو ثلاثون أو أربعون وفي آخر ثلاثين أو أربعين وفي آخر خمس دلاء وفي آخر سبع
دلاء، وفي الخنزير (3) فمنها دلاء في آخر البئر كلها، مع أنه لا يكاد يسلم خبر عن
تضمنه لما لا يقولون به. والحاصل الناظر بعين الانصاف لا يكاد يخفى عليه ذلك فتأمل
والله أعلم بحقيقة الحال.
* (وطريق تطهيره) *
أي لا طريق غيره كما عن المعتبر لاستصحاب النجاسة والمعلوم من الأدلة
النزح، ولما يظهر من بعض الأخبار من الحصر كقوله (4): (ما الذي يطهرها
حتى يحل) إلى آخره لأنه في قوة قوله الذي يطهرها نزح دلاء، ولأنه لا عموم
في المطهرات الأخر بحيث يشمل المقام، ولظواهر الأوامر بالنزح، وحملها على
التخيير مجاز. وقبل بطهارتها بغيره من المطهرات من القاء الكر واتصاله
أو امتزاجه بالكثير أو الجاري. نعم هو يختص عن غيره بالنزح ونسب إلى الأكثر،
وفي الذكرى وعن الدروس طهارتها بالامتزاج بالجاري والكثير وقال: " أما لو ورد
عليها من فوق فالأقوى أنه لا يكفي لعدم الاتحاد في المسمى " وعن البيان أنها تطهر بمطهر
غيره وبالنزح، وعن نهاية الإحكام التوقف في الطهارة بالقاء الكر، وفي المنتهى لو
سبق إليها نهر من الماء الجاري وصارت متصلة به فالأولى على التنجيس الحكم بالطهارة
لأن المتصل بالجاري كأحد أجزائه فيخرج عنه حكم البئر انتهى، والتحقيق أنه إن

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الماء المطلق.
(2) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(3) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق.
(4) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 21.
206

سلمت المقدمة السابقة وهي أنه ليس لنا ماء واحد بعضه طاهر وبعضه نجس قوي القول
بالطهارة مطلقا، ويكون التنبيه على النزح لكونه الفرد الأخف الأخفى التي تختص به، ومسألة
السافل والعالي تتأتى هنا ولا تتأتى هنا مسألة الاتمام كرا، وما يظهر من الشهيد (رحمه الله)
من عدم الطهارة بالوارد من فوق لعله بناء منه على عدم الاتحاد بذلك كما يقضي به
تعليله، ولا ينافيه ما تقدم سابقا من تقوم السافل بالعالي إذا كان كثيرا إذ لعله يفرق بين
الدفع والرفع أو يدعي الخصوصية في البئر وإن كان ضعيفا جدا، على أنه يشكل بأنه لا معنى
لانكار الاتحاد مع الواقع من الجاري في البئر والتزام تنجيسه وإلا لحكم بنجاسة الجاري
إذا وقع من فوق على أرض نجسة أو ماء نجس فتأمل، وإن لم تسلم تلك المقدمة أمكن
القول بالطهارة في خصوص ما إذا خرجت عن اسم البئر ودخلت في اسم الجاري
الذي يطهر بعضه بعضا، بل يمكن القول بالطهارة مطلقا حتى بالقاء الكر لعموم مطهرية
الماء ولو لقوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " (1) المراد منه كما عرفت الطاهر
في نفسه المطهر لغيره وغير ذلك. ويكفي في كيفية المطهرية معلومية عدم اعتبار الزيادة
على الامتزاج هذا وعن المعالم الاستدلال على الطهارة بشئ آخر قال: " أما على ما اخترناه
من اشتراط الامتزاج بالمعني الذي حققناه فواضح فإن ماء البئر والحال هذه يصير
مستهلكا مع المطهر فلو كان عين النجاسة لم يكن له حكم فكيف وهو متنجس ولا ريب
أنه أخف، وأما على الاكتفاء بمجرد الاتصال فلأن دليلهم على تقدير عاميته لا يختص
بشئ دون شئ إذ مرجعه إلى عموم مطهرية الماء فيدخل ماء البئر تحت ذلك العموم،
والأمر بالنزح لا ينافيه لكونه مبنيا على الغالب من عدم التمكن من التطهير بغيره،
ولو أمكن في بعض الموارد فلا ريب أن النزح أسهل منه في الأغلب أيضا " انتهى.
وفيه أنه لم يتضح لنا مراده بالاستهلاك. وكيف وقد تكون البئر أكرارا والملقى كر
واحد، والقياس على عين النجاسة قياس باطل لظهور أن عين النجاسة مدار التنجيس

(1) سورة الفرقان - آية 50.
207

فيها بقاء اسمها وهو قد يزول ويستهلك بخلافه هنا. فإن قلت: مدار النجاسة هنا أيضا
على كونه ماء بئر فمتى زال عنه هذا الوصف بممازجته للمطهر الغير القابل للنجاسة زال عنه
النجاسة. وقلت: هذا حق، وقد أشرنا إليه سابقا، لكن الكلام في خروجها عن ذلك
دائما بمجرده. فإن قلت: لا يكاد يخفى أنه مع القاء الكر وممازجته لا يصدق عليه أنه
ماء بئر فقط، والمعلوم من التنجيس إنما هو إذا كان مجردا عن غيره. قلت: بناء
على ذلك لو ألقي كر في البئر قبل التنجيس لم تقبل النجاسة حينئذ وتسقط جميع أحكامها
من النزح وغيره وهو بعيد، نعم هو متجه فيما إذا وصلت بجار فإن الظاهر سقوط أحكام
البئر، ومثله فيما لو وصلت براكد كثير لم يغلب عليه اسمها وكون مائه مائها لأن الأصل
عدم أحكام البئر، والمعلوم من الأدلة غير هذا الفرد فتأمل، والظاهر أنه بحكم الجاري
الغيث إن قلنا بالمقدمة السابقة وهي ليس لنا ماء واحد، بل وإن لم نقل لقوله (1)
(عليه السلام) " كل شئ يراه ماء المطهر فقد طهر " وما في رواية كردويه (2) من النزح
لماء الغيث لا ينافيه لظهوره في استصحاب عين النجاسة. وهل يطهر جميع مائها باجرائها
لدخولها تحت اسم الجاري، أو الباقي عند المنبع بعد انفصال ما كان يجب نزحه لكون
هذا الاجراء بمنزلة النزح، أو أنه لا يطهر شئ منها إلا بالنزح للشك في دخوله تحت اسم
الجاري وكون هذا الجريان بمنزلة النزح واستصحاب النجاسة محكم أوجه، أقواها
الأخير، وبعده في القوة الأول.
وكيف كان فتطهر (بنزح جميعه) من غير مسامحة، ولعل بعض الأشياء
اليسيرة جدا لا تقدح لعدم انفكاكها عرفا، ولو ذهب جميع الماء لا بالنزح فالأقوى
حصول الطهارة، واحتمال التعبد في خصوص النزح في غاية الضعف وإن كان هو الظاهر
الجواهر 26

(1) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5.
(2) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3.
208

من بعض مطاوي كلماتهم، وبه صرح في المنتهى فيما لو نزف المقدر بدلو واحد واسع،
وكأن إشكالهم في مسألة الغور أي لو غار ماؤها ثم نبع الماء ليس من جهة الغور الذي
هو غير نزح بل من جهة احتمال كون هذا الماء هو ذلك الماء. وفيه أنه على تقدير تسليم
بقاء نجاسته لو كان هو أنه يحتمل أن يكون هو وغيره والأصل الطهارة، وفي كاشف اللثام
" أنه لا ينجس بأرض البئر فإنها تطهر بالغور كما تطهر بالنزح كلا أو بعضا فإنه كالنزف،
واحتمل بعضهم قصر طهارة الأرض على النزح فينجس بها المتجدد " انتهى وقد عرفت
أن الأقوى الأول.
(إن وقع) أي صار (فيها مسكر) ويظهر من بعضهم أنه المائع بالأصالة
وآخر بدونها. وعلى الأمرين يخرج الجامد بالأصل وإن كان مسكرا، وبالعارض على الثاني
لا الأول، والحكم في الطاهر منها ظاهر إذ كونه كاغتسال الجنب بعيد، وكيف كان
فلم نعثر على رواية تضمنت نزح الجميع للمسكر، نعم هي في الخمرة كثيرة (منها) قوله
(عليه السلام) (1) في خبر عبد الله بن سنان: " فإن مات فيها قرد أو صب فيها خمر
نزح الماء كله ". (ومنها) قوله (عليه السلام) (2) في صحيح معاوية بن عمار: " في
البئر يبول فيها الصبي أو يصب فيها بول أو خمر فقال: ينزح الماء كله ". (ومنها) قوله
(عليه السلام) (3) أيضا فيما رواه الحلبي: " وإن مات فيها بعير أو صب فيها خمر
فلتنزح " وفي الوسائل أنه رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب وزاد فيه فلينزح
الماء كله، فالحاق مطلق المسكر به إما لشمول لفظ الخمر له لكونه لما يخمر العقل، وفيه
ما لا يخفى، أو لما عن الكاظم (عليه السلام) (4) " ما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر "

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق. حديث 1 - وفي الوسائل
(ثور) بدل (قرد).
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 6.
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 6.
(4) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الأشربة المحرمة - حديث 1 من كتاب الأشربة
209

وأبي جعفر (عليه السلام) (1) " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل مسكر خمر "
أو غير ذلك، لكن في كاشف اللثام إن شيئا من ذلك لا يفيد دخولها في إطلاق الخمر
قلت: يمكن أن يقال إنها وإن لم تفد ذلك لكنها تفيد المشاركة في الحكم سيما بعد
الانجبار بالاجماع المنقول في السرائر وعن الغنية، قال في الأول فالمتفق عليه الخمر قليله
وكثيره وكل مسكر فيندفع حينئذ احتمال اختصاصها بالحرمة لأنها المتبادرة، نعم قد
يقال إن ما ذكرته من الأخبار لا تشمل القليل منه لتضمنها لفظ الصب وهو لا يصدق
على القطرة، ولعله من هنا نقل عن الصدوق أنه قال في القطرة من الخمر عشرون دلوا
ولقول الصادق (عليه السلام) (2) في خبر زرارة: " بئر قطرت فيها قطرة دم أو خمر
قال: الدم والخمر والميت ولحم الخنزير في ذلك كله واحد ينزح منه عشرون دلوا فإن
غلب الريح نزحه حتى تطيب " وقواه في الذخيرة، لكن هي مع قصور سندها ولا
جابر واشتمالهما على غير المفتى به ومعارضتها بما رواه الشيخ (3) عن الحسين بن سعيد
عن محمد بن زياد عن كردويه قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) " عن البئر يقع فيها
قطرة دم أو نبيذ مسكر أو بول أو خمر قال: ينزح منها ثلاثون دلوا " قاصرة عن معارضة
صريح الاجماع المتقدم في السرائر المعتضد بظاهره عن الغنية، بل قد يظهر من الشيخ
في التهذيب أنها معارضة بالروايات المتقدمة أيضا لأنه قال: بعد ذكر هذين الروايتين
هما خبر واحد فلا يمكن لأجله دفع هذه الأخبار كلها، ولعله فهم من لفظ الصب مطلق
الوقوع فاللازم حينئذ طرحها كالخبر الثاني إذ لم يعمل به أحد فيما أعلم إلا ما نقله في
كاشف اللثام أنه احتمل في المعتبر العمل به وبخبر العشرين بالحمل على التفاضل انتهى.
وهو مع أني لم أجده فيه احتمال في غير محله لخروج الخبر عن الحجية عندنا باعراض
الأصحاب، بل المتجه بعد التسليم حينئذ إدخاله فيما لا نص فيه، (أو فقاع) كما في

(1) الوسائل - في الباب - 15 - من أبواب الأشربة المحرمة - حديث 5 من كتاب الأشربة
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 - 2.
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 - 2.
210

كتب الشيخ ومن بعده على ما في كاشف اللثام كالمدارك ذكره الشيخ ومن تأخر عنه،
بل عن الغنية الاجماع عليه وهو الحجة مع ما في الروايات من أنه " خمرة مجهولة " (1)
وأنه " خمرة استصغرها الناس " (2) مما يظهر من الدخول في الخمر ولو في الحكم فما
وقع في المدارك من المناقشة فيه من أن الاطلاق أعم من الحقيقة ليس في محله، نعم قد
يتوجه عليه ما ذكرنا أن ثبت التبادر في وجه الاستعارة، وفي المدارك " ولا يلحق به
العصير العنبي بعد اشتداده وقبل ذهاب ثلثيه قطعا تمسكا بمقتضى الأصل السالم عن
المعارض ". قلت: لكنه يدخل في غير المنصوص حينئذ، والفقاع كرمان هذا الذي
يشرب، سمى بذلك لما يرتفع في رأسه من الزبد كما عن القاموس، وعن المرتضى في
الانتصار أنه الشراب المتخذ من الشعير.
(أو مني) قليلا كان أو كثيرا من انسان أو
غير انسان مما له نفس سائلة، وقيل: باختصاصه بالإنسان لكونه المتبادر منه، واعترف
جماعة بعدم العثور على نص فيه. قلت: لكن قد يحتج عليه الاجماع المنقول في السرائر وعن
الغنية، بل في الأول دعواه على المني من سائر الحيوان مأكول اللحم وغير مأكول
اللحم فتخصيصه بالإنسان حينئذ ضعيف، إلا أنه لعل المراد بما لا نص فيه في كلامهم
عدم ورود خبر فيه بالخصوص أو بالعموم فلا يكفي الاجماع المنقول في اخراجه عنه
حينئذ، وإلا لاكتفي بالاستصحاب ونحوه والأمر سهل إذ لا مشاحة في الاصطلاح.
(أو أحد الدماء الثلاثة) الحيض والنفاس والاستحاضة (على قول مشهور)
بل قد سمعت نقل الاجماع عليه في المني، ومثله في السرائر وعن الغنية هنا، وربما أدخله
بعضهم بما لا نص فيه فأوجب نزح الجميع للقاعدة، ويمكن تأييده بغلظ النجاسة فيه
ولذلك لا يعفى عن قليله في الصلاة، وربما ظهر من بعضهم التوقف فيه للأخبار (3)

(1) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب النجاسات - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 28 - من البواب الأشربة المحرمة حديث 1 من كتاب الأشربة
(3) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق.
211

الدالة على حكم مطلق الدم الشامل لما نحن فيه، وفيه أنه يجب الخروج عنه بالاجماعين
المنقولين سيما مع اعتضادهما بالقاعدة وغلظ النجاسة، على أنه لا إطلاق ظاهر الشمول لها
إذ الموجود في صحيح علي بن جعفر (عليه السلام) (1) السؤال " عن رجل ذبح شاة
فاضطربت فوقعت في بئر ماء وأوداجها تشخب دما هل يتوضأ من تلك البئر؟ قال:
تنزح منها ما بين الثلاثين والأربعين دلوا ثم يتوضأ منها " وهي كما ترى لا إطلاق فيها
كصحيحة الآخر (2) قال: سألته " عن رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر هل
يصلح أن يتوضأ منها؟ قال: ينزح منها دلاء يسيرة ثم يتوضأ منها " نعم قد يستدل
بترك الاستفصال في مكاتبة محمد بن إسماعيل بن بزيع (3) المتقدمة " عن البئر يكون في
المنزل للوضوء فتقطر فيها قطرات من بول أو دم " إلى آخره. لكنه مع اقتصاره على
القطرات غير ظاهر في شموله لأحد الدماء الثلاثة لعدم تبادرها وبعد تحقق فرض وقوع
شئ منها حتى يسأله عنه، وفي خبر زرارة سألته " عن بئر قطر فيها قطرة من دم
أو خمر فقال (عليه السلام): الدم والخمر والميت ولحم الخنزير في ذلك كله واحد ينزح منه
عشرون دلوا " وهو - مع الغض عن سنده واشتماله على ما أعرض عنه أكثر الأصحاب
وعدم تبادر الثلاثة منه - مقيد بما سمعت من الاجماع وغيره، وقد يلحق على إشكال
بالدماء الثلاثة دم نجس العين للقاعدة المتقدمة مع عدم ظهور المخرج عنها.
(أو مات فيها بعير) إجماعا كما في السرائر وعن الغنية وفي المدارك أنه مذهب
الأصحاب لا أعلم فيه مخالفا وهو الحجة، مضافا إلى صحيح الحلبي (4) قال: " وإن مات
فيها بعير أو صب فيها خمر فلينزح " وفي خبر عبد الله بن سنان (5) " فإن مات فيها
ثور أو نحوه نزح الماء كله " لكن الظاهر من العبارة والرواية تخصيص هذا الحكم

(1) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
(2) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
(3) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 21.
(4) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 - 1.
(5) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 - 1.
212

بما إذا مات فيها فلا تشمل ما لو كان ميتا خارجا عنها ثم وقع فيها، والقول بالشمول لا يخلو
من قوة، وبما سمعت من الأدلة يخص عموم أو اطلاق ما في بعض الروايات (1) من الحكم
على الدابة مما ينافي ما ذكرنا وما في خبر عمرو بن سعيد بن هلال (2) قال: " حتى إذا بلغت
الحمار والجمل فقال: كر من ماء " فهو - مع الضعف في سنده وعدم بيان كون الجمل مات
فيها - محتمل لأن يراد بالتقدير للحمار لا لهما لمعلومية حكم البعير، ولا يصلح لمعارضة
ما سمعت من الاجماع، بل قد يدعى تحصيله على خلافه، وفي كاشف اللثام " إن البعير
كالانسان يشمل الذكر والأنثى باتفاق أئمة اللغة " انتهى، لكن عن الأزهري إن هذا
كلام العرب ولا يعرفه إلا خواص أهل العلم باللغة انتهى، وقيل: إنه من كلام أئمة
اللسان أن البعير في الإبل كالانسان والناقة كالمرأة. قلت: ولعل العرف المقدم على
اللغة عند التعارض يقضي باختصاصه بالذكر سيما على ما سمعته من الأزهري، لكن
في السرائر بعد نقل الاتفاق على البعير قال سواء كان ذكرا أو أنثى، إلا أنه قد يظهر
من الاستدلال على ذلك بكونه اسم جنس كالانسان والجمل كالرجل والناقة كالمرأة
أنه اجتهاد منه ليس أخذا بالاجماع هل يشمل الكبير والصغير؟ صرح في المنتهى
والذكرى وعن المعتبر ووصايا التذكرة والقواعد بالشمول، وفي كاشف اللثام
أنه قد يظهر من فقه اللغة للثعالبي وعن العين أنه الباذل، وعن الصحاح وتهذيب اللغة
والمحيط إنما يقال: لما أجذع، ولا يبعد القول بعدم شموله في العرف للصغير، والظاهر
قصر الحكم على الأهلي دون الوحشي مع احتماله فتأمل. وأما الثور فالصحيح أنه
ينزح له الجميع وفاقا لبعضهم، بل في الذخيرة قيل إنه مذهب أكثر الأصحاب، وهو
المنقول عن الصدوق أيضا للاستصحاب وصحيح ابن سنان المتقدم " فإن مات فيها
ثور أو نحوه نزح الماء كله " وبه يقيد إطلاق الدابة في بعض الأخبار مما ينافي ذلك،

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5 و 6.
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5.
213

ويمكن إلحاق البقرة به لقوله فيه أو نحوه، واحتمال إرادة غيرها وإلا لقال البقر يدفعه
- مع عدم اعتبار مثل ذلك في الأخبار لعدم انحصار التعبير واحتمال النقل بالمعنى - أنه قد
يكون أراد الأعم من البقر وإن لم يظهر لدينا، نعم الظاهر قصر الحكم على الكبير
لعدم تناول الصحيح له، كما أن الظاهر قصر الحكم على الأهلي دون الوحشي مع احتماله لا سيما
بعد قوله أو نحوه، وقال في السرائر ينزح للبقر وحشية أو أهلية مقدار كر، وعن الشيخين
واتباعهما أنه لم يذكروه لكنهم أوجبوا نزح كر للبقرة، وعن صاحب الصحاح إطلاق البقرة
على الثور، وهو مخالف لما عليه العرف الآن، وفي الذخيرة أن الشيخين وإن لم يذكرا حكم
الثور بالخصوص لكنه داخلا في عموم كلامهما حيث ذكرا نزح كر للحمار والبقرة وأشباههما،
والأقوى ما ذكرنا لعدم دليل معتبر على ما قالوه لا أقل كونه مما لا نص فيه، لكن
ستسمع فيما يأتي أن المشهور خلافه عند البحث عن الدابة، وعن القاضي أنه مما ينزح له
الجميع أيضا عرق الإبل الجلالة وعرق الجنب من الحرام، وعن الحلبي أنه ينزح لروث
ما لا يؤكل لحمه وبوله عدا بول الرجل والصبي، وعن البصروي لخروج الكلب والخنزير
حيين، وعن بعضهم الفيل، ولم نقف في جميع ذلك على دليل بالخصوص، نعم يمكن
إدخال الخنزير في نحوه والفيل في وجه، نعم في رواية أبي بصير (1) الأمر به لسقوط
الكلب، وكذا في موثقة عمار (2)، وهي معارضة بأخبار أخر ستسمعها إن شاء الله.
(فإن تعذر) أو تعسر (استيعاب مائها) لغلبته وكثرته في نفسه ولو لاتصال
ماء آخر به أو لتجدد النبع كما هو ظاهر النص والفتوى على تأمل في البعض
(تراوح عليها) من التفاعل لأن كل اثنين يريحان صاحبيهما (أربعة) فصاعدا لا أقل
(رجال) لا نساء ولا صبيان ولا خناثي، (كل اثنين) دفعة لا واحد واحد
ولا ثلاثة (دفعة يوما) أي يوم صيام فيجب أن يكون قبل الفجر بقليل للمقدمة (إلى)
جزء بعد دخول (الليل) لها للاجماع المنقول عن الغنية مؤيدا بما في المنتهى من أنه

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11 - 8
(2) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11 - 8
214

لا يعرف فيه مخالفا بين القائلين بالتنجيس، وفي حاشية المدارك بل والقائلون بالطهارة
حاكمون به وخبر عمار (1) وفيه أنه سئل الصادق (عليه السلام) " عن بئر يقع فيها
كلب أو فارة أو خنزير قال (عليه السلام): ينزف كلها فإن غلب عليه الماء فلينزف يوما
إلى الليل ثم يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين فينزفون يوما إلى الليل وقد طهرت "
وقوله (عليه السلام) (ثم) إما أن تقرأ بفتح الثاء أو يقدر قال بعدها، بل عن بعض النسخ
وجودها بعدها، أو هي للترتيب الذكري، أو أن المعنى كما في كشف اللثام فإن غلب
الماء حتى يعسر نزح الكل فلينزف إلى الليل حتى ينزف ثم إن غلب حتى لا ينزف وإن نزح
إلى الليل أقيم عليها قوم يتراوحون، وهو كما ترى، وقد يقوى في الظن أنها من زيادات
عمار كما يشهد له تتبع رواياته وما قيل في حقه، وما يشاهد من أحوال بعض الناس
من اعتياد الاتيان ببعض الألفاظ في غير محلها لعدم القدرة على إبراز الكلام متصلا،
وعلى كل حال فلا ينبغي التوقف فيها من هذه الجهة كما أنه لا وجه له فيها من عدم القائل
بوجوب نزح الجميع لما في الرواية، على أنه خاص لا ينبغي التعدي عنه إلى غير المذكور
إذ ذلك غير مخرج لها عن الحجية، وخصوص المورد لا يخصص الوارد، وحملها الشيخ
على إرادة التغيير بالمذكورات، ويتعدى حينئذ منه إلى غيره بطريق أولى أو لعدم القول
بالفصل، وكذا لا معنى للمناقشة فيها من جهة السند إذ ذلك بعد تسليمه غير قادح هنا
بعد الانجبار بما عرفت من محكي الاجماع الذي يشهد له التتبع لكلمات الأصحاب في
المقام، مضافا إلى ما عن الشيخ من دعوى الاجماع على العمل في روايات عمار، وبعد
تأييده أيضا بما رواه في كاشف اللثام (2) مرسلا عن الرضا (عليه السلام) " فإن تغير
الماء وجب أن ينزح الماء فإن كان كثيرا وصعب نزحه فالواجب عليه أن يكتري أربعة
رجال يستقون منها على التراوح من الغدوة إلى الليل " بل قال فيه أن الخبرين وإن

(1) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
(2) المستدرك - الباب - 22 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4.
215

ضعفا سندا إلا أنه لم يعرف من الأصحاب خلافا في العمل بهما، وربما يستفاد من هذه
الرواية أن المراد باليوم يوم الأجير لقوله (عليه السلام) يكتري، والذي صرح به
ابن إدريس إنما هو يوم الصوم، قال: " ولا ينافي ذلك ما في بعض كتب أصحابنا من
الغدوة إلى العشية لأن أول الغدوة أول النهار بلا خلاف بين أهل اللغة العربية "
وكأنه أراد ببعض أصحابنا الصدوق والسيد على ما نقل عنهم لقولهم من الغدوة إلى الليل
أو الشيخ وابن حمزة على ما نقل عنهما لقولهما من الغدوة إلى العشية أو العشاء، ولعله
الظاهر لقوله فيما نقله إلى العشية، وعن الاصباح أنه من الغدوة إلى الرواح، والمنقول
عن اللغويين أن الغدوة ما بين صلاة الغدوة إلى طلوع الشمس، ولعله ينافي
ما ذكره وإن تبعه عليه كثير من المتأخرين، بل في المنتهى " ولو تعذر نزح الجميع
تراوح أربعة رجال مثنى من طلوع الفجر إلى الغروب، ولم أعرف فيه مخالفا من القائلين
بالتنجيس " انتهى. لكن قد يريد نفي الخلاف عن أصل الحكم لأنه بصدد بيانه،
وفي الذكرى إن الظاهر أنهم أرادوا يوم الصوم فليكن من طلوع الفجر إلى غروب
الشمس لأنه المفهوم من اليوم مع تحديده بالليل، ولا يبعد اتباعهم في ذلك
لاستصحاب النجاسة، ولا جابر للرواية في المقام، ويظهر من بعض المتأخرين أنه
لا مناقشة في الآخر، والظاهر كذلك، وإن وقع في بعض عبارات بعض من تقدم
العشية والعشاء والرواح فلعل المراد بها ما في الروايات من التحديد بالليل، ويؤيد ذلك
نقل جماعة الاجماع على العمل بمضمون رواية عمار، وقد قال فيها إلى الليل، والظاهر البناء
فيه على التحقيق لا على المسامحة العرفية فيجب حينئذ إدخال الجزئين من الليل للمقدمة،
وتهيئة الآلات خارجة نعم قد يقال أنه لا يقدح مثل إرسال الدلو وانتظاره لأن يمتلي
بعد طلوع الفجر لأنه يعد مثل ذلك اشتغالا في النزف فتأمل. وهل يكفي التقدير بالنسبة
للزمان والعدد أو أحدهما أو لا يكتفي فيجب الاقتصار على اليوم دون الليل والملفق منهما
الجواهر 27
216

والأربعة فصاعدا دون ما عداهما وتراوح الاثنين فالاثنين دون الثلاثة فالثلاثة
والواحد فالواحد وأن يكونوا رجالا فلا يجزي الصبيان ولا النساء ولا الخناثي،
والتحقيق أخذ كل ما يحتمل فيه أن له دخلا في التطهير من زيادة القوة وعدم البطؤ
ونحو ذلك دون الباقي للعلم أنه ليس المدار على التعبد المحض، وبذلك ينقطع استصحاب
النجاسة فحينئذ يكتفى بالنساء والصبيان إذا كانا مثل الرجال في المقدار والكيفية، بل
ويكتفي في الاثنين إذا قاما مقام الأربعة في المخرج والاخراج في جميع اليوم، بل
والواحد، بل يكتفي بالدواب إذا كانت كذلك، ويكتفي بالليل والملفق على تقدير
الاجتزاء بمقدار اليوم من الليل، فهل يؤخذ الأطول من الأيام أو الأقصر أو الوسط؟
وجوه، ويحتمل قويا أخذ يوم الليل فتأمل ولا يكتفي بما يخرجه الواحد أو الاثنان
في نصف النهار مثلا مقدار ما يخرجه الأربعة في جميع النهار لسعة الدلو وزيادة القوة
لاحتمال أن يكون في هذه الكيفية في التطهير مدخلية، ويظهر من المنتهى الاجتزاء بالصبيان
والنساء مع الاقتصار على مدلول الرواية لصدق القوم عليهم. وفيه نظر لأن الظاهر أن
القوم خاص بالذكور كما عن الصحاح أن القوم الرجال دون النساء، وعن ابن الأثير
أن القوم في الأصل مصدر قام فوصف به ثم غلب على الرجال دون النساء ولذا قابلهن
به يعني في قوله تعالى: " لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء
من نساء " (1) وعن صاحب الكشاف القوم الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء،
وفي قول زهير: " أقوم آل حصين أم نساء " وينبغي القطع بالاجتزاء بما فوق الأربعة إذا
لم يحصل بطؤ بسبب ذلك مع احتماله وإن حصل لمصداق القوم عليهم، وما في الخبر
المتقدم (يكتري أربعة رجال) بيان للأقل وليس المقصود منه الحصر، وينبغي القطع
بالاجتزاء إذا تراوحوا ثلاثة فثلاثة إذا لم يحصل بذلك خلل من جهة البطؤ،
والظاهر في كيفية التراوح أن الاثنين يتجاذبان الدلو ويرميانه إلى أن يتعبا فيقوم الآخران

(1) سورة الحجرات - آية 11.
217

كما صرح بذلك ابن إدريس في السرائر لكن عن الشهيد الثاني أن كيفيته أن يكون
أحدهما فوق البئر يمتح بالدلو والآخر فيها يمليه، ولم نعثر له على مأخذ والأحوط اختيار
ما ينزح به من الماء أكثر للاستصحاب، ولو تراوح عليها ثمانية فصاعدا على أن يكون
كل اثنين في جانب فهل يكتفي بنصف النهار لقيامهم مقام الأربعة جميع النهار؟ وجهان
مبنيان على احتمال المدخلية في التطهير والاستصحاب لحكم النجاسة، وإن لم يمكن
تراوح الاثنين عليها دفعة لضيق المسلك ونحو ذلك فهل يجتزى بالواحد فالواحد أو تكون
غير قابلة للتطهير؟ والأقوى أنه إن كان الواحد فالواحد يقوم مقام الاثنين فالظاهر
الطهارة وإلا فلا، مع احتمال أخذ مقدار يوم أيضا من الليل وتطهر بذلك. وهل يعتبر
في التراوح أن يكون التوزيع على السهولة فلا يقدح التفاوت أو لا بد من كونه على السوية؟
لا يبعد الثاني لأنه الظاهر من اكتراء الأربعة، بل ربما يدعي ظهوره من قوله
(عليه السلام) يتراوحون، ويحتمل الأول لكن بشرط أن لا يكون التفاوت مورثا
لقلة النزح من جهة فتور أهل النوبة لزيادة زمانهم، وهل يعتبر تكرار التراوح مكررا
أو يكفي ولو بقسمة النهار نصفين؟ لعل الظاهر أن المدار على عدم حصول التعب المورث
للتهاون في النزح، وذكر بعضهم أنه يستثنى لهم الصلاة جماعة وإلا كل مجتمعين، وربما
تأمل في الثاني لامكان حصوله عند التراوح بخلاف الأول، وللنظر فيهما مجال لأن
استحباب الجماعة لا يقضي بجوازه هنا بعد ظهور الدليل في استيعاب اليوم وإلا لجازت
النوافل والأذكار ونحو ذلك من المستحبات التي قبل الصلاة وبعدها وفيها، وإن كان
المدار على أن ذلك غير قادح في اليوم عرفا ففيه أن ذلك من المسامحات العرفية، واغتفاره
في يوم الأجير لا يقضي باغتفاره هنا، على أن ظاهرهم سابقا أنه ليس كيوم الأجير،
ولذلك كان المبدأ من أول الفجر والمنتهى الليل فحينئذ يصلي كل منهم في نوبة راحته،
والظاهر أنه يستثنى لهم قضاء حوائجهم من الغائط بحيث لا يزيد على مقدار الضرورة
بشرط استقامة المزاج، ولو حدث لهم تعطيل في الأثناء من انقطاع حبل أو شق دلو
218

بحيث يحتاج إلى الاصلاح فإن كان زمانا يسيرا يقطع بعدم التعطيل فيه من جهة التطهير
لم يقدح وإلا قدح، ولا يثمر أخذ شئ من الليل عوضه لفوات الموالاة المحتمل دخولها
في التطهير، ولو تغير حال البئر في أثناء التراوح بعدم الغلبة للماء احتمل الاكتفاء
باتمام التراوح وأن لم يحصل به الاستيعاب، وإيجاب نزح الجميع لاستصحاب النجاسة،
ولعله الأقوى، ولو انعكس الأمر في أثناء التراوح لنزح الجميع اكتفي باتمامه يوما
إن كان جامعا للشرائط لعدم مدخلية النية في ذلك، فاحتمال تجديد غيره حينئذ بعيد
فتأمل وكلام الأصحاب في المقام في غاية الاضطراب، والفروع في المقام لا تتناهى،
وكان ذلك كله قرينة الاستحباب فلنقتصر على هذا المقدار.
(ونزح كر) كل على مذهبه فيه (إن مات فيها دابة أو حمار أو بقرة) كما
في القواعد واللمعة وعن مصباح السيد والنهاية، وزيادة ما أشبهها عن الوسيلة والاصباح،
وعن المهذب للخيل والبغال والحمير وما أشبهها في الجسم، وعن الكافي ونحوه وعن الجامع
للخيل والبغال والحمير والبقر، وعن الغنية للخيل وشبهها، وحكى الاجماع عليه، ولعل
المراد بما أشبهها الوحشي والبقرة والبغال والحمير، وفي السرائر الخيل والبغال والحمير
أهلية كانت أو غير أهلية والبقرة وحشية كانت أو غير وحشية أو ما ماثلها في مقدار
الجسم، وعن النافع الحمار والبغل والفرس، ونسبة البقرة إلى الثلاثة، وعن الصدوق
الاقتصار على الحمار، وفي الذكرى الحمار والبغل والفرس والبقرة وشبهها، والأقوى
الاقتصار على الخيل والبغال والحمير، ولا يبعد حمل الدابة في عبارة المصنف ونحوه على
الخيل للقطع بعدم إرادة كل ما يدب على الأرض لكونه معنى مهجورا، على أن
عطفه الحمار والبقرة عليه ينافيه، ولا ذات القوائم الأربع ولا المركوب، فيتعين حملها
على الخيل للاجماع المتقدم عن الغنية وقول الباقر (عليه السلام) (1) في خبر عمرو بن
سعيد بن هلال حين بلغ في السؤال إلى الحمار والجمل: " فقال: كر من ماء " وعن المعتبر

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5.
219

وموضع من التهذيب زيادة البغل، وهو الحجة فيه لعدم التنافي بينهما، وفي المنتهى أن
أصحابنا عملوا فيها بالحمار، ولذلك قال في الذكرى: الثالث كر للحمار والبغل في الأظهر
عن الباقر (عليه السلام) وليس في بعض الروايات البغل، وعدم عمل الأصحاب بما
تضمنته بالنسبة للجمل لا يخرجها عن الحجية كما توهمه في المدارك، وقصور السند منجبر
بالشهرة، وفي الذكرى جعل المستند في الفرس والبقرة الشهرة، هو مبني على أصل
لا نقول به، ولذا حكى عن المعتبر إدخال الفرس والبقر فيما لا نص فيه، ولا ينافيه كما
في كاشف اللثام صحيح الفضلاء (1) عن الصادقين (عليهما السلام) " في البئر تقع فيها
الدابة والفارة والكلب والطير فيموت قال: يخرج ثم ينزح من البئر دلاء ثم اشرب
وتوضأ " ونحوه خبر البقباق (2) عن الصادق (عليه السلام) لا جمال الدلاء، فلا يتيقن
الطهارة إلا بنزح الكل، ولا قرينة في الاقتران بما اقترن بها على شئ، ولا جهة لأن
يقال الأصل عدم الزيادة على أقل ما يدخل في الدلاء، وهو عشرة أو أحد عشر أو
ثلاثة، فإن الأصل بقاء النجاسة إلا على القول بالتعبد انتهى، وفيه أنهما ظاهران
في المنافاة له لاطلاق لفظ الدلاء فيهما الصادق في الأقل بناء على عدم الفرق بين جمع
القلة والكثرة وهو الأصح، وإلا كان التقدير بمضمونه، فدعوى الاجمال لا معنى
لها، كما أنه لا معنى للتمسك بالأصل بعد مجئ الاطلاق. فإن قلت: نحن نقطع بعدم
إرادة الاطلاق من حيث هو للاجماع على عدم الاكتفاء به لشئ مما سئل عنه، بل المراد به
مقدار مخصوص، لكن لما كان المقدار المخصوص مختلفا بالنسبة للمسؤول عنه جاء بالقدر
الجامع بين الجميع وهو نزح دلاء، وترك البيان إما لأنه بينه ولم ينقل إلينا أو أنه كانوا
عالمين به أو لم يكن وقت حاجة أو نحو ذلك. قلت: الكلام في دلالة الرواية في حد
ذاتها من غير نظر إلى كلام الأصحاب، ولا ريب في دلالتها. وأيضا هي وإن كانت
مجملة بالنسبة إلى المقدار لكنها تفيد أنها لا ينزح لما سئل عنه الجميع وإلا لم يقل دلاء.

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5 - 6.
(2) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5 - 6.
220

فإن قلت: هو كذلك لكن يحتمل أن يكون مقدارا يأتي على جميع ما في البئر ولو
بحسب الاتفاق، فلا يتيقن حصول ذلك المقدار إلا بنزح الجميع فإنه يكتفي به حينئذ،
وإن لم يبلغ ذلك المقدار فيدخل فيما لا نص فيه بهذا المعنى لا بالمعنى المعروف، ويتجه حينئذ
قوله أنه لا معنى لأصل عدم الأكثر لكونه مقطوعا باستصحاب النجاسة، ولا معنى لنفي
الأكثر بعد تحقق شغل الذمة، قلت: مع أن لنا بحثا في ذلك أن إجماع الغنية والشهرة
المنقولة بل والمحصلة يكفيان في بيان ذلك المجمل، ومما تقدم يظهر لك ما في مناقشة
المدارك للمعتبر بأنه لا معنى لجعله للفرس مما لا نص فيه لدخوله تحت اسم الدابة إن قلنا
أنها لكل ما يدب على الأرض أو ذات القوائم الأربع أو لكل ما يركب، إذ قد
عرفت أن جعلها من غير المنصوص لما ذكرنا من جهة إجمال خبر الدلاء لا من جهة
ما ذكر، وفي المنتهى " وأما البقرة والفرس فقد قال الشيخ والسيد المرتضى والمفيد
بمساواتهما للحمار بالكر، ولم نقف في ذلك على حديث إلا ما روى الشيخ وذكر صحيح
الفضلاء المتقدم، ثم قال بعده: قال صاحب الصحاح: الدابة لكل ما يدب على الأرض
والدابة اسم لكل ما يركب، فنقول لا معنى لحمله على الأول وإلا لعم وهو باطل لما
يأتي فيجب حمله على الثاني، فنقول الألف واللام في الدابة ليست للعهد لعدم سبق
معهود ترجع إليه، فإما أن يكون للعموم كما ذهب إليه الجبائيان أو لتعريف الماهية على
المذهب الحق، وعلى التقديرين يلزم العموم في كل مركوب، أما الأول فظاهر، وأما
الثاني فلأنه تعليق الحكم على الماهية يستدعي ثبوته في جميع صور وجودها وإلا لم يكن
علة هذا خلف، وإذا ثبت فيه دخل فيه الحمار والفرس والبغل والإبل والبقر نادرا،
غير أن الإبل والثور خرجا بما دل بمنطوقه على نزح الجميع، فيكون الحكم ثابتا في الباقي
فإن قلت: يلزم التسوية بين ما عدده الإمام. قلت: خرج ما استثنى لدليل منفصل،
فيبقى الباقي لعدم المعارض، وأيضا التسوية حاصلة من حيث الحكم بوجوب نزح الدلاء
وإن افترقت بالقلة والكثرة، وذلك شئ لم يتعرضا له (عليهما السلام) إلا أن لقائل أن
221

يقول إن ما ذكرتموه لا يدل على بلوغ الكرية، ويمكن التمحل بأن يحمل الدلاء على
ما يبلغ الكر جمعا بين المطلق والمقيد خصوصا مع الاتيان بصيغة جمع الكثرة، لا يقال:
إن حمل الجمع على الكثرة استحال إرادة القلة منه. وإلا لزم الجمع بين إرادتي الحقيقة
والمجاز، وإن حمل على القلة فكذلك. لأنا نقول: لا نسلم استحالة الثاني، سلمناه لكن
إن حمل على معناه المجازي وهو مطلق الجمع لم يلزم ما ذكرتم، على أن لنا في كون الصيغ
المذكورة حقائق أو مجازات في الكثيرة نظرا، وبعض المتأخرين استدل بهذه الرواية
على وجوب النزح للحمار دون الفرس والبقرة،. وألحقهما بما لم يرد فيه نص، وقد روى
مثل هذه الرواية البقباق عن أبي عبد الله (عليه السلام) " انتهى. ونقلناه برمته لما فيه
من الفوائد العظيمة الجليلة النافعة في المقامات المتعددة، واعترضه في المدارك بثمانية
وجوه، ويمكن للناظر أن يجعل في كل من الثمانية ثمانية من النظر، قال فيها:
(الأول) مقتضى كلامه (رحمه الله) إن الدابة حقيقة فيما يركب حيث حمل النص
عليه وهو غير واضح، وكلام الجوهري لا يدل عليه، فإن الاطلاق أعم من الحقيقة
والمجاز، وقد صرح بعض محققي أهل اللغة بأن أكثر اللغات مجازات، مع ما قد
اشتهر أن الدابة منقولة إلى ذات القوائم الأربع من الخيل والبغال والحمير، وذكر جماعة
أنها مختصة بالفرس، سلمنا أنها حقيقة فيما يركب، لكن البقر إنما يركب نادرا كما
اعترف به، والألفاظ إنما تحمل على المعنى المتعارف لا النادر الغير المشهور " انتهى.
وفيه أنه مبني على ما هو الظاهر من كلام الجوهري من ذكره المعنيين للدابة مع التصريح
بقوله في الثاني اسم، ولم يكتف بعطفه على الأول إذ لم يعهد إطلاق لفظ الاسم على
المعنى المجازي كأن يقال الأسد اسم للرجل الشجاع، على أن هذا سد لباب التمسك
بقول اللغوي من دون ثبوت من خارج، وفيه ما لا يخفى، وأيضا العلامة (رحمه الله)
حمله على الثاني بعد أن استدل على نفي الأول، فلو فرضنا أن المعنى الثاني مجاز لكن
ربما يظهر من صاحب الصحاح إنه مجاز معروف مشهور، فلا يبعد حمله مع تعذر الأول
222

على الثاني، على أنه نقل عن القاموس أنه قال: الدابة ما دب من الحيوان وغلب على
ما يركب، وهو ظاهر في كونه حقيقة عرفية لا أقل من كونه مجازا مشهورا، فبعد
انتفاء إرادة الأول يتعين إرادة الثاني، ومن ذلك ظهر لك ما في قوله إن الاطلاق أعم
من الحقيقة فإنه ليس من باب الاطلاق، وقوله مع أنه قد اشتهر أن الدابة فيه أنه ممنوع
أولا، وثانيا قد يكون معنى حادث لا يحمل عليه الخطابات الشرعية، ولذلك لم يذكره
أهل اللغة، وأيضا قد يكون رأي مثل العلامة (رحمه الله) تقديم اللغة على العرف كما
ذهب إليه المعترض، بل نقل أنه مذهب كثير من الفقهاء، ولا عيب فيه عليه، قوله
لكن البقر إنما يركب نادرا فيه أن قوله في الصحاح أنها اسم لكل ما يركب قد يدعى عمومه
حتى للفرد النادر لوقوعه في سياق كل كالدابة فإنها اسم لكل ما يدب على الأرض لا ما يدب
متعارفا، وقال: " (الثاني) قوله في الاستدلال على إفادة المعرف باللام العموم على التقدير
الثاني إن تعليق الحكم على الماهية يستدعي وجوده في جميع صور وجودها وإلا لم يكن
علة. قلنا: تعليق الحكم على الماهية لا يقتضي كونها علة فيه، على أنه لو تم ما ذكره
لاقتضى إفادة المعرف المحلى بلام الجنس العموم مطلقا، وهو لا يقول به " انتهى.
وفيه أن ما أشار إليه العلامة (رحمه الله) هو التحقيق في إفادة المعرف باللام العموم، وذلك
لأنه قد تبين في الأصول فساد مذهب الجبائيين وغيرهم، وأن الحق كون الألف واللام
للتعريف والإشارة إلى مدخولها. فحيث يكون مدخولها اسم جنس كانت لتعريف الجنس،
وحينئذ ففي وجه استفادة العموم على هذا التقدير خلاف، فمنهم من ذكر دليل الحكمة. وقد
ذكرنا فساده في الأصول، منهم من ذكر هذ الطريق وهو التحقيق، وذلك حيث يكون
متعلقا لحكم شرعي يرجع في الحقيقة إلى وصف الطبيعة من حيث هي هي مثلا إذا قال
الشارع البيع حلال كان وصف الحلية لاحقا لطبيعة البيع، فمتى وجدت وجد وصفها
معها وإلا لم يكن وصفا للطبيعة، فيستفاد عموم الحلية لجميع أنواع البيع، ولا يكفي في
كونه وصفا للطبيعة وجوده في بعض البيع لأن ذلك يكون في الحقيقة وصفا للفرد دون
223

الطبيعة. فإن قلت: إن ما قضت به الأدلة من تحريم بعض أنواع البيع ينافي كون الحلية
وصفا للطبيعة. قلت: قد يقال أولا أن ما ذكرنا مدلول ظاهري لا ينافيه التخصيص،
وثانيا إن ما قضت به الأدلة ليس أن طبيعة البيع حرام، إنما التحريم للفرد وهو لا ينافي
حكم الطبيعة، وذلك من قبيل أن يقال الرجل خير من المرأة الذي لا ينافيه وجود
أفراد من النساء خيرا من الرجال. فلا ريب في كون ذلك هو التحقيق في استفادة العموم،
نعم هو لا يجري في كل مقام إذ من المقطوع به أن السيد إذا قال لعبده بع أو أوجد
البيع ونحو ذلك لا يجب عليه استغراق جميع أفراد البيع، والفرق بينهما أن هذا أمر
يحصل امتثاله بالواحد، وليس وصفا لاحقا للطبيعة من حيث هي هي يدور مدارها وجودا
وعدما، ومن هذه الجهة لم يقل العلامة (رحمه الله) بالعموم في الجميع، بل في بعض
دون بعض، ولا يخفى أن ما نحن فيه من قوله (عليه السلام) في الجواب عن الدابة حيث
تقع في البئر (ينزح دلاء) من الأول فإنه في قوة أن يقول نزح دلاء للدابة، فحيث توجد
هذه الطبيعة يوجد هذا التقدير لها وإلا لم يكن تقديرا لهذه الطبيعة، والتقدير
كالتوصيف، وليس المقصود من هذا الأمر التكليف ليتحقق الامتثال بالواحد، بل
هو من قبيل اغسل ثوبك من البول مثلا فإنه ظاهر في أن طبيعة البول موجبة لذلك،
فحيث توجد يوجد هذا الحكم وكأن هذا المعنى هو مراد العلامة بالعلية أي المناط الذي
يوجد بوجودها الشئ فتأمل. ثم قال: " (الثالث) قوله: إن الإبل والثور خرجا بما
دل بمنطوقه على نزح الجميع، فيكون الحكم ثابتا في الباقي. قلنا: الذي دل بمنطوقه على
حكم الثور دل بمنطوقه على حكم مثله، فإن اقتضى الاخراج في أحدهما اقتضاه في الآخر
وإلا فلا " انتهى. قلت: محل الكلام الآن في الفرس والبقر، أما الأولى فليس
نحوه قطعا، وأما الثاني فللعلامة أن يقول كذلك، ولذلك لم يعمل به أحد في ذلك
المقام، وأيضا لو أراد ذلك لقال البقر، وعلى كل حال فنحوه من قبيل المجملات لأنا لا نعلم
الجواهر 28
224

ما المراد به، مع احتمال أن يراد به الثور الوحشي.
" (الرابع) قوله: خرج ما استثنى بدليل منفصل، فيبقى الباقي لعدم المعارض.
قلنا: الاستثناء والاخراج بدليل إنما يكون من الألفاظ العامة أو ما في حكمها لأن إطلاق
اللفظ وإرادة بعض مدلوله معنى مجازي يصار إليه بالقرينة، والأمور المتعددة المدلول
على كل منها بالمطابقة إذا تعلق بها حكم واحد ثبت ذلك الحكم لكل منها على انفراده
نصا، فإذا وجد ما ينافي ذلك في بعض المدلولات تعارض الخبران، ويصار إلى الترجيح
لامتناع العمل بهما " انتهى. قلت: أما مناقشة الأولى فهي مناقشة لفظية لأن محصلها
أنه كيف يطلق لفظ الاستثناء على مثل ذلك مع أنه قد يطلق عليه. لا سيما بعد وضوح
القرينة كما هنا، وقوله والأمور المتعددة إلى آخره لا ينافي ما ذكره العلامة إذ مراده أنه
خرج باعتباره رجحان المعارض، على أنه يمكن صحة الاستثناء هنا في الجواب بأن يقال
ينزح دلاء إلا للكلب مثلا، فينزح له أربعون، وأيضا فالحكم هنا ليس متعلقا بكل
واحد بانفراده نصا، والمطابقة بين السؤال والجواب لا تقتضي أزيد من الظهور، فلا
يمنع من الاستثناء متصلا ومنفصلا.
قال: " (الخامس) قوله: وأيضا المساواة حاصلة من حيث الحكم بوجوب نزح
الدلاء. قلنا: هذا الخيال واضح الفساد فإنه لا يكاد يفهم من هذه الاطلاق إلا تساوي
الأمور المذكورة في قدر النزح. فلو كانت مختلفة في ذلك لزم الاغراء بالجهل والخطاب
بماله ظاهر مع إرادة خلاف ظاهره، وقد ثبت امتناعه في الأصول " انتهى. وفيه أن
مدار الجمع بين الأخبار إنما هو حمل ما له ظاهر على خلاف ظاهره بعد ترجيح المعارض
فمقصوده بهذا التساوي وأنه بعد دلالة الأدلة على حكم تلك الأفراد وكانت مختلفة يعلم
من ذلك أن مقصود الإمام (عليه السلام) بالجواب إنما هو القدر المشترك بين الجميع.
وكان تأخير البيان لمقام آخر أو كانوا عالمين بذلك، وليس فيه تأخير البيان عن وقت
الحاجة لعدم العلم بكونه وقت حاجته.
225

قال: " (السادس) قوله ويمكن التمحل بأن يحمل الدلاء على ما يبلغ الكر جمعا
بين المطلق والمقيد. قلنا هذا التمحل واضح الفساد أيضا فإن إطلاق لفظ الدلاء وإرادة
الكثرة من غير زيادة ولا نقصان يكاد أن يلحق بالهذر والهذيان إلى سادات الأنام وأبواب
الملك العلام عليهم أفضل الصلاة والسلام، ومع ذلك كله فالمقيد الذي ادعاه غير موجود،
ولو ثبت وجوده لكان فيه غنية عن هذه التمحلات الواهية والتكلفات الباردة " انتهى.
وأنت خبير بأن مثل هذا الكلام لا يناسب في جنب مثل العلامة آية الله في العالمين مع
اعترافه بأنه تمحل، وكان ما ذكره هذا المعترض هو وجه التمحل، على أنه يمكن أن
يقال أن العلامة أراد بالمقيد رواية عمرو بن سعيد بن هلال (1) الواردة في الحمار.
وذلك لأنه لما كان الحمار والبغل وغيرهما داخلة في لفظ الدابة في صحيحة الفضلاء ثم إنه
بين مقدار الدلاء في فرد من أفراد الدابة فله أن يقول إن هذا الحكم بيان للدلاء التي
هي حكم الدابة. لا سيما مع القطع بعدم إرادة الاطلاق للاجماع، والحمل على تخصيص
لفظ الدابة ليس بأولى مما ذكرنا، بل هو أولى، على أن المشهور شهرة كادت تكون
إجماعا بل سمعت ما في الغنية من الاجماع على الخيل وشبهها أن الكر ينزح لجميعها، فبمعونة
ذلك يتجه ما تقدم أو يمكن فهم التقييد منها بطريق آخر بأن يقال إن قوله حتى بلغت
الحمار إلى آخره يراد به إني بلغت لهذا ونحوه في الجسم من الحيوان، فيد خل فيه الفرس
والبقرة وكيف كان فلا ينبغي إساءة الأدب مع مثل العلامة مع اعترافه بالتمحل وإمكان
توجيهه بما ذكرنا، هذا كله مع أن عبارة المعترض لا تخلو من مناقشة واضحة للمتأمل
كوضوح فساد ما بقي له من الاعتراضين.
(وينزح سبعين) دلوا (إن مات فيها) أي بعد إن وقع فيها، والمراد به
ما يشمل القتل وغيره، ما صدق عليه (انسان) سواء كان كبيرا أو صغيرا رجلا
أو امرأة، نعم مقتضى تقييد المصنف بالموت فيها أنه لا يدخل في هذا الحكم الميت

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5.
226

خارجا عنها، بل ولا السقط الذي لم تحله الحياة بعد تمام ما يصدق هذا اللفظ معه إن
قلنا بنجاسته، لكن قد يظهر من بعض المتأخرين كالفاضل الهندي دخول الأول حيث
قال: " ينزح سبعين دلوا لموت الانسان فيها أو وقوع ميت فيه لم يغسل ولم يقدم
الغسل إن وجب قتله فقتل لذلك وإن يمم أو كان شهيدا إن نجسناه خلافا للمشهور " انتهى.
وفيه أن خبر عمار (1) المعمول به بين الأصحاب في المقام الذي هو مستند الحكم،
قال فيه: " وما سوى ذلك مما يقع في بئر الماء فيموت فأكثره الانسان ينزح منها سبعون
دلوا " وهو ظاهر في قصر الحكم على الموت فيها، نعم قد يقال بوجوب نزح السبعين
لتحقيق سنذكره.
وكيف كان فمستند الحكم خبر عمار الساباطي المنجبر بما عن الغنية والمنتهى من
الاجماع، بل عن المعتبر أن رواتها ثقات، وهي معمول عليها بين الأصحاب، كما في
الذكرى للخبر المقبول بين الأصحاب عن الصادق (عليه السلام) مع ما في المدارك من
نسبته إلى الأصحاب أيضا، وما في بعض الأخبار (2) كخبر زرارة من وجوب نزح
العشرين دلوا، وحسن محمد بن مسلم (3) عن أحدهما (عليهما السلام) " في الميتة تقع في
البئر إذا كان له ريح نزح منها عشرون دلوا " لا يعارض ما ذكرنا لاعراض الأصحاب
عنهما، كما عن المنتهى أن أصحابنا لم تعمل بالعشرين، فيكون الاستدلال بهما ساقطا،
ويحتمل العمل بهما في ميت الانسان الخارج عن البئر لأنه من قبيل التعميم والتخصيص
إن كان المفهوم من قوله في خبر عمار فيموت فيها تقييدا إن لم يثبت إجماع على عدم ذلك،
وظاهر النص والفتوى عدم الفرق بين المسلم والكافر، وخالف في ذلك ابن إدريس
وهو المنقول عن أبي علي فأوجب نزح الجميع، وقد أطال ابن إدريس في الاستناد لذلك،
وحاصله أن الكافر إذا باشر الماء وهو حي وصعد يجب له نزح لجميع لكونه مما لا نص

(1) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2 - 4
(2) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2 - 4
(3) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2
227

فيه، ويظهر منه نفي الخلاف فيه، فكيف إذا كان بعد نزوله إليها ومباشرته لمائها بجسمه
وهو حي وقد وجب نزح جميعها، فإذا مات بعد ذلك ينزح له سبعون دلوا وقد طهرت،
وهل هذا إلا تفصيل من قائله وقلة تأمل، أتراه عند موته انقلب وطهر، ولا خلاف
بيننا أن الموت ينجس الطاهر ويزيد النجس نجاسة، ويمكن تقريره بوجه آخر وهو أنه
قد ثبت نزح الجميع له في حال الحياة لكونه مما لا نص فيه، فيثبت هنا لأن الفرض
موته في البئر فيكون قد لاقاها وهو حي ثم مات والموت إن لم يزده لم ينقصه فتأمل.
وبهذا القياس يخص عموم الرواية الشاملة للكافر والمسلم، وفيه أولا إن أحكام
النجاسة تعبدية لا يعرف حكمتها إلا الله، فلا يمكن أن ينقح العقل بعنوان القطع المساواة
فضلا عن الأولوية. وثانيا إنا نمنع ما ذكره من وجوب نزح الجميع هنا للحي وإن قلنا
وجوبه لما لا نص فيه لأنه على تقدير تسليم ما ادعاه من الأولوية يعلم مما ذكر في الروايات
من تقدير الانسان الشامل لهما بالسبعين إن الحي لا يزيد على ذلك إذ ببيان حكم الأشد
يظهر حكم الأضعف، وما ذكره من دعوى الاجماع إن أراد به على ما لا نص فيه
فمسلم، وإن أراد به في خصوص المقام فممنوع لأن المراد بما لا نص فيه أن لا يعلم حكمه
من الأخبار بوجه من الوجوه، ونحن الآن وإن لم نعلم حكمه بالخصوص لكنا نعلم أنه
لا يتجاوز السبعين للأولوية التي ادعاها، على أن ظاهر الرواية موت الانسان في البئر
فعلى تقدير شموله للكافر يكون ظاهرا في ملاقاته له حيا ثم مات، ومع ذلك اكتفي فيه
بالسبعين فبدون موته كذلك بطريق أولى قطعا وأما ثالثا. فلأنا إن سلمنا له وجوب
نزح الجميع في الحي فإنما هو من جهة فقد نص المظهر لحكمه فهو حينئذ حكم ظاهري من
باب المقدمة لا أنه حكم شرعي واقعي، فلا يستفاد منه أولوية تعارض النص، ولعل هذا
عند التأمل يرجع إلى ما سبق، ومما ذكرنا يمكن تحصيل الحكم السابق وهو حكم الميت
الخارج عنها مثلا لأنه وإن كان مما لا نص فيه بناء على عدم شمول النص له إلا أنه ينزح
له سبعون لا الجميع للقطع بأن الموت في البئر إما أنه أشد أو مساو للموت في الخارج عنها
228

فلا ينبغي أن يتجاوز السبعين، فيتجه ما ذكره الفاضل الهندي (رحمه الله) سابقا فتأمل.
وهذه قاعدة تنفعك في كثير مما يأتي ومضى، فما عن المحقق الثاني والشهيد في
روض الجنان من الاكتفاء بالسبعين في الكافر إن وقع في الماء ميتا لعموم النص،
وأوجبا نزح الجميع إن وقع حيا ثم مات لثبوت ذلك قبل الموت والموت لا يزيله مما
لا وجه له لكون مورد النص موت الانسان في البئر، وهو ظاهر في ملاقاته للماء حيا،
فإن سلم شمولها للكافر وجب الاكتفاء فيه بالسبعين مطلقا وإلا فالجميع كذلك، وأما
التفصيل فلا وجه له، ومع ذلك كله فلقائل أن يقول في تأييد كلام ابن إدريس أما أولا
أن المعرف بالألف واللام لا يفيد الاستغراق، وثانيا المتبادر منه المسلم، وثالثا أن ظاهر
الرواية إن نزح السبعين لمكان الموت، فلا ينافي نزح غير هذا المقدار لمكان نجاسة
أخرى، ولو اقتضى ذلك لاقتضى في جميع التقادير إذ قد ورد (1) أيضا في النزح
للجنب مثلا مقدار مخصوص، مع أنه لا يسوغ أن تقول أنه شامل لما كان مستصحبا
للمني وغيره أولا، واحتمال القول بالتداخل ضعيف، بل في السرائر أنه لا أحد من
أصحابنا يقدم فيقول ينزح سبع دلاء لارتماس الجنب أي جنب كان سواء كان كافرا
أو مسلما محقا. وفيه مع أن ابن إدريس سلم العموم أن التحقيق إفادته للعموم على الطريقة
السابقة، ودعوى التبادر في المسلم ممنوعة كما لا يخفى على من له خبرة في غير هذا المقام،
وأما الثالث فأنا وإن لم نقل بالتداخل لظهور الحيثية كما يأتي، لكن الظاهر في المقام
دخول النجاسة الكفرية وذلك لأنه بعد أن فهم العموم من هذا اللفظ صار بمنزلة المصرح
به، فكأنه قال الكافر إذا وقع فيها ومات ينزح له سبعون، والفرق بين هذا وما ذكره
أن تلك أحوال خارجة عن مسمى اللفظ لم يسق اللفظ لشمولها قطعا بخلافه هنا، فإنه قد
أتى باللفظ لشمول أفراده والفرض أن فيه ما كان نجس العين ولم يذكر له حكما بالخصوص،
وما ذكره ابن إدريس من عدم شمول الجنب للمسلم والكافر لعله حق إما لأن المتبادر

(1) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب الماء المطلق.
229

فيه هنا المسلم بقرينة الارتماس ونحوها بخلاف ما نحن فيه أو لغير ذلك.
(و) تطهر (بنزح خمسين إن وقع) أي صار (فيها) ولو بغير وقوع تنقيحا
للمناط (عذرة) والمراد بها فضلة الآدمي كما عن الغريبين ومهذب الأسماء وتهذيب اللغة،
ولعلها سميت بذلك لأنهم كانوا يلقونها في العذرات أي الأفنية، وما عن المعتبر أنها
والخرء مترادفان يعمان فضلة كل حيوان ضعيف، وإطلاق الشيخ في التهذيب كما قيل
لا يقضي بالوضع. وفي السرائر " وينزح لعذرة ابن آدم الرطبة أو اليابسة المذابة المقطعة
خمسون دلوا، فإن كانت يابسة غير مذابة ولا مقطعة فعشر دلاء بغير خلاف " انتهى.
ومنه يظهر وجه قول المصنف (فذابت) من غير فرق بين كونها رطبة أو يابسة
ولكن بقيت فذابت أو ذاب بعضها لعدم الفرق بين قليلها وكثيرها، وهل مثل الذوبان
وقوع اليابسة أجزاء دقاقا؟ وجهان، والمراد بالذوبان صيرورتها أجزاء دقاقا، ولعله يرجع
إليه التقطع كما عن ظاهر السيد (ر حمه الله) بل يرشد إلى ذلك جمعه في السرائر بينهما،
وعن صريح المهذب والكافي والغنية والجامع الاكتفاء بالتقطع أو الرطوبة، ولعل ذكر
التقطع يغني عن الرطوبة لملازمتها للتقطع، وإلا فبدونه لا ينزح، كما أنه لا يبعد أن يراد
بالتقييد بالرطبة فقط كما في القواعد واللمعة وعن النهاية والمبسوط والمراسم والوسيلة
والاصباح ما يشمل اليابسة التي تترطب في الماء فذابت، ويؤيده اشتمال رواية أبي بصير
التي هي المستند في المقام على ذلك كما ستسمعه، ومقتضى إطلاق النص والفتوى عدم
الفرق بين صغير الانسان وكبيره والمسلم والكافر وغيرهم.
وكيف كان فالحكم بتحتم الخمسين هو المشهور كما في الذكرى وكشف اللثام
وهو كذلك، ولعله يشمله نفي الخلاف المتقدم في عبارة السرائر، وفي المعتبر إني لم
أقف له على شاهد، قلت: شاهده رواية أبي بصير (1) سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
" عن العذرة تقع في البئر؟ قال تنزح منه عشر دلاء فإذا ذابت فأربعون أو خمسون "

(1) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1
230

لاحتمال أن يكون من كلام الراوي أو لعدم معقولية التخيير بين الأقل والأكثر
سيما مقام التطهير إذ احتمال رجوع التشخيص إلى نية المكلف في غاية البعد هنا، فمن
هنا يتعين إرادة الخمسين لاستصحاب النجاسة وعدم حصول اليقين إلا بذلك، ولعل
ما ذكرنا مراد العلامة في المختلف حيث قال ويمكن أن يقال إيجاب أحدهما يستلزم إيجاب
الأكثر لأنه مع الأقل غير متيقن البراءة، وإنما يعلم الخروج عن العهدة بفعل الأكثر
فلا معنى للايراد عليه حينئذ بأنه غير مستقيم، فإن التخيير بين الأقل والأكثر يقتضي
عدم وجوب الزائد عينا وإلا لم يكن للتخيير معنى، فيجب أن يحصل يقين البراءة بالأقل
ويكون الزائد مستحبا، لما عرفت أن ليس مبنى كلامه التخيير، بل قد تكون هذه
العبارة عنده من المجمل لمصلحة اقتضاها المقام، فيكون حينئذ التكليف الظاهري
وجوب الخمسين، وقد عرفت أن الرواية منجبرة بالشهرة بين الأصحاب، بل الظاهر
الاجماع على العمل بمضمونها، فلا يقدح ما في سندها من عبد الله بن بحر، واشتراك أبي بصير، مع أن لنا كلاما في اشتراك أبي بصير قد تقدم سابقا، كما أنه لا يعارضها
صحيحة علي بن جعفر (عليه السلام) (1) سأله فيها " عن بئر ماء وقع فيها زبيل من عذرة
رطبة أو يابسة أيصلح الوضوء؟ قال: لا بأس " ولا صحيحة ابن بزيع (2) الدالة على
الاكتفاء في طهارة البئر من وقوع العذرة فيها بنزح دلاء بعد إطلاقهما وتقييدها.
(والمروي) عن الصادق (عليه السلام) (أربعون أو خمسون) ومراده
رواية أبي بصير المتقدمة، وعن الصدوق أنه قال تطهر بأربعين إلى خمسين، وفيه مع
مخالفته لمنطوق الرواية إشكال التخيير بين الأقل والأكثر.
(أو كثير الدم كذبح الشاة) أي ينزح له خمسون، والمرجع في الكثرة إلى
العرف، وحدها ابن إدريس بأن أقلها ما كان كذبح شاة. ثم نسب ذلك إلى رواية
أصحابنا، والأولى ما ذكرنا، ولعل مراده بالرواية صحيحة علي بن جعفر (عليه السلام)

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث - 8 - 21
(2) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث - 8 - 21
231

الآتية، ولا دلالة فيها على ما ذكر، والظاهر أن مدار الكثرة بالنسبة إلى الدم نفسه
لأنه هو المتبادر من الفتوى، فما قيل إن مدارها هنا بحسب الماء قلة وكثرة فقد يكون
الدم كثيرا بالنسبة إلى بئر لقلته قليلا بالنسبة إلى أخرى لسعتها لا وجه له إلا وجه
اعتباري لا يصلح لأن يكون مستندا لحكم شرعي، وكيف كان فما ذكره هو المشهور كما
في الذكرى وكشف اللثام، وعن الغنية الاجماع عليه، وفي السرائر " وينزح لسائر الدماء
النجسة من سائر الحيوان سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم نجس العين
أو غير نجس العين ما عدا دم الحيض والاستحاضة والنفاس إذا كان الدم كثيرا، فحد
أقل الكثير دم شاة خمسون دلوا، والقليل منه وحده ما نقص من دم شاة فإن أكثر
القليل عشر دلاء بغير خلاف، إلا من شيخنا المفيد في مقنعته فإنه ذهب إلى أن لكثير
الدم عشر دلاء، والقليل خمس دلاء، والأحوط الأول وعليه العمل " انتهى. وقد
فهم منها في كشف اللثام نفي الخلاف عما نحن فيه وهو محتمل، بل لعله الظاهر، وعن
المرتضى أن للدم ما بين دلو إلى عشرين، وعن الصدوق أنه ينزح في دم ذبح الشاة من
ثلاثين إلى أربعين، وهو خيرة المعتبر والمنتهى وعن المختلف واستحسنه في الذكرى،
وفي كاشف اللثام أنه أقرب، والأقوى الأول للاجماع المنقول عن الغنية المعتضد بنفي
الخلاف والشهرة التي سمعت نقلها، فهو أرجح من صحيحة علي بن جعفر (1) عن أخيه موسى
(عليهما السلام) " في رجل ذبح شاة فوقعت في بئر وأوداجها تشخب دما قال (عليه السلام):
ينزح منها ما بين ثلاثين إلى أربعين " على أن قوله ما بين ثلاثين إلى آخره محتمل
وجهين، الأول التخيير، والثاني تمام ما بينهما، لا يقال حينئذ يكتفى بالعشرة كما قاله
المفيد، لأنا نقول إضافة البينية إلى الثلاثين ملحوظة، ولا تحصل إلا باحراز الثلاثين،،
ومع الغض عن الأرجحية وإعراض الأصحاب عنها مع أنها بمنظر منهم يحصل الشك
الجواهر 29

(1) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1
232

من تصادم الحجتين والاحتياط لازم هنا لشغل الذمة واستصحاب النجاسة، ولا قائل
بالزيادة على الخمسين، فتكون هي طريق اليقين، وأما ما ذكره المفيد فلا دليل عليه
سوى ما ستسمعه في القليل من الدم، وأما ما ذكره المرتضى فقد يستدل له بخبر زرارة (1)
قال: قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام) " بئر قطر فيها قطرة دم أو خمر قال: الدم والخمر
والميتة ولحم الخنزير في ذلك سواء ينزح منه عشرون دلوا " وهو - مع أنه لا دلالة فيه
على ما ذهب إليه من الواحد إلى العشرين، ومشتمل على ما لا نقول به - مطلق مقيد بما
سمعت، على أنه محتاج إلى جابر. وهو مفقود، ومقتضي ما سمعته من ابن إدريس
وإطلاق غيره أنه لا فرق بين دم نجس العين وغيره، واستظهر بعضهم العدم جمودا على
الرواية، بل يظهر منه الاشكال في غير دم الشاة، وقد عرفت عدم انحصار الدليل في
الرواية، بل هو ما تقدم الشامل للجميع، وغلظ النجاسة لا يصلح لأن يكون مقيدا
للاطلاق، (والمروي) في صحيح علي بن جعفر ما بين ثلاثين إلى أربعين لا (من
ثلاثين إلى أربعين) فكان الأنسب أن يذكر نفس المتن، واحتمال ترادف
العبارتين فيه كلام.
(و) يطهر (بنزح أربعين إن مات فيها ثعلب أو أرنب أو خنزير أو سنور أو كلب
وشبهه) كما في السرائر بزيادة الشاة والغزال وابن آوى وابن عرس، قال: " وما أشبه
ذلك في مقدار الجسم على التقريب " والظاهر منه إرادة ما أشبه كل واحد منها في مقدار
الجسم، ولعله تحمل عليه عبارة المصنف، لكنه بعيد فيها لظهورها في إرادة شبه الكلب
بل لعله الأولى لكونه المذكور في الرواية التي هي مستند الحكم، فينبغي الاقتصار
عليه، ولكن في المعتبر اقتصر على الكلب وشبهه، قال: " ونريد بشبهه الخنزير والغزال "
وأما السنور ففي أول كلامه اختار الأربعين، لكنه في الأخير قال: " ولو عمل
بالأقل جوازا وبهذه استظهارا جاز " وأشار بهذه إلى الأربعين، وفي القواعد والتحرير

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3.
233

مثل ما ذكر المصنف، لكن من دون قوله وشبهه، وفي الذكرى الكلب وشبهه والسنور،
ثم إنه بعد ذلك أدخل في الشبه الثعلب والأرنب والشاة كما عن المقنعة أيضا مع زيادة
الشاة والغزال، لكنه قال بعد ذكر الثعلب: " وشبهه في قدر جسمه " وقال في
كشف اللثام: " يعني شبه كل واحد منها " ونحوه في النهاية والمبسوط والمراسم وكذا
الوسيلة والمهذب والاصباح بزيادة النص على ابن آوى وابن عرس، واقتصرا بن
سعيد على الشاة وشبهها.
وكيف كان فالظاهر أن ما ذكره المصنف هو المشهور، بل ويظهر من السرائر أن
نزح الأربعين للكلب من المسلمات، والذي يصلح سندا في المقام قول أبي الحسن (عليه السلام)
في رواية علي (1): " والسنور عشرون أو ثلاثون أو أربعون دلوا والكلب وشبهه " كالمروي
في المعتبر (2) عن الحسين بن سعيد في كتابه عن القاسم عن علي عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: سألته " عن السنور فقال أربعون دلوا وللكلب وشبهه " وقول أبي عبد الله
(عليه السلام) (3) في رواية سماعة: " وإن كانت سنورا أو أكبر منها نزحت منها
ثلاثين أو أربعين دلوا " وأما رواية أبي مريم (4) قال حدثنا جعفر قال: " كان
أبو جعفر (عليه السلام) يقول إذا مات الكلب في البئر نزحت " وعمار الساباطي (5)
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سئل عن بئر يقع فيها كلب أو فارة أو خنزير
قال: تنزح كلها " ورواها في كشف اللثام بدل ينزح ينزف، فمع الغض عما في سنديهما
ومعارضتهما لقوله (عليه السلام) في خبر عمار (6) " إن أكبر ذلك الانسان ينزح

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 وهو مروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
(2) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 - 4
(3) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 - 4
(4) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 8
(5) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 8
(6) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2
234

سبعون دلوا " لم أر أحدا عمل بهما، فهما معرض عنهما بين الأصحاب، مع عدم
صراحة الأولى في نزح الجميع، والثانية في موت الكلب، فوجب حملهما على التغيير،
أو حمل الأولى على نزح الأربعين، والثانية على رفع كل بينزح أو نصبه على الظرفية
أو رفعه على الابتداء وحذف الخبر أي كلها كذلك، والأولى حملها على الاستحباب
كما يؤيده خبر أبي بصير (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " فإن سقط فيها كلب
فقدرت أن تنزح مائها فافعل " وأما رواية ابن يقطين (2) في الكلب والهرة فقال:
" يجزيك أن تنزح دلاء فإن ذلك يطرها إن شاء الله " كصحيحة الفضلاء (3) في الكلب
والخنزير وغيرهما " يخرج ثم ينزح من البئر دلاء ثم اشرب " ورواية البقباق (4) في الكلب
وذكره غيره قال: " يخرج ثم ينزح من البئر دلاء ثم يشرب ويتوضأ " فقد تقدم لك سابقا
في صحيحة الفضلاء أن المراد بالدلاء قدر مخصوص للاجماع لا الاطلاق، فحينئذ يكون
ذلك من باب المجمل والمبين، بل لو سلمنا كونه من باب المطلق فالتفصيل المتقدم حاكم
عليه، وضعف السند بعد انجباره بالشهرة غير قادح في صلاحيته التقييد فتأمل، على أن
الأولى غير صريحة في الموت، وأما الصحيح (1) " في السنور والدجاجة والكلب
والطير قال: إذا لم يتفسخ أو يتغير طعم الماء فيكفيك خمس دلاء، وإن تغير الماء فخذ منه
حتى يذهب الريح " فقد قال الشهيد في الذكرى: " أنه نادر ولا يعارض المشهور " وعن
الشيخ حمله في الكلب على خروجه حيا، وكيف كان فلم نعثر على عامل به من القدماء
وغيرهم فطرحه أو تأويله متجه، وحديث زرارة المتقدم سابقا لا منافاة فيه لتضمنه لحم
الخنزير، وهو غير ما نحن فيه، وأما خبر عمرو بن سعيد بن هلال (2) سأله " عما يقع
في البئر ما بين الفارة والسنور إلى الشاة فقال (عليه السلام): كل ذلك نقول سبع دلاء "

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11 - 2 - 5
(2) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11 - 2 - 5
(3) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11 - 2 - 5
(4) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 - 7.
(5) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 - 7.
(6) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5.
235

فلا جابر له في المقام، وإن حكي عن الفقيه أنه قال: وإن وقع فيها سنور نزح منها سبع
دلاء لكن ما عنه في المقنع أنه قال: في السنور من ثلاثين إلى أربعين وروي سبع
دلاء (1) ظاهر في الاعراض عنها.
نعم يبقى الكلام في دلالة ما ذكرنا من الرواية على المختار، فنقول أما دلالتها
على السنور والكلب فواضحة، وأما الثعلب والأرنب والخنزير فليس في الروايات
تعرض لها بالخصوص، نعم قد سمعت قوله (عليه السلام) " والكلب وشبهه " وقوله
(عليه السلام) " سنورا أو أكبر منها " وعن الشيخ أنه يريد بشبهه في قدر جسمه،
وهذا تدخل فيه الشاة والغزال والثعلب والخنزير وكل ما ذكر يعني المفيد في المقنعة،
والظاهر دخول الأرنب في قوله " سنورا أو أكبر منها " وقد تقدم لك الزيادة والنقيصة
في كلامهم، وكأنه لاجمال الشبه والأكبر في الروايتين والأولى الرجوع في الشبه إلى
العرف، وليس المدار فيه على مقدار الجسم فقط، والظاهر دخول ابن آوى فيه، وأما ابن عرس
فقد سمعت أنه ذكره بعضهم، ولكن لا يخلو من إشكال، كما أن دخول الشاة في شبه الكلب
لا يخلو من إشكال، سيما بعد قول جعفر عن أبيه (عليهما السلام) في خبر إسحاق بن عمار (2)
" وإذا كانت شاة وما أشبهها فتسعة أو عشرة " وفي خبر عمرو بن سعيد سبع دلاء، لكن
لا يبعد الأول لانجبار ضعف الدلالة بالشهرة على تقدير تحققها والاحتياط وكأنه بالأربعين
متيقن لعدم القائل بالزيادة، وأما قوله: في الرواية " عشرون أو ثلاثون أو أربعون "
فيحتمل أن يكون من الراوي، بل قد سمعت أنه ليس في رواية المحقق ترديد، وأيضا
قد بينا عدم جواز التخيير بين الأقل والأكثر، فيحتمل أن يكون الإمام قصد الاجمال، وحينئذ فالاحتياط لازم لما ذكره المشهور، وعن الهداية والمقنع في الكلب
والسنور من ثلاثين إلى أربعين، ولعله للترديد الذي في رواية سماعة، وإلا فالرواية

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 10 وفي الباب - 15 حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3.
236

الأخرى وردت بين العشرين والثلاثين والأربعين، حينئذ يدخلون الكلب في
الأكبر من السنور، وقد يكون عمل بالروايتين مع طرح قوله عشرين، والأولى
ما قدمنا، والظاهر عدم الفرق بين الصغير والكبير في ذلك بعد صدق الاسم، ولا بين
الذكر والأنثى لظهور إرادة اسم الجنس، وهل يعتبر الموت في البئر أو الأعم؟ لا يبعد
الثاني، وتعرف قوته مما تقدم لنا سابقا في موت الانسان.
(و) كذا يطهر بنزح الأربعين (لبول الرجل) كما في المعتبر والقواعد والتحرير
والسرائر مع تفسيره بأنه الذكر البالغ، وعن الغنية الاجماع عليه، وفي كاشف اللثام إنه
لا خلاف فيه، وفي الذكرى نسبته للشهرة، وفي المعتبر نسبته إلى الخمسة وأتباعهم، بل
نسبه في أثناء كلامه إلى الأصحاب، وفي السرائر أن الأخبار (1) متواترة من الأئمة
الطاهرين (عليهم السلام) بأنه ينزح لبول الانسان أربعون دلوا، ومع ذلك كله ففيه
رواية علي بن أبي حمزة (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قلت: " بول الرجل قال:
ينزح منه أربعون دلوا " وما في سند هذه الرواية من علي بن أبي حمزة وأنه واقفي قد
أكل أموال الكاظم (عليه السلام) ظلما وعدوانا منجبر بما سمعت، مع أنه نقل عن
الشيخ الاجماع على العمل بروايته، وفي المعتبر لا يقال إن عليا واقفي، لأنا نقول
تغيره إنما هو في موت موسى (عليه السلام) فلا يقدح فيما قبله، ولعل غرضه أن عمل
الأصحاب بروايته هنا مع عدم اتفاقه على العمل برواية مثله قد يكون لاطلاعهم على
تأدية الرواية قبل الوقف، فلا يرد عليه أن العبرة في حال الأداء لا التحمل فتأمل.
وكيف كان فلا ينبغي الاشكال في العمل بهذه الرواية هنا، وفي المنتهى علي
ابن أبي حمزة لا يعول على روايته، غير أن الأصحاب قبلوها، وأما رواية معاوية
ابن عمار (3) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في البئر يبول فيها الصبي أو يصب فيها
بول أو خمر قال (عليه السلام): ينزح الماء كله " فهي مع صحة سندها قد أعرض

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 2 - 7.
(2) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 2 - 7.
(3) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 2 - 7.
237

عنها الأصحاب، فلا مانع من حملها على التغيير أو الاستحباب أو غير ذلك كرواية
كردويه (1) سألت أبا الحسن (عليه السلام) " عن البئر يقع فيها قطرة دم أو نبيذ
مسكر أو بول أو خمر قال (عليه السلام): ينزح ثلاثون دلوا " إذ هي - مع عدم التصريح
فيها بأن البول بول الرجل واشتمالها على ما لا نقول به - لا سبيل للعمل بها لعدم الجابر لها
لجهالة كردويه كما عن مختلف الفاضل، وأما صحيحة ابن بزيع (2) عن الصادق (عليه
السلام) " في القطرات من بول أو دم قال: ينزح دلاء " فهي مع عدم التنصيص فيها على
بول الرجل لا معارضة فيها لحمل الدلاء على ما تبلغ الأربعين، ومن العجيب ما في المنتهى
بعد ذكر الروايات " والأقرب عندي الأخذ برواية محمد بن بزيع لسلامة سندها وبحمل
الدلاء على رواية كردويه فإنها لا بأس بها " انتهى. قلت: رواية علي بن أبي حمزة التي نقل
عن الأصحاب قبولها أولى من رواية كردويه، مع أنه نسبها في المعتبر إلى الشذوذ.
إذا عرفت ذلك فلا ريب أن العمل بالمشهور أولى مع تأيده بالاحتياط الواجب
الاتباع في المقام على تقدير النجاسة أو الوجوب التعبدي، والظاهر عدم الفرق بين
بول المسلم والكافر، وما يقال من الفرق بالغلظ بمباشرته بدن الكافر لا يصلح لأن يكون مدركا للحكم الشرعي، وألحق ابن إدريس بالرجل المرأة مع نصه على عدم الفرق
بين الصغيرة والكبيرة، ووافقه على ذلك العلامة في التحرير بل عن الغنية والمهذب
والاصباح والإشارة ذلك أيضا، ولعله لا يخلو من قوة لما سمعت من النقل المتواتر عن
الأئمة (عليهم السلام) وكفي بمثله ناقلا لذلك، وعدم الوجدان مع اتحاد الزمان واتحاد
المرجع لا يدل على عدم الوجود، فكيف إذا لم يكن كذلك، فما في المعتبر لا ريب أنه
وهم في غير محله، كما أن ما في المنتهى من أن ابن إدريس لم يفرق بينهما من مأخذ آخر

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2 وفي الباب - 16 - حديث 5
(2) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 إلا أنه روى
عن الرضا (عليه السلام).
238

قال: لأنها انسان والحكم معلق عليه معرفا باللام الدال على العموم، ومقدماته كلها
فاسدة، نعم لا فرق في المرأة بين الصغيرة والكبيرة في وجوب الأربعين لا يخلو من
نظر إذ قد عرفت أن مقدماته صحيحة، وكأن قول العلامة (رحمه الله) نعم إلى آخره
يريد به على تقدير الالحاق، وفي المعتبر العمل برواية كردويه في بول المرأة، وعلى
ما عرفت من مختار المنتهى تتجه المساواة بين الرجل والمرأة، وقد عرفت أن رواية
كردويه لا جابر له، فالأقوى حينئذ العمل بما قاله ابن إدريس، ولا فرق بحسب الظاهر
بين قليل البول وكثيره وبين صبه فيها أو البول فيها، وستسمع حكم بول الصبي.
(و) تطهر (بنزح عشرة للعذرة الجامدة) التي لم تبق في البئر حتى تقطعت أو تقطع
بعضها، وهو أولى من التعبير باليابسة لأن الحكم ليس دائرا مدارها لما عرفت،
ولكون مستند الحكم ما في خبر أبي بصير (1) من " نزح عشرة للعذرة فإن ذابت
فأربعون أو خمسون " كرواية علي بن أبي حمزة إذا المراد حينئذ نزح عشرة للعذرة
الغير المذابة كما هو مقتضي الفهم العرفي من هذه العبارة، مع ما في السرائر فإن كانت
غير مذابة ولا متقطعة فعشر دلاء بغير خلاف، وما عن الغنية من الاجماع عليه، وبذلك
كله تقيد رواية عمار (2) وصحيحة علي بن جعفر (عليه السلام) (3) المتضمنة لنفي
البأس عن الوضوء في البئر بعد وقوع الزنبيل من العذرة اليابسة أو الرطبة.
(و) كذا ينزح عشر (لقليل الدم) غير الدماء الثلاثة، والمراد بالقلة في نفسه
لا بالنظر للبئر على الأصح، وما في السرائر من حد أكثر القليل بأنه ما نقص من دم
شاة ونسبته فيها إلى رواية أصحابنا لم نتحققه كما عرفت سابق (كدم الطير والرعاف
اليسير) وغيرهما من القطرة والقطرتين، وفي السرائر نفي الخلاف فيه إلا من المفيد
فخمس، وعن الغنية الاجماع عليه، لكن في صحيح علي بن جعفر (عليه السلام) (4)

(1) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 5 - 6
(2) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 5 - 6
(3) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 5 - 6
(4) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
239

بعد أن سأله عن وقوع الشاة المذبوحة التي تشخب أوداجها دما في البئر فقال: " ينزح
منها ما بين الثلثين إلى الأربعين قال: وسألته عن رجل ذبح حمامة أو دجاجة فوقعت
في بئر هل يصلح أن يتوضأ منها؟ قال: ينزح منها (دلاء يسيرة) وفي رواية عمار
الساباطي (1) قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) " عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه
في البئر؟ فقال (عليه السلام): ينزح دلاء " وفي صحيح ابن بزيع " في البئر تقطر فيها
قطرات من بول أو دم فقال (عليه السلام): ينزح منها دلاء " إلا أنه ينبغي تنزيلها
على العشر، فالمطلق في هذه الأخبار منزل على المقيد لاجماع الغنية المعتضد بنفي الخلاف
من ابن إدريس والشهرة في كشف اللثام، وفيه أيضا أنهم حملوا مطلق الخبرين على العشر
لأنه أكثر عدد يميز بالجمع، ولأن قيد اليسيرة قد يصلح قرينة على إرادة معنى جمع القلة،
قلت: هذا التوجيه منقول عن الشيخ، واعترضه في المعتبر بأنا لا نسلم أنه إذا جرد عن
الإضافة كانت حاله كذا إذ لا يعلم من قوله عندي دراهم أنه لم يجز عن زيادة عن عشرة،
ولا إذا قال إعطه دراهم يعلم أنه لم يرد أكثر من عشرة فإن دعوى ذلك باطلة، واعترض
المعتبر في المنتهى بأن الإضافة هنا وإن جردت لفظا لكنها مقدرة وإلا لزم تأخير
البيان عن وقت الحاجة، ثم قال إذا عرفت هذا فنقول لا بد من إضمار عدد يضاف إليه،
فيحمل على العشرة التي هي أقل ما يصلح إضافته إلى هذا الجمع أخذا بالمتيقن وحوالة على
الأصل من براءة الذمة، واعترض المنتهى في المدارك بأنه لا يلزم من عدم تقدير
الإضافة هنا تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإنما يلزم لو لم يكن له معنى بدون التقدير،
والحال أن له معنى كسائر صيغ المجموع، ولو سلم وجوب التقدير لم يتعين العشرة،
وقوله إن أقل ما يصلح إلى آخره ممنوع وإنما أقله ثلاثة، يحمل عليها لأصالة
البراءة من الزائد.

(1) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2
240

والتحقيق أن يقال: إنه من المعلوم أن العدد من ثلاثة إلى عشرة مميزة جمع مجرور،
وما زاد عليه مفرد منصوب كما هو مقرر في محله، وأن التحقيق عدم الفرق بين جمع
القلة والكثرة، بل الجمع يصدق على ثلاثة فصاعدا، وإن ما ذكره بعض أهل العربية
من الفرق بينهما بأن جمع الكثرة لما زاد على العشرة بخلاف جمع القلة وهم بشهادة العرف
والاستقراء كما هو المذكور في محله، وكيف كان فالمتكلم بالجمع تارة يقصد منه مجرد
مصداقه، فيحصل الامتثال بمسماه ولا يقصد منه عدد مخصوص إذ ليس هو داخلا في
ماهيته وحقيقته، وأخرى يلاحظ مقدارا مخصوصا من العدد، وهذا تارة يحصل
التصريح به إما بجعله مميزا لذلك المقدار من العدد المراد أو بغيره وتارة يعلم المراد منه
ذلك لكنه لم يعلم خصوص العدد المراد، ولا إشكال في جميع ما تقدم، إنما الكلام
في الأخير، فنقول حينئذ: إما أن تحصل قرينة دالة على ذلك المقدار أو لا، ولا إشكال
فيما إذا حصلت، ومع عدم حصولها فهل مجرد قابلية التمييز لنوع خاص دون غيره
قرينة على إرادة ذلك العدد منه دون الآخر أو لا؟ الظاهر الأول.
فإن قلت: إرادة العدد منه لا تقضي بتقدير العدد قبله بحيث يقع مميزا له،
بل قد يكون حينئذ يقدر بعده أو قبله ما يفيد ذلك، مثلا إذا قال: أعط زيدا دراهم
وعلمنا إرادة العدد منه فقد يكون المراد منه حينئذ دراهم تبلغ مائة أو خمسين أو نحو ذلك
وإن لم يصلح لأن يكون مثل هذا اللفظ مميزا له. قلت: إن ذلك محتمل لكن يرجح
الأول بما يقتضيه المقام من قلة الاضمار وجريانه مجرى الأعداد ونحو هما، إذا عرفت
ذلك فنقول هنا: أما إرادة مطلق الدلاء من غير إرادة عدد مخصوص بحيث يحصل
الامتثال بأقل ما يصدق عليه فمقطوع بعدمه بالاجماع من الأصحاب، ولذلك لم يعترض به
المحقق (رحمه الله) على الشيخ، فلا كلام حينئذ في إرادة العدد المخصوص، إنما الكلام
في تشخيصه، وملاحظة كلامهم عليهم السلام في بيان المنزوحات من العشرين والثلاثين
والأربعين وغير ذلك تقضي بأن لفظ الدلاء الواقع في كلامهم في هذا المقام مقصود منه
241

التميز كما في غيره مما صرح بالتمييزية فيه، وحينئذ ينحصر ذلك في الثلاثة إلى العشرة
لعدم صلاحيته لتميز غيره، واحتمال أن يقال: إنه قد يراد مثلا عشرون وخمسة دلاء
أو مائة وعشر دلاء ونحو ذلك ضعيف لاشتماله على حذف عدد وتمييزه من غير قرينة.
فإن قلت: تعين العشرة حينئذ لا معنى له، قلت: تعين العشرة ليس بقرينة
تدل علها بالخصوص، بل إنما هو لباب المقدمة الواجب امتثاله في المقام على تقدير
النجاسة أو الوجوب التعبدي، على أنه يمكن دعوى القرينة الدالة عليها بالخصوص بأن
يقال: إن الرواية قد اشتمل سؤالها على العذرة وقليل الدم، وكان الجواب عنهما بهذا
اللفظ، والغرض أنه علم إرادة العشرة في الأول بقرينة الأخبار (1) الأخر الدالة
على ذلك، فيقوي الظن إرادة ذلك بالنسبة للقليل من الدم، وكان مراد المحقق
(رحمه الله) من المثال الذي ضربه في رد كلام الشيخ هو أن مميز العدد إن جئ معه
بالعدد فلا إشكال، وإن لم يجئ به فلا يعلم إرادة مقدار منه وإن كان مقصود المتكلم
إرادة الخاص منه، وكونه لا يصلح لأن يقع تمييزا لغيره لا يكون قرينة فإن القائل
إذا قال: عندي دراهم لا ينكر عليه في تفسيره لذلك بالزايد على العشرة، واستوضح
ذلك في باب الاقرار.
قلت: هو كلام جيد متجه. إلا أن مقصود الشيخ أنه باعتبار استقراء الأخبار
الواردة في نزح البئر يستفاد قصد جعله مميزا جاريا مجرى تمييزا العدد، فإن تم ذلك كان
الحق مع الشيخ، وإلا كان الحق مع المحقق، والظاهر تمامه، ومثله يلتزم في باب الاقرار
حيث يعلم من قصد المقر جعل ما ذكر تميزا مصطلحا، كما فرعوا على ذلك فروعا كثيرة
من جهة الاعراب والجمعية والأفراد ونحو هما، فمثلا إذا قال القائل: له علي درهما بالأفراد
والنصب يلتزم بأحد عشر لأنه أقل عدد يصلح لأن يكون هذا مميزا له فلا حظ وتأمل،
إلا أنه قد عرفت من ذلك أنه ليس مقصود المحقق الاطلاق من حيث هو، فلا يتجه

(1) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق.
242

رد صاحب المدارك على العلامة، وكذلك قول العلامة في رده: إن فيه تأخير البيان
عن وقت الجاجة لعدم العلم بها فضلا عن التأخير عنها، والأصول لا تفيد ذلك
أنه وارد عليه نفسه لصلاحية كون هذا الجمع مميزات للثلاثة إلى العشرة، وتعيين
بالمقدمة ليس بأولى من ارتكاب شئ آخر لأجل المقدمة يوافق قول المحقق (رحمه الله)
من نزح الجميع أو غيره، وكان مراد العلامة بالأقل الأكثر كما عن بعض نسخ المنتهى،
وقد عرفت أن أصالة البراءة لا يمكن التمسك بها هنا لوجوب الاحتياط، فلا يرد حينئذ
عليه ما في المدارك، بل قد يظهر من المنتهى تعيين إرادة العشرة هنا من وجه آخر،
وهو أن لفظ دلاء جمع كثرة وأقل أفراده العشرة فيحصل الامتثال، كما لعله ظاهر
المحكي عنه في المختلف، وإن عبر بأن أقل أفراده ما زاد على العشرة فإن مقصوده العشرة
فما زاد، لكن فيه - مع ما عرفت من أنه لا فرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك - أنه
موقوف على كون العشرة من أفراده، فإن الظاهر على ما في بالي من عبارة المصرح
بالفرق أن العشرة منتهى أفراد جمع القلة أنه لا يصدق عليها جمع الكثرة وأن بينهما تباينا
لا عموما وخصوصا من وجه، على أن في كون دلاء جمع كثرة كلاما وإن أمكن تأييده
بقوله: يسيرة فتأمل،
وأما ما نقل عن المفيد من الخمس دلاء فلم نعثر له على شاهد كما اعترف به بعضهم
وقد يكون أخذه من جهة أن دلاء جمع قلة ومنتهى أفراده العشرة، وقد قيده الإمام عليه السلام باليسيرة في ذلك، والمتيقن من اليسيرة بالنسبة إلى ذلك النصف وهو الخمس،
لكنه كما ترى شك في شك، كالمحكي عن المرتضى (رحمه الله) من أنه ينزح للدم من
دلو واحد إلى العشرين من غير تفصيل إذ هو على احتماله إلا على وجه ضعيف جدا
لم نعرف له مستندا، ولا يوافقه قول الصادق عليه السلام (1) في خبر زرارة: " في القطرة
من الدم ينزح عشرون " ولمكان كون هذه الرواية مخالفة لما عليه الأصحاب أمكن حملها

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3.
243

على الاستحباب وإن لم نعثر على قائل به، نعم نقل عن المقنع أنه قال: " وإن قطر
في البئر قطرات من دم فاستق منها عشر أدلو ثم إن وقع في البئر قطرة من بول أو دم
أو خمر أو ميتة أو لحم خنزير فانزح منها عشرين دلوا " وهو مضمون خبر زرارة،
ولو وقع في البئر قطرات متفرقة في أوقات مختلفة بحيث يبلغ مجموعها حد الكثرة فالظاهر
انقلاب الحكم لا تعدد وجوب نزح ما للقليل، مع احتماله قويا، بل هو الأقوى في
النظر، وكأن الأصحاب فهموا وجوب نزح هذا المقدار للدم القليل، فعبروا به
وجعلوه عنوانا للحكم مع خلو الأخبار عن هذا اللفظ إنما هو من القطرات وذبح الطير
والحمامة ونحو ذلك فتأمل.
(و) يطهر (بنزح سبع لموت الطير) كما عن الثلاثة وأتباعهم، بل في الذكرى نسبته للشهرة
وينبغي تقييده بغير العصفور إذ هو وشبهه على وجه يأتي، ومن هنا فسر الطير هنا
بالحمامة والنعامة وما بينهما كما في القواعد وغيرها، وفي السرائر استثناء العصفور وما في
قدر جسمه وما شاكله تقريبا في الجسمية، وفي كاشف اللثام أن غيرهم أي غير
ابن إدريس والمحقق والعلامة اقتصروا على الدجاجة والحمامة كالصدوق، أو بزيادة
ما أشبههما كالشيخين وغير هما، وعليه حكى الاجماع في الغنية انتهى.
قلت: لا يبعد إرادة التعميم، فيكون الحجة إجماع الغنية مع قول الصادق
عليه السلام (1) في خبر يعقوب بن عيثم: " إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفأرة فانزح
منها سبع دلاء " ومضمر سماعة (2) قال: سألته " عن الفأرة تقع في البئر والطير؟ قال
عليه السلام: إن أدركته قبل أن ينتن نزح منها سبع دلاء " وخبر علي بن أبي حمزة (3)
قال: وسألته " عن الطير والدجاجة تقع في البئر؟ قال عليه السلام: سبع دلاء " وفي

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 12
(2) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 2
(3) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 2
244

كشف اللثام (1) عن الرضا عليه السلام " إذا سقط في البئر فأرة أو طائر أو سنور وما
أشبه ذلك فمات فيها ولم يتفسخ نزح منه سبع دلاء من دلاء هجر والدلو أربعون رطلا
وإذا تفسخ نزح منها عشرون دلوا " والظاهر أنه نقل ذلك عن الفقه الرضوي، وهو
صالح للتأييد، فهذه الأخبار مع انجباره بما سمعت مع الاستصحاب مستند الحكم في المقام،
ولفظ الدلاء في بعض الأخبار يراد منها ذلك، وما في صحيح أبي أسامة (2) من نزح
الخمس للدجاجة والطير لم نعثر على عامل به، قال في المعتبر بعد أن ذكر ما دل على
السبع وصحيح أبي أسامة " والأولى يعضدها العمل فهي أولى وإن ضعف سندها ولا
استبعد هنا العمل برواية أبي أسامة لرجحانها بسلامة السند لكني لم أر بها عاملا "
قلت: بل العمل على خلافها، كخبر إسحاق بن عمار (3) عن جعفر عن أبيه عليهما السلام
" إن عليا عليه السلام كأن يقول: الدجاجة ومثلها يموت في البئر ينزح منها دلوان أو ثلاثة
وإذا كانت شاة وما أشبهها فتسعة أو عشرة " لم يعمل به أحد من الأصحاب فيما أعلم،
وما ذكره في الاستبصار من الجمع بينه وبين أخبار السبع تارة بالتفسخ وعدمه، وأخرى
بالجواز والفضل ليس عملا، بل هو مجرد جمع بين الأخبار، مع أنه نسبه عند التكلم
على الشاة إلى الشذوذ، فوجب حينئذ طرحه. لكن قد يقال: إنه في الدجاجة،
والأصحاب ذكروا الطائر، وفي دخولها تحت اسم الطير إشكال، بل في الأخبار عطفها
على الطير، وهو قاض بعدمه، فلا مانع من الجمع بين الروايات بالنسبة للدجاجة بالفضل
والاستحباب، إلا أن الذي يظهر من الأصحاب في المقام دخولها تحت اسم الطائر،
وكيف كان فالعمل على ما ذكرنا، والظاهر دخول أفراخ الطير تحت اسم الطير وإن لم
يطر بالفعل، وأما أفراخ الدجاجة فإن كان مستند الحكم تضمن الأخبار للدجاجة

(1) المستدرك - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7
(3) الوسائل - الباب - 18 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3
245

فالظاهر عدم الدخول، وإن كان المستند الدخول تحت اسم الطير فلا يبعد الدخول،
ولا فرق في الطير بين أن يكون مأكول اللحم وغيره للاطلاق.
(والفأرة إذا تفسخت) كما في السرائر والمعتبر والقواعد، وعن المقنعة والكافي
والمراسم والوسيلة وجامع المقاصد والغنية والصدوق والشيخ والقاضي، وعن الغنية الاجماع
عليه، وعن مصباح السيد في الفأرة سبع وروي (1) ثلاث، وعن المقنع إن وقعت فيها
فأرة فانزح منها دلوا واحدا، وأكثر ما روي (2) في الفأرة إذا تفسخت سبع دلاء،
وفيه أنه روي أزيد من ذلك كما لعلك تسمعه إنشاء الله تعالى.
وكيف كان فالحجة الاجماع المحكي المعتضد بالشهرة، بل يمكن دعوى تحصيله في
حال التفسخ، وما عن المقنع مع أنه غير صريح في المخالفة غير قادح فيه، نعم محل البحث
في اشتراط ذلك القاضي بالعدم عند العدم، وقد عرفت أنه المشهور، بل عن الغنية
الاجماع عليه، مضافا إلى خبر أبي عيينة (3) أنه عليه السلام سئل عنها فقال: " إذا
خرجت كلا فلا بأس وإن تفسخت فسبع دلاء " وخبر أبي سعيد المكاري (4) " إذا
وقعت الفأرة في البئر فتفسخت فانزح منها سبع دلاء " قيل: كذا في الاستبصار
وأكثر نسخ التهذيب وفي بعضها والمعتبر فتسلخت، والظاهر أنه من أفراده، وخبر
أبي بصير (5) " أما الفأرة وأشباهها فينزح منها سبع دلاء " ومثله غيره، مع قوله عليه السلام
في صحيح الشحام (6): " ما تفسخ أو تغير طعم الماء فيكفيك خمس دلاء " وأما ما في خبر
عمار (7) " عن بئر يقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير قال: فينزف كلها " وخبر أبي خديجة (8)

(1) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2 - 1
(2) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2 - 1
(3) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 13
(4) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1
(5) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11 - 8
(6) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7 وفي الوسائل - (إذا لم يتفسخ).
(7) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 11 - 8
(8) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4.
246

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " سئل عن الفأرة تقع في البئر قال عليه السلام:
إذا ماتت ولم تنتن فأربعين دلوا وإذا تفسخت فيه ونتنت نزح الماء كله " فهما لم نعثر
على أحد من أصحابنا عمل بهما، فيحمل الأول على وجوه، منها الحمل على التغير أو الفضل،
وعن الشيخ أنه قال في خبر أبي خديجة هذا محمول على الاستحباب لأن الوجوب في هذا
المقدار لم يعتبره أحد من أصحابنا، ولذلك قال في الذكرى: " في السبع تمام الاحتياط "
وكأنه لعدم القائل بالزايد لا لعدم الرواية، ومن ذلك تعرف الوجه أيضا في المنقول (1)
عن مسائل علي بن جعفر عليه السلام " أنه سأل أخاه عن فأرة وقعت في بئر فأخرجت
وقد تقطعت هل يصلح الوضوء من مائها؟ قال عليه السلام: تنزح منها عشرون دلوا
إذا تقطعت ثم يتوضأ " ومثله ما نقلناه سابقا عن كشف اللثام عن الرضا عليه السلام،
ولا يبعد حملهما على الاستحباب باختلاف مراتبه قوة وضعفا، ومما قدمنا ظهر لك
متمسك المرتضى (رحمه الله) من الأخبار المطلقة بنزح السبع، وقد عرفت أنها منزلة
على المقيد، وفي المعتبر بعد أن ذكر بعض الأخبار المتضمنة للثلاث مطلقا والبعض المتضمن
للسبع كذلك، قال: فتحمل روايات الثلاث على عدم التفسخ، والسبع عليه، واستشهد
لذلك برواية أبي عيينة وأبي سعيد المكاري، ثم قال: " وضعف أبي سعيد لا يمنع من
العمل بروايته على هذا الوجه لأنها تجري مجرى الأمارة الدالة على الفرق وإن لم يكن
حجة في نفسها " انتهى.
وأشار بذلك إلى مسألة ينبغي أن تدون في الأصول، وهي أن شاهد الجمع يشترط
فيه أن يكون معتبرا في نفسه أولا يشترط فيه ذلك لأنه من قبيل القرائن، بل قد يقال
إن الشهرة قد تكون صالحة للجمع، والأقوى في النظر الأول لأن شاهده حاكم على
الدليلين معا، فهو أولى باشتراط كونه معتبرا من الحاكم على الدليل الواحد من المطلق
أو العام، وأما أطلاق المقنع من نزح الدلو الواحد فلم نعثر له على شاهد على كثرة

(1) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق - حديث 14
247

أخبار المقام، بل هي على خلافه كما عرفت.
(أو انتفخت) كما في القواعد وفي السرائر أن حد التفسخ الانتفاخ، وغلطه المحقق
في المعتبر، وهو كذلك لظهور تبادر الفرق بينهما، وما يقال: من أن الانتفاخ يوجب
تفرق الأجزاء وإن لم تتقطع في الحس فيه ما لا يخفى، على أن الاعتبار قد يفرق أيضا
بين المنتفخة بلا تفسخ ظاهر والمتفسخة من جهة تأثير النجاسة، وكيف كان فعطف
الانتفاخ على التفسخ هو المنقول عن المقنعة والكافي والمراسم والوسيلة والغنية والجامع،
وعن الغنية الاجماع عليه، وفي المعتبر أنه لم نقف له على شاهد، وقد عرفت أنه ليس
في الأخبار الانتفاخ إلا في خبر أبي خديجة فإن فيه " وإذا انتفخت فيه وقد نتنت
نزح الماء كله " وهو دال على خلاف المقصود، نعم يمكن التمسك له باطلاق ما دل على
السبع، والذي علم خروجه غير المتفسخة والمنتفخة، ومفهوم ما دل على عدم نزح السبع
عند عدم التفسخ لا يقوي على تقييد مثل هذا المطلق بعد انجباره بفتوى من عرفت،
وإجماع الغنية مع تأيده بالاستصحاب إذ الظاهر أنه على تقدير عدم السبع ينزح له الأقل
لا الجميع لكونه ليس أولى من التفسخ، فالاحتياط حينئذ مع السبع، والظاهر أن المراد
بالفأرة ما يشمل الجرد ولو كان كبيرا، والمتبادر من الفأرة كونها تامة الخلقة، فلو كان
نصفها باقيا على الترابية كما عن بعض مشاهديه لم يدخل، لكن لا يبعد القول بنزح
السبع له أيضا للاحتياط، والظاهر أن المراد بالتفسخ من حيث البقاء في الماء حتى تفسخت،
فلو كان التفسخ لا من حيث ذلك لم يدخل في الحكم.
(وبول الصبي الذي لم يبلغ) مع كونه يأكل الطعام مستغنيا عن اللبن والرضاع كما
قيد به في السرائر، ولعله هو الظاهر من المصنف بقرينة تقييده الآتي فيما ينزح له دلو
واحد الذي منه بول الصبي فإنه (رحمه الله) قيده بالذي لم يتغذ بالطعام، وكذا القواعد
فإنه وإن أطلق لفظ الصبي هنا إلا أنه قيده فيما يأتي بالدلو الواحد بالرضيع قبل اغتذائه
248

بالطعام، وفي التحرير ذكر كما ذكر المصنف هنا وفيما يأتي، وكيف كان فمستند
الحكم ما رواه منصور بن حازم (1) عن عدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) " قال:
ينزح سبع دلاء إذا بال فيها الصبي أو وقعت فيها فأرة أو نحوها " ولعل قصور سندها
ومتنها منجبر بالشهرة بين الأصحاب، وصحيحة معاوية بن عمار (2) الدالة على نزح
الماء كله لبول الصبي أو صب البول أو الخمر معرض عنها بين الأصحاب في المقام، مع
ما فيها من مخالفة ما دل على نزح الأربعين للرجل، فلا يبعد حملها على التغير أو نوع
من الاستحباب، وما نقل عن المرتضى من نزح الثلاث لبول الصبي إذا أكل الطعام
ونحوه عن ابن بابويه لم نقف له على شاهد، مع مخالفته للاستصحاب والروايات، وفي المعتبر
أن في رواية ثلاث لم نعثر عليها، بل في السرائر بعد ذكر المختار ونقل ما ذهب إليه
المرتضى وابن بابويه قال: " والأول أحوط وعليه العمل والاجماع " ولولا احتمال إرادته
بالاجماع هنا ما به يحصل يقين الطهارة لأمكن جعله حجة مستقلة، لكن لا بأس بجعله
مؤيدا للعمل بالرواية، وأما رواية علي بن أبي حمزة (3) قال: سألته " عن بول الصبي
الفطيم يقع في البئر؟ فقال: دلو واحد " فكذلك معرض عنها بين الأصحاب، فلا
مانع من حملها على ما إذا لم يتغذ بالطعام، وما نقله في الوسائل بعد ذكر هذه الرواية
وذكر حمل الشيخ لها المتقدم قال: وقال غيره: " إن الأقل يجزي والأكثر أفضل "
لم نتحققه، وليس في الروايات ما يشمل الصبية، فينبغي الاقتصار على الصبي، ولا فرق
بين المسلم والكافر لاطلاق النص والفتوى، وأما الخنثى المشكل فالظاهر إلحاقه بالصبية.
بقي شئ وهو أن الصبي إذا كان غذائه بالطعام والرضاع كما يتفق في كثير من
الأطفال فهل يلحق بما نحن فيه أو لا؟ لم أعثر على ما يدل على أحدهما، ويمكن أن يقال
بمنع الفرض، وذلك لأنه متى تغذى بالطعام صار مستغنيا عن اللبن، وما يرى من
ملازمة الأطفال للرضاع وإن تغذوا إنما ذلك للعادة، وإلا فقد صار مستغنيا عن الرضاع،

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 7 - 2
(2) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 7 - 2
(3) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 - 7 - 2
249

فيه تأمل، ولا يبعد القول بأن حكم السبع لاستصحاب النجاسة.
(ولاغتسال الجنب) لا مطلق مباشرته كما عن بعضهم، واختاره في المدارك،
ولا لخصوص ارتماسه كما اختاره في السرائر، نعم لا فرق في الجنب بين الرجل والمرأة
ولا بين كونه محدثا بغير الجنابة معها أو لا، ولا يلحق به غيره من أقسام الأحداث
الكبر بل يعتبر فيه أن لا يكون في بدنه نجاسة أخرى عينية لأن الظاهر من الأخبار
كون هذا الحكم للجنب من حيث كونه جنبا، بل الظاهر منها كونه ممن يكون طاهر
البدن فمتى كان كافرا لم يشمله الحكم كما لا يخفى على المتأمل، ولا ينافيه ما قدمناه
في موت الانسان من عدم الفرق بين المسلم والكافر لتفاوت المقامين في الطهور،
لكن توقف العلامة في المنتهى في الشرط المذكور، قال فيه بعد أنه نقل عن السرائر
اشتراط خلو بدن الجنب من نجاسة عينية: " هذا بناء منه على أن المني يوجب نزح الجميع،
ونحن لما لم يقم عندنا دلالة على وجوب النزح للمني لا جرم توقفنا في هذا الاشتراط "
وفيه أنه لا معنى للتوقف في ذلك مع كون النصوص واردة بمجرد دخول الجنب في البئر
للاغتسال، وليس من لوازم الجنابة النجاسة، خصوصا مع اشتهار وجوب نزح الجميع
للمني بين الأصحاب كذا قيل. قلت: الظاهر أن العلامة فهم من ابن إدريس أن المراد
بالنجاسة التي يشترط خلو بدن الجنب عنها إنما هي المني كما يقضي به صريح كلامه، ولعله
لظهور ذلك من الجنب، وحينئذ توقفه في محله لأن النزح عنده تعبدي لا لنجاسة البئر،
ولم يقم عنده دليل على نزح مقدر للمني، فلا معنى للاشتراط حينئذ، ولا ريب في أنه
يشترط عنده خلو بدن الجنب من نجاسة لها مقدر معلوم عنده، ولذلك جعل مورد
الكلام المني، أما على القول بكون النزح للجنب فلا شبهه في اشتراط خلو بدن الجنب
من النجاسة حينئذ، سواء كان منصوصة أو غير منصوصة لظهور الأدلة في أن هذا الحكم
للجنب من حيث الجنابة
250

وكيف كان فالأقوى ما اختاره المصنف ويدل عليه ما رواه أبو بصير (1) قال: سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) " عن الجنب يدخل البئر فيغتسل منها؟ قال ينزح منها سبع
دلاء " فإن ظاهر قوله يغتسل منها أنه ليس ارتماسا، ولو لم يكن ظاهرا في ذلك فترك
الاستفصال كاف في إفادة المطلوب، وفي صحيح ابن مسلم (2) " إذا دخل الجنب البئر
نزح منها سبع دلاء " وفي خبر الحلبي (3) " وإن وقع فيها جنب فانزح منها سبع دلاء "
وفي رواية عبد الله بن سنان (4) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن سقط في البئر
دابة صغيرة أو نزل فيها جنب فانزح منها سبع دلاء " ولمكان التعليق في هذه الأخبار
على الدخول والنزول والوقوع الشامل لحالتي الاغتسال وعدمه ذهب بعضهم إلى تعميم
الحكم، وما أبعد ما بينه وبين ابن إدريس من تخصيص الحكم بالارتماس محتجا بأن
الحكم مخالف للأصول، ولولا الاجماع لما قلنا بالارتماس في ذلك، فيقتصر عليه،
والأولى ما ذكرنا لظهور هذه الأخبار بقرينة شاهد الحال في إرادة الاغتسال، بل لعل
خبر أبي بصير يكون قرينة على ذلك، على أن لفظ الوقوع يراد منه الاغتسال،
كما يظهر من خبر ابن أبي يعفور (5) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلوا ولا شيئا تغرف به فتيمم بالصعيد فإن رب
الماء رب الصعيد ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم ماءهم " فإن الظاهر من قوله
(عليه السلام) ولا تقع في البئر أن المراد لا تغتسل، وإن احتمل غيره كما تقدم هذا.
مع أن الأصول والضوابط قاضية بالعدم، والمتيقن من الأدلة ما ذكرنا، على أن نفس
نزول الجنب في البئر لا يفيده تنجيسا، ولا سلب طهورية إذ ليس هو أسوء حالا من
الماء القليل والماء المضاف فتأمل.

(1) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 2
(2) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 2
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 - 1
(4) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 - 1
(5) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 22
251

وهل هذا النزح لسلب الطهورية أم لنجاسة البئر أم تعبد شرعي؟ نقل في المدارك
عن المعتبر والمختلف الأول، وصرح في المسالك بالثاني، ويلوح من بعضهم الثالث، وكأن
الأول مبني على أن المستعمل في الكبرى يسلب الطهورية، وما يقال إن المصنف
صرح في نكت النهاية بأن الماء الذي ينفعل بالاستعمال عند من قال به إنما هو القليل غير
الجاري، فلا معنى للحكم بزوال الطهورية، فيه أنه لعل مقصود المصنف بالحصر إنما
هو اخراج الجاري، وإلا فالبئر أسوء حالا من القليل بمراتب، وأما الثاني فربما يحتج
عليه بالأمر بالنزح الظاهر في النجاسة، وبقوله (عليه السلام) " لا تقع في البئر ولا
تفسد على القوم ماءهم " وفيه أن الأمر بالنزح بمجرده لا يدل على ذلك، وليس هو
كالأمر بالغسل الذي يستفاد منه التنجيس في غير المقام، وعلى تقدير كونه مثله
فيحتاج في فهم ذلك منه إلى شهرة تقرب للاجماع أو إجماع كما في الغسل، فكيف
والشهرة المركبة بل البسيطة على خلافه، ونسبته أي النجاسة في جامع المقاصد
إلى ظاهر كلام القوم فيه منع لأنهم وإن ذكروه مع النجاسات لكن مقصودهم في ذلك
ذكر النزح لا النجاسة، ومما يرشد إلى ذلك أن العلامة في المنتهى قال: والعجب أن
ابن إدريس القائل بطهارة المستعمل حكم ههنا بنجاسة البئر ولم يوجد في الأحاديث
شئ يدل عليه ولا لفظ أصحابنا، فلم يلتفت إلى هذا الاقتران في كلام الأصحاب،
وعدم استبعاد ذلك من جهة أن البئر لها أحكام كثيرة تنفرد بها عن غيرها لا يكون
مقتضيا للقول به، نعم هو كذلك بعد صراحة الدليل به، وأما قوله (عليه السلام)
لا تفسد على القوم ماءهم فهو كما يحتمل ذلك يحتمل من جهة سلب الطهورية، أو من جهة
تعلق وجوب النزح، أو من جهة إثارة ما فيها، أو من جهة خوف الموت فيها فيفسد
عليهم ماؤهم، وإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال.
والأقوى القول بالتعبد الشرعي وإن قلنا بنجاسة البئر بغير ذلك، وإن كان
القول بسلب الطهورية بناء على القول به في المستعمل في الكبرى لا يخلو من قرب
252

وقوة، لكن لما كان المختار عندنا عدم ذلك تعين القول بالتعبد الشرعي، واحتمال
القول باختصاص ذلك في البئر لا يخلو من وجه لو وجد له مقتضي، ومجرد الأمر بالنزح
لا يقتضيه إذ لعله من جهة النفرة، فبناء على المختار يختص حينئذ وجوبه بالجنب خاصة
ولا يتعدى إلى غيره لعدم الدليل، واحتمال الالحاق قياس لا نقول به، وكذلك على
القول بالتنجيس، وأما على القول بسلب الطهورية فإن كان القول بذلك في خصوص
البئر دون غيره كما احتملناه تعين الاقتصار حينئذ وإلا اتجه القول بالتعدية لغير الجنابة
من الأحداث، وحينئذ هل يكتفى بالمقدر للجنب أو لا بد من نزح الجميع؟ الأقوى
الثاني لكونه من غير المنصوص، فيكون حاله كحال غير المنصوص من النجاسات،
واحتمال القول بالاكتفاء للمقدر للجنب له وجه، لكن لا يجتري عليه المتورع في دينه،
والظاهر ارتفاع الحدث بهذا الاغتسال سواء كان اغتساله بالارتماس أو غيره، أما على
ما اخترناه من كون النزح تعبديا فواضح، وأما على القول بكون النزح لسلب الطهورية
وقلنا أن البئر كغيره في ذلك وكان الغسل بالارتماس فكذلك أيضا إذ لا يصير مستعملا
في الكبرى حتى يتم الغسل، فإذا تم سلبت الطهورية، وأما إن كان الغسل ترتيبيا فلا
كلام في صحة غسل الجزء الذي غسله قبل وصول ماء الغسل إلى البئر، وأما بعد وصوله
وقلنا أن هذا الخليط غير قادح وغسل الجزء الثاني حتى اعتقد أن الماء الغير المستعمل
أولا قد جرى عليه فلا إشكال في الصحة أيضا، وأما إذا قلنا بكون مثل هذا الخليط
قادحا فيحتمل القول في خصوص المقام بعدم القدح لما يفهم من ترك التعرض في الروايات
لفساد الغسل الذي هو أولى بالبيان من وجوب مقدار النزح، لا سيما في رواية
أبي بصير المتضمن سؤالها لخصوص السؤال عن الاغتسال الظاهر في الترتيبي كما تقدم،
وما يقال أنه منهي عن الغسل لقوله (عليه السلام) لا تقع في البئر والنهي يقتضي
الفساد، ففيه مع أنه محتمل لغير ذلك أن مقتضى التعليل بالافساد بناء على
أن المراد سلب الطهورية صحة الغسل حتى يتحقق الافساد، والحاصل الافساد
253

إنما يكون من جهة النجاسة، وقد بينا فساده أو يكون من جهة سلب الطهورية، وقد
عرفت أن ذلك قاض بالصحة، أو يراد به بعض ما ذكرنا من الإثارة ونحوها، وحينئذ
يكون بمقتضى التعليل به أن يكون هو المنهي عنه حقيقة، وهو أمر خارج عن الغسل
لا يقتضي فساد الغسل، بل مقتضى التعليل أن يكون الغسل صحيحا، وإلا لعلل بعدم
رفع الحدث به، وأما على القول بأن النزح للنجاسة فإن قلنا أن الموجب للنجاسة تمام
الغسل. فحينئذ صح غسله وإن تنجس بدنه بعد ذلك، فيكون المرتمس حينئذ ارتماسة
واحدة يرتفع حدثه وينجس بدنه، وإن قلنا أن النجاسة تحصل بمجرد وصول ماء الغسل
اتجه القول بالفساد حينئذ، لكن الأول هو الأقوى، وفي المدارك أن الحق أن إجراء
هذه الأخبار على ظاهرها مشكل، فيجب حملها على نجاسة بدن الجنب أو على التقية
لموافقتها لمذهب بعض العامة، أو على أن الغرض من ذلك مجرد التنظيف من ثوران
الحماة التي نشأت من نزول الجنب إلى البئر، وزوال النفرة الحاصلة من ذلك وهذا
أقرب، والله أعلم، انتهى. وأنت خبير بأن الحمل الأول في غاية البعد لترك الاستفصال
عن النجاسة لاختلاف مقاديرها، فكيف يكتفى بالسبع، والثاني أبعد لتظافر الأخبار
وفتوى الأصحاب بمضمونها، على أن جميع أخبار النزح أو أكثرها مختلفة إلا هذا،
فإنها كلها اتفقت على السبع، نعم الأقرب ما قربه بناء على التحقيق السابق من كون
البئر كالجاري، والله أعلم.
(ولوقوع الكلب وخروجه حيا) كما في المعتبر والمنتهى والتحرير والذكرى وظاهر
المختلف وعن الشيخ في المبسوط والقاضي وابن حمزة، وعن النهاية والقاضي نسبته
الرواية، وفي الذكرى نسبته للشهرة، ويدل عليه صحيح أبي مريم (1) قال: حدثنا
جعفر قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: " إذا مات الكلب في البئر نزحت
وقال (عليه السلام): إذا وقعت فيها ثم خرج منها حيا نزح منها سبع دلاء " واشتمال

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
254

هذه الصحيحة على ما لا نقول به من نزح الجميع لموت الكلب لا يخرجها عن الحجية
في المقام، أو محمولة على ضرب ما نقول به بقرينة غيرها من الأخبار، وما في صحيحة
أبي أسامة (1) من الاكتفاء بالخمس لوقوع الكلب والسنور والدجاجة والطير إذا
لم يتغير طعم الماء أو تتفسخ - مع أنا لم نعرف عاملا به في المقام ومع ظهوره في الموت -
مطلق مقيد بما ذكرنا، وكونه بالموت لم ينزح له خمس دلاء فلا يبقى للمطلق فرد يحمل
عليه لا يعين الأول إذ ليس أولى من العكس، فالتحقيق أنه حينئذ مطلق بالنسبة إلى
واحد معارض بالنسبة إلى الآخر، ويرجح حينئذ بالشهرة وغيرها، وبعبارة أخرى
إن المقيدين معا معارضان له مرجحان عليه فتأمل. وعلى ما ذكرنا يحمل اطلاق لفظ
الدلاء الموجود في بعض المعتبرة (2) وقال ابن إدريس: إنه يجب نزح الأربعين
لكونه مما لا نص فيه، ومع نزح الأربعين للموت فللحي بطريق أولى، وهو متجه على
أصله من عدم العمل بأخبار الآحاد، ولا فرق في الكلب بين كونه سلوقيا وغيره
للاطلاق، ولا بين الوقوع والنزول، بل مطلق المباشرة إلغاء لخصوصية الوقوع
ولأن الظاهر منه التمام، فالاكتفاء به لمطلق المباشرة يمكن أن يكون أولى، ويدخل
فيما ذكرنا الولوغ.
(و) يطهر (بنزح خمس لذرق الدجاجة الجلال) كما في السرائر والتحرير وعن
الشيخ في جملة من كتبه إطلاق لفظ الدجاج، ولعله بناء منه على نجاسته، ويأتي ضعفه
إن شاء الله تعالى، ولذلك قيد المصنف وابن دريس بالجلال، وهو المنقول عن سلار
والمفيد، وكيف كان فلم نعثر على دليل له بالخصوص كما اعترف به جماعة من أصحابنا،
واحتمال الالحاق بعذرة الانسان الرطبة فيجب خمس، أو الجامدة فيجب عشرة بعيد،
فجعله من غير المنصوص متجه، وتحصيل الأولوية في المقام بالنسبة إلى بعض النجاسات

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7.
(2) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2 و 5 و 6
255

في غاية الاشكال، واحتمل في الذكرى نزح الثلاثين لرواية كردويه (1) وكأنه لكونها
عنده تفيد حكم غير المنصوص بالخصوص، ويأتي ضعفه، فالمتجه حينئذ ما ذكرنا
(وينزح ثلاث لموت الحية) كما في المقنعة والسرائر والتحرير والمنتهى وظاهر
المعتبر، وكذا المختلف عن الشيخ في المبسوط والنهاية وأبي الصلاح وسلار
وابن البراج، بل نسبه في الذكرى إلى المشهور، وفي السرائر نفي الخلاف فيه، ولم نعثر
له على دليل بالخصوص كما اعترف به بعضهم، والإحالة على الفأرة والدجاجة لكونها
لا تزيد على قدر الدجاجة وقد روي أنها دلوان أو ثلاثة مأخذ ضعيف جدا، وفي المعتبر
أنه يمكن الاستدلال عليه بقول الصادق (عليه السلام) (2) في خبر الحلبي قال
(عليه السلام): " إذا سقط في البئر حيوان صغير فمات فيها فانزح منه دلاء " فينزل
على الثلاث لأنه أقل محتملاته، وهو كما ترى، مع أنه في رواية ابن سنان (3) للدابة الصغيرة
سبع، وعن علي بن بابويه أنه أوجب لها سبعا كما في المختلف، والمنقول عن رسالته
في المعتبر أنه أوجب دلوا واحدا للحية كما أنه في المنتهى نقل عنه أيضا ذلك، وعلى
كل حال فيمكن القول بالمشهور أخذا بظاهر الخبر المتقدم لانجباره بالشهرة ونفي الخلاف
في السرائر، وقد عرفت أنه لم ينقل عن أحد الخلاف فيه إلا ما عرفته في المختلف،
عن ابن بابويه، مع أن المنقول عنه في المعتبر والمنتهى خلاف ذلك، بل الاكتفاء
بدلو واحد، فيمكن تحصيل الاجماع. وإلا فالاكتفاء بالسبع مراعاة لما نقله في المختلف
واحتمال كونه من غير المنصوص لكن لا ينزح الجميع لما ورد (4) إن أكثر ما يقع في البئر
الانسان وينزح له سبعون لا يخلو من وجه، وألحق المفيد بالحية الوزغة، كما عن الشيخ
الجواهر 32

(1) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3.
(2) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 - 1
(3) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 - 1
(4) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2
256

إلحاقها أيضا مع العقرب، وعن أبي الصلاح إلحاق العقرب حسب، وفي الوزغة دلو
واحد، والحق عدم إلحاق شئ لعدم نجاستها لكونها لا نفس لها، ولا دليل معتبر على
التعبد إلا في الوزغ وهو مع إمكان معارضته بغيره يمكن حمله على الاستحباب ولعله
لدفع السمية، وعليه يحمل ما ورد في العقرب (1) ترجيحا لما دل على أنه ما لا دم له
لا يفسد (2) فيمكن حمل ما ورد على الاستحباب كما تسمعه في الفأرة.
(والفأرة) إذا لم تتفسخ أو تنتفخ على وجه تقدم سابقا، كما في المقنعة
والسرائر والتحرير والمعتبر والذكرى وظاهر المختلف لصحيحة معاوية بن عمار (3)
سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " عن الفأرة والوزغة تقع في البئر قال: ينزح منها
ثلاث " وفي التهذيب عن الحسين عن فضالة عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام)
مثله، وما في بعض الأخبار (4) من إيجاب السبع محمول على التفسخ، والشاهد خبر
أبي سعيد المكاري (5) وقد تقدم الكلام فيه سابقا، ولهذا الاطلاق نقل عن بعضهم
وجوب السبع مطلقا، وعن ابن بابويه " أنه ينزح لها دلو واحد فإن تفسخت فسبع "
ولم نعرف له دليلا عليه (6) وتقدم جملة من الكلام سابقا فلاحظ وتأمل.
(و) تطهر (بنزح دلو لموت العصفور وشبهه) تقدم البحث سابقا في شبه العصفور
وما المراد به عند البحث على موت الطير، وأما العصفور فينزح له دلو، كما في المقنعة
والمعتبر والسرائر والتحرير والذكرى وظاهر المنتهى لقول الصادق (عليه السلام) (7)

(1) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق - حديث 15 - 2
(2) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الأسئار حديث 1 و 2 و 4
(3) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق - حديث 15 - 2
(4) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1
(5) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1
(6) لعل مستنده ما أرسله كاشف اللثام عن الصادق (عليه السلام) " وقد استقى
غلامه من بئر فخرج في الدلو فأرتان فقال (عليه السلام): أرقه وفي الثاني فأرة فقال
(عليه السلام): أرقه ولم يخرج في الثالث فقال: صبه في الإناء " (منه رحمه الله)
(7) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2
257

في خبر عمار: " إن أقل ما يقع في البئر فيموت فيه العصفور ينزح منها دلو واحد " وفي
المعالم أن عمارا مشهود له بالثقة بالنقل، منضما لقبول الأصحاب لروايته هذه. وفي
المنتهى أن عمارا فطحي، والأصحاب قبلوا روايته وشهدوا له بالثقة انتهى. فيكون
ذلك مخرجا له مما دل على حكم الطير، وأما إلحاق الشبه به وإن ظهر من جملة من
الأصحاب لكنا لم نعثر على ما يقتضيه، والاعتبار بنفسه لا يعتمد عليه، ولاحظ
ما قدمناه في الطير وتأمل.
(وبول الصبي لذي لم يتغذ بالطعام) كما في المقنعة والسرائر والتحرير
والذكرى وغيرها، وعن أبي الصلاح وابن زهرة إيجاب الثلاث، واحتج الشيخ لما في
المقنعة بخبر علي بن أبي حمزة (1) قال: سألته " عن بول الصبي الفطيم قال: دلو واحد " وكأن
الاستدلال بها مبني على إرادة غير المتغذي من الفطيم لعدم العمل بها في غير ذلك، أو يتم
بالأولوية فيه، لكن مشكل بعدم العمل بالمنطوق، فكيف يكون الأولى منه حجة،
وإيجاب نزح الجميع لموت الصبي من غير تفصيل لم نعثر على عامل به، وما عن أبي الصلاح
وابن زهرة ليس في الأخبار ما يدل عليه، وإطلاق السبع في بعض كما تقدم سابقا
ليس له جابر في المقام فتأمل جيدا.
(وفي ماء المطر وفيه البول والعذرة وخرء الكلاب ثلاثون دلوا) كما في التحرير
والذكرى وظاهر المنتهى لخبر كردويه (2) سألت أبا الحسن (عليه السلام) " عن بئر يدخلها ماء
المطر فيه البول والعذرة وأبوال الدواب وأرواثها وخرء الكلاب قال (عليه السلام): ينزح منها
ثلاثون دلوا " وفي الوسائل رواه الصدوق بإسناده عن كردويه، ولعله لرواية مثل هذين الشيخين
العظيمين له سوغ العمل به، وإلا فلا أعرف للعمل به جابرا لمجهولية كردويه، ولو وجد الجابر
له لأمكن الجواب عما أورد عليه، بأنه العذرة وحدها مع الذوبان ينزح لها خمسون،

(1) الوسائل - الباب - 16 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2.
(2) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3.
258

فإذا انضم إليها غيرها من البول وقد روي صحيحا أنه ينزح له الجميع وأبوال الدواب
وأرواثها وخرء الكلاب يتضاعف النجاسة فكيف يكتفي بالثلاثين بجواز استناد التخفيف
إلى مصاحبة ماء المطر، ومن نظر إلى ما ينفعل به البئر وما يطهر به واشتمالها على جميع
المتنافيات كالهر والخنزير وتفريق المتماثلات كالكلب والكافر والثور والبقرة يزول
عنه استبعاد حكم هذه النجاسات منفردة عن ماء المطر ومصاحبته له وبجواز كون أعيان
النجاسة مستهلكة فيه ثم وقع في البئر، أو يراد السؤال عنه في هذا الحال وإن لم تقع
هي معه إلى غير ذلك، وبناء على عدم العمل بهذه الرواية فالمتجه حينئذ نزح المقدر فيما له
مقدران قلنا أن المتنجس به يدخل معه في ذلك وإلا فالجميع.
(والدلو التي ينزح بها) المقدر (ما جرت العادة) في ذلك الزمان أي زمان
صدور الأوامر (باستعمالها) في النزح عند الأمر به وغيره، ولا يكتفى بالأنقص من
المعتادة، وأما الزائدة فمع نزح المقدر بها كالناقص فلا كلام في الاكتفاء به، وهل
تقوم الزيادة مقام شئ من العدد حتى لو كانت تسع المقدر دفعة واحدة؟ وجهان،
منشأ هما أنه هل المفهوم من الأمر بالنزح اخراج هذا المقدار ولو دفعة أولا؟ لا يبعد الثاني
استصحابا للنجاسة مع عدم القطع بما ذكر، ولا دلالة عرفية، ومن الوجه الأول ينقدح
جريان المسألة في أشياء أخر، والمدار ما تقدم، وقد ذكرنا في التراوح جملة من ذلك،
فراجع وتأمل. وكيف كان فوجه ما ذكره المصنف هنا والمعتبر والعلامة في التحرير
والمنتهى حمل المطلق على المعتاد، ولأنه هو المتيقن في إزالة النجاسة، وربما فهم من
بعض كلماتهم أن المراد بالاعتياد إنما هو الاعتياد بالنسبة إلى تلك البئر صغيرة كانت
أو كبيرة، قال في المعتبر: " الدلو التي ينزح بها هي المعتادة صغيرة كانت أو كبيرة
لأنه ليس للشرع فيها وضع، فيجب أن يتقيد بالعرف " انتهى. وقال في المنتهى:
" المعتبر من الدلو العادة، لعدم النص الدال على التقدير له " انتهى. وفي المدارك
ينبغي أن يكون المرجع في الدلو إلى العرف العام، فإنه المحكم فيما لم يثبت فيه وضع من
259

الشارع، ولا عبرة بما جرت العادة باستعماله في ذلك البئر إذا كان مخالفا له. قلت: كلام
من تقدمه قد يظهر منه الإرادة بالعادة العرف العام، ولا ينافيه قوله في المعتبر صغيرة
أو كبيرة، إذ المراد بعد تناول العرف، وربما احتمل القول بالاقتصار على المعتاد في ذلك
الزمان بعد ثبوته للاستصحاب، وإن لم يثبت يجب الأخذ بالمتيقن، ولا يخفى عليك
ما فيه كما أنه لا يخفى عليك شدة اختلاف مقدار النزح قلة وكثرة على الأول من جهة
صغر الدلو وكبره بعد صدق العرف، فالمسألة لا تخلو من إشكال، وفي المدارك نقل
عن بعض المتقدمين أن المراد بالدلو الهجرية التي وزنها ثلاثون رطلا أو أربعون، وهو
ضعيف انتهى. وكأن مجهولية مقدار الدلو مما يرشد إلى الاستحباب، لاختلافه باختلاف
الأزمنة والأمكنة وغير ذلك.
(فروع ثلاثة (الأول) حكم صغير الحيوان حكم كبيره) بعد صدق الاسم
وتناول الدليل، فلاحظ وتأمل.
(الثاني) اختلاف أنواع النجاسة) كالعذرة المذابة
وبول الرجل مثلا (موجب لتضاعف النزح) تساوي المقدار أو زاد أحدهما على الآخر،
نعم ينبغي تقييده بما إذا لم يكن فرض أحدهما نزح الجميع ولو كان من جهة غير المنصوص،
لأصالة عدم تداخل الأسباب المستفادة من ظاهر الأوامر والاستصحاب، خلافا للمنتهى
فإنه قرب التداخل، محتجا بأنه بفعل الأكثر يمتثل الأمرين، فيحصل الاجزاء، والنية
غير معتبرة، وهو مصادرة، وكون علل الشرع معرفات وعلامات فلا استحالة في
اجتماعها على معلول واحد لا يقتضي ذلك، لأنا وأن لم نقل أنها علل حقيقية إلا أن الظاهر
جريانها مجري العلل الحقيقية حتى يعلم خلافه، لا يقال لم لم يكن محل الفرض من غير المنصوص،
فينزح له الجميع لكون النجاسة الحاصلة من الجميع غير النجاسة الحاصلة من كل واحد
وحده، لأنا نقول: مع كونه واضح البطلان في المقام وغيره ما دل على نزح المقدر
للنجاسة المخصوصة شامل لما إذا كان معها غيرها من النجاسات أولا، وليس مشروطا ذلك
260

المقدر بما إذا لم يكن في البئر غير تلك النجاسة، بل هو تقدير له من حيث نفسه وغيره
يبقى على مقتضى الدليل فيه.
فإن قلت: بناء على القول بأن النزح للتطهير لا معنى للقول بعدم التداخل، وذلك
لأنه على تقديره حيث ينزح لأحدهما دون الآخر يكون البئر طاهرا نجسا، مثلا إذا
وقع في البئر بول وعذرة مذابة مثلا، ثم نزح أربعون يكون قد طهر من هذه الجهة، وهو
نجس من الجهة الثانية، وهو غير معقول بالنسبة للطهارة والنجاسة، ومن هنا التجأوا للقول
بالتداخل في سائر النجاسات على الثوب أو على البدن سواء تعدد الغسل لبعضها كالبول
أو لا، وأيضا لو كان وقوع النجاسة متعاقبا فلا ريب في عدم تأثير الثاني النجاسة،
لكونه تحصيل حاصل وهو محال، وإذا كان لم يؤثر نجاسة لا معنى لأن ينزح له، فإن
معنى ما دل على وجوب النزح له ظاهر في كونه من جهة أنه ينجس البئر، فلا يشمل مثل
ذلك. قلت: لا مانع من ارتفاع النجاسة من جهة دون أخرى، كارتفاع الحدث من
جهة النجابة مثلا دون المس، وما ذكره في حال النجاسات على البدن ونحوه حالها حال
ما نحن فيه، إلا أن يدل دليل على خلافه، والظاهر تحققه فيها دونه، وليس المقتضي
للقول بالتداخل فيها هو ما ذكره، بل من جهة أنهم فهموا من الأدلة هناك أن المراد
غسل النجاسة، وأيضا بعد وقوع أنواع النجاسة يكون في الحقيقة المقدر لها مجموع
التقادير، فتكون حينئذ كالنجاسة المتحدة التي لها مقدر، فالطهارة لا تحصل إلا بالتمام
فلا يكون طاهرا من جهة نجسا من أخرى، وأما ما ذكره أخيرا ففيه أنه نفي للتداخل
من رأس، ويقين النزح للواقع أولا دون الأخير سواء كان المقدر له أولا أقل
أو أكثر أو مساو، وقد عرفت أن الدليل شامل باطلاقه للنزح المقدر سواء كان هناك
شئ آخر واقع قبله أو لا.
فإن قلت: إذا كانت النية غير معتبرة فحينئذ بما يتشخص النزح للمنزوح له
حتى يقال أنه ترتفع النجاسة من جهته ويبقى آخر، مثلا إذا وقع في البئر أرنب وثعلب
261

ثم نزح منها أربعون لم يشخصها لأحدهما، ولا معنى للقول بارتفاع النجاسة من أحدهما
على الاجمال لابهامه، فلا يصلح لأن يكون متعلقا للحكم. قلت: هذا يؤيد ما ذكرنا
سابقا من أن النجاسة المختلفة بمنزلة الواحدة التي مقدرها مجموع التقديرين، ففي المثال
مثلا صار مقدره ثمانين، فلا تطهر إلا بها، ولا نقول: أنه طهر من هذه الجهة
دون الأخرى، فتأمل جيدا.
(وفي تضاعفه مع التماثل) كالثعالب والأرانب ونحو ذلك (تردد، أحوطه
التضعيف) لا ينبغي التردد في عدم التضعيف في المتماثلات بعد فرض تناول دليلها للقليل
منها والكثير، كما إذا وقع في البئر عذرة مذابة مرات متعددة، فإنه لا إشكال في
الاكتفاء بنزح الخمسين، لشمول الدليل، ومثله الدم الكثير. لا يقال أنه بالوقوع
الأول قد اشتغلت الذمة بنزح الخمسين، والوقوع الثاني لا يخلو إما أن يشغل الذمة
بالأول، أو لا يشغلها بشئ، أو يشغلها بأمر آخر غير الأول، لا معنى للأول،
لكونه تحصيل حاصل، ولا للثاني، لشموله الدليل له، والثالث خلاف المقصود، لأنا
نقول الدليل لما دل على أن العذرة المذابة ينزح لها خمسون، وكانت العذرة المذابة
ماهية صادقة على القليل والكثير، وشغل الذمة بالوقوع الأول لمكان صدق الماهية
وجاء الوقوع الثاني انقلب الفرد الأول إلى الثاني وصار مصداقا واحدا للماهية، وهكذا
كلما يزداد يدخل تحت قول العذرة المذابة، ينزح لها خمسون وليس هذا إلا كتعدد
النوع الواحد من الحدث الأصغر أو الأكبر كالبول مرات مرات والجنابة مرات، فتأمل
جيدا فإنه دقيق. وأما إذا لم يكن الدليل شاملا للقليل والكثير فالظاهر عدم التداخل،
للاستصحاب والأصل المتقدم، وما يقال النجاسة من النجس والواحد لا تتزايد إذ
النجاسة الكلبية والبولية موجودة في كل جزء، فلا تتحقق زيادة توجب زيادة النزح، فيه مع
مخالفته للأصلين السابقين إنا نمنع كون النجاسة من الجنس الواحد لا تتزايد، لأن كثرة
الواقع تزيد مقدار النجاسة، فيزيد شيوعها في الماء، فيناسبه زيادة النزح، نعم يمكن
262

أن يقال إنا نستظهر من الأدلة أن النزح لماهية الكلب مثلا، ووقوعه منكرا في بعض
الروايات لا يراد منه مع قيد الوحدة، بل المقصود الجنسية، فيكون حاله كساير النجاسات
الواقعة على البدن أو الثوب من البول والغائط وغيرها، ولعله لذا أو لما تقدم تردد
المصنف، وإن كان الأقوى ما ذكرنا، وعدم ظهور إرادة الوحدة من التنكير لا يقضي
بظهور إرادة الجنس، والاستصحاب محكم ومع ذلك كله لا يخلو القول بالاكتفاء من
قرب، لأن الاستصحاب موقوف على تحقق المستصحب أولا، والكلام فيه، وإصالة
عدم التداخل فرع تعدد الأسباب، والكلام فيه، وقال في جامع المقاصد بعد أن
اختار عدم التداخل مطلق: " ويستثنى من ذلك اختلاف النجاسة الواقع بالكم، فإن
الدم الواقع إذا كان قليلا فوقع بعده ما يخرجه من القلة إلى حد الكثرة وجب منزوح
الأكثر خاصة " ومثله في المسالك وهو متجه إن قلنا بحصول الكثرة بالدفعات، لكنه
لا يخلو من نظر، وعليه حينئذ لا تداخل فيما إذا وقع دم قليل ثم وقع دم كثير بعده،
لتعدد السببين، وكذلك العكس، بخلافه على ما ذكراه، فإنه يلزمهما ذلك
(إلا أن يكون) الواقع المتعدد من المتماثل (بعضا من جملة لها مقدر، فلا يزيد
حكم أبعاضها عن جملتها) لا إشكال في عدم الزيادة، والظاهر وجوب نزح مقدار الجملة
لها وإن لم يدخل تحت اسم الجملة، لتوقف يقين البراءة عليه، وفي المدارك عن المحقق
الشيخ علي أنه احتمل إلحاقه بغير المنصوص، لعدم تناول اسم الجملة له، ثم قال: وهو
إنما يتم إذا كان منزوح غير المنصوص أقل من منزوح الجملة، إذ لا يعقل زيادة حكم
الجزء على الكل، ولم أجد هذا الاحتمال في جامع المقاصد بل الموجود منه ما اخترناه
من وجوب نزح ما للجملة، لانتفاء الدليل الدال على الاكتفاء بما دونه، ولو كان في
البئر جزءان مثلا لا يعلم أنهما من جملة واحدة أو من متعددة، فلا يخلو المتعدد إما أن
يقوم احتمال التغاير فيه كالكلب والأرنب مثلا أولا، فإن كان الأول فالظاهر أنه
إن علم جزء منهما أنه من جملة خاصة وشك في الآخر أنه من تلك الجملة أو لا لم يبعد
263

القول بالاكتفاء بنزح المقدر للجملة التي علم كون الجزء منها، استصحابا لطهارة البئر
من الآخر، وإن لم يعلم بأحد الجزئين لم يبعد القول بنزح مقدر الجميع المحتمل، استصحابا
للنجاسة، ولأنه كما إذا وقع حيوان في البئر فمات فيها ولم يعلم كونه كلبا أو ثعلبا، فإن
الظاهر وجوب نزح الجميع للمقدمة، وإن كان الثاني وهو ما إذا علم كون الجزئين
مثلا جزئي كلب لكن لم يعلم كونهما من كلب واحد أو كلبين فالظاهر وجوب
نزح مقدر واحد، استصحابا للحال السابق المعلوم في البئر، فإنه لم يعلم انتقاضه
إلا بوقوع كلب واحد، والأصل عدم تعدد الواقع، واحتمال القول بالتلفيق أي تلفيق
كلب من الأجزاء فينزح حينئذ المقدر للكلب الواحد مثلا وإن كانت الأجزاء
مختلفة لا يخلو من وجه، لكن الأظهر عدمه.
(الثالث) إذا لم يقدر للنجاسة) حيوانا كانت أو غيره (منزوح) أي لم
يعلم من الشارع له مقدر بالخصوص بأحد الأدلة المعتبرة فعلا كانت أو قولا ظاهرا
أو نصا (نزح جميع ماءها) تحقيقا لا يتسامح في شئ منه، (فإن تعذر نزحها)
لكثرة الماء أو غلبته لا لمانع خارجي (لم تطهر إلا بالتراوح) وقد تقدم كيفيته،
وكأن الحصر إضافي، لما تقدم من إمكان حصول الطهارة بغير ذلك، وما اختاره
المصنف من وجوب نزح الجميع لفاقد النص هو الأقوى، استصحابا للنجاسة، والقول
بأن البئر لا ينجس إلا بالنجاسات المذكورة في كلام الشارع التي وجب النزح لها لأن
العمدة في النجاسة أوامر النزح لا وجه له، لما علمت سابقا أن البئر عند أهل هذا القول
تنجس بكل شئ، والعمدة في ذلك الاجماعات المنقولة، واستفادتهم من هذه الروايات
أن البئر قابلة للنجاسة بكل نجاسة.
لا يقال إن أصالة البراءة من وجوب نزح الجميع قاضية بعكس ما ذكرتم، كما قيل ذلك
عند الشك من تعارض الأدلة في وجوب الغسل من البول مثلا مرة أو مرتين أو أزيد.
264

لأنا نقول: (أولا) الاستصحاب قاطع لأصل البراءة، وبناء الفقه من أوله إلى آخره
عليه، بل الظاهر تحكيمه على العام إذا كان أي الاستصحاب خاصا، وقد أشار
إلى ذلك بعض الفضلاء من علمائنا أن العام وإن كان كتابا يحكم عليه الخاص وإن كان
استصحابا (وثانيا) لا معنى لخصوص التمسك به هنا، إذ لا طريق آخر غيره، والفرق
بين ما ذكره وبين ما نحن فيه أن ما ذكره قد تعارضت فيه الأدلة، فيمكن حينئذ أن
يقال الأصل براءة الذمة من الزائد، ويبقى ما دل على التطهير بالأقل سالما، وفي الحقيقة
هذا نوع من ترجيح دليل الاتحاد من جهة الاعتضاد بأصل البراءة، فيكون الدليل مع
أصالة البراءة قاطعا للاستصحاب، بخلاف ما نحن فيه، فإنه لا أدلة متعارضة، وإصالة
البراءة لا تثبت حكما شرعيا حتى يقال بالتطهير بمقدار مخصوص، وأما الاكتفاء بالتراوح
عند تعذر نزح الجميع فللخبرين المتقدمين.
لا يقال إن ذلك فيما قدر له الجميع لا فيما ينزح له الجميع للمقدمة، فإنه لا يقطع بحصول
الطهارة إلا بنزح الجميع وإن احتاج إلى أيام، وإلا تعطلت البئر. لأنا نقول: (أولا) الظاهر
أنه يفهم من الروايتين السابقتين قيام التراوح مقام نزح الجميع في نفسه، ولذلك لم يقدح
كون المسؤول عنه في الخبر لا ينزح له الجميع، لأنهم فهموا منه أن ذلك ضابط لما ينزح
له الجميع حيث يعسر، كما نقلوا عليه الاتفاق سابقا فتذكر وتأمل. (وثانيا) قد يدعى
الأولوية في المقام، فإنه إذا اكتفي فيما قدر له الجميع بالتراوح فليكتف في غيره مما لم
يعلم تقديره به بطريق أولى. نعم لما كان من المحتمل نزح الجميع أوجبناه للمقدمة، فليقم
التراوح مقامه، كما لو كان مقطوعا به، بل هو أولى (1) وقيل ونسبه في كشف اللثام

(1) لا يقال إن نزح الجميع غير مقتضي للقطع بجواز استعمال الماء أيضا، لعدم
ثبوت طهارة البئر نفسه بذلك. لأنا نقول: إن الاجماع منعقد بحسب الظاهر أنه ليس
وراء نزح الجميع شئ، وإن أرض البئر تطهر تبعا، كما تطهر حيث يكون المقدر الجميع،
وبالجملة حاله حال ما قدر له الجميع (منه رحمه الله).
265

إلى ابن حمزة وإلى الشيخ في المبسوط وإن احتاط بالجميع بوجوب نزح الأربعين
لقولهم (عليهم السلام) (1): " ينزح منها أربعون وإن صارت منجرة " وهي مع عدم
العلم بصدرها لا جابر لسندها، ومجرد ذكر الشيخ لها في المبسوط غير كاف، إذ لعله
وهم فيها، بل الظاهر أنه كذلك، لموافقتها لرواية كردويه التي ستسمعها المتضمنة للثلاثين
وربما احتج لهذا القول بالأخبار (2) الدالة على طهارة البئر بالتغير بنزح ما يزيل
التغير خاصة، وعدم وجوب نزح الماء كله، فإذا لم يجب نزح الجميع مع التغير فمع عدم
التغير بطريق أولى، فمتى انتفي وجوب نزح الجميع دار الأمر بين القولين الآخرين وهما
الثلاثون والأربعون، ولما كان الجزم لم يحصل بالثلاثين تعين الأربعون، وفيه منع
الأولوية (أولا) وإلا لزم أن تحكم هذه الأخبار على سائر ما ذكر على التقدير من
الجميع وغيره إذا كان يحصل ما يزول به التغيير بدون التقدير، وهذا وإن ذهب إليه
بعضهم فيما تسمع إن شاء الله، لكن الأقوى خلافه. (وثانيا) هذه الأخبار كلها
مبنية على القول بالطهارة في الظاهر، فلا يتمسك بها في المقام، وستسمع أن كثيرا من
القائلين بالنجاسة حكموا غيرها عليها. (وثالثا) ما ادعاه من الانحصار في الأقوال الثلاثة
إن كان المقصود منه تحصيل الاجماع المركب منها فيه لا إجماع في المقام، ولذلك احتمل
بعضهم أنه يقدر التغير، ثم ينزح إلى زواله، وإن لم يكن المقصود منه الاجماع فلا يفيده
(ورابعا) ما ذكره في الاستدلال لهذا القول لا يصلح لأن يكون له دليلا في نفسه،
بل هو متمسك لنا على صحته، من جهة عدم العلم بدليل قائله، وإلا فلا معنى لقوله
لم يحصل الجزم بالثلاثين فيتعين الأربعون، وبعد معرفة دليل صاحبه وبطلانه لا معنى
لذلك، والحاصل لا إشكال في أنه على تقدير نجاسة البئر أن هناك نجاسات قدر لها
الشارع نزح الجميع، كالبعير وصب الخمر، ونجاسات قدر لها الشارع دون ذلك،

(1) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4
(2) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 و 7 و 11
266

فالنجاسة الغير المنصوصة يحتمل كونها من الأولى، ويحتمل كونها من الثانية، فاليقين
لا يحصل إلا بنزح الجميع، وما ادعاه من الأولوية يبطله ما دل على نزح الجميع لتلك
مع عدم التغيير. وما يقال أن تلك خرجت بالدليل يدفعه أن الأولوية هنا ليست من
اللفظ، بل في الحقيقة قطع حصل لنا من ملاحظة كلام الشارع، وبعد فرض أنه قد
ورد في الشرع خلافه بطل ذلك القطع، وكذا ما يقال نحن نقطع قبل وصول شئ إلينا
من الشارع في ذلك، فإذا وصل بطل القطع فيما يصل، ويبقى غيره، ضرورة أن هذا
الواصل زلزل القطع من أصله في خصوص المقام، وأظنك بما ذكرنا تكتفي عن بيان
فساد احتمال القول بتقدير التغيير ثم النزح لما يزوله مع كون التغيير غير مضبوط فتأمل.
وقيل بوجوب نزح الثلاثين، ونسب إلى العلامة (رحمه الله) في المختلف وفي المدارك
حكى عن الشهيد نسبته للبشري وأنه نفي عنه البأس واحتج عليه برواية كردويه (1) قال:
سألت أبا الحسن (عليه السلام) " عن بئر يدخلها ماء المطر فيه البول والعذرة وأبوال الدواب
وأرواثها وخرء الكلاب قال (عليه السلام): ينزح منها ثلاثون دلوا ولو منجرة "
وعن الشهيد في الشرح أنه وجد بخط الشيخ في الاستبصار بضم الميم وسكون الباء وكسر
الخاء، ومعناه المنتنة، ويروي بفتح الميم والخاء، ومعناه موضع النتن، وفي المدارك أن
الاستدلال بها عجيب، إذ لا دلالة لها على المتنازع بوجه، فإن موردها نجاسات مخصوصة،
والكلام إنما هو في غير المنصوص، قلت: قد يقال: وجه فهمهم منه قوله (عليه السلام):
ولو كانت منجرة أن الثلاثين كافية في كل نجاسة تقع فيها حتى لو بلغت هذا المبلغ،
وهذه عبارة تقال: في مثل هذا المقام فلا يراد منها خصوص ما سئل عنه، نعم قد يناقش
بأن فيها كردويه، وعن العلامة في المختلف إني لم أعرف حاله، فإن كانت الرواية
صحيحة فالقول به متجه. انتهى. قلت: ولعله كذلك، إذ لم يذكر بمدح ولا قدح
فيما حضرني، واحتمال أن يقال: لا تقدح جهالة كردويه، لكون الراوي عنه

(1) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3
267

ابن أبي عمير، وهو من أصحاب الاجماع يدفعه أن الأقوى خلاف ذلك عندنا في أصحاب
الاجماع، كما هو مبين في محله، فهذه الرواية مع ما في سندها بل وما سمعته في دلالتها
واعراض أكثر الأصحاب عنها لا تصلح لأن تكون قاطعة لما ذكرنا، كاعراضهم عما
يستفاد من خبر عمار الساباطي (1) لما سأله عن المذبوح فقال (عليه السلام): " ينزح
منه دلاء هذا إذا كان ذكيا فهو هكذا، وما سوى ذلك مما يقع في البئر فيموت فيه
فأكثره الانسان ينزح منها سبعون دلوا، وأقله العصفور ينزح منها دلو واحد، وما سوى
ذلك فيما بين هذين " من عدم تجاوز السبعين لكل حيوان بينهما، بل يكون خارجا
عن المسألة، لأن الكلام في غير المنصوص، فالأقوى حينئذ نزح الجميع، ثم إن هذه
الأقوال لا تجري على القول بأن النزح للتعبد الشرعي أو للاستحباب، مع احتمال جريان
القولين الأخيرين دون الأول، لا استنادهما للروايات بخلافه، مع احتمال جريان الأول
أيضا، بتقريب أن استقراء ما ورد من الشارع في مقادير النزح حتى ما اتفق أنه سئل
يوما عن نجاسة إلا وذكر لها مقدرا، بل غير النجاسة كاغتسال الجنب يفيد أن كل
نجاسة لها مقدر، لكن منه ما وصل ومنه ما لم يصل إلينا، فالاحتياط حينئذ بناء على
الوجوب التعبدي نزح الجميع، أو بناء على الاستحباب إذا أريد اليقين بامتثال الأمر
الاستحبابي، ودعوى أن الاستقراء إن لم يفد العلم فلا حجة فيه، لكونه قياسا،
وإفادته العلم ممنوعة يدفعها إنا نمنع عدمه حجيته على التقدير الأول، إذ الظاهر حجية مثله
لاستفادته من الأدلة، بل كثير من القواعد الشرعية مبناها على ذلك، ولعل الحكم
بنجاسته بغير المذكور المقدر له مبني على ذلك لا الاجماعات المنقولة، لكن ومع ذا
لا يخلو من إشكال، لاحتياجه إلى تحرير ليس هذا محله.
(
وإذا تغير أحد أوصاف ماءها) كلا أو بعضا لونا أو طعما أو رائحة (قيل
ينزح ماؤها أجمع) ونسبه في كشف اللثام إلى القائلين بالنجاسة عدا المفيد وبني زهرة

(1) الوسائل - الباب - 21 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2
268

وإدريس والبراج (فإن تعذر لغزارته) وهو المراد بغلبة الماء الوارد في الخبر (1)
لا لغيره (تراوح عليها أربعة وهو الأولى) كما عن الصدوقين وسلار وابن حمزة من
القائلين بنزح الجميع، وفي المعتبر وعن الدروس اختيار نزح أكثر الأمرين من المقدر
وما يزول به التغيير عند تعذر نزح الجميع. وكشف الحال يحصل بذكر أخبار الباب
وفتاوي الأصحاب، فنقول أما الأخبار فمنها صحيح ابن بزيع (2) عن الصادق
(عليه السلام) " قال: ماء البئر واسع لا يفسده شئ إلا أن يتغير ريحه أو طعمه
فينزح حتى يذهب الريح ويطيب الطعم لأن له مادة " وموثقة سماعة (3) قال: سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) " عن الفأرة تقع في البئر أو الطير؟ قال عليه السلام: إن
أدرك قبل أن ينتن نزح منها سبع دلاء وإن كانت سنورا أو أكبر منها نزحت منها
ثلاثين دلوا أو أربعين دلوا، وإن أنتن حتى يوجد النتن في الماء نزحت البئر حتى
يذهب النتن من الماء " وصحيح الشحام (4) عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في السنور
والدجاجة والكلب والطير قال عليه السلام: إذا لم يتفسخ أو يتغير طعم الماء فيكفيك
خمس دلاء، وإن تغير الماء فخذ منه حتى يذهب الريح " وخبر زرارة (5) قال: قلت:
لأبي عبد الله عليه السلام " بئر قطرت فيها قطرة دم أو خمر قال عليه السلام: الدم والخمر
والميت ولحم الخنزير في ذلك كله واحد ينزح منه عشرون دلوا، فإن غلب الريح
نزحت حتى يطيب " وصحيح معاوية بن عمار (6) قال: سمعته عليه السلام يقول:

(1) الوسائل - الباب - 23 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
(2) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 و 7 إلا أنه روى
عن الرضا عليه السلام
(3) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 7
(4) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4 - 7
(5) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق حديث 3. وفي الباب - 21 -
حديث 4.
(6) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 10
269

لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر لا أن ينتن، فإن أنتن غسل الثوب
وأعاد الصلاة ونزحت البئر " وفي خبر أبي خديجة (1) عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: سئل " عن الفأرة تقع في البئر؟ قال عليه السلام: إذا ماتت ولم تنتن فأربعين دلوا
وإذا انتفخت فيه ونتنت نزح الماء كله " وخبر منهال (2) قال: قلت: لأبي عبد الله
(عليه السلام) " العقرب تخرج من البئر ميتة، قال عليه السلام: استق منه عشرة دلاء،
قال: قلت: فغيرها من الجيف، قال عليه السلام: الجيف كلها سواء إلا جيفة قد
أجيفت، فإن كانت جيفة قد أجيفت فاستق منها مائة دلو، فإن غلبها الريح بعد مائة دلو
فانزحها كلها ".
وأما الأقوال فالظاهر من القائلين بطهارة البئر وعدم نجاستها إلا بالتغير كما هو
المختار وإن النزح في المقدرات مستحب أن تطهيرها بالنزح حتى يزول التغيير، عملا
بالأخبار الصحيحة (3) الصريحة الظاهرة في أن حالها حال الجاري، وقد عرفت أن طهره
بزوال التغيير بأي وجه يكون، أو بما يخرج من المادة متدافعا عليه حتى يزول التغيير،
أو يتكاثر الماء عليه من خارج حتى يزول التغيير أو بغير هما مما يزيله، بل لو نزح حتى زال
التغير وإن لم يخرج من المادة شئ فالظاهر حصول الطهارة، عملا بالأخبار، والتعليل
بأن له مادة لا يقتضي اشتراط تجدد الخروج، إذ لعل الاتصال بها كاف، فتأمل جدا.
ولا يعارض ذلك أخبار المقدرات، لكونها محمولة على الاستحباب عندهم، بل ولا
الأخبار الدالة على نزح الجميع التي قدمناها، إذ هي بين غير واضح السند وبين غير
واضح الدلالة، فتلك أقوى منها من وجوه عديدة، فوجب حملها إما على الاستحباب
أو على أن التغير لم يذهب إلا بنزح الجميع، كما أنه ربما يشعر به خبر منهال، فإن ظاهره

(1) الوسائل - الباب - 19 - من أبواب الماء المطلق - حديث 4.
(2) الوسائل - الباب - 22 - من أبواب الماء المطلق حديث 7.
(3) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6 و 7.
270

الاكتفاء بالمائة إذا ذهب بها النتن.
وأما القائلون بالنجاسة فالظاهر أن أقوالهم تنتهي إلى سبعة أو ثمانية بعد الاتفاق
على أنه لا يطهر قبل زوال التغير (الأول) موافقة القائلين بالطهارة، فيكتفون
بنزح ما يزيل التغير سواء كانت النجاسة منصوصة أو غير منصوصة، وسواء كان
نصها نزح الجميع أو لاء، وسواء ساوى ما زال به التغيير المقدر أو زاد أو نقص، وهو
المنسوب للمفيد، ونقل عن الشهيد اختياره في البيان وأبي الصلاح، واختاره العلامة في المنتهى،
للأخبار المتقدمة الدلالة على حصول طهر المتغير بنزحه المزيل لتغيره، مع عدم تفصيلها بين ماله
مقدر أو لا وبين ما مقدره الجميع أو لا، بل في بعضها السؤال عما له مقدر مع الجواب عنه بأنه
إن كان لم يغير فكذا، وإن غير فينزح حتى يزول التغيير، وزاد في المنتهى في الاحتجاج
بأن العلة هي التغير بالنص والدوران في الطريقة على مذهبنا، وقد زال، فيزول الحكم
التابع، ولأنه قبل وقوع المغير طاهر، فكذا بعده مع زوال التغيير، والجامع المصلحة
الناشئة من الطهارة في الحالين، وبأن نزح الجميع حرج وعسر، فيكون منفيا، ولأنه
لو لم يكن زوال التغيير غاية لزم إما خرق الاجماع، أو الفرق بين الأمور المتساوية
بمجرد التحكم أو إلحاق الأمور المختلف بعضها ببعض لمعنى غير معتبر شرعا، والتالي
بأقسامه باطل، فالمقدم مثله، بيان الملازمة أنه حينئذ إما أن لا يطهر بالنزح، وهو خرق
الاجماع، أو يطهر فإما بنزح الجميع حالتي الضرورة والاختيار، وهو خرق الاجماع
أيضا، وإما بنزح الجميع حالة الاختيار، وبالزوال حالة الضرورة والعجز، وهو الفرق
بين الأمور المتساوية، ضرورة تساوي الحالين في التنجيس، أو بالجميع في الاختيار،
وبالتراوح عند الضرورة، قياسا على الأشياء المعينة لنزح الجميع وهو قياس أحد
المختلفين على الآخر، ضرورة عدم النص الدال على الالحاق، أو نزح شئ معين،
وهو خرق الاجماع، ضرورة عدم القائل به من الأصحاب.
271

لا يقال لا نسلم تساوي حالتي الاختيار والضرورة، لأنا نقول نعني بالتساوي
ههنا اتحاد هما في الحكم بالتنجيس، لسقوط التعليل بالمشقة والحرج في نظر الشرع،
إذ هو حوالة على وصف خفي مضطرب، ومثل هذا لا يجعله الشارع مناطا للحكم، ولأنه
يشبه الجاري بمادته فيشبهه في الحكم، وقد نص الرضا (عليه السلام) على هذه العلة،
ولا شك أن الجاري يطهر بتواتر جريانه حتى يزول التغيير، فكذا البئر إذا زال التغيير
بالنزح يعلم حصول الجريان من النابع الموجب لزوال التغيير، وفيه مع أنه مناف
للأولوية، إذ من البين أنه إذا نزح له الجميع مثلا مع عدم التغيير، أو غير ذلك من
المقدرات، فمعه بطريق أولى، وكيف يعقل ذلك مع أن التغير هو ذلك السبب وزيادة
لا أقل من بقاء مقتضي السبب الأول أنه مناف لمقتضى الجمع بين الأدلة، لأنه في
الحقيقة حينئذ تخصيص لتلك الأدلة الدالة على المقدرات بأسرها، مع أن التعارض
بينهما العموم من وجه، والترجيح والاحتياط بغير ما ذكر، ولذلك كان المشهور على
خلافه، على أن هذه الأخبار قد عرفت أن القائلين بالنجاسة قد أعرضوا عن بعض
ما تضمنته من عدم التنجيس بغير التغيير، وذلك مما يراعى عند الترجيح بين الأخبار،
وما يقال من إنكار الأولية، ومن أن أخبار التقادير مبنية على عدم التغيير لا وجه
له، لمكان ظهور الأولية ظهورا لا يكاد ينكر، ولأن سلم فلا ريب في تناول قوله
(عليه السلام) (1) موت البعير مثلا ينزح له كذا لما نحن فيه وغيره، مع أن التغيير
ببقائه ميتا في البئر لا يرفع السبب الأول، إذ هو إن لم تكن مؤثرا زائدا على التقدير
فلا أقل من أن لا يؤثر. ولا معنى لقوله أن أخبار التقدير مبنية على عدم التغيير، لعدم
دلالة تلك الأخبار على الاشتراط المذكور بوجه من الوجوه، نعم هي دالة على أن هذا
المقدار من النزح واجب وإن لم يحصل التغيير، لا أنه مأخوذ فيها عدم التغير،
الجواهر 34

(1) الوسائل - الباب - 15 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6
272

وما يقال إن بعض الأسؤلة قد اشتملت عما له مقدر مع اشتمال الجواب أنه إن لم يتغير
البئر بها فكذا، وإن تغير فانزح حتى يذهب الريح ويطيب الطعم، ففيه كون المقصود
منه أنه مع التغيير لا يكتفى بالمقدر، بل لا بد من زواله وإن استوفيته، فيكون إشارة
إلى نزح أكثر الأمرين، ولعل ذلك من جهة غلبة احتياج ما ذكر في السؤال في زوال
التغيير إلى أزيد من المقدر، كما يومي إليه قوله (عليه السلام): (1) " إذا لم يتغير طعم
الماء فيكفيك خمس دلاء وإن تغير فخذ منه حتى يذهب الريح " لظهوره في أنه إذا كان
كذلك فلا يكفيك خمس دلاء، بل لا بد من النزح حتى يذهب الريح وإن بلغ المائة،
والانصاف أن الأخبار غير ظاهرة فيما كان زوال التغيير محتاجا إلى أنقص من المقدر،
بل إن لم تكن دالة على العدم فلا أقل من عدم الدلالة، فلا شاهد بها حينئذ، على أنها
معارضة بأخبار نزح الجميع وغيرها، وأما ما ذكره في المنتهى ففي (الأول) إن دعوى العلة
التغير محل منع، بل العلة في النجاسة حاصلة قبله، وكأن ذلك منه مبني على القول
بطهارة البئر وعدم نجاستها إلا بالتغير، والكلام ليس فيه، بل قد يقال أن استصحاب
النجاسة محكم وإن كان منشأها التغيير، ويكون حاله كحال الماء المحقون البالغ كرا إذا
زال التغيير من قبل نفسه، فإن الأصح بقاء النجاسة للاستصحاب وإن كان فيه بحث
ليس هذا محله. وفي (الثاني) إنه قياس لا نقول به، وكأنه ذكره (رحمه الله) على لسان
العامة، أو أنه اشتباه منه أنه ليس بقياس، أو يكون المراد منه أنه عين الأول لكن
بتقرير آخر، أو غير ذلك، وفي (الثالث) منع أنه عسر وحرج، ولذلك جاء
التعبد به في كثير من مواضع النزح، وأيضا لو سلمنا كونه عسرا وحرجا فلا يقضي
بصحة ما ادعاه، فإن هناك قولا آخر وهو القول بأكثر الأمرين، بل هو الأقوى
كما ستسمع إن شاء الله. وفي (الرابع) مع كونه غير جار فيما قويناه من الأكثر أنه

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7.
273

لا تساوي عقلا ولا شرعا ولا عرفا، ولعل القائل بذلك مستند إلى أخبار زوال التغيير
بنفسها، إلا أنه خرج حالة الاختيار بدليل، فبقيت حالة الاضطرار داخلة، وقوله
إن القول بالتراوح عند الاضطرار قياس أحد المختلفين إلى آخره فيه ما عرفت أنه
ظاهر أخبار التراوح مع فهم الأصحاب جريانه في كل ما ينزح له الجميع وتعذر لغلبته،
ولذلك أجروه فيما لا نص فيه بناء على أنه ينزح له الجميع، فتأمل. وفي (الخامس)
أنه لا تشبيه أولا، وقوله لأن له مادة لا يقضي بذلك، غايته استفادة المادة للجاري
وللبئر منه، وأين ذلك مما ذكر، وثانيا إنه مبني على القول بطهارة البئر إلا بالتغير،
وفرض كلامنا على تقدير النجاسة، فتأمل.
(الثاني) من الأقوال وجوب نزح أكثر الأمرين من المقدر وما يزول
به التغيير، هذا في المنصوص الذي نصه غير نزح الجميع، وأما فيه وفيما لا نص
فيه فينزح الجميع، ومع التعذر فالتراوح، كما عن ابني إدريس وزهرة والعلامة في المختلف
والشهيد الثاني في الروض، وهو الأقوى جمعا بين الأدلة، ضرورة عدم البحث
فيه حيث يتساوي المقدر وما به يزول التغيير، أو إذا زاد ما زال به التغير، إنما
الكلام فيما إذا زاد المقدر، والمتجه وجوبه، لشمول دليله له المعتضد بالأصل، وحصول
التغيير لا يرفعه، وما دل على الاكتفاء بالنزح حتى يزول التغيير لا يقضي بطهارة البئر
من كل جهة، بل إن قضى فهو بالمفهوم المعارض بما دل على وجوب المقدر الظاهر
في توقف الطهارة عليه، بل ينبغي أن يجب تمام المقدر بعد زوال التغيير، كما يظهر
من بعضهم لولا ما يظهر من الأخبار أن المقصود زوال التغيير على أي وجه يكون ولو
باستيفاء المقدر، فإن قوله انزح حتى يزول التغيير يصدق على نازح المقدر أنه نزح حتى
زال التغيير، والنية غير معتبرة، فيتجه حينئذ دعوى دخول الأقل هنا في الأكثر،
لأنه بنحل عند التأمل إلى أن موت الكلب في البئر مثلا انزح له أربعين، وإن تغيرت
البئر فأزل التغيير بنزح كائنا ما كان، فإن أزلت التغيير بنزح المقدر امتثلتهما قطعا،
274

لكن لما كان في الغالب أن التغيير يحتاج إلى نزح أزيد من التقدير علق الحكم على زواله
فتأمل. وأما وجوب نزح الجميع فيما لا نص فيه فلأن له مقدرا قطعا قبل حصول التغيير،
وذلك المقدر غير معلوم، فأجبنا من باب المقدمة نزح الجميع، ولا يعارضه أخبار التغيير،
لما عرفت أنها لا تنافي وجوب المقدر الحاصل قبل التغيير، وأما أنه يقوم التراوح مقام
نزح الجميع فلما عرفت سابقا.
(الثالث) نزح ما يزيل التغيير أولا ثم نزح المقدر تماما إن كانت النجاسة مما
لها مقدر، وإلا فالجميع، فإن تعذر فالتراوح، وكأن مستنده أنها أسباب، والأصل
عدم تداخلها بالنسبة إلى نزح الجميع، وفيه ما عرفت من فهم التداخل في خصوص المقام.
(الرابع) الاكتفاء بأكثر الأمرين فيما له مقدر، وفي غير المنصوص يرجع
إلى زوال التغيير، وكأن مستنده في الأول ما تقدم، وفي الثاني أخبار التغيير غير
معارضة، لأن الفرض أنه ليس له مقدر منصوص، فتبقى حينئذ بغير معارض
واستحسنه في الحدائق، وقد عرفت ما فيه من أنه قبل حصول التغيير لا بد أن يكون
لها مقدر لا يرتفع بحصول التغيير، ففي الفرض يحتمل استيفاء المقدر، ويمكن العدم
لاحتمال أنه أكثر مما زال به التغيير، فمن باب المقدمة يجب نزح الجميع، فتأمل.
(الخامس) وجوب نزح الجميع، ولعله المشهور بين القائلين بالتنجيس،
لصحيحة معاوية بن عمار وخبري أبي خديجة ومنهال، لا أقل من تعارض الروايات
وتساقطها، فيبقى الاستصحاب ونحوه مما يقضي بنزح الجميع من غير معارض، وروايات
التقدير لا تشمل التغيير، وإلا لاكتفي بها وإن لم يزل، وهو باطل بالاجماع، بل
قد يقال النجاسة المغيرة لها مقدر في الشرع لا نعرفه، فبعد تعارض تلك الروايات وتساقطها
وجب نزح الجميع للمقدمة، وإذا ثبت ذلك فيما له مقدر ثبت فيما ليس له مقدر بطريق
أولى، وفيه أن تلك الأخبار أقوى دلالة وسندا وأكثر عددا، بل خبر منهال ظاهر
في الاكتفاء بالمائة، وخبر أبي خديجة وإن كان ظاهرا لكنه ضعيف السند، والآخر
275

وإن كان نقي السند لكنه غير ظاهر الدلالة، لاحتماله إرادة نزحت حتى يذهب الريح،
لا أقل من أن تكون من العام والخاص، فإذا كان كذلك وجب حمل رواية أبي خديجة
على ضرب من الاستحباب، أو أنه إذا لم يزل التغيير ينزح الماء كله ونحو ذلك.
ثم إعلم أن أهل هذا القول اختلفوا عند التعذر، فما بين قائل يرجع إلى التراوح،
لما عرفت، وهو الأقوى على تقدير القول بنزح الجميع، وما بين قائل إلى زوال
التغيير، للجمع بين ما دل على نزح الجميع وما دل على النزح حتى يزول التغيير، بحمل
الأول على صورة الاختيار، والثانية على التعذر، ومقتضاه أنه لا فرق في حال التعذر
بين النجاسة التي لها مقدر أولا، وفيه ما لا يخفى من تحكم تلك الأخبار أولا، ومن حمل
هذه الأخبار على التعذر ثانيا، ومن عدم مراعاة أكثر الأمرين في حال التعذر
ثالثا، وغير ذلك، وما بين قائل بمراعاة أكثر الأمرين، وفيه ما تقدم، إلا
الثالث، فتكون الأقوال حينئذ سبعة، وقد عرفت الأقوى منها، والله أعلم، وكلها
يمكن جريانها على القول بالوجوب التعبدي، وأما على القول بالطهارة واستحباب النزح
فبعضها، فلا يجري جميعها وإن أمكن ذلك في بعضها، كما هو ظاهر بأدنى تأمل،
ولو زال التغير لنفسه وقلنا بالنجاسة فيحتمل أن يقال بوجوب نزح الجميع، لاستصحاب
النجاسة وذهاب ما قدر الشارع، لبناء الطهارة بزواله، ويحتمل القول بأنه يرجع
إلى حاله قبل التغير، فإن كانت النجاسة منصوصة وجب مقدرها، وإلا فالجميع، ولعله
الأقوى، ويحتمل القول بتقدير التغيير ونزح ما يزيله تقديرا، وينقدح حينئذ مراعاة
أكثر الأمرين وغيره، ووجه الكل واضح، وفي كشف اللثام أنه على تقدير وجوب
نزح الجميع هنا فإن تعذر النزف فلا تراوح هنا، بل ينزح ما يعلم به نزح الجميع ولو
في أيام، ووجهه واضح، انتهى. قلت هو غير واضح بعد ما سمعت من قيام التراوح
عندهم مقام نزح الجميع، كما تقدم.
فروع (الأول) هل يعتبر فيما قدر فيه النزح تعدد ذلك النزح فلو نزح
276

مقدار ذلك العدد بآلة تسعه دفعة أو دفعتين سواء كانت تلك الآلة دلوا أو غيره؟ وجهان،
أقواهما عدم الاكتفاء، للأصل، مع احتمال أن هذه الكيفية لها تأثير، فيجب مراعاتها،
ومثل ذلك لو كانت آلة صغيرة تسع نصف دلو، فهل يكتفي بنزح المقدر فيها حتى يبلغ
المقدر ولو بالتكرير أو لا؟ ولو ذهب مقدار المقدر بغير النزح بل إما بغور أو غيره فالظاهر
عدم الاجزاء أيضا، لما ذكرنا، هذا كله فيما لم يكن المقدر فيه نزح الجميع، وأما فيه فيحتمل
قويا عدم العبرة بكيفية النزح وبخصوص الدلو، بل المقصود إذهاب الجميع بأي طريق
يكون حتى لو غار ماؤها، ولا يحكم بنجاسة العايد ولا تنجسه بأرض البئر لطهارتها
بالنبغ، وقد تقدم إشارة إلى ذلك سابقا، نعم ربما يعتبر كثير من ذلك في التراوح
كما تقدم.
(الثاني) هل يطهر آلات النزح وحواشي البئر وأرض البئر ونحو ذلك من الأشياء
اللازمة لا مطلق الأشياء الخارجة عن البئر كالخشب الواقع مثلا ونحو ذلك؟ لا يبعد القول
بالطهارة، لحصول العسر والحرج بدونه، مع أنه لم يؤمر في شئ من الأخبار بتطهير
شئ من ذلك، قال في المنتهى: " الخامس لا ينجس جوانب البئر بما يصيبها من المنزوح،
للمشقة المنفية، وهو أحد وجهي الشافعية، والآخر ينجس، فيغسل لو أريد تطهيرها،
وليس بجيد، للضرر وعدم إمكان التطهير. ثم قال: السادس لا يجب غسل الدلو بعد
الانتهاء لعدم الدليل الدال على ذلك، ولأنه حكم شرعي فكان يجب على الشرع
بيانه، ولأنه يستحب زيادة النزح في البعض، ولو كان نجسا لتعدت نجاسته إلى الماء " انتهى.
وقد استفيد منه طهارة الدلو وحواشي البئر، والأقوى ما سمعت من طهارتهما
وطهارة غير هما من الحبل وثياب النازح وبدنه ونحو ذلك، لما سمعت وغيره،
والله أعلم.
(الثالث) هل يجب اخراج عين النجاسة أولا ثم ينزح المقدر أو التراوح،
أو لا يتفاوت بين اخراجها أولا أو في الأثناء أو في الآخر؟ الأقوى الأول، وذلك
277

لأنه ما دامت في البئر هي مؤثرة ذلك المقدر، فيقع ذلك النزح عبثا، وفي كشف اللثام
نقل الاتفاق عليه في المنتهى، والموجود فيه النزح إنما يجب بعد اخراج عين النجاسة،
وهو متفق عليه بين القائلين بالتنجيس، وكيف كان فقد عرفت أن الأقوى وجوب
اخراج عين النجاسة أولا، فلو كانت النجاسة مثلا شعر نجس العين فإنه يجب النزح
حتى يعلم إنه ليس فيها شئ منه، ولو تعذر لم ينفع التراوح وبقيت معطلة، ويحتمل
أن يقال يمكن التمسك بأصالة عدم زيادتها على ما خرج، فينزح حينئذ المقدر وتطهر البئر،
وأيضا مقتضي الأخبار حصول الطهارة باستيفاء المقدر مطلقا، غاية ما قيدت تلك
الاطلاقات بما لم يكن شئ من النجاسة خارجا قبل النزح، فيبقي الباقي داخلا، وفيه أن
استصحاب النجاسة وإصالة عدم استيعاب ما فيها من النجاسة قاضية ببقاء النجاسة.
وما ذكرته من الاطلاق إنما هو مقيد بعدم الوجود لا بعدم الوجدان، والظاهر أن هذا
نوع فرع لا يخص القائلين بالنجاسة، بل القائلين بالتعبد أيضا يأتي الكلام فيه على تأمل.
وربما ظهر من بعضهم أنه يمكن القول بوجوب اخراج النجاسة أولا على القول بالطهارة،
وفيه أنه لا معنى له، بل ينزح حتى يزول التغيير، فلا يقدح حينئذ بقاء النجاسة، ومثل
ما ذكرنا في الشعر النجس يجري في سائر النجاسات إلا المستهلكة، وعن الشهيد في الذكرى
أنه ألحق بالشعر النجس شعر طاهر العين لمجاورته النجس مع الرطوبة، واحتمل هو أيضا
عدم طهارته في أصله، فتأمل، فظهر مما ذكرنا أنه لا يحتسب شئ مما يخرج به النجاسة
من العدد، لوجوب اخراج عين النجاسة سابقا، واحتمل في كشف اللثام الاجتزاء
باخراج عين النجاسة في أول دلو واحتساب تلك الدلو من العدد، لاطلاق النصوص
والفتاوى، والظاهر أن مقصوده استغراق أول دلو عين النجاسة كلها، لا فيما إذا
بقي في البئر شئ، لكن قد عرفت أن الفتاوى مقيدة بما نقله عن المنتهى، وأما الأخبار
فهي مع ظهور ها في أن مقدرها بعد اخراج عين النجاسة قد صرح به بعضها، كرواية (1)

(1) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6.
278

البقباق قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " في البئر يقع فيها الدابة أو الفأر أو
الكلب أو الطير فيموت قال: يخرج ثم ينزح من البئر دلاء " بل قد يقال إن الاستصحاب
والنص والفتوى قاضية بعدم الاحتساب، وما في خبر علي بن حديد (2) عن بعض
أصحابنا قال: " كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) في طريق مكة، فصرنا إلى بئر
فاستقى غلام أبي عبد الله (عليه السلام) دلوا، فخرج فيه فأرتان، فقال (عليه السلام):
أرقه، فاستقى آخر، فخرج فيه فأرة، فقال (عليه السلام): أرقه، فاستقى الثالث،
فلم يخرج فيه شئ، فقال صبه في الإناء، فصبه في الإناء " يجب حمله على القول بالنجاسة
على حياة الفيران
(الرابع) لا عبرة بما يتساقط من الدلو حال النزح ولو كان أخيرا، وينبغي
استثناء ذلك مما ينجس البئر، بل قد يقال أنها لا تطهر إلا بعد خروج الدلو من حاشيتها
لا بانفصالها عنها، فحينئذ لا يقدح ما يتساقط من الدلو الأخير لبقائها على النجاسة حكما،
لأنا نقول وإن كان الظاهر طهارتها بانفصاله لتحقق العدد بذلك، فيكون الدلو معدن
النجس، والبئر معدن الطاهر. نعم لا يقدح ما يتساقط منه، للمشقة والعسر والحرج
ولظواهر الأخبار، وعليه حينئذ لو وقع في الأثناء بتمامه فيها أو نصفه فإنه حينئذ
ينبغي نزح المقدر، لأن ذلك فرعه، فلا يزيد عليه، ومثله يجري في التراوح، مع
احتمال القول بوجوب نزح الجميع كما يظهر من المنتهى، لكونه من النجاسة الغير المنصوصة،
والمسألة سيالة في كل تنجس بما له مقدر، وربما يكون في رواية المطر (2) إشارة إلى شئ
آخر، فتأمل. بل يحتمل قويا الاجتزاء بإعادة نزحه، لأنه بوقوعه رجع إلى الحال الأول
الذي قبل اخراجه، وإن كان لو وقع في بئر أخرى لأوجبنا له المقدر أو نزح الجميع،
هذا كله لو وقع الدلو الأخير، أما لو صب الأول أو الوسط فهل لا حكم لذلك بل

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق - حديث 14
(2) الوسائل - الباب - 20 - من أبواب الماء المطلق حديث 3 وفي الباب 16 حديث 3
279

يرجع إلى أنك لم تخرجه، أو أنه من قبيل تنجس البئر بنجاسة جديدة أخرى؟ الأقوى
في النفس الأول، والأوفق بالضوابط الثاني، وحينئذ يجب إما نزح الجميع أو مقدر
تلك النجاسة.
(الخامس) لا تجب النية في النزح على القول بالنجاسة، ولا يشترط وقوعه
من مباشر مكلف، بل يصح من كل أحد، لأنه من قبيل غسل النجاسة، كما أن الظاهر
بناء على القول بالتعبد أو الاستحباب الاكتفاء بمجرد حصوله في الخارج، فلا يحتاج
إلى التجدد إذا وقع ممن لا يصح منه ذلك لو كان عبادة، نعم لهم كلام في التراوح
قد تقدم.
(ويستحب أن يكون بين البئر) أو مطلق العين على وجه (والبالوعة) وهي
مجمع نجاسات نفاذة كما يظهر من رواية الكينف (1) لا خصوص ماء النزح (خمس أذرع)
بالذراع الهاشمية التي حدت بها المسافة (إن كانت الأرض صلبة) جبلا، (أو كانت
البئر فوق البالوعة) قرارا، (وإن لم يكن كذلك) بأن كانت البالوعة فوق البئر قرارا
أو مساوية أو كانت الأرض سهلة رخوة (فسبع) كما في المعتبر والمنتهى والقواعد
والتحرير وغيرها، بل في جامع المقاصد والمدارك وكشف اللثام أنه المشهور بين الأصحاب،
فتكون حينئذ الصور ستة، لأن الأرض إما سهلة أو صلبة، وعل كل منهما فالبئر إما أعلى
قرارا من البالوعة، أو بالعكس أو متساويان، فحيث تكون الأرض صلبة فالصور الثلاث
خمس، وإذ أكانت سهلة فإن كانت البئر أعلى قرارا فخمس أيضا، والصورتان
الباقيتان سبع، وفي الإرشاد يستحب تباعد البئر عن البالوعة بسبع أذرع إن كانت
الأرض سهلة، أو كانت البالوعة فوقها، وإلا فخمس، ولا ريب في مخالفة هذه
العبارة للمشهور، إذ على ظاهرها تنعكس صور المسألة، فتكون أربعة للسبع، وصورتان
للخمس، هذا أن جعلنا لغظ أو على ظاهرها، وإن قلنا أن المراد منه الواو
الجواهر 35

(1) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق حديث 6.
280

كما عن بعض النسخ كان الخلاف في صورة التساوي، فإنه عليه تكون داخلة في الخمس،
وعلى كلام المشهور داخلة في السبع، وعن التلخيص يستحب تباعد البئر عن البالوعة
بسبع أذرع مع الرخاوة والتحتية، وإلا فخمس، وهي كنسخة الإرشاد الأخيرة،
وفي السرائر يستجب أن يكون بين البئر التي يستقى منها وبين البالوعة سبعة أذرع إذا
كانت البئر تحت البالوعة وكانت الأرض سهلة، وخمسة أذرع إذا كانت فوقها الأرض
أيضا سهلة، فإن كانت الأرض صلبة فليكن بينها وبين البئر خمسة أذرع من جميع جوانبها،
وظاهره أيضا عدم دخول صورة التساوي، إلا أنه على عبارة الإرشاد يكون داخلة
في الخمس، وعلي ظاهره تكون مسكوتا عنها، ولعل ذلك لندرة التساوي، أو لم
يستظهر الدليل عليها كما ستسمع، وعن الصدوق أنه اقتصر في الفقيه والمقنع على اعتبار
الصلابة والرخاوة، فجعل الخمس مع الأولى، والسبع مع الثانية، بل عن المقنع أنه
ذكر خبر الديلمي الآتي، وأفتى به قبل ما ذكرناه عنه من اعتبار الصلابة والرخاوة
، وظاهره حينئذ الفرق بين البالوعة والكنيف، لتضمن خبر الديلمي الكنيف، وما ذكره
من اعتبار الصلابة والرخاوة في البالوعة وإن احتمل أنه لا يفرق بينهما، إلا أنه اعتبر
الصلابة والرخاوة، ثم اعتبر فوقية الجهة، كما في خبر الديلمي، بل لعله الأقوى، لما
عن الفقيه من جعل موضوع المسألة البالوعة والكنيف من غير فرق بينهما والمعروف من نقل
الخلاف في المسألة عن ابن الجنيد في المختصر الأحمدي قال: ما صورته لا أستحب الطهارة
من بئر يكون بئر النجاسة التي يستقر فيها من أعلاها في مجرى الوادي، إلا إذا كان
بينهما في الأرض الرخوة اثني عشر ذراعا، وفي الأرض الصلبة سبع أذرع، فإن كان
تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس، وإن كانت محاذيتها في سمت القبلة فإذا كان بينهما سبعة
أذرع فلا بأس، تسليما لما رواه ابن يحيى (1) عن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام)
انتهى. وكلامه ظاهر في اعتبار الاثني عشر بشرطين، الأول علو البالوعة الكائنة

(1) الوسائل - الباب 24 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6.
281

في مجرى الوادي، والثاني كون الأرض رخوة، وأما حيث تكون البئر أعلى فلا
بأس، وإذا كانت الأرض صلبة فسبع، كذلك في صورة المحاذاة في سمت القبلة،
فإنه يكتفى بالسبع حتى لو كانت الأرض رخوة، والمراد بالعلو في كلامه علو الجهة
لا علو القرار، مع احتمال إرادته، لكنه بعيد، سيما بعد الاستناد إلى خبر الديلمي،
كما ستسمع إن شاء الله.
وكيف كان فحجة المشهور الجمع بين قول الصادق (عليه السلام) في مرسلة قدامة
ابن أبي يزيد الجماز (1) قال: سألته " كم أدنى ما يكون بين البئر بئر الماء والبالوعة؟
فقال: إن كان سهلا فسبع أذرع، وإن كان جبلا فخمس أذرع، ثم قال: إن الماء
يجري إلى القبلة إلى يمين، ويجري عن يمين القبلة إلى يسار القبلة، ويجري عن يسار القبلة
إلى يمين القبلة، ولا يجري من يمين القبلة إلى دبر القبلة " وقول الصادق (عليه السلام) (2)
في خبر الحسن بن رباط سألته " عن البالوعة تكون فوق البئر؟ قال: إذا كانت فوق
البئر فسبعة أذرع. وإذا كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع من كل ناحية وذلك كثير "
ووجه الاستدلال أن في كل من الروايتين إطلاقا من وجه وتقييدا من آخر، فجمع
بينهما بحمل مطلقهما على مقيدهما، بمعنى أن مورد السبعة في الرواية الأولى مقيدة بمورد
الخمسة في الرواية الثانية، والسبعة التي في الرواية الثانية مقيدة بالخمسة التي في الرواية
الأولى، ولا يخفى عدم جريان مثل ذلك على القواعد، بل المستفاد من مجموع الروايتين
أن السبعة لها سببان، السهولة وفوقية البالوعة، والخمسة أيضا لها سببان، الجبلية
وأسفلية البالوعة، ويحصل التعارض عند تعارض الأسباب، كما إذا كانت الأرض
سهلة والبالوعة أسفل من البئر، فلا بد من مرجح خارجي حينئذ، وكذلك لو كانت
الأرض جبلا والبالوعة فوق البئر، ولعله بالنسبة إلينا تكفي الشهرة في المرجح، فيكون

(1) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3
282

تحكم كل منهما على الآخر بمعونتها، وبالنسبة إليهم لا نعلم المرجح، ولعله دليل خارجي،
أو أن سهولة الأرض لا تؤثر مع أسفلية البالوعة، كما أنه لا يؤثر علوها عليه مع جبلية
الأرض، وعلى كل حال فصورة التساوي يمكن دخولها تحت قوله إن كانت الأرض
سهلة فسبع لأنها غاية ما قيدت بما لم تكن البئر فوق البالوعة، فتبقي الصورتان داخلتين،
وهما صورة فوقية البالوعة وتساوي القرار، وهو الذي حكم به المشهور وأما الجبلية
في الرواية الأولى فهي غير مقيدة بشئ، فلا معنى حينئذ للاشكال في صورة التساوي
بعد تسليم ما ذكروه من الجمع، نعم تتجه المناقشة في هذا الجمع بعدم جريانه على القواعد،
والظاهر أن المراد بالفوقية في الرواية فوقية القرار، لأنها هي المتبادر من لفظ الفوق،
لا فوقية الجهة، وهو الذي فهمه كثير منهم، وحملوا عليه كلامهم، فإن فيه لفظ الفوق
كما في الأخبار، وليس له تعرض لفوقية القرار أو فوقية الجهة.
حجة ابن الجنيد ما أشار إليها في كلامه من رواية سليمان الديلمي (1) قال: سألت
أبا عبد الله (عليه السلام) " عن البئر إلى جنبها الكنيف؟ فقال لي: إن مجرى
العيون كلها مع مهب الشمال، فإذا كانت البئر النظيفة فوق الشمال والكنيف أسفل
منها لم يضرها إذا كان بينهما أذرع، وإن كان الكنيف فوق النظيفة فلا أقل من اثني
عشر ذراعا، وإن كانت تجاهها بحذاء القبلة وهما مستويان في مهب الشمال فسبعة أذرع "
ومن المعلوم أن هذه الرواية مع ضعف سندها وعدم الجابر لا تفي بجميع ما ادعاه أولا
من كون الاثني عشر مشروطا بأمرين، السهولة والعلو مع اكتفاء الرواية بالثاني،
على أن دعواه الاكتفاء مع الصلابة بسبع ولم يذكر في الرواية، ولعله لم يأخذ جميع
ما ذكر من هذه الرواية، بل أخذ الصلابة والرخاوة من الأخبار الأخر، وعلو الجهة
من هذه الرواية، وجمع بينهما بما ذكر، وقد عرفت سابقا أن الصدوق في المقنع نقل
عنه أنه عمل بهذه الرواية أيضا، وفي جامع المقاصد كما عن جماعة من الأصحاب اعتبار

(1) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق حديث - 6.
283

الجهة عند تساوي القرار، لمكان هذه الرواية.
قال: في جامع المقاصد " وطريق الجمع حمل ما دل على الزيادة على المبالغة
في الاستحباب، وحينئذ فيعتبر الفوقية والتحتية باعتبار المجرى، فإن جهة الشمال فوق
بالنسبة إلى ما يقابلها، كما دلت عليه هذه الرواية، وإنما يظهر أثر ذلك مع التساوي
في القرار، ويضم إلى الفوقية والتحتية باعتبار القرار وإلى صلابة الأرض ورخاوتها،
فيحصل أربع وعشرون صورة " انتهى. وكيفية الانتهاء واضحة لما علمت سابقا أن
الصور المتقدمة ست، وفي المقام صور أربعة، لأن البئر والبالوعة إما أن يكون امتدادها
بين الشمال والجنوب، وله صورتان، كون البئر في الشمال وعكسه، أو يكون
بين المشرق والمغرب، وله أيضا صورتان، كون البئر في المشرق وعكسه، ومعلوم
أن ضرب الستة في الأربع تبلغ أربعا وعشرين صورة في سبع عشر منها يكتفى بالخمس،
وهو صورة الصلابة بأسرها وهي اثني عشر، ويضاف إليها صورة فوقية قرار البئر في الأرض السهلة ولها أربع بالنسبة إلى الجهة، فتكون ستة عشر، ويضاف صورة
تساوي القرارين مع علو البئر في الجهة، فإنه بمنزلة علو القرار، فتكمل حينئذ سبعة عشر،
والباقية سبع، لها سبع، وأنت خبير أنه لا مخالفة بين هذه الصور كلها وبين إطلاق
الصور الست المتقدمة، إلا في صورة واحدة وهي تساوي القرارين وكانت الأرض
سهلة والبئر أعلى جهة فإنه على الأول كان بينهما سبع، وعلى الثاني يكون بينهما خمس،
تنزيلا لعلو الجهة منزلة علو القرار، ومن المعلوم أن رواية الديلمي وإن أفادت أن مهب
الشمال فوق، لكنها لم تفد تقديره بهذا التقدير، وكان هذا القائل استفاد منها مجرد
كون مهب الشمال فوق، ثم أدخله في رواية ابن رباط، فجعل الفوق فيها شاملا لفوقية
القرار وفوقية الجهة، ثم جمع الجمع المتقدم ذكره سابقا بينها وبين رواية الجماز.
إذا عرفت ذلك فلا معنى للتأمل، كما عن بعضهم بأن الاعتبار يقضي بأن يكون السبع إما في ثمان أو ست، لأن فوقية القرار إما أن تعارض فوقية الجهة ويصير
284

بمنزلة المتساويين أولا، فإن كان الأول فالأول، وإن كان الثاني فالثاني. وأما
اعتبار الجهة في البئر دون البالوعة فتحكم. لأنا نقول أما على (الأول) يلزم الأول
فحق، لأنه يضاف حينئذ إلى السبع صورة فوقية البئر قرارا وفوقية البالوعة جهة،
فإنه قد ذكرنا أن في هذه خمسا، وعلى كلام المعترض ينبغي السبع لتعارضهما،
فتكون متساوية، ولها سبع، وأما على (الثاني) يلزم الثاني فغير مسلم، فإنا نختار عند
تعارضهما تقديم فوقية القرار مع سهولة الأرض، أخذا باطلاق رواية ابن رباط المتقدمة،
ولا يلزم منه الست، لأن السبع إنما هي صورة تساوي القرارين، ومعها ثلاث، كون
البالوعة في جهة الشمال أو المشرق أو المغرب، وخرجت صورة واحدة، وهي إذا
كانت البئر في مهب الشمال، فإنها حينئذ تكون بمنزلة علو القرار، وفي هذه الصور
الثلاث لا تعارض، وصور فوقية قرار البالوعة وتحتها أربع، والتعارض حينئذ في صورة
واحدة، وهي فيما إذا كانت مع ذلك البئر في مهب الشمال، وقد قدمنا أنه يقدم
فوقية القرار كما هو الفرض على التقدير الثاني، للاطلاق المتقدم، وليس هناك اعتبار
جهة في البئر دون البالوعة حتى يكون تحكما كما ادعاه المعترض، فلا وجه لهذا الاشكال،
كما أنه لا وجه للاشكال في أصل الحكم من أنه لا معنى للاستناد في إلحاق الجهة برواية
الديلمي، لأنهم لم يعملوا بها فيما دلت عليه من الأحكام، فكيف يتم لهم الاستناد
إليها في خصوصية هذا الحكم، لما عرفت سابقا أنه لم يعمل بشئ نعم قد استفيد
منها أن جهة الشمال فوق بالنسبة إلى غيرها، وإلا فلا عمل بشئ من تقديرها، وهذا المعنى
كما يمكن استفادته منها يمكن استفادته من غيرها، كرواية أبي يزيد الجماز، بل يمكن
معرفته من قواعد أخر عندهم، وذلك لأن الأرض كروية واقعة في الماء، قدر منها
داخل، وقدر منها خارج، وربما قالوا إن ثلثيها داخل، وثلثها خارج، ووسطه قبة
الخارج محاذي للقطب الشمالي، وكل عنصر يميل إلى مركزه، ومركز الماء هو البحر
الذي فيه الأرض، فالماء الذي في الأرض يميل بالطبع إلى الجنوب من كل جانب
285

من الأرض، والشمال من الأرض فوق جنوبها، لأن ابتداء الأرض الخارج
من الجنوب متصل بالبحر، فكلما يتحرك المتحرك من جنوب الأرض إلى شماله يصعد
إلى أن ينتهي إلى محاذي القطب الشمالي، وإذا تحرك منه إلى الجنوب ينزل، لما قلنا
من أن الأرض كروية.
فظهر بما ذكر أن الشمال فوق بالنسبة إلى الجنوب، فإذا كانت البئر في جهة
الشمال مال الماء بالطبع إلى جهة الجنوب، ولا يصعد من الجنوب إلى الشمال إلا بقاسر
يقسره، فلذلك اكتفينا بالخمس، بخلاف العكس، فاحتجنا إلى الزيادة.
وربما يشير إلى ما ذكرنا قول الصادق (عليه السلام) في رواية ابن يزيد المتقدمة
" يجري الماء إلى القبلة إلى يمين، ويجري عن يمين القبلة إلى يسار القبلة، ويجري عن يسار
القبلة إلى يمين القبلة، ولا يجري من القبلة إلى دبر القبلة " وذلك لأن قبلة الراوي
قبلة العراق، وهي جهة الجنوب لهم، فلا يجري الماء من الجنوب إلى دبر القبلة أي
إلى الشمال، لأنه دبر القبلة بالنسبة إلى مستقبل القبلة، وفي كشف اللثام بعد أن
ذكر هذه الرواية مؤيدة للحكم بأن جهة الشمال فوق بالنسبة إلى الجنوب " الظاهر أن المراد
بالقبلة قبلة بلد الإمام ونحوه من البلاد الشمالية. ويعضده الاعتبار، لكون معظم المعمورة
في الشمال، وانغمار الجنوبي من الأرض في الماء حتى لم ير العمرة في الجنوبي من قبل
بطموس " انتهى. ولا منافاة فيه لما ذكرنا، لا يقال أنه لا معنى لجميع ما ذكرتم، لكون
البئر والبالوعة معا في البلاد الشمالية، فأي معنى لكون البئر في مهب الشمال دون
البالوعة والعكس، لأنا نقول المراد به إنما هو القرب إلى ناحية الشمال وعدمه، فتأمل.
نعم قد يشكل المقام بأنه مع حصول الفوقيتين أي الجهة والقرار لا معنى للاقتصار
على السبع الحاصل لأحدهما لو كان، لأنه يزداد مظنة وصول ماء البالوعة إلى البئر،
وكذلك لا معنى للخمس مع الفوقيتين في البئر، فإنه يبعد مظنة وصول ماء البالوعة إليها،
ومن هنا يمكن حمل الرواية على ذلك، فيكون ذكر الاثني عشر مع علو قرار البالوعة
286

وجهتها، ويكون الاكتفاء بالأذرع في كلامه مع علو قرار البئر والجهة أيضا، فتكفي
ولو ثلاثا، ومع الاستواء فيهما اكتفي بالسبع، بل لا يبعد في نظري القاصر أنه يستفاد
من ملاحظة رواية قدامة ورواية ابن رباط وراية الديلمي وصحيحة الفضلاء (1) قالوا:
قلنا له " بئر يتوضأ منها يجري بالبول قريبا منها أينجسها؟ فقال: إن كانت البئر
في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول من تحتها فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع لم ينجس
ذلك بشئ، وإن كان أقل من ذلك نجسها، قال وإن كانت البئر في أسفل الوادي
ويمر الماء عليها وكان بين البئر وبينه تسعة أذرع لم ينجسها، وما كان أقل من ذلك فلا
يتوضأ منه، قال زرارة: فقلت له:
فإن كان مجرى البول يلاقيها وكان لا يثبت
على الأرض؟ فقال: ما لم يكن له قرار فليس به بأس، فإن استقر منه قليل فإنه لا يثبت
على الأرض ولا قعر له حتى يبلغ البئر، وليس على البئر منه بأس، فيتوضأ منه، إنما ذلك
إذا استنقع كله " ومما رواه الحميري (2) في قرب الأسناد عن محمد بن خالد الطيالسي
عن العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته " عن بئر يتوضأ منها القوم
وإلى جانبها البالوعة؟ قال: إن كان بينهما عشرة أذرع وكان البئر التي يستقون منها
مما يلي الوادي فلا بأس " إن الأمر يختلف باختلاف الآبار والبواليع من قرب القرار
وعدمه والجهة وعدمها باختلاف الأراضي والمدار على الاطمئنان بعدم وصول ماء البالوعة
إلى البئر، وقد يحصل ذلك بالثلاثة أذرع، وقد لا يحصل بالعشرين، لكثرة ماء
البالوعة وشدة نفوذه، فالمدار حينئذ عليه، ولا بد من ملاحظة جميع ماله دخل في ذلك
من قرب القرار وعدمه وشدة النفوذ وعدمه والجهة وغير ذلك فتأمل جيدا.
ومن هنا أمكن أن يدعى في صحيحة الفضلاء أن التقدير بالثلاثة أذرع والتسعة
لمكان اجتماع الجهتين، بل قد يدعي أنه متجه على ما ذكروا، وذلك لأن فوقية الجهة

(1) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق - حديث - 1 - 8 مع الاختلاف في الأولى.
(2) الوسائل - الباب - 24 - من أبواب الماء المطلق - حديث - 1 - 8 مع الاختلاف في الأولى.
287

لها ذراعان، ولذا رجعت صورة التساوي معها إلى الخمسة مع أنها سبعة، فعلم من ذلك
أن الموظف لها ذراعان، فحيث تجتمع مع مقتضى السبعة ينبغي أن تجعل تسعة، وحيث
تجتمع مع مقتضى الخمسة ينبغي أن يجعل ثلاثة، لزيادة السبعة في الأول ذراعان، ونقصان
الثاني كذلك، لا يقال إن رواية الفضلاء لا تدل على علو الجهة، لأن أعلى الوادي
لا يلزم أن يكون في مهب الشمال، لأنا نقول الظاهر أن المراد ذلك في آبار مكة،
وأعلى الوادي فيها مهب الشمال، نعم لا بأس بالرجوع لما قدره المشهور عند عدم معرفة
حال الأرض بالوجوه المتقدمة حتى يحصل الاطمئنان النفسي، وهل علو القرار يكفي
في الحكم بالخمسة ولو قليلا، فيكون مبنيا على التحقيق أولا؟ الظاهر أن المدار على صدق
ذلك عليه عرفا.
(ولا يحكم بنجاسة) ماء (البئر) بمجرد قرب البالوعة، سواء قلنا إنها لا تنجس
إلا بالتغير أو بالملاقات، للأصل والاجماع منقولا بل ومحصلا، ويدل عليه مضافا
إلى ذلك خبر محمد بن القاسم (1) عن أبي الحسن (عليه السلام) " في البئر يكون بينها
وبين الكنيف خمسة أذرع وأقل وأكثر يتوضأ منها، قال ليس يكره من قرب ولا
من بعد، يتوضأ منها ويغتسل ما لم يتغير الماء " وبهذه الرواية تحمل الأخبار الأول
على الاستحباب، وما تقدم في صحيحة الفضلاء من الدلالة على التنجيس بعدة وجوه
من المنطوق والمفهوم على رواية الكافي، وبالمفهوم فقط على رواية غيره لا بد من تأويله،
لما علمت من الاجماع على عدم التنجيس بذلك، ويظهر من بعضهم حمل النهي عن
الوضوء فيها على الكراهة، وهو مشكل مع حصول التباعد المذكور عند المشهور، وذلك
لأنه بعد حصول القدر المستحب كيف يكون مكروها، نعم لو أردنا بقوله فيها وما كان
أقل من ذلك فلا تتوضأ منها أي أقل حتى من القدر المستحب أمكن أن يدعى ذلك،
مع ما فيه من أن الظاهر منهم أن هذا التباعد استحبابي، وأنه لا كراهة في عدمه،

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب الماء المطلق حديث - 4 الجواهر 36.
288

كما يفهم ذلك من نصهم على الاستحباب، وعدم تعرضهم للكراهة، ثم على تقدير الكراهة
فهل يشمل سائر الاستعمالات أو يخص الوضوء؟ لا يبعد الثاني، وثبوت البأس في آخر
الرواية لا يقضي بخلافه عند التأمل فيها.
(إلا أن يعلم وصول ماء البالوعة إليها) فتنجس حينئذ بالملاقات إن قلنا به.
وإلا فبالتغير، وفي كشف اللثام أن من اكتفي بالظن نجسها مع ظن الاتصال، أما
لو تغيرت البئر تغيرا يصلح أن يكون مستندا للبالوعة فالمتجه الطهارة، ومجرد الصلاحية
والمجاورة ما لم تفد العلم لا توجب التنجيس، واحتاط المصنف في المعتبر بالتطهير هنا، كما أنه احتاط أيضا بالعمل بصحيحة الفضلاء، لكونها أصح أخبار الباب، لكن قد
عرفت أن الاجماع على خلافها.
(ثم إذا حكم بنجاسة الماء) بئرا كان أو غيره (لم يجز استعماله في الطهارة مطلقا)
حدثا وخبثا عند الضرورة وعدمها، وهل المراد بعدم الجواز الإثم أو عدم الاعتداد؟
صرح العلامة في القواعد بالأول، وعنه في نهاية الإحكام تفسير الحرمة بعدم الاعتداد،
ولا يبعد القول بالأول في خصوص الطهارة الحدثية، أما حيث يكون تشريعا فواضح،
وأما حيث لا تشريع كما إذا كان عالما بالفساد وليس من ذوي الأتباع وقلنا بعدم حصول
التشريع في ذلك فللنواهي الكثيرة عن الوضوء بالماء القذر المفيد حرمة ذاتية المستلزمة
للفساد، بل هو الظاهر منهم في مسألة الإنائين، بناء على جريانها على القاعدة، إذ لو
كان الحرمة فيه تشريعية لأمكن القول بالاحتياط، وعنده يسقط التشريع، ويكون
كاشتباه المطلق بالمضاف، وأما الطهارة الخبثية فالأظهر العدم وإن أمكن للمدعي أن يدعيه
أخذا بحقيقة النهي، وفي كشف اللثام إن استعماله في صورة الطهارة أو الإزالة مع اعتقاد
أنهما لا يحصلان به لا إثم فيه، وليس استعمالا له فيهما انتهى. قلت: لا أثر للاعتقاد
في المقام، بل معنى قوله (عليه السلام) لا تتوضأ بالقذر أي لا تأت بغسل الوجه واليدين
ومسح الرأس والرجلين بعنوان الوضوء، فإنه يحرم عليك، ولا يحصل الأثر، ولا دخل
289

للاعتقاد فتأمل. نعم لا بأس بالوقوع لا بعنوان الوضوء.
(و) كذا لا يجوز (في الأكل والشرب) دون غيرهما من إزالة الأوساخ واللطوخات
ونحو ذلك (إلا عند الضرورة) والمدار على تحققها، ومنها العسر والحرج والتقية
ونحو ذلك.
* (ولو اشتبه الإناء النجس بالطاهر) *
* (وجب الامتناع عنهما) *
في الشرب والطهارة وغيرهما مما يشترط فيه طهارة الماء مع فرض الانحصاء، إجماعا
محصلا ومنقولا في الخلاف والمعتبر وغيرهما كما عن الغنية والتذكرة ونهاية الأحكام
(و) بغير خلاف كما في السرائر، فحينئذ (إن لم يجد غيرهما تيمم) كالنجس المعين،
ويدل عليه مضافا إلى خبر سماعة (1) عن الصادق (عليه السلام): " في رجل معه إناءآن
وقع في أحدهما قذر ولا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء غيرهما قال يهريقهما ويتيمم "
وموثقة عمار (2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سئل عن رجل معه إناءآن
فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء غيره قال:
يهريقهما جميعا، ويتيمم " ونسبهما في المعتبر إلى عمل الأصحاب، وفي المنتهى أن
الأصحاب تلقت هذين الحديثين بالقبول، واستدل له مع ذلك كله في المعتبر بأن يقين
الطهارة معارض بيقين النجاسة، ولا رجحان، فيتحقق المنع، وعن المختلف الاستدلال
له أيضا بأن اجتناب النجس واجب، ولا يتم إلا باجتنابهما، وما لا يتم الواجب إلا
به واجب، وهذا منهما قاض بجريان الحكم فيهما على القاعدة من غير احتياج إلى دليل
خاص، فيكون الدليل حينئذ مؤكدا، وربما ظهر من غيرهما خلافه.
فكان المهم حينئذ تنقيح القاعدة لينتفع بها في غير المقام، فنقول الإناء الطاهر

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1
290

إما أن يشتبه بإناء معلوم النجاسة سابقا، أو يشتبه بالنجس من جهة عدم العلم بوقوع
النجاسة في أيهما، ومقتضى إطلاق النص والفتوى عدم الفرق بين ما يكون معلوم النجاسة
واشتبه، أو وقع الاشتباه من غير سبق علم بالنجاسة، وعلى كل تقدير فالاجتناب
فيهما على القاعدة، أما الأول فتقرير القاعدة فيه على وجهين، وإن كان مالهما إلى واحد.
(الأول) أن يقال: إن التكليف باجتناب الإناء النجس قد تحقق قطعا،
لكون الفرض معلوميته سابقا، فاستصحاب بقاء التكليف حينئذ به قاض بوجوده الآن،
ولا طريق لامتثاله إلا باجتنابهما معا، فهو حينئذ من قبيل قول الشارع لا تضرب أحد
الشخصين وكان معينا عنده غير معين عند السامع.
(الثاني) أن يقال أن الشارع كلفنا باجتناب النجس، والفرض أن أحدهما
نجس، فنحن مكلفون باجتنابه الآن، ففي الحقيقة صار التكليف باجتناب فرد واحد
منهما معين غير معلوم عندنا، فيجب حينئذ اجتنابهما لأنه لا طريق لامتثال هذا الخطاب
إلا اجتنابهما، لا يقال: إن أصل البراءة يعارض ما ذكرت، لأنا نقول إن أريد
به التمسك بالبراءة عنهما جميعا بتقريب رده إلى شبهة الحكم فيقال إن هذا موضوع
جديد لا نعرف حكمه عند الشارع، ففيه أنه يرجع إلى دعوى أن الاشتباه العارضي
للشخص مسقط للتكليف الناشئ عن صفة لا حقة للعين لم يعلم اضمحلالها بالاشتباه،
وهو موقوف على دليل غير أصل البراءة، لانقطاعه بما دل على بقاء التكليف الأول
من الاستصحاب وغيره، وما يقال: من أنا نمنع حرمته ونجاسته ما لم نعلم حرمته ونجاسة،
إذ اتصاف الأعيان بالحل والحرمة والطهارة والنجاسة إنما يرجع إلى ملاحظة فعل المكلف،
وإن كانت الحكمة الباعثة للحكم كامنة في تلك الأعيان فالأعيان وإن اتصفت بذاتها
من جهة تلك الحكمة بالحرام والنجس مثلا من دونه تقييد بالعلم والجهل، ولكن اتصافها
بهما من جهة ملاحظة إضافة فعل المكلف إليها لا يكون إلا في صورة العلم يدفعه أنه
على تقدير تسليمه إن أريد بالعلم العلم بالخصوص فدعوى توقف الاتصاف بالحرمة بالنسبة
291

إلى فعل المكلف عليه ممنوعة، وإن أريد ولو إجمالا مع إمكان الامتثال فهو مسلم،
والمقام منه، وما يقال بالمعارضة بالمشتبه الغير المحصور فضعيف، إذ قد عرفت أنه
لا مانع منه بعد قيام الدليل عليه، وقد قام فيه من جهة أدلة العسر والحرج القاضية بعدم
مشروعية ما كان فيه ذلك، وحينئذ يسقط الحكم التكليفي، ويبقى الحكم الوضعي
من الفساد ونحوه، مع احتمال القول بسقوطه، لكنه بعيد وإن أريد بأصل البراءة
إنما هو البراءة عن واحد منهما فللمكلف أن يختار أيهما شاء ففيه أنه لا معنى له بعد
ما عرفت من بقاء التكليف بالفرد الغير المعين عند المكلف، للاستصحاب أو شمول
الدليل، مع أن براءة الذمة في واحد منهما كانت منتقضة، إذ الفرض أنه نجس معلوم
سابقا أو أريد بالأصل فيها بمعنى الاستصحاب، وإن أريد به القاعدة أو الظاهر -
فهما لا يعارضان ما ذكرنا من بقاء التكليف، وما يقال: إنا نتمسك بالاستصحاب أي
استصحاب الطهارة إذ الفرض أن حدهما طاهر يدفعه أنه لا معنى للاستصحاب
في خصوص المقام، لأنه إن أريد به استصحاب طهارته على الاجمال فهو حق ولا يفيده،
بل هو غير محتاج إليه، وإن أريد به التمسك في خصوص كل واحد منها فهو لا معنى له،
لعدم معرفة حصول الأمر المستصحب فيه حتى يستصحب،
(فإن قلت): أي مانع من الاستصحاب مع كون الإناء الذي كنت تعلم
نجاسته سابقا مسبوقا أيضا بطهارة، فللمتمسك حينئذ أن يقول في طهارة كل واحد منهما
إن هذا كان طاهرا، ولم أعلم الآن فيه بالنجاسة، فليكن باقيا على الطهارة الأولى،
(قلت): لا يخفى على من لاحظ أدلة الاستصحاب وموارده أن محله الشئ الذي
يعم حاله سابقا إلى آن حصول الشك فيتمسك فيه حينئذ باستصحاب تلك الحالة المعلومة
وقت الشك، وهذا المعنى مفقود، وذلك لأن الأرض أن الحال الأول الذي
كان قبل حصول الاشتباه غير معلوم لنا في كل واحد منهما، ومعرفة الحال الذي قبل
الحال السابق على الاشتباه غير مفيد بعد تخلل هذه الفترة، فلا يسوغ حينئذ أن يقال:
292

هذا كان طاهرا، لأنه إن أريد به الكون قبل عروض الاشتباه فهو لا معنى له، إذ
ليس معلوما أنه طاهر، وإن أريد به الزمان السابق على ذلك فلا معنى لاستصحابه
كما عرفت.
(فإن قلت) إن قوله (عليه السلام): (1) " لا تنقض اليقين إلا بيقين مثله "
شامل لمحل النزاع، فإنك نقضت اليقين وإن كان سابقا بغير اليقين، (قلت) لا يخفى أن
معنى الحديث أنك لا تنقض اليقين الذي لولا عروض هذا الشك لبقي على هذا المتيقن،
وفيما نحن فيه ليس كذلك، فإنه لولا هذا الاشتباه لم يعلم كونه على هذا اليقين،
إذ قد يكون هو النجس، والحاصل أن المعنى أن تيقن الطهارة مثلا إلى حصول الشك
لا تنقضه بالشك، بل ابق على مقتضى اليقين الأول إلى أن يجيئك يقين مثله ينقضه،
لا يقال إن ما ذكرت ليس أولى من أن يقال أن معنى الرواية أنه لا ينقض حكم اليقين
الأول بسبب الشك، بل هذا أولى، إذ ليس المراد نقض اليقين نفسه، بل المراد
نقض حكمه، ضرورة أن اليقين نفسه يرتفع بالشك، لأنا نقول إن هذا أيضا لا ينافي
ما ذكرنا، وذلك لأنا لا نريد بعدم نقض اليقين عدم ارتفاع نفس اليقين، بل هو
قد ارتفع قطعا، بل نريد عدم نقض الأحكام التي تترتب على الموضوع بسببه، لكن
المعنى أنك لا تنقض أحكام اليقين بكل ما يزيل اليقين إلا بالمزيل الذي هو اليقين
بالنقيض، وأما باقي المزيلات له فلا تنقض أحكامه بها، وهو ظاهر في أنه لولا هذا
المزيل لكان باقيا، لأن الفرض أن نقضه إنما كان به، وهذا المعنى مفقود فيما نحن فيه،
لأنه على تقدير فرض نفي الاشتباه لم يعلم أنه الظاهر، على أنه ربما يدعى ظهور قوله
(عليه السلام) لا تنقض اليقين أبدا بالشك فيما شك في زوال وصفه نفسه، لا فيما إذا
اشتبه بالزائل فتأمل جدا جيدا. على أنا إن قلنا بجريان الاستصحاب فيما ذكرنا من بقاء

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء حديث - 1 - وفيه (ولا
تنقض اليقين أبدا بالشك وإنما تنقضه بيقين آخر).
293

التكليف باجتناب النجس هنا أي حال الاشتباه، فهو قاطع للاستصحاب المذكور، لأن
الخطاب بالمجمل مع تيسر الامتثال يقبحون أهل العرف معه تناول أحدهما، ويعدونه
في قسم العصاة وإلا فكل مقدمة لواجب هي مباح في نفسها أو مندوبة أو مكروهة أو
غير ذلك، فلو فرضنا أن المقدمة يعارضها استصحاب أو الإباحة نفسها لم تبق مقدمة
لواجب نقول بوجوبها.
ومن هنا تعرف أن القسم الثاني وهو الذي تقع في أحدهما النجاسة ولم يعلم في أيهما
وإن قلنا بجريان الاستصحاب فيه لكن باب المقدمة فيه فيقطعه، لكونها من قسم
الخطابات، نعم لا يتم ذلك إلا على القول بعدم الوجوب، فلا مقدمة حينئذ لكن قد
عرفت ما فيه وما في الاستدلال عليه بأصالة البراءة ونحوها، ومن المعلوم عدم جريان
ما ذكرنا من الاستصحاب فيما لو كان أحد الإنائين بولا والآخر ماء.
(فإن قلت) نحن لا نتمسك في شئ من ذلك بالاستصحاب ولا بأصل البراءة،
بل نتمسك فيما يرجع إلى الطهارة والنجاسة بقوله (عليه السلام) (1): " كل شئ
نظيف حتى تعلم أنه قذر " وقوله (عليه السلام) (2): " كل ماء طاهر حتى تعلم أنه نجس "
وفيما يرجع إلى الحل والحرمة بقوله (عليه السلام) (3): " كل شئ يكون فيه حلال
وحرام فهو حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه " (قلت): هو مع كونه ليس
جاريا في سائر الأشياء مثل الأنكحة ونحوها مما لا تجري فيه هذه العمومات، ومناف
لما قد عرفت أن لفظ الحرام والنجس يراد بهما الواقع، لعدم دخول العلم في مفهوم
اللفظ، ولترتب الفساد ونحوه عليه - فيه إنا نمنع شمولها لمثل المقام، وذلك لظهور قوله

(1) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب النجاسات - حديث 4
(2) روى صاحب الوسائل " كل ماء طاهر إلا ما علمت أنه قذر " في الباب - 1 -
من أبواب الماء المطلق حديث - 2 - ولم نجد " كل ماء طاهر حتى تعلم أنه نجس "
(3) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب ما يكتسب به حديث 1 - من كتاب التجارة
294

(عليه السلام): " كل شئ يكون فيه حلال وحرام " إلى آخره في إرادة أن الشئ الكلي
الذي يكون منه حلال وحرام بمعنى أنه لا تحصل الحرمة بمجرد الاحتمال وهو في الشبهة
الغير المحصورة ويكشف عن ذلك قوله (عليه السلام): في رواية مسعدة بنه صدقة (2) عن
أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كل شئ هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه
فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، ومملوك
عندك وهو حر قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهرا، أو إمرة تحت وهي أختك أو
رضيعتك. والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة " فانظر
كيف كشف (عليه السلام) أصل المراد بقول كل شئ إلى آخره فيكون مراده حينئذ بيان
أنه لا معنى لحرمة الأشياء بمجرد الاحتمال، لا أنه إن كان هناك عبدان أحدهما تعلم أنه
حر والآخر مملوك، أو إن امرأتين أحدهما أجنبية والأخرى أختك فهو حلال أيضا،
ومنها رواية عبد الله بن سليمان (2) قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) " عن الجبن
فقال: سألتني عن طعام يعجبني، ثم أعطي درهما، فقال: يا غلام ابتع لنا
جبنا، ثم دعى بالغداء فتغدينا، وأتى الجبن فأكلنا، فلما فرغنا قلت: ما تقول في الجبن؟
قال: أو لم ترني آكله، قلت: ولكن أحب أن أسمعه منك، فقال: سأخبرك عن
الجبن وغيره، كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه
فتدعه " فإنه ظاهر في إرادة حكم الجبن وغيره مما مثله، ومقصوده بكون مثل الجبن
فيه حلال أنه يكون منه حلال ومنه حرام، لا أن المقصود منه أنه إذا كان جبنان أحدهما
تعلم حرمته والآخر حليته فهو حلال، إلى آخره كلا بل هو ظاهر فيما ذكرنا، ومثل
ذلك رواية ضريس (3) قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) " عن السمن والجبن

(1) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب ما يكتسب به حديث 4 من كتاب التجارة
(2) الوسائل - الباب - 61 - من أبواب الأطعمة المباحة حديث - 1 - مع الاختلاف
(3) الوسائل - الباب - 64 - من أبواب الأطعمة المحرمة حديث 1 مع الاختلاف
295

في أرض المشركين والروم أنأكله؟ فقال: ما علمت أنه خلطه الحرام فلا تأكل، وما
لم تعلم فكله حتى تعلم أنه حرام " وما نقل عن كتاب المحاسن عن أبي الجارود (1) قال:
سألت أبا جعفر (عليه السلام) " عن الجبن فقلت: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة،
فقال من أجل أنه كان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض، فما علمت منه
أنه ميتة فلا تأكله، وما لم تعلم فاشتره وبعه وكله، والله إني لأعترض السوق فأشتري
منه اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البرية وهذا السودان "
بل جميع هذه الروايات ظاهرة في المأخوذ من يد المسلمين، والمشتري من أسواقهم
والشبه الغير المحصورة ونحو ذلك فأين هذه الأخبار والاستدلال على نحو المقام، والظاهر
أن روايات الطهارة خارجة هذا المخرج، أي بمعنى أن الشئ لا ينجس بمجرد احتمال
النجاسة، هذا كلام يقال: مع عدم حضور الشبهة المحصورة في الذهن، وخطورها
بالبال، بل المقصود أن الأشياء كلها على الطهارة حتى تعرف عروض النجاسة، على أنه
قد يدعى أن مثل ذلك في الشبهة المحصورة نوع من العلم، فإنه يقال عالم بالنجس وعالم
بالحرام بل يقال إنه عالم به بعينه وأنه لم يدعه، على أنا لنا كلاما في قوله (عليه السلام)
كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر في أنه هل المراد منها شبهة الحكم أو مستصحب الطهارة،
وعليهما لا تنافي المطلوب، لعدم الشبهة في الحكم في المقام علي الأول، ولا تزيد على
الاستصحاب على التقدير الثاني، وقد عرفت عدم جريانه في بعض الصور على وجه،
وأنه لا يعارض باب المقدمة ودعوى ظهور الرواية في مشتبه الموضوع الذي عين مقامنا
كالإنائين ونحوهما فيها ما لا يخفى، واحتمال شمولها للجميع لا يخلو من إشكال، من جهة
أنه حينئذ يراد بالعلم بالنسبة إلى مشتبه الحكم وصول الدليل المعتبر شرعا، وفي غيره اليقين،
أو ما يقوم مقامه، وإرادة القدر المشترك مجاز محتاج إلى قرينة، ولنا أيضا في قوله
الجواهر 37

(1) الوسائل - الباب - 61 - من أبواب الأطعمة المباحة حديث 5 مع اختلاف
في الألفاظ.
296

(عليه السلام) " كل شئ يكون فيه حلال وحرام " كلام ليس هذا محل ذكره.
ويمكن أن يقال إن جريان الاستصحاب والعمومات في كل منهما معارض بجريانه
في الآخر، والعمل به فيهما معا مقطوع بعدمه، والقول بالتخيير أي تخيير المكلف
في واحد منهما لا دليل عليه، وليس ذلك من قبيل تعارض الروايات، وبتقرير آخر
بأنهما معا مصداق دليل الاستصحاب، وهو لا تنقض اليقين، مع القطع بالبطلان
في واحد، ولا دليل أيضا على التخيير، وكذا العمومات، فإنه لا شك في صدقها
على كل واحد منهما في كل آن حكمي، مع القطع ببطلانها في واحد، والقول بالتخيير
المذكور سابقا لا دليل عليه، وكان ما ذكرنا هو الذي أشار إليه المحقق (رحمه الله)
في المعتبر بقوله في الاستدلال على المطلوب بأن يقين الطهارة معارض بيقين النجاسة
ولا رجحان، فيتحقق المنع، وقد يظهر ما ذكرنا من غير المحقق (رحمه الله) والحاصل
أنه لا معنى للتمسك بالعموم والاستصحاب، للقطع بالبطلان في واحد وهو غير معين،
والقول بالتخيير لا دليل عليه، والقول بجواز استعمالهما تدريجا ربما يقطع بعدمه، ولذلك
لم يلتزمه المخالف في المقام، فتأمل جدا جيدا والله أعلم.
وفصل المقام أنا نقول إنه من جميع ما ذكرنا ومن النظر في كلام الأصحاب
في هذه المسألة وفي مسألة الثوبين الذين اشتبه الطاهر منهما بالآخر، وفي محل السجود
إذا اشتبه الطاهر منه بالنجس يكاد يقطع الناظر في كلامهم أنه لا إشكال عندهم في جريان
هذه القاعدة، وعدم الالتفات لهذه العمومات، فإن الشيخ (رحمه الله) في الخلاف
في مسألة الثوبين قرر أن القاعدة تقتضي وجوب الصلاة، ويظهر منه أن مسألة الإنائين
خرجت عن قاعدة وجوب الوضوء بهما مع التكرير بالاجماع، وابن إدريس في السرائر
في مسألة الثوبين لما لم يلتفت إلى الأخبار الواردة (1) بنى على الصلاة عريانا، ولم يتمسك
بجواز الصلاة في أحد الثوبين، تمسكا بهذه العمومات، ومثله المنقول عن ابن سعيد،

(1) الوسائل الباب - 64 - والمستدرك الباب - 39 - من أبواب النجاسات.
297

وكذلك العلامة والمحقق في كثير من المقامات، والحاصل إنا لم نسمع أحدا تأمل في هذه
القاعدة من أصحابنا، بل يقررونها، ويذكرون الأخبار الخاصة حيث تكون مؤيدة لها،
وإن وقع لهم كلام في كيفية تقريرها، ولكنهم مشتركون في الاضراب عن هذه
العمومات في الطهارة والحل والحرمة، بل عن بعضهم الالتجاء إلى أخبار القرعة (1)
دونها، مع كونها بمرأى منهم ومسمع، بحيث لا يكاد تخفى على أطفالهم فضلا عن
علمائهم، بل لم يذكروا أحدا من العامة احتمالا فضلا عن الخاصة، بل أوجبوا التحري
ونحوه إلى أن ظهر مولانا المقدس الأردبيلي (رحمه الله) فأظهر هذا الشك، كما هي
عادته في كثير من المقامات، وتبعه عليه بعض المتأخرين في بعض المقامات، وخالف
نفسه فيها في آخر. ولا يمكن الدعوى على الأصحاب أنهم خالفوا هذه العمومات في
مقامات خاصة لأدلة فيها، وكيف مع أنهم ينادون بها، ويصرحون في مقام الأخبار
وغيرها، ولذلك يتعدون عن غير مورد الأخبار كما في مسألة الإنائين، فإنه ما ورد فيها
إلا قولهم (عليهم السلام) في خصوص بعض الروايات التي لا يعمل عليها بعضهم من جهة
ما في سندها، وكونها أخبارا آحادا عند آخرين: " أنه يهريقهما ويتيمم " ومع ذلك
تعدوا إلى سائر الاستعمالات، وكيف يدعى عليهم ذلك وقد عرفت أن بعضهم يترك
العمل بالأخبار الخاصة. ويلتجئ إليها كابن إدريس في حكم الثوبين ونحوه، والحاصل
السارد لكلام الأصحاب وأخبار الأئمة (عليهم السلام) فإنه ما اتفق أنه سئلوا يوما
عن المحصور وأجابوا بما يوافق هذه العمومات يكاد يقف على مرتبة القطع بعدم جريانها
في الشبهة المحصورة، مع أن بعض متأخري المتأخرين كصاحب الحدائق جعل ذلك
قاعدة مستفادة من تتبع الروايات، لا أقل من أن يكون جميع ما ذكرنا يورث الشك
في إرادة هذا الفرد من هذه العمومات، فتبقى القاعدة سليمة، فتكون هذه الأخبار
جعلت النجس ما علم نجاسته في غير المقام. ولا ضير في ذلك، والحاصل المناقشة في هذا

(1) الوسائل الباب - 4 - من أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم من كتاب الميراث
298

الحكم لا سيما إذا كان من جهة أصل البراءة ونحوه يكاد يكون من الخرافات، والله أعلم.
وهناك أمور أخر وقرائن تقضي بما ذكرنا لا يتحملها المقام.
بقي هنا فوائد (منها) أنه ينبغي أن يعلم أنه لا إشكال في وجوب المقدمة
حيث تكون مباحة أو مكروهة أو مندوبة، وأما حيث تكون محرمة وواجبة أي
يتعارض فيه مقدمة الواجب ومقدمة الحرام كما في مقامنا ونحوه من الشبه المحصورة مع
عدم وجود غيرها فإنه من حيث النهي عن الوضوء بالماء النجس يجب اجتنابه الفردين،
ومن حيث وجوب الوضوء بالماء الطاهر يجب الوضوء بهما معا، ومثل ذلك الماء المشتبه
بالمضاف والثوب المشتبه بالنجس، فالظاهر أن المحرم إن كانت حرمته من جهة التشريع كما
إذ حكم بها من عدم الأمر بها، أو من جهة نهي علم فيه إرادة التشريع، أو نحو ذلك
فالذي يقتضيه النظر الحكم بالوجوب لارتفاع الحرمة حينئذ بسبب ارتفاع منشأها إذ تصور
التشريع فيما جئ به لاحتمال تحقق إرادة السيد غير معقول، وكيف مع أن أكثر
مقامات الاحتياط الذي أمر به في السنة وشهد العقل بحسنه من هذا القبيل، وأما إذا
كانت الحرمة ذاتية فالمتجه فيه عكس الأول فتقدم مراعاة الحرمة على الوجوب كما
في نظائره مما تعارض فيه الواجب والمحرم، ويشهد له التتبع للأخبار وكلام الأصحاب،
بل قد ينتهي به ذلك إلى القطع بما قلنا، لكن الظاهر أن ذلك من حيث الحرمة والوجوب،
وإلا فقد يعرض للواجب من الجهات ما يوجب مراعاته، ولعل ما ذكره الأصحاب
من حرمة استعمال الإنائين الطاهر أحدهما، ووجوب الوضوء بالإنائين المضاف أحدهما
لكون الأول حرمته ذاتية، والآخر تشريعية، ومثله وجوب الصلاة بالثوبين، لكون
الحرمة فيه تشريعية نعم ربما يقع كلام بينهم في بعض الأشياء، وكأنه ينحل إلى النزاع
في أن حرمته تشريعية أو ذاتية، فمن استظهر الأول قدم مراعاة الواجب، ومن
استظهر الثاني قدم مراعاة المحرم، وقد سلف لك أن الأصل في كل منهي عنه أن
يكون محرما ذاتيا، لا تشريعيا حتى يعلم، وربما تدخل مسألة الوضوء في ذلك، لوجود النهي
299

في الأخبار عن الوضوء بالماء القذر وإن كان للنظر فيه مجال، وأما ما يقال من وجوب
مراعاة جهة الحرمة على كل حال إذا كان الواجب من العبادات، لعدم التمكن
منه، لأن الجزم بالنية واجب، ومعه لا جزم، والمرددة ليست نية، ومن هنا قال
بعضهم في مثل الصلاة بالثوبين أنه لا يجوز، وينتقل فرضه للصلاة عريانا، وينبغي أن
يلتزم به بالنسبة للماء المشتبه بالمضاف ونحوه، ففيه مع أن مثل ذلك جائز للاحتياط،
أنه متمكن من الجزم بالنية لوجوبهما عليه وإن كان أحدهما أصليا والآخر مقدمة، فإنه
وصف لا دخل له بالنسبة للجزم، ودعوى وجوب الجزم بخصوص المكلف به ممنوعة،
إذ لا دليل يقتضيه بل الدليل يقتضي عدمه.
(ومنها) أنه لو انكفى أحد الإنائين فهل يتغير الحكم الأول أو لا؟ والظاهر
أن الحكم عندهم كالأول، ولم أعثر على وجود مخالف من أصحابنا، ولا نقل عن أحد
منهم، نعم نقل عن بعض العامة أنه جوز الطهارة لأصل الطهارة، ورده في كشف
اللثام بأنه لو تم لجاز بأيهما أريد انتهى. ويمكن أن يقال: بالفرق بين المقامين، وذلك
لحصول المكلف به باجتنابه يقينا في الأول، فيجب الاجتناب للمقدمة، بخلاف الثاني،
فإنه لا يقين في حصول المكلف به، لا يقال: إنه مكلف باجتناب النجس في الواقع،
ولا يقطع بامتثال هذا التكليف إلا باجتناب هذا الفرد، قلت: لو تم لوجب اجتناب
جميع ما احتمل حرمته، ووجب الاتيان بجميع ما احتمل وجوبه، لأن كل انسان
مكلف بأن يأتي بالواجب، ويجتنب المحرم، ولا يتم ذلك إلا بأتيان جميع ما احتمل
ذلك، وهو واضح الفساد، نعم إن الذي نوجبه من باب المقدمة إنما هو بعد شغل
الذمة يقينا بفرد الكلي لا التكليف بنفس الكلي الذي يحتمل أن يكون هذا فردا له.
وما يقال: إن ما ذكرت خرج بالدليل الدال على أن المراد بفعل الواجب أي ما بلغكم وجوبه،
وباجتناب المحرم أي ما بلغكم حرمته، بخلاف ما نحن فيه، لأنا نقول،: مع الغض عما
300

فيه لو سلم ذلك في الأحكام لم يسلم في الموضوع، كالجبن المحتمل حرمته، والعبد المحتمل
حريته، ونحو ذلك.
(فإن قلت) أن ذلك كله يرجع إلى الشبهة الغير المحصورة، وهي غير واجبة
الاجتناب، بخلاف ما نحن فيه، (قلت) أيضا نقول هنا، فإنه بانكفاء أحد الإنائين
رجع الموجود إلى كونه شبهة غير محصورة، لأوله إلى كونه نجسا أو غير نجس، فلا
فرق بينه وبين الجبن المحتمل حرمته. (فإن قلت) هذا الإناء بنفسه كان واجب
الاجتناب إما للمقدمة أو للأصل، فما الذي أزال هذا الوجوب، (قلت): الذي أزاله
هو زوال ما أوجبه، وهو اليقين بحصول المكلف به الشخصي، وقد زال فزال ذلك
التكليف تبعا له.
(فإن قلت) كلام الأصحاب متفق على خلاف ما ذكرت (قلت):
لعلهم أخذوا ذلك من ظاهر أخبار المقام الآمرة بالإراقة الشاملة للإراقة الدفعية والتدريجية،
وبعد ذلك كله فالانصاف أنه فرق بين ذلك وبين ما ذكرنا من أقسام الشبهة الغير
المحصورة، وذلك لدوران الجبن الخاص بينه وبين سائر الأفراد منه، بخلاف ما نحن
فيه، فإنه دائر بين أن يكون هذا النجس أو الذي انكفى، فهو وإن لم يعلم وجود
المكلف به شخصا، لكن التكليف بالكلي موجود ولا يحصل اليقين بامتثاله إلا بذلك،
ولا عسر ولا حرج فيه، فيشك أيضا في شمول الأدلة له أيضا، كما ذكرنا سابقا،
ومن هنا ينقدح طريق آخر في تقرير المقدمة غير الطريقين السابقين، بأن نقول أن
الشارع كلفه باجتناب النجس منهما، وكان مبهما بالنسبة إليه، ولا يتم اليقين بامتثال
هذا التكليف إلا باجتناب الباقي منهما، ولعله يرشد إلى ذلك الأخبار الآمرة (1)
بوجوب غسل الثوب جميعه عند العلم بحصول النجاسة فيه وعدم العلم بمكانها خصوصا،

(1) الوسائل الباب - 7 - من أبواب النجاسات
301

فإنها لم تكتف بغسل بعض يحتمل كونه هو النجس، مع أنه بذلك ينقطع باب المقدمة،
فتأمل جيدا جدا.
ولعلك بما ذكرنا ينكشف لك الكلام فيما لو اشتبه أحد الإنائين المشتبهين بمتيقن
الطهارة، فإنه صرح العلامة في المنتهى بوجوب الاجتناب فيه، وما عن صاحب المعالم
من الاعتراض عليه من أن ذلك خارج عن النص ومحل الوفاق، فلا بد له من دليل فيه
ما لا يخفى بعد ما سمعت ما تقدم، وكأنه هذا الكلام منه بناء على أن مسألة الإنائين
خارجة بالنص لا من المقدمة، فلذلك اعترض بما سمعت، وقد عرفت ما فيه، ولعله
يقرب مما ذكرنا من المسألة أيضا ما لو لاقى أحد الإنائين شيئا آخر كالثوب أو البدن،
والمشهور بين الأصحاب الحكم بطهارة الملاقي، لاستصحاب طهارته، وعن العلامة
في المختلف وجوب اجتنابه، وربما بناه بعض المتأخرين على أنه يظهر من الأدلة أن
المحصور يعامل معاملة النجس وهو بعيد، نعم لعل ما ذكره (رحمه الله) مبني على ما
تقدمت الإشارة منا إليه من جريان المقدمة فيه، وذلك لأنه يكون حينئذ مكلفا باجتناب
النجس، وهو دائر بين أن يكون هذا الإناء والثوب أو الإناء الآخر والثوب، أو هذا
الإناء وحده أو الآخر وحده، فيجب ترك الجميع من باب المقدمة، وبذلك ينقطع
الاستصحاب، كما أنقطع الاستصحاب في غيره، إذ لا معنى للقول بخصوص الحكم فيما
إذا كان الاشتباه في الإناءات أي في متحد النوع دون غيره، فإن من اليقين جريان
المقدمة فيما لو وقعت في الإناء أو الثوب أو البدن ونحو ذلك، ولصاحب الحدائق
في المقام كلام واضح الفساد، فراجع وتأمل.
نعم لقائل أن يقول: وهو الأقوى في النظر، إنك قد عرفت أن العمومات
شاملة لجميع ذلك كله، وبها انقطعت القاعدة، قصارى ما هناك أنه وقع لنا الشك في شمولها
للشبهة المحصورة التي يقع الاشتباه فيه من حيث وقوع النجاسة، لا من أجل ما عرفت
من إعراض الأصحاب عن التمسك بتلك العمومات فيها في مقامات متعددة من غير نظر
302

لخصوص الأخبار، بل ربما أعرض عن الأخبار الخاصة وبنى عليها، كما سمعت عن
ابن إدريس وغيره في الثوبين، وعرفت أنهم تعدوا لغير موارد الأخبار الخاصة بكثير،
فلذلك حكمنا هذه القاعدة على تلك العمومات، فينبغي أن نقتصر على ما حصل لنا الشك
فيه خاصة، وهو ما عرفت من نفس أفراد الشبهة المحصورة لاما لاقاها من الأجسام
الطاهرة، لأنا لم نعثر على كلام لغير العلامة (رحمه الله) ممن تقدمه يقتضي وجوب
الاجتناب، بل المعروف بين المتأخرين والذي عليه مشائخ عصرنا ومن قاربه إنما هو
العدم، فتبقى العمومات سالمة عن ما يقتضي الشك في تناولها لذلك، سيما مع معروفيته
من مذاق الشرع بالنسبة للطهارة والنجاسة، أو يقال: إن اليقين الاجمالي لا يرفع
الاستصحاب المنقح موضوعه كما في الفرض، بخلافه في الإنائين اللذين لا ترجيح لأحدهما
على الآخر في جريان الاستصحاب، لما عرفته سابقا، وتوهم أن الاشتباه الذي كان
في الإنائين يلحق الملاقي لأحدهما واضح الفساد، ولعل هذا أقوى من الأول
في الاستدلال، بل يمكن كونه هو مبنى كلام الأصحاب، والله العالم، وهو الذي
أفتي به وأعمل عليه إن شاء الله.
وقد يقال في التخلص عن وجوب اجتناب الملاقي للمشتبه برجوعه إلى الشبهة الغير
المحصورة، ويكون حاله حال محتمل النجاسة، فإنه لا إشكال في عدم وجوب اجتنابه،
وإن كان التكليف بالنجس لا يتم إلا به، لكن لما كانت أفراد النجس غير محصورة
لم يجب اجتناب المحتمل، وهذا كذلك أيضا، فإن إصابة المشتبه له صيرته محتمل
النجاسة، وكون هذا الاحتمال إنما نشأ من إصابة متنجس يجب اجتنابه للمقدمة لا يصير
الملاقي كذلك، وكيف مع أنه لو صدر الاحتمال من وجوب المجتنب على اليقين لما وجب
الاجتناب، فهذا أولى، مثلا لو كان الإناء آن النجس منهما معلوم ووقعت قطرة
لا تعلمها من أي الإنائين فإنه لا شك في عدم نجاسة الثوب بها، وهو معنى قوله
303

(عليه السلام): (1) " ما أبالي أبول أصابني أم ماء إذا كنت لا أدري " وما يقال
من أن اجتناب النجس لا يتم إلا بذلك فيه أنه جار في محتمل التنجس بنجاسة خاصة
معلومة، كالبول المخصوص ونحوه فتأمل.
(فإن قلت) أنه بناء على ما ذكرت أولا من وجوب الاجتناب ينبغي أن تلتزم
في مثل ما إذا وقع الشك في إصابة النجاسة البدن مثلا، أو الأرض بمعنى قطعة منها
وإن كانت متكثرة الأجزاء إذا لوحظ كل جزء منها، مع أن الأخبار تنادي بفساد
ذلك، وكيف يمكن دعوى أنه عند الشك في إصابة النجاسة له يجب عليه تطهير ثيابه
أو بدنه واجتناب تلك القطعة من السجود عليها ونحو ذلك، قلت: ربما التزم به بعضهم،
ولكن الانصاف أنه مستبعد، نعم يمكن النزاع في أن هذا من الشبهة المحصورة أولا،
وهو مبني على تحقيقها، أو يقال كما تقدم سابقا من عدم حصول الشك بالنسبة للعمومات
في مثل ذلك، فتبقى شاملة فتأمل.
(ومنها) أن الظاهر أنه لا تجب الإراقة في جواز التيمم، ولا ينافي ذلك
ظاهر الآية (2) المتضمن لاشتراط التيمم بعدم وجدان الماء، لأن المراد منه عدم التمكن
من استعماله ولو شرعا، والأمر في الخبرين بالإراقة لعله كناية عن عدم جواز الاستعمال،
بل هو الظاهر منه، فما عن المقنعة والنهاية وظاهر الصدوقين من اشتراط جواز التيمم
بالإراقة حتى يتحقق شرط التيمم وهو فقدان الماء ضعيف، لما عرفت، بل قد تحرم
الإراقة عند خوف العطش ونحوه، ولا يخفى عليك أنه بعد ما عرفت من حرمة استعمال
الإنائين لا إشكال في عدم صحة الوضوء بهما وإن كرر ذلك بحيث تطهر بأحدهما أولا،
ثم غسل أعضاءه بالآخر، وتطهر به ثانيا، فما عن العلامة من احتمال وجوب ذلك
عليه تحصيلا للطهارة اليقينية عجيب في المقام، لما عرفت من الأخبار والاجماع. وإن
الجواهر 38

(1) الوسائل - الباب - 37 - من أبواب النجاسات حديث 5
(2) سورة النساء آية - 46 - وفي سورة المائدة آية 9
304

سلمنا إمكانه من جهة القاعدة بناء على أن الوضوء بالماء النجس حرمته تشريعية لا ذاتية،
لا يقال: إن حرمة الاستعمال للمقدمة لا يقضي بفساد الوضوء، لكونها حرمة خارجية
عنه، لأنا نقول: بعد تعليق الحرمة باستعمالهما وإن كان واحد منهما بالأصل والآخر
للمقدمة لا يتمكن من نية القربة، نعم قد يقال: بالصحة في صورة يتصور وقوعها
كنسيان الاشتباه ونحوه، مع إمكان منعه، لظهور الروايات (1) في انقلاب التكليف،
وأنه كالمتضرر باستعمال الماء، وإن كان الأقوى الأول.
ولو غسل بهما تدريجا نجاسة فقد يتخيل في بادي النظر بقاء تلك النجاسة،
للاستصحاب مع الشك في المزيل، وفيه إنا نقطع بزوال تلك النجاسة، لأنه إما أن
يكون الأول طاهرا، وقد زالت به حينئذ، أو الثاني فيزول ما كان من النجاسة
الأولى وما جاء من جهة الإناء، والتمسك باستصحاب مطلق النجاسة معارض بمثله بالنسبة
للطهارة، كأن يقال إن النجاسة قد زالت يقينا، ولا نعلم عودها، كما في كل
استصحاب للجنس مع عدم معرفة الشخص، فالمتجه حينئذ عدم الحكم بأحدهما من جهته،
كما لو تيقن الطهارة والحدث وشك في السابق منهما مع حفظه للحالة السابقة على ذلك،
وكذا الحكم فيما لو أصاب أحدهما شيئا وغسله بالثاني ثم غسله بالأول، أو غسل شيئا
طاهرا بهما على وجه التكرار بحيث يرتفع اليقين بالنجاسة الحاصلة بملاقات كل منهما مع
اشتمال الغسل على شرائط التطهير، إلا أن التحقيق في الفرق بينهما أنه لا أصل ولا
عموم يرجع إليه بالنسبة للحدث والطهارة، فاتجه وجوب تجديدها لكل ما كانت شرطا
فيه، دون ما كان الحدث مانعا منه، بخلافه هنا للعمومات القاضية بطهارة كل ما لا يعلم
نجاسته، كقوله (عليه السلام): (2) " كل شئ لك طاهر حتى تعلم أنه قذر " ونحوه، فاتجه

(1) الوسائل الباب - 12 - من أبواب الماء المطلق والباب - 4 - من أبواب التيمم
والمستدرك - الباب - 3 - من أبواب التيمم
(2) المستدرك الباب - 29 - من أبواب النجاسات حديث 4
305

حينئذ الحكم بالطهارة من الخبث في جميع ما ذكرنا، اللهم إلا أن يقال: إنه باعتبار اعتوار
الطهارة والنجاسة عليه يكون من قبيل الشبهة المحصورة بالنظر للوقتين، فيجب اجتنابه من
باب المقدمة، فيكون حينئذ كالحيوان الذي اعتراه الجلل وضده ولم يعلم الآن اتصافه بأيهما،
لكنه كما ترى، إذ عد مثل ذلك من الشبهة المحصورة فيه ما لا يخفى بل هو أشبه شئ
بالشئ المتحد الذي لا يعلم حله ولا حرمته ولا طهارته ولا نجاسته، كالجبن واللبن ونحوهما فتأمل
جيدا. ويتفرع على ما ذكرنا أنه لو كان عنده ثوب نجس لا غير وليس عنده إلا إناء مشتبه
أمكن القول بوجوب غسله فيهما حتى يكون غير معلوم النجاسة، فيندرج تحت
العمومات السابقة، ويحكم بطهارته، ويتعين عليه حينئذ الدخول به في الصلاة، ولعل ذلك
الذي أشار إليه السيد شيخ مشائخنا في منظومته، فقال في الإنائين المشتبهين.
ولو تعاقبا على رفع الحدث * لم يرتفع وليس هكذا الخبث.
(ومنها) أنه لو انكفى أحد الإناءين المشتبه أحدهما بالمضاف فهل ينتقل فرضه
إلى التيمم أو يجب عليه الوضوء والتيمم؟ الأقوى الثاني، تحصيلا لليقين، واحتمل
الأول، لأنه يصدق عليه أنه غير واجد للماء، وفيه أنه ممنوع بل لا يحكم عليه بكونه
واجدا ولا غير واجد، فإن قلت: عدم علمه بكونه ماء يكفي في عدم وجدانه، قلت:
هو أول البحث، وله مزيد بحث ذكرناه في التيمم، وفي المدارك قد يقال: إن
الماء الذي يجب استعماله في الطهارة إن كان هو ما علم كونه ماء مطلقا فالمتجه الاجتزاء
بالتيمم كما هو والظاهر، وإن كان هو ما لم يعلم كونه مضافا اكتفي بالوضوء، فالجمع بين
الطهارتين غير واضح وفيه أن هناك قسما ثالثا، وهو وجوب الوضوء بما كان ماء واقعا،
ولما كان غير معلوم المائية حصل عندنا يقين بالخطاب بالطهارة، ولا نعلم أنها مائية
أو ترابية، وقد عرفت أنه ليس مجرد عدم العلم بالمائية يكفي في الامتثال للتيمم،
فلا بد من الاتيان بهما جميعا، تحصيلا ليقين البراءة، ومثل ذلك الصلاة بالثوب
المشتبه بعد تلف أحدهما، فإنه يجمع بين الصلاة فيه وعاريا، مع احتمال تعين كونه
306

عاريا، واحتمال الاكتفاء بالصلاة في الثوب الواحد، لأصالة الطهارة، كما ذكرناه
في مسألة انكفاء أحد الإنائين، ولا يحتمل ذلك في المشتبه بالمضاف، للشك في كونه
ماء، نعم نظير مسألتنا ما لو اشتبه ما يؤكل بما لا يؤكل لحمه ثم تلف أحدهما، فإن الظاهر
أنه إما أن يتعين الصلاة عاريا كاحتمال تعين التيمم، أو فيه وعاريا كالتيمم والوضوء
به، وهو الأقوى كما عرفت.
(ومنها) لو كان الإناء مشتبها بالمغصوب لو تطهر بهما فالظاهر كما عرفت
عدم حصول الطهارة نعم لو غسل بأحدهما النجاسة ارتفعت، لعدم اشتراطها بالقربة.
(ومنها) لو اشتبه المضاف بالمطلق وكان عنده ماء مطلق غيرهما لا يكفي للوضوء مثلا
ولكن يمكن مزجه بمضاف بحيث لا يخرج المطلق عن الاطلاق فالظاهر وجوب المزج.
لأنه حينئذ يكون متمكنا من ماء غير مشتبه، ومعه لا يجوز الوضوء الترديدي لأنه
إنما جاز من جهة الاحتياط لعدم التمكن من غيره، ويحتمل العدم، بناء على ما نقل
عن الشيخ (رحمه الله) في مسألة التيمم من أنه لو وجد عنده ماء مطلق قليل وماء مضاف
وأمكن تكثيره بالمضاف بحيث لا يخرجه عن الاطلاق لم يجب عليه المزج ويتيمم، وإن
كان لو مزج لو جب عليه الوضوء، لأصالة البراءة، ولأنه يصدق عليه أنه غير واجد
للماء وإن أردنا به عدم التمكن، لظهور أن المراد عدم التمكن من الماء الموجود في الخارج
لا عدم التمكن من إيجاد حقيقة الماء، ولظهور عدم وجوب تكميل القليل بما لا يخرجه
عن المائية من أبوال الدواب ونحوها، لكن الأقوى مع احتمال الفرق بين المقامين
خلاف ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في مسألة التيمم، للأوامر المطلقة بالوضوء والغسل،
نعم قيدت بالعقل بصورة عدم التمكن عقلا أو شرعا، ولا ريب أن العقل هنا حاكم
بالتمكن، وما تقدم من الاستعباد بالنسبة إلى أبوال الدواب لعله من جهة بعد الفرض،
لأن القليل منه لا يفيد، والكثير منه يخرج عن الاطلاق أو يقال أن ذلك يعد من غير
307

المتمكن عرفا، بخلاف الأول فتأمل جيدا، فإن كلام الشيخ (رحمه الله) لا يخلو من وجه
الطرف
* (الثاني في المضاف) *
(وهو كل ماء) يحتاج في صدق لفظ الماء عليه إلى قيد أو ما يصح سلب اسم الماء عنه،
ومنه الذي (اعتصر من جسم، أو مزج به مزجا يسلبه إطلاق الاسم) أو صعد،
ولا يخفى أن التعريف في كلام المصنف لفظي، فلا يقدح فيه كونه أعم من وجه وأخص
من آخر، ولعله أراد ما ذكرنا من التعريف لذكره سابقا في تعريف المطلق ما يستفاد
منه تعريف المضاف، وإن ما ذكره هنا من قبيل المثال، وكيف كان فلا فرق في ذلك
بين الاطلاق الحملي وغيره، نعم هو مع الإشارة يكون قرينة، وإلا فالمدار على صحة
السلب وعدمها، لكن مع العلم بالحال لا مع الجهل، وإلا فقد يحكم الجاهل بالمضاف
العادم للأوصاف بأنه ماء مطلق، وكان المصنف أشار بقوله سلبه اطلاق الاسم إلى أنه
إن لم يسلبه الاطلاق بل كان يطلق عليه لا يدخل بذلك تحت المضاف، وتصح الطهارتان
به وهو كذلك، كما سيصرح به فيما يأتي، بل لا خلاف فيه عندنا على الظاهر، نعم
نقل عن بعض العامة أنه لا تجوز الطهارة به حينئذ إلا بعد طرح مقدار ما مازجه
من المضاف، ولا وجه له، كما أنه لا فرق بحسب الظاهر فيما ذكرنا من مسلوب الاسم
وعدمه بين قلة الممزوج وكثرته ومساواته، لكون المدار على صدق الاسم، نعم لو
ما زج المطلق ماء مضاف مسلوب الصفات فعن الشيخ (رحمه الله) أنه إن كان المطلق
أكثر صح الوضوء به مثلا، وإن كان المضاف أكثر لم يصح، وإن تساويا فالجواز
أيضا للأصل، وعن ابن البراج المنع للاحتياط، وعن العلامة (رحمه الله) خلاف
قوليهما، ومراعاة الصدق من غير نظر للقلة والكثرة، لكنه جعل الدليل على الاطلاق
تقدير الصفات في المسلوب، فإن كان بحيث لو كانت موجودة لسلبت إطلاق اسم
الماء لم يصح التطهر به، وإلا فلا وربما نقل عنه تقدير الوسط من الصفات دون الصفات
308

التي كانت فيه قبل السلب، وعن الشهيد في الذكرى الجزم به، والأقوى مراعاة
الصدق من غير اعتبار ذلك، لدخوله به تحت الاطلاقات، ودعوى توقف الصدق
عليه ممنوعة على ما هو المشاهد، ومع الشك يرجع إلى استصحاب الموضوع أو الحكم،
كما ستعرفه إن شاء الله. ودعوى أن القاهر في الحقيقة الكمية، ولكن الدليل على ذلك
الصفات، فحيث لا توجد تقدر كما ترى، إذ لعل القاهر الكمية مع الصفات، بل يمكن
القول بجريان الأحكام على المضاف نفسه من غير ممازجته لو سلبت جميع خواصه بحيث
صار أهل العرف بعد الوقوف على حاله يطلقون عليه لفظ الماء من غير احتياج إلى إضافة،
اللهم إلا أن يمنع انقلاب المضاف مطلقا بغير الامتزاج المهلك له، فإن المعتصر من جسم
أو المصعد منه مضاف دائما، لا يكون مطلقا أصلا، وعلى كل حال فقد ظهر لك
مما ذكرنا ما في توجيه القول بالتقدير بأن الاخراج عن الاسم سالب للطهورية، وهذا
الممازج لا يخرج عن الاسم بسبب الموافقة في الأوصاف، فنعتبره بغيره ليحصل ما طلبناه،
كما يقدر ذلك في حكومات الجراح، وبأن الحكم لما كان دائرا على بقاء اسم الماء مطلقا
وهو إنما يعلم بالأوصاف وجب تقدير بقائها قطعا، كما يقدر الحر عبدا في الحكومة،
وأما تقدير الوسط لأنه بعد زوال تلك الأوصاف صارت هي وغيرها على حد سواء،
فيجب رعاية الوسط لأنه الأغلب والمتبادر عند الاطلاق، وإنما صار الزائد لا ينظر إليه
بعد الزوال لأنه لو كان المضاف في غاية أوصافه فنقصت مخالفته لم يعتبر ذلك في القدر
الناقص، فكذا لو زالت رأسا، ولا يخفى عليك ما في ذلك كله،
(أما الأول) فلأنه لا يلزم من كون الممازج غير مخرج بسبب الموافقة إنا نعتبره
بغيره، وأين مسألة الحكومات من المقام، لكون الأحكام هنا تابعة لموضوع قد
تحقق لغة وعرفا.
(وأما الثاني) ففيه إنا نمنع أنه إنما يعلم بالأوصاف، بل قد يعلم بدونها، وهو
الصدق، كما في محل النزاع، ومنه تعرف ما في وجه تقدير الوسط من الأغلبية، مع أن
309

الأغلبية إنما تعتبره بعد وجود الفرد على حالة لم تعرف، وما مثل المقام فلا مدخلية لها
قطعا وكيف يمكن دعوى تقدير الوسط فيما إذا كان في السابق دون الوسط، ضرورة
كون المتجه حينئذ تقدير الصفات التي كانت فيه سابقا، ومع التفاوت فالمتأخرة أقرب
حينئذ، نعم قد يتجه ذلك ما في فاقد الصفات دون سالبها، لكن مع ملاحظة الصنف،
وإلا فمع فرض عدم وجود صفات للصنف يمتنع التقدير، إذ احتمال تقدير الانتقال
إلى نوع آخر ونحوه بعيد، بل ممنوع.
ثم إنه كما يراعى الوسط في الصفات ينبغي أن يراعى الوسط في الماء كما في الذكرى
مع احتمال العدم، لكون المنقلب إنما هو خصوص هذا الماء، فلا وجه لفرض أنه ماء
آخر، والجميع كما ترى، وقد مر نظير المسألة في الملاقي للنجاسة المسلوبة الأوصاف
أو الفاقدة أو الموافقة للماء، فلاحظ وتأمل فإنه قد يكون المقام أوضح فسادا من ذلك،
والله العالم.
ولو امتزج المطلق بالمضاف بحيث لا يصدق عليه اسم المطلق ولا اسم المضاف ولم
يعلم استهلاك أحدهما بالآخر فالظاهر عدم جواز استعماله في كل ما اشترط بالمائية، كالطهارة
من الأحداث والأخباث، ويحتمل أن يقال: إنه بهذا الامتزاج لم يخرج كل منهما
عن حقيقته، لعدم تداخل الأجسام، فللمجنب حينئذ أن يرتمس فيه، ويرتفع عنه
الحدث، وكذلك الوضوء إلا أنه يشكل من جهة المسح، لمخلوطية الماء بغيره، والحاصل
كل ما يقطع فيه بجريان الأجسام المائية عليه حكمه، إلا أن يمنع مانع خارجي،
وربما يؤيده أن الأصل عدم خروج المطلق عن إطلاقه، كما أن الأصل عدم خروج
المضاف عن كونه مضافا، ولا ريب أن الأول أقوى، بناء على خروج الماء بالامتزاج
المزبور عن الماء المطلق، أو عن الحكم ولو بصيرورته موضوعا خارجا عن كل منهما،
فهو وإن لم يكون ماء ورد مثلا لكنه بحكمه باعتبار عدم الحكم عليه بكونه ماء مطلقا، نعم
لو قلنا ببقاء كل منهما على حاله إلا أن الامتزاج أفاد الاشتباه اتجه ما ذكره، فتأمل جيدا.
310

وأما حيث يكون الممزوج بالمطلق غير المائع من الأجسام مثلا بحيث يقع الشك
في كون المطلق هل خرج عن إطلاقه أو لا؟ فالظاهر من بعضهم جريان الاستصحاب،
وجريان جميع الأحكام عليه، وفيه تأمل، إذ المدار على الاطلاق العرفي، والفرض
فقده، واحتمال إثباته بالاستصحاب، كأن يقال إنه كان يطلق عليه سابقا، فليطلق
عليه الآن فيه - مع الشك في شمول أدلة الاستصحاب لمثله - إنا نمنع تحقق الاطلاق
العرفي من جهته، وهو المدار هنا، بل قد يقال: إن ذلك إثبات للموضوع بالاستصحاب
لرجوع الحال إلى الشك في أنه بعد ما امتزج بما امتزج هل هو فرد لحقيقة الماء أو لا؟
والاستصحاب لا يثبت مثل ذلك، ودعوى استصحاب الأحكام من غير ملاحظة
الموضوع فيها ما لا يخفى، وذلك لكون الأحكام تابعة له وجودا وعدما، وتسمع لهذا
تتمة إن شاء الله تعالى في المطهرات، ولكن الانصاف عدم خلو القول باستصحاب الحكم
من قوة، بل يمكن القول باستصحاب الموضوع نفسه، ولا ينافي ذلك الشك في الصدق
العرفي، ضرورة استنباط الحكم في الاستصحاب وضعا متأخرا عن إطلاق اللفظ،
والتبعية وجودا وعدما لا تنافي ثبوت الحكم من جهة الاستصحاب لذي محله الشك، إذ
هو المفروض، لا العدم الذي هو السلب عرفا فتأمل جيدا.
وعلى كل حال (فهو طاهر) بعد طهارة أصله من غير خلاف (لكن لا يزيل
حدثا) أكبر أو أصغر اختيار واضطرارا (إجماعا) كما في التحرير وعن الغنية
والتذكرة ونهاية الأحكام، خلافا للصدوق كما نقل عنه، فإنه أجاز الوضوء بماء الورد
وغسل الجنابة، ولعله الذي أشار إليه في الخلاف عن بعض أصحاب الحديث من جواز
الوضوء بماء الورد، ثم يحتمل أنه يتسرى إلى غيرهما تنقيحا للمناط، كما يحتمل أنه يقتصر
عليهما، لظاهر الرواية (1) التي هي دليله، وللمنقول عن ابن أبي عقيل فإنه ظاهر
في جواز مطلق المضاف في مطلق الطهارة عند عدم غيره، لقوله " ما سقط في الماء مما ليس

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المضاف حديث 1
311

بنجس ولا محرم فغير لونه أو طعمه أو رائحته حتى أضيف إليه مثل ماء الورد وماء الزعفران
وماء الخلوق وماء الحمص وماء العصفر فلا يجوز استعماله عند وجود غيره، وجاز في حال
الضرورة عند عدم غيره " وكيف كان فقد سمعت الاجماع في كلام المصنف وغيره،
وفي الذكرى أن قول الصدوق يدفعه سبق الاجماع وتأخره، ومعارضة الأقوى،
وفي السرائر ولا يرفع به نجاسة حكمية بغير خلاف بين المحصلين، وفي إزالة النجاسة
العينية به خلاف، ونقل خلاف المرتضى، والظاهر أن مراده بالنجاسة الحكمية رفع الحدث
بقرينة ما ذكره بعده، وعن المبسوط نفي الخلاف في عدم رفعه الحدث، وهذه الاجماعات
كما هي حجة على الصدوق كذلك إطلاقها حجة على ابن أبي عقيل، وفي المعتبر بعد أن
ذكر خلاف الصدوق في ماء الورد ودليله. وإبطاله، قال: فرع لا يجوز الوضوء بالنبيذ،
ثم ذكر خلاف أبي حنيفة فيه، ثم أخذ في الاستدلال عليه، وقال بعد ذلك وعن
الصادق (عليه السلام) (1) " إنما هو الماء والصعيد " واتفق الناس جميعا أنه لا يجوز
الوضوء بغيره من المايعات والظاهر أن مرجع الضمير إنما هو النبيذ، لكنه
في الذكرى نقل عنه هذه العبارة بابدال ضمير غيره بماء الورد، ومثله في المدارك ولعلهما
عثرا على غير ما عثرنا عليه، أو يكون فهما منه ذلك لكونه في معرض الرد على
أبي حنيفة.
ويدل على ما ذكرنا مضافا إلى ما تقدم، وإلى الاستصحاب وقاعدة الشك في الشرط
في وجه - قول الصادق (عليه السلام) في خبر أبي بصير بعد أن سأله عن الوضوء
باللبن قال: " لا إنما هو الماء والصعيد " وفي خبر عبد الله بن المغيرة عن بعض الصادقين (2)
(إذا كان الرجل لا يقدر على الماء وهو يقدر على اللبن فلا يتوضأ باللبن إنما هو الماء والتيمم "
والظاهر أن المراد ببعض الصادقين أحد الأئمة (عليهم السلام) ويؤيده أنه في كشف اللثام
الجواهر 39

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المضاف حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الماء المضاف حديث 1
312

أسنده إلى قولهم (عليهم السلام) كل ذلك مع ظاهر قوله تعالى (1) " فلم تجدوا ماء
فتيمموا " وربما استدل عليه بقوله تعالى (2) " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " لكونه
في معرض الامتنان ولو كان يحصل ذلك بغيره لكان ينبغي الامتنان بالأعم، وفيه أنه لعل
التخصيص لكونه أكثر وجودا وأعم، لمكان قصر الجواز بغيره على تقديره في أحوال
مخصوصة، على أنه قد يقال: إن جواز ذلك بالمضاف لاشتماله على الماء، فلا ينافي الامتنان،
وكذا استدل بكثير من الأخبار (3) الواردة في كيفية الغسل، لاشتمالها على الغسل بالماء
فيكون وجوبه متعينا، وقول أبي جعفر (عليه السلام) (4) في صحيحة زرارة " إذا مس
جلدك الماء فحسبك " وقوله (عليه السلام): في صحيحة زرارة (5) " الجنب إذا جرى
عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه " وقول أحدهما (عليهما السلام): (6) في
صحيحة ابن مسلم " فما جرى عليه الماء فقد طهره " ولا يخفى ما فيه، لكن لمكان كونه تأييدا
لا استدلا لا كان الأمر سهلا، هذا مع أنا لم نقف للصدوق على دليل غير قول
أبي الحسن (عليه السلام): (7) في خبر يونس قلت له: " الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ
به للصلاة قال لا بأس بذلك " وهو مع مخالفته لما تقدم، وعن ابن الوليد أنه لا يعتمد
على حديث محمد بن عيسى عن يونس، قال الشيخ في التهذيب " أنه خبر شاذ شديد
الشذوذ وإن تكرر في الكتب والأصول، فإنما أصله يونس عن أبي الحسن (عليه السلام)
ولم يروه غيره، وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره " انتهى.

(1) سورة المائدة - آية - 9 - وفي سورة النساء - آية 46 (2) سورة الفرقان - آية - 50 -
(3) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب النجاسات
(4) الوسائل - الباب - 52 - من أبواب الوضوء - حديث 3
(5) الوسائل - الباب - 31 - من أبواب الجنابة - حديث 3
(6) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب الجنابة - حديث 1
(7) الوسائل - الباب - 3 من أبواب الماء المضاف - حديث 1
313

فإذا كان هذا حال الخبر وجب طرحه أو تأويله بإرادة الماء الذي وقع فيه الورد
ولم يسلبه الاطلاق، أو كان مجاورا للورد، أو يراد بالتوضؤ التحسن والتطيب
للصلاة، لكنه ينافيه قوله يغتسل، ويمكن أن يراد به الاغتسال لذلك أيضا، ويحتمل
أن يقال الورد بكسر الواو أي ما يورد منه الدواب، وهو مظنة للسؤال لاحتمال أن
الوضوء يحتاج إلى ماء خال عن ذلك، والأمر سهل.
والظاهر أنه يخص هذا الحكم بماء الورد، لا مطلق المايعات، ولا مطلق المضاف،
بل قد يقال مراده بماء بالورد المصعد به لا المعتصر، ولذلك قال في المنتهي بعد أن
ذكر خلاف ابن بابويه وغيره: " فرع المضاف إذا اعتصر من جسم كماء الورد، أو
خالطه فغير اسمه كالمرق، أو طبخ فيه كماء الباقلا المغلي لم يجز الوضوء به ولا الغسل
في قول عامة أهل العلم، إلا ما حكي عن ابن أبي ليلى والأصم في المياه المعتصرة، وللشافعية
وجه في ماء الباقلا المغلي إلا النبيذ، فإنا قد بينا الخلاف فيه " انتهى فتأمل جيدا.
ولم نعثر لابن أبي عقيل على مستند، ولعله الرواية المتقدمة تنزيلا لها على الاضطرار،
وفيه ما لا يخفى، ولعله يستند إلى ما رواه عبد الله بن المغيرة عن بعض الصادقين (1)
فإن فيه " إن لم يقدر على الماء وكان نبيذا فإني سمعت حريزا يذكر في حديث أن
النبي (صلى الله عليه وآله) قد توضأ بنبيذ ولم يقدر على الماء " وفيه مع ظهوره في التقية
أنه لم يعلم من المراد ببعض الصادقين، وعلى تقدير تسليم كونه أحد الأئمة (عليهم السلام)
فلم يظهر منه ما يدل على الجواز، بل ظاهر نسبته إلى حديث ذكره حريز عدمه، لأن
الحديث يطلق على الصدق والكذب، ولعله أشار بالحديث إلى ما رواه بعض (2)
عن النبي (صلى الله عليه وآله) " أنه توضأ بالنبيذ " على أنه قال الشيخ: " وأجمعت
العصابة على أنه لا يجوز الوضوء بالنبيذ " مضافا إلى نجاسة النبيذ، وأنه ليس من الماء
المضاف، بل هو حقيقة أخرى، ويحتمل أن يراد بالنبيذ الماء الذي ينبذ فيه بعض

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الماء المضاف - حديث 1 - 3
(2) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الماء المضاف - حديث 1 - 3
314

التميرات ولم تغير اسمه، كما ورد (1) أنه حلال بهذا المعنى وأن أهل المدينة أمرهم النبي
(صلى الله عليه وآله) بذلك لما شكوا إليه فساد طبائعهم بأن ينبذوا وكان يضعون الكف
من التمر فيلقوه في الشن الذي يسع ما بين الأربعين إلى الثمانين رطلا من أرطال العراق،
فكان شربهم منه، وطهرهم منه.
(ولا) يزيل (خبثا على الأظهر) عند أكثر أصحابنا كما في الخلاف، وهو المشهور
نقلا وتحصيلا شهرة كادت تبلغ الاجماع، بل هي إجماع، لمعلومية نسب المخالف إن
اعتبرناه، وانقراض خلافهما، للاستصحاب وتقييد الغسل بالماء في بعض النجاسات،
كقوله (عليه السلام) (2): " لا يجزي من البول إلا الماء " وقوله (عليه السلام) (3)
في فضل الكلب: " اغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء " وقوله (عليه السلام) (4) في الرجل
الذي أجنب في ثوبه وليس معه ثوب آخر غيره، قال: " يصلي فيه وإذا وجد الماء
غسله " وقوله (عليه السلام) (5) في بول الصبي: " يصب عليه الماء قليلا ثم يعصره "
وفي آخر يصب عليه الماء وقوله (عليه السلام) (6) فيمن أصاب ثوبا نصفه دم أو كله، قال:
" إن وجد ماء غسله، وإن لم يجد ماء صلى فيه " وفي آخر (7) " في رجل ليس عليه
إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه وليس يجد ماء يغسله كيف يصنع قال يتيمم ويصلي، فإذا
أصاب ماء غسله " إلى غير ذلك من الأخبار، وهي كثيرة في أماكن متفرقة، ويتم
الاستدلال بها بعدم القول بالفصل، فيجب حينئذ حمل مطلق الأمر بالغسل الوارد
في كثير من الأخبار عليها، وما يقال إنه لا منافاة، لكون الغسل بالماء أحد الأفراد،

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الماء المضاف - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب أحكام الخلوة - حديث 6
(3) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب النجاسات - حديث 2
(4) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب النجاسات - حديث 1
(5) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب النجاسات - حديث 1
(6) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب النجاسات - حديث 5 - 8
(7) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب النجاسات - حديث 5 - 8
315

ولا مفهوم يدفعه أن المنافاة متحققة من غير حاجة إلى مراعاة المفهوم، بل يحكم
بذلك وإن كان المقيد لقبا، نعم إن كان ذلك في العام والخاص متجه، فإنه لا يحصل
التنافي فيه إلا باختلاف حكمي العام والخاص بالأمر والنهي ونحوه، ولذا لا يحكم بالتخصيص
في نحو قوله أكرم الرجال أكرم زيدا، بخلافه في المطلق والمقيد، لاتحاد المأمور به
في الثاني، دون الأول فتأمل جيدا.
هذا مع ما في بعضا من الحصر، كقوله (عليه السلام) لا يجزي فيه إلا الماء،
ومفهوم الشرط في آخر ونحوهما، بل لا حاجة إلى دعوى الاطلاق والتقييد، بناء على أن
الغسل حقيقة شرعية في استعمال الماء، كما ادعاه في الذكرى، لكنه في غاية البعد،
كدعوى الحقيقة اللغوية، لصدق العرف على الغسل مثلا بماء الورد أنه غسل حقيقة،
وعدم صحة السلب، نعم يتجه أن يقال: إن الغسل بالماء هو المتعارف الشائع المتبادر
إلى الذهن عند الأمر به، كما اعترف به الخصم، كما ستسمع إن شاء الله، بل قد
يقال: إنه في بعض المايعات لا يعد الإزالة بها غسلا لغة وعرفا وشرعا، والفرض أن
دعوى المرتضى عامة في سائر المايعات، كما نقل الشيخ في الخلاف عنه ذلك،
ويقتضيه دليله على أن هذه المطلقات في كثير من المقامات ما سيقت لبيان ما يغسل به،
والمطلق ليس حجة إلا فيما سيق له.
وقد يستدل على المطلوب أيضا بالاجماع على نجاسة سائر المايعات بملاقاة النجاسة،
فتنجس حينئذ بملاقاتها للثوب، ولم يثبت هنا كون الانفصال مثلا قاضيا بطهارة ما بقي
منها على الثوب، والماء خرج بالاجماع ونحوه، وبذلك كله اتضح صحة المختار، فلا
حاجة لأن يؤيد بوقوع لفظ الماء في الكتاب العزيز في معرض الامتنان القاضي بأنه غير
موجود في غير الماء، وبقوله (عليه السلام) (1): " الماء يطهر ولا يطهر " وبأنه إن
لم يرفع الحدث فلا يرفع الخبث بطريق أولى، إذ في الأول ما عرفت، وفي الثاني أنه

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 3 و 7
316

لا يقتضي ذكره ولا تعريفه في المقام الحصر، وفي الثالث أنه لا أولوية، وعند عدمها
يكون قياسا، على أنه ستسمع الفارق في كلام المرتضى، وعن المرتضى الاحتجاج لقوله
بالاجماع والمفيد بالرواية عن الأئمة (عليهم السلام)، وإطلاق الأمر بالغسل في كثير
من الأخبار، وقوله تعالى (1): " وثيابك فطهر " وبأن الغرض من التطهير إزالة العين،
وهو حاصل بالمائعات أما الصغرى فلرواية حكم بن الحكيم الصيرفي (2) قال للصادق (عليه
السلام): " إني أبول فلا أصيب الماء وقد أصاب يدي شئ من البول فأمسحه بالحائط
والتراب، ثم تعرق يدي فأمس وجهي وبعض جسدي، أو تصيب ثوبي، قال: لا بأس "
ورواية غياث بن إبراهيم (3) " لا بأس أن يغسل الدم بالبصاق " وأما الكبرى فوجدانية،
بل رواية غياث صالحة لأن تكون دليلا مستقلا، إذ البصاق من جملة المائعات مع عدم
القول بالفصل بينه وبين غيره، وعن المرتضى نفسه (رحمه الله) الاعتراض على الاستدلال
بالآية وأوامر الغسل بالمنع من تناول الطهارة للغسل بغير الماء، وبانصراف إطلاق المر
بالغسل إلى ما يغسل به في العادة، ثم الجواب بأن تطهير الثوب ليس بأكثر من إزالة
النجاسة عنه، وقد زالت بغير الماء مشاهدة، لأن الثوب لا يلحقه عبادة، وبأنه لو
كان كذلك لوجب المنع من غسل الثوب بماء الكبريت والنفط، ولما جاز ذلك إجماعا
علمنا عدم الاشتراط بالعادة، وأن المراد بالغسل ما يتناوله اسمه حقيقة، وفي الكل نظر،
(أما الأول) ففيه - بعد ما عرفت من إمكان دعوى الاجماع المحصل على خلافه،
مضافا إلى نقل الشيخ أن الأكثر على خلافه، بل من زمن المرتضى إلى يومنا هذا
لم يوافقه عليه أحد عدا ما ستسمع من صاحب المفاتيح، ولم ينقل عن أحد ممن تقدمه
عدا المفيد، ولذا قيل إنه لو ادعي الاجماع على خلاف دعواه أمكن إن أريد به إجماع

(1) سورة المدثر آية 4
(2) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب النجاسات - حديث 1
(3) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الماء المضاف - حديث 2
317

أكثر الفقهاء، إذ لم يوافقه على ما ذهب إليه أحد ممن وصل إلينا خلاف - أنه غير ثابت
النقل، بل الذي حكي عنهما أنهما أضافا القول بالجواز إلى مذهبنا، مع تعليل المرتضى له
بأن من أصلنا العمل بدليل العقل ما لم يثبت الناقل، وليس في الأدلة العقلية ما يمنع
من استعمال المائعات في الإزالة، ولا ما يوجبها، ونحن نعلم أنه لا فرق بين الماء والخل
في الإزالة، بل ربما كان غير الماء أبلغ، فحكمنا حينئذ بدليل العقل، وهو غير صريح
في دعوى الاجماع، بل لو ادعاه لكان هذا الكلام قرينة على إرادته بهذا المعنى الذي
ذكره في بيانه، وأما ما ذكره المفيد من الرواية عن الأئمة (عليهم السلام) فهو - مع احتمال
إرادة الاطلاقات التي استدل بها المرتضى، أو رواية البصاق ونحوه - رواية مرسلة
لا جابر لها إن ألحقنا مثل ذلك بالمراسيل، واحتمال جبرها باجماع المرتضى قد عرفت
ما فيه، ومن هنا نقل عن المحقق أنه قال: نمنع دعواه، ونطالبه بنقل ما ادعاه.
(وأما الثاني) ففيه - بعد تسليم كون الغسل شاملا لسائر المائعات - أنه يحكم
عليه ما سمعت من المقيدات، بل شيوعه وتبادره إلى الذهن عند الأمر بالغسل كاف
في تقييده، لانصراف المطلق إلى الشائع، وما وقع من بعضهم في المقام من المناقشة
في تحكيم المقيدات، من جهة أنه ليس أولى من حمل الأمر في المقيد على الندب، وهو
مجاز راجح قد تبين فساده في الأصول بما لا مزيد عليه، والفهم العرفي كاف في رده
كالمناقشة الواقعة من المرتضى المتقدمة سابقا في هدم القاعدة الثانية، وبأنه لو تم لاقتضى
عدم الغسل بماء الكبريت، وهو باطل إجماعا، إذ ما استفاده من الاجماع على جواز
الغسل بالماء المذكور من بطلان هذه القاعدة ليس أولى من جعل ذلك الجواز للاجماع،
وتبقى القاعدة على حالها، هذا إن سلمنا أن الندرة التي ادعاها في مثل ماء الكبريت
كالندرة في المقام من كونها ندرة إطلاق، مع إمكان منعه، بكون الأولى ندرة
وجود بخلاف الثانية، فتأمل.
318

(أما الثالث) فهو مع احتمال أن يراد بالتطهير التشمير كما تضمنته بعض
الأخبار (1) أو التقصير كما اشتمل عليه آخر (2) وأن يراد طهرها عن أن تكون مغصوبة
أو محرمة، أو المراد نفسك فطهر من الرذائل، وعن ابن عباس أنه قال فطهر أي
لا تلبسها على معصية ولا غدرة، وفي أخرى عنه أيضا من لبسها على معصية كما قال
سلامة بن غيلان الثقفي وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع، وليس
ما ذكرنا مما تضمنته الأخبار من البطون الذي لا يمنع من إرادة الظاهر، بل هو مجاز
قرينته الأخبار كما لا يخفى على من لاحظها - لا وجه له إن قلنا بالحقيقة الشرعية، لعدم
العلم بحصول المعنى الشرعي، وكذلك إن قلنا بالمجاز الشرعي، والظاهر من هذا
اللفظ في هذا المقام عدم خلوه عن أحدهما، وما قال (رحمه الله): من أنه تطهير الثوب
ليس بأزيد من إزالة النجاسة عنه، وقد زالت حسا بغير الماء، لأن الثوب لا يلحقه
عبادة لا معنى له، لأن الكلام في أن هذا الزوال الحسي زوال شرعي أولا، ولا تلازم
بينهما، وكون الثوب لا يلحقه عبادة غير قاض بما ذكر، لعدم الفرق بين العبادة وغيرها
بالنسبة إلى ما ذكرنا عند الشك في حصول المعنى الشرعي الحقيقي أو المجازي، نعم يتجه
استدلاله إن أراد بالتطهير المعنى اللغوي، وما ورد من الشارع من اشتراط الاستعلاء
ونحوه إنما هي شرائط خارجية عن المعنى، ويكون المأمور به حينئذ مطلق التنظيف، فما
ثبت اشتراطه من دليل كورود الماء على النجاسة ونحوه قلنا به، وإلا فلا، فلا يتجه الايراد
عليه بما ذكرنا سابقا ولا الايراد كما وقع من بعض بأنه قد اشترط (رحمه الله) ورود الماء
على النجس، وهو ينافي قوله بحصول الطهارة على أي وجه، بل ولا ما وقع للمصنف
والعلامة في المختلف والذخيرة من الجواب عن الآية أيضا، والتعرض لنقله يفضي إلى
طول من غير فائدة، فراجع وتأمل. فالصواب في الجواب إما المنع من كون الطهارة
بالمعنى اللغوي، أو يقال: إنها مطلقة تقيد بما ذكرنا من المقيدات السابقة.

(1) تفسير الصافي - سورة المدثر - آية 4
(2) تفسير الصافي - سورة المدثر - آية 4
319

(وأما الرابع) فبالمنع عن إرادة ذلك على أي حال وبأي شئ حصل،
وما ذكره من رواية حكم وغياث سندا لصغراه لا معنى له، أما الأول فلكونه مطروحا
عندنا وعنده، فلا معنى لاستفادة ذلك منه، على أنه لا دلالة فيه على طهارة اليد،
بل عدم نجاسة الوجه، أو بعض الجسد بالمتنجس على أن نفي البأس لا يدل على الطهارة
من غير جابر فتأمل. فتحمل الرواية على إرادة أن المرور ليس حال العرق، وأما
خبر غياث فمع ما قيل أنه بتري ضعيف الرواية لا يعمل بما يتفرد به، ولم يعلم من المرتضى
(رحمه الله) شمول المائع حتى للبصاق، ومعارض بما دل (1) على أن البصاق لا يزيل
إلا الدم، فلا يكون حينئذ سندا للصغرى، وقد يكون الدم طاهرا، أو يراد
الاستعانة بالبصاق على غسله، ومن هنا تعرف الجواب عنها إن أخذت دليلا لا ينبغي
أن تسطر في جنب ما ذكرنا.
وفي المقام كلام لصاحب المفاتيح، محصله " المشهور اشتراط الاطلاق في الإزالة
خلافا للسيد وللمفيد، بل جوز السيد تطهير الأجسام الصقيلة بالمسح بحيث يزول العين،
لزوال العلة، ولا يخلو من قوة، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان
النجاسات، أما وجوب غسلها بالماء عن كل جسم فلا، فما علم زوال النجاسة عنه
قطعا حكم بتطهره إلا ما خرج بدليل يقتضي اشتراط الماء، كالثوب والبدن، ومن هنا
يظهر طهارة البواطن بزوال العين، وكذا أعضاء الحيوان المتنجسة غير الآدمي، كما
يستفاد من الصحاح " انتهى. وفيه مع كونه أعم من كلام المرتضى من وجه، بل
من وجهين - أنه إن أراد أن مثل الأجسام الصقيلة لا تنجس بملاقاة النجاسة ولو مع
الرطوبة، كما يظهر من تعليله فهو مخالف للاجماع، بل الضرورة من الدين،

(1) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الماء المضاف - حديث 1 و 3 الجواهر 40
320

ولكثير من الأخبار، منها ما دل (1) على اشتراط عدم التنجيس بالجفاف، وتطهير
الأواني الشامل للصقيل، ودعوى خروجها بالدليل ليس بأولى من القول بأنه يستفاد
من تتبع الأدلة على كثرتها منضمة إلى فهم الأصحاب إن هذه النجاسات تنجس ما لاقاها
صقيلا وغيره مع الرطوبة، وإن أراد أنها أي الأجسام تنجس لكن لا يجب الغسل
لعدم الدليل، وما دل على وجوب اجتناب أعيان النجاسة لا يقتضيه ففيه أن معنى
الحكم بالنجاسة ثبوت أحكام شرعية لا طريق للعقل في رفعها، وعوى أن الطهارة
الشرعية عبارة عن النظافة العرفية فرية بينة، إذ المستفاد من تعفير الإناء والصب مرتين
وغير ذلك خلافه.
ولقد أجاد المرتضى في جوابه لما سئل عن بيع نجس العين ونجس الحكم بأن
الأعيان ليست نجسة، لأنها عبارة عن جواهر مركبة، وهي متماثلة فلو نجس بعضها
لنجس سائرها، وانتفى الفرق بين الخنزير وغيره، وقد علم خلافه، وإنما التنجس
حكم شرعي، ولا يقال نجس العين إلا على المجاز دون الحقيقة انتهى. على أن
الاستصحاب بالنسبة للطهارة والنجاسة كأنه إجماعي، بل هو كذلك، وأيضا حكمه
بالتنجس ليس مستندا لدليل دال على أن كل نجاسة عينية إذا لاقت نجست ما تلافيه،
بل مستنده الأمر بالغسل في كثير من المقامات القاضي بالتنجيس، فهو إن كان شاملا
للمقام اقتضى وجوب الغسل له أيضا، وإلا فلا تنجيس، ولو كان مفروقا في بحر
منها، مع أن إيجاب المسح من أين يستفاد، إذ كثير من نجاسة النجاسات إنما استفيدت
من الأمر بالغسل لما يلاقيها، فإن كان شاملا للمقام اقتضى وجوب الغسل، وإلا فلا
نجاسة، على أن استفادة ما ذكره من القاعدة أي حصول الطهارة بزوال العين من ما دل (2)
على حكم البواطن وأعضاء الحيوان غير الآدمي (3) ليس بأولى من استفادة القاعدة.

(1) الوسائل - الباب - 26 - من أبواب النجاسات - حديث 8 و 11 و 14
(2) الوسائل - الباب 24 من أبواب النجاسات
(3) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الأسئار
321

أي وجوب الغسل بالماء من الأخبار المتكثرة بغسل الثوب والبدن والأواني الذي يقطع
الانسان بملاحظتها عدم قصد الخصوصية في المسؤول عنه، بل هذا أولى، وأولى
من وجوه، وإلا فسائر النجاسات ما سئل عنها جميعها في ملاقاته للثوب، ولا عنها جميعها
بالنسبة للبدن، بل بعضها في الثوب وبعضها في البدن وبعضها في غيرهما، لكن لمكان القطع بعدم
إرادة الخصوصية قلنا في الجميع، والحاصل المعلوم من الأخبار وضرورة المذهب بل ضرورة
الدين أن النجاسة حكم شرعي فيه، وكذلك الطهارة، ولا دخل للزوال الحسي ونحوه،
وخصوص الحكم بالحيوان، وعدم التنجيس بالنسبة للبواطن لا يقضي بما ذكر من هدم
ذلك الأساس.
(ومتى لاقته) أي المضاف (النجاسة) أو المتنجس (نجس قليله وكثيره، ولم
يجز استعماله في أكل ولا شرب) إجماعا منقولا نقلا يستفاد منه التحصيل، وفي الأخبار
دلالة عليه في الجملة، كرواية السكوني (1) التي أمر فيها بإهراق المرق للفأرة وبرواية ابن
آدم (2) كذلك للقطرة من النبيذ والخمر المسكر، والعمدة الاجماع السابق بل باطلاقه
يستغني عن تقرير السراية في المقام، على أنه قد تقدم أن الحق كونها على خلاف
الأصل، ولعله لذا قال في المدارك: أما النجاسة مع تساوي السطوح أو علو النجس فلا
كلام، وأما مع علو الطاهر ومسفل النجس فلا ينجس العالي قطعا للأصل، قلت لكن
لم نعثر في كلامهم على إجماع أو غيره من الأدلة ما يقيد لهم ما هنا من الاجماعات، والأصل
لا يعارضها، وما ذكر من القطع لم نتحققه، هذا إن قلنا أن السراية على خلاف الأصل،
وإلا فتكون هي مع الاجماعات حجة، نعم في بالي أن بعضهم عند الكلام على نجاسة
الماء أطلق كون السافل لا ينجس العالي، مدعيا عليه الاجماع، لكن لم يعمل منه أن

(1) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب الماء المضاف - حديث 3
(2) الوسائل - الباب - 38 - من أبواب النجاسات - حديث 8
322

ذلك في غير الماء أو هو خاص به لمكان العسر والحرج فيه، على أن بين الاطلاقين
عموما من وجه، إلا أن المغروس في الذهن هو ما ذكر من عدم نجاسة العالي بالسافل،
ولقد نظرت ما حضرني من بعض الكتب فلم أعثر على إجماع أو غيره في خصوص المقام
إلا في منظومة العلامة الطباطبائي حيث قال في المضاف:
وينجس القيل والكثير * منه ولا يشترط التغيير -
إن نجسا لاقى عدا جار علا * على الملاقي باتفاق من خلا
فإن ظاهر قوله باتفاق من خلا الشمول للمستثنى والمستثنى منه، وفي المصابيح
له أيضا نقل الاجماع على عدم نجاسة العالي بالسافل في ماء الورد ونحوه، ولعلهم أوكلوه
إلى ما ذكرنا عنهم في الماء فتأمل.
وكيف كان فطريق تطهير المضاف قد اختلفت فيه عبارات الأصحاب، فالمنقول
عن الشيخ في المبسوط أنه لا يطهر إلا أن يختلط بما زاد على الكر من الماء الطاهر المطلق،
ولم يسلبه إطلاق اسم الماء، ولا غير أحد أوصافه، فإن سلبه أو غير أحد أوصافه لم
يجز استعماله، وإن لم يغيره ولم يسلبه جاز استعماله فيما يستعمل فيه المياه المطلقة، وفي التحرير
ويطهر بالقاء كر من المطلق فما زاد عليه دفعة بشرط أن لا يسلبه الاطلاق، ولا يغير
أحد أوصافه، وعن بعض نسخه وإن تغير أحد أوصافه، ومن الواضح وجود الخلاف
بينه وبين الشيخ عليها، دون النسخة الأولى، فلا فرق إلا في اشتراط زيادة الكر،
ولعلها وقعت منه (رحمه الله) لا على سبيل الشرطية، ولذلك نقل عنه في الذكرى قال:
وطهره في المبسوط بأغلبية كثير المطلق عليه وزوال أوصافه، لتزول التسمية التي هي
متعلق النجاسة انتهى، كما أنه لعل الشيخ حيث لم يكن في عبارته الالقاء، بل كان
الاختلاط، وهو يحصل بالالقاء دفعة وبغيره فأمكن إرادته الالقاء التدريجي مع
كون الماء مستعليا، فيشترط هنا الزيادة على الكر حتى يتقوم ما جرى منه واتصل بالمضاف
بالكر، كما وقع من العلامة في التطهير بمادة الحمام، لكن فيه أنه لا وجه له معه هنا، لأنه
323

إن كان يقول باتحاد المائين أي ما في الساقية مع العالي فلا يحتاج حينئذ إلى اشتراط الزيادة،
وإن كان لا يقول باحتادها معه فلا تثمر له اشتراط الزيادة، إذ كل ما يلاقي المضاف
ينجس به حتى ينقص العالي عن الكر، بل قد يقال إن اشتراطها في الحمام له وجه بخلافه
هنا، لكون المطهر هناك لا يشترط فيه أن يقع من المادة مقدار كر، بل إذا اتصل
ما في الحياض بما في المادة، أو امتزج بطهر وإن لم يقع من المادة مقدار كر فالمطهر له
حينئذ إنما هو ما جرى من المادة، لاتصاله بكر، فلو لم يكن متصلا بكر لم يحصل التطهير،
لكون الملاقي ليس كرا، ولا هو متصل بكر بخلافه هنا، فإنه على ظاهر كلام الشيخ
لا بد وأن يختلط به مقدار الكر، نعم يحتمل أن يكون وجه أنه لو اختلط به مقدار
الكر في الفرض السابق فأول الاتصال قد يغلب المضاف عليه فينجس، فينقص الكر
فلا يطهر، لكن إذا كان زائدا فإنه إن غلب إنما يغلب على الزيادة، فيبقى الكر سالما،
وليس حاله كحال ما إذا ألقي الكر على الماء النجس الغير المتغير، فإنه يطهر بمجرد الاتصال،
بناء على عدم اشتراط الامتزاج، فيتجه حينئذ هنا الاشتراط، إلا أنه قد يناقش
فيه أيضا بأنه متجه مع العلم بالغلبة المذكورة، وإلا فاستصحاب بقاءه محكم، والاحتمال
غير قادح، فإنه قد يكون بأول آنات الاتصال يغلب الماء على الجزء الملاقي، وبما
ذكرنا تعرف استناد الشيخ في اشتراط الزيادة إن أراد ذلك، وأما على النسخة الثانية
من التحرير أي اشتراط عدم مسلوبية الاطلاق فقط وإن تغير أحد أوصافه بأوصاف
المتنجس فهو مختاره في بعض كتبه، كالمنتهى والقواعد، وتبعه عليه جماعة أي في حصول
تطهير المضاف بحيث يكون طاهرا مطهرا، وإلا فتسمع أنه (رحمه الله) لا يشترط بقاء
الاطلاقية بالنسبة للطهارة وإن كان لا يرفع حدثا ولا خبثا، وكأنهم فهموا من عبارة
الشيخ (رحمه الله) إرادة تغيير الماء بأحد أوصافه المضاف، وأوردوا عليه أن الذي
ثبت من الأدلة نجاسة الكر بتغيره بأحد أوصاف النجاسة لا المتنجس، فيبقى حينئذ
على طهارته وإن تغير بأحد أوصاف المضاف، لكن لعل مستند الشيخ (رحمه الله)
324

عموم قوله (عليه السلام): (1) " إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه " وللمسألة مقام آخر،
إلا أن عبارة الشيخ (رحمه الله) هنا غير صريحة بذلك، إذ قد يريد بالتغيير
التغيير بأحد أوصاف النجاسة، لبقاءها في المضاف كالدم، أو أنه يريد أنه بدون أن
تذهب أوصاف المضاف بالمرة لم يحصل استهلاكه بالماء المطلق، ومدار التطهير عليه،
كما ستعرف إن شاء الله.
وقد أشار إلى ذلك الشهيد في الذكرى كما سمعت ما نقله عنه، وحينئذ يرجع
إلى نزاع في موضوع، وهو أنه هل يبقى الماء المطلق على إطلاقه، ويستهلك المضاف
فيه وإن بقي أحد أوصاف المضاف في المطلق؟ فالجماعة يقولون بالبقاء، والشيخ يمنعه،
لكن عبارته تنافي ذلك، لأن ظاهر عطف التغيير بأو يقضي ببقاء الأول، وهو عدم
سلب الاطلاقية، فيكون ما أشار إليه الشهيد (رحمه الله) بنقله عن المبسوط كما تقدم
لا يخلو من تأمل، وكيف كان فإن أراد الشيخ بتغير أحد الأوصاف أوصاف المضاف
لا النجاسة ومع ذلك يقول بتحقق بقاء الاطلاقية فالظاهر أن الأرجح خلافه، لما ذكر
في محله من أن الكر لا ينجس إلا إذا تغير بأحد أوصاف النجاسة، وإن لم يرد ذلك
فمرحبا بالوفاق، نعم إنما الخلاف مع العلامة في القواعد والمنتهى، بل قيل إنه في سائر
كتبه، حيث قال إذا اختلط مقدار الكر بالمضاف وسلبه الاطلاق تحصل الطهارة، وتذهب
الطهورية، ولعل كلامه يرجع إلى القول بالطهارة المضاف بملاقاة المطلق الكثير للمضاف
وإن بقي المضاف على إضافته، كما يرشد إلى ذلك نقله عنه في الذكرى أنه قال بالطهارة
بمجرد الاتصال وإن بقي الاسم، إلا أنه يحتمل أن لا يكون مراده كذلك، بل يقول
لا بد من الامتزاج، ولا يكتفي بمجرد اتصال الماء به، وفيه أنه لا بد حينئذ من تخصيصه
بما إذا ألقي المضاف على الكر وإن نافاه ظاهر إحدى عبارتيه في القواعد، وإلا فلا يتجه فيما إذا
ألقي الكر على المضاف لنجاسة إناءه وهو ينجس الماء، ولا معنى للقول بطهارة الإناء لعدم

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الماء المطلق - حديث 9
325

ملاقاة المطلق له، إذ الفرض أنه صار مضافا، واحتمال القول أن الكر بعد اتصاله
بالمضاف طهر المضاف وآنيته واضح الفساد، كالتمسك بأن الكثير إنما ينجس إذا تغير
بلون النجاسة مثلا لا بالمتنجس، والفرض العدم، نعم هو متجه فيما إذا بقي الكثير
على مائيته، لا فيما خرج عنها، فإنه ينس حينئذ بكل ما يلاقيه، وكذا التمسك
باستصحاب الطهارة، إذ هو مع معارضته باستصحاب النجاسة لا معنى له مع تغير الموضوع،
لكونه كان مطلقا والآن مضاف فيدخل حينئذ تحت أحكام المضاف، والقول بأن نجاسة
المضاف إنما جاءت من الاجماع، وهي في المقام مفقودة لا معنى له لما بينا في الأصول
من صحة الاستصحاب في الحكم الحاصل من الاجماع، وليس الاجماع إلا أحد الأدلة
الكاشفة عن الحكم الواقعي، كما بين في محله، فلا حاجة إلى تكلف الجواب بعدم
انحصار دليل النجاسة في الاجماع، لوجود أخبار في المقام، فإن فيه أنه ليس هناك
أخبار صالحة للدلالة في تمام المدعى من غير حاجة إلى الاجماع، كما لا يخفى على من لاحظها،
ولصاحب الذخيرة مناقشة واهية في المقام متضمنة لعدم جريان الاستصحاب ذكرناها
في الأصول وأجبنا عنها.
وبما ذكرنا من الاستصحاب ينقطع أصالة الطهارة، فلا يقال إن الأصل في الأشياء
الطهارة، لقوله (عليه السلام) (1): " كل شئ طاهر حتى تعلم أنه قذر " ولم نعرف
الآن نجاسة لا في المطلق الذي انقلب مضافا، ولا في المضاف السابق، لأن المعلوم
من نجاسته إنما هو قبل ملاقاته للماء، ولا معنى لرده في الذخيرة بمنع أصالة الطهارة في كل
شئ، نعم الثابت من العموم إنما هو عند الشك في عروض النجاسة لها. أو كونها
أحد النجاسات لا عند الجهل بكونها نجسة شرعا أم لا، إذ هو كما ترى، بل أغرب من سابقه،
بل قد عرفت فيما تقدم أنه يمكن اثبات الطهارة بأصالة البراءة والإباحة، لكون النجاسات
تكليف، وإن كان لا يخلو من تأمل في غير الأكل والشرب ونحو هما، ولقد طال بنا الكلام.

(1) المستدرك - الباب - 29 - من أبواب النجاسات والأواني - حديث 4
326

وكشف الحال في المسألة إنا نقول الروايات خالية عن كيفية تطهير المضاف، فلم
يبق لنا إلا إدخاله تحت القواعد الممهدة، والظاهر أنه غير قابل للتطهر، لعدم ثبوت
كيفية خاصة في تطهيره، ولا يمكن جريان ما وصل إلينا من المطهرات عليه حتى بالاستحالة
بممازجة دون الكر من الماء مثلا بل والاستهلاك به بناء على أن الاستحالة إنما تفيد طهارة
ما كانت النجاسة دائرة مدار اسمه، كالكلب والخنزير ونحو ذلك، فإذا استحالت إلى موضوع
آخر لا يطلق عليه هذا الاسم اتجه الحكم بطهارتها، أما إذا كان لحوق وصف النجاسة ليس
دائرا مدار الاسم بل مدار الذات، وهي بالاستحالة لم تذهب فلا تفيد استحالة
المتنجسات طهارة، لما عرفت، بل وعلى غيره أيضا باعتبار كون الاستحالة والاستهلاك
في الفرض إلى ما تنجس به من الماء والاستهلاك به فأقصاه انقلابه إلى ماء متنجس كما هو
واضح، نعم لو فرض إمكان انقلابه إلى الماء حقيقة بنفسه مثلا وقلنا أن الاستحالة
تطهر النجس والمتنجس أمكن دعوى طهارته، لكن يظهر من بعضهم أنه لا يطهر إلا بالكثير،
ولعله لعدم إمكان الفرض، أو عدم كون مثل هذا الانقلاب مطهرا، والقياس على الخمر
المنقلبة خلا باطل، فتأمل جيدا. وعلى كل حال فالمضاف قابل لأن ينقل إلى جسم
قابل للتطهر، فإذا انقلب مثلا إلى المائية ولو بامتزاجه بماء قليل، أو علاج آخر صار
حاله حال الماء يطهره ما يطهره وحيث يمتزج به كثير لا يحكم بطهارة المضاف حتى
يستهلكه المطلق، ويكون ماء مطلقا فيطهر حينئذ بالكثير، وليس هذا تطهيرا للمضاف
نفسه، كما هو واضح.
والظاهر أنه لا حاجة إلى ترتب زماني، بل أول زمان زوال مضافيته زمان
طهارته، لكون السبب في الطهارة موجودا، وكان تأثيره موقوفا على زوال المانع،
فعنده حينئذ تتم العلة، وترتب المعلول عليها لا يحتاج إلى زمان، لا يقال: حال الماء
المضاف كحال الماء، فكيفية تطهيره كيفية تطهيره، لأنا نقول: هو مع أنه قياس
فيه أن الفرق بينهما واضح من وجهين، الأول لأن الماء يمكن سريان الطهارة فيه باعتبار
327

تطهير بعض الأجزاء، وهي تطهر غيرها وهكذا، والثاني لأن الماء من جهة اتحاده
وصيرورتهما ماء واحدا، وقالوا ليس لنا ماء واحد بعضه طاهر وبعضه نجس، وكل
من الوجهين لا يتأتي بالمضاف ولم أجد مخالفا فيما ذكرت إلا ما نقلناه عنه العلامة (رحمه الله)
وقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه، هذا.
وقد وقع في الروضة كلام محتاج إلى التأمل التام، وذلك لأنه بعد أن قال
الشهيد في اللمعة: وطهره إذا صار مطلقا على الأصح، قال: ومقابله طهره بأغلبية الكثير
المطلق عليه، وزوال أوصافه، وطهره بمطلق الاتصال به وإن بقي الاسم، ويدفعهما مع
أصالة بقاء النجاسة أن المطهر لغير الماء شرطه وصوله إلى كل جزء من النجس، وما دام
مضافا لا يتصور وصول الماء إلى جميع أجزاءه النجسة، وإلا لما بقي كذلك، وسيأتي له
تحقيق آخر في باب الأطعمة انتهى، ولا يكاد يفهم أنه كيف يدفع ما ذكره مقابلا
أولا، نعم هو متجه على الثاني منهما ضرورة أن ما جعله أولا مقابلا هو قول الشيخ
في المبسوط كما نقله الشهيد في الذكرى، والثاني أحد قولي العلامة، وما ذكره
في اللمعة هو القول الآخر له أيضا، وقد عرفت أن الشيخ يشترط بقاء الاسم، ذهاب
أوصاف المضاف على وجه يزول اسم المضاف على ما سمعته مما حكاه عنه في الذكرى،
وأنه متى سلب المضاف اطلاق الاسم، أو غير أحد أوصافه لم يجز فكيف يتجه عليه الرد
بذلك، نعم هو قد أخذ شرطا زائدا على ما جعله الأصح، ولعل منشأ وهمه
(رحمه الله) غفلته عن أن الأغلبية تقضي بزوال الاسم، لكنها لا تقتضي زوال الأوصاف
فلهذا اشترط زوالهما فتأمل هذا، ولا يبعد أن يكون مراد العلامة مما نقلناه عنه في القواعد
والمنتهى أنه إذا سلب المطلق الاطلاق بعد أن سلب المطلق المضاف عن الإضافة لا عن
الأوصاف، لكن بعد ذلك قويت الصفات حتى غلبت المطلق، فإن الظاهر حينئذ
كما يقول من سلب الطهورية دون الطهارة، لحصولها سابقا، وليس في عبارتيه ما ينافي
الجواهر 41
328

ما ذكرنا، قال في القواعد: ما نصه " (فروع) لو نجس المضاف ثم امتزج بالمطلق الكثير
فغير أحد أوصافه فالمطلق على طهارته، فإن سلبه الاطلاق خرج عن كونه مطهرا لا طاهرا "
فيراد بقوله فإن سلبه الاطلاق أي بعد أن سلب المطلق المضاف الإضافة دون الأوصاف،
وهو حق كما يقول، أو يراد بالضمير المستتر في سلبه إنما هو التغير، أي فإن سلبه
التغير الباقي عن الاطلاق، وهذا إنما يكون بعد السلب الأول فتأمل.
وقال أيضا في الفصل الرابع في تطهير المياه النجسة: " والمضاف بالقاء كر دفعة وإن بقي
التغير ما لم يسلبه الاطلاق، فيخرج عن الطهورية " ومراده بما لم يسلبه الاطلاق أي ما
لم يسلبه التغير الباقي بعد سلب المطلق المضاف، فإنه يخرج حينئذ عن الطهورية دون الطهارة،
لحصولها سابقا، ويكاد الناظر المتأمل يقطع بأن هذا مراده، فإن ما ذكروه في غاية الاستبعاد
بل لا يصلح أن يصدر من أطفال الشيعة، فضلا عن أن يصدر عن آية الله، المؤيد
بتأييده المسدد بتسديده، رزقنا الله رشحة من رشحات فضله، وقال في المنتهى:
" فرعان بعد أن ذكر كيفية تطهر المضاف، (الأول) لو تغير الكثير بأحد أوصاف المضاف
قال الشيخ نجس الكثير، وليس بجيد، لنا الأصل الطهارة، وانفعال الكر بالنجس
ليس انفعالا بالنجاسة، والمؤثر في التنجيس إنما هو الثاني لا الأول (الثاني) لو سلبه
المضاف إطلاق الاسم فالأقوى حصول الطهارة، وارتفاع الطهورية " انتهى. وليس
في ذلك ظهور فيما ذكروا، وقد قال هو بنفسه سابقا في أول الكتاب بعد الفراغ
عن البحث في الماء القليل: أما لو تغير الكثير بما نجاسته عارضية كالزعفران النجس
والمسك النجس فإنه لا ينجس بذلك، لأن الملاقي يطهر بالماء، نعم لو سلبه إطلاق
اسم الماء فإنه ينجسه، والحاصل الذي أظن والله أعلم أن مراد العلامة بعد أن خالف
الشيخ في أن تغير المطلق بأوصاف المضاف غير قادح، لعدم زوال الاسم بذلك،
أراد أن ينبه على شئ، وهو أنه لو بقي هذا التغير حتى قوي فزال الاطلاق، وكان
الضمير في عبارتي القواعد راجع إلى التغير، فتأمل جيدا.
329

فإن قلت: إن ذلك ينبغي الجزم به، فلم قال الأقوى، قلت: هو - مع كونه
في القواعد لم يقل ذلك، بل حكم به جازما من غير تردد، وإنما ذكر ذلك في المنتهى -
لعل وجهه احتمال القول بعدم بقاء الطهارة، لأن غلبة هذا التغير دليل على أن المطلق لم يكن
غالبا سابقا، فلم تحصل طهارة وإن كان ضعيفا، فيكون بهذا التقرير لا مخالف بحمد الله،
نعم الشيخ (رحمه الله) زاد اشتراط عدم تغير المطلق بأحد أوصاف المضاف، وقد عرفت
ما فيه، بل عرفت أن عبارته غير صريحة في ذلك، بقي الكلام في اشتراط الدفعة
والتدريج، وقد تقدم أن عبارة الشيخ في المبسوط ليس فيها ذلك، بل إنما وقعت في عبارة
العلامة (رحمه الله) في بعض كتبه، وبعض من تأخر عنه، ولعل المسألة مبنية على ما تقدم
من اشتراطها في تطهير الماء النجس وعدمه، مع احتمال الفرق بينهما على بعد، وكمسألة
الدفعة مسألة الالقاء فتأمل جيدا.
(و) قد ظهر ما ذكرناه أنه (لو مزج طاهره) أي المضاف (بالمطلق اعتبر في) بقاء
(رفع الحدث به) بل والخبث بل وباقي ما يترتب على كونه ماء مطلقا من الأحكام
(إطلاق الاسم) بعد الوقوف على حقيقة الحال كما تقدم تحقيق ذلك في المباحث السابقة.
(وتكره الطهارة بماء أسخن بالشمس في آنية) كما في المعتبر والنافع والقواعد
والتحرير والإرشاد وغيرها، بل في الذخيرة أنه مشهور بين الأصحاب، بل في الخلاف
نقل الاجماع على كراهة الوضوء بالمسخن بالشمس إن قصد به ذلك، وفي السرائر
إن ما أسخنته الشمس بجعل جاعل له في إناء وتعمده لذلك فإنه مكروه في الطهارتين معا
فحسب، والأصل في المسألة خبر إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليه السلام) (1)
قال: " دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عائشة وقد وضعت قمقمتها في الشمس،
فقال: يا حميرا ما هذا؟ قالت: أغسل رأسي وجسدي، قال: لا تعودي، فإنه
يورث البرص " وفي الوسائل أنه رواه الصدوق في المقنع مرسلا، ورواه في العلل

(1) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب الماء المضاف - حديث 1
330

وفي عيون الأخبار عن أبيه عن سعد عن محمد بن عيسى، وفي المعتبر بعد أن ذكر
الرواية المتقدمة قال: وروى الجمهور عن عائشة أنه قال لا تفعلي يا حميرا، قال وطعن
الحنابلة في سند الحديث ولا عبرة بطعنهم بعد صحة السند من طريق أهل البيت (عليهم
السلام) ولعله يريد بالصحة غير ما في لسان المتأخرين، وما رواه إسماعيل بن أبي زياد عن أبي
عبد الله (عليه السلام) (1) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الماء الذي
تسخنه الشمس لا تتوضأوا به، ولا تغتسلوا به، ولا تعجنوا به، فإنه يورث البرص "
وفي الوسائل أنه روى الصدوق في العلل عن محمد بن الحسن عن الصفار عن إبراهيم
ابن هاشم عن النوفلي عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام)
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثله.
وعلى كل حال فلا يقدح قصور السند بعد الانجبار بما سمعت، والتسامح في المكروه،
والحكم بالصحة من مثل المحقق، وإنما حمل النهي فيها على الكراهة، لما فيها من الضعف
اصطلاحا، والاجماع على عدم الحرمة، والجمع بينهما وبين ما دل على نفي البأس عن الوضوء
بالماء الذي يوضع في الشمس، كما في مرسلة محمد بن سنان (2) وظهور التعليل في الكراهة،
والرواية الثانية وإن اشتملت على غير الآنية من الأنهار والمصانع وغيرها، كاطلاق
بعضهم، لكن يعارضها الاجماع المنقول عن التذكرة ونهاية الأحكام على عدم الكراهة
في غيرها، فيبقى غير ذلك داخلا فيها، نعم لا فرق حينئذ بين سائر الأواني،
كما أنه لا فرق في ذلك بين سائر البلدان، فما احتمله في المنتهى من اختصاص الحكم
بما يخاف منه المحذور، كالمشمس في البلاد الحارة دون المعتدلة، أو فيما يشبه آنية
الحديد والرصاص دون الفضة والذهب، لصفاء جوهرهما، لأن الشمس إذا أثرت
فيهما أخرجت منهما زهوته تعلو الماء، ومنها يتولد المحذور، ولأن تأثير الشمس في البلاد
المعتدلة ضعيف، فلا يخاف من البرص مخالف للاطلاق السابق، بل دعواه اختصاص

(1) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب الماء المضاف - حديث - 2 - 3
(2) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب الماء المضاف - حديث - 2 - 3
331

الخوف بما ذكر دون غيره غير معلوم لنا، بل لعله لغير ذلك، هذا إن جعلنا ما في
الرواية من البرص علة، وإلا فقد يكون حكمة، وما سمعته من الاطلاق المنجبر بالشهرة
مضافا إلى التعليل بمخافة البرص، مع كون الكراهة من المتسامح فيها حجتنا على الشيخ
(رحمه الله) وابن إدريس المقيدين الحكم بما سمعته من القصد، لكن لعل الشيخ ذكره
محافظة على متن الاجماع، وما في الرواية الأولى من ظهور القصد لا ينافي ما في الرواية الثانية.
والأقوى شمول الحكم للوضوء والغسل سواء كانت رافعة للحدث أو لا،
لصدق اسم الوضوء والاغتسال على ذلك، بل وسائر الاستعمال مع المباشرة للبدن،
للتعليل مع ترك الاستفصال من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعائشة، واشتمال الأخير
على العجين به مع إلقاء الخصوصية والتسامح في المكروه، فما في كلام المصنف وغيره
من تخصيص الحكم بالطهارة، وكلام ابن إدريس من تخصيص الحكم بالطهارتين فحسب،
وما عن الذكرى من تخصيص الحكم بالطهارة مع العجين لعل الأقوى خلافه، كما
أن الظاهر أن إزالة الخبث من حيث كونه إزالة من غير مباشرة للبدن لا كراهة فيها
إن أطلق الاستعمال عن النهاية والمهذب والجامع، لكن قد يريدوا المباشرة بالبدن والظاهر
بقاء الكراهة وإن زالت السخونة، وفي المنتهى أنه الأقرب، وعن الذكرى القطع به، ولعله
الظاهر من عبارة المصنف ونحوها للاستصحاب، وشمول قوله (صلى الله عليه وآله) الماء
الذي تسخنه الشمس له، وعن بعضهم الاحتجاج عليه بعدم اشتراط بقاء المبدء في صدق المشتق،
وفيه نظر، والمدار في التسخين وكون الشمس هي المسخنة العرف، ولا يندرج فيه
ما لو سخنت الشمس آنية كانت فارغة، ثم وضع فيها ماء فاكتسب تسخينا لحرارة الآنية،
وهل يشترط في الماء القلة أولا؟ وجهان، بل قيل قولان، والأقوى عدم
الاشتراط، وليس لفظ الآنية موجودا في الرواية حتى يتبادر منه القلة، وإن كان
القول الآخر لا يخلو من قوة أيضا، لأن المتعارف تسخينه القليل، وإن لفظ الآنية
وإن لم يكن في الرواية لكن الاجماع المتقدم على عدم الكراهة في غيرها كاف، هذا.
332

وفي الحدائق أن الظاهر ترتب الأثر على المداومة لا المرة والمرتين، ولعل قوله (صلى الله عليه وآله)
لا تعودي من العود أو الاعتياد إيماء إلى ذلك، قلت: إن أراد بالأثر البرص وأراد
عدم حصول الكراهة في المرة الواحدة والمرتين فما عرفت من كلام الأصحاب وإطلاق
الرواية حجة عليه، وما ذكره من الايماء لا إيماء فيه، فإن المراد منه لا تعودي إلى الفعل
وكان ذلك من جهة عدم العلم سابقا، والمراد من قوله (صلى الله عليه وآله) أنه يورث البرص
أنه قد يورث، وليس ذلك من الضرر المظنون أو الخوف العرفي وإلا لحرم، بل نقول
به حيث يحصل ذلك، والبحث في المراد من الكراهة في المقام مذكور في الأصول،
وقد أشبعنا البحث فيه في رسالة لنا في اقتضاء النهي الفساد، والله الموفق.
(و) يكره (بماء أسخن بالنار في غسل الأموات) بلا خلاف أجده، بل في الخلاف
عليه إجماع الفرقة وأخبارهم، إلا في برد لا يتمكن الغاسل من استعمال الماء البارد،
أو يكون على بدنه نجاسة لا يقلعها إلا الماء الحار، كما في المدارك هذا الحكم مجمع عليه
بين الأصحاب حكاه في المنتهى، ويدل عليه مضافا إلى ذلك قول أبي جعفر (عليه السلام)
(1) في صحيح زرارة: " لا يسخن الماء للميت، ولا يعجل له النار " ومرسلة عبد الله
ابن المغيرة عنه وعن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) قال: " لا يقرب الميت ماء حميما "
وقول الصادق (عليه السلام) (3) في خبر يعقوب بن يزيد عن عدة من أصحابنا:
" لا يسخن للميت الماء، لا تعجل له النار " وفي الوسائل محمد بن علي بن الحسين (4)
قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): " لا يسخن الماء للميت " وروي حديث آخر (5)
" إلا أن يكون شتاء باردا فتوقي الميت ما توقي منه نفسك " وفي كشف اللثام وروي
عن الرضا (عليه السلام) (6) " ولا تسخن له ماء إلا أن يكون ماء باردا جدا فتوقي

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب غسل الميت - حديث 1 - 2 - 3
(2) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب غسل الميت - حديث 1 - 2 - 3
(3) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب غسل الميت - حديث 1 - 2 - 3
(4) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب غسل الميت - حديث 4 - 5
(5) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب غسل الميت - حديث 4 - 5
(6) المستدرك - الباب - 10 - من أبواب غسل الميت - حديث 1.
333

الميت مما توقي منه نفسك " والظاهر أن مراده الفقه الرضوي، وحمل النهي للكراهة
مع صحة السند في بعضها، لما عرفت من الاجماع من الشيخ عن الكراهة، وفي المدارك
اتفاق الأصحاب على أنه غير محرم، والظاهر أنه كذلك، فما في السرائر أن الماء
الذي يسخن بالنار لا يكره استعماله في حال لا وجه له إن أراد حتى غسل الأموات،
نعم هو في غير ذلك متجه، إذ لا كراهة في الوضوء به ونحوه، بل في الخلاف أنه
قال به جميع الفقهاء إلا مجاهد، فإنه كرهه، في المنتهى لا بأس باستعماله، خلافا
لمجاهد، بل يكره تغسيل الميت به، وما في صحيح محمد بن مسلم ذكر أبو عبد الله
(عليه السلام) (1) " أنه اضطر إليه وهو مريض، فأتوه به مسخنا، فاغتسل وقال:
لا بد من الغسل " لا دلالة فيه على الكراهة، إذ لعل المراد أنه اضطر إلى الغسل.
وكيف كان فظاهر الأصحاب خصوص التسخين بالنار، إما لأنهم اكتفوا عن
ذكر الكراهة بالمسخن بالشمس بما تقدم، لكن فيه أنه يقضي بكراهة الغسل للأموات
في المشمس، والظاهر خلافه لظهور ما تقدم من الأدلة في خلافه، مع التعليل بالبرص
نعم قد يقال بالكراهة للمستعمل المباشر نفسه، كما ذكرنا سابقا فتأمل، أو من جهة ظهور
روايات المقام في ذلك، لتبادره ولقوله لا تعجل له النار على وجه أو لأن المقصود أن
المسخن بالنار المكروه منه ذلك من غير تعرض لغيره، أما لو كان مسخنا بغيره فالظاهر
منهم عدم الكراهة، لكن قد يشكل بتناول بعض الروايات له، كقوله (ع) (2) " لا يقرب
الميت ماء حميما " ونحوه ثم الظاهر من قوله لا يقرب ماء حميما مع قوله في الآخر لا يعجل
له النار عدم الفرق في ذلك بين الغسل وغيره، من إزالة الوسخ ونحوه، ويرشد إليه استثناء
الشيخ (رحمه الله) ما إذا كان على بدنه نجاسة لا يقلعها إلا الماء الحار، ومثله ما في
المهذب من استثناء تليين الأعضاء والأصابع، إلا أن يريد به الغسل للتليين، فما يظهر

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المضاف - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب غسل الميت - حديث 2
334

من المصنف وغيره من اختصاص الحكم بالغسل لا يخلو من تأمل، وأطلق المصنف هنا
كما في النافع والإرشاد، لكنه قال في المعتبر: قال الشيخان: ولو خشي الغاسل من البرد
جاز، وهو حسن لأن فيه دفعا للضرر، وفي القواعد إلا مع الحاجة، وقد عرفت
ما استثناه الشيخ من إزالة النجاسة، والمهذب من تليين الأعضاء، وهو مناف لاطلاق
الأخبار، ولعل مراد الشيخ (رحمه الله) بعدم الامكان بالنسبة إلى إزالة النجاسة التعذر
حقيقة، فإنه يتعين حينئذ قطعا، نعم إذا كان الماء باردا جدا قد سمعت ما عن أبي جعفر
وعن الرضا (عليهما السلام) من قولهما إلا أن يكون شيئا باردا فتوقيه مما توقي نفسك.
والذي يقوى في النظر أنه متى توقف واجب على تسخين الماء كدفع ضرر أو
إزالة نجاسة لا تنقلع إلا به أو نحو ذلك ارتفعت الكراهة قطعا، وبدونه فالكراهة باقية
إلا إذا كان الماء باردا جدا فإنه وإن لم يخش الغاسل الضرر ينبغي أن يوقي الميت، ذلك
مراعاة لحاله، وقد يستظهر من قوله (عليه السلام) فتوقيه مما توقي منه نفسك التعدية
إلى أمور أخر، كملوحة الماء وكونه آجنا وغير ذلك وينبغي الاقتصار على مقدار ما تندفع
به شدة البرودة، ولو أمكن ارتفاعها بغير النار كوضعها في مكان حار كان أولى، ويكره
الاستشفاء بالحماة، وهي العيون الحارة التي تكون في الجبال التي توجد منها رائحة
الكبريت، فإنها من فوج جهنم، للروايات (1) الدالة على ذلك، وقد صرح به ابن
إدريس وهو المنقول عن ابن بابويه كما في المنتهى والمعتبر وظاهرهما القول به أيضا،
ولا يكره غير ذلك، كما صرح به ابن إدريس أيضا، لخصوص النهي في الاستشفاء،
والتعليل بأنها من فوج جهنم لا يقتضيه، لعدم الدليل على الكبرى، نعم قد يقال بالكراهة
فيها في خصوص غسل الأموات، لما ذكرنا سابقا، ولما فيها من التشاءم لخصوص الميت
لكونها من فوج جهنم، وقد يكون قوله (عليه السلام) لا تعجل له النار مشعرا بذلك.

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب الماء المضاف
335

(والماء المستعمل في غسل الأخباث)
حكمية كانت أو عينية (نجس سواء تغير بالنجاسة) لونا أو طعما أو رائحة
(أو لم يتغير) وهو ما انفصل بالعصر أو بنفسه من المتنجس بعد الصب عليه لتطهيره، كما
في الروضة وكشف اللثام، وفي المنتهى ما معناه هو المنفصل من غسالة النجاسة قبل
طهارة المحل، أو ما تحصل الطهارة بعدها، قلت: ما المراد بالانفصال، هل هو كون
الهواء ظرفا له، فلا يجري الكلام فيما لو جرى على المتنجس إلى مكان آخر متصل به
غير منفصل عنه كما في البدن، أو المراد به مطلق الانفصال عن المحل النجس ولو إلى مكان
آخر، فيجري البحث فيما لو تنجس أعلى البدن ثم صب عليه شئ من الماء حتى جرى
إلى أسفله ولم ينفصل عنه، ثم إنه على هذا التقدير فهل يحكم بنجاسة ما انتهى إليه الماء،
أو كل ما جرى عليه وأيضا لو انفصل من الأسفل فهل يجري البحث في المكان الذي جرى
عليه ماء الغسالة قبل أن ينفصل أولا؟ هذا وغيره كلامهم فيه غير منقح، ومقتضى
ما ستسمع من أدلة القائلين بالنجاسة من كونه ماء قليلا لاقى نجاسة الحكم بنجاسة ذلك
كله من غير فرق بين أن ينفصل منه شئ أو لا، ولا يخفى ما فيه من العسر والحرج،
والطهارة في الجميع لو لم ينفصل، كما إذا غسل موضع النجس من البدن وجرى منه إلى المكان
الآخر من غير انفصال، أما في المحل النجس فلتحقق الغسل، وأما في غيره فلعدم
النجاسة، لأن ما جرى إليه ليس ماء غسالة، واحتمال القول أنه إن انفصل كان
الغسالة المنفصل، وإلا كان ما انتهى إليه غسالة لم أعرف له شاهدا يقتضيه، كاحتمال
القول أن المغسولات لها كيفيات في الغسل متعارف، فما جرى على المتعارف فماء غسالته
المنفصل، أو ما انتهى إليه دون الباقي، وما لم يكن كذلك جرى فيه ما تقدم، إذ هي
احتمالات ليس في الشرع ما يشهد لها، وتأمل ذلك كله يشهد للقول بطهارة الغسالة.
الجواهر 42
336

وكيف كان فالكلام يقع في المنفصل عن النجس المزيل لنجاسته أو كان بعض المزيل
كما في متعدد الغسل، ولا كلام من أحد في النجاسة مع التغير، بل نقل عليها الاجماع
جماعة، منهم المصنف في المعتبر والعلامة في المختلف وغيرهما، والظاهر اختصاص الحكم
بالتغير بالنجاسة، فلا يدخل في البحث ما لو تغيرت بالمتنجس، إلا على ما ذهب إليه
الشيخ (رحمه الله) في نجاسة الكثير بذلك، وظاهر الاطلاق مع الاقتصار على خروج
المتغير حسب يقتضي عدم الفرق بين ما لو استصحب عين النجاسة أولا، نعم لو وقعت
في مكان واستقرت به وكان مع ذلك فيها عين نجاسة فالظاهر النجاسة، إلا من القائل
بعدم نجاسة القليل، أما لو لم تكن كذلك بأن كانت مثلا في الهواء، أو كان معها
أجزاء من عين النجاسة، فأصاب انسانا قطرة خالية عن عين النجاسة إلا أنها كانت
مستصحبة لها، أو للمستصحب لها فالظاهر جريان النزاع فيها، والمسألة محتاجة إلى التأمل.
إذا عرفت هذا فنقول قد اختلفت كلمات أصحابنا رضوان الله عليهم على أقوال،
(الأول) الحكم بالنجاسة مطلقا من غير فرق بين المتنجسات إناء كانت أو غيره،
ولا بين الغسلات في التعدد والاتحاد، وهو الذي اختاره المصنف في سائر كتبه،
والعلامة في المنتهى والقواعد والتحرير والمختلف والتذكرة والشهيدان في اللمعة
والروضة، ويظهر من الكركي الميل إليه، بل هو المحكي أيضا عن الاصباح والدروس
والألفية وظاهر المقنع وغيرهم، بل في جامع المقاصد تارة أنه الأشهر بين المتأخرين،
وأخرى العمل على المشهور بين المتأخرين، وقوفا مع الشهرة والاحتياط، وعن حاشية
الميسي نقل الشهرة عليه، وعن الروض أنه أشهر الأقوال، خصوصا بين المتأخرين.
(وقيل) بالطهارة مطلقا من غير فرق بين الغسلة الأولى والثانية، وفي الإناء
وغيره، بل في اللوامع أن عليه المرتضى وجل الطبقة الأولى، وفي جامع المقاصد
الأشهر بين المتقدمين أنه غير رافع كالمستعمل في الكبرى، وفي الذكرى أن ابن
حمزة والبصروي سويا بينه وبين رافع الأكبر، وعن المبسوط أنه قواه، واحتاط في الأول،
337

ويظهر من المنتهى أن قول الشيخ في المبسوط إنما هو في الغسلة التي تحصل الطهارة بعدها،
والظاهر أنه وهم، وفي مفتاح الكرامة عن كشف الالتباس أن عليه فتوى شيوخ المذهب،
كالسيد والشيخ وبني إدريس وحمزة وأبي عقيل إنتهى. والذي عثرت عليه في السرائر
قال: " وإن أصابه من الماء الذي يغسل به الإناء فإن كان من الغسلة الأولى
يجب غسله، وإن كان من الغسلة الثانية أو الثالثة لا يجب غسله، وقال بعض أصحابنا:
لا يجب غسله سواء كان من الغسلة الأولى أو الثانية، وما اخترناه هو المذهب " قال
السيد المرتضى: في الناصريات قال الناصر: لا فرق بين ورود الماء على النجاسة
وبين ورودها عليه، قال السيد: وهذه المسألة لا أعرف فيها أيضا لأصحابنا نصا ولا
قولا صريحا، والشافعي يفرق بين ورد الماء وورودها عليه، فيعتبر القلتين في ورود
النجاسة على الماء، ولا يعتبر في ورود الماء على النجاسة، وخالفه سائر الفقهاء في هذه
المسألة. ويقوى في نفسي عاجلا إلى أن يقع التأمل لذلك صحة ما ذهب إليه الشافعي،
والوجه فيه إنا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة لأدي ذلك إلى أن الثوب
لا يطهر من النجاسة إلا بايراد كر من الماء عليه، وذلك يشق، فدل على أن الماء إذا
ورد على النجاسة لا يعتبر فيه القلة ولا الكثرة، كما يعتبر فيما ترد النجاسة عليه، قال
محمد بن إدريس (رحمه الله): " وما قوي في نفس السيد صحيح مستمر على أصل
المذهب، وفتاوى الأصحاب به " قلت: والذي نقل عن الشافعي قد نقله العلامة
في المنتهى في المقام عنه أيضا في أحد وجهي الشافعي، ولا ريب في ظهور كلام السيد في عدم
نجاسة الغسالة، لكن في كشف اللثام أنه يمكن أن يقول إنه عند الانفصال ماء وردت
عليه النجاسة، وفيه - مع أنه مخالف لما فهمه كثير من الأصحاب وللأولوية، فإنه إذا
كان معه لا ينجس فإذا انفصل بطريق أولى، وللمنقول عن الشافعي من طهارة ماء الغسالة
لمثل ما ذكره السيد (رحمه الله) - أنه لا يصدق على المنفصل أنه ماء وردت عليه النجاسة
سيما في مثل النجاسة الحكمية، نعم الذي يظهر أن مرادهم بالورود أنه يرد عليها ويذهب،
338

لا أنه يجتمع معها في مكان تستقر هي فيه، فإنه يصدق عليه حينئذ في الآن الثاني أنه
ماء قليل فيه نجاسة. فهو خارج عن النزاع، وبما عرفت يكون ابن إدريس أيضا
موافقا، وحكمه في الإناء لا يكون مخالفا، إذ لعله لدليل، أو لأنه الغسلة الأولى
تستقر النجاسة الحاصلة من الولوغ مع الماء، فتكون من قبيل ما ورد عليه النجاسة،
سيما إذا كان بطريق التعفير، بخلاف الثانية والثالثة، ولذلك جاء بكلام السيد
شاهدا على ذلك، فتأمل جيدا.
(وقيل بالتفصيل) وهما قولان أيضا (الأول) التفصيل بأن ماء الغسالة كالمحل
بعدها، بمعنى أن ما كان فيه غسلة واحدة فماء الغسالة فيه طاهر، لكون المحل بعدها
طاهر، كما هو الفرض، وما كان الغسل فيه متعددا فماء الغسل الذي قبل الغسلة الأخيرة
نجس وفيها طاهر، لكون ما بعد الأول نجس، بخلاف الأخير، وعن نهاية الإحكام
أنه احتمله ونقله في مفتاح الكرامة عن أستاذه الشريف، بل قد يظهر من المنتهى أن
النزاع فيه، أي السغل الأخير خاصة. (الثاني) ما يظهر من المنقول عن الشيخ
في الخلاف، حيث إنه حكم بطهارة غسالة إناء الولوغ من غير فرق بين الأولى والثانية
والثالثة، وحكم بنجاسة ماء الغسالة الأولى في الثوب دون الثانية، ولا ينافي ذلك
ما ينقل عنه أنه قال إذا صب الماء على الثوب النجس وترك تحته إجانة يجتمع فيها ذلك
الماء فإنه نجس فإنه لعله يريد من جهة اجتماع مجموع الغسلتين، وعلى أحد الوجهين
في كلام ابن إدريس يكون أيضا مفصلا، لكن بغير هذا التفصيل.
بل يمكن أن يكون هناك (قول آخر) وهو أن القائلين بالطهارة منهم من اشترط
ورود الماء على النجاسة، وعن الشهيد في الذكرى أنه لا فرق بين ورود الماء على المتنجس
وبالعكس، لكنك خبير بأنه ليس قولا مستقلا فيما نحن فيه، بل هو راجع إلى أنه
هل يشترط في المطهر أن يكون واردا أو لا يشترط؟ فيكفي تحقق مطلق الغسل من غير
فرق بين الورودين، ولا دخل له فيما نحن فيه. واحتمال القول بأن المشترطين هنا
339

الورود يقولون أن التطهر يحصل بما إذا لم يكن واردا، لكن الغسالة تكون حينئذ نجسة
بخلاف الأول، فيؤول الأمر إلى أن اشتراط الورود إنما هو لتطهير الماء لا لتطهير الثوب
ضعيف، لما عرفت أن الذي دعاهم إلى ذلك إنما هو نجاسة الماء، فلا يفيد الثوب طهارة
ولذلك قال في المدارك: ذكر جماعة من الأصحاب أن من قال بطهارة الغسالة اعتبر فيها
ورود الماء على النجاسة، وأيضا الشهيد في الذكرى لم يذهب إلى طهارة الغسالة، نعم
قال: بعد أن اعترض على أدلة القول بالنجاسة فلم يبق دليل سوى الاحتياط،
ولا ريب فيه.
نعم هناك (قول آخر) وهو الحكم بنجاسة ماء الغسالة وإن ترامت الغسلات،
وطهر المحل، فيكون المحل طاهرا، وما يجري عليه من الماء نجس، وعن بعضهم أنه
نسبه إلى المصنف والعلامة، وكأن الذي أوهمه ما في المعتبر رادا على الخلاف من قوله:
والحق نجاستهما أي الغسلتين طهر أم لم يطهر، وما عن النهاية وأن يكون نجسا مطلقا
انفصل من الغسلة المطهرة أو لم ينفصل، ولا ريب في عدم إرادتهما ذلك، بل مقصودهما
عدم الفرق بين ماء الغسالة التي تحصل الطهارة بعدها وبين غيرها مما تقدمها، ويكون
ذلك ردا على الشيخ، فتنتهي الأقوال في بادي النطر إلى ستة، القول بالنجاسة مطلقا
إلى أن يطهر المحل، والقول بها ولو بعد طهره، والقول بالطهارة مطلقا، والتفصيل
بالورود وعدمه، والتفصيل بكون الغسلة مما يطهر المحل بعدها أو لا، والتفصيل بين
آنية الولوغ وغيرها، فلا ينجس شئ من الغسالة في الآنية، وتنجس الأولى خاصة
من غيرها دون الثانية، وعلى ما يحتمل في كلام ابن دريس تكون سبعة، بل على وجه
يمكن تحصيل ثامن، وهو ما ذهب إليه العلامة في المختلف من كون الغسالة طاهرة ما دامت
في المحل، فإذا انفصلت صارت نجسة، بل يمكن تحصيل تاسع، وهو ما عن بعض
القائلين بالطهارة من القول بالطهورية معها أيضا، بل في المدارك أنه اختلف القائلون
بالطهارة هل ذلك على سبيل العفو دون التطهير أو يكون باقيا عن الطهورية أو يكون
340

كرافع الأكبر؟ قال: بكل قائل، فعليه حينئذ تكون عشرة، ويأتي تحقيق القول
في ذلك إن شاء الله. (1)
وغاية ما يمكن أن يستدل به للقول بالنجاسة أنه ماء قليل لاقى نجاسة فينجس،
وبما رواه (2) في المعتبر والمنتهى وعن الخلاف عن العيص بن القاسم قال: سألته " عن
رجل أصابه قطرة من طشت فيه وضوء، فقال إن كان من بول أو قذر فيغسل
ما أصابه " وبالحكم في كثير من الأخبار (3) بإهراق الماء مع إصابة المتنجس له، وبما
رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (4) قال: " الماء الذي يغسل به الثوب
أو يغتسل به من الجنابة لا يتوضأ به وأشباهه " وربما يستدل له بالاجماع المدعى في التحرير،
قال: " متى كان على بدن الجنب أو الحائض نجاسة عينية كان المستعمل نجسا إجماعا "
وفي المنتهى متى كان على جسد المجنب أو المغتسل من حيض وشبهه نجاسة عينية فالمستعمل
إذا قل عن الكر نجس إجماعا، بل الحكم بالطهارة مع الخلو عن النجاسة العينية، وبالنهي
(5) عن استعمال غسالة الحمام.
والكل لا تخلو من نظر، أما الأول فقد أثبتوا كبراه بالمفهوم من قوله (عليه
السلام): (6) " إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ " وفيه أنه لا دلالة فيه على نجاسة
الماء القليل بكل شئ، وعلى كل حال، وكأنهم يفهمون ذلك منه لما هو مركوز

(1) وأنت خبير بما في هذا التعداد لهذه الأقوال، لما عرفت أن الثاني ليس قولا
لأحد، كما أن القول بالطهارة مع عدم اشتراط الورود الذي نسب للشهيد قد عرفت ما فيه،
وغير ذلك فتأمل (منه رحمه الله).
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 14
(3) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق
(4) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 13 مع اختلاف يسير
(5) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف
(6) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1 و 2 و 5 و 6
341

في أذهانهم من نجاسة الماء القليل، وإلا لو عرضت عليهم نظائر هذا التركيب لأنكروا
على من فهم منها ذلك، فإذا قال القائل مثلا إذا جاءك زيد فلا تكرم أحدا أترى
أنه يفهم منه أنه إن لم يجئك زيد فأكرم كل أحد كلا، إن مدعي ذلك مفتر، نعم
يفهم أنه أن لم يجئ زيد فليس هذا الحكم، وهو هنا مسلم، فإنه إن لم يكن الماء قدر كر
فليس له هذا الحكم، وعدم هذا الحكم تارة يكون بالايجاب الكلي، وأخرى بالجزئي،
كما اعترف به الفاضل في نظير المقام، على أن تقدير المفهوم على حسب غيره في المقام
يقتضي أن غير الكر ينجسه شئ، وهو نكرة في سياق الاثبات لا تفيد العموم، لا يقال:
إنا نأخذ ذلك من الحكمة، فإنه إن لم يحمل على هذا المعنى لزم اللغو في كلام الحكيم،
لأن الحمل على بعض دون بعض ترجيح من غير مرجح، ولا عهد، فوجب الحمل
على العموم، وفيه - مع فساده في نفسه وجوه مذكورة في محلها - أنه إن حكم بذلك
فإنما يحكم به بعد العلم بأنه جاء الشارع بهذا الخطاب لإفادة ذلك، فإنه قد يكون حينئذ
قرينة عقلية على ذلك، ودعوى حصوله في المقام ممنوعة، إذ لعله جئ به لبيان عموم
حكم المنطوق، كما يظهر من بعض الأخبار (1) المتضمنة للسؤال " عن الماء الذي لا ينجسه
شئ فقال: كر " ونحوها غيرها.
ولقد أجاد المقدس البغدادي في محصوله، حيث أنكر دلالة مثل الشرط الذي
يراد العموم من منطوقه على المفهوم، كقوله " متى تاته تعشوا إلى ضوء ناره " و " حيث ما تراه
تجده مشغولا " ونحوهما، وإن كان هو في بعض المواضع لا يخلو من نظر، ومع ذلك
فالشك كاف في المطلوب، ومن هنا ظهر لك وجه ما وقع من بعضهم من منع كلية
الكبرى في المقام، مع استدلالهم بالمفهوم على نجاسة الماء القليل، وذلك لأنه لا كلام
في كون هذه الأخبار دالة على التنجيس بغير التغير، فيستدل بها حينئذ على المنكر لذلك
كابن أبي عقيل، وأما أن التنجيس بكل شئ وعلى أي حال فلا دلالة فيها، ومن هذه

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 7
342

الجهة اتجه لهم منع كلية الكبرى. نعم قد يقال أن المتتبع لكثير من الأخبار مضافا
إلى حكاية الاجماعات هناك على النجاسة يستفيد قاعدة، وهي إن ماء القليل ينجس
بالملاقاة، لكن ذلك معارض بأنه أيضا يستفاد من تتبع الأخبار وكثير من الاجماعات
في غير المقام قاعدة، هي أن المتنجس لا يطهر، بل مما دل على نجاسة القليل نفسه،
لأن معناها لا ترفع حدثا ولا تزيل خبثا، مضافا إلى ظهور كون الماء طهورا المراد به الطاهر
في نفسه المطهر لغيره في طهارته حال مطهريته، فتأمل جيدا فإنه دقيق جدا. ودعوى
أنه لم يعلم كونها شاملة لمثل المقام ليس بأولى من دعوى أنه لم يعلم شمول القاعدة الأولى
له، على أن القاعدة لا يلاحظ دليلها الدال عليها في خصوص كل مورد، وإلا لم تكن
لها ثمرة، فما وقع من بعض متأخري المتأخرين من منع شمول عدم تطهير المتنجس لمثل
المقام إنما المعلوم في المتنجس سابقا، لا فيما حصل التطهير به، لعدم حصول الاجماع
في المقام ليس في محله، وليس بأولى من تقريره أيضا في الماء القليل حرفا بحرف،
بعد أن عرفت فساد دلالة المفهوم، وربما يرشد إلى عدم النجاسة بالورود ما في كشف
اللثام في المطهرات في شرح قول العلامة ينبغي في الغسل الورود، فلو عكس نجس الماء،
ولم يطهر المحل، قال بعد أن نسب اشتراط الورود للمرتضى وابن إدريس: " وإنما
لا ينفعل مع الورود للحرج والاجماع " انتهى، اللهم إلا أن يحمل منه ذلك على عدم
نجاسة العالي بالسافل، وفيه بعد أو منع، أو على أن ماء الغسالة ما انفصل من المغسول
دون ما كان فيه، وقد يقال أيضا: إن الماء المغسول به يتنجس بأول المباشرة، فهو
بالنسبة إلى الأجزاء الأخر متنجس سابق، فتأمل جيدا.
ولا ينافي ما ذكرنا من القاعدة خروج أحجار الاستنجاء، وإلا لنا في قاعدة
القليل خروج ماء الاستنجاء وغيره، على أن التطهير بأحجار الاستنجاء إنما هو يكون
المراد بزوال العين بها نحو زوالها مثلا في الحيوان، وفرق واضح بينه وبين التطهير بالماء،
ومما يرشد أيضا إلى كون القاعدة محكمة في غاية الاحكام، بل هي في الحقيقة بعض
343

لوازم نجاسة القليل، والاجماعات عليها في غير المقام أكثر من أن تحصى، وتحصيلها
من تتبع الأخبار واضح، إن مثل العلامة وغيره ممن أذعن لهم أهل هذا الفن بالتحقيق
لم يجسر على إنكارها بعد أن أوردها دليلا للمرتضى، بل قال إنا نمنع الملازمة
فنقول: بطهارة الماء في المحل، ونجاسته بعد الانفصال، ومن هنا قال المحقق الثاني:
" إن فيه اعترافا بالعجز عن دفع ما استدل به من مكان قريب " وهو في غاية الجودة،
فإن القول بنجاسة القليل الملاقي للنجاسة بعد مفارقتها لا يعقل وجهه، والتزام الطهارة
حينئذ أولى وأولى.
إذا عرفت ذلك فالظاهر أن الترجيح لهذه القاعدة لوجوه إن لم نقل أنها أخص
من قاعدة نجاسة الماء القليل، وإلا كانت محكمة عليها على حسب غيرها (منها) ما تقدم
في صدر البحث. (ومنها) عدم وجود أثر لها ها هنا فيما وصل إلينا من الأخبار
بالخصوص مع عموم البلوى والبلية بها، واشتمالها على كثير من فروعها الدقيقة، مثل
القطرات ويد المباشر ونحوهما، ولذلك قال: في الذكرى والعجب خلو كلام أكثر
القدماء عن الغسالة مع عموم البلوى بها. (ومنها) تأيد هذه بأصل البراءة وأصل الإباحة
وأصل الطهارة واستصحابها. (ومنها) ما قد عرفت من أن ابن إدريس نسب ما قاله
المرتضى إلى الاستمرار على أصل المذهب وفتاوى الأصحاب. (ومنها) أن هذه
القاعدة لم يعثر على تخلفها بالنسبة إلى المياه أبدا، بخلاف الأولى، فإنه قد تخلفت
في بعض هو محل وفاق، كالاستنجاء وماء المطر والجاري، وآخر محل خلاف،
كالحمام ونحوه. (ومنها) أن قاعدة (المتنجس ينجس) القاضي بتنجيس القليل به في المقام
استنباطية، ولم يعلم شمولها لمثل المقام، مع تخلفها عندهم هنا، فإن الماء عندهم نجس،
ولا ينجس الثوب مثلا به، فإن كان لم يعلم شمول القاعدة لمثل المقام فلا يعلم شمول قاعدة
أن المتنجس ينجس للمقام حتى ينسج الماء بالثوب. (ومنها) عسر التحرز عنها في كثير
الجواهر 43
344

من المقامات بالنسبة إلى جريانها إلى غير محل النجاسة، وبالنسبة إلى مقدار التقاطر
ومقدار المتخلف ونحو ذلك، والقول بأن مدار ذلك على العرف لا أثر له في الأدلة الشرعية،
ولو تأمل الناظر في عمل القائلين بالنجاسة وكيفية عدم تحرزهم عنها لقطع بأن عملهم مخالف
لما يفتون به، بل لو اتفق أن بعض الناس صب على فمه وبقي يهز رأسه لقطع ماء الغسالة
المتخلف في شعر شاربه ولحيته ومنخره لعدوه من المجانين، بل من المخالفين لشريعة
سيد المرسلين، بل هؤلاء الحاكمون بالنجاسة لا ينتظرون شيئا من ذلك، ويبقى يتقاطر
على ثيابهم، بل لعل المتخلف الذي يتساقط عليهم أكثر من الذي انفصل بمراتب
شتى. (ومنها) ما ورد (1) " عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب الآخر، وعن
الفرو وما فيه من الحشو، قال: اغسل ما أصاب منه، ومس الجانب الآخر، فإن
أصبت شيئا منه فاغسله، وإلا فانضحه ". (ومنها) أنه من المستبعد جدا أنه ماء واحد
المنفصل منه نجس، والثاني طاهر من غير دليل يقتضيه، بل قيل أنه غير معقول.
(ومنها) أنها مؤيدة بأخبار الاستنجاء (2) فإنه لم يظهر من شئ منها أن ذلك
لخصوصية في الاستنجاء، بل في بعضها (3) " أو تدري لم صار لا بأس به، قلت:
لا والله، فقال: إن الماء أكثر من القذر " وفي بعضها (4) " أستنجي ثم يقع ثوبي
فيه وأنا جنب، فقال: لا بأس به ". (ومنها) رواية الذنوب (5) إلى غير ذلك
من رواية عبد الله بن سنان (6) وغيره، ومن صحيح (7) ابن مسلم الوارد في غسل الثوب

(1) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب النجاسات - حديث 2 مع اختلاف يسير
(2) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف
(3) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف - حديث 2 - 4
(4) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف - حديث 2 - 4
(5) سنن البيهقي - ج 2 ص 428
(6) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 13
(7) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب النجاسات - حديث 1
345

في المركن مرتين، وتسمعه في آخر المبحث إن شاء الله، وتعرف أنه لا يتم إلا على
القول بطهارة الغسالة، كما اعترف به في الذخيرة، ضرورة أن المراد بالمركن الإناء
الذي يغسل به الثياب، وبناء على نجاسة الغسالة لا ريب في نجاسة الثوب بالإناء المباشر
بماء الغسالة، بل وبما يخرج من الثوب بالغمز ونحوه، بل وبغير ذلك مما لا يمكن
الالتزام به بناء على نجاسة الغسالة، بخلاف القول بالطهارة، فلاحظ وتأمل. (ومنها)
رواية الصب (1) في بول الصبي. (ومنها) أن ارتفاع النجاسة عن هذا الماء من غير رافع
لها غير معقول إلا بدليل، والاطلاقات لا تقتضيه، إذ قد تكون مبنية على الطهارة،
والحاصل أنه مناف لكثير من القواعد الشرعية، كالتطهير بالمتنجس، واختلاف
أجزاء الماء طهارة ونجاسة، وحصول الطهارة للنجس بغير مطهر، وغير ذلك.
وربما أيد القول بالنجاسة - مقابل تأييد الطهارة بما عرفت - بما دل على تعدد
الغسل (2) وإهراق الغسلة الأولى من الظروف (3) وفيه أنه لا إشعار بذلك في شئ
منهما، فإن تعدد الغسل ليس لاخراج الغسالة ولا الاهراق، بل هو للتعبد، والاهراق
إنما هو ليغسل مرة أخرى، ولذلك لا نوجب لتعدد في كل نجاسة حكمية كانت أو
عينية، وإلا فالثاني أيضا ماء غسالة، وهكذا وهو لا معنى له، نعم قد يؤيد القول
بالنجاسة بما ورد من وجوب العصر، فإنه يستبعد أن يكون للتعبد، بل الظاهر منه إنما
هو لاخراج الغسالة، لكن فيه أيضا أنه قد يكون لا خراج عين النجاسة لا الغسالة،
وقد يكون لدخوله في مفهوم الغسل، ويأتيك تحقيق القول فيه إنشاء الله.
وربما أيد بالاحتياط، وفيه أن الاحتياط تارة يكون فيه، وأخرى بالطهارة،
لا يقال: أن النجاسة مؤيدة بفتوى المشهور، وهي أرجح من جميع ما ذكرت
من المؤيدات، لأنا نقول: لم تثبت شهرة على الاطلاق، بل هي بين المتأخرين،

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب النجاسات - حديث 1 و 2
(2) الوسائل - الباب - 53 - من أبواب النجاسات وغير ذلك من أبوابها
(3) الوسائل - الباب - 53 - من أبواب النجاسات وغير ذلك من أبوابها
346

بل قد عرفت أن المنقول عن أكثر المتقدمين خلافه، ومع ذلك فهي معروفة المستند
ولا أقل من تصادم جميع ما ذكرنا، ويبقى أصل الطهارة واستصحاب طهارة الملاقي وغيرهما
سالما، ولذا اعترف في الذكرى بأنه لم يبق دليل سوى الاحتياط، كالمحقق الثاني
حيث قال: والعمل على المشهور بين المتأخرين، وقوفا مع الشهرة والاحتياط، هذا.
وأنت خبير أن قضية ما ذكرنا من القاعدة تخصيص الطهارة بالغسلة التي يحصل الطهارة
للمحل بها، لأنها هي المورثة للمحل طهارة، فلا تكون نجسة وأما ما تقدمها حيث تكون
لا تفيد المحل طهارة فلا تجري فيها القاعدة، فيكون من قال: بالطهارة مطلقا بل طهارة
مطلق الوارد وإن كان في غير مقام التطهير لهذه القاعدة غير متجه، لعدم اقتضاءها
ذلك، فتكون أخص من الدعوى، بل يظهر من المنتهى أن محل النزاع فيما ذكرنا
من الغسلة التي تحصل طهارة المحل بها، فيمكن حينئذ إرجاع كلام الشيخ في الخلاف
على ما نقل عنه من نجاسة الغسالة الأولى دون الثانية إليه، ولعل وجه من قال بطهارة
الجميع أنه الذي أفاد طهارة المحل لا الأخير فقط، كما يظهر من استدلال الشيخ المنقول
عنه في الخلاف للحكم بطهارة غسالة إناء الولوغ من غير فرق بين الأولى والثانية والثالثة
مضافا إلى ما ذكرنا من أصل الطهارة. وتسمع إن شاء الله تمام الكلام.
(وأما الدليل الثاني) وهو رواية العيص (1) فهي - مع كونها مضمرة ومقطوعة،
ورواية المعتبر له مع حكمه بضعفها لا تورثها شيئا، وأما رواية المنتهى لها فمن المقطوع
أنه تبع بها الشيخ، وكون الشيخ يروي عن العيص في بعض كتبه بطريق حسن لا يقضي
بروايته عنه في غيره كذلك، واحتمال أنه أخذها من كتابه مع كونه معتمدا عنده بطريق
معتبر معارض باحتمال عدمه، مع احتمال إرادة الوضوء ما كان متعارفا من أحوال بعض
المرضي أنه يؤتى له بطشت فيبول فيه ويتغوط ويستنجي فيه، فقد يكون إنما أمره

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 14
347

لذلك - غير دالة على تمام المدعى حتى تنافي ما ستسمعه مما نختاره إن شاء الله، بل قد
تكون شاهدا لنا.
(وأما الثالث) فلأن القائل بالطهارة يشترط ورود المطهر، بل والقائل بالنجاسة،
نعم يظهر من الشهيد في الذكرى خلاف ذلك، ولعله يقول حينئذ بنجاسة الغسالة وإن
ظهر منه الميل إلى الطهارة هنا، لكن يخص ذلك بورود المطهر لا العكس، فيحكم حينئذ
بطهارة الأجمع، ونجاسة الماء للأمر بالاهراق، والتحقيق أن الورود شرط كما يأتي
إن شاء الله، على أن هذه الأخبار محتملة لأن يكون أصابها عين القذر من غير تحقق
للغسل، وأما إجماع المنتهى والتحرير فلا يدلان على تمام المطلوب بل هما خاصان
بالنجاسة العينية، وهما غير منافيين لما ستسمعه من المختار، وأما رواية عبد الله بن
سنان فهي إن لم يكن فيها إشعار بالعدم فلا دلالة فيها على الدعوى، وأما النهي عن
غسالة الحمام ففيه - مع معارضته ببعض الأخبار المتضمنة لنفي البأس - إن كثيرا منها نهت
عن الاغتسال فيها معللة ذلك بأنه اغتسال الجنب والناصب وولد الزنا واليهودي والنصراني
ونحو ذلك، بل قد يشعر من عدم ذكر التعليل في شئ منها بغسل النجاسات بعكس
الدعوى، وقد بان لك من جميع ما ذكرنا حجة القول بالطهارة مطلقا، وحجة القول
بطهارة الغسلة الأخيرة التي تحصل طهارة المحل بعدها، والمنقول عن الشيخ من التفصيل
بطهارة غسالة إناء الولوغ، لما ذكرنا من أدلة الطهارة، ونجاسة الأولى من غسالة
الثوب، لخبر العيص ونحوه من أدلة النجاسة، وطهارة الثانية للأصل، فتأمل.
والأقوى في النظر الحكم بطهارة الغسالة مطلقا، من غير فرق بين الأولى والثانية
نعم يشترط أن لا يكون الغسلة التي فيها زوال عين النجاسة، بناء على عدم مدخليتها
بالتطهر حتى يلتزم بطهارتها، لما سمعته من القاعدة المنجبرة بما عرفت، لا يقال: إن
مقتضى ما ذكرت من القاعدة أن تخص الطهارة بالأخيرة فقط، لأنها هي التي حصلت
الطهارة بها، لأن الظاهر أن كل جزء منها سبب والطهارة تحصل بالمجموع، وما يقال:
348

إن النجاسة إن كانت عينية ثم غسلتها مرة واحدة فإن الظاهر الطهارة، مع أن مقتضى
التقييد السابق العدم يدفعه إمكان دعوى عدم حصول الطهارة حتى تزال العين
ويتعقبه غسل ولو بالاستمرار، فحينئذ المطهر الغسل المتعقب وذاك الذي نلتزم بطهارته،
ولعله لذا جعل المنتهى محل النزاع الغسلة التي يحصل طهارة المحل بعدها دون غسلة الإزالة،
بل لعل إجماع التحرير والمنتهى المتقدم شاهد على ذلك، كما يومي تقييدهما محله بالنجاسة
العينية بل ربما يحمل خبر العيص على ذلك أيضا، بل لعل كلام ابن إدريس المتقدم
في مسألة الولوغ يرجع إليه أيضا، بل وكلام الشيخ في الخلاف في تطهير الثياب.
فحاصل الكلام بناء على ذلك أن الغسل الذي يفيد المحل طهارة إنما هو المتأخر
عن إزالة النجاسة ولو بالاستمرار، فالملتزم طهارته فقط، لأن التطهير إنما حصل به،
دون العسل الذي أزال العين، فإنه لا مدخلية له فيه ولذلك لا يتوقف زوال العين عليه،
بل يحصل بالبصاق والمضاف ونحوهما، فلو فرض حينئذ غسل أي إجراء واحد من غير
تعقب لآخر لا بالاستمرار ولا بغيره وكات النجاسة عينية فالظاهر أنا لا نلتزم بطهارة المحل،
بل نقول ببقاء النجاسة إلى حصول غسل آخر ولو باستمرار الصب، نعم لو قلنا بالاجتزاء
بما ذكرت لكان لا بد من الالتزام بطهارة ذلك، مع أنه لا بأس بالتزامه إذا فرض
استهلاكه لعين النجاسة، بل وإن لم يستهلك نحو ماء الاستنجاء، بل الظاهر لزومه
لكل من قال: بطهارة الغسالة، لا يقال: إنه قد ينفصل الماء متغيرا بلون النجاسة ومع
ذا تحقق اسم الغسل به، والتزام طهارته هنا حينئذ خرق للاجماع فطهر المحل حينئذ مع
نجاسة غسالته، لأنا نقول: نمنع حصول طهارة المحل بذلك، بل لا بد من تحقق غسل
آخر بعده بغيره ولو بالاستمرار، نعم لو فرض تغيره بعد تحقق مسمى الغسل به كان
لا بأس بالتزام نجاسته، وطهارة المحل به قبل التغير، فتأمل جيدا فإنه دقيق، ويأتي له
في غسل النجاسات تتمة إن شاء الله تعالى.
فإن قلت: لم لم نلتزم بما التزم العلامة من الحكم بالطهارة ما دام في المحل فإذا انفصل
349

نجس، قلت: هو مع كونه منافيا للاستصحاب مستلزم لتخلف المعلول عن العلة،
ووجوده بدونها، وذلك لأنه عند حصول سبب النجاسة وهي الملاقاة للمتنجس لا ينجس،
وعند عدمها ينجس، ودعوى أن الملاقاة الأولى تؤثر تنجيسا في الحال والاستمرار
ارتفع الأثر في الحال لمانع، فيبقى الباقي لا يخفى ما فيها من السخافة، كاحتمال أن ماء
الغسالة لا يظهر أثر نجاسته إلا إذا انفصل، فما دام غير منفصل ليس بنجس، فيكون
حاله كحال ما في البواطن أما أولا فلأن الشئ تلاحظ طهارته ونجاسته بالنسبة إلى نفسه،
وإلا لجرى ما قال في المباشر للثوب النجس من الماء المضاف ونحوه، وأما ثانيا فلأن
من جملة آثار نجاسته عدم حصول التطهير به للمغسول، وحصوله على تقدير الطهارة
عند من ذهب إلى ذلك، بل مما يمكن أن يلزم به القائلون بالنجاسة أن الأخبار قد دلت
على حصول الطهارة بمجرد حصول الغسل المتحقق قبل حصول الانقطاع فإن كان هذه
الأوامر أفادت طهارة المتخلف فلتفد الطهارة قبل تحقق الانقطاع، لتحقق مسمى الغسل
القاضي بطهارة المغسول الذي يلزمه عندهم طهارة ما معه، فتأمل. وأظنك تكتف بما
ذكرنا بالنسبة إلى هذه المسألة، والله أعلم بحقيقة الحال، وانظر إلى ما قيل ولا تنظر
إلى من قال، وطريق الاحتياط غير خفي.
ثم إن هناك نزاعين آخرين أحدهما بين القائلين بالطهارة، والآخر بين القائلين
بالنجاسة، (أما الأول) فقال في المدارك: " اختلف القائلون بعدم نجاسة الغسالة في أن
ذلك هل هو على سبيل العفو بمعنى الطهارة دون الطهورية، أو تكون باقية على ما كانت
عليه من الطهورية، أو يكون حكمها حكم رافع الحدث الأكبر؟ فقال بكل قائل،
والمراد بالآخر أنه رافع للخبث دون الحدث " انتهى. وكيف كان فالأقوى في النظر
عدم جواز رفع الحدث به، لما رواه عبد الله بن سنان، وللإجماع في المعتبر والمنتهى،
ويلحق به المبيح وإن لم يرفع حدثا، وأما رفع الخبث فقد اعترف به بعض القائلين
بالطهارة، لعدم ما يدل على خلافه، إذ ما عرفت من الاجماع إنما هو على رفع الحدث
350

به، بل قد يؤيده الاستصحاب، لكن الأقوى في النظر العدم، لاستصحاب بقاء
الخبث، وما عساه يظهر من رواية عمار (1) الواردة في كيفية تطهير الإناء والكوز
" كيف يغسل، وكم مرة يغسل؟ قال: يغسل ثلاث مرات، يصب فيه الماء فيحرك
فيه، ثم يفرغ منه، ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه، ثم يفرغ ذلك الماء، ثم
يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه، ثم يفرغ منه وقد طهر " فإن أمره (عليه السلام)
بافراغه، وصب ماء آخر فيه غيره يشعر أنه لا يزيل خبثا، وإلا لأمكن غسل
الإناء ثلاث مرات بذلك، بل من غير إهراقه، ويتحقق الفصل بين الغسلات
بالسكون بينها يسيرا، ولا ينجس بالسكون لأن الغرض الطهارة، بل قد يدعى
أن الأوامر بصب الماء ونحوه لا تشمل الماء المستعمل في إزالة الأخباث، كما أنه قد
يقال إن ذلك نوع جمع بين القاعدتين المتقدمتين، بل قد يقال: إن القول برفع
الخبث به دون الحدث خرق للاجماع المركب، ومثل هذا النزاع يجري على القول
بالنجاسة أيضا في المتخلف من الماء في الثوب والبدن، ضرورة جريان الاحتمالات الثلاثة
فيه، لكن لعل المتجه على مذهبهم القول بأنه طاهر لا يرفع حدثا ولا خبثا، وذلك لأن
القاعدة تقضي بتنجيسه، لكن لمكان العسر والحرج والمشقة التزم بالطهارة، مضافا
إلى الأدلة الحاكمة بها بعد الغسل، فاللازم الاقتصار على مقدار ما تندفع به الضرورة،
وهو الطهارة دون المطهرية، ومنه يظهر لك كل من وجهي الاحتمالين الآخرين.
(وأما النزاع الثاني) وهو على تقدير القول بالنجاسة فهل هي كالمحل قبل الغسل،
أو قبلها أو يكفي فيها مطلق الغسل؟ وجوه بل أقوال، فعلى الأول يجب التعدد
فيما وجب فيه ذلك ولو كان من الأخيرة، وعلى الثاني تنقص كلما تنقص، وعلى الثالث
يكفي المرة الواحدة، ولعل وجه الأول أنه نجاسة لم يعرف لها مقدار من الشرع،
فالاستصحاب ثابت، ولا نتيقن الطهارة إلا بذلك، واحتمال الزيادة نقطع بعدمه،

(1) الوسائل - الباب - 53 - من أبواب النجاسات - حديث 1
351

لأنها لا تزيد على الأصل، ولأنها اشتملت على النجاسة التي في المحل، فلا يزيلها إلا
ما يزيلها، والثاني أنه لا ريب بضعف نجاسة المحل في الثانية والثالثة، ومعنى ضعف
النجاسة عدم تعدد الغسل، وأيضا نجاسة المحل بعد الغسل الأول تنتقل إلى مثل النجاسة
التي وجب بها غسل واحد، والفرع لا يزيد على الأصل والثالث أصالة البراءة، وإطلاق
ما دل على غسل النجس، وخبر العيص، فإنه أمره بالغسل، وهو للطبيعة مع ترك
الاستفصال، واشتماله على متعدد الغسل، وفي الروضة " أن الثاني إنما يتم فيما يغسل
مرتين لا لخصوص النجاسة، أما المخصوص كالولوغ فلا لأن الغسالة لا تسمى ولوغا،
من ثم لو وقع لعابه في الإناء بغير الولوغ لم يوجب حكمه " انتهى. ومنه ينقدح
الاعتراض على الأول، لا يقال: عليه أن الغسل المتعدد في سائر النجاسات معلق
على اسم غير حاصل بالغسالة، كالبول ونحوه لأنا نقول: الظاهر بقرينة مثاله أن
مراده أن تعدد الغسل في الولوغ لمعنى ليس موجودا في الغسالة، إذ ليس هو اللعاب
الموجود فيها، وإنما هو حكم شرعي لمجرد الولوغ، وهو غير حاصل في الغسالة بخلاف
البول وغيره، فإن فيه عينية، فيتبعها الغسالة.
والحاصل يرجع كلامه إلى أن الغسالة لمجرد تعبد شرعي، لا لوجود عين نجاسة
تختص بالاسم الذي تعبد به الشارع، دون النجاسة العينية فإنها وإن زالت العين لكن
الحكم مستند إليها بخلاف الولوغ، فإنه ليس راجعا لمعين، لما عرفت من أن تعدد الغسل
ليس للعاب، ويحتمل أن يريد بقوله إنما يتم إلى آخره أن ذلك يتم على مذهب من يقول
بوجوب الغسل مرتين في كل نجاسة، لا لخصوص نجاسة. ولا يخفى ما فيه من البعد،
وبما وجهنا به الدليل الأول تعرف دفع ما عساه يورد عليه أن الغسالة لم تكن داخلة تحت
اسم ما ورد التعدد فيه، لما عرفت أنه لم يأخذه من ذلك، بل مما قدمناه فلا يتجه عليه
ما ذكر نعم الظاهر أنه إن كان المستند في النجاسة إنما هو خبر العيص عندهم فالمتجه الأخير،
الجواهر 44
352

وإلا كان الأول قويا وإن كان الثاني أقوى في النظر ومن هنا تعرف عدم اعتمادهم
على خبر العيص، فإنه لم ينقل الاكتفاء المرة إلا عن صاحب المعالم، ونقل أنه نقله عن
بعض المعاصرين، نعم في مفتاح الكرامة أنه قواه الأستاذ، وإلا فعن الروض أن الشهيد
في جميع كتبه ومن تأخر على الثاني، ولم ينقل الأول إلا عن العلامة في نهاية الإحكام
وظاهر القواعد والإرشاد، مع أنه لم يظهر لي الاستظهار المذكور، فلاحظ وتأمل
هذا. وفي المنتهى إذا غسل الثوب من البول في إجانة بأن يصب عليه الماء فسد الماء،
وخرج من الثانية طاهرا اتحدت الآنية أو تعددت واحتج لذلك بوجهين، أحدها
أنه قد حصل الامتثال بغسله مرتين، وإلا لم يدل الأمر على الاجزاء، الثاني ما رواه
الشيخ (رحمه الله) في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
قال: سألته " عن الثوب يصيبه البول، قال: اغسله مرتين في المركن، فإن غسلته
في ماء جار فمرة " وفي الذخيرة " أنه قد يستشكل الحكم بطهارة الثوب مع الحكم بفساد
الماء المجتمع تحته في الإجانة، سيما بعد حكمه بنجاسة الماء بانفصاله عن المحل المغسول،
فإن الماء بعد انفصاله عن المحل المغسول يلاقيه في الآنية، فيلزم تنجيسه، وقد يتكلف
في حله بأن المراد بالانفصال خروجه عن الثوب والإناء المغسول فيه، تنزيلا للاتصال
الحاصل باعتبار الإناء منزلة ما يكون في نفس المغسول، للحديث المذكور، ثم قال:
ولا يخفى أن بناء هذا الخبر على طهارة الغسالة أولى من ارتكاب هذا التكليف، فإن ذلك
إنما يصح إذا ثبت دليل واضح على نجاسة الغسالة، وقد عرفت انتفاءه " قلت: هو
في غاية الجودة.
ولا فرق بناء على نجاسة الغسالة بين سائر الغسالات (عدا ماء الاستنجاء فإنه
طاهر) لا ينجس ما يلاقيه إجماعا تحصيلا ومنقولا نصا وظاهرا على لسان جملة من علمائنا،

(1) الوسائل - الباب - 53 - من أبواب النجاسات حديث 1
353

ونصوصا معتبرة مستفيضة، (منها) حسنة الأحول (1) قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): " أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء، فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت
به، فقال: لا بأس " وعن علل الصدوق (2) أنه روى عن أبيه يسند إلى الأحول
فيه إرسال، أنه قال لأبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: " الرجل يستنجي فيقع
ثوبه في الماء لذي استنجى به، فقال: لا بأس، فسكت فقال: أو تدري لم صار لا بأس
به، قال: قلت: لا والله، فقال: إن الماء أكثر من القذر " (ومنها) خبر محمد بن النعمان
عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: قلت له: " أستنجي ثم يقع ثوبي فيه وأنا جنب،
فقال: لا بأس " (ومنها) خبر عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (4) قال سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) " عن الرجل يقع ثوبه على الماء الذي استنجى به أينجس ذلك ثوبه؟
فقال: لا " وما في سند البعض منجبر بما سمعت، والتعدية لغير الثوب بالتنقيح للاجماع
إن لم نقل أنه يفهم ذلك من مثله، أو أن هذه النصوص مؤكدة لما يقول من طهارة
الغسالة، خصوصا بعد عدم الايماء في شئ منها إلى اختصاص هذا الفرد بالخروج
من قاعدة نجاسة القليل، بل فيها الايماء إلى خلافه، كالتعليل المزبور الجاري في أكثر
أفراد الغسالة الذي مرجعه إلى أن ماء الغسل أكثر من القذر، والفرض طهارته، لأنه
ماء غسالة، فإذا وقع الثوب فيه لم يعلم المصاحبة بشئ من أجزاء القذر.
وكيف كان فربما ظهر من الذكرى وغيرها وقوع الخلاف في أنه على سبيل
العفو أو هو طاهر؟ قال: " وفي المعتبر ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة إنما هو
بالعفو، وتظهر الثمرة في استعماله، ولعله أقرب، لتيقن البراءة بغيره " ولعله عثر
على غير ما عندنا وعند صاحب المدارك والحدائق من نسخ المعتبر، أو عثر عليه

(1) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف - حديث 1 - 2
(2) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف - حديث 1 - 2
(3) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف - حديث 4 - 5
(4) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب الماء المضاف - حديث 4 - 5
354

في مقام آخر، وإلا فالموجود فيما عندنا وأما طهارة ماء الاستنجاء فهو مذهب الشيخين،
وقال علم الهدى في المصباح: " لا بأس بما ينضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن "
وكلامه صريح في العفو، وليس بصريح في الطهارة، ويدل على الطهارة ما رواه
الأحول، ثم قال بعد نقلها: ولأن في التفصي عنه عسرا، فيسوغ العفو دفعا
للعسر، ولا يخفى على المتأمل في أول كلامه أنه قائل بالطهارة، ولعل تعليله الأخير
مبني على أن أصل الطهارة فيه دفعا للعسر، وكثيرا ما يقع منهم الاستدلال بهذه العبارة
لهذا المعنى، لكن قد يكون الشهيد فهم ذلك لهذا التعليل، أو لأن المحقق فهم من عبارة
المرتضى المتقدمة العفوية حتى قال ما سمعت، وعبارة الروايات مثلها، لنفي البأس في
حسنة الأحول، وعدم التنجيس في رواية عبد الكريم بن عتبة فلعل مراده بقوله ويدل
على الطهارة ما يشمل العفو، فتأمل جيدا.
وكيف كان فالظاهر وجود الخلاف في ذلك وإن كان في استظهاره من عبارة
المرتضى اشكال، بل يظهر من المنتهى على وجه كصريح الشهيد وظاهر جماعة العفو،
وصريح آخرين الطهارة، وقد عرفت ما تقدم من الذكرى أنه على تقدير العفو لا يسوغ
استعماله، بخلاف الثاني، ولعله الظاهر من العفو، فلا يدخل تحت ما دل على اشتراط
الطهارة فيه، بل أقصاه أنه عفي عن حكم النجاسة بالنسبة للتنجس ونحوه، لاعن أصل
النجاسة حتى يلزمه الطهارة، فلا يجوز التطهر به حينئذ من حدث أو خبث، واحتمال أن
يراد بالعفو أنه طاهر غير مطهر، فيجوز استعماله على تقدير العفو في كل ما اشترطت
الطهارة فيه، كالأغسال المسنونة ونحوها، نعم لا يجوز رفع الحدث والخبث خاصة،
بل تنحصر فائدة الخلاف في رفع الخبث، للاجماع المنقول على عدم جواز رفع الحدث
به في غاية الضعف، بعدم ظهوره من كلام القائلين بالعفو، فما ناقش به المحقق
الثاني الشهيد غير متوجه، قال: " اللازم أحد الأمرين، إما عدم اطلاق المعفو
عنه، أو القول بطهارته، لأنه إن جاز مباشرته من كل الوجوه لزم الثاني، لأنه إذا
355

باشره بيده ثم باشر به ماء قليلا ولم يمنع من الوضوء به كان طاهرا لا محالة، وإلا وجب
المنع من مباشرته نحو ماء الوضوء إذا كان قليلا، فلا يكون العفو مطلقا، وهو خلاف
ما يظهر من الخبر وكلام الأصحاب " وفيه أنه لا مانع من تفسير العفو بأنه لا ينقض طهارة
ما كانت طهارته سابقة، فيجوز الوضوء بالماء المباشر باليد التي باشرته، ولا يقضي
ذلك بكونه طاهرا مزيلا للحدث رافعا للخبث، فإن كون المتنجس لا ينجس متصور
لا يرده عقل بعد مجئ الشرع به، والحاصل أن معنى العفو يرجع إلى أنه نجس عفى
الشارع عن بعض أحكامه، وبقيت الأحكام الأخر، وليس في العقل ولا في الشرع
ما يرد ذلك، نعم لو خالط بعضه ماء قليلا أمكن عدم جواز الوضوء به، لا للتنجيس،
بل لعدم اليقين بتحقق الغسل من غيره، فإن حصل قلنا به، كما أنا إن قلنا بتحقق
الاستهلاك في مثله صح الوضوء به أيضا، وإن كان لا يخلو من إشكال، لعدم ثبوت
استهلاك القليل مثله، مع احتمال القول به، كما يظهر من بعض (1) أخبار المستعمل
في غسل الجنابة إن قلنا بعدم جواز رفع الحدث به، فإن أراد بجواز مباشرته من كل
وجه هذا المعنى قلنا به، وإلا فلا، وقوله إن ذلك ينافيه كلام الأصحاب والأخبار
واضح المنع، كوضوح الفرق بين ما عفى الشارع عن أصل النجاسة فيه وبين عفو الشارع
عن التنجيس به ونحوه، والأدلة إنما يستفاد منها الثاني، ومع ذلك كله فالأقوى خلاف
ما ذكر الشهيد وإن كان هو مقتضي الجمع بناء على نجاسة الغسالة بين ما دل على نجاسة
القليل وبين نفي البأس ونحوه عما لاقى ماء الاستنجاء، ولا ينافيه الاستدلال بالعسر
والحرج ونحوهما لارتفاع ذلك بالعفو بالمعنى المتقدم، لكن ظاهر نفي البأس وعدم
التنجيس الطهارة، كما في غير المقام، بل هو الظاهر أيضا من إطلاق لفظ الطاهر في كلام
كثير من الأصاب، بل لعله معقد بعض الاجماعات الصريحة أو الظاهرة، ولذلك
قال في المدارك بعد أن ذكر القولين: الأظهر الأول، لأنه المستفاد من الأخبار،

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف
356

ونقل عليه الاجماع، وبذلك يخص ما دل على نجاسة القليل، لكن قد سمعت الاجماع
سابقا في ماء الغسالة من المصنف والعلامة أنه لا يجوز رفع الحدث بما يزال به النجاسة،
ويدخل فيه ذلك على إشكال، فتنحصر الفائدة في غيره من رفع الخبث والأغسال
المسنونة ووضوء الجنب والحائض ونحوها، ما في المدارك من انحصار فائدة الخلاف في
الأول لا يخلو من نظر، وقد يستظهر من إطلاق النص والفتوى كما صرح به بعض
عدم الفرق بين المخرجين، ولا بين الطبيعي وغيره إذا كان معتادا، ولا بين المعتدي
وغيره ما لم يتجاوز بحيث يخرج عن مسمى الاستنجاء، وما يقال من عدم شمول لفظ
الاستنجاء لما يغسل به من البول ممنوع، كما تقضي به بعض الأخبار في غير المقام، مع
أن الغالب في الاستنجاء من الغائط أن يكون معه استنجاء من البول، وقل ما ينفك عنه،
فترك التعرض له في الأخبار مشعر بالمساواة في الحكم.
نعم يختص الحكم المذكور (بما لم يتغير بالنجاسة) على المشهور، بل عن بعضهم
الظاهر أنه إجماعي، لما دل (1) على نجاسة الماء بالتغير، وليس ماء الاستنجاء أعظم
من الكر والجاري، بل ليس لنا ماء لا يفسد بالتغير، ولذلك رجحت تلك الأدلة وإن
كان بينهما عموم من وجه، وربما ألحق بعضهم بالتغير زيادة الوزن، بل في سائر
الغسالات، ولعل المراد به وزنه قبل الاستنجاء به وبعده، فإن كان زائدا بعد
الاستنجاء فهو نجس، وهو - مع ما فيه من الحرج، وكونه غير منضبط - مناف لاطلاق
الأدلة، (أو تلاقيه نجاسة من خارج) لظهور الأدلة في أنه لا بأس به من حيث
خصوص هذه الإزالة، كما يقضي بذلك ما اشتملت عليه من السؤال والجواب غير مستقل
حتى يتمسك بعمومه أو إطلاقه، لكن هذا في النجاسة الخارجة، كالأرض النجسة
ونحوها، أما لو استصحب نجاسة داخلة غير الغائط من دم ونحوه، أو متنجسا كبعض
ما يخرج مع الغائط مما ليس منه مع تنجيس المقعدة بذلك ففيه وجهان، من غلبة ذلك مع

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب الماء المطلق
357

عدم الاستفصال عنه، ومن الاقتصار على المتيقن، ومنع الغلبة في الأمزجة الصحيحة
ولعله الأقوى، ومن ذلك ما لو تنجس أحد المخرجين ببعض الأشياء الطاهرة لو كانت
من داخل، كالوذي الخارج بعد البول وبعض الرطوبات الخارجة من المعدة من مخرج
الغائط بعد خروجه، ولو تعدى ما يخرج منهما عن المحل مع اتصاله بما في المحل فهل يرتفع
الحكم أصلا، أو يكون الذي يرفع ما على المحل داخلا في الحكم وغيره خارجا؟ الظاهر
الثاني إن كان الرافع لما على المحل مستقلا، لدخوله في اسم الاستنجاء مع عدم سريان
النجاسة، وربما اشترط بعضهم زيادة على الشرطين السابقين خلو ماء الاستنجاء عن
أجزاء النجاسة المتمايزة. ولعله لذلك نقل عن الشيخ في الخلاف أنه فصل بين الغسلتين
في الاستنجاء، فحكم بنجاسة الأولى دون الثانية، وللجمع بين هذه الأخبار وبين
خبر العيص المتقدم، وفيه أنه لا دليل عليه، بل ظاهر الأدلة خلافه، خصوصا مع
غلبة ذلك في الاستنجاء كالمنقول عن بعضهم من اشتراط سبق الماء اليد، فلو سبقت
اليد تنجست، وكانت كالنجاسة الخارجة، نعم الظاهر أنه يعفى عن نجاسة اليد
من حيث كونها آلة للغسل، وإلا فلو تنجست بما في المحل لغرض آخر كانت في معنى
النجاسة الخارجة، ولو تنجست يده بإرادة الغسل ثم أعرض عنه لحدوث إيجاب له
لا يبعد اللحوق بماء الاستنجاء، وفي المقام فروع لا تخفى على المتأمل، ومنها وغيرها
يمكن استفادة قوة ما ذكرناه من كون ماء الاستنجاء أحد أفراد ماء الغسالة، فيكون
أخباره مؤكدة لذلك، لا أنه مختص بالاستثناء منها كي يتجه الاقتصار فيه على المتيقن،
فيشكل الحال في جملة من الفروع على وجه ينافي حكمة الطهارة من الحرج ونحوه، فلاحظ
وتأمل لعل الله يهديك للصواب والله العالم.
(و) الماء (المستعمل في الوضوء طاهر ومطهر)
إجماعا محصلا ومنقولا نصا وظاهرا وسنة عموما وخصوصا، من غير فرق بين
المبيح والرافع، ولا بين ما يستعمل منه في الغسل والمضمضة والاستنشاق وغيرها بشرط
358

بقاء المائية، وعن أبي حنيفة الحكم بنجاسته نجاسة مغلظة حتى لو كان في الثوب منه
أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة به، وعن أبي يوسف أنه نجاسة مخففة، فيجوز الصلاة
بما تقدم. وكلام أبي حنيفة هو الأقوى بالنسبة إليهما، وذكر الشهيد في الذكرى
" أنه يستحب التنزه عن المستعمل في الوضوء، قاله المفيد، ولا فرق بين الرجل والمرأة،
والنهي عن فضل وضوءها لم يثبت " انتهى. ولعله لمكان كونه مستحبا يمكن أن يكون
كما ذكر، وإلا فلم على نعثر على ما يقضي بذلك، فتأمل.
(وما استعمل في رفع الحدث الأكبر) حقيقة أو حكما كغسل الاستحاضة (طاهر)
إجماعا بقسميه، وسنة عموما وخصوصا، والمراد به الماء المنفصل من بدن المحدث عند
الاغتسال بالماء القليل، بل لعل الظاهر المراد به المنفصل عن تمام بدنه، وإلا فلو وقع
من عضو إلى عضو آخر مثل الرأس والجسد مثلا لا يكون بذلك مستعملا، كما أن
الظاهر أنه إذا لم يستهلك بالماء الغير المستعمل، ولقول أبي عبد الله (عليه السلام) (1) في خبر
الفضيل بن يسار " في الرجل الجنب يغتسل فينضح من الماء في الإناء: لا بأس، (ما جعل
عليكم في الدين من حرج) " وفي خبر شهاب بن عبد ربه (2) " في الجنب يغتسل، فيقطر
الماء من جسده في الإناء فينتضح الماء من الأرض، فيصير في الإناء، أنه لا بأس بهذا
كله " ومن هنا نقل عن الصدوق أنه مع منعه من استعمال المستعمل قال: " وإن اغتسل
الجنب فنزا الماء، فوقع من الأرض في الإناء، أو سال من بدنه في الإناء، فلا
بأس " وعن الشيخ (رحمه الله) أنه ذكر أكثر الروايات الدالة على ذلك ولم يتعرض
لردها ولا تأويلها، مع أنها مخالفة لمذهبه، فعلم خروج مثل ذلك، ولا معنى للقول
بأنه ليس من المستعمل، بل هو منه قطعا، والقول باختصاص المستعمل بالمنفصل
بعد تمام الغسل فيكون المنفصل من غسل العضو غير مستعمل حتى يحصل التمام في غاية

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 5 - 6.
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 5 - 6.
359

الضعف، كالقول باختصاص المستعمل بما يغسل به الجزء الأخير، لأنه هو الذي
يرتفع به الحدث، بل عليه ترتفع فائدة النزاع حينئذ، وعلى ما ذكرنا فلو نزا
بعد الانفصال على البدن لا يجوز أن يكتفى بالغسل به، بناء على عدم جواز رفع الحدث
به، ودعوى ظهور الروايتين بمقتضى التعليل في خروج ذلك عن المستعمل ممنوعة،
وعدم اجتناب ما في الإناء لا يقتضيه، إذ لعله للاستهلاك، وعدم ثبوت استهلاك القليل
لمثله يدفعه أن مدار الاستهلاك على عدم صدق الاسم، ولا ريب أنه لا يصدق حينئذ
عليه أنه ماء استعمل في غسل جنابة، على أنه لو سلم عدم ثبوت الاستهلاك في مثله
فالمتجه العمل بمضمون الأخبار فيه وإن لم يثبت كونه استهلاكا، لكن قد يقال:
حينئذ أنه ليس بأولى من أن يستدل بهذه الأخبار على جواز استعمال المستعمل، لا أنه
خارج عن محل النزاع كما ذكر، إلا أنه لا يخلو الاستدلال حينئذ عن نظر، كما أشار
إليه كاشف اللثام.
وكيف كان فبناء على ما تقدم لو ارتمس الجنب في ماء قليل وحصلت منه النية
بعد اشتمال الماء على تمام بدنه صح غسله، ويكون مستعملا بالنسبة إلى غيره بعد خروجه
قطعا، ولو ارتمس جنبان كذلك ارتفع حدثهما، وكان مستعملا بالنسبة إلى غيرهما،
ولو اشتبه التقدم والتأخر فلا يبعد القول بصحة غسل كل واحد منهما في حقه، للأصل،
ولو تقدم أحدهما بالنية وارتفع حدثه فهل يكون مستعملا حينه أو لا بد من الخروج
والانفصال؟ الظاهر الأول، ولو نوى المرتمس قبل كمال الانغماس فالظاهر أنه
لا يكون مستعملا بمجرد الملاقاة، بل يتوقف على رفع حدثه، أما لو اغتسل في وسطه
ترتيبا فالظاهر عدم ارتفاع حدثه إلا إذا حصل الاستهلاك للمتساقط، أو قطع بحصول
الغسل بغير المستعمل، فتأمل جيدا.
وعلى ما ذكرنا من كون المستعمل خاصا بالمنفصل لو بقيت لمعة لم يصبها الماء جاز
الجواهر 45
360

صرف البلل من العضو الآخر إليها، لما تقدم من أنه لا يكون مستعملا إلا بعد الانفصال
عن تمام البدن، وفي المنتهى الذي ينبغي على مذهب الشيخ عدم الجواز في الجنابة،
فإنه لم يشترط في المستعمل الانفصال، قلت: وما نقله عنه في غاية الاجمال، بل في بعض
الوجوه يكون في نهاية الاشكال، والظاهر اختصاص الحكم بالمستعمل في الغسل الصحيح
دون الفاسد، لعدم رفع الحدث به، كما إذا كان في المكان المغصوب ونحوه، ولو
غسل بعض الأعضاء ثم أعرض عن ذلك أو أفسده بتخلل حدث أكبر أو أصغر إن
قلنا به فهل يلحقه حكم الاستعمال أو لا؟ وجهان، أقواهما الثاني، لأن شرط صحته
وتأثيره تعقبه بغسل الباقي، ولم يحصل، وقد علم مما تقدم أن فضلة الغسل لا تدخل في
المستعمل، فلذلك جاز أن يغتسل الرجل بفضل غسل المرأة وبالعكس، كما روي (1)
" أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) اغتسل مع عائشة في إناء واحد "
ثم لا فرق في الحدث بين الجنابة ولو من زنا وغيرها، كما هو الظاهر ممن حرر
النزاع، حيث لم يخص المسألة، فما وقع في بعض العبارات من باب التمثيل، نعم الظاهر
قصر النزاع على من حكم بحدثه شرعا، فما يغتسل به للاحتياط الغير اللازم غير داخل،
بل واللازم، كما لو تيقن الجنابة والاغتسال ولم يعلم السابق منهما فإنه يجب عليه الغسل
في كل مشروط به، إذ الظاهر أنه لا يكفي عند القائلين بالمنع احتمال كونه مستعملا،
بل هو من قبيل المانع مع احتماله، فيكون كأصل المائية،
وكيف كان (فهل يرفع الحدث به ثانيا) أصغر كان أو أكبر (فيه تردد)
ينشأ من الأصل والعموم وصدق اسم الماء، ولأن الطهور ما يتكرر منه الطهارة، ومن
خبر عبد الله بن سنان (2) " الماء الذي يغسل به الثوب، أو يغتسل به من الجنابة

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الأسئار - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الماء المضاف - حديث 13 - مع اختلاف يسير
361

لا يتوضأ به وأشباهه " وما يشعر به خبر ابن مسكان (1) قال: حدثني صاحب لي ثقة
أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) " عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق فيريد
أن يغتسل، وليس معه إناء، والماء في وهدة، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء،
كيف يصنع؟ قال: ينضح بكف بين يديه، وكفا من خلفه، وكفا عن يمينه،
وكفا عن شماله، ثم يغتسل " والمحقق رواه من كتاب الجامع لأحمد بن محمد بن أبي نصر
عن عبد الكريم عن محمد بن ميسر عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وعن ابن إدريس
أنه نقله في آخر السرائر من كتاب نوادر البزنطي عن عبد الكريم عن محمد بن ميسر،
وغيره من الأخبار الآمرة (2) بنضح أربع أكف خلفه وأمامه ويمينه وشماله، فإنه حكي
في سبب ذلك قولان، (أحدهما) أن المراد منها رش الأرض لتجتمع أجزاءها، فلا
ينحدر ما ينفصل من بدنه إلى الماء، (وثانيهما) أن المراد به بل جسده قبل الاغتسال
ليتعجل قبل إن ينحدر ما ينفصل منه ويعود إلى الماء، وعلى كل منهما فالاشعار متجه.
ومن النهي عن الاغتسال بغسالة الحمام (3) المعللة لذلك باغتسال الجنب وغيره، وقول
أحدهما (عليهما السلام) في خبر محمد بن مسلم (4) قال: سألته " عن ماء الحمام فقال:
ادخله بإزار، ولا تغتسل من ماء آخر، إلا أن يكون فيه جنب أو يكثر أهله، فلا يدرى
فيه جنب أم لا " لا أقل من استفادة الشك، فيبقى استصحاب الحدث سالما، ولأن
ما شك في شرطيته فهو شرط على وجه.
والأقوى في النظر الأول، وفاقا للسرائر والقواعد والمنتهى والتحرير والمختلف
والذكرى والمدارك وغيرها والمنقول عن السيد وسلار وابني زهرة وسعيد، وخلافا لما
عن الشيخين والصدوقين وابني حمزة والبراج، بل في الخلاف أن المستعمل في غسل

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المضاف - حديث 2 - 0 -
(2) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الماء المضاف - حديث 2 - 0 -
(3) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف
(4) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الماء المطلق - حديث 5
362

الجنابة أكثر أصحابنا، قالوا: لا يجوز استعماله في رفع الحدث، للأصل والعمومات
والاطلاقات من الكتاب والسنة، وما تشعر به الروايات المتقدمة في أول البحث على وجه،
المؤيدة بفتوى كثير من أصحابنا، بل ظاهر غير واحد منهم أو صريحه الاجماع عليه
في باب التيمم عند البحث على استعمال التراب المستعمل، مع عدم دليل صالح للخروج،
لضعف رواية عبد الله بن سنان غاية الضعف، مع أن في صدرها " لا بأس بأن يتوضأ بالماء
المستعمل " مع أنها موافقة للعامة، وما ذكره الشيخ (رحمه الله) من كونه مذهب
الأكثر مع أنا لم نتحققه لا يصلح لأن يكون جابرا، سيما بعد إعراض كثير من المتأخرين
عنها وجملة من القدماء.
وأما خبر ابن مسكان فلا دلالة فيه على المنع، كباقي الأخبار المتضمنة
لذلك، مع ظهور بعضها في عدم البأس إن لم يفعل، بل فيه إن كان في مكان واحد
وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه، فإن ذلك يجزيه،
وفي بعضها الأمر بالنضح عن اليمين وعن اليسار وبين اليدين للوضوء، مع أنك قد
عرفت الاجماع على عدم المنع من الماء المستعمل فيه، مضافا إلى اشتمال بعضها على بعض
الأحكام الغير المنطبقة على القواعد، مع أن دعوى الحكمة فيها ما ذكر من القولين لا يخلو
من نظر، وإن أطال في بيان ذلك في الحدائق، بل ابن إدريس أفسد الأول، وقال إنه شئ لا يلتفت إليه، لأنه إذا تندت الأرض كان نزول الماء أسرع، فمن هنا قد
يقال: بدلالتها على المطلوب، كما استدل ببعضها في المختلف لما فيها من الاشعار
به، بل لا يخفى على الناظر فيه أن المراد منها الاستحباب كما استظهره جماعة.
وأما أخبار النهي عن غسالة الحمام فهي - مع تضمن كثير منها التعليل بغسالة
اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم وولد الزنا والزاني والجنب
من الحرام، ومع أن في بعضها ضعفا، ولذلك قال: في المنتهى أنه لم يصل إلينا غير
حديثين ضعيفين يدلان على ذلك، وأورد هما، مع أن في الثاني منهما التعليل بغسالة
363

ولد الزنا، بل لاشتمالها على التعليل به ذهب بعضهم إلى نجاستها، بل في بعضها إشعار
بالكراهة، كما في خبر علي بن جعفر (عليه السلام) (1) عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)
في حديث قال: " من اغتسل من الماء الذي اغتسل فيه فأصابه الجذام فلا يلومن
إلا نفسه، فقلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن أهل المدينة يقولون إن فيه شفاء
من العين، فقال: كذبوا، يغتسل فيه الجنب من الحرام والزاني والناصب الذي
هو شرهما وكل من خلق ثم يكون فيه شفاء من العين " لا تنهض على تخصيص تلك الأدلة
كما هو واضح، (وأما خبر ابن مسلم) فلا دلالة فيه على ما نحن فيه، على أنه قد اشتمل
على غير معلوم الحال، ودلالته في المفهوم، وهي لا تقتضي الأمر، فظهر حينئذ
من ذلك كله أنه لا شك، مع أن التحقيق عدم شرطية ما شك في شرطيته، على أن
الغسل ليس من المجملات، بل هو مما وصل إلينا فيه البيان، وعن الشيخ في الاستبصار
أنه حمل بعض أدلة الجواز على الضرورة لظهور بعضها فيه، ولم ينقله كثير منهم
مذهبا، ولعله لكون ذلك منه في مثل هذا الكتاب لا يقضي به، وظاهر المصنف كما
صرح به بعضهم أن النزاع في رفع الحدث به دون الخبث، لكن عبارة الذكرى قد
تعطي الخلاف في ذلك.
وكيف كان فالظاهر الجواز كما في السرائر والمعتبر والمنتهى، بل فيه الاجماع
على جواز رفع الخبث بالمستعمل في الجنابة، كما عن فخر المحققين، وهو الحجة مع
الأصل والعمومات، وظهور ما ذكر من الأدلة في غيره، بل الظاهر جواز باقي
الاستعمالات به من الأغسال المسنونة وغيرها، لما تقدم وإن كان بعض الأدلة المتقدمة
شاملة لذلك، ولكن الظاهر من كلام الأصحاب قصر النزاع في رفع الحدث، أو هو
مع رفع الخبث، وأما باقي الاستعمالات فلا، كما أن الظاهر منهم كما صرح به بعضهم
أن النزاع فيما يرفع به الحدث، أما الأغسال المسنونة ونحوها فلا كلام في كونها طاهرة

(1) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب الماء المضاف حديث 2
364

مطهرة، بل في الحدائق نفي جملة من المتأخرين الخلاف فيها نعم نقل عن ظاهر المفيد
في المقنعة استحباب التنزه عنها، ولعله لرواية علي بن جعفر (عليه السلام) المتقدمة
على وجه، لشمول الاغتسال فيها للواجب والمندوب، بل قد يدعى شمولها للماء
القليل والكثير، لكن لم نعثر على قائل به، إذ الظاهر أن النزاع مخصوص في المستعمل
إذا كان قليلا، أما لو كان كثيرا فلا، بل قد يظهر من بعضهم أن المستعمل متى
بلغ كرا ارتفع المنع منه، وكأن وجهه قوله (صلى الله عليه وآله) (1): " متى بلغ الماء كرا
لم يحمل خبثا " وقد مضى الكلام فيه (والأحوط المنع) غالبا، وإلا فقد يكون
الاحتياط في عدم المنع.
الطرف (الثالث في الأسئار)
وكأن جعله قسيما للمطلق والمضاف لاختصاصه ببعض الأحكام، كالمنع من سؤر
ما لا يؤكل لحمه ونحوه وإن كان لا يخلو من نظر، والأمر سهل، والأسئار جمع سؤر،
والمراد به لغة الفضلة والبقية كما عن القاموس، أو البقية بعد الشرب، كما عن الجوهري،
ويقرب منه ما نقله في الحدائق عن مجمع البحرين عن المغرب زيادة، ثم استعير لبقية
الطعام، ومثله أيضا ما عن المجمع عن الأزهري، وعن الفيومي في المصباح النيران
السؤر بالهمزة من الفأرة وغيرها كالريق من الانسان، وفي كشف اللثام أنه في اللغة
البقية من كل شئ، أو ما يبقيه المتناول من الطعام والشراب أو من الماء خاصة،
وعلى كل حال فالقلة مفهومة أيضا، فلا يقال: على ما يبقى في النهر أو البئر أو الحياض
الكبار إذا شرب منها، وفي المعتبر أنه بقية المشروب، وأنت خبير أن ما ذكره
الفيومي إما أن يكون معنى آخر، أو أنه في الأصل لذلك، أو أن تسمية بقية المشروب
سؤرا لما يمازجه من الريق بسبب الشرب، وعن مجمع البحرين بعد أن نقل عن النهاية

(1) المستدرك - الباب - 9 - من أبواب الماء المطلق - حديث 6.
365

أن سائر مهموز، ومعناه الباقي، لأنه اسم فاعل من السؤر، وهو ما يبقي بعد الشرب،
وهذا مما يغلط فيه الناس، فيضعونه موضع الجميع، قال: وقد يقال: في تعريفه
ما يباشره جسم حيوان، وبمعناه رواية ولعله اصطلاح، وعليه حملت الأسئار، كسؤر
اليهودي والنصراني وغير هما.
وكيف كان فكلام أهل اللغة لا يخلو من إجمال، وإن كان الأظهر أنه بقية
المشروب، بل مطلق المستعمل في الفم، إلا أن الذي ينبغي البحث عنه هنا عدة أمور
بتنقيحها يتم المطلوب، (الأول) المبحوث عنه هنا من جهة الطهارة والكراهة وغيرهما
إنما هو مطلق المباشرة لجسم الحيوان بالفم وبغيره، وبه صرح في السرائر والذكرى
وهو المنقول عن المهذب للقاضي والروض والمسالك وغيرها، وعن المقنعة " إن أسئار
الكفار هو ما فضل في الأواني ما شربوا منه، أو توضؤوا به، أو مسوه بأيديهم
وأجسادهم ". (الثاني) إن ذلك مخصوص بالماء أو مطلق المائع، صرح جملة منهم بالأول،
وصرح ابن إدريس بالثاني، وكأن وجه الأول الكلام في المياه، ووجه الثاني تعميم
الحكم من جهة الطهارة والنجاسة وغير هما للجميع، ولعله لذا جعله المصنف قسيما للمطلق
والمضاف. (الثالث) اشتراط القلة في الماء، كما صرح به جماعة، أي كونه أنقص
من كر دون سائر المائعات، بناء على دخولها تحت المبحث. (الرابع) هل أن ذلك
معنى شرعي تحمل خطابات السنة عليه في غير المقام، أو أنه اصطلاح من المصنفين في
خصوص المقام؟ مقتضى تعريف جمع له بأنه شرعا ماء قليل باشره جسم حيوان الأول،
والأظهر العدم، وقد يحمل قولهم شرعا أي في لسان المتشرعة في خصوص المقام،
نعم يظهر من بعضهم أنه السؤر هذا معناه، لأنه بعد أن ذكر تقسيم الأسئار بالنسبة
للطهارة والنجاسة، وما فيه الشفاء وعدمه قال: " والسؤر عبارة عما شرب منه الحيوان
أو باشره بجسمه من المياه وسائر المائعات " وهو في غاية الاشكال إن أريد به أن لفظ
السؤر في أي مكان ورد يحمل على هذا المعنى، لما عرفت أنه ليس في اللغة ما يقتضيه،
366

ولا في العرف العام، وإثبات الحقيقة الشرعية بعيد، نعم لا يبعد في النظر التعميم
في كلمات أصحابنا التي هي قرينة على روايات المقام لمطلق المباشرة لجسم الحيوان، مع
احتمال التخصيص بالماء.
وربما يرشد إليه خبر العيص بن القاسم حيث قال (عليه السلام) (1): " لا تتوضأ
من سؤر الحائض، وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة، ثم تغسل يديها قبل
أن تدخلهما الإناء، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يغتسل هو وعائشة في إناء
واحد " إلى آخره وأما في غير المقام فالاقتصار على المباشرة بالفم هو الأظهر، لما
سمعت من كلام أهل اللغة، بل قد يظهر من بعض الأخبار (2) عدم اختصاصه بالماء
ولا بالمائع كالمروي عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) (3) " إن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) نهى عن أكل سؤر الفأر " وصحيح زرارة (4) عنه (عليه السلام)
أيضا " إن في كتاب علي (عليه السلام) أن الهر سبع ولا بأس بسؤره، وإني لأستحي
من الله أن أدع طعاما لأن الهر أكل منه " لكن في المدارك وعن المعالم أن الأظهر
في تعريفه في خصوص المقام وأن المبحوث عنه فيه ماء قليل باشره فم الحيوان، بل
اعترض في الأول على التعريف بمطلق المباشرة لجسم حيوان بأنه مخالف لنص أهل
اللغة والعرف العام، بل والخاص، كما يظهر لمن تتبع الأخبار وكلام الأصحاب
وذكر بعضهم أحكام غير السؤر في المقام استطرادا، وكون الغرض بيان الطهارة
والنجاسة لا يقتضي هذا التعميم، لأن حكم ما عدا السؤر يستفاد من مباحث النجاسات،
وأيضا الوجه الذي لأجله جعل السؤر قسيما للمطلق مع كونه قسما منه إنما هو وقوع

(1) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب الأسئار - حديث 1
(2) الوسائل - الباب 1 - من أبواب الأسئار حديث 2 و 3
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الأسئار حديث 7.
(4) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الأسئار - حديث 2
367

الخلاف في نجاسة بعضه من طاهر العين وكراهة بعض آخر، وليس في كلام القائلين
بذلك دلالة على اعتبار مطلق المباشرة، بل كلامهم ودليلهم كالصريح في أن مرادهم
بالسؤر المعنى الذي ذكرناه خاصة، وفيه نظر من وجوه يظهر من التأمل في كلامنا
السابق وكلامهم فتأمل.
(وهي كلها طاهرة عدا سؤر) النجس منها، وهو (الكلب والخنزير والكافر،
وفي) نجاسة (سؤر المسوخ تردد) للتردد في نجاستها، (والطهارة) فيها عينا وسؤرا
(أظهر ومن عدا الخوارج والغلاة من أصناف المسلمين طاهر الجسد والسؤر) والتأمل
في كلام المصنف يرشد إلى أمرين، (الأول) إن كل ما ثبت نجاسته شرعا فسؤره إن
كان فيما ينفعل بالنجاسة نجس، ودليلها مضافا إلى ما يقرب إلى القطع به من ملاحظة
الأخبار - الاجماع محصلا ومنقولا، نعم ربما وقع الخلاف في نجاسة ذي السؤر كالمسوخ
وولد الزنا والمجبرة والمجسمة، بل غير المؤمن والمستضعف واليهود والنصارى، ويأتي
تحقيق القول في ذلك كله إن شاء الله في النجاسات. (الثاني) إن كل ما يثبت طهارته
شرعا فسؤره طاهر، وهو المشهور، بل عليه عامة من تأخر، بل عن الغنية والخلاف
الاجماع عليه، بل قد يظهر أيضا من المنقول من عبارة الناصريات، بل في السرائر
في باب الأطعمة والأشربة " فأما ما حرم شرعا فجملته من الحيوان ضربان، طاهر
ونجس، فالنجس الكلب والخنزير، وما عداهما كله طاهر في حال حياته بدلالة
إجماع أصحابنا المنعقد على أنهم أجازوا شرب سؤرها والوضوء منه، ولم يجوزوه
في الكلب والخنزير " إلى آخره، وهو الحجة بعد الأصل والاستصحاب والعموم،
مضافا إلى ما تسمعه من الأخبار، وخالف في ذلك ابن إدريس في السرائر فحكم بنجاسة
سؤر ما أمكن التحرز عنه من غير مأكول اللحم من حيوان الحضر غير الطيور، قال:
" ولا بأس بأسآر الفأر والحيات وجميع حشرات الأرض " وقد تعطي عبارة الشيخ
الجواهر 46
368

في التهذيب بقرينة ما عن الاستبصار القول بالمنع من الوضوء، والشرب من سؤر غير
مأكول اللحم غير السنور والطير، إلا أنه أبدل السنور في الاستبصار بالفأرة مع التعليل
لها بمشقة التحرز عنها، فقد يستفاد منه حينئذ التعميم لكل ما يشق التحرز عنه، وعن
المبسوط والمهذب المنع من سؤر ما لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر غير الآدمي والطيور،
إلا ما لا يمكن التحرز عنه كالهر والفأرة.
قلت: يحتمل أن يراد بالمنع من السؤر الحكم بالنجاسة، فيكون مثل ما نقلناه
عنه في السرائر، كما أنه يحتمل العكس، بل هو أقوى، لكون الحكم بنجاسة السؤر
مع طهارة ذي السؤر كما هو الفرض من غير دليل يقتضيه - مع منافاته للقواعد المسلمة التي
لا شك فيها - لا معنى له، وما تسمعه من الدليل لا دلالة فيه على ذلك، كالاحتمال جعله
كوقوع الجنب في البئر، فإنه مع ما فيه قياس لا نقول به، ولعل الخلاف منحصر
في المبسوط والمهذب والسرائر لكون عبارة التهذيب غير صريحة فيما نقلناه عنه،
بل ولا ظاهرة، وكيف وهو يورد فيه من الأخبار ما يقضي بطهارة السباع وغيرها،
مع عدم ذكر لتأويل شئ منها، وأما الاستبصار فهو لمجرد جمع بين الأخبار.
ولا يخفى عليك ما في دعوى الثلاثة من الاجمال. بل لم نعثر لهم على ما يقضي
بتخصيص ما سمعت من الأصل بل الأصول والعموم غير ذلك، سوى قول الصادق
(عليه السلام) (1) في الموثق بعد أن سئل عما تشرب منه الحمامة، فقال: " كل ما
أكل لحمه فتوضأ منه سؤره واشرب " وفيه - مع أن جماعة من الفطحية في سنده، وكون
دلالته بالمفهوم، بل على عموم المفهوم، وقد منعه العلامة هنا في المختلف، واكتفى
في صدق المفهوم بسلب الحكم المنطوقي عن بعض أفراد المفهوم، وهو يتحقق هنا في
الكلب والخنزير وإن كان منعه لا يخلو من منع للعرف، لكنه لا يخلو من وجه،
ومع أن الخارج أضعاف الداخل بمراتب كثيرة على تقدير أخذه مستندا لما في السرائر

(1) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الأسئار - حديث 2
369

والمهذب والمبسوط، بل لا دلالة فيه على النجاسة، كما ادعاه ابن إدريس، ولا منع
سائر الاستعمال على دعوى غيره، مضافا إلى أن غير المأكول من المسؤول عنه خارج،
وهو الطيور على دعوى التهذيب وغيره، فكيف يراد به ضابطا في المفهوم والمنطوق -
معارض بغيره مما هو معتضد بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعا، بل سمعت
حكايته عن بعضهم، وهو صحيح البقباق (1) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
" عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش فلم أترك شيئا
إلا سألته عنه؟ فقال: لا بأس به، حتى انتهيت إلى الكلب، فقال: رجس نجس " إلى آخره.
ومرسل الوشا عن أبي عبد الله (عليه السلام) (2) " أنه كان يكره سؤر كل شئ لا يؤكل
لحمه " وخبر ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) (3) قال: سألته " عن الوضوء
مما ولغ فيه الكلب أو السنور، أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك أيتوضأ منه
أو يغتسل؟ قال: نعم، إلا أن تجد غيره فتنزه عنه " اشتماله على الكلب لا يخرجه عن
التمسك بغير ذلك، كما هو محرر في محله، مع احتمال حمل الكلب فيه على السبع غير
النابح والخنزير، لأنه في الأصل لكل سبع عقور غلب على هذا النابح كما عن
صاحب القاموس، مع معارضته أيضا على دعوى التهذيب بما دل (4) على نفي البأس
عن سؤر السباع، بل بما دل (5) على نفي البأس عن الوضوء بما وقعت فيه كالحية والعظاية
والوزغ والفأرة، وبها فيما عدا الفأر يرد على دعواه في الاستبصار إن لم نقل بشمول
تعليله، بل بأخبار السؤر أيضا إلى غير ذلك، والقصور في السند والدلالة على تقدير
وجوده منجبر بما سمعت من الشهرة، ولا يخفى عليك إمكان الرد ببعض ما ذكرنا أخيرا

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الأسئار - حديث 4
(2) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب الأسئار - حديث 2
(3) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الأسئار حديث - 6 -. -
(4) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الأسئار حديث - 6 -. -
(5) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الأسئار - حديث 1
370

على دعوى المبسوط والمهذب، فالمسألة سليمة الاشكال بحمد الله، ويأتي الكلام فيما
اختلف في طهارته ونجاسته في النجاسات إن شاء الله.
(ويكره سؤر الجلال) من كل حيوان، والمراد به على ما قيل المتغذي بعذرة
الانسان محضا إلى أن نبت عليه لحمه واشتد عظمه، فلا يدخل المتغذي بغيرها من
النجاسات، ولا المتنجسات ولو بعذرة الانسان، بل ولا من تغذى بها وبغيرها،
ولتحقيق البحث فيه مقام آخره، وكيف كان فالحكم بالطهارة لطهارة ذي السؤر لما علمت
سابقا من الملازمة بينهما، مع عموم الروايات الحاكمة بطهارة سؤر الطيور والسنور والدواب
والسباع ونحو ذلك من غير تفصيل فيه بين الجلال وغيره، وقد اشتمل بعضها على العموم
اللغوي، كقوله (عليه السلام) (1) في خبر عمار: " كل شئ من الطير يتوضأ مما يشرب
منه، إلا أن ترى في منقاره دما، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب "
وما سمعته من صحيحة البقباق، فالاطلاق مع ترك الاستفصال في بعض والعموم اللغوي
في آخر مع الأصل كاف في إثبات المطلوب، وكون ذلك فردا نادرا قد يقدح في الأول،
ولأي قدح في الثاني، على أن الندرة في بعض الحيوانات ممنوعة، كالفيران الساكنة
في الخلاء ونحوها، مع ورود الأدلة بطهارة سؤرها من غير تفصيل، فما عن الشيخ
في المبسوط كما في المختلف والمرتضى وابن الجنيد من المنع من سؤر الجلال مع الحكم بطهارة
ذي السؤر لم يصادف محله، على أن الظاهر من عبارته المحكية عنه على ما في بالي ثبوت
البأس، وهو أعم من المنع، وكان دليله ما قدمناه سابقا، وقد عرفت ما فيه.
(و) كذا (ما أكل الجيف) لما تقدم أيضا من الأصل وطهارة ذي السؤر
والأخبار وغيرها، فما عن النهاية كما في المختلف من المنع من سؤره لا نعرف له وجها،
والاستدلال عليه بالمفهوم مع أنك قد عرفت ما فيه هناك لا يشمل جميع أفراد المقام،
فإنه قد يكون آكل الجيف مأكول اللحم، على أن المفهوم ظاهر في كونه من حيث

(1) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الأسئار - حديث 2
371

كونه غير مأكول اللحم، لا من حيث أنه آكل الجيف، فلا دليل على المنع، وأضعف
من ذلك ما في كشف اللثام من أن كلام القاضي في المهذب يعطي نجاسة السؤرين، ونجس
أبو علي سؤر الجلال، وفي الاصباح نجاسة سؤر جلال الطيور، إذ هو كما ترى لا دليل
عليه بعد طهارة ذي السؤر، بل قد اعترف بعضهم بعدم الوقوف على دليل على الكراهة،
فضلا عن المنع، لكن قد يقال للتسامح فيها بها في الأول من التفصي عن شبهة الخلاف،
وظاهر إجماع حاشية الوسائل الذي ستسمعه مع انجباره بالمحكي من الشهرة، وما سمعت
من مرسلة الوشا أنه كان يكره سؤر كل شئ لا يؤكل لحمه على فرض إرادة ما لا يؤكل لحمه
ولو بالعارض، ومثله المفهوم المتقدم الذي أخذه الشيخ سندا للمنع، مضافا إلى الأمر
بالغسل من عرق الإبل الجلالة، كما في خبر هشام بن سالم (1) بل قال في حاشية الوسائل
مكتوبا في آخرها أنها منه: " استدل علمائنا على كراهة سؤر الجلالة بحديث هشام،
ودلالته بينة، على أنهم أجمعوا على تساوي حكم العرق والسؤر هنا، بل في جميع
الأفراد، والفرق إحداث قول ثالث، وأيضا فإن بدن الحيوان لا يخلو أبدا من العرق
إما رطبا وإما جافا، فيتصل بالسؤر، فحكمه حكمه، وعلى كل حال فضعف الدلالة
منجبر بأحاديث ما لا يؤكل لحمه " انتهى. مع إمكان التأييد بالاعتبار، سيما إذا كانت
المباشرة بالأفواه لأن منشاء رطوباتها من غذاء نجس وفي الثاني من بعض ما تقدم أيضا،
مع أنه نسب الحكم فيه بالكراهة إلى الأصحاب كما في الحدائق، ويمكن استفادته أيضا
مما تسمعه إن شاء الله تعالى في الحائض المتهمة، بل قد يقال باستفادة كراهة كل متهم
بالنجاسة منه، والفرض هنا أنه باشر الماء مثلا مع عدم اختبار فمه أو منقاره، ومثله
لو اختبر لكن لم نقل بحصول الطهارة بمجرد الزوال، أو قلنا ولكن قد يبقى أجزاء
من النجاسة بحيث لا تراها العين فتأمل.
ومما قدمنا سابقا من مرسلة الوشا والمفهوم يمكن الحكم بكراهة سؤر كل ما لا يؤكل

(1) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب الأسئار - حديث 1
372

لحمه، كما ذكره بعضهم، بل نسب إلى جمهور الأصحاب، بل قد يومي إلى كراهته
الحكم بكراهة سؤر مكروه اللحم فتأمل، نعم يمكن أن يقال باستثناء السنور من آكل
الجيف ومما لا يؤكل لحمه، كما في الصحيح " إني لأستحي من الله أن أدع طعاما لأن
الهر أكل منه " وللحكم بأنها من أهل البيت كما في الصحيح الآخر (1) هذا كله إن
أريد بآكل الجيف ما من شأنه كما يظهر من بعض، ويحتمل أن يراد به ما أكل الجيف
الذي علم الآن أنه أكل جيفة، ثم شرب من الماء مثلا، والثاني هو الظاهر من عبارة
المنتهى، بل هو صريحها،
هذا أكله (إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة) أو المتنجس، وإلا فينجس
الماء، لكن ظاهر المصنف أنه قيد للأخير، ويمكن عوده لهما، وإطلاقه يقضي بالطهارة
مع الخلو ولو علم بالمباشرة وإن لم يغب عن العين، وفي المعتبر والمنتهى أنه لو أكلت
الهرة ميتة أو فأرة، ثم شربت لم ينجس الماء، حكيا ذلك عن الشيخ، بل في الذكرى
سواء غابت عن العين أو لم تغب، قال في المنتهى في المقام: " يكره سؤر ما أكل
الجيف من الطير إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة " وهو قول السيد المرتضى،
ثم استدل بالأخبار العامة في استعمال سؤر الطيور والسباع مع أنها لا تنفك عن تناول ذلك،
إلى أن قال: " وهكذا سؤر الهرة وإن أكلت الميتة ثم شربت، قل الماء أو كثر،
غابت عن العين أولم تغب " ثم قال: " وعند الشافعية والحنابلة وجهان، أحدهما
مثل قولنا، والآخر إن لم تغب فالماء نجس، وإن غابت ثم عادت فوجهان، أحدهما
التنجيس، استصحابا للنجاسة، والثاني الطهارة، لأصالة طهارة الماء، ويمكن أن
يكون قد وردت في حال غيبوبتها في ماء كثير " وظاهر كلامه أنه ليس لنا إلا وجه واحد
وهو الطهارة بزوال العين، وفي الحدائق أنه المشهور بين الأصحاب، لكن المنقول
عنه في النهاية أنه قوى الوجه الثاني من وجهي الشافعية، وحكم بالنجاسة مع عدم

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الأسئار - حديث 1 و 5
373

الغيبوبة ومعها مع احتمال الولوغ في ماء كثير بالطهارة، بل ظاهر المنقول عنه أنه يحكم
بطهارة الماء استصحابا له، ولا دلالة فيه على طهارة فمها بالغيبوبة، مع احتمال الطهارة
لعدم التلازم بينهما، ونقل في الحدائق قولا بالنجاسة من غير فرق بين ما إذا غابت
أو لم تغب، احتمل ولوغها في ماء كثير أولا، ولم ينقله غيره عن أحد من أصحابنا،
ولعله أراد أحد وجهي الشافعية المتقدم، وفي المهذب البارع وعن جمع من المتأخرين
تعدية الحكم بالطهارة بمجرد الزوال لكل حيوان غير الآدمي، ولكل نجاسة ومتنجس،
واستحسنه في المدارك.
وكيف كان فأقصى ما يمكن أن يستدل به لذلك إطلاق الروايات (1) بل عمومها
لنفي البأس عن أسئار الحيوانات الشاملة لمثل المقام، سيما الحيوانات التي قل ما تنفك عن
مباشرة النجاسات كالهرة ونحوها، مضافا إلى قوله في خبر عمار (2): " كل شئ من
الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن ترى في منقاره دما، فإذا رأيت في منقاره دما
فلا تتوضأ منه ولا تشرب " وفي الوسائل زاد في التهذيب (3) " أنه سئل عن ماء شربت
منه الدجاجة قال أن كان في منقارها قذر لم تتوضأ منه ولم تشرب وإن لم تعلم أنه في
منقارها قذرا فتوضأ منه واشرب " قلت: لم أجد هذه الزيادة في التهذيب الذي حضرني،
وأنت خبير في دلالة الأول على المطلوب، فإنه لا ريب في تناوله لما كان وزال، وكان
وجه دلالة الزيادة أن مفهوم الشرط أولا يتناول محل النزاع، لأن المراد بالقذر عينه،
والتصريح بالمفهوم أخيرا لا ينافيه، بل قد يظهر من قوله (عليه السلام): إلا أن ترى
في منقاره دما إلى آخره الظاهر في أنه لولا الاستثناء كان داخلا أن غيره من الأجوبة
الدالة على طهارة سؤر الحيوانات شاملة لمثل ذلك، فإذا قال (عليه السلام) مثلا:
لا بأس بسؤر الهرة أوكل ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره مثلا يكون شاملا لما لو كان
عليه نجاسة، أقصى ما هناك خرج المباشرة بعين النجاسة، فيبقى الباقي، فلا يقال:

(1) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الأسئار - حديث 0 - 2 - 3
(2) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الأسئار - حديث 0 - 2 - 3
(3) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الأسئار - حديث 0 - 2 - 3
374

حينئذ هذه الاطلاقات إنما هي مساقة لبيان أنفس ذوات الأسئار لا لعوارضها (1)
مع عدم تمامه في الأحوال الغالبة، بل قد يقال: إن ذلك بالنسبة إليها تأخير البيان
عن وقت الحاجة مضافا إلى أن الشهرة المدعاة، بل يمكن دعوى تحصيلها جابرة لذلك،
كما نقل عن كثير ذكر حكم الهرة إذا أكلت فأرة أو ميتة ولم تغب وباشرت الماء
مع حكمهم على الماء بالطهارة، واحتمال أن ذلك منهم قد يكون خارجا عما نحن فيه،
لأن حكمهم بالطهارة لعدم العلم بنجاسة الفم لا للطهارة بالزوال مع ضعفه لا يجري فيها كلها،
بل ولا في البعض فتأمل.
وفي المدارك بعد أن استحسن التعدية السابقة قال: للأصل، وعدم ثبوت
التعبد بغسل النجاسة عنه، وعن المعالم أنه لو فرضنا عدم دلالة الأخبار على العموم فلا
ريب أن الحكم بتوقف الطهارة في مثلها على التطهير المعهود شرعا منفي قطعا، والواسطة
بين ذلك وبين زوال العين يتوقف على الدليل ولا دليل، قلت: لا ريب أن النظر
في أخبار النجاسات يقضي بثبوت قاعدتين، الأولى أنها تنجس كل ما تلاقيه، ومثلها
المتنجسات، والثانية أن كل متنجس لا يطهر إلا بالغسل بالماء، بل يكفي في الثانية
الاستصحاب، ولولا هما لثبت الاشكال في كثير من المقامات، نعم قد يقال هنا
من جهة الاطلاق، بل العموم المتقدم، وإطلاقات الاجماعات المنقولة، مضافا إلى
الشهرة بين الأصحاب والسيرة القاطعة بين المسلمين مع عموم البلوي، بل من غسل
شيئا من الحيوانات يحكمون أنه من المجانين: ينقدح الشك في شمول القاعدة الأولى للمقام،
فلا يحكم بنجاسة هذه النجاسات لأبدان الحيوانات، وتكون من قبيل البواطن، فلا
تنفعل بملاقاة النجاسات، بل إن كانت عين النجاسة موجودة كان الحكم مستندا إليها
وإلا فلا، بل في الحقيقة يرجع إلى هذا قولهم أنها تطهر بزوال العين عند التأمل، وإن

(1) فإذا قال لا بأس بسؤر الهرة فلا يستفاد منه إلا طهارة ذات الهرة، فلا بأس
من حيث كونها هرة، ولا تعرض فيه لما لو تنجست من خارج. (منه رحمه الله)
375

كان ظاهره لا يخلو من تسامح، ولعل ما صدر من صاحب المعالم يرجع إلى الشك في شمول
القاعدة الثانية، لكنه لا يخلو من إشكال، لمعارضة الأصل حينئذ بالاستصحاب،
ولعله لما ذكرنا أشار السيد المهدي في منظومته، فقال:
واجعل زوال العين في الحيوان * طهرا كذا بواطن الانسان
ثم الظاهر من القائلين بالاكتفاء بالزوال من غير اشتراط للغيبة أنه لا اشكال
عندهم في حصول الطهارة بها، إلا أنها ليست شرطا لكن لو كانت عين نجاسة على
بدن الحيوان ثم غاب وبعد ذلك باشر مائعا فهل يحكم بالنجاسة، استصحابا لبقاء العين،
أو الطهارة، لكون الغيبة من المطهرات لاحتمال المطهر ولو زوال العين الذي اكتفينا به
في طهارة الحيوان؟ قد يقال: بالأول، وظاهر التسالم هنا على الغيبة إنما هو بعد
الحكم بزوال العين، وإن اختلف في أنه هل يشترط الغيبة لعدم الاكتفاء بالزوال،
أو يكتفي به؟ فلا حاجة إليها، بل هو الظاهر من اشتراطهم الخلو من عين النجاسة
بعد العلم بمباشرته لها، ويحتمل قويا الثاني، إذ الظاهر أنه لا إشكال عندهم في كونها
من المطهرات في الحيوان وإن وقع الاشكال فيها في الانسان، فحينئذ يكتفي باحتمال
حصول الطهارة له، كل على مذهبه فيها، فمن اكتفى بالزوال يكفي عنده احتماله، ومن
لا يكتفي به لا بد من احتمال غيره،
وكيف كان فلا تلازم بين القول بالطهارة بالزوال وبين الغيبة من المطهرات،
فقد تسلم الأولى، وتمنع الثانية، كما لعله الظاهر من بعضهم وإن كان الأقوى خلافه
لقيام كثير من الأدلة السابقة على الطهارة بالزوال على حصول الطهارة بالغيبة، فتأمل
جيدا، فإن التحقيق الثاني، لأن استصحاب بقاء العين لا يقضي بثبوت الإصابة التي
هي حكم من الأحكام العرفية، فالمتجه بقاء الآخر ولو مائعا على الطهارة التي لا يحتاج
استصحابها إلى حكم آخر، نعم لو قلنا بتنجس الحيوان بملاقاة النجاسة واعتبرنا في
الجواهر 47
376

طهارته زوال العين كما هو مقتضي قولهم تطهر بالزوال اتجه الحكم بالنجاسة لا بملاقاة الحيوان
الذي كان عليه نجاسة ولم يعمل زوالها، ولعل هذا هو الثمرة من قولنا بعدم قبول بدن
الحيوان النجاسة كالبواطن وبين القول بها والطهارة بالزوال، هذا كله من هذه الجهة،
وأما بناء على ظهور النصوص في الحكم بالطهارة لمجرد عدم العلم بملاقاة عين النجاسة وإن
كانت موجودة سابقا ولو لاحتمال الزوال وإن لم نعتبره فهو موافق لما ذكرناه من أن
التحقيق الثاني، وعلى كل حال فهل المراد بالزوال ما يشمل الجفاف لمثل ما إذا كانت
النجاسة من قبيل الماء وإن أفادت خشونة أو ثخنا لما كانت عليه، أو إن ذلك دليل
على بقاء العين، نعم لو كانت النجاسة من قبيل الدم ونحوه فزوال العين فيه عبارة عن
ذهابه؟ وجهان، بل للشهيد في الذكرى كلام في غير المقام قد يشعر بالخلاف في المسألة،
قال: " فيما لو طارت الذبابة عن النجاسة إلى الثوب أو الماء فعند الشيخ عفو، واختاره
الشيخ نجم الدين المحقق في الفتاوى، لعسر الاحتراز، ولعدم الجزم ببقائها،
لجفافها في الهواء، وهو يتم في الثوب دون الماء، إذ ظاهر قوله وهو يتم إلى آخره أنه
لا يكتفي بالجفاف في حصول الطهارة، أو أنه لا يكتفي باحتمال زواله وإن كان الظاهر
الأول، وإلا لم يتأت الفرق بين الثوب والماء ولها وجه آخر فتأمل، فإن التحقيق
في أصل المسألة كون المدار على صدق وجود عين النجاسة مع الجفاف وعدمه، فإن كان
نجس الملاقي، وإلا فلا، وأما الخلاف في الذباب ونحوه فهو من فروع المسألة السابقة
التي عرفت كون التحقيق طهارة الجسم الآخر، من غير فرق بين الماء وغيره من المائعات
وبين الثوب ونحوه، للاستصحاب السالم عن معارضة غيره، ولظاهر النصوص والسيرة
والعسر والحرج وغير ذلك، وأما الكلام في طهارة الآدمي بالغيبة فيأتي إن شاء الله
في المطهرات.
(والحائض) المحكوم بحيضها (التي لا تؤمن) على المحافظة عن مباشرة النجاسة،
كما هو الظاهر من عبارة السرائر في الأطعمة والمنقول عن غيره، لكن الأشهر في التقييد
377

المتهمة وإن كان ليس في الأخبار ذكر للاتهام، بل الموجود فيها أنه لا بأس بالوضوء
من فضلها إذا كانت مأمونة كما تسمعه إن شاء الله تعالى، ومن هنا قال في المدارك:
" إن ما ذكره المصنف أولى، لأن النص إنما اقتضى انتفاء الكرهة إذا كانت مأمونة،
وهو أخص من كونها غير متهمة، لتحقق الثاني في ضمن من لا يعلم حالها دون الأول،
إلى أن قال: فإن المتبادر من المأمونة من ظن تحفظها من النجاسات، ونقيضها من لم
يظن بها ذلك، وهو أعم من المتهمة والمجهولة ".
قلت: لكن قد يقال: إن الأمر على خلاف ما ادعاه، لعدم صدق غير
المتهمة على مجهولة الحال، بل هذه العبارة لا تقال إلا بعد اختبار حالها ومعرفته،
فيصدق عليها حينئذ أنها غير متهمة وأنها مأمونة، كما يقال: فلان غير متهم على دينه
أي بعد اختباره، دون من لا يعرف حاله ولو لكونه من بلد أخرى، كما هو واضح،
فحينئذ متى صدق عليها أنها غير متهمة صدق عليها أنها مأمونة، ومتى صدق عليها أنها غير
مأمونة صدق عليها أنها متهمة، نعم هما لا يصدقان على مجهولة الحال، وكان عدم التعرض له
لأنه قل ما تحصل المساورة مع حائض مجهولة الحال، بل الغالب عدم معرفة كونها حائضا،
كما أن الغالب معرفة كونها مأمونة أولا مع العلم بحيضها، لكونها حينئذ زوجة مثلا له،
فيكون أنه لا يعرف أنها حائض، أو أنه إذا عرف حيضها يعرف حالها، فصار حاصل
الرد إما بتسليم أن المأمونة من ظن تحفظها عن نجاسة لكنا نمنع كون المفهوم شاملا
للفردين وإن كان ذلك مقتضي النقيض، إلا أن الفهم العرفي على إرادة مظنونة العدم
دون مجهولة الحال، أو يقال: إنا نمنع أخذ الظن في المأمونة، بل المراد منها المتحفظة
عن النجاسة واقعا، فتارة يظن، وتارة يقطع، وغير المأمونة غير المتحفظة في الواقع.
وعلى كل حال فمجهولة الحال لا يحكم عليها بشئ وإن كان الواقع لا يخلو منهما،
كما يرشد إليه قول ابن إدريس في السرائر أن المتهمة التي لا تتوقى من النجاسات،
378

وقول أبي عبد الله (عليه السلام) (1): " إن سؤر الحائض لا بأس أن يتوضأ منه إذا كان
تغسل يديها " إذ لا واسطة بينهما قطعا، مع أنه يرجع إلى المأمونة وغيرها، فالمتجه
حينئذ أنه لا يحكم على المجهولة بكراهة ولا عدمها بالخصوص، وما يقال: إن الشارع
اشترط في نفي الكراهة كونها مأمونة يدفعه أنه كما اشترط ذلك في المنطوق اشترط في
المفهوم كونها غير مأمونة، نعم قد يقال: إن الروايات قد نهت عن الوضوء بسؤر
الحائض مطلقا، أقصى ما هناك خرجت المأمونة عن هذا الاطلاق، فيبقى الباقي، مع
أن فيه بحثا ذكرناه في غير المقام وإن كان هو لا يخلو من قوة، بل قد يقال: بعدم
الكراهة في الحكم الظاهري، لأصالة البراءة. واستصحابا لحال الماء، فإن احتمال
المأمونية كاف في جريانه، وليس من الاستصحاب المثبت، إذ ليس المقصود منه إثبات
المأمونية، كما أن كون الشرط لعدم الكراهة أمرا وجوديا وهو المأمونة غير قادح في
ذلك، بل يكون حينئذ كاحتمال الكرية في حفظ طهارة ما لا يعلم حاله هل هو كر أو لا فتأمل.
وعن بعضهم كالشيخ في المبسوط وعلم الهدى في المصباح أنهما أطلقا الحكم بكراهة
سؤر الحائض من غير تقييد، وكأنه للأخبار (2) المعتبرة المستفيضة الناهية عن الوضوء
بسؤر الحائض من غير تقييد، وهي كثيرة، لكن فيه أنها لا تعارض المقيد، كما
بين في محله، مثل قول أبي الحسن (عليه السلام) (3) في خبر علي بن يقطين في الرجل
يتوضأ بفضل الحائض: " إذا كانت مأمونة لا بأس " وقول أبي عبد الله (عليه السلام) (4)
لما سأله العيص بن القاسم على ما عن رواية الشيخ له عن سؤر الحائض: " توضأ منه وتوضأ
من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة، وتغسل يديها قبل أن تدخلهما الإناء " إلى آخره والمناقشة
باحتمال جعل القيد للأخير، كما في رواية الكليني مع أنه أضبط، فإن فيها " لا تتوضأ

(1) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الأسئار - حديث 9 - 0 - 5
(2) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الأسئار - حديث 9 - 0 - 5
(3) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الأسئار - حديث 9 - 0 - 5
(4) الاستبصار - الباب - 7 - حديث 2
379

من سؤر الحائض وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة " إلى آخره مدفوعة بأنها
غير ممكنة، لاشتمالها على الأمر بالوضوء من سؤر الحائض، وبدون التقييد لا معنى له.
نعم قد يقال إن رواية الكليني لأرد بها على الشيخ والمرتضى، بل هي دليل
لهما، إذ هي صريحة أو كالصريحة في عدم اعتبار القيد، وفيه بعد التسليم أنه لا ريب
في رجحان الأول، لأن هذه الرواية مع أن الشيخ قد رواها كما سمعت معارضة بما
سمعت من خبر ابن يقطين المعتضد مع الأصل بالشهرة العظيمة بين الأصحاب، وبما
رواه عن الصادق (عليه السلام) " إن سؤر الحائض لا بأس أن يتوضأ منه إذا كانت
تغسل يديها " فلا ريب أن الأقوى ما عليه المشهور، لكن ظاهر الأصحاب أن المكروه
من الحائض المتهمة مطلق السؤر الشامل للوضوء وغيره، والأخبار لا تدل على ذلك،
لنهيها عن الوضوء بل قد اشتمل بعضها على الإذن بالشرب منه، والنهي عن الوضوء
به، كما في رواية عنبسة (1) ورواية الحسين بن أبي العلا (2) ورواية علي بن جعفر
(عليه السلام) (3) ورواية أبي هلال، (4) ومن هنا استشكل بعض متأخري المتأخرين
في ذلك، ولعل وجهه - بعد كونه مكروها يتسامح فيه. وأنه كالمتفق عليه في المقام،
بل هو كذلك - ما يظهر من تعليق الحكم على المأمونية وجودا وعدما من التعليل،
خصوصا مع كونها من الأوصاف المناسبة، فيتعدى حينئذ لمطلق السؤر، مع أنه لو
كان الحكم خاصا بالوضوء مع الإذن في غيره لجاء الفساد إليه لو كانت المباشرة بأعضاء
الوضوء، واحتمل التعبد بعيد عن الفهم، والإذن بالشرب في تلك الأخبار مع النهي
عن التوضؤ به لا ينافي الكراهة فيه بعد حمل النهي عن التوضؤ على شدة الكراهية، فهذا
مع انجباره بفهم الأصحاب وكون الحكم مما يتسامح فيه كاف في إثبات المطلوب، بل
منه يمكن استفادة الكراهة لكل متهم بمباشرة النجاسة، كما يظهر من أطعمة السرائر

(1) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الأسئار - حديث 1 - 2
(2) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الأسئار - حديث 1 - 2
(3) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الأسئار - حديث 4 - 8
(4) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الأسئار - حديث 4 - 8
380

وما عن المقنعة، بل عن بعضهم التصريح به، وهو جيد إن لم يكن مثارا للوسواس،
وعلى كل حال لا يبعد إلحاق المستحاضة والنفساء بها، بل والجنب، لما سمعت من خبر
العيص، سيما على ما عن الكافي. هذا كله بعد البناء على الكراهة، كما هو المتفق
عليه في الظاهر، والعبارة المحكية عن المقنع ليست صريحة في الخلاف، بل ولا ظاهرة،
إذ ليس فيه إلا قوله: " لا تتوضأ بسؤر الحائض " وهو غير ظاهر في ذلك وإن كان
النهي حقيقة في التحريم، لكن الصدوق في الغالب يعبر عن الحكم بلفظ الرواية، وأما
المحكي عن التهذيب والاستبصار فإنه وإن كان قد اشتمل على قوله لا يجوز الظاهر
لكن ظاهر كلامه أن هذا ما يقتضيه الجمع بين الأخبار، ولذلك قال
بعده من غير فاصلة: ويجوز أن يكون المراد بها ضربا من الاستحباب، واستند في ذلك
إلى رواية أبي هلال، لاشتمالها على قوله لا أحب أن أتوضأ منه، فتأمل، وكيف
كان فهما غير مخالفين، وعلى تقديره فغير قادحين.
(و) لا منع في (سؤر البغال والحمير) إجماعا، كما في غير هما من مأكول اللحم.
نعم يكره سؤر البغال والحمير، كما هو المشهور نقلا وتحصيلا، كالخيل أيضا، وربما
زيد الدواب، بل كل ما يكره لحمه، كما صرح به بعضهم ويظهر من آخرين، لتعليلهم
الكراهة في المقام بكراهة اللحم، بل يستفاد منه أن ذلك من المسلمات، وعلى كل
حال فلعل الحكم بالكراهة لمكان التسامح في هذا الحكم، والاحتياط الذي يحسنه العقل،
والشهرة، مع أن السؤر غالبا إنما يكون بالفم، وفضلاته تابعة للحم بالكراهة، كما قيل،
مع إشعار مضمرة سماعة (1) بكراهة غير الإبل والبقر والغنم، سألته " هل يشرب سؤر
شئ من الدواب ويتوضأ منه؟ فقال: أما الإبل والبقر والغنم فلا بأس " وخبر ابن
مسكان عن الصادق (عليه السلام) (2) سألته " عن الوضوء مما ولغ الكلب فيه

(1) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب الأسئار - حديث 3
(2) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب الأسئار حديث 6
381

والسنور، أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك، أيتوضأ منه أو يغتسل؟ قال نعم،
إلا أن تجد غيره فتنزه عنه " ولا قائل بالفصل هنا بين الوضوء وغيره، بل قد يستفاد مما
دل على كراهة سؤر ما لا يؤكل لحمه أن اللحم له مدخلية في السؤر، كما يشعر به قوله
(عليه السلام) (1) في الإبل الجلالة " لا تأكلوا لحومها، وإن أصابك من عرقها فاغسله ".
بل قد يقال: بدخول مكروه اللحم فيما لا يؤكل لحمه إن أريد به غير المأكول
عادة، لأن الغالب فيه أنه ليس مأكولا عادة، مضافا إلى ظهور أخذ مثل ذلك
في الاستدلال من جملة من الأساطين في أنه من المسلمات، لكن للأصل، ونفي البأس
في صحيح جميل (2) عن الوضوء والشرب بسؤر الدواب والغنم والبقر، وقول
أبي عبد الله (عليه السلام) (3) في خبر عبد الله بن سنان: " لا بأس أن يتوضأ مما
شرب منه ما يؤكل لحمه " وما مر من صحيح البقباق (4) وقول الصادق (عليه السلام) (5)
في خبر عذافر: " نعم اشرب منه وتوضأ بعد أن سأله عن سؤر السنور والشاة
والبقر والبعير والحمار والفرس والبغال والسباع " إلى غير ذلك من الروايات، بل قد
يشعر قوله (عليه السلام) " كل ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب " بعدم الكراهة
لحمل المفهوم فيها على الكراهة، لا على ما قاله الشيخ، وكذلك قوله " كان يكره سؤر
كل شئ لا يؤكل لحمه " مع ضعف جميع ما سمعته أولا، سيما مفهوم المضمرة، مع اشتمالها
على البقر الشامل للجاموس مع كراهة لحمه، بل ولحم غيره في البقر أيضا اختار بعض
المتأخرين عدم الكراهة، بل لعله الظاهر من المقنعة، لقوله " ولا بأس بالوضوء من فضلة
الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم وما شرب منه سائر الطير إلا ما أكل الجيف
فإنه يكره الوضوء بفضلة ما شرب منه " فإن استثناءه يقضي بأن مراده بنفي البأس ما يشمل

(1) الوسائل - الباب - 6 - من أبواب الأسئار - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب الأسئار - حديث 4 - 1
(3) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب الأسئار - حديث 4 - 1
(4) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الأسئار - حديث 4 - 6
(5) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الأسئار - حديث 4 - 6
382

المكروه، بل قد يدعى ظهوره في نفسه بذلك، لكونه من قبيل النكرة في سياق النفي،
كما هو مبني الاستدلال بما سمعت من الروايات المتضمنة لنفي البأس، بل هو مبني
الاستدلال على الكراهة أيضا بمفهوم مضمرة سماعة المتقدمة إلا أنه قد يقال: إن
نفي البأس ظاهر في إرادة الإذن الذي لا ينافي الكراهة، فلا حجة حينئذ فيما سمعت
من الأخبار، بل قد يحمل كلمات بعض المتقدمين غير المفيد على ذلك، فإنهم اقتصروا
على نفي البأس، بل قد يقال: إن ذلك أولى، لكون البأس في اللغة كما قيل إنما
هو العذاب، فلا دلالة فيه إلا على نفي الحرمة، وإن كان الحق أن موارد استعماله
في الأخبار تختلف، لكن على كل حال لا يصلح لمعارضة ما يدل على الكراهة، فالأقوى
الأول، ومراد المصنف بالحمير الأهلية دون الوحشية لتبادرها، مع عدم كراهة
الوحشية كما قيل.
(و) يكره سؤر (الفأرة) كما في التحرير والقواعد والذكرى وعن الوسيلة والمهذب
والجامع، وهو الأقوى، خلافا لما يظهر من المقنعة والتهذيب في باب تطهير الثياب،
كما عن النهاية والمبسوط فيه أيضا من وجوب غسل ما تلاقيه برطوبة، ومثله المنقول عن
الفقيه، مع أن المحكي عن النهاية في المقام " إذا وقعت الفأرة والحية في الإناء وشربتا
منها ثم خرجتا لم يكن به بأس، والأفضل ترك استعمالها " وتقدم سابقا كلامه في المبسوط
أيضا " لا بأس فيما لا يمكن التحرز منه من حيوان الحضر، مثل الهرة والفأرة والحية "
واحتمال الفرق بين الموضعين في غاية البعد، كاحتمال القول بوجوب الغسل خاصة
تعبدا، مع أن المحكي عنه في المبسوط في باب التطهير التعدي إلى غير ذلك من
وجوب إراقة الماء إذا باشرته، وإن قال بعد ذلك: " وقد رويت رخصة في استعمال
ما شربت منه الفأرة في البيوت والوزغ، أو وقعا فيه وخرجا حيين، لأنه لا يمكن
التحرز من ذلك ".
383

وكيف كان فلا ريب أن الأقوى خلاف ما ذكروا، للأصل، ولقول الصادق
(عليه السلام) (1) في صحيح الأعرج عن الصادق (عليه السلام): " في الفأرة
تقع في السمن والزيت ثم تخرج منه حيا فقال: لا بأس بأكله " وقول الكاظم (عليه
السلام) (2) في صحيح علي بن جعفر حيث سأل " عن فأرة وقعت في حب دهن
فأخرجت منه قبل أن تموت أنبيعه من مسلم؟ قال نعم، ويدهن منه " إلى غير ذلك
من الأخبار العامة والخاصة التي يأتي ذكرها في النجاسات إن شاء الله تعالى التي منها ما علق
الحكم بالاجتناب على ميتتها، كما تسمع إن شاء الله تعالى مع بيان ضعف ما يعارضها،
وخلافا لما يظهر من المعتبر والمنتهى من نفي الكراهة لقول أبي عبد الله (عليه السلام) (3):
" إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن
يشرب ويتوضأ منه " ونفي البأس في غيره أيضا، كما سمعت من الأخبار السابقة،
وهو - مع كونه موثقا ومعارضا لما ذكرناه فيما لا يؤكل لحمه، وعدم صراحته في ذلك، لما
تقدم سابقا في نفي البأس - معارض بما رواه (4) في الوسائل عن محمد بن علي بن الحسين
بإسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام)
في حديث المناهي " أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهى عن أكل سؤر الفأرة " وما
يشعر به قول الكاظم (عليه السلام) (5): في صحيح أخيه قال: سألته " عن الفأرة
والكلب إذا أكلا من الخبز أو شماه؟ قال: يطرح ما شماه، ويؤكل ما بقي " وقوله
(عليه السلام) أيضا (6) في صحيح أخيه الآخر، قال: سألته " عن الفأرة الرطبة قد وقعت
الجواهر 48

(1) الوسائل - الباب - 44 - من أبواب الأطعمة المحرمة - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الأسئار - حديث 1 - 2 - 7
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الأسئار - حديث 1 - 2 - 7
(4) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الأسئار - حديث 1 - 2 - 7
(5) الوسائل - الباب - 36 - من أبواب النجاسات حديث 1
(6) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب النجاسات - حديث 2
384

في الماء تمشي على الثياب، أيصلى فيها؟ قال اغسل ما رأيت من أثرها " بناء على تنزيل
الأمر فيهما على الاستحباب، وإن تركه مكروه، أو أنه يستفاد منه في خصوص
المقام ذلك، سيما من قوله يطرح، لأنه أمر بالترك، وهو معنى النهي عن الفعل،
أو لأنه لا قائل بالاستحباب مع عدم الكراهة، وفيه أنه الظاهر من عبارة النهاية
المتقدمة أو لأن ظاهر كلامهما أي المعتبر والمنتهى نفي الرجحان، فلا حظ وتأمل، كل
ذلك مع كون الحكم مما يتسامح فيه، واعتضاد ما سمعت بالشهرة المحكية، مع أن فيه
خروجا من شبهة الخلاف، وهو مقتضي الجمع بين الأخبار، كما سمعت وتسمع إن
شاء الله تعالى، والله أعلم.
(و) لا خلاف فيما أجد في عدم المنع من سؤر (الحية) بالخصوص مع عدم
الموت، لكن قد تدخل في كلام من منع من سؤر ما لا يؤكل لحمه، وفيه ما عرفت، مضافا
إلى ما تسمعه بالخصوص في المقام، نعم يكره سؤر الحية كما في التحرير والقواعد والإرشاد
وظاهر الذكرى وعن الدروس والبيان والروض، وهو المنقول عن الشيخ وأتباعه،
لكن عبارته المحكية عنه تدل على أفضلية الاجتناب، ويظهر منه المعتبر والمنتهى كصريح
المدارك عدم الكراهة وعدم أفضلية الاجتناب، لنفي البأس في صحيح علي بن جعفر
عن أخيه (عليهما السلام) (1) سألته " عن العظاية والحية والوزغ يقع في الماء فلا يموت
أيتوضأ منه للصلاة؟ فقال: لا بأس به " وهو مع عدم صراحته في ذلك كما عرفت
معارض بما تقدم سابقا فيما لا يؤكل لحمه، وبما رواه أبو بصير (2) سألت أبا عبد الله
(عليه السلام) " عن حية دخلت حبا فيه ماء وخرجت منه؟ قال إذا وجد ماء غيره
فليهرقه " ولعله للأمر بالاهراق عبر الشيخ في النهاية بأفضلية ترك الاستعمال، لا بالكراهة
لكن قد يقال بمعونة ما ذكرنا فيما لا يؤكل لحمه وفتوى من عرفت هنا: يستفاد منه

(1) الوسائل - الباب - 33 - من أبواب النجاسات - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الأسئار - حديث - 3
385

الكراهة إن لم نقل بظهوره في نفسه في ذلك، مع أن الحكم مما يتسامح به، والأمر سهل.
(و) كذا يكره سؤر (ما مات فيه الوزغ والعقرب) ولا يمنع على المشهور بين
الأصحاب نقلا وتحصيلا، خلافا لما يظهر من المقنعة في باب تطهير الثياب حيث أوجب
غسل ما يلاقيه الوزغ برطوبة، كما عن النهاية أيضا فيه وفي المقام، قال: " كل ما وقع
في الإناء ومات فيه ما ليس له نفس سائلة فلا بأس باستعماله ذلك الماء، إلا الوزغ
والعقرب خاصة، فإنه يجب إهراق ما وقع فيه وغسل الإناء " إلى آخره، وظاهره فيما
إذا مات في الإناء الوزغ والعقرب لا فيما إذا خرجا حيين، ولعله يستفاد الشمول من مجموع
العبارتين، ولذا نقل عنه في المعتبر والمنتهى أنه منع من استعمال ما وقع فيه الوزغ وإن
خرج حيا، كما عن الصدوق حيث قال: " إن وقع وزغ في إناء فيه ماء أهريق ذلك الماء ".
وكيف كان فالأقوى الأول، للأصل بمعانيه، وما في صحيح علي بن جعفر
المتقدم في الحية وفي خصوص العقرب قول الصادق (عليه السلام) (1) في خبر هارون
ابن حمزة الغنوي سألته " عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء، فيخرج حيا،
هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ منه؟ قال: ليسكب منه ثلاث مرات، وقليله
وكثير بمنزلة واحدة، ثم يشرب منه ويتوضأ منه، غير الوزغ، فإنه لا ينتفع بما
يقع فيه " وقول الكاظم (عليه السلام) (2) في خبر أخيه علي بن جعفر (عليه السلام)
المروي عن قرب الإسناد سألته " عن العقرب والخنفساء وأشباههم فيموت في الجرة
أو الدن يتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا بأس به " وقد يستدل عليهما بقول الصادق
(عليه السلام) (3) في خبر ابن مسكان: " كل شئ سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب
والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس " وقوله (عليه السلام) (4) أيضا: " لا يفسد الماء إلا ما كانت

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الأسئار - حديث 4
(2) والوسائل - الباب - 10 - من أبواب الأسئار - حديث 5 - 3
(3) والوسائل - الباب - 10 - من أبواب الأسئار - حديث 5 - 3
(4) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الأسئار - حديث 4
386

له نفس سائلة " وقوله أيضا: (1) بعد أن سئل " عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة
وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه قال: كل ما ليس له دم فلا
بأس به " والمراد ما لا نفس له سائلة، مضافا إلى ما سمعته فيما لا يؤكل لحمه، وإلى ما تسمع
من الاجماعات الآتية في المسألة الثانية على أن ما لا نفس له سائلة لا يفسد الماء ولا المائع، اللهم إلا أن يقال - من جهة تقارب ما بين المسألتين مع ناقل الاجماع خلاف
الشيخ - أن المراد بالاجماع في غير الوزغ والعقرب، لكن في السرائر في آخر بحث
منزوحات البئر فإذا مات فيها عقرب أو وزغة فلا ينجس، ولا يجد أن ينزح منها
شئ بغير خلاف من محصل، ولا يلتفت إلى ما يوجد في سواد الكتب من غير واحد،
أو رواية شاذة ضعيفة مخالفة لأصول المذهب، وهو أن الاجماع منعقد أن موت ما لا
نفس له سائلة لا ينجس الماء ولا المائع بغير خلاف بينهم.
وكيف كان فدليل الشيخ في الوزغ ما سمعت من رواية الغنوي، بل رواية
عمار عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: سئل " عن العظاية تقع في اللبن؟ قال:
يحرم، وقال: إن فيها السم " بناء على أن العظاية من الوزغ، لكن عن مجمع البحرين
أن العظاء ممدودا دويبة أكبر من الوزغ، الواحدة وعظاءة وعظاية، وعليه يخرج
عن محل النزاع، بل لا أجد قائلا به، نعم عن المقنع أنه أفتى بمضمونه، وعلى العقرب
ما ورد (3) من الأمر بالإراقة في خبر أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) سألته
" عن الخنفساء تقع في الماء؟ قال: لا بأس به، قلت: فالعقرب؟، قال: أرقه "
وقول الصادق (عليه السلام) (4) في خبر سماعة بعد أن سأله " عن جرة وجد فيها
خنفساء قد مات؟ قال: ألقه، وتوضأ منه، وإن كان عقربا فأرق الماء، وتوضأ من

(1) الوسائل - الباب - 10 - من أبواب الأسئار - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 45 - من أبواب الأطعمة المحرمة - حديث 2
(3) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الأسار - حديث 5 - 6
(4) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب الأسار - حديث 5 - 6
387

ماء غيره " وفي الجميع - بعد الغض عما في السند، وظهور رواية عمار السابقة في أن المنع
من جهة السم لا من جهة النجاسة، وعليه يحمل الأمر بالإراقة، مع أنه لا دلالة بالأمر
بالإراقة على التنجيس من دون جابر - أن المتجه بعد ما عرفت والموافق لأصول المذهب
حمل الأمر الوارد في الخبرين على الاستحباب، وقوله (عليه السلام): " غير الوزغ فإنه
لا ينتفع بما يقع فيه " على الكراهة، ولعل الأصحاب استفادوا الكراهة في العقرب من
الأمر بالإراقة التي تجري مجرى التنجيس، أو لأن كل أمر بالترك يستفاد منه ذلك،
إذ هو معنى النهي عن الفعل، أو للبناء على أن ترك المستحب مكروه، لكن قد
يظهر من المصنف اختصاص الكراهة أولا بالموت دون المباشرة مع الحياة، بل وبالموت
في الماء، أما لو مات خارجا ثم وقع فيه فلا، والظاهر خلافه فيهما، لما عرفت من
أن قوله غير الوزغ إلى آخره ظاهر في الحي، كما يظهر من صدر الرواية، مضافا إلى
ما سمعته سابقا من كراهة كل ما لا يؤكل لحمه، مع أن فيه أيضا خلوصا عن شبهة الخلاف،
لأن خلاف الشيخ في الوزغ ليس خاصا بالميت، مع أنه خبر أبي بصير في العقرب
غير ظاهر الخصوصية بالموت، نعم قد يستشكل بالنسبة للميت في غير الماء الواقع فيه، بل
لا إشكال فيه، لكونه مع تناول بعض الأدلة له من المعلوم أنه لا خصوصية للحياة، بل الأمر
بالعكس فكان ما يظهر من غير المصنف من تعميم الكراهة في الوزغ أقوى، وأما العقرب فلم
أظفر بمن عبر بغير عبارة المصنف فيه، والأقوى الكراهة مطلقا أيضا، لما سمعت
من الأدلة على ما لا يؤكل لحمه، مضافا لما فيه، من السم، وللتخلص من شبهة الخلاف
فيه، فما عن إطلاق بعضهم أقوى، ثم إن قول الشيخ ومن تابعه بالمنع محتمل أمرين،
الأول الحكم بالنجاسة، والثاني الوجوب في خصوص ما ذكر تعبدا، والأول هو الذي
فهمه منه بعضهم، وعلى أي حال فضعفه واضح.
(وينجس الماء) القابل للانفعال بملاقاة النجاسة ونحوه من المائعات إجماعا
(بموت الحيوان ذي النفس السائلة) أي الدم المجتمع في العروق الخارج مع قطع شئ
منها بقوة ودفع، لا رشحا كالسمك (دون ما لا نفس له) سائلة، لما سمعت من
388

الأخبار الدالة عليه، وفي المنتهى اتفق علماؤنا على أن ما لا نفس له سائلة من الحيوانات
لا ينجس بالموت، ولا يؤثر في النجاسة ما يلاقيه من الماء وغيره، وفي المعتبر أنه مذهب
علمائنا أجمع، وقد سمعت ما في السرائر، ويأتي تمام الكلام في النجاسات إن شاء الله.
(وما لا) يكاد (يدركه الطرف من الدم) خاصة دون باقي النجاسات (لا ينجس
الماء) دون باقي المائعات (وقيل ينجسه وهو الأحوط) بل الأقوى، وفاقا للمشهور
بين الأصحاب شهرة لا تنكر دعوى الاجماع معها، بل لم يحك الأول إلا عن الشيخ
في الاستبصار والمبسوط مع زيادة التعدي إلى سائر النجاسات في الثاني، وربما ظهر
من صاحب الذخيرة موافقته، ولا ريب في خطائه، لما سمعت من أدلة نجاسة القليل،
ومن قاعدة تنجيس هذه النجاسات لكل ما تلاقيه، وخصوص موثقة عمار (1) " كل
شئ من الطير يتوضأ مما يشرب منه، إلا أن ترى في منقاره دما، فإن رأيت في منقاره
دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب " بل قيل وصحيح علي بن جعفر (2) عن أخيه قال:
سألته " عن رجل رعف وهو يتوضأ فقطر قطرة في إنائه، هل يصح الوضوء منه؟ فقال:
لا " لكن قد يمنع شموله لما نحن فيه، إلا أنا في غنية عنه بما تقدم، وبه ينقطع الأصل،
وله يطرح صحيح علي بن جعفر عن أخيه (عليهما السلام) (3) سألته " عن رجل رعف
فامتخط، فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال:
إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان شيئا بينا فلا تتوضأ منه " كذا عن
الكافي، وعن التهذيب شئ بالرفع، أو يحمل على إرادة أنه أصاب إناءه، ولم يعلم
أنه هل أصاب الماء أو لا، وكون السائل علي بن جعفر ممن لا يناسبه هذا السؤال يدفعه
أنه لا مانع من ذلك، نعم لو علم بمكان إصابته من الإناء التي لا يصل إليها الماء لما حسن
السؤال، وأما إذا علم أنه أصاب الإناء ولم يعلم مكان إصابته الإناء فإنه حينئذ يحسن

(1) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب الأسئار - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
(3) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب الماء المطلق - حديث 1.
389

السؤال، لاحتمال كونه من قبيل الشبهة المحصورة، فينجس الماء حينئذ بصبه من الإناء
ونحوه، أو يقال: إن إصابة النجاسة الإناء كما تتحقق مع العلم بوقوعها في الماء أو
في خارجه كذا تتحقق مع انتفاء العمل بأحد الأمرين، ومعه يحسن السؤال أيضا،
لاحتمال كونه من الشبهة أيضا.
وقد يشهد له رواية الرفع، لكن هذا إنما يتم إن قلنا بخروج مثله عن الشبهة
وإلا فالمتجه الجواب بالعدم حينئذ والأحسن حمل الرواية على إصابة الإناء نفسه مع
تشخيص المكان، إلا أنه يحتمل مع ذلك إصابة الماء أيضا، وحسن السؤال حينئذ
لكون إصابة الإناء مظنة إصابة الماء، فأجابه (عليه السلام) أنه إن كان شيئا بينا وإلا
فلا بأس، لعدم العلم حينئذ، بل قد يراد بالبين العلم، هذا كله مما شاة للخصم،
وإلا فلو كانت الرواية نصا لوجب طرحها في مقابل ما ذكرنا، وأما ما نقل عن المبسوط
فلم نعثر له على دليل، ولعله لا لقاء خصوصية الدم، أو ما نقل عنه من العسر والحرج
من التحرز عنه، وفيه ما لا يخفى، إذ التعدي من غير معد ليس من مذهبنا، ولا
حرج، كما لا يخفى ما في تأييد الذخيرة له بعدم العموم في أدلة القليل، والعمدة عدم
القول بالفصل، وهو غير متأت هنا، فيبقى داخلا في أصل الطهارة وعمومها، ثم إن
ظاهر الاستبصار قصر الحكم في الماء، كما أن ظاهر استناده إلى الحرج في المبسوط
التعدي إلى غيره، ولعله هو الذي أشار إليه ابن إدريس، كما نقل عنه حيث حكى
عن بعض الأصحاب أنه لا بأس بما يترشش على الثوب والبدن مثل رؤوس الأبر من
النجاسات، لكن قد يشعر حكاية الأصحاب له في الماء القليل باختصاص الحكم به،
كما هو الظاهر من المصنف. (الركن الثاني في الطهارة المائية وهي وضوء وغسل،
وفي الوضوء فصول، الأول).
(في الأحداث الموجبة للوضوء)
وهي جمع حدث، وهو لغة وعرفا الفعل، وقد يقال بالاشتراك اللفظي على
390

الأمور الموجبة لفعل الطهارة وعلى الأثر الحاصل منها، فتقابله مع الطهارة مقابلة الأضداد،
لا مقابلة العدم والملكة، فالمخلوق دفعة بالغا كآدم مثلا لا يحكم عليه بأحدهما، فما كانت الطهارة
شرطا فيه تجب، وما كان الحدث مانعا منه جاز فعله بدونها، وقد يحتمل أنه يلاحظ في
بعض الأحداث معنى الحدثية اللغوية، فلو أرسل خشبة أو نحوها في المقعدة فأخرج
بها شئ من الغائط لا يسمى حدثا، ولا ينقض به وضوء وإن كان الظاهر خلافه كما
ستعرف، والموجبة الثابت عندها الخطاب بالوضوء لولا المانع، والموجب في هذا
المعنى مرادف للسبب والمقتضي، كما لا يخفى على المتتبع، لا طلاق لفظ الموجب في كلامهم،
سواء كان خطابا واجبا أو مستحبا لنفسه أو لغيره، وعبر في القواعد بالأسباب،
وفي السرائر بالنواقض، وكان اختلاف التعبير منشؤه الأخبار، فالتعبير بالموجبات
لقوله (عليه السلام) (1): " لا يوجب الوضوء إلا من غائط أو بول " إلى آخره
والنواقض لقوله (عليه السلام) (2): " ليس ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك
الأسفلين " إلى آخره، والأسباب لقوله (عليه السلام) (3): " إنما الوضوء من طرفيك
اللذين أنعم الله بهما عليك ".
لكن قيل إن التعبير بالأسباب أولى، لكونه أعم منهما مطلقا، لكون السبب
عرفا هو الوصف الوجودي الظاهر المنضبط الذي دل الدليل على كونه معرفا لاثبات حكم
شرعي لذاته، سواء كان الحكم الشرعي وجوبا أو ندبا، وقولنا لذاته لادخال حدث الصبي
والمجنون والحائض، فإن ذاته مقتضية لذلك، لكن وجود المانع منع من تأثير المقتضي،
وهو لا ينافي السببية عرفا، ومن هنا وجب الوضوء مثلا عند ارتفاعه، فحدث المجنون
حينئذ في حال جنونه سبب، وأما الموجب فهو الذي يثبت عنده الخطاب الوجوبي،
والناقض المسبوق بطهارة، ومن المعلوم أن الحدث أعم من ذلك، لصدقه عند عدم

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4 - 5
(3) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4 - 5
391

وجوب المشروط بالطهارة، وعدم السبق بطهارة، فكل ناقض وموجب سبب،
ولا عكس، وأما بين الناقض والموجب فالعموم من وجه، لصدقهما على الحدث بعد
الطهارة في وقت الوجوب، وصدق الأول على الحدث بعد الطهارة في غير وقت الوجوب،
وصدق الثاني على الحدث الحاصل في وقت الوجوب مع عدم سبق الطهارة، لكنك
خبير أنه على ما ذكرنا من تفسير الموجبة يكون مع السبب مترادفا، إذ ليس المراد منه
الوجوب الشرعي، بل المراد اللغوي، فلا يرد شئ مما ذكر فيه كما هو واضح، مع
ظهور أن ما ذكره في الموجب والناقض جهة تسمية لا يجب اطراده، وما ذكره الشهيد
(رحمه الله) كما نقل عنه في بيان وجه النسبة بينهما كأنه لملاحظة المعنى الوضعي لا لبيان
أولوية في التعبير، وإلا فالكل متحد، مع أنه يرد عليه صدق الناقض للوضوء على
الجنابة، مع أنه ليس سببا فيه، واحتمال كون المقصود سبب الطهارة خلاف الظاهر
من كلامه، وأيضا لا ريب أن المراد بسببيتها إنما هو صلوحها للتأثير وإن لم يتحقق،
فكذلك الموجب والناقض، أي الصلاحية للإيجاب والنقض، ودعوى أن الصلاحية
لا تقدح في صدق السببية، بخلاف الموجب والناقض، لكون المشتق حقيقة في الحال
يدفعها أن صفة الناقضية والموجبية لاحقة لطبيعة الحدث من غير نظر إلى أفراده، بل
قد يقال: يمنع السببية في مثل الصغير والمجنون، والخطاب وبالوضوء عند ارتفاعهما إنما
هو لكونه شرطا في مثل الصلاة ونحوها، لا لحصول السبب في ذلك، ومن هنا وقع
الشك في إيجاب وطء الصبي الغسل لو بلغ، ففي المقام أولى، لظهور الأدلة في التسبيب
للمكلف، لكن الظاهر أن الاجماع منعقد في المقام على كون خطابها من باب الأسباب،
وإن وقع الاشكال منهم في الجنابة، ولولاه لأمكن ما قلناه فتأمل.
ومنه ينقدح شئ وهو أنه لا معنى لا طلاق الأسباب والموجبات على هذه
الأمور بل، الموجب والسبب إنما هو الصلاة مثلا ولذلك يجب الوضوء على فرض
الجواهر 49
392

عدم حصول شئ منها لو اتفق، كما لو خلق الله شخصا بالغا مثل آدم (عليه السلام)،
وكان إطلاق الأسباب والموجبات لمكان العادة، وربما قيل إن إطلاق الأسباب
والموجبات عليها غير مربوط، وذلك لأن السبب إنما هو الصلاة، والحدث لما كان مانعا
من الدخول فيها وجب زواله، فليست هي أسباب وموجبات، وفيه أن المراد بسببيتها
كونها علامة على الخطاب الشرعي بالوضوء الذي كان سبب الخطاب به الصلاة، فلا
منافاة حينئذ، وهذه غير المناقشة السابقة منافي سببيتها، لرجوعها إلى حصول الوجوب
بدون هذه الأشياء، وهو منافي للسببية، وقد يجاب بأنه لا مانع لجعل ذلك من تعدد
الأسباب، فتكون هذه الأحداث أسبابا، والمشروط بالطهارة سبب فيه أيضا، لكنه
كما ترى، نعم قد يقال: إن المراد أينما حصلت تعرف الحكم الشرعي ولو وبالخطاب
الاستحبابي، بناء على استحباب الوضوء لنفسه فتأمل، والأمر في ذلك سهل. والوضوء
بضم الواو من الوضاءة بالمد النظافة والنضارة، وهو في الأصل اسم مصدر، وبالفتح
اسم للماء الذي يتوضأ به، وعن بعضهم أنهما معا بالضم، كما عن آخر أنهما معا بالفتح
(وهي) أي موجبات الوضوء خاصة (ستة) فلا يرد ما يوجب الوضوء
والغسل، كما أنه لا يرد مثل تيقن الحدث والشك في الطهارة، وتيقنهما والشك في
السابق منهما، ولا وجدان الماء، لكون الموجب حقيقة في الجميع هو الحدث (خروج
البول) ونحوه ولو بالحكم به شرعا كالبلل الخارج قبل الاستبراء مثلا (والغائط والريح
من الموضع المعتاد) إجماعا محصلا ومنقولا، بل قيل لا خلاف فيه بين المسلمين، وسنة
متواترة أو قريبة منه، والمرجع في هذه الأشياء إلى العرف، وعند الشك يبنى على صحة
الوضوء كالشك في أصل الخروج، ومثلهما الشك في أن الخارج من النوع الناقض أو
من غير الناقض، ولا فرق في ذلك بين الخروج في الأثناء أو بعد تمام الوضوء، فما
يخرج من الدبر صحيحا مثل بزر الخيار والبطيخ ونحو ذلك ممزوجا برطوبة مثلا أو منفردا
ليس من الغائط في شئ عرفا، ومثل بعض الأجزاء مثل قشور الماش وبعض أجزاء
393

الرطب يحتمل قويا أنها ليست منه أيضا، لا يقال: إنه لو كان كذلك لكان كثير
من الغائط ليس منه، لكونه عبارة عن المأكول، لكنه تجعله المعدة أجزاء دقاقا،
لأنا نقول المدار على الصدق العرفي، والتغير له مدخلية، نعم قد يقال: ذلك في بعض
الأشياء التي حد طبخ المعدة لها لا يخرجها عن الحال الأول خروجا تاما، مع أن
الظاهر فيه اعتبار الصدق العرفي أيضا، وهو مضبوط فيه وإن كان عند التدقيق يحصل
الاشتباه في بعض الأشياء، كما في كثير من معاني الألفاظ العرفية حتى في لفظ الماء
والأرض ونحوهما، ولا معنى للالزام في الصدق العرفي، إذ العرف قد يطلق على بعض
الأشياء أنها من الغائط إن خرجت ممزوجة بمتيقن الغائطية، ولا يصدق لو خرجت
مستقلة مثلا، والضابط ما ذكرناه فما تقدم، وفي مثل بعض أجزاء الحقنة والدواء،
وفاسد المعدة التي لا تطبخ معدته غذاءه، إلى غير ذلك فتأمل.
ويظهر من جملة من الأخبار (1) تقييد الريح الناقضة بسماع الصوت ووجدان
الريح، ومن المعلوم عدم اشتراط ذلك، لاطلاق الأدلة من الاجماعات وغيرها،
ومعلومية الإرادة بالقيد دفع الوسوسة التي أشير إليها بالروايات (2) من أن الشيطان ينفخ
في دبر الانسان حتى يتخيل أنه قد خرج منه ريح، ولذلك قال موسى بن جعفر (عليهما
السلام) (3) في خبر علي أخيه كما عن قرب الإسناد لما سأله عن رجل يكون في الصلاة
فيعلم أن ريحا قد خرج فلا يجد ريحها ولا يسمع صوتها: " يعيد الوضوء والصلاة، ولا يعتد
بشئ مما صلى إذا علم ذلك يقينا " وكأن المسألة من الواضحات، وما في المدارك - بعد
ذكر خبر زرارة (4) ومعاوية بن عمار (5) المشتملين على تقييد الريح بسماع الصوت
ووجدان الريح أن مقتضى الرواية أن الريح لا يكون ناقضا إلا مع أحد الوصفين - لعله

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء
(3) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 9 - 2
(4) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 9 - 2
(5) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 3.
394

لا يريد الخلاف في ذلك، وإلا كان ما قدمنا حجة عليه من الاجماع وإطلاق كثير من
الأخبار، مع ظهور القيد فيما ذكرنا، أو عدم نقض اليقين بالظن ونحوه، وظاهر
إطلاق النص والفتوى عدم اشتراط الاعتياد في المخرج المعتاد الطبيعي، كما صرح به
بعضهم، بل عن شارح الدروس دعوى الاجماع عليه، بل يظهر من الرياض أن إجماع
المعتبر والمنتهى عليه وإن كان الظاهر أنه اشتباه، كما أنه يحتمل في عبارة شارح الدروس
عدم إرادة الاجماع على ذلك، فلاحظ وتأمل، وعليه فلو خرج مرة واحدة وجب
الوضوء إذا بلغ مكلفا، وعن الروض والمسالك أنه لقلة فائدته لم يتعرض له الأكثر،
وفيه أن الغرض كما يتحقق بما ذكرنا يتحقق بمن خرج من أول أمره من غير المعتاد لسائر
الناس مع وجوده له حتى نشأ على ذلك، ثم بعد وضوئه مكلفا به اتفق أنه خرج من
الطبيعي شئ، فلعل ترك الأكثر له لا لما ذكر، بل لاشتراط اعتياد الخروج، سيما
إذا كان المعتاد غيره من أول أمره، بل لعل قوله (عليه السلام) (1) في خبر أبي
بصير: " إنما الوضوء من طرفيك اللذين أنعم الله بهما عليك " يرشد إلى اعتياد الخروج،
وقد يستشكل في شمول الفتوى له أيضا بحمل المعتاد في كلامهم على كونه في الشخص،
لا معتادا بالنسبة إلى أغلب الناس وإن لم يكن معتادا بالنسبة إلى الشخص، أو على إرادة
اعتياد الخروج، كالاشكال في شمول الأدلة لانصرافها إلى المتعارف، وهو الخروج
معتادا من المعتاد فتأمل، لا أقل من الشك في الخارج مرة من الموضع المعتاد لأغلب
الناس بعد أن كان خروجه من غيره حتى مضى أكثر عمره على ذلك، لكن قد يستظهر
من الاجماع شموله، وذلك لنقلهم الاجماع في الخروج من المعتاد من غير تفصيل، مع
التفصيل في غيره بالاعتياد وعدمه، هذا كله مبني على اختيارهم من الانصراف إلى الفرد
الشائع، وإلا فعلى مختار ابن إدريس كما تسمعه فلا فرق، والظاهر أن المراد بالخروج

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 5
395

المتعارف، وهو المنفصل، فلو خرج شئ ثم رجع كالخارج بخروج المقعدة وبدونها
فالمتجه عدم النقض، كما أن الظاهر حصول النقض بخروج الحيوان أو غيره مع تلطخه
بالعذرة ولو يسيرا، للصدق، ويشهد له قول أبي عبد الله (عليه السلام) (1)
في حب القرع أنه: " إن خرج متلطخا بالعذرة فعليه أن يعيد الوضوء، وإن كان
في صلاته قطع صلاته، وأعاد الوضوء " وبه يقيد ما دل (2) على عدم نقض الحيوان
الخارج من الدبر، على أن الظاهر منه عدم النقض من حيث خروجه نفسه، فهو
غير محتاج إلى التقييد، كما يقيد قول الصادق (عليه السلام) (3) في خبر فضيل
" في الرجل يخرج منه مثل حب القرع: عليه وضوء " أو يحمل على التقية، أو الانكار،
أو الاستحباب، أو أنه يخرج منه قليل من الغائط بقدر حب القرع.
(ولو خرج الغائط) أو البول (مما دون المعدة نقض في قول) وإن لم يصر معتادا
(والأشبه أنه لا ينقض) إلا إذا صار معتادا، لما سيذكره فيما بعد، وتفصيل البحث
أن الغائط والبول إذا خرج من غير المعتاد فمختار المبسوط والخلاف النقض إذا كان مما
دون المعدة، لا ما إذا كان من فوقها، وهو المنقول عن ابن البراج في الجواهر،
وظاهره عدم الفرق في كل منهما بين صيرورته معتادا وعدمه، بل هو شامل لما لو انسد
المخرج الطبيعي وانفتح غيره وكان فوق المعدة. مع أنك ستسمع الاجماع على خلافه،
وربما قيد النزاع بما إذا لم ينسد المخرج الطبيعي، ولا شاهد عليه في الجميع، بل مقتضى
ما تسمع من استدلال الشيخ الشمول لما لو كانت خلقته الخروج مما فوق المعدة، وقال
ابن إدريس بالنقض على كل حال، من غير فرق بين الاعتياد وعدمه، وهو مختار
التذكرة، والمشهور بين المتأخرين التفصيل بالاعتياد وعدمه، فما صار معتادا نقض،

(1) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 5 - 4
(2) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 5 - 4
(3) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 6 - ولكن رواه
في الوسائل - عن ابن أخي فضيل
396

وإلا فلا من غير فرق بما دون المعدة وفوقها، ويظهر من المنقول عن شارح الدروس
اختيار عدم النقض مطلقا حتى إذا صار معتادا، وهو الذي قواه في الرياض.
حجة الشيخ تناول الأدلة للخارج مما دون المعدة، لشمول قوله تعالى:
(1):
" أو جاء أحد منكم من الغائط " ثم قال: وإنما لم نقل بالخارج مما فوق المعدة لعدم صدق
الغائط عليه، وفيه أنه لا دخل للمخرج في صدق الاسم، ولاستعباد خفاء مثل ذلك
عليه (قدس سره) يحتمل قويا إرادته بما فوق المعدة أي قبل وصول الغذاء إلى حد
الغائطية، لأنه لا يصل إلا بعد أن تطبخه المعدة، وتأخذ العروق نصيبها منه، فيبقى
التفل، فينزل، ويكون تحت، وبعد ذلك فهو غائط من أينما خرج حتى لو
خرج من الفم، كما نقل أن شخصا كان يتغوط من فمه، فمراد الشيخ بتحتية المعدة
ذلك، فيتحد حينئذ مع ابن إدريس، فتكون الآية المتقدمة مع عدم القول بالفصل،
وقول أبي عبد الله (عليه السلام) (2) في خبر زرارة: " لا يوجب الوضوء إلا من غائط،
أو بول، أو ضرطة تسمع صوتها، أو فسوة تجد ريحها " وقول الرضا (عليه السلام)
(3) في خبر زكريا بن آدم سأله عن الناصور أينقض الوضوء: " إنما ينقض الوضوء
ثلاث البول والغائط والريح " كالخبر المنقول عن العيون مسندا (4) قال: سأل المأمون
الرضا (عليه السلام) " عن محض الاسلام، فكتب إليه في كتاب طويل ولا ينقض
الوضوء إلا غائط أو بول أو ريح أو نوم أو جنابة " وفي الوسائل روى الصدوق (5)
بأسانيده عن محمد بن سنان في جواب العلل عن الرضا (عليه السلام) " إن علة
التخفيف في البول والغائط لأنه أكثر وأدوم من الجنابة، فرضي فيه بالوضوء لكثرته

(1) سورة النساء - آية - 46 - وفي سورة المائدة - آية 9
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2
(3) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 6 - 8
(4) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 6 - 8
(5) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث - 10
397

ومشقته ومجيئه بغير إرادة منهم ولا شهوة " إلى آخره وكالمنقول (1) عن العلل والعيون
عن الرضا (عليه السلام) أيضا " إنما وجب الوضوء ما خرج من الطرفين خاصة ومن النوم،
دون سائر الأشياء، لأن الطرفين هما طريق النجاسة، وليس للانسان طريق تصيبه النجاسة
من نفسه إلا منهما، فأمروا بالطهارة عندما تصيبهم تلك النجاسة من أنفسهم " بناء على
ظهوره في دوران الحدث على الخارج منهما نجسا دليلا لهما على المطلوب.
لا يقال: هذه الأخبار مقيدة بما جاء في المعتبرة المستفيضة من التقييد بالطرفين،
كقول أحدهما (2) في خبر زرارة: " لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من طرفيك أو النوم "
وصحيحه (3) أيضا قال: قلت لأبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام): " ما ينقض
الوضوء؟ فقالا: ما يخرج من طرفيك الأسفلين من الذكر والدبر من الغائط والبول "
إلى آخره وقول أبي عبد الله (عليه السلام) (4) في خبر سالم أبي الفضل: " ليس ينقض
الوضوء إلا ما خرج من طرفيك الأسفلين اللذين أنعم الله بهما عليك " إلى غير ذلك
من الروايات، لأنا نقول (أولا) إنه مفهوم قيد، والكلام في حجيته معلوم، (وثانيا)
إنه قد تبين في الأصول أن القيد متى جرى على الغالب خرج عن الحجية، بل قد تكون
حينئذ حجة لنا على وجه، لبقائها حينئذ مطلقات، لحصول الظن أو القطع بجريانه مجرى
الغالب، أو يقال: إن الخارج من غير الطرفين يصدق عليه أنه ما يخرج من طرفيك
على الشأنية، أو على إرادة نفس الغائط والبول، (وثالثا) إن المقصود نفي النقض
بالقئ والرعاف ونحو ذلك، كما تقوله العامة العمياء، كما يشير إلى ذلك قول الصادق
(عليه السلام) (5) في خبر أبي بصير بعد أن سأله " عن الرعاف والحجامة وكل دم سائل:
ليس في هذا وضوء، وإنما الوضوء من طرفيك اللذين أنعم الله بهما عليك " ومثله في ذلك

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 7 - 1
(2) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 7 - 1
(3) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2 - 4
(4) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2 - 4
(5) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 10
398

غيره، بل لعل المتأمل في الروايات مع كثرتها وتصريحها بنفي النقض بالقئ والرعاف
ونحو هما بل نسبة ذلك فيها إلى المغيرة بن سعيد - يكاد يقطع أن المراد بالحصر في ذلك
نفي النقض بغيرها مما تقدم، لا أن المراد منه نفي النقض بالخارج من الثلاثة من غير المعتاد.
لا يقال: إنا لا نحتاج في تقييد ما ذكرت إلى هذه الروايات، بل التبادر كاف
فيه، فإن الآية وجميع ما تقدم من الأخبار المطلقة تنصرف إلى الفرد الشائع المتعارف.
وليس هو إلا الخروج من المعتاد، وهو الذي يجب إضماره فيما تقدم، إذ ليس فيهما
عموم لغوي، لأنا نقول (أولا) إن هذه لندرة ليست ندرة إطلاق، بل هي ندرة
وجود، فإنه لا ينبغي الشك لعاقل أن الخارج من غير السبيلين خروج بول وغائط،
(وثانيا) أنه لو نزلت هذه الروايات على المعتاد لوجب أن لا يحكم بنقض من خلق مخرجه
على غير المعتاد، ولا بمن انسد المعتاد منه ثم انفتح آخر، ولا بمن أصل خلقته له مخرجان،
ولا بمثل مخرج الخنثى والممسوح ونحو ذلك، بل لا معنى للتفصيل بالاعتياد وعدمه،
لأن اعتياده للخروج من غير السبيلين لا يخرجه عن كونه فردا نادرا بالنسبة إلى عامة
الناس، بل ولا مثل من يخرج من المعتاد لأغلب الناس نادرا بل كل من كان مخالفا
للمتعارف بوجه من الوجوه، وهو مما لا يرتكبه من ذاق طعم الفقاهة وعرف إشاراتهم،
واحتمال أن المستند في البعض الاجماع المنقول ضعيف، إذ الأصل في المستند الأخبار،
على أنه لا يتم في الجميع، ومما ذكرنا من الأخبار المقيدة مع الأصل حجة المشهور على
عدم النقض بغير المعتاد، كما أن عموم الآية والحديث حجتهم على النقض مع الاعتياد
مضافا إلى قول الصادق (عليه السلام): " اللذين أنعم الله بهما عليك "، لتحقق النعمة بهما
حينئذ، وفيه أن الأول إن كان صالحا للتقييد فلا معنى للاستدلال بالآية والحديث،
وإن كان غير صالح فلا معنى للاستدلال بها على عدم النقض، بل يبقى عموم الآية
حينئذ شاملا للمعتاد وغيره، وأيضا قد يقال: إن ذلك ليس من النعمة بل من النقمة
إلا أن يراد أصل الخروج نعمة، فيشمل النادر حينئذ، على أن قوله اللذين أنعم الله
399

إلى آخره وصف للطرفين المعتادين المتعارفين، لا أن الحكم تعلق على النعمة، إذ
ظاهر الإضافة والموصول العهد، على أن مرادهم بالاعتياد في المقام لا يخلو من إجمال،
فعن بعضهم أنه يتحقق بالمرتين، فينقض بالثالثة، وعن آخر أنه بالثلاثة، وينقض
بالرابعة، وعن آخر الرجوع فيه إلى العرف، وإن كان أقواها الأخير، لكنه فيه
إن الرجوع في لفظ المعتاد إلى العرف مع عدم وجوده في مدرك الحكم غير ظاهر الوجه،
اللهم إلا أن يستفاد من التعليل في خبر العلل والعيون على معنى أن المدار على ما كان
طريقا للنجاسة، ولا يكون كذلك إلا مع الاعتياد فتأمل، ولعل الأقوال الأول إنما
هي في تحقيق المعنى العرف وإن كان عدم التعرض لتحديده حينئذ أولى، فإنه كما يؤخذ
التكرار يؤخذ عدم الانفصال مدة طويلة، وأن يكون الخارج قدرا معتدا به ونحو ذلك،
فتأمل جيدا، فإنه مما ذكرنا يظهر لك قوة قول ابن إدريس، لكن لا على وجه الخروج
بخرقة ونحوها مثلا، بل إذا كان بحيث يتغوط ويبول منه على نحو المعتاد، فإن حدثيته
بهذا المعنى متحققة وإن كنا لم نعتبر نحو ذلك في المخرج المعتاد، والله العالم.
وكيف كان فلدعوى فساد هذا التفصيل مع تنزيل الأخبار المتقدمة على المتعارف
المعتاد والأصل استظهر بعض المتأخرين عدم النقض مطلقا، وهو الذي قواه في الرياض،
لكنك إذا أحطت خبرا بما قدمنا تعرف ما فيه، بل قد يدعى الاجماع المركب على نفيه،
وقوله في المنتهى فالأقرب أنه ينقض لا ينافيه، ثم إن الظاهر من عبارة المصنف وجملة من
الأصحاب بل أكثرهم تخصيص النزاع في البول والغائط، وهما اللذان ذكرها الشيخ
(رحمه الله) في مبسوطه وخلافه وابن إدريس في سرائره وغيرهما، بل صرح ابن إدريس بأن
الريح الغير الخارجة من الدبر على وجه متيقن كالخارجة من فرج المرأة أو مسام البدن ليست
ناقضة، ويظهر من بعضهم جريان النزاع فيه بمعنى أنه أن خرجت الريح من غير المعتاد
نقضت مع الاعتياد، وإلا فلا، من غير فرق لما كان الاعتياد لها نفسها أولها مع
الجواهر 50
400

الغائط مثلا، وهو وإن كان يؤيده ما ذكرنا من الأخبار المطلقة في نقض البول والغائط
والريح فجميع ما تقدم فيهما جار فيه، لكن الأقوى في النظر الفرق بينهما لكونه
من المعلوم أنه لا يراد بالريح أي ريح تكون، فإن الجشاء ونحوه لا ينقض إجماعا، بل المراد
المسماة بالضرطة والفسوة، فمتى حصل ذلك قلنا به وإلا فلا، بخلاف البول والغائط،
فإن الحكم معلق على البولية والغائطية، نعم الظاهر صدق الضرطة والفسوة على ما لو
اتفق أنه خلق الله مخرجه على غير النحو المعتاد، بل ويحتمل إلحاق منسد الطبيعي
مع انفتاح غيره به، بل لعل قول العلامة في المنتهى: " لو اتفق المخرج في غير الموضع
المعتاد خلقة انتقضت الطهارة بخروج الحدث منه إجماعا، لأنه مما أنعم به، وكذا لو
انسد المعتاد وانفتح غيره " يشهد له، ومن ذلك يعرف الحال فيما ذكره ابن إدريس
من الخارج من فرج المرأة، فما يظهر من بعضهم من الفرق بينه وبين ذكر الرجل بأن
للفرج منفذا للجوف دون الذكر في غير محله، إذ قد عرفت أن الضابط ليس ذلك،
بل ما تقدم، وهو غير صادق على الخارج منهما.
فإن قلت: إن قوله (عليه السلام): لا ينقض إلا ما خرج من طرفيك قاض بأن
الأصل فيما يخرج من الطرفين أن يكون ناقضا، سيما مثل الأمور الثلاثة، فينبغي أن
يفرق بين الطرفين وغيرهما في هذا الحكم، قلت: فيه (أولا) منع هذا الأصل
إذ لقائل أن يقول: إنها لا تفيد إلا حصر الناقض في الخارج، لا حصر الخارج
في الناقض، (وثانيا) أنه ظاهر في أن الطرفين كل لما أعدا للخروج منه، (وثالثا)
تعليق الحكم على الضرطة والفسوة حاكم على ذلك ولو اتفق أنه يخرج من فمه، كما يتفق
في بعض الأمراض، فبناء على نقض الريح الخارجة منه كيف يفرق بينه وبين الجشاء،
فهل يتمسك بالأصل فلا ينقض حتى يعلم، أو لا؟ الظاهر الأول.
ثم إنه لا ينبغي الشك لفقيه في أن هذا النزاع في الخارج من غير المعتاد بالنسبة
للحدث فقط، وإلا فلا إشكال في النجاسة الخبثية، فما يظهر من بعض المتأخرين من
401

التأمل فيه قائلا إني لم أعثر على نص للأصحاب في ذلك ليس على ما ينبغي، ولا حاجة
إلى نص الأصحاب على ذلك بعد قولهم إن الغائط من النجاسات، وفرق بينه وبين
الحدث من جهة تعليق حكم الحدث على الخروج الظاهر في الموضع المعتاد دون الخبث،
وأما الخنثى المشكل فعلى كلام ابن إدريس بل وعلى كلام الشيخ لكونه تحت المعدة
يتجه النقض، كما أنه لا إشكال فيها لو خرج منهما معا، لكون أحدهما مخرجا طبيعيا
قطعا، وأما مع عدم الاعتياد في أحدهما فالظاهر أنه لا ينقض عندهم حتى يصير معتادا،
وأما الممسوح فالظاهر أن الثقب الذي يكون في موضع الذكر هو من الطبيعي، لكونه
أعد للخروج، والله العالم،
(ولو اتفق المخرج) أي الدبر (في غير الموضع المعتاد نقض) بلا خلاف
أجده فيه، بل في المنتهي الاجماع عليه، كما في المدارك أنه موضع وفاق بل يستفاد
منهما أن بحكمه ما لو انسد الطبيعي وانفتح غيره، بل لا يحتاج عندهم فيه حينئذ إلى الاعتياد،
بل يكون كالمخرج الطبيعي، ولعله لقوله (عليه السلام) طرفيك اللذين أنعم الله بهما
عليك، إذ ليس بلازم كونهما أسفلين. (وكذا لو خرج الحدث من جرح ثم صار
معتادا) أما إذا انسد الطبيعي فقد عرفت ما في المنتهى والمدارك وأما إذا لم ينسد فهو
من المسألة السابقة
(والنوم الغالب على) إدراك (الحاستين) حاستي السمع والبصر،
والوصف بالغلبة ليس تخصيصا، بل هو لتحقيق ماهية النوم، وبذلك قيده جماعة
من الأصحاب، لكن الأخبار فيه مختلفة، (فمنها) (1) ما قيدته بذهاب العقل،
(ومنها) (2) بنوم الإذن والعين والقلب، مع الحكم فيها أنه قد تنام العين ولا تنام
الأذن والقلب، (ومنها) (3) بخفاء الصوت، (ومنها) (4) بنوم الأذنين

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 1.
(3) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 7
(4) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 8
402

والعينين كالأصحاب، مع الحكم فيه بأنه قد تنام العينان ولا تنام الأذنان،
وربما علل بأنهما أقوى الحواس إدراكا فمتى بطلا بطل غيرهما بطريق أولى، لكن في المدارك
وغيرها أن فيه نظرا، وقال بعضهم وجه النظر منع كونهما أقوى إدراكا، بل اللمس
والذوق أقوى منهما، ولعله لذا استحسن بعضهم التعليق على ذهاب العقل، قلت:
قد يحتمل أن يكون اختلاف هذه الأخبار للإشارة إلى أنه لا يحتاج إلى تعرف، كما
يشير إليه صحيح زيد الشحام (1) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " عن الخفقة
والخفقتين؟ فقال: ما أدري ما الخفقة والخفقتين، إن الله تعالى يقول: (2) (بل الانسان
على نفسه بصيرة) إن عليا (عليه السلام) كأن يقول: من وجد طعم النوم قائما أو
قاعدا وجب عليه الوضوء ".
وما يقال إن ذلك ينافيه ما ذكره بعض الأصحاب وصرحت به بعض
الأخبار من تحقق الشك في النوم، وحكمت حينئذ ببقاء الطهارة حتى يستيقن يدفعه
أنها محمولة على عدم وجدان طعم النوم، إذ لو وجد لما شك، ولذا حكمت ببقاء الطهارة،
كما أنه يحتمل أن يكون المدار العقل، ولكن معرفة ذهابه تحتاج إلى معرف، إذ مراتب
ذهابه متفاوتة، فأول مرتبته الغلبة على البصر، وآخر مرتبته شرعا الغلبة على السمع،
فإنه ربما يغلب عليه ومع ذلك يمشي في الطريق، بل في سكة الطريق، بل قد يكون
راكبا على فرس أو حمار وهو في غاية ضبط النفس من الوقوع، بل الميل، بل قد يبقى
اللجام في اليد، والرجل في الركاب على وجه الاستحكام، والعمامة على الرأس، إلى
غير ذلك، فظهر أنه لا بد من معرف شرعي للذهاب المعتبر شرعا، ولا يكتفي بذكر
ذهاب العقل، ولذا قيد الجماعة بالغلبة على السمع والبصر، لكن فيه ما لا يخفى، فإن

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث - 8 - وفي الوسائل
(من وجد طعم النوم فإنما أوجب عليه الوضوء)
(2) سورة القيامة - آية 14
403

مرتبة ذهاب العقل النومي إن كانت مشتبهة لم يكشف عنها الغلبة على السمع والبصر،
ومن هنا يحصل الشك، وما تقدم من المحافظة ليس من جهة بقاء العقل، بل عادة بعض
الناس الاستمرار في النوم على ما كانوا عليه في حال اليقظة، نعم يحتمل قويا كما يظهر
من الأخبار (1) أن العقل والسمع في الغلبة متلازمان، فمتى غلب على العقل غلب
على السمع، وبالعكس بخلاف العين، فإنه قد يغلب عليها ولا يغلب عليهما، بل صرحت به
بعض الأخبار (2) لكن اللائق في التعبير حينئذ الاكتفاء بالغلبة على السمع، أو تقديم البصر
وتأخير السمع، والأمر سهل وإن كان الأقوى ما ذكرته أولا، وللمحافظة على هذا
الطريق صرح بعضهم أن الفاقد لهما أي الحاستين يقدرهما، قلت: وكذلك الفاقد
لأحدهما، إلا إذا قلنا أن مع وجود السمع لا يحتاج إلى البصر، لكن لا يخفى ما في
الايكال إلى هذا التقدير من الاجمال.
وكيف كان فلا كلام في ناقضية النوم، بل الأخبار به متواترة، كالاجماعات
المنقولة البالغة كثرة إلى حد يمكن دعوى تحصيل الاجماع من نقلتها، وما وقع من بعض
القدماء من عدم عده في النواقض، بل مع حصر النواقض فيما يخرج من الطرفين من
الأشياء الخاصة، كما عن علي بن بابويه والمقنع والهداية ليس خلافا، بل المقصود
بالحصر اخراج بعض الأشياء، كالمذي والوذي والقئ والرعاف والحجامة ونحو
ذلك، بل هو الظاهر من المنقول عن المقنع والهداية، فلاحظ وتأمل، وإلا فكيف
يحتمل ذلك مع نقل الشيخ في التهذيب إجماع المسلمين على الناقضية، بل الصدوق نفسه
نسبه إلى دين الإمامية، ولو كان مخالفا أو والده لما قال ذلك، إذ والده من رؤساء
الإمامية عند سائر العلماء فضلا عنه نفسه، كما يظهر لمن لاحظ الفقيه من الحكم بصحة
الرسالة وكونها حجة بينه وبين ربه، واحتمال خفاء مذهب والده عليه في غاية البعد،
بل هو في مثل هذه المسألة ممنوع. نعم ربما احتمل بعضهم الخلاف منه في الفقيه في بعض

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 8 - 1
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 8 - 1
404

أحوال النوم لكونه أورد روايتين مخالفتين، مع قوله فيه إني لا أورد فيه إلا ما أفتى به،
وتسمع الكلام فيهما إن شاء الله، ومن المعلوم أنه حدث بنفسه، لا لتجويزه أن
يقع منه حدث، وإن كان لا ثمرة في هذا النزاع بعد الحكم من الشارع أنه متى تحققت
ماهية النوم حكم بالنقض، إما له أو للتجويز، على أنه يدل عليه بعد الاجماع ظواهر
الأخبار (1) من نسبة النقض إليه وعده في سلك الأحداث والحكم فيها أن النوم حدث كما
تسمعه إن شاء الله، وقول موسى بن جعفر (عليهما السلام) (2) في بعض الأخبار:
" أنه لا وضوء على الراقد ما دام قاعدا ما لم ينفرج " كقول أبي عبد الله (عليه السلام) (3):
" كان أبي يقول: إذا نام الرجل وهو مجتمع فليس عليه وضوء، فإذا نام مضطجعا
فعليه الوضوء " لا دلالة فيهما على الاستلزام المذكور، سيما الأخيرة، إذ لعل المراد
منها تخصيص النقض بالنوم المتعارف، فيحمل حينئذ على ضرب من التأويل، وحملهما
على التقية أولى من غيره، كما يشعر بذلك قول الصادق (عليه السلام) (كان أبي يقول)
نعم قول أبي عبد الله (عليه السلام) (4) " عن الرجل يخفق في الصلاة إن كان لا يحفظ
حدثا منه إن كان فعليه الوضوء وإعادة الصلاة، وإن كان يستيقن أنه لم يحدث فليس
عليه وضوء ولا إعادة " فيه دلالة على ذلك، لكن قد يراد منه أن النوم لم يغلب على
عقله، بل بقي ضابطا لنفسه عارفا لما يقع منه، فيرجع حينئذ إلى التقييد بذهاب العقل
أيضا (5).
وعلى كل حال فالمنقول عن الفقيه الخلاف في إطلاق ناقضية النوم، لأنه أورد

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 0 - 11
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 0 - 11
(3) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 15 - 6
(4) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 15 - 6
(5) وقد يكون ذلك من باب الحكم لا من باب العلل كما هو متعارف التعليل بذلك،
وعلى ذلك تحمل رواية العلل فتأمل (منه رحمه الله)
405

فيه روايتين، الأولى (1) قال: سأله سماعة بن مهران " عن الرجل يخفق رأسه وهو
في الصلاة قائما أو راكعا فقال: ليس عليه وضوء " والثانية (2) قال وسئل موسى بن
جعفر (عليهما السلام) " عن الرجل يرقد وهو قاعد هل عليه وضوء؟ فقال لا وضوء
عليه ما دام قاعدا ما لم ينفرج " فإن كان هاتان الروايتان مذهبا له كان مخالفا مع إرادة
النوم من خفق الرأس، ويبطله - مضافا إلى اطلاق الأخبار التي منها (3) إن " النوم
حدث " والاجماعات - التصريح به في إجماع الانتصار والخلاف وعن الناصريات والغنية،
بل في التنقيح بعد نقل كلام الصدوق انعقد الاجماع على خلافه، وأنه ناقض في جميع
الحالات، إلى غير ذلك من الأخبار الخاصة، كقول أبي عبد الله (عليه السلام) (4)
في خبر عبد الحميد بن عواض " من نام وهو راكع أو ساجد أو ماش على أي الحالات فعليه
الوضوء " وقول موسى بن جعفر (عليهما السلام) (5) في خبر علي أخيه على ما عن
قرب الإسناد بعد أن سأله " عن رجل يتكئ في المسجد فلا يدري نام أم لا هل عليه
وضوء؟: إذا شك فليس عليه وضوء " بل ربما يدل عليه خبر معمر بن خلاد (6) قال:
سألت أبا الحسن (عليه السلام) " عن رجل به علة لا يقدر على الاضطجاع، والوضوء
يشتد عليه وهو قاعد مستند بالوسائد، فربما أغفي وهو قاعد على تلك الحال؟ قال:
يتوضأ، قلت له: إن الوضوء يشتد عليه، فقال: إذا خفي عنه الصوت فقد وجب
الوضوء عليه " على تقدير أن يراد بالاغفاء النوم كما عن الصحاح والقاموس، مضافا
إلى صحيح زيد الشحام (7) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " عن الخفقة والخفقتين؟

(1) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 12 - 11
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 12 - 11
(3) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4 - 3
(4) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4 - 3
(5) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 9
(6) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 1
(7) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 8
406

فقال ما أدري ما الخفقة والخفقتين، إن الله تعالى يقول (بل الانسان على نفسه بصيرة)
إن عليا كأن يقول من وجد طعم النوم قائما أو قاعدا فإنما أوجب عليه الوضوء " وهو مع
غيره أيضا معارض لما ذكر من خفقان الرأس في الصلاة، وجعله من باب الاطلاق والتقييد
فيختص الحكم في الصلاة لا يخفى ما فيه من عدم المقاومة من وجوه، ومثله القول بالتقييد
بخبر القعود، فإن تلك المطلقات التي هي كالصريحة في المطلوب كما لا يخفى على من
لاحظها المعتضدة بصريح الاجماعات السالفة والأخبار المتقدمة لا يحكم عليها مثل ذلك،
بل لا يرتكبه فقيه ماهر، وكيف والخبران مع الطعن في سنديهما الأول منهما موافق
لقول أبي حنيفة من عدم نقض النوم الوضوء في الصلاة، والثاني موافق لقول الشافعي
من عدم نقض النوم قاعدا ممكنا مقعدته من الأرض، بل وأبي حنيفة بدون قيد التمكين،
ومن هنا وجب طرحهما، أو حملهما على عدم حصول النوم الغالب على الحاستين،
فلا يكون الصدوق حينئذ مخالفا، كما يشهد له ما نقل عنه من ذكره في أول الباب
صحيحة زرارة (1) المشتملة على ناقضية النوم، بل يحتمل إرادة من لم يعده من النواقض
أنه داخل في زوال العقل الذي هو من النواقض، اجماعا، فيصح حينئذ أن يقال إن
النوم ليس من النواقض، بل هو مستلزم للناقض الذي هو زوال العقل وإن كان
هذا الاستلزام إنما دل عليه الشرع، بل لعله يحمل عليه بعض الأخبار الدالة على أن النوم ليس بناقض، وعلى كل حال فالمسألة بحمد الله من الواضحات، لكن وقع من
بعضهم الاستدلال على ناقضية النوم بصحيحة إسحاق بن عبد الله الأشعري عن الصادق
(عليه السلام) (2) قال: " لا ينقض الوضوء إلا حدث، والنوم حدث " ويشكل
بأنه لا تنطبق على شئ من الأشكال المنطقية، وذلك لكونها مشتملة على عقدي إيجاب
وسلب، ولفظ الحدث نكرة في سياق الاثبات لا تفيد عموما، فيكون المعنى حينئذ لا

(1) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب نواقض الوضوء حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 4.
407

ينقض الوضوء غير حدث من الأحداث، والنوم حدث، فلو رتب الشكل بأن
النوم حدث، وحدث ينقض الوضوء، ليكون على صورة الشكل الأول لم ينتج لعدم
كلية الكبرى، ولو رتب على طريق الشكل الثاني فيقال الناقض حدث، والنوم حدث
لا إنتاج أيضا لعدم اختلاف المقدمتين في الكيف، ولو رتب على طريق الشكل الرابع
فيقال حدث ناقض والنوم حدث لا إنتاج أيضا، لعدم كلية الصغرى، والشكل
الثالث غير محتاج فساده إلى بيان، إلا أنه قد يجاب بأن يقال إن لفظ حدث في
قوله لا ينقض الوضوء ليس المراد منه نكرة حتى لا يفيد العموم، بل المراد منه الطبيعة
وتنوينه للتمكين، كما في قوله " أسد علي وفي الحروب نعامة " وحينئذ يفيدان النقض
لا حق لطبيعة الحدث، فيتحقق عند تحققها، فيكفي حينئذ في إثبات المطلوب بيان
كون هذا الشئ حدثا، بل قد يؤيده أنه لا معنى لإرادة حدث مخصوص فيه، كما
لا معنى لحمله على حدث من الأحداث، فتعين حمله على ما ذكرنا، أو على العموم، أو
يقال إن المفهوم من هذا الخطاب حدث ناقض، سيما إذا وقع من مثلهم، إذ ليس
شأنهم بيان اللغة ولا بيان ما لا نفع له في الدنيا والدين، كلا إن ذلك ينزه عنه نواب سيد
المرسلين، أو يقال إن الغرض المطلوب من هذه الرواية إما الرد على العامة المثبتين
للنقض بما ليس بحدث، ولما كان الحدث غير واضح الصدق بالنسبة إلى النوم قال
(عليه السلام): النوم حدث، أو بيان أن ناقضية النوم لحدثيته في نفسه، لا لاحتماله
الحدث، والأمر في ذلك سهل بعد وضوح الأمر.
(وفي معنى النوم) نقضا (كل ما أزال العقل) أو غطاه (من جنون أو إغماء
أو سكر) أو غير ذلك ولو لشدة المرض أو الخوف أو نحوهما بلا خلاف أجده، بل
في المدارك الاجماع عليه، بل عن التهذيب إجماع المسلمين، كما في المنتهى لا نعرف
خلافا فيه بين أهل العلم، وهو الحجة في المسألة، وإلا فمع قطع النظر عنه لم يسد غيره
408

مسده، وإن وقع في كلام بعضهم الاستناد إلى صحيحة معمر بن خلاد (1) قال: سألت
أبا الحسن (عليه السلام) " عن رجل به علة لا يقدر على الاضطجاع، والوضوء يشتد
عليه، وهو قاعد مستند بالوسائد، فربما أغفى وهو قاعد على تلك الحال؟ قال:
يتوضأ، قلت له: إن الوضوء يشتد عليه، قال: إذا خفي عنه الصوت فقد وجب عليه
الوضوء " لكن عن بعض أهل اللغة إن الاغفاء النوم، وإن أمكن دفعه بأنه لا يقيد قوله
(عليه السلام) إذا خفي عنه الصوت، مع أن التدبر والتأمل في الرواية يقضي بأن المراد
بالاغفاء الاغماء، كما أنه وقع من آخر الاستدلال بما يفهم من أخبار ناقضية النوم من
جهة تعليق الحكم فيها على ذهاب العقل المشعر بأن السبب في النقض زوال العقل، بل
قيل إن النقض في مثل الاغماء والجنون ونحو هما يستفاد من باب الأولوية، لكونهما
أولى من النوم استيلاء، وعن دعائم الاسلام عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهما السلام) (2)
" إن الوضوء لا يجب إلا من حدث، وإن المرء إذا توضأ صلى بوضوئه ذلك ما شاء
من الصلاة ما لم يحدث أو ينم أو يجامع أو يغم عليه، أو يكون منه ما يجب
إعادة الوضوء ".
لكن الكل لا يخلو من نظر، أما الأول فلظهور إعادة الضمير في قوله خفي عنه
إلى الرجل المتقدم، فيكون الخفاء عنه بالسبب المتقدم، وهو أن سلمنا أنه الاغماء، وإلا
فقد نقل عن الصحاح والقاموس أن المراد بالاغفاء النوم، فلا تدل على تمام الدعوى
من نسبة النقض إلى مزيل العقل، والتمسك بعدم القول بالفصل رجوع إلى كلام
الأصحاب، ومثل ذلك الكلام في الرواية الأخيرة، على أنها ضعيفة السند، بل
قيل إن هذا الكتاب غير معتمد، وأما الاستدلال بما وقع في أخبار النوم من ذهاب
العقل ففيه أنه وقع ذلك على جهة التقدير للنوم الذي يتحقق به النقض، كما قدر بالغلبة

(1) الوسائل - الباب - 4 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 1
409

على السمع والبصر ونحو ذلك، وأين هو من التعليق المشعر بالعلية، نعم لا بأس بأخذ
ما تقدم ذكره مؤيدا لكلام الأصحاب، أو يكون هو الجابر للسند والدلالة.
(و) مما لا يوجب إلا الوضوء خاصة في كل حال (الاستحاضة القليلة) التي لا تثقب
الكرسف إجماعا، إلا من ابن أبي عقيل كما في المعتبر، فلم يوجب وضوء ولا غسلا،
وابن الجنيد فأوجب بها غسلا واحدا في اليوم والليلة، ومثله غيره في عدم نقل الخلاف
عن غيرهما، فلعل ما نقل من بعض عبارات القدماء كالهداية والمقنع الحاصرة لنواقض
الوضوء في غيرها لم يفهموا منها الخلاف، ولقول الصادق (عليه السلام) (1) في خبر
معاوية بن عمار: " وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل
صلاة بوضوء " وقول الباقر (عليه السلام) (2) في خبر زرارة سألته " عن الطامث تقعد
بعدد أيامها كيف تصنع؟ قال: تستظهر بيوم أو يومين، ثم هي مستحاضة، فلتغتسل
وتستوثق من نفسها وتصلي كل صلاة بوضوء ما لم ينفذ الدم، فإذا نفذ اغتسلت وصلت "
وغيرهما من الأخبار الآتية في محلها، وبذلك مع ضميمة الاجماع ممن عداهما بل بعض
الاجماعات المنقولة في غير المقام على ناقضية الوضوء بأشياء منها الاستحاضة ينقطع متمسك
الأول من الأصل، وتتخصص الأخبار الحاصرة موجبات الوضوء في غيرها، كما
أنه تحمل بعض الأخبار الآمرة لها بالصلاة مع الاستثفار بثوب حتى يخرج الدم من وراء
الثوب على إرادة الوضوء. ولم نقف للثاني على مستمسك سوى ظواهر بعض الأخبار
الآمرة (3) بالغسل إن لم يجز الدم الكرسف، ويأتي إن شاء الله أن المراد منها المتوسطة
أي التي تثقب الكرسف، ولا يتجاوزه، والأمر سهل.
لكن عن الشهيد الايراد على نظير العبارة بأنه إن أريد الموجبات ليس إلا فينبغي
ذكر المتوسطة فيما عدا الصبح، إذ لا توجب إلا الوضوء، وإن أريد ما يوجب الوضوء

(1) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الاستحاضة - حديث 1
(2) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الاستحاضة حديث 9 - 5
(3) الوسائل - الباب - 1 - من أبواب الاستحاضة حديث 9 - 5
410

في الجملة فينبغي ذكر الموجبات الأحد عشر، إلا أنك خبير بأن المراد الأول، لكن
بمعنى عدم إيجاب غير الوضوء في كل حال، وهو منخرم في المتوسطة، بل قد يقال
بمدخلية الغسل للصبح في سائر الصلوات، ولذا لو تركته في الصبح لزمها الغسل في
البواقي على إشكال يأتي البحث فيه إن شاء الله. كما أنه يأتي التعرض لأحكام تتعلق
بهذا الوضوء من وجوب تجديده لكل صلاة، كما تضمنه الخبران المتقدمان، وتجديده
عند الانقطاع للبرئ قبل الدخول في الصلاة، وعدم جواز تقديمه على وقت الصلاة،
وغير ذلك من الأحكام المتعلقة به وبمستدام الحدث.
(ولا ينقض الطهارة مذي) وهو ما يخرج عند الملاعبة والتقبيل ونحوهما، كما
عن الصحاح والقاموس ومجمع البحرين، ويرجع إليه ما عن الهروي من أنه أرق
ما يكون من النطفة عند الممازجة والتقبيل، وما عن ابن الأثير من أنه البلل اللزج الذي
يخرج من الذكر عند ملاعبة النساء وفي مرسلة ابن رباط (1) عن الصادق (عليه السلام)
قال: " يخرج من الإحليل المني والوذي والمذي والودي فأما المني فهو الذي
يسترخي منه العظام، ويفتر منه الجسد، وفيه الغسل، وأما المذي فهو يخرج من
الشهوة ولا شئ فيه " إلى آخره وعن الشهيد الثاني بأنه ماء رقيق لزج يخرج عقيب
الشهوة، وفي الحدائق أنه نظم ذلك بعض متأخري علمائنا، فقال:
المذي ماء رقيق أصفر لزج * خروجه بعد تفخيذ وتقبيل
والحجة على عدم النقض به - بعد الأصل بل الأصول مع كونه مما تعم به البلوى
والاجماع المنقول في الخلاف والمنتهى وعن الغنية والتذكرة ونهاية الأحكام، بل لعله
محصل لما تسمعه من ضعف خلاف ابن الجنيد، والأخبار الحاصرة موجب الوضوء
بالغائط والبول والريح - الأخبار الخاصة فيما نحن فيه المستفيضة جدا، بل كادت تكون
متواترة (منها) قول أحدهما (عليهما السلام) (2) في الحسن كالصحيح بعد أن

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 6 - 1
(2) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 6 - 1
411

سئل عن المذي: " لا ينقض الوضوء ولا يغسل منه ثوب ولا جسد، إنما هو بمنزلة المخاط "
وقول الصادق (عليه السلام) في الحسن (1) كالصحيح أيضا: " إن سال من ذكرك شئ من
مذي أو ودي وأنت في الصلاة فلا تغسله، ولا تقطع له الصلاة، ولا تنقض له الوضوء
وإن بلغ عقبيك " الحديث، إلى غير ذلك من الأخبار التي تبلغ تقريبا إلى ما يزيد على
عشرة، وفي كثير منها التعليل بأنه بمنزلة المخاط والبصاق والنخامة، وترك الاستفصال
في بعضها، والاطلاق بل العموم في آخر يقضي بأنه لا فرق فيه بين ما يخرج بشهوة وبدون
شهوة، مع أنك قد عرفت من نص أهل اللغة وغيرهم من الأصحاب ومرسلة ابن رباط
أن المذي هو الذي يخرج من شهوة وإن لم يكن ذلك حصر فيه، وما كان ليكون فلا
ريب في إفادته أنه الفرد الغالب المتعارف المتيقن دخوله، مضافا إلى قول الصادق (عليه
السلام) (2) فيما أرسله ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا " ليس في المذي من
الشهوة، ولا من الانعاظ، ولا من القبلة، ولا من مس الفرج، ولا من المضاجعة
وضوء ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد " وهو مع كون المرسل ابن أبي عمير يشعر
قوله عن غير واحد من أصحابنا بكون الرواية مستفيضة، وما تقدم من مرسلة ابن رباط
" إن المذي يخرج من الشهوة ولا شئ فيه " وما رواه (3) في الوسائل عن الشيخ بإسناده عن الحسن بن محبوب في كتاب المشيخة عن عمر بن يزيد قال " اغتسلت يوم الجمعة
بالمدينة، وتطيبت ولبست أثوابي، فمرت بي وصيفة، ففخذت بها، فأمذيت
أنا وأمنت هي فدخلني من ذلك ضيق، فسألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك؟
فقال: ليس عليك وضوء ".
وبذلك كله يظهر ضعف المنقول عن ابن الجنيد من التفصيل بين الخارج عن شهوة

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2
(3) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 13
412

دون غيره، مع أن المنقول عن حاشية الشيخ علي على الكتاب عن ابن الجنيد أن حكمه
بالناقضية من جهة احتمال أن يكون معه شئ ينقض، فيرجع النزاع معه لفظيا ضرورة
أنه من قطع أنه ليس معه شئ لا يشمله خلافه، بل الأخبار المذكورة لا تكون دليلا
له إلا على وجه ضعيف، نعم قد يرجع النزاع معه في أن احتمال الناقض ناقض، لكن
المعروف من خلافه الأول، ويشهد له خبر أبي بصير (1) قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): " المذي يخرج من الرجل، قال: أحد لك فيه حدا، قال: قلت: نعم
جعلت فداك، قال: فقال: إن خرج منك على شهوة فتوضأ، وإن خرج منك على
غير ذلك فليس عليك وضوء " وصحيح علي بن يقطين (2) سألت أبا الحسن (عليه السلام)
" عن المذي أينقض الوضوء؟ قال: إن كان من شهوة نقض " وخبر الكاهلي (3)
سألت أبا الحسن (عليه السلام) " عن المذي أينقض الوضوء؟ فقال ما كان منه من
شهوة فتوضأ منه " وفيه أنها لا تقاوم ما ذكرنا من وجوه عديدة، فما وقع من بعض المتأخرين
من تحكيمها على الأخبار الأول لما بينهما من الاطلاق والتقييد، ولصحة بعضها
ليس في محله، بل ما نشأ هذا وأمثاله إلا من اختلال الطريقة مع أنك قد عرفت
إن ما تخيله مطلقا هو إن لم يكن نصا في الخارج من شهوة لما سمعت من تفسيره فهو كالنص
فيه، مضافا إلى ما سمعت من الأخبار الناصة عليه بالخصوص، مع أن المعروف بين العامة
ناقضيته للوضوء فلعل التفصيل أقرب إلى مذهبهم، بل يؤيده رواية علي بن يقطين
لهذا، وهو من وزراء الخليفة، مع أن روايات الكاظم (عليه السلام) أقرب إلى التقية
من روايات الباقر بل الصادق (عليهما السلام)، فتحمل حينئذ على التقية، كالأخبار
الآمرة بالوضوء منه مطلقا، كقول أبي الحسن في صحيح يعقوب بن يقطين (4)

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث - 10 - 11
(2) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث - 10 - 11
(3) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 12 - 16
(4) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 12 - 16
413

" عن الرجل يمذي وهو في الصلاة من شهوة أو من غير شهوة قال: المذي فيه الوضوء "
مع احتمال حمله على التعجب، وصحيح ابن بزيع (1) سألت الرضا (عليه السلام)
" عن المذي فأمرني بالوضوء منه، ثم أعدت عليه سنة أخرى، فأمرني بالوضوء
منه، ثم أعدت عليه سنة أخرى، فأمرني بالوضوء منه، وقال: إن علي بن أبي طالب
(عليه السلام) أمر المقداد بن الأسود أن يسأل النبي (صلى الله عليه وآله) واستحيا
أن يسأله، فقال: فيه الوضوء " مع أن الشيخ روى هذه الرواية عن خصوص هذا
الراوي بزيادة " قلت: فإن لم أتوضأ قال: لا بأس به ".
ويمكن حمل هذه الأخبار على الاستحباب، مع تأكده في الخارج من شهوة إن
قلنا بانقسام المذي إلى قسمين، كما ذكرنا ذلك في مستحبات الوضوء، وتقدم لنا
سابقا الكلام في ترجيح الحمل على التقية، أو الاستحباب، وليعلم أن الشيخ
(رحمه الله) قال بعد ذكر بعض الأخبار المخالفة: لو صح ذلك كان محمولا على المذي
الذي يخرج من شهوة، ويخرج عن المعهود المعتاد من كثرته، فقد تعطي عبارته هذه
الخلاف، بل فهمه منه بعضهم، لكن لعله ذكره في مقام الجمع بين الأخبار، وإلا فهو
محجوج بما سمعت، فالمسألة خالية عن الاشكال بحمد الله وإن قيل إنها محل تردد،
لكنه ليس في محله، والله أعلم.
(ولا ودي) بالدال المهملة ماء ثخين يخرج عقيب البول، كما نص عليه جملة من
علمائنا، منهم السيد في مداركه، بل في مرسلة ابن رباط، وأما الودي فهو الذي
يخرج بعد البول، فلا اشتباه في موضوعه، كما أنه لا اشتباه في حكمه، للأصل بل
الأصول، والاجماعات المنقولة إن لم يكن محصلا، والأخبار المعتبرة، وما وقع
في بعض الأخبار من الوضوء منه محمول إما على التقية، أو الاستحباب، أو على خروجه

(1) الوسائل - الباب - 12 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 9 وفي الوسائل
جملة (ثم أعدت عليه سنة أخرى فأمرني بالوضوء منه) ليست مكررة
414

عقيب البول من غير استبراء، وبالأخير جمع العلامة والشيخ، لكن فيه إشكال
من جهة أن عدم الاستبراء يجعل البلل المشتبه بحكم البول، لا المعلوم أنه ودي، والتعليل
لأنه إن لم يستبرئ لا بد وأن يخرج معه أجزاء بولية فيه منع، وعلى تقديره لا نسلم
ناقضيتها، لاستهلاكها بحيث لا تسمى بولا، فتأمل جيدا، فإن المسألة لا تخلو من
ثمرة، كما إذا وقع بعد الفراغ من البول بحيث يقطع الانسان بعدم جفاف المجرى،
ولكنه انقطعت دريرة البول ومع ذلك خرج الودي، بل يمكن دعوى الطهارة، لخروجه
عن مسمى البولية، وعدم تنجيسه للودي في الباطن.
(و) أما (الوذي) بالذال المعجمة فقد ذكر بعض علمائنا أنه الذي يخرج بعد
المني، ولم يحضرني من كتب اللغة ما أتحقق به ذلك، بل عن شارح الدروس أنه لم يقف
فيما حضره من كتب اللغة على شئ مناسب له، لكن في مرسلة ابن رباط أنه الذي
يخرج من الأدواء، وهو جمع داء، فيكون المراد به ما يخرج بسبب الأمراض،
وعن بعض نسخ الاستبصار تبديل الأدواء بالأوداج، ولعل المراد بها هنا مطلق
العروق، وإن كان الودج اسما لعرق في العنق، وكيف كان فالأمر فيه سهل،
إذ لا يقدح بعد عدم اشتباه حكمه اشتباهه ودورانه بين غير مشتبه، للاجماع على عدم
نقض الثلاثة، مضافا للأصل بل الأصول والسنة، بل وعلى المحكي عن ابن الجنيد
في المذي الخارج من شهوة، لأنه حين يخرج من شهوة لا كلام في أنه مذي، لما
سمعت من التفسير، وغير الخارج من شهوة وإن اشتبه بالودي والوذي في بعض الأحوال
لكنه قد وافق القوم، نعم قد تظهر ثمرة من جهة أن الظاهر استحباب الوضوء من
المذي والودي بالدال المهملة، وأما الوذي فلم أقف على خبر أمر بالوضوء منه حتى يحمل
على الاستحباب، ولذلك لم نذكره فيما يستحب الوضوء منه سابقا فعلى فرض الاشتباه
يحصل الاشكال في حصول سبب الاستحباب، لكن الأمر فيه سهل، بل يحتمل القول
415

بالاستحباب منه أيضا، لما في بعض المراسيل (1) " أنه كتب إليه هل يجب الوضوء مما
خرج من الذكر بعد الاستبراء؟ فكتب نعم " بل هو متجه. مع قرب الودي من الوذي
في الكتابة فقد تكون بعض كلمات الأصحاب وبعض الأخبار في الوذي بالذال المعجمة
والله أعلم.
(ولا دم ولو خرج من أحد السبيلين، عدا الدماء الثلاثة) للأصل بل الأصول
والاجماع المنقول بل المحصل، والأخبار المستفيضة في خصوص المقام، كالواردة (2)
في الحجامة والرعاف ونحوها، مضافا إلى الأخبار العامة (3) الحاصرة المقدمة سابقا،
بل في خبر أبي بصير (4) عن الصادق (عليه السلام) سألته " عن الرعاف والحجامة
وكل دم سائل " إلى غير ذلك من الأخبار، وفي بعضها (5) نسبة النقض بالرعاف
إلى المغيرة بن سعيد مع لعنه، وما نقل عن ابن الجنيد من الحكم بناقضية الدم الخارج
من السبيلين مع الشك في خلوه من النجاسة مع موافقته عند العلم بالعدم ليس خلافا في المسألة
مع أنه في غاية الضعف ولم نقف على ما يدل عليه، مع منافاته لقاعدة عدم نقض اليقين
بالشك ولعل ما في خبر الحسن بن علي بن بنت إلياس (6) " سمعته يقول: رأيت
أبي (عليه السلام) وقد رعف بعد ما توضأ دما سائلا فتوضأ " وما في خبر عبيد
ابن زرارة (7) سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " عن رجل أصابه دم سائل؟
قال: يتوضأ ويعيد، قال: وإن لم يكن سائلا توضأ وبنى، قال: ويصنع ذلك بين الصفا

(1) الوسائل - الباب - 13 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 9
(2) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب نواقض الوضوء
(3) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء
(4) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 10 - 8
(5) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 10 - 8
(6) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 13 - 12
(7) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 13 - 12
416

والمروة " محمول إما على التقية، أو على الاستحباب، أو غير ذلك، ولعل الحمل على
الثاني أولى، لما تقدم سابقا في استحباب الوضوء.
(ولا قئ ولا نخامة ولا تقليم ظفر ولا حلق شعر) من غير خلاف أجده، بل
الاجماع منقول عليه، ويدل عليه - مضافا إلى ذلك، وإلى الأصل، والأخبار العامة -
الأخبار الخاصة (منها) خبر زرارة (1) قلت لأبي جعفر (عليه السلام): " الرجل
يقلم أظفاره، ويجز شاربه، ويأخذ من شعر لحيته ورأسه، هل ينقض ذلك وضوءه؟
فقال: يا زرارة كل هذه سنة، والوضوء فريضة، وليس شئ من السنة ينقض الفريضة،
وإن ذلك ليزيده تطهيرا " (ومنها) خبر سعيد بن عبد الله الأعرج (2) قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام): " آخذ من أظفاري ومن شاربي وأحلق رأسي،
أفأغتسل؟ قال: لا، ليس عليك غسل قلت: فأتوضأ قال لا، ليس عليك وضوء،
قلت: فأمسح على أظفاري الماء، فقال: هو طهور ليس عليك مسح " (ومنها) خبر أبي
هلال (3) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) " أينقض الرعاف والقئ ونتف
الإبط الوضوء؟ فقال: وما تصنع بهذا، هذا قول المغيرة بن سعيد، لعنه الله المغيرة،
يجزيك من الرعاف والقئ أن تغسله، ولا تعيد الوضوء " ويدل على عدم نقض النخامة
ما تقدم سابقا من عدم ناقضية المذي للوضوء لكونه بمنزلة النخامة وما يوجد في بعض
الأخبار مما يخالف ما ذكرنا محمول على الاستحباب أو التقية، أو غير ذلك، وقد تقدم
حصر مستحبات الوضوء، ولعل الحامل للأصحاب على ذكر هذه الأشياء وجودها في
الأخبار، للرد على العامة، والأمر سهل.
(
ولا مس ذكر ولا دبر ولا قبل) ظاهرا وباطنا بظاهر الكف وباطنها، محللا

(1) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2 - 3
(2) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 2 - 3
(3) الوسائل - الباب - 7 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 8
417

ومحرما بشهوة كان أو بغير شهوة، والحاصل أنه ليس لمس المذكورات نقض مطلقا
على ما هو المشهور بين علمائنا شهرة كادت تكون إجماعا بل هي إجماع وفي الخلاف
الاجماع على عدم نقض مس الفرج أي الفرجين كان، سواء كان رجلا أو امرأة
أو مس أحدهما فرج صاحبه بظاهر الكف أو بباطنه، وبه قال علي (عليه السلام) (1)
وربما سبق بعض الاجماعات على حصر النواقض في الستة المتقدمة، ويدل عليه - مضافا
إلى ذلك، وإلى الأصل بل الأصول، والأخبار الحاصرة للناقض في الخارج من
الطرفين، والأخبار الحاصرة للناقض في البول والغائط والريح، وقد تقدمت، وهي
كثيرة معتبرة مستفيضة، بل متواترة، بل الظاهر منها إرادة نفي الناقضية بهذه
الأشياء ونحوها مما ذهبت إليه العامة - خصوص خبر ابن أبي عمير (1) عن غير واحد
من أصحابه عن الصادق (عليه السلام) " أنه ليس من مس الفرج وضوء " وصحيح
زرارة عن الباقر (عليه السلام) (3) " أنه ليس في القبلة ولا المباشرة ولا مس الفرج
وضوء " وخبر عبد الرحمان بن أبي عبد الله (4) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
سألته " عن رجل مس فرج امرأته؟ قال: ليس عليه شئ، وإنشاء غسل يده،
والقبلة لا يتوضأ منها " وخبر سماعة عن الصادق (عليه السلام) (5) " عن الرجل يمس
ذكره، أو فرجه، أو أسفل من ذلك وهو قائم يصلي، يعيد وضوءه، فقال: لا بأس
بذلك، إنما هو من جسده " إلى غير ذلك، ولا يقدح عدم صراحتها في مس الباطن،
لكونها مطلقة، مع أن المراد الرد على العامة العمياء، فلا يلتفت للمنقول عن الصدوق
من النقض بمس الرجل باطن دبره أو باطن إحليله، أو فتح إحليله، وعن ابن
الجنيد من النقض بمس ما انضم عليه الثقبتان، ومس ظاهر الفرج من غيره بشهوة إذا
كان محرما، ومس باطن الفرجين محرما أو محللا.

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 11 - 2
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 11 - 2
(3) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 3 - 6 - 8
(4) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 3 - 6 - 8
(5) الوسائل - الباب - 3 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 3 - 6 - 8
418

ويدل على تمام دعوى الصدوق وبعض دعوى ابن الجنيد خبر عمار بن موسى
عن الصادق (عليه السلام) (1) قال: " سئل عن الرجل يتوضأ ثم يمس باطن دبره؟
قال: نقض وضوءه، وإن مس باطن إحليله فعليه أن يعيد الوضوء، وإن كان
في الصلاة قطع الصلاة، ويتوضأ ويعيد الصلاة، وإن فتح إحليله أعاد الوضوء وأعاد
الصلاة " وربما كان في خبر أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) (2) قال: " إذا
قبل الرجل المرأة من شهوة أو مس فرجها أعاد الوضوء " دلالة أيضا في الجملة، وأنت
خبير أنه - مع الغض عما في السند، وموافقة العامة، فإنه نقل القول بمضمونها عن جماعة
كثيرة من العامة - لا تنهض على معارضة ما ذكرنا من الأدلة المعتضدة بما سمعت، مع
إعراض الأصحاب قديما وحديثا غيرهما، فالمسألة من الواضحات، ولم نقف على
ما يدل على تمام تفصيل ابن الجنيد، ولا يبعد حمل الرواية المخالفة على الاستحباب،
ومن الأخبار السابقة يظهر لك عدم النقض بالقبلة أيضا، مع أنه يدل عليه أيضا جميع
ما تقدم لنا مكررا، وتفرد ابن الجنيد بالنقض إذا كان من شهوة، وكذلك عن
لذة المحرم ولعله لما سمعت من خبر أبي بصير مع عدم دلالته على تمام المدعى فيه ما عرفت،
وكذلك تفرده بالنقض بالقهقهة إذا كانت في الصلاة، وتفرده أيضا بنقض الحقنة،
ويرده في الكل الأصول والسنة والاجماع وظواهر بعض الأخبار الدالة على بعض ما يقول
مع معارضتها بمثلها محمولة على وجوه قريبة جدا بل يقطع المتأمل بأنها المراد منها.
(ولا لمس امرأة ولا أكل ما مسته النار) لم ينقل عن أحد فيه خلاف حتى ابن
الجنيد، والأصول والأخبار (3) والاجماعات دالة عليه، فلا نطيل الكلام بذلك.
(و) مثله (ما يخرج من السبيلين إلا أن يخالطه شئ من النواقض) وكأنه مستغن

(1) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 10 - 9
(2) الوسائل - الباب - 9 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 10 - 9
(3) الوسائل - الباب - 9 و 15 - من أبواب نواقض الوضوء
419

عن الاستثناء، لكنه أراد أن ينبه عليه لمكان تنبيه الأخبار (1) وعبارات الفقهاء
شرح لها، لكن كان عليه أن يذكر حينئذ بعض ما تضمنت الأخبار عدم ناقضيته
كانشاد الشعر (2) وكلام الفحش والكذب (3) والغيبة (4) والقذف وقتل البقة
والبرغوث (5) والقملة (6) والذباب (7) ونتف البط (8) ولمس الكلب (9)
ومصافحة المجوسي (10) ونحو ذلك، ولعله ترك ذلك لكثرتها، واتفاق الأصحاب
عليها، وكان كثرة هذه الأخبار لبيان ذلك لمكان أقوال العامة، إذ هي مختلفة اختلافا
يدل على فساد أصل مذهبهم، وكان منشأ ذلك القياس والاستحسان، وبعض الأخبار
المختلفة وسنقف ويقفون، ونسأل ويسألون، وعلى الله التكلان.
وكذلك لا ينقض الوضوء بالردة، سواء كانت عن فطرة أو ملة مع وجوب
القتل وعدمه فيهما، للأصل بل الأصول، والأخبار الحاصرة، والاجماع المنقول
وإن كان المتيقن من الأخبار غير الفطري المستوجب القتل، والأول كاف فيه، وعدم
قبول توبته لا تستلزم بطلان طهارته، كما أن نجاسته الخبثية لا تقضي بفساد طهارته الحدثية،
لعدم الدليل، بل لدليل العدم، وكونه بمنزلة الميت بالنسية للأموال لا يقضي به هنا (11)
والعمدة الأول ولا دليل في قوله تعالى (12) " لئن أشركت ليحبطن عملك "

(1) الوسائل - الباب - 5 - من أبواب نواقض الوضوء
(2) الوسائل - الباب - 8 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 1 و 2
(3) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الامساك
(4) الوسائل - الباب - 2 - من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الامساك
(5) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 1
(6) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 1
(7) الوسائل - الباب - 17 - من أبواب نواقض الوضوء - حديث 1
(8) الوسائل - الباب - 14 - من أبواب نواقض الوضوء
(9) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب نواقض الوضوء
(10) الوسائل - الباب - 11 - من أبواب نواقض الوضوء
(11) وقد يقال على بعد أن الموت لم تثبت ناقضيته أيضا، وكونه أعظم من النوم
في زوال العقل مع كونه قياسا ممنوع (منه رحمه الله)
(12) سورة الزمر - آية 65
420

" ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " (1) لأن المراد بالاحباط ذهاب الثواب وهو
لا يستلزم بطلان جميع الآثار، مع امكان معارضته بقوله تعالى (2) " ومن يرتدد منكم عن
دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم " حيث اشترط في الاحباط الموت
على الكفر، وبهذا الأخير أجاب جماعة من أصحابنا، لكنه غير متجه في الفطري
بناء على عدم قبول توبته في الظاهر والباطن، والعمدة في الجواب الأول، وما نقل
عن ابن عباس أن الحدث حدثان، حدث اللسان وحدث القلب لا حجة فيه، لكونه
ليس من طرقنا، مع عدم صراحته بذلك، بل ولا ظهوره، سيما بعد إضافة الحدث
للسان فتأمل. نعم الردة في الأثناء ناقضة للوضوء، لفوات الاستدامة في بعض
الأحوال، ولنجاسة ماء الوضوء القاضي بفساده، فلو رجع في الأثناء صح وضوؤه
على الأقوى ما لم يحصل الجفاف، والله أعلم.
تم الجزء الأول من العبادات بعون الله خالق البريات،
ويتلوه الجزء الثاني في أحكام الخلوة والوضوء
من الطهارة، نسأل الله جل جلاله التوفيق
لا تمامه بمحمد وآله.

(1) سورة المائدة - آية 7
(2) سورة البقرة - آية 214
421