الكتاب: مستند الشيعة
المؤلف: المحقق النراقي
الجزء: ١٧
الوفاة: ١٢٤٤
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - مشهد المقدسة
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: شوال ١٤١٩
المطبعة: ستارة - قم
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم
ردمك: ٩٦٤-٣١٩-١٥٨-٣
ملاحظات: ٩٦٤-٥٥٠٣-٧٥-٢ / ١٨ VOLS.

مستند الشيعة
في أحكام الشريعة
تأليف العلامة الفقيه
المولى أحمد بن محمد مهدي النراقي
المتوفى سنة 1245 ه‍
الجزء السابع عشر
تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث
1

الطبعة: الأولى - ربيع الآخر - 1419 ه‍
المطبعة: ستارة. قم
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة على رسول الله، ثم على أهل بيت رسول الله.
كتاب القضاء والشهادات
وفيه مقصدان:
5

المقصد الأول
في القضاء
وهو: ولاية حكم خاص - أو حكم خاص - في واقعة مخصوصة
وعلى شخص مخصوص، بإثبات ما يوجب عقوبة دنيوية شرعا، أو حق
من حقوق الناس بعد التنازع فيه، أو بنفي واحد منهما.
وفي هذا المقصد مقدمة وأربعة مطالب.
أما المقدمة ففي بيان فضله وشرفه، وعظم خطره، ووجوبه. وفيها
ست مسائل:
المسألة الأولى: القضاء منصب عال عظيم، وشرفه جسيم. ولعلو
مرتبته وسمو شأنه جعل الله سبحانه تولية ذلك إلى الأنبياء والأوصياء من
بعدهم صلوات الله عليهم، ثم إلى من يحذو حذوهم، ويقتدي بهم،
ويسير بسيرهم، من العلماء الآخذين علومهم منهم، المأذونين من قبلهم
بالحكم بين الناس بقضائهم.
7

وكفى بجلالة قدره تولية النبي (صلى الله عليه وآله) إياه بنفسه الشريفة الزكية لأمته،
ثم تفويضه إلى سيد الأوصياء بعده، ثم إلى أوصيائه القائمين مقامه،
وخصصهم بذلك دون سائر الناس، وكذلك من قبله من الأنبياء وخلفائهم.
ولعظم شأنه جعل الله يده فوق رأسه، وأهبط إليه الملك يسدده. قال
أبو عبد الله (عليه السلام) في خبر السكوني: " يد الله فوق رأس الحاكم ترفرف
بالرحمة، فإذا حاف وكله الله تعالى إلى نفسه " (1).
وفي خبر آخر: " إذا جلس القاضي أو أجلس في مجلسه هبط إليه
ملكان يسددانه ويرشدانه ويوفقانه، فإذا جار عرجا وتركاه " (2).
المسألة الثانية: خطر القضاء عظيم، وأجره جسيم، فإن القاضي لفي
شفا جرف هار، فإن جار في الحكم أو حكم بغير علم أنهار به في نار
جهنم، وإن عدل وحكم بما أنزل الله عالما به متبعا لسنته فقد فاز فوزا
عظيما، ونال نيلا جسيما.
ولذا قال النبي (صلى الله عليه وآله): " من جعل قاضيا ذبح بغير سكين " (3).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في رواية إسحاق بن عمار: " يا شريح، قد
جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي " (4).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام) - كما في مرفوعة البرقي -: " القضاة أربعة، ثلاثة
في النار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل

(1) الكافي 7: 410 / 1، الفقيه 3: 5 / 13، التهذيب 6: 222 / 528، الوسائل
27: 224 أبواب آداب القاضي ب 9 ح 1.
(2) كنز العمال 6: 99 / 15015، غوالي اللئالي 3: 515 / 1.
(3) المقنعة: 721، الوسائل 27: 19 أبواب صفات القاضي ب 3 ح 8.
(4) الكافي 7: 406 / 2، الفقيه 3: 4 / 8، المقنع: 2، التهذيب 6: 217 / 509،
الوسائل 27: 17 أبواب صفات القاضي ب 3 ح 2.
8

قضى بجور وهو لا يعلم أنه قضى بجور فهو في النار، ورجل قضى بحق
وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بحق وهو يعلم فهو في الجنة " (1).
وفي مرسلة الفقيه: " من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجل
فقد كفر بالله ".
وفي أخرى: " من حكم في درهمين فأخطأ كفر ".
وفي ثالثة: " إذا كان الحاكم يقول لمن عن يمينه ولمن عن يساره: ما
ترى؟ ما تقول؟ فعلى ذلك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " (2).
وفي صحيحة أبي بصير: " من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله فهو
كافر بالله العظيم " (3).
وفي رواية أنس بن مالك، عن النبي (صلى الله عليه وآله): " لسان القاضي بين
جمرتين من نار حتى يقضي بين الناس، فإما في الجنة، وإما إلى النار " (4).
وفي رواية سعيد بن أبي الخطيب: أنه قال أبو عبد الله (عليه السلام) لابن أبي
ليلى القاضي: " ما تقول إذا جئ بأرض من فضة وسماء من فضة، ثم أخذ
رسول الله بيدك فأوقفك بين يدي ربك، فقال: يا رب إن هذا قضى بغير ما
قضيت؟ " (5) الحديث، إلى غير ذلك.

(1) الكافي 7: 407 / 1، الفقيه 3: 3 / 6، المقنعة: 722، التهذيب 6: 218 / 513،
الوسائل 27: 22 أبواب صفات القاضي ب 4 ح 6.
(2) الفقيه 3: 3 / 6، و ص 5 ح 14، و ص 7 ح 20.
(3) الكافي 7: 408 / 2، التهذيب 6: 221 / 523، الوسائل 27: 31 أبواب صفات
القاضي ب 5 ح 2.
(4) التهذيب 6: 292 / 808، الوسائل 27: 214 أبواب آداب القاضي ب 2 ح 3.
(5) الكافي 7: 408 / 5، التهذيب 6: 220 / 521، الوسائل 27: 19 أبواب صفات
القاضي ب 3 ح 9، بتفاوت يسير فيها.
9

المسألة الثالثة: القضاء واجب على أهله، بحق النيابة للإمام في
زمان الغيبة في الجملة بإجماع الأمة، بل الضرورة الدينية.
لتوقف نظام نوع الإنسان عليه.
ولأن الظلم من طبائع هذه الأشخاص واختلاف نفوسهم المجبولة
على محبة الترفع والتغلب وإرادة العلو والفساد في الأرض * (ولولا دفع الله
الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) * (1) * (وإن كثيرا من الخلطاء
ليبغي بعضهم على بعض) * (2)، فلا بد من حاكم بينهم ينتصف من الظالم
للمظلوم ويردعه عن ظلمه.
ولما يترتب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وللأمر به في الكتاب والسنة، قال الله سبحانه: * (يا داود إنا جعلناك
خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) * (3).
وقال تعالى شأنه: * (إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق لتحكم بين
الناس بما أريك الله) * (4).
وفي رواية معلى بن خنيس: " وأمرت الأئمة أن يحكموا بالعدل،
وأمر الناس أن يتبعوهم " (5).
وفي مرسلة ابن أبي عمير: " ما تقدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من

(1) البقرة: 251.
(2) سورة ص: 24.
(3) ص: 26.
(4) النساء: 105.
(5) الفقيه 3: 2 / 2، التهذيب 6: 223 / 533، الوسائل 27: 14 أبواب صفات
القاضي ب 1 ح 6.
10

قويها بحقه غير متعتع " (1)، وغير ذلك من الأخبار.
المسألة الرابعة: إن القابل للحكومة والأهل للقضاء في البلد أو في
مكان لم يتعسر الوصول إليه إما واحد باعتقاد ذلك القابل وسائر أهل البلد
بعد بذل جهدهم، أو متعدد.
فعلى الأول: يكون القضاء واجبا عينيا على ذلك القابل، والوجه
ظاهر.
وعلى الثاني: فإما يكون القابل متعددا باعتقاد الجميع، أو لا يكون
كذلك.
فعلى الأول: يكون القضاء على كل من المتعددين واجبا كفائيا،
ووجهه أيضا ظاهر.
وعلى الثاني: فإما يكون الأهل - باعتقاد واحد ممن له الأهلية -
متعددا، دون اعتقاد الرعية، بل هم لا يعتقدون الأهلية إلا لهذا الشخص.
أو يكون بالعكس، أي لا يعتقد ذلك الأهل أهلية غير نفسه، والرعية
يعتقدون أهلية غيره أيضا.
فعلى الأول: فإن علم ذلك الأهل أن عدم اعتقاد المعتقدين للغير
ليس مستندا إلى تقصيرهم في الفحص، بل هو إما منبعث عن الفحص، أو
هم قاصرون عن الفحص - أي غير متمكنين من المعرفة، لعدم شياع
واستفاضة مفيدين للعلم لكل أحد، وعدم دليل آخر لهم - فيكون القضاء

(1) الكافي 5: 5 / 2، التهذيب 6: 180 / 371، الوسائل 16: 120 أبواب الأمر
والنهي ب 1 ح 9، غير متعتع: أي من غير أن يصيبه أذى يقلقه أو يزعجه (مجمع
البحرين 3: 309) وفي التهذيب ونسخة من الوسائل: متضع، وفي أخرى منها:
متصنع.
11

عليه واجبا عينيا، للانحصار فيه حقيقة، لأنه لا يكفي في الأهل وجوده
الواقعي، بل اللازم وجوده بحسب علم المكلف.
وإن علم أن عدم اعتقادهم في الغير ناشئ عن التقصير في الفحص
مع تمكنهم منه، لا يجب عليه عينا، بل يكون واجبا كفائيا عليه.
وعلى الثاني: فإن لم يعلم انبعاث اعتقادهم عن تقصير أو قصور، لا
يجب عليه أيضا عينا، بل يكون كفائيا، وإن علم ذلك يجب عليه عينا.
ومنه يظهر الحكم في الصورتين الأخيرتين إذا اختلفت الرعية في
اعتقاد الغير وعدمه، فتكون العينية والكفائية لذلك الأهل بالنسبة إلى
القضاء لكل بعض كما ذكر.
وإن كان هناك أهل القضاء باعتقاد نفسه دون اعتقاد الرعية كلا أو
بعضا، فيعتقدون عدم أهليته إما علما أو عدالة، أو لا يعتقدون أهليته:
فإن علم ذلك الأهل أن اعتقادهم العدم أو عدم اعتقادهم منبعث عن
الفحص والسعي، لا يجب عليه قضاؤهم أصلا، لأن حكمه ليس نافذا
عليهم شرعا، فلا يترتب عليه أثر، بل ربما يحرم عليه لو علم عملهم
بحكمه لعدم المبالاة في الدين، لكونه إعانة عليهم في تأثيمهم، بل هو
ليس أهلا شرعا، إذ عرفت أنه من كان كذلك باعتقاد المكلف.
بل وكذلك الحكم إذا لم يعلم ذلك، أو علم انبعاثه عن التقصير أو
القصور، لأنهم ما داموا كذلك لا يجب عليهم قبول حكمه، بل لا يجوز
لهم، فتأمل.
المسألة الخامسة: وجوب القضاء على من له الأهلية - عينا أو كفاية
على التفصيل المتقدم - إنما هو بعد الترافع إليه، فلا يجب بدونه، للأصل،
وعدم الدليل.. فليس عليه الفحص عن وجود التخالف والتنازع بين
12

الناس، ولا عليه المحاكمة لو علمه ولم يترافع إليه.
نعم، لو علم وجود النزاع والتشاجر، وعلم ظلم أحدهما على الآخر
عدوانا أو جهلا بالمسألة، يجب عليه رفع النزاع بأي نحو كان من باب
النهي عن المنكر، وكذا لو علم ترتب منكر آخر على تنازعهم.
وإذا ترافعا إليه، أو طلبه المدعي - مع اجتماع شرائط الوجوب كما
تقدم - يجب عليه عينا مع الانحصار، وكفاية مع التعدد.
ولا يجب عينا عليه مع التعدد باختيار المتداعيين أو المدعي إياه،
للأصل، وعدم الدليل.
نعم، لو لم يعلما أو أحدهما التعدد، يجب عليه أحد الأمرين: إما
القضاء، أو الإرشاد إلى التعدد.
ولو لم يرضيا أو المدعي منهما بالترافع إلى غيره:
فإن كان لادعائه العلم بعدم أهلية الغير، يجب عينا عليه إن لم يمكن
ردعه عن اعتقاده، وإن جوزه يجب عليه إما إثبات أهليته له أو الحكم.
وإن كان لعدم علمه بالأهلية، يجب عليه إما الحكم أو أمرهما
بالفحص عن حاله مع إمكانه.. بل يمكن أن يقال بعدم وجوب شئ عليه
إذا علم استناد عدم علمهما إلى تقصير.
ولو لم يرضيا بالفحص أو بالترافع إلى الغير مع العلم بالأهلية ففيه
إشكال، سواء لم يعلم ذلك الغير بالتنازع بينهما ومطالبة الحق ولم يمكن له
إعلامه، أو علم به الغير أيضا، أو أمكن إعلامه ولكن لم يترافع إليه
المدعي، والأصل يقتضي عدم العينية، ولا إثم على أحد، لتقصير
المتداعيين.
المسألة السادسة: على العينية أو الكفائية، هل هو على الفور، أم
13

يجوز التراخي؟
الظاهر: عدم الفورية، للأصل، والإجماع، وما ورد من بعض قضايا
أمير المؤمنين (عليه السلام) من تأخير الحكم والدخول في الصلاة أو إلى الغد.
نعم، الظاهر عدم جواز التأخير بقدر يوجب تضييع حق لو كان.
والأولى أنه لو أراد التأخير بدون عذر يستمهل من المدعي.
ثم الوجوب عينا أو كفاية إنما هو مع احتمال نفوذ حكمه وعدم مظنة
الضرر فيه، وإلا لم يجب، والوجه ظاهر.
14

المطلب الأول
في تعيين القاضي وما يتعلق به من الشرائط، والآداب، والأحكام
وفيه ثلاثة أبحاث:
البحث الأول
في تعيين القاضي وشرائطه
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن القاضي يغاير المفتي والمجتهد والفقيه
بالاعتبار.
فيسمى الشخص قاضيا وحاكما: باعتبار إلزامه وحكمه على الأفراد
الشخصية بالأحكام الشخصية.
ومفتيا: باعتبار مجرد الإخبار عن حكم الله ولو كليا.
ومجتهدا: باعتبار مجرد الاستدلال، ورد الفروع إلى الأصول،
واستخراج الأحكام من مآخذها، واستفراغ وسعه فيه.
وفقيها: باعتبار علمه الحاصل بالأحكام من ذلك الاستخراج والاستفراغ.
فهذه الألفاظ الأربعة متحدة مصداقا، متغايرة حيثية ومفهوما.
المسألة الثانية: لما كان وجوب الحكم والقضاء على شخص من
الرعية، بل جوازه، ووجوب قبول حكمه والتزام إلزامه، أمرا مخالفا
للأصل.. أما وجوب الحكم والقبول فظاهر، وأما الجواز فللإجماع،
15

والمستفيضة، كرواية إسحاق بن عمار المتقدمة (1)..
وصحيحة سليمان بن خالد: " اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي
للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، لنبي أو وصي نبي " (2).
والمروي في مصباح الشريعة المنجبر بعمل الكل: " الحكم لا يصح
إلا بإذن الله " (3)، إلى غير ذلك.
فلا بد - في كون شخص قاضيا وجواز القضاء له ووجوب القبول منه
- من دليل مخرج له من الأصل، ومثبت لمنصب القضاء له، ولهذا اجتمعت
كلمتهم قاطبة على أن من شرائطه إذن الإمام.
ومرادنا من الدليل المخرج: هو الدال على ذلك الإذن.
ثم الدليل إما يختص بواحد معين شخصا، فيسمى ذلك الشخص
بالنائب الخاص، أو وصفا، فيسمى بالنائب العام.
ولما لم يكن تحقق الأول إلا في زمان الحضور، فلا فائدة في
التعرض لبيان شرائطه، وإن تكلم الأكثر في أحواله أيضا.. بل المهم لنا
التكلم في الثاني، وتحقيق أنه من هو؟ وما شرائطه وآدابه؟
ولما عرفت أنه لا يكون واحد من الرعية قاضيا إلا بعد إقامة الدليل
على ثبوت هذا المنصب وتحقق الإذن له، فاللازم أولا ذكر الأدلة المرخصة
في القضاء لطائفة من الرعية، الآمرة بالتزام أحكامهم.
وإذ لا يمكن الإذن للموجودين في زمن الغيبة لشخص معين، بل

(1) في ص: 1922.
(2) الكافي 7: 406 / 1، الفقيه 3: 4 / 7، التهذيب 6: 217 / 511، الوسائل 27:
17 أبواب صفات القاضي ب 3 ح 3.
(3) مصباح الشريعة: 352.
16

يكون التعيين بالوصف، فلا محالة يكون في أدلة الإذن إطلاق أو عموم.
وتلك العمومات أيضا ليست باقية على حالها من العموم أو
الإطلاق، بل لاشتراط بعض الشرائط خرج منها بعض أفرادها بالأدلة
المقيدة أو المخصصة لها، فلذا يلزم علينا الفحص ثانيا عن المقيد
والمخصص، وتخصيص المنصب بمن لم يخرج عن تحت العموم.
وبذلك يظهر أنه يشترط في القاضي دخوله تحت أدلة الإذن أولا،
وعدم خروجه بسبب المخصصات ثانيا.
المسألة الثالثة: إذا عرفت أنه لا بد في القاضي من ورود الإذن في
شأنه، فنقول: إنه قد ورد ذلك من سلاطين الأنام، وولاة الأمر من جانب
الملك العلام، للعلماء بأحكام أهل البيت (عليهم السلام)، بالإجماع القطعي، بل
الضرورة، والمعتبرة المستفيضة:
كمرفوعة البرقي المصرحة بأن: " من قضى بحق وهو يعلم فهو في
الجنة " (1).
وكصحيحة أبي خديجة: " انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من
قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه " (2).
والأخرى: " اجعلوا بينكم رجلا ممن عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد
جعلته قاضيا " (3).
ووصف الروايتين بعدم الصحة - مع أنه غير ضائر عندنا مع

(1) المتقدمة في ص 352 و 353.
(2) الكافي 7: 412 / 4، الفقيه 3: 2 / 1 وفيهما قضائنا بدل قضايانا، التهذيب 6:
219 / 516، الوسائل 27: 13 أبواب صفات القاضي ب 1 ح 5.
(3) التهذيب 6: 303 / 846، الوسائل 27: 139 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 6.
17

وجودهما في الأصول المعتبرة، وانجبارهما بالإجماع المحقق والمحكي
مستفيضا، وفي المسالك: أنهما والمقبولة الآتية مشتهران بين الأصحاب،
متفق على العمل بمضمونهما (1) - غير جيد، لأن أولاهما رواها في الفقيه،
عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، وطريق الفقيه إلى أحمد صحيح،
كما صرح به في الروضة (2)، وأحمد نفسه موثق إمامي (3).
وأما أبو خديجة - وهو سالم بن مكرم - وإن ضعفه الشيخ في
موضع (4) ولكن وثقه في موضع آخر (5)، ووثقه النجاشي (6)، وقال أبو
الحسن علي بن الحسن: كان صالحا (7)، وعد في المختلف في باب
الخمس روايته من الصحاح (8)، وقال الأسترآبادي في رجاله الكبير في
حقه: فالتوثيق أقوى.
ومقبولة بن حنظلة: " انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر
في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكما، فإني قد جعلته
عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما بحكم الله استحف،
وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله " (9).

(1) المسالك 2: 352.
(2) روضة المتقين 14: 45.
(3) راجع رجال النجاشي: 98 / 246، ورجال الكشي 2: 653.
(4) الفهرست: 79.
(5) نقله عن العلامة في الخلاصة: 227.
(6) راجع رجال النجاشي: 188 / 501.
(7) رجال الكشي 2: 641.
(8) المختلف: 207.
(9) الكافي 7: 412 / 5، التهذيب 6: 218 / 514، الوسائل 27: 136 أبواب
صفات القاضي ب 11 ح 1.
18

وتضعيف هذه الرواية (1) - مع انجبارها بما مر حتى اشتهرت
بالمقبولة - غير جيد أيضا، إذ ليس في سندها من يتوقف في شأنه، سوى
داود بن الحصين، ووثقه النجاشي (2)، فلو ثبت ما ذكره الشيخ (3) وابن
عقدة (4) من وقفه فالرواية موثقة لا ضعيفة. وعمر بن حنظلة، وقد حكي
عنه توثيقه (5).
هذا، مع أن في السند قبلهما صفوان بن يحيى، وهو ممن نقل
إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عنه.
والتوقيع الرفيع المروي في إكمال الدين للصدوق، وكتاب الغيبة
للشيخ، والاحتجاج للطبرسي: " وأما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى
رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم " (6).
ومرسلة الفقيه المروية في معاني الأخبار وغيره أيضا: " اللهم ارحم

(1) كما في المسالك 2: 352.
(2) رجال النجاشي: 159 / 421.
(3) رجال الشيخ: 348.
(4) نقله عنه العلامة في الخلاصة: 221.
(5) يعود ضمير " عنه " إلى المضعف وهو صاحب المسالك وقد وثقه في شرح
الدراية، وإن كان مقتضى السياق عوده إلى النجاشي أو الشيخ أو ابن عقدة إلا أنه لم
يرد عنهم التوثيق ولم ينسبه إليهم أحد. قال الشهيد الثاني في شرح الدراية: 44:
" وعمر بن حنظلة لم ينص الأصحاب بجرح ولا تعديل لكن أمره عندي سهل لأني
قد حققت توثيقه من محل آخر ". قال صاحب الرياض 2: 388 - بعد نقل كلام
المسالك في تضعيف الرواية - " وعمر بن حنظلة وهو ممن حكى عنه بأنه وثقه.. "
أي الشهيد الثاني، والمظنون أن المصنف أخذ العبارة من الرياض كما هو الملاحظ
كثيرا في الكتاب.
(6) إكمال الدين: 484، كتاب الغيبة للشيخ: 177، الإحتجاج: 470، الوسائل
27: 140 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 9.
19

خلفائي، قيل: يا رسول الله، من خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون بعدي،
ويروون حديثي وسنتي " (1).
والمروي في الفقه الرضوي: " منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة
الأنبياء في بني إسرائيل " (2).
وفي كنز الكراجكي عن مولانا الصادق (عليه السلام): " الملوك حكام على
الناس، والعلماء حكام على الملوك " (3).
والمروي في تحف العقول للشيخ الجليل محمد بن الحسن بن علي
بن شعبة، وفيه: " مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء
على حلاله وحرامه " (4).
والمروي في غوالي اللآلئ: " الناس أربعة: رجل يعلم، وهو يعلم أنه
يعلم، فذاك مرشد حاكم فاتبعوه " (5).
وتدل عليه أيضا الأخبار الآتي بعضها، الآمرة بالرجوع إلى الأعدل،
أو الأعم، أو الأفقه، عند الاختلاف.
وتدل عليه أيضا قاعدتان متفقتان ذكرناهما في كتاب عوائد الأيام (6).
وتؤيده الأخبار المتواترة المتضمنة ل‍: أن العلماء ورثة الأنبياء، وأنهم

(1) معاني الأخبار 1: 374 / 1، الوسائل 27: 139 أبواب صفات القاضي ب 11
ح 7.
(2) فقه الرضا " ع ": 338.
(3) كنز الفوائد: 195، مستدرك الوسائل 17: 316 أبواب صفات القاضي ب 11
ح 17.
(4) تحف العقول: 238، مستدرك الوسائل 17: 315 أبواب صفات القاضي ب 11
ح 16.
(5) غوالي اللآلئ 4: 79 / 74.
(6) عوائد الأيام: 187.
20

مثلهم، وأنهم أمناء الإسلام، وأمناء الرسل، والمتكفلون لرعيتهم ولأيتامهم،
وأمثال ذلك من الأوصاف (1).
ولا يعارض تلك الأخبار ما مر من الأخبار الحاصرة للحكومة في
النبي ووصيه، لأن الإذن الوارد في تلك الأخبار أيضا توصية لغة.
ومع فرض التعارض فتلك الأخبار كلها أو أكثرها أخص مطلقا مما
مر فيجب تخصيصه بها.
ثم إنه قد ظهر من تلك الأخبار ثبوت الإذن للعلماء العارفين بأحكام
الله في القضاء، وكونهم منصوبين من قبل الإمام نوابا له في هذا الزمان.
لا يقال: إن المذكور في الأخبار هو العالم، والعارف والفقيه، اللذان
هما أيضا يتضمنان العلم، وحصوله في هذه الأزمنة غالبا غير ممكن، لأن
طرق الأحكام ظنية غالبا.
لأنا نقول: إن الظن لا يعمل به ما لم ينته دليل وجوب العمل به أو
جوازه إلى قطعي، فإن إثبات الظني بالظني - مع اطباق العلماء على بطلانه -
دور أو تسلسل.. وإذا انتهى إلى القطع والعلم يكون الحكم الحاصل منه
معلوما، فإنا لو علمنا أنه يجب علينا العمل بالمظنون يكون المظنون حكمنا
قطعا، فنكون عالمين بحكمنا قطعا.
وهذا هو المراد من قولهم: ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم.
وليس فيه ابتناء على التصويب كما ظن، فالمجتهد إذا علم حجية
الخبر أو الظن الحاصل منه بدليل علمي ودل خبر أو ظن منه أن حكم الله
في الواقعة الفلانية كذا، يعلم قطعا أن حكمه في حقه كذا، فيصدق عليه أنه

(1) الوسائل 27: 77 أبواب صفات القاضي ب 8.
21

عالم أو عارف بقضيتهم وحلالهم وحرامهم.
لا يقال: إن مرادهم (عليهم السلام) من أحكامهم وقضاياهم هي الواقعية، لأنها
أحكامهم، وأما الحكم الظاهري فهو حكم المضطر.
لأنا نقول: إن الأحكام الظاهرية للمضطرين حال اضطرارهم أيضا من
الأحكام الواقعية لهم، إذ ليس المراد بحكمهم إلا ما حكموا به، وهل
حكموا للمضطر بغير ذلك الحكم، أوليس هذا حكمهم في حقه؟ وهل
ليس ما ظنوا حليته مثلا بالدليل الشرعي حلالا من جانبهم له؟!
والحاصل: أن المظنون هو أن هذا مطابق لما حكموا به لغير
المضطرين، وأما أنه حكمهم في حق المضطرين فهو مقطوع به.
وعلى هذا، فيكون هذا الذي عرف الحكم بالدليل الشرعي ولو كان
ظنيا عالما بالحكم، فيكون قاضيا متوليا لمنصب القضاء، ويكون من شأنه
الحكم، ومن شأن الرعية القبول منه، إلا أن يكون فاقدا لأحد الشروط
المعتبرة فيه الآتية.
ثم إنه هل يختص هذا الإذن العام لذلك العالم بحال الغيبة، أو يشمل
حال الحضور أيضا، إما مطلقا أو مع عدم التمكن للإمام؟
فيه وجهان، ولا فائدة لنا في التعرض لتحقيقه.
المسألة الرابعة: المصرح به في كلام أكثر الأصحاب أنه يشترط في
هذا العالم المأذون فيه أن يكون مستقلا بأهلية الفتوى - أي يكون علمه
حاصلا بالاجتهاد - فلا ينفذ قضاء غيره ولو كان مطلعا على فتوى
المجتهدين الأحياء ومقلدا لهم.
ونفى عنه الشك المحقق الأردبيلي مع وجود المجتهد، وفي الكفاية:
22

أنه لا أعرف فيه خلافا (1)، بل في المسالك والمعتمد لوالدي - قدس سره -:
الإجماع عليه (2)، ويشعر به كلام بعض الأجلة في شرح القواعد، حيث
قال: ولا يكتفى عندنا بفتوى العلماء وتقليدهم فيها، بل لا بد من اجتهاده
فيما يقتضي به، خلافا لبعض العامة (3)، انتهى.
وحكى في التنقيح عن المبسوط أنه نقل قولا بجواز قضاء المقلد،
قال في المبسوط في هذه المسألة ثلاثة مذاهب: الأول: جواز كونه عاميا
ويستفتي العلماء ويقضي بقولهم، إلى آخر ما قال. ثم قال في التنقيح: ولم
يصرح - أي الشيخ - باختيار شئ من المذاهب (4).
واستدل للمشهور بالإجماع المنقول، والأصل، واشتراط الإذن ولم
يثبت لغيره، لظهور اختصاص الإجماع به، وتضمن أخبار الإذن المتقدمة
للعلم والمعرفة المجازين في الظن.
مضافا إلى المتواترة الناهية عن العمل أو القول به أو بغير العلم،
والمعتبرة للعلم في الفتوى، ولا يحصل لغير المجتهد سوى الظن غالبا،
قيل: بل وكذلك المجتهد، إلا أن حجية ظنه مقطوع بها، فهو ظن
مخصوص في حكم القطع، كسائر الظنون المخصوصة، ولا كذلك غيره.
أقول: إن كان مرادهم نفي قضاء غير المجتهد الذي لم يقلد حيا أو
ميتا بتقليد حي يجوز تقليد الميت، بل يرجع إلى ظواهر الأخبار وكتب
الفقهاء من غير قوة الاجتهاد - كما هو ظاهر كلام بعض متأخري

(1) الكفاية: 262.
(2) المسالك 2: 351.
(3) كشف اللثام 2: 142.
(4) التنقيح 4: 234.
23

المتأخرين، حيث قال: وغير المجتهد لا دليل على حجية ظنه، قاطعا ولا
ظنيا، ولو سلم الأخير فغايته، إثبات الظن بمثله، وهو غير جائز بإطباق
العلماء (1). انتهى - فهو كذلك، ولا ينبغي الريب فيه.
وإن كان مرادهم نفي قضاء غير المجتهد مطلقا، حتى العادل المقلد
للحي في جميع جزئيات الواقعة، أو للميت بتقليد الحي، فبعد ما علمت
من عدم حجية الإجماع المنقول، وأن الظن المنتهي إلى العلم علم، يعلم
ضعف تلك الأدلة، لأن المقلد إذا علم فتوى مجتهد في جميع تفاصيل
واقعة حادثة بين متنازعين من مقلديه وجزئياتها، يعلم حكم الله في
حقهما، لأن حكمه ولو كان مظنونا، ولكنه معلوم الاعتبار والحجية بالنسبة
إليهما، فذلك المقلد عالم عارف بحكم الشارع (2) في حقهما، فيكون
مأذونا بالأخبار المتقدمة، عالما بالحكم خارجا من تحت الأصل.
إلا أن يتحقق الإجماع على خلافه، وهو غير متحقق، كيف؟!
وكلمات أكثر القدماء خالية عن ذكر المجتهد أو ما يرادفه.
وعبر كثير منهم بالفقيه المحتمل صدقه - سيما في الصدر الأول -
على من أخذ برهة من المسائل ولو تقليدا، كما صرح به والدي العلامة -
قدس سره - في تجريد الأصول وأنيس المجتهدين، ولذا قوى بعض
علمائنا المعاصرين في أجوبة سؤالاته جواز المرافعة إلى العالم العادل
المطلع بجميع المسائل الدقيقة المتعلقة بواقعة تقليدا، ونسب عدم الجواز
إلى المشهور (3).

(1) الرياض 2: 386.
(2) في " ق "، " س ": المتنازع.
(3) جامع الشتات: 676.
24

وقد يوجه جواز تقليد القاضي أيضا بحسنة هشام: " لما ولى أمير
المؤمنين (عليه السلام) شريحا القضاء اشتراط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرض
عليه " (1).
وهو إنما يحسن لو لم تكن توليته إياه تقية كما هو الظاهر.
وبذلك وإن ظهر ضعف الأدلة المذكورة لهم، إلا أنه يمكن أن يقال:
إن أكثر تلك الأخبار وإن كان مطلقا شاملا للمقلد المذكور أيضا، إلا أن قوله (عليه السلام)
في المقبولة: " انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا " إلى آخره، وفي
التوقيع: " فارجعوا إلى رواة أحاديثنا " مقيد بالمجتهد، إذ الظاهر المتبادر
منه: الراوي للحديث، المستنبط المستخرج منه الأحكام على الطريق الذي
ارتضاه الشارع وأمر به، لا مطلقا.
ويعلم من ذلك احتمال اختصاص مرسلة الفقيه المتقدمة بالمجتهدين
في الأحكام أيضا، بل وكذا الرضوي، لعدم معلومية صدق الفقيه على
مطلق العالم ولو تقليدا.
ويدل على التخصيص أيضا المروي في مصباح الشريعة، المنجبر
ضعفه بما ذكر: أنه قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لقاض: " هل تعرف الناسخ من
المنسوخ؟ " قال: لا، قال: " فهل أشرفت على مراد الله عز وجل في أمثال
القرآن؟ " قال: لا، قال: " إذن هلكت وأهلكت.. والمفتي محتاج إلى معرفة
القرآن، وحقائق السنن، وبواطن الإشارات، والآداب، والإجماع،
والاختلاف، والاطلاع على أصول ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، ثم
حسن الاختيار، ثم العمل الصالح، ثم الحكمة، ثم التقوى، ثم حينئذ إن

(1) الكافي 7: 407 / 3، التهذيب 6: 217 / 510، الوسائل 27: 16 أبواب صفات
القاضي ب 3 ح 1.
25

قدر " (1).
قال (عليه السلام): " لا تحل الفتيا لمن لا يستفتي من الله عز وجل بصفا ء
سره، وإخلاص عمله وعلانيته، وبرهان من ربه في كل حال، لأن من أفتى
فقد حكم، والحكم لا يصح إلا بإذن من الله " (2).
وبتلك الأخبار يجب تقييد إطلاق بعض آخر.
وعلم من ذلك صحة ما هو المشهور من عدم جواز تولي القضاء لغير
المجتهد.
وهل يجوز له التولي من جانب المجتهد وبإذنه الخاص؟
ربما يحكى عن بعض الفضلاء المعاصرين (3) جوازه، ولم أتحققه
ولم أره في كتابه (4)، ولا أرى له وجها أصلا. ويمكن أن يكون ذلك لفتواه
المتقدمة بجواز المرافعة إلى المقلد العادل العالم بمسائل الواقعة (5)..
وتوقيفه على الإذن لمعرفة العادل المطلع.
وتوهم أن عموم الولاية فيما للإمام فيه الولاية ثابت للمجتهد، ومنها:
الإذن الخاص في القضاء.
مدفوع بأن للإمام الإذن للأهل والقابل، فالجواز للمجتهد أيضا يكون
مقصورا على من له الأهلية، وهي لغير المجتهد غير ثابتة، ومن ثبتت له لا
يحتاج إلى النائب، لثبوت الإذن له عن المنوب عنه.
نعم، لا يبعد جواز حكم مقلد عادل عالم بجميع أحكام الواقعة

(1) مصباح الشريعة: 355، بتفاوت يسير.
(2) مصباح الشريعة: 351.
(3) أراد به المحقق القمي.
(4) كتاب القضاء المطبوع في ضمن غنائم الأيام وجامع الشتات.
(5) تقدمت في ص: 1932.
26

الخاصة فعلا، أو بعد السؤال في تلك الواقعة الخاصة، بعد إذن المجتهد له
في خصوص تلك الواقعة، بعد رجوع المدعي أو المتخاصمين فيها إلى
المجتهد، لأن التحاكم والترافع والرجوع في الواقعة إنما وقع عند المجتهد -
كما هو المأمور به في المقبولة والتوقيع - والمجتهد أمر بأن يفتش مقلده
عن حقيقة الواقعة ويحكم.
والتحذير الوارد في رواية مصباح الشريعة إنما هو لقاض خاص،
فلعله لم يكن مأذونا من أهل في خصوص الواقعة، كما هو الظاهر.
وكذا لا يشمله التحذير الوارد في رواية إسحاق بن عمار وصحيحة
سليمان بن خالد المتقدمتين، لأن الظاهر ورودهما في حق من اتخذ ذلك
منصبا، لا من يحكم في خصوص واقعة، بل يمكن أن نقول: الحكم
حقيقة من المجتهد، والواسطة كالآلة.
والحاصل: أن هنا أمورا أربعة مخالفة للأصل:
الأول: التحاكم والترافع والرجوع من المتخاصمين بنفسهما.
الثاني: جواز حكم هذا المقلد بما يعلم.
الثالث: نفوذ حكمه ووجوب اتباعه.
الرابع: جواز أمر المجتهد هذا المقلد بالحكم وبترافع المترافعين إليه.
والأول: لم يقع بالنسبة إلى المقلد، لأنهما بنفسهما لم يرجعا إليه،
وإنما ترافعا عند المجتهد كما هو المأمور به لهما.
والثاني: لا نهي فيه، بل صرح بجوازه - بل ترتب الأجر عليه - في
مرفوعة البرقي المتقدمة ورواية الغوالي.
والثالث: يثبت بثبوت وجوب اتباع كل ما حكم به المجتهد بعد
الترافع إليه، فإنه قد حكم بقبول حكم هذا المقلد، فهو حقيقة نفوذ لحكم
27

المجتهد واتباع له.
وتدل عليه أيضا رواية الغوالي، بل هي تدل على نفوذ الحكم وجواز
المحاكمة عنده بدون إذن المجتهد أيضا، إلا أنها لضعفها الخالي عن الجابر
المعلوم - مضافا إلى أعميتها من المقبولة والتوقيع - يمنع من العمل
بمضمونها وحدها.
والرابع: ظاهر بعد ثبوت جواز حكمه وعدم وجود نهي فيه.
ويمكن أن يكون بناء الأصحاب - في مسألة إحضار (1) الخصم، وقولهم
كما يأتي في بعض الصور: يبعث الحاكم من يحكم بين الخصمين - على ذلك.
ويمكن أن يكون مرادهم: بعث مجتهد آخر، حيث إنه لما ترافع
الخصمان إليه يكون هو الأصل.
ويمكن أن يكون مرادهم: القاضي الخاص، المنصوب من الإمام،
المأذون في الاستنابة، فتأمل.
فرع: قد ظهر مما ذكرنا أن المحرم لغير المجتهد هو الحكم بغير ما
أنزل الله أو بما أنزل الله - أي بفتوى مجتهده - بدون إذن المجتهد مع إلزامه
المترافعين بما حكم، لكونه إلزاما من غير لزوم، ولكونه إعانة على معصية
المترافعين.
وأما قوله لهما - بدون إذن المجتهد بعد سماع حكايتهما، من غير
قصدهما الترافع إليه، أو قصده جريان الحكم عليه (2) -: على فلان المدعي
البينة مثلا، أو على هذا المنكر اليمين - يعني: أن القاضي يحكم بذلك إذا
ترافعتما إليه، من غير حكم لهما بذلك - فلا بأس به.

(1) في " ق "، " س ": إجبار.
(2) يعني: أو من غير قصد المقلد جريان الحكم على المدعي أو المنكر.
28

بل وكذا لو قال: عليك البينة وعليك الحلف، من غير أن يقصد
إلزامهما وإجراء حكمه، أو رفع تخاصمهما بذلك الحكم، أو سماع البينة،
أو الإحلاف.
بل لو قيل له: أحلف أو استمع البينة، يقول: ليس هذا من شأني ولا
بد من الرجوع إلى الحاكم، بل لو سمع البينة أيضا لا يقصد الحكم بل
الاطلاع بالحال.
فإنه لا دليل على حرمة شئ من ذلك، والأصل عدمها، فإن هذا
ليس حكومة وجلوسا مجلس القضاء، ولا قضاء، ولا ترافعا إليه.
المسألة الخامسة: هل يشترط في المجتهد الذي ينفذ قضاؤه أو قضاء
مقلده المأذون منه - لو قيل بجوازه - كونه مجتهدا مطلقا، أم يكفي المتجزي؟
وهذا البحث ساقط على ما اخترناه من عدم إمكان التجزي في
الملكة، لأنهم إن أرادوا التجزي بذلك المعنى فهو غير ممكن، وإن أرادوا
التجزي الفعلي فبطلان اشتراط عدمه بديهي واضح، لعدم إمكان الاجتهاد
الفعلي المطلق، وعدم تحققه.
نعم، يتأتى هذا الخلاف على القول بتجزي الاجتهاد بمعنى الملكة،
وقد وقع الخلاف فيه عليه.. وصرح بعضهم بكفاية التجزي، وهو الظاهر
من الفاضل في التحرير، حيث شرط في القاضي الاجتهاد، وذكر شرائطه ثم
قال: وهل يتجزي الاجتهاد أم لا؟ الأقرب: نعم، واحتج له برواية أبي
خديجة (1) (2).

(1) الكافي 7: 412 / 4، الفقيه 3: 1 / 1، الوسائل 27: 13 أبواب صفات القاضي
ب 1 ح 5.
(2) التحرير 2: 180.
29

والحمل - على إرادة جواز التجزي في الاجتهاد دون كفايته في
القضاء - بعيد، بل يمنعه احتجاجه، وقوله بعد ذكر الرواية: نعم، يشترط
أن يكون عارفا بجميع ما وليه.
وهذا هو الظاهر من القواعد والدروس أيضا، بل هو ظاهر النافع
والشرايع أيضا (1).
وحمل قوله في الأخير: ولا بد أن يكون عالما بجميع ما وليه، على
الاجتهاد المطلق، كما في المسالك (2)، لا وجه له.
ونسب في الكفاية إلى المشهور (3) ووالدي إلى الأشهر: اشتراط
المطلق، وعدم كفاية التجزي، وجزم الأول به مع تيسر المطلق، ونفي البعد
عن الاكتفاء بالمتجزي مع فقده، وصرح الثاني بالتفصيل، فجوز مع فقد
المطلق، ومنع مع تيسره.
والحق هو: الأول، لأن المراد بالمتجزي: من قدر على استنباط برهة
من الأحكام، جامعا لجميع شرائط الاجتهاد فيها، من ردها إلى مآخذها
المعلوم اعتبارها وحجيتها عنده بالدليل القطعي، العالم بعدم توقفها على
غيرها، أو ظانا له ظنا ثبت عنده اعتباره، إذ لو لم يعلم اعتبار المأخذ
واكتفى فيه بالظن، أو ظن عدم التوقف ولم تثبت عنده حجية هذا الظن،
لا يجوز عمله اتفاقا، لامتناع إثبات الظن بالظن، فلا بد من كون ظنه منتهيا
إلى العلم الموجب لقطعه بالحكم كما مر، فيكون الحكم معلوما له، فتشمله
صحيحتا أبي خديجة، وكذا يشمله التوقيع، ولا مخصص لهما سوى بعض

(1) القواعد 2: 201، الدروس 2: 66، النافع 2: 279، الشرائع 4: 67.
(2) المسالك 2: 351.
(3) الكفاية: 262.
30

ما استدل به للقول الآخر، كما يأتي مع جوابه.
وجعله من باب إثبات الظن بالظن من الغرائب، لأن المتجزي
لا يثبت حجية ظنه به، بل يجعل ظنه علما بما دل على حجية الظن الفلاني
- كالظن الخبري مثلا - له، ثم بعد ذلك وبعد إثبات حجية الأخبار - التي
منها هذا الخبر - له بالدليل العلمي يستدل بهاتين الصحيحتين على حصول
الإذن له في القضاء.
ولو فرض عدم ثبوت حجية ظن له علما فلا يقول أحد بحجية ظنه
له، وكذا لو ثبت ذلك ولكن لم تثبت عنده حجية هاتين الصحيحتين.
احتج لاشتراط المطلق بوجوه:
منها: ما ذكره في الكفاية من أن معرفة الأحكام من الأحاديث يتوقف
في بعض الأحيان على العرض على القرآن، وعلى مذاهب العامة
والخاصة، والعلوم المعتبرة في الاجتهاد، فيقتضي الاجتهاد المطلق (1).
وفيه: أن كون هذا اجتهادا مطلقا ممنوع، مع أن المفروض إنما هو إذا
علم ما يتوقف عليه الحكم جميعا، وعلم عدم توقفه على غير ذلك.
ومنها: المقبولة المتضمنة للجمع المضاف المفيد للعموم، وبه
تخصص الصحيحتان أيضا، لكونها أخص مطلقا منهما.
وفيه: أن العلم حقيقة في المعرفة الفعلية، وتحققها بالنسبة إلى جميع
الأحكام غير ميسر، واشتراطها خلاف الإجماع.. والحمل على قوة المعرفة
مجاز، كما أن إرادة البعض من الجمع المضاف أيضا مجاز، ولا مرجح
لأحدهما، فلا يعلم المخصص.

(1) كفاية الأحكام: 261.
31

ومنها: ما قيل من أن الدليل على حجية ظن المجتهد هو الإجماع،
والدليل العقلي المركب من بقاء التكليف، وانسداد باب العلم، وانتفاء
التكليف بما لا يطاق، المنتج لوجوب العمل بالظن.
وشئ منهما لا يجزي في المتجزي، أما الإجماع فلاختصاصه
بالمجتهد المطلق.
وأما الدليل العقلي، فلعدم صحة دعواه انسداد باب العلم بالنسبة
إليه، لاحتمال ظهور خلاف ظنه، وكذا دعواه التكليف بما لا يطاق في
حقه، إذ في وسعه تحصيل المعرفة بكل المدارك (1).
أقول: دعوى انحصار الدليل فيهما واهية، فإن لحجية كل من الأدلة
الظنية - كالخبر والاستصحاب والكتاب وغيرها - أدلة منتهية إلى القطع،
بالواسطة أو بدونها، ولا ينحصر دليلها في أنها تفيد الظن والظن حجة
بالإجماع.
على أن الإجماع لو كان دليلا لم يثبت حجية ظن المجتهد المطلق
بما يفيد شيئا في هذا الباب، لأن القدر الثابت من الإجماع هو حجية ظنه
في الجملة، وأما أنه أي قدر وعلى أي حال فلا، بل لا يوجد لظنه المجمع
على اعتباره مصداق، فإن من ظنونه ما يحصل من القياس أو الشهرة أو
الإجماع المنقول أو الخبر أو غيرهما، وفي كل منها خلاف.
وعدم تخطئتهم للعامل بها إذا قال بحجيتها لا يجعله إجماعيا، كما
في سائر المسائل الخلافية.
وأما ما ذكره في عدم جريان الدليل العقلي في ظن المتجزي لما مر،

(1) انظر الرياض 2: 386.
32

ففيه: أن درك انسداد باب العلم في مسألة لا يتوقف على القدرة على
استنباط جميع الأحكام من مآخذها لو سلمنا توقفه على الإحاطة الإجمالية
بجميع المدارك.
وكذا لا مدخلية لتلك القدرة في درك حكم كل مسألة حتى يمنع
إمكان تحصيلها عن التكليف بما لا يطاق.
نعم، يمكن أن يقال: إن المقدمات الثلاث لا تنتج للمتجزي وجوب
العمل بالظن، لإمكان أن يكون حكمه تقليد المجتهد المطلق.. ولكن مثل
هذا وارد في المطلق أيضا، لإمكان أن يكون حكمه الاحتياط على أن
الثابت منه - لو سلم - حجية الظن في الجملة، وهو لا يفيد له شيئا.
ثم بما ذكرنا يظهر وجه التفصي عن الإيراد بجواز قضاء المقلد
المأذون لو قيل بمثل ذلك.. على أن الإجماع على حجية ظن المقلد
الحاصل من فتوى مجتهده منعقد.
احتج من فصل بين وجود المطلق وعدمه بما دل على تقديم الأعلم.
وفيه منع كل من الصغرى والكبرى، كما يظهر وجهه مما يأتي في
مسألة وجوب تقديم الأعلم.
ثم لا يخفى أن مرادنا من المتجزي الجائز قضاؤه ليس مطلق من
يعلم قضية في واقعة ولو بإجماع أو ضرورة، بل من أخذ برهة جمة من
الأحكام من مأخذها، لما يدل على التخصيص برواة أحاديثنا، وبمن نظر
في حلالنا وحرامنا، بل قوله في إحدى الصحيحتين: " حلالنا وحرامنا " دال
على ذلك، وبذلك يخصص إطلاق الصحيحة الأخرى.
المسألة السادسة: تشترط فيه أيضا - مضافا إلى ما ذكر - أمور:
منها: التكليف، بالبلوغ والعقل، بالإجماع والاعتبار فيهما، مضافا في
33

الأول إلى التصريح بالرجل في الصحيحتين، المخصص لغيرهما مما ظاهره
العموم، مع أن المتبادر من الجميع البالغ العاقل.
ومنها: الإيمان، للإجماع أيضا، وقوله (عليه السلام) " منكم " في إحدى الصحيحتين
وفي المقبولة، وما ورد في بعض الأخبار من أخذ معالم الدين من الشيعة (1).
وقد يستدل أيضا له بوجوه مدخولة، وإن كانت للتأييد صالحة.
ومنها: العدالة، لما مر من الإجماع، ولآية النبأ، وللمروي في
الخصال: " فاتقوا الفاسق من العلماء " (2).
والمرويين في مصباح الشريعة المتقدمين في المسألة الرابعة (3).
وفي تفسير الإمام (عليه السلام) في حديث طويل: " وكذلك عوام أمتنا إذا
عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على حطام
الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقا،
وبالترفرف بالبر والإحسان على من تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقا،
فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله
تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم.. فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا
لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون
إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم.. فأما من ركب من القبائح والفواحش
مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا ولا كرامة " الحديث (4).
والمروي في التحرير عن علي (عليه السلام) أنه قال: " لا ينبغي أن يكون
القاضي قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان

(1) رجال الكشي 1: 7 / 4، الوسائل 27: 150 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 42.
(2) الخصال 1: 69 / 103.
(3) في ص: 369.
(4) تفسير الحسن العسكري (عليه السلام): 299 / 143، الوسائل 27: 131 أبواب صفات
القاضي ب 10 ح 20.
34

قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم " (1)، والضعف فيها
غير ضائر، لما مر غير مرة.
وتؤيده آية الركون (2)، وصحيحة سليمان المتقدمة في المسألة
الثانية (3)، وعدم حصول الأمن بدونها في بذل الجهد وعدم الكذب،
واشتراطها في الشهادة التي هي من فروع القضاء، سيما مع وجود العلة
الموجبة لاشتراطها فيه بطريق أولى.
ومنها: العلم الفعلي بجميع أحكام الواقعة، والوجه فيه ظاهر.
ومنها: الذكورة، بالإجماع كما في المسالك ونهج الحق ومعتمد
الشيعة (4) وغيرها (5).
واستشكل بعضهم في اشتراطه، وهو ضعيف، لاختصاص
الصحيحتين بالرجل، فيخصص بهما غيرهما مما يعم.
وتدل عليه مرسلة الفقيه: " يا معاشر الناس، لا تطيعوا النساء على
حال، ولا تأمنوهن على مال " (6).
وروايات أبناء نباتة (7) وأبي المقدام (8) وكثير (9): " لا تملك المرأة من

(1) التحرير 2: 180.
(2) هود: 113.
(3) في ص: 1926.
(4) المسالك 2: 351، نهج الحق: 562.
(5) انظر المفاتيح 3: 246، وكشف اللثام 2: 322، والرياض 2: 385.
(6) الفقيه 3: 361 / 1713، الوسائل 20: 180 أبواب مقدمات النكاح ب 94 ح 7.
(7) الكافي 5: 510 / 3، الوسائل 20: 169 أبواب مقدمات النكاح ب 87 ح 2.
(8) الكافي 5: 510 / 3، نهج البلاغة (محمد عبده) 3: 63، الوسائل 20: 168
أبواب مقدمات النكاح ب 87 ح 1.
(9) الكافي 5: 510 / 3، الوسائل 20: 168 أبواب مقدمات النكاح ب 87 ح 1.
35

الأمر ما يجاوز نفسها ".
ورواية الحسين بن المختار: " اتقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهن
على حذر، وإن أمرنكم فخالفوهن، كيلا يطمعن منكم في المنكر " (1)،
وتقربها مرسلتا المطلب بن زياد (2) وعمرو بن عثمان (3).
ورواية حماد بن عمرو الطويلة، وفيها: " يا علي، ليس على النساء
جمعة ولا جماعة " إلى أن قال: " ولا تولى القضاء " (4).
ورواية جابر عن الباقر (عليه السلام): " ولا تولى المرأة القضاء ولا تولى
الإمارة " (5).
وفي خبر آخر: " لا يصلح قوم ولتهم امرأة " (6).
ومنها: العلم بالكتابة قراءة وكتبة، شرطه الشيخ والحلي (7)، ونسبه
في المسالك والروضة (8) وغيرهما (9) إلى الأكثر، وجعله في السرائر من
مقتضيات المذهب، وقيل: إنه مذهب عامة المتأخرين (10).

(1) الكافي 5: 517 / 5، الوسائل 20: 179 أبواب مقدمات النكاح ب 94 ح 2،
وفيها: وإن أمرنكم بالمعروف...
(2) الكافي 5: 517 / 7، نهج البلاغة 1: 125، الوسائل 20: 179 أبواب مقدمات
النكاح ب 94 ح 3.
(3) الكافي 5: 518 / 12، الوسائل 20: 179 أبواب مقدمات النكاح ب 94 ح 5.
(4) الفقيه 4: 263 / 823، الوسائل 27: 16 أبواب صفات القاضي ب 2 ح 1.
(5) الخصال 2: 585 / 12، الوسائل 20: 220 أبواب مقدمات النكاح ب 123 ح 1.
(6) مسند أحمد 5: 43، سنن البيهقي 10: 118.
(7) الشيخ في المبسوط 8: 120، والحلي في السرائر 2: 166.
(8) المسالك 2: 351، الروضة 3: 68.
(9) كالرياض 2: 386.
(10) كما في الرياض 2: 386.
36

وظاهر النافع والقواعد الخلاف فيه (1)، بل نسبه في التنقيح إلى
قوم (2).
ونقل في شرح المفاتيح عن الفاضل وجماعة احتمال العدم.
وصريح المحقق الأردبيلي والكفاية التردد (3).
ونفى اشتراطه والدي العلامة في معتمد الشيعة، وهو المعتمد،
للأصل، والإطلاق.
ودعوى اختصاص المرخصات في القضاء بحكم التبادر بعارفي
الكتابة ممنوعة.
واستدل المشترطون باعتبارات ضعيفة، عمدتها: توقف الضبط عليها
غالبا، وفيه المنع.
نعم، لا يبعد ادعاء توقف العلم بالأحكام في نحو هذه الأزمنة بالنسبة
إلى قراءة الكتابة، فلو قيل باشتراطها فيه بالنسبة إلى غير المأذون بخصوصه
من المجتهد - لو قلنا بجواز قضائه - لم يكن بعيدا.
ومنها: البصر، قال باشتراطه الشيخ والإسكافي وابن سعيد والقاضي
والمحقق والفاضل في القواعد وولده (4)، ونسبه في الروضة والكفاية إلى
الأكثر وإن نفاه الثاني (5).

(1) المختصر النافع: 279، القواعد 2: 201.
(2) التنقيح 4: 236.
(3) الكفاية: 262.
(4) الشيخ في المبسوط 8: 101، وابن سعيد في الجامع للشرايع: 522، والقاضي
في المهذب 2: 598، والمحقق في الشرايع 4: 68، والفاضل في القواعد 2:
201، وولده في الإيضاح 4: 298.
(5) الروضة 3: 67. الكفاية: 262.
37

واستشكل في التحرير (1). ونفاه في معتمد الشيعة، وهو الأصح، لما
مر.
ومنها: السمع واللسان، شرطهما جماعة (2)، والحق: العدم، لما
سبق.
ومنها: الحرية، ذهب إلى الاشتراط الشيخ والقاضي وابن سعيد
والكيدري والفاضل والشهيد (3)، وهو ظاهر ابن حمزة (4)، ونسبه في
المسالك والروضة إلى الأكثر (5).
واختار المحقق العدم (6)، واستقر به في الكفاية (7)، وهو الأظهر إذا
أذن له المولى.
ومنها: طهارة المولد والنطق وغلبة الذكر، شرطها جماعة، بل في
الروضة ومعتمد الشيعة الإجماع على الأول، ونفى الخلاف في الثانيين (8)،
والأصل ينفى ما لم يثبت فيه إجماع.
المسألة السابعة: إذا فقد الجامع للشرائط، أو تعسر الوصول إليه، أو
لم ينفذ قضاؤه مطلقا، أو على خصوص المدعى عليه، أو لم يمكن إثبات
الحق عنده، فهل يجوز الترافع إلى غيره؟

(1) التحرير 2: 179.
(2) كالعلامة وولده كما في الإيضاح 4: 299.
(3) الشيخ في المبسوط 8: 101، والقاضي في المهذب 2: 599، والفاضل في
القواعد 2: 201، والشهيد في الدروس 2: 65.
(4) الوسيلة: 209.
(5) المسالك 2: 351، الروضة 3: 67.
(6) الشرائع 4: 68.
(7) الكفاية: 262.
(8) الروضة 3: 62.
38

ظاهر الأكثر: العدم، وفي الروضة الإجماع عليه (1).
ونقل الأردبيلي قولا منسوبا إلى ابن فهد بجوازه في الصورة الأولى،
وقال: إنه وجده في حاشية الدروس منقولا عن الشيخ حسين بن حسام.
ووجدت أنا أيضا في حاشية نسخة منه منسوبة إلى مسائل ابن طي نسبة
هذا القول إلى ابن فهد، وإلى الشهيد في الحواشي، واختاره نفسه.
واستقربه بعض المعاصرين (2)، وجوزه الشهيد الثاني في المسالك (3)،
ووالدي في معتمد الشيعة لو توقف حصول الحق عليه، وظاهرهما الشمول
للصور الأربع.
استدلوا على الجواز بلزوم تعطيل الأحكام لولاه، وبنفي العسر
والحرج.
وفي صورة توقف وصول الحق مطلقا بمفهوم صحيحة أبي بصير:
" أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق، فدعاه إلى رجل من
إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة الذين
قال الله عز وجل: * (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا...) * (4) " (5).
وإطلاق نفي الضرر، سيما مع إطلاق رواية البرقي المتقدمة (6).
واستشكل فيه: بأنه إعانة على الإثم، وهي محرمة.

(1) الروضة 3: 68.
(2) المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام: 674).
(3) المسالك 2: 352.
(4) النساء: 60.
(5) الكافي 7: 411 / 2، الفقيه 3: 3 / 5، التهذيب 6: 220 / 519، الوسائل 27:
11 أبواب صفات القاضي ب 1 ح 2.
(6) في ص: 1923.
39

ورد بمعارضة أدلة حرمة الإعانة مع أدلة نفي الضرر، فتتساقطان،
فيرجع إلى الأصل.
وقد يستدل للمنع أيضا بمنطوق الصحيحة المذكورة، وبالروايات
الناهية عن الترافع إلى القضاة أو قضاة الجور والظلم، كصحيحة ابن سنان:
" أيما مؤمن قدم مؤمنا في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر فقضى عليه
بغير حكم الله فقد شركه في الإثم " (1).
أقول: لا يخفى ما في كتب الأصحاب في أصل المسألة واستدلالهم
وجوابهم من الإجمال والمسامحة والقصور.
وبيان ذلك: أن الكلام إما في تكليف المترافعين وما يجوز لهم أو لا
يجوز.
أو تكليف من يترافعان أو أحدهما إليه من غير الأهل حينئذ.
أو تكليف سائر الناس - من الحكام الذين يأتون بعدهم، أو أهل
الاقتدار على إجراء الحكم ورده - في رد حكم غير الأهل وإجرائه حينئذ.
أو في حال الحق الذي حكم غير الأهل حينئذ لأحدهما إثباتا أو نفيا.
ثم على التقادير الأربعة، إما يكون مفروض المسألة ما إذا لم يمكن
الترافع إلى الأهل، لفقده، أو عسر الوصول إليه.
أو ما إذا لم يمكن التوصل إلى الحق بالترافع إليه، إما لعدم نفوذ
حكمه، أو لعدم إمكان إثبات الحق عنده.
وعلى التقادير، إما يكون نزاع المترافعين للجهل بحكم المسألة، كما
إذا اجتمع جد وأخ في الميراث، وطلب كل منهما الكل زعما منه أنه

(1) الكافي 7: 411 / 1، الفقيه 3: 3 / 4، التهذيب 6: 218 / 515، الوسائل 27:
11 أبواب صفات القاضي ب 1 ح 1.
40

كذلك.
أو يكون لاختلاف العلماء في المسألة، كما إذا تنازع الولد الأكبر مع
غيره في الحبوة مجانا أو غير مجان، أو الزوجة مع الولد في الإرث من
الأراضي وعدمه، أو الأب مع البنت البالغة في ولاية العقد ونحوها.
أو يكون لأجل عدم علم المدعى عليه بالحق المدعى، كما إذا ادعى
أحد حقا على مورث الآخر وأجاب هو بعدم العلم، أو عليه بعينه وقال: لا
أدري، أو شيئا في يده بأنه مسروق مني، ونحو ذلك، أو يكون لانكار
المدعى عليه الحق.
وعلى جميع تلك التقادير: إما يكون عدم أهلية غير الأهل الذي
يترافعان إليه حينئذ لكونه جاهلا، أي لعدم اجتهاده ولا تقليده في المسألة.
أو يكون لعدم كونه مجتهدا مع علمه بحكم المسألة تقليدا لمجتهد
حي يتعسر الوصول إليه، أو لكونه فاسقا، أو لفقد شرط آخر من شرائط
القضاء كالبلوع أو الذكورة أو البصر - على القول باشتراطه - ونحو ذلك.
وعلى التقادير: إما يكون ذلك الذي لا يتأهل للقضاء جالسا مجلس
الحكم تغلبا وجورا.
أو لا، بل يكون هناك شخص لا يتولى القضاء فيريدون أن يترافعوا
إليه.
وهذه صور كثيرة تتجاوز عن المائة بل المائتين، والأدلة التي ذكروها
للجواز على فرض تماميتها لا تجري إلا في أقل قليل من تلك الصور، فلا
تفيد لحكم الكلية.
والتحقيق: أن ما يجوز الاستناد إليه في ذلك المقام ليس إلا دليل نفي
الضرر، وجواز التوصل إلى الحق بكل ما أمكن لانتفاء الضرر أيضا.. وهو
41

لا يجري في تلك الصور، إلا في جواز ترافع من يعلم يقينا حقه ثابتا،
ولا يمكنه التوصل إلا بذلك، فيجوز له الترافع إلى غير الأهل لنفي الضرر
الخالي عن المعارض بالمرة.
إذ ليس سوى مثل صحيحة ابن سنان المتقدمة (1). وهي مخصوصة
بما إذا حكم بغير حكم الله، والمفروض أن المدعي يعلم ثبوت حقه.
ومثل المقبولة الناهية عن التحاكم إلى السلطان والقضاة، وأن ما
يحكم به له سحت ولو كان حقا، فإن فيها: عن رجلين من أصحابنا بينهما
منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان، أو إلى القضاة، أيحل
ذلك؟ قال: " من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت،
وما يحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له، لأنه أخذه بحكم
الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: * (يريدون أن يتحاكموا
إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) * " قلت: فكيف يصنعان؟ قال:
" ينظران من كان منكم " الحديث (2).
وهي - مع اختصاصها بمثل السلطان والمتولين لمنصب القضاء بغير
حق - ظاهرة في صورة إمكان الرجوع إلى الأهل والتوصل به إلى الحق،
فتبقى صورة العدم والرجوع إلى غير السلطان والقضاة تحت إطلاق نفي
الضرر بلا معارض، بل وكذلك الرجوع إلى السلطان والقضاة، كما يأتي.
ومثل الصحيحة والمقبولة الآمرة بالرجوع إلى الأهل. واختصاصها
أيضا بصورة الإمكان واضح.
فلا يكون لأدلة نفي الضرر معارض، إلا في صورة عدم علم المترافع

(1) في ص: 40.
(2) الكافي 1: 67 / 10 و ج 7: 412 / 5، التهذيب 6: 218 / 514 و 301 / 845،
الوسائل 27: 136 أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1.
42

إليه بالحق للمدعي، وحكم بالظنون التي لم يثبت اعتبارها في حقه، كالبينة
الغير المفيدة للعلم أو الإحلاف، أو رد الحلف، أو الاستصحاب، أو
نحوها، فإنه تعارضها حينئذ أدلة حرمة المعاونة على الإثم، ولكنهما
يتساقطان، فيبقى أصل الجواز خاليا عن المعارض، ولكن الثابت منه ليس
إلا الجواز للمدعي العالم بالحق.
وأما المترافع إليه، فلا يجوز له قبول المحاكمة أصلا، إلا إذا علم هو
أيضا ثبوت الحق له علما واقعيا، لا بمثل البينة والإحلاف، لأنه ما لم يعلم
واقعا ثبوت الحق له لا يعلم ضررا عليه، ولا منكرا من المدعى عليه، حتى
تجري في حقه أدلة نفي الضرر، أو وجوب النهي عن المنكر، فلا يجوز له
الحكم بالظنون التي تجوز للأهل كالبينة والاستصحاب واليمين ونحوها.
نعم، لو علم ذلك يجوز له من باب النهي عن المنكر أيضا، كجواز
ترافع المدعي.
ويحل للمدعي العالم بالحق أخذ ما أخذ بحكمه، ولكن لا يثبت
حينئذ قضاء شرعيا يجب على سائر الحكام بعده إنفاذه، ولا على
المقتدرين على الإجراء إجراءه، لأنهم أيضا لو علموا بالحق كعلمه لكان
واجبا على أنفسهم من باب النهي عن المنكر، وإن لم يعلموا فمن أين
يعلمون حقية حكمه، وجريان أدلة نفي الضرر والنهي عن المنكر في حقه
حتى يجب عليهم إنفاذه؟!
بل يكون مثل ما إذا كان مال من مورث عند شخص وسمع ذلك
الشخص وحده إقرار المورث بأنه مال زيد، فإنه يجوز له إعطاؤه إياه،
ولكن لو ادعى الوارث عليه تسمع دعواه، ولا يجب على الحكام قبول
قوله.
43

وظهر من ذلك أن الجائز من تلك الصور المتكثرة هذه الصورة فقط،
فإنها جائزة حتى بالرجوع إلى السلاطين الجبابرة وقضاة الجور.
والمقبولة المتقدمة وإن كانت من جهة التعليل المذكور فيها عامة
لصورة إمكان الأهل وعدمه، ولكن تعارضها أدلة نفي الضرر بالعموم من
وجه، فيرجع إلى أصل الجواز.
ويمكن إخراج صورة أخرى أيضا بأدلة وجوب النهي عن المنكر،
وهو: ما إذا كان مجتهد حي واحد تعذر أو تعسر الوصول إليه، أو مجتهدان
أو أكثر كذلك، متفقان في المسألة المتنازع فيها، وكانت المسألة مما يجب
بناء الأمر على التقليد فيها، فيجوز للمقلد العادل العالم برأي المجتهد الحي
الحكم بمقتضى فتواه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كما إذا تحقق عشرة أرضعة بين صبي وصبية، ثم تزوج الصبي
بالصبية بعد البلوغ، ثم تنازعا، وكان المجتهد أو المجتهدون الأحياء
المتعسر الوصول إليهم متفقين في نشر الحرمة بالعشر وعدمه.. وكذلك إذا
وقع نكاح البالغة الباكرة بإذن الولي (1) وتنازع الزوجان، وأمثال ذلك،
فتأمل.
فرع: لو ترافعا إلى غير الأهل حيث يحرم، فحكم، فهل يجوز قبول
حكمه، أم يجب الرد إن أمكن؟ فيه تفصيل.
وهو: أنه إذا حكم، فإن كان المحكوم به مما يباح برضى المحكوم
عليه، فلا بأس له في العمل بمقتضى حكمه إن رضي، للأصل، إلا أن
العمل ليس حينئذ بالحكم.

(1) يعني بإذن الولي من دون إذنها ورضاها.
44

وإن لم يكن كذلك، بل كان منوطا بالشرع - كالحلف والنكاح
والطلاق وأمثالها - فلا يجوز.
نعم، إذا حكم في مثله وعلم المحكوم عليه مطابقته للواقع فيما هو
من باب الفتوى، فيجب عليه العمل بمقتضاه، لأجل ذلك.
هذا بالنسبة إلى المحكوم عليه.
وأما المحكوم له، فإن كان المحكوم به من الثاني لم تجز متابعته
أصلا.
وإن كان من الأول جاز عمله بمقتضاه إن رضي المحكوم عليه، وإلا
فلا، سواء كان حقا أم لم يكن.
أما الثاني فظاهر. وأما الأول فللمقبولة، وقد ادعى والدي العلامة
- طاب ثراه - في معتمد الشيعة الإجماع عليه.
ولا تنافيه موثقة ابن فضال - وفيها: ثم كتب تحته: " هو أن يعلم
الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي، فهو غير معذور في أخذ ذلك الذي
حكم له إذا كان قد علم أنه ظالم " (1)، حيث دلت بالمفهوم أنه معذور إذا
لم يعلم أنه ظالم - لعموم القاضي فيها، فيجب حمله على أهله.
ولكن الحكم في المقبولة مختص بما إذا تحاكما إلى الطاغوت،
ولدلالته على المبالغة يختص بغير الأهل الذي جعل الحكم منصبا له
- كالسلاطين والقضاة وأمثالهم - فالتعدي إلى من حكم نادرا ولم يجعل
الحكم لنفسه منصبا غير معلوم، مع أن مقتضى الأصل حليته لكونه حقا له.
والتعدي لاشتراك العلة قياس باطل.

(1) التهذيب 6: 219 / 518، الوسائل 27: 15 أبواب صفات القاضي ب 1 ح 9.
45

ولا فرق في ذلك بين طواغيت المخالفين والموافقين، للإطلاقات.
المسألة الثامنة: إذا كان مجتهدان متساويان، فالرعية بالخيار فيهما
في الترافع إليهما، لبطلان الترجيح بلا مرجح.
ولو تفاوتا في العلم، فهل يتعين الأعلم، أم لا؟
قال في المسالك والمفاتيح: فيه قولان، مبنيان على وجوب تقليد
الأعلم وعدمه (1).
قال في التحرير: يكون الخيار للمدعي مع التعدد مطلقا.
ثم قال: ولو تراضيا بالفقيهين واختلف الفقيهان نفذ حكم الأعلم
الأزهد (2).
وذهب جماعة إلى الأول، بل هو الأشهر كما في المسالك (3)،
وبعضهم نفي الخلاف عنه عندنا، ونقل المحقق الأردبيلي أنه قد ادعي
الإجماع عليه، ونقل منع الإجماع أيضا، وقال: ويشعر بعدم الإجماع كلام
الفاضل في نهاية الأصول.
وفي المسالك: إجماع الصحابة على جواز تقليد المفضول مع وجود
الأفضل، واختاره المحقق (4)، وظاهر الأردبيلي الميل إليه، كما أن ظاهر
المسالك التردد (5).
والحق هو: الجواز وخيار الرعية مطلقا، للأصل، والإطلاقات،
ويؤيده إفتاء الصحابة مع اشتهارهم بالاختلاف في الأفضلية، وعدم الإنكار

(1) المسالك 2: 353، المفاتيح 3: 247.
(2) التحرير 2: 181.
(3) المسالك 2: 353.
(4) الشرائع 4: 69.
(5) المسالك 2: 353.
46

عليهم.
احتج القائلون بوجوب تقديم الأعلم بأن الظن بقوله أقوى، والأقوى
أحرى بالاتباع.
لأن أقوال المفتي كالأدلة للمقلد، ويجب اتباع أقواها.
ولأنه أرجح، فاتباعه أولى، بل متعين.
ولما بني عليه أصول مذهبنا من قبح تقديم المفضول على الأفضل.
وللأخبار، منها: المقبولة: قلت: فإن كان كل واحد منهما اختار
رجلا وكلاهما اختلف في حديثنا؟ قال: " الحكم ما حكم به أعدلهما
وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به
الآخر " (1).
ورواية ابن الحصين: في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما
في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين، واختلف العدلان بينهما،
عن قول أيهما يمضي الحكم؟ فقال: " ينظر إلى أفقههما وأعلمهما
بأحاديثنا وأورعهما فلينفذ حكمه، ولا يلتفت إلى الآخر " (2).
ورواية النميري: سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في
حق، فيتفقان على رجلين يكونان بينهما، فحكما فاختلفا فيما
حكما، قال: " وكيف يختلفان؟ " قلت: حكم كل واحد منهما للذي اختاره
الخصمان، فقال: " ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي

(1) الكافي 1: 67 / 10، الفقيه 3: 5 / 18، التهذيب 6: 301 / 845، الإحتجاج
2: 356، الوسائل 27: 106 أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1.
(2) الفقيه 3: 5 / 17، التهذيب 6: 301 / 843، الوسائل 27: 113 أبواب صفات
القاضي ب 9 ح 10.
47

حكمه " (1).
والجواب عن الأول، أما أولا: فبأنه إنما يتم على القول بأن متابعة
المقلد لقول مجتهده لأجلف أنه محصل للظن بالواقع، وهو ممنوع، لجواز
أن يكون هذا حكما آخر نائبا مناب الحكم الواقعي وإن لم يحصل الظن به،
كالتقية وشهادة الشاهدين واليمين.
ولو كان بناء القضاء على الظنون لزم عدم سماع دعوى كناس على
مجتهد أنه آجره للكناسة، ودعوى شرير متغلب على مجتهد عادل في
دراهم، ولزم أن يقضي بالشاهد الواحد إذا كان مفيدا للظن، سيما إذا كان
المدعي معروفا بالصلاح والسداد، والمدعى عليه بخلافه.
وحينئذ، فلا دليل على اعتبار الأقوى، بل لا معنى للأقوى والأقرب
والأرجح.
وأما ثانيا: فلمنع إطلاق كون الظن بقوله أقوى، إذ مع موافقة قول
غير الأعلم لقول مجتهد آخر حي أو ميت يزعمه الرعية أعلم - بل مع
احتمالها - كيف يكون الظن من قول الأعلم أقوى؟! وأيضا قد يتمكن غير
الأعلم من الأسباب ما لا يتمكن منها الأعلم، فيكون الظن الحاصل من قوله
أقوى.
وأما ثالثا: فلمنع وجوب تقديم الأقوى، غاية الأمر: الرجحان.
ومن هذا يظهر جواب الثاني أيضا.
وعن الثالث: بأنه قياس للقضاء والفتوى على الإمامة، فإن قبح تقديم
المفضول في أصول مذهبنا في الأخير، والقياس باطل.

(1) التهذيب 6: 301 / 844، الوسائل 27: 123 أبواب صفات القاضي ب 9 ح 45.
48

مع أنه مع الفارق، كما صرح به المحقق الأردبيلي، قال: لأن الإمامة
كالنبوة في الاتباع المحض له والتفويض إليه بالكلية، ويحكم بالعلم
البديهي ويحتاج إلى علم إلهي في جميع الأمور، ومنشأ الفتوى والحكم
النص المستفاد عن بعض القرائن، وقد يفرض وصول مفضول إلى
الحق دون الفاضل، ولا محذور فيه، ولا يمكن ذلك في أصل الإمامة
والنبوة، فإن المدار هنا على العلم الحق، ولهذا جوز إمامة المفضول
للفاضل في الصلاة، وجوز للإمام نصب القاضي من غير اشتراط تعذر
الوصول إليه.
وعن الرابع: بأن الأخبار مختصة بما إذا اختار كل من المترافعين
مجتهدا، أو ترافعا إلى مجتهدين فاختلفا، فلا يمنع من جواز اختيارهما غير
الأعلم، أو من إمضاء حكمه بعد ترافعهما إليه وحكمه، لو رجع أحدهما،
مع أنها تدل على اشتراط الأورعية أو الأعدلية في تقديم الأعلم أيضا، فلا
يثبت مطلقا.
والقول: بأن أصل العدالة الحاجزة عن المسامحة أو الكذب حاصل
لهما، فلا اعتبار بزيادة العدالة.
اجتهاد في مقابلة النص، ومعارض بأن أصل العلم الموجب لفهم
الأحكام حاصل لهما، فلا وجه لاعتبار الزيادة إلا تقوية الظن لقوة فهمه،
وهي أيضا متحققة في اعتبار الأعدلية من جهة تقوية الظن في بذل غاية
جهده، واستفراغ وسعه، وإخباره برأيه، وعدم الميل في الأحكام ولو مع
البواعث القوية.
مع أن الوارد في المقبولة الاختلاف في الحديث، ولا شك أن
مدخلية الأعدلية والأصدقية في الترجيح حينئذ أكثر من الأعلمية.
49

وظهر مما ذكرنا: أن الحق اختصاص ترجيح الأعلم بمورد النصوص،
وهو ما إذا اختلف المترافعان أولا في الاختيار كما في المقبولة، أو اتفقا على
رجلين فاختلفا كما في الروايتين - كما هو ظاهر الفاضل في التحرير (1) -
وأن اللازم ترجيحه حينئذ أيضا هو الأعلم والأعدل معا، فلو فضل أحدهما
في أحدهما وتساويا في الآخر أو رجح الآخر في الآخر فلا يجب الترجيح.
ثم المراد بالأعلمية والأعدلية: الزيادة الظاهرة الكثيرة، ولا اعتبار
باليسير منها، لعدم اتفاق التساوي الحقيقي غالبا.
والمراد بالأعلمية: الأعلمية في الأحاديث، وفي دين الله - كما في
الروايتين - فلا اعتبار بالأعلمية في العلوم الأخر، كالطبيعي والرياضي
والطب، بل الكلام، ولو باعتبار بعض مسائلها المعينة في الأحكام، لعدم
إيجاب ذلك الأعلمية في الأحاديث وفي دين الله.
والأعلمية في الأحاديث تكون تارة: بأكثرية الإحاطة بها، والاطلاع
عليها.
وأخرى: بالأفهمية لها، وأدقية النظر، وأكثرية الغور فيها.
وثالثة: بزيادة المهارة في استخراج الفروع منها، ورد الجزئيات إلى
كلياتها.
ورابعة: بزيادة المعرفة بصحيحها وسقيمها وأحوال رجالها، وفهم
وجوه الخلل فيها.
وخامسة: بأكثرية الاطلاع على ما يتوقف فهم الأخبار عليها من علم
اللغة وقواعد العربية والنحو والصرف والبديع والبيان ونحوها.

(1) التحرير 2: 181.
50

وسادسة: باستقامة السليقة، ووقادة الذهن، وحسن الفهم فيها، كما
أشار إليه في بعض الأخبار المتقدمة بقوله: " وحسن الاختيار ".
وسابعة: بأكثرية الاطلاع على أقوال الفقهاء التي هي كالقرائن في فهم
الأخبار، ومواقع الإجماعات، وأقوال العامة التي هي من المرجحات عند
التعارض، وفي فهم القرآن الذي هو أيضا كذلك.
والأعلم الذي يمكن الحكم الصريح بوجوب تقديمه هو: الأعلم
بجميع تلك المراتب، أو في بعضها مع التساوي في البواقي.. وإلا فيشكل
الحكم بالتقديم.
ومن ذلك تظهر ندرة ما يحكم فيه بوجوب التقديم البتة، والله
سبحانه العالم.
المسألة التاسعة: إذا كان هناك مجتهدان أو أكثر يتخير فيهما
الرعية، فالحكم لمن اختاره المدعي، وهو المتبع إجماعا، له، ولأنه
المطالب بالحق ولا حق لغيره أولا، فمن طلب منه المدعي استنقاذ حقه
يجب عليه الفحص، فيجب اتباعه، ولا وجوب لغيره، وهذا مما لا إشكال
فيه.
وإنما الإشكال إذا كان كل منهما مدعيا من وجه، كما إذا اختلف
رجلان في امرأة باكرة رشيدة زوجت نفسها لأحدهما، وزوجها أبوها
للآخر، ولم تكن تحت يد أحدهما.
وكما إذا اختلف أكبر الذكور مع غيره فيما ليس في يد أحدهما مما
اختلف الفقهاء في أحبائه أم لا.
وكما إذا ادعى مدعيان شيئا في يد ثالث معترف بأنه من أحدهما،
ونحو ذلك.
51

وإنما قيدنا في المثال الأول بقولنا: ولم تكن تحت يد أحدهما، وفي
المثال الثاني: بما ليس في يد أحدهما، وكذلك الثالث، لأنه مع كونه في
يد أحدهما يكون الآخر هو المدعي، ويقدم من قدمه.
ثم إنا بينا المقدم من الحاكمين في مثل ذلك في مسألة الاختلاف في
الحبوة من كتاب الفرائض، وأنه هو الأعلم والأعدل مع اختلاف الحاكمين
في الوصفين، تبعا للحكم بتقديمه في الروايات المتقدمة.
وأنه يقدم من سبق إليه أحد المدعيين فحكم (1)، لأنه حاكم حكم
بحكم لمطالب ذي حق فيجب اتباعه وإمضاؤه، ويحرم الرد عليه ونقض
حكمه، والراد عليه كالراد على الله، والمستخف بحكمه كالمستخف بحكم
الإمام، كما في المقبولة.
ولو استبق كل منهما إلى حاكم، فإن سبق أحدهما بالحكم فيقدم
حكمه.
وإن أحضر كل من الحاكمين غريم من ترافع إليه، فإن أجاب أحد
الخصمين دعوة حاكم خصمه فالحكم حكمه.
وإن أبى كل إلا حكم حاكمه، فإن سبق أحد الحاكمين على الحكم
بالغائب فهو المتبع.
وإن لم يسبق - إما لعدم كون رأيهما الحكم على الغائب، أو لاشتباه
السابق منهما وعدم إمكان التعيين، أو لاتفاق التقارن في الحكم - فيشكل
الأمر.
والظاهر في غير الأخير الرجوع إلى القرعة، لأنها لكل أمر مجهول..

(1) في " س ": ليحكم.
52

وفي الأخير عدم نفوذ شئ من الحكمين، لعدم ثبوت نفوذ مثل ذلك.
المسألة العاشرة: ثبوت الاجتهاد - بالعلم الحاصل من الاستفاضة
العلمية، والقرائن المفيدة للعلم، والمخالطة الموجبة له لمن له رتبة فهمه -
واضح.
وبالاستفاضة الظنية - بل بمطلق الظن - محل الخلاف. والأقوى عدم
الثبوت، وفاقا للمعارج والذريعة والمعالم والوافية ومعتمد الشيعة وتجريد
الأصول لوالدي (1)، بل الأكثر كما قيل، للأصل، والظواهر الناهية عن اتباع
الظن.
وخلافا للفاضل في التهذيب، فقال بكفاية غلبة الظن، وحكي عن
مبادئه ونهايته أيضا (2)، وعن شرح المبادئ لفخر المحققين والمنية
للعميدي والذكرى والروضة والجعفرية والمقاصد العلية (3)، وبعض من
عاصرناه.
لإطلاق آية السؤال (4).
ولعدم وسيلة للمقلد إلى تحصيل العلم بالاجتهاد.
وللزوم العسر والحرج لولاه.
ولأصالة عدم لزوم تحصيل العلم وعدم وجوب الرجوع إلى المعلوم
اجتهاده.
ولعدم ثبوت اشتغال الذمة بالرجوع إلى من ظن اجتهاده.

(1) معارج الأصول: 201، الذريعة 2: 801، معالم الأصول: 239.
(2) مبادئ الوصول: 247.
(3) الذكرى: 3، الروضة 3: 67.
(4) النحل: 43.
53

ويضعف الأول: بمنع شمول إطلاق الآية لمن ظن اجتهاده، فإن كون
من ظن أنه من أهل الذكر من أهله غير ثابت.
والثاني: بأن العامي وإن لم يتمكن بنفسه واختباره (1) من تحصيل
العلم، ولكنه يتمكن من تحصيله من الاستفاضة والأخبار المحفوفة بالقرائن
المفيدة للقطع، كيف؟! وإنا نرى العوام والمقلدين مع كثرتهم وعدم
حصرهم جازمين قاطعين باجتهاد جمع من مجتهدي عصرنا من المشايخ
بحيث لا يرتابون فيه أصلا، بل وكذا باجتهاد جمع من المجتهدين
الماضين، وذلك أقوى تضعيف لذلك الدليل.
ولو سلمنا عدم إمكان تحصيله العلم، فهو أيضا غير ضائر بعد حجية
الظن المخصوص له، كشهادة العدلين.
ومنه يعلم ضعف الثالث أيضا. مع أنه إن فرض تعسر تحصيل
المجتهد المعلوم اجتهاده فنقول: إن حصله يرجع إليه، وإلا فعليه ما عليه
لولا المظنون اجتهاده أيضا.
والرابع: بمعارضته مع أصول أخر أقوى مما ذكر ومزيله له.
ومنه يعلم ضعف الخامس أيضا، فإن ذلك إنما يفيد لو لم يعارضه
أصل آخر وثبت من أدلة التقليد جواز الرجوع إلى المشترك.
نعم، يستثنى من الظن المنهي عن اتباعه هنا شهادة العدلين، بل من
غير ملاحظة إفادة الظن أيضا لو لم يظن خلافها، وفاقا للمحكي عن المعالم
والمقاصد العلية ومعتمد الشيعة والتجريد (2)، لأصالة قبول شهادة العدلين

(1) في " ح ": واختياره.
(2) معالم الأصول: 239.
54

وحجيتها، كما بيناها مفصلا في كتاب عوائد الأيام (1).
ويدل عليها قول الصادق (عليه السلام) - في صحيحة حريز - لابنه إسماعيل:
" فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم " (2).
وإطلاق مثل رواية السكوني: " إن شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان
مرضيا ومعه شاهد آخر " (3).
وصحيحة عمار: " إذا كان خيرا جازت شهادته لأبيه، والأب لابنه،
والأخ لأخيه " (4)، وغير ذلك. وكونه في مقام بيان حكم آخر لا يضر، كما
بيناه في موضعه.
ومرسلة يونس: " استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين
عدلين " الحديث (5).
فإن ولاية الاجتهاد أيضا حق ثابت من الله ومن حججه للمجتهد.
خلافا للمحكي عن الذريعة والمعارج والجعفرية والوافية (6)، للأصل
المندفع بما مر.
وهل يشترط كون العدلين مجتهدين، أم لا؟
الظاهر: نعم، بمعنى: كونهما مقتدرين على الترجيح في الجملة في

(1) عوائد الأيام: 273.
(2) الكافي 5: 299 / 1، الوسائل 19: 82 أبواب أحكام الوديعة ب 6 ح 1.
(3) التهذيب 6: 286 / 790، الوسائل 27: 368 أبواب الشهادات ب 26 ح 5.
(4) الكافي 7: 393 / 4، الفقيه 3: 26 / 70، التهذيب 6: 248 / 631، الوسائل
27: 367 أبواب الشهادات ب 26 ح 2.
(5) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم ب 7 ح 4.
(6) الذريعة 2: 801، معارج الأصول: 201.
55

المسائل الشرعية، بناء على ما سيأتي في بحث الشهادات، وذكرناه في
العوائد (1)، من أن الشهادة المقبولة إنما هي المستندة إلى الحس عرفا،
والمحسوس فيما نحن فيه هو مشاهدة ترجيحاته المطابقة للقواعد
وملاحظتها، ولا يتمكن غير المجتهد من فهم المطابقة والصحة، إذ كل من
يدرك ذلك فهو مجتهد.. وقياس الاجتهاد على النظم - حيث إن لغير
الشاعر درك موزونية الشعر - باطل.
نعم، يكفي للشاهد كونه متجزيا، بل يكفي كونه مدركا لصحة
الترجيح الموقوف على تمكنه من الترجيح، وإن لم يتكرر ذلك منه بعد،
بحيث تحصل له الملكة الحاصلة بتكرر الترجيحات والقوة القدسية،
فتأمل.
وإن شئت قت باشتراط كونهما عالمين بمقدمات الاجتهاد، مشرفين
على حصول الاجتهاد بمعنى الملكة، ولكن فهم ذلك على العوام مشكل.
البحث الثاني
في آداب القاضي ووظائفه

(1) عوائد الأيام: 273.
56

اعلم أنهم ذكروا آدابا كثيرة ووظائف عديدة للقاضي، بعضها يتعلق
بالنائب الخاص، وبعضها مشترك بينه وبين العام، ولعدم ترتب فائدة على
الأول نقتصر ها هنا على الثاني.
ثم الآداب المشتركة على قسمين:
أحدهما: ما هو أدب ووظيفة لمن اتخذ القضاء شغلا ومنصبا، وصار
علما بذلك مرجعا للأنام، وجلس مجلس الحكومة، وتشمر لتلك الرئاسة
العامة، فتولى ذلك الشغل الخطير، وتكفل لذلك المهم العظيم، واتخذه
الرعية حاكما وقاضيا، وعرف بذلك، إما لأجل نصب الإمام له بخصوصه،
أو للوجوب العيني أو الكفائي له في زمان الغيبة.
والثاني: ما هو أدب ووظيفة لمطلق الحكم، ولو لمن لم يعرفه
الناس، واتفق له أن يحكم حكما واحدا.
فما كان من الأول يكون آداب المنصب والرئاسة، والثاني آداب
الحكم ولو كان واحدا.
ومثل الفريقين مثل أئمة الجماعات، فإن منهم من اتخذ الإمامة
ديدنا، وفرغ نفسه لها في جميع الأوقات أو أكثرها، ومنهم من ليس كذلك
وإن ائتم به من يعرفه بالعدالة مرة أو مرات.
ويمكن أن يكون نظر كثير من الأصحاب - حيث قرروا عنوانين،
57

أحدهما لآداب القاضي، والثاني لوظائف الحكم - إلى ذلك أيضا، وإن
أدخل بعضهم بعضا من كل منهما في الآخر، ونحن أيضا نذكرهما في
عنوانين وإن دخل بعض من الثاني في الأول، لأن الأمر فيه سهل.
فلنذكر ها هنا ما يتعلق بالأول، ونذكر الباقي في بحث وظائف
الحكم، ونورد ما يتعلق بالأول في طي مسائل:
المسألة الأولى: ينبغي له أن يستحضر حكمه أهل العلم،
ويشاورهم، ويناظرهم، لا لتقليدهم، بل لينبهوه على الخطأ إن وقع منه
سهوا وغفلة، ويستوضح منهم ما عسى أن يشكل عليه.
ومنه يظهر أنه لا ينحصر من ينبغي إحضاره بالمجتهدين، إذ يجوز
لغير المجتهد تنبيه المجتهد إذا نسي أو غفل، فإنه قد يعرف المفضول ما لا
يعرفه الفاضل، ويتنبه التلميذ لما لا يتنبه له الأستاذ.. فما في المسالك
- من أن المراد من أهل العلم المجتهد - ليس بجيد.
وأن يجمع ما يتعلق بكل يوم وأسبوع وشهر وسنة من القضايا
ووثائقها وحججها، ويكتب عليها تأريخها وأسامي أهلها، فإن اجتمع
كل شهر كتب عليه شهر كذا، أو سنة فسنة كذا، أو يوم فيوم كذا،
ليكون أسهل عليه وعلى من بعده من الحكام في استخراج المطلوب منها
وقت الحاجة.
المسألة الثانية: ينبغي له أن يتخذ كاتبا، لمسيس الحاجة، وعمل
النبي (صلى الله عليه وآله) وخلفائه.
ويشترط كونه: بالغا، عاقلا، مسلما، عدلا، بصيرا، ليؤمن من خيانته
وانخداعه.
58

ويستحب كونه: فقيها، جيد الخط، عفيفا من الطمع، لئلا ينخدع
عن غيره بمال ومثله.
وينبغي أن يجلس بين يديه ليملي عليه ويشاهد ما يكتب.
المسألة الثالثة: القضاء في المسجد مكروه مطلقا، وفاقا للأكثر كما
في معتمد الشيعة، لمرسلة ابن أسباط: " جنبوا مساجدكم الشري، والبيع،
والمجانين، والصبيان، والأحكام، والضالة، والحدود، ورفع الصوت " (1).
ومرسلة الفقيه: " جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، ورفع
أصواتكم، وشراءكم، وبيعكم، والضالة، والحدود، والأحكام " (2).
والاستدلال بالنبوي: " جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم،
وخصوماتكم " (3) منظور فيه.
وقيل باستحبابه كذلك (4)، لأن المسجد للذكر، ومنه القضاء، ولكونه
أفضل الأعمال اللائق بأشرف البقاع.
وقيل بالإباحة كذلك (5)، للأصل، وفعل علي (عليه السلام)، حتى أن دكة
قضائه مشهورة.
وقيل بكراهة الدائم دون غيره، جمعا بين أدلة المنع والجواز (6).
والجواب: أما عن أول دليلي الاستحباب: فيمنع كون المسجد لمطلق

(1) التهذيب 3: 249 / 682، علل الشرائع: 319 / 2، الخصال: 410 / 13،
الوسائل 5: 233 أبواب أحكام المساجد ب 27 ح 1.
(2) الفقيه 1: 154 / 716، الوسائل 5: 234 أبواب أحكام المساجد ب 27 ح 4.
(3) سنن ابن ماجة 1: 247 / 750.
(4) كما في المراسم: 656.
(5) كما في التنقيح 4: 241.
(6) كما في الدروس 2: 73.
59

الذكر، بل في رواية جعفر بن إبراهيم: " إنما نصبت المساجد للقرآن " (1).
سلمنا، ولكن كون القضاء ذكرا ممنوع.
وأما عن ثانيهما: فبأنه اجتهاد في مقابلة النص.
وأما عن دليلي الإباحة: فباندفاع الأصل بما مر، وعدم ثبوت فعل
علي (عليه السلام). واشتهار الدكة لا يثبته، لمنع ثبوتها أولا، وكونها دكة قضاء
علي (عليه السلام) ثانيا، وكونها من المسجد في الصدر الأول ثالثا.
وأما عن دليل التفصيل: فبأن المراد بأدلة الجواز إن كان أدلة جواز
القضاء في المسجد فلا دليل، وإن كان أدلة جوازه مطلقا فالجمع
بالتخصيص متعين كما هو القاعدة، مع أن هذا الجمع لا شاهد له.
فإن قيل: وجوب القضاء فوري، وهو مناف لكراهيته.
قلنا: الثابت الفورية العرفية دون الحقيقية، فيخرج عن المسجد ويقضي.
المسألة الرابعة: قالوا: يكره له اتخاذ الحاجب. والمراد به: ما يمنع
من وصول المتخاصمين إليه مطلقا.
للنبوي: " من ولي شيئا من أمور الناس فاحتجب دون حاجتهم
وفاقتهم احتجب الله تعالى دون حاجته وفاقته وفقره " (2).
ولأن قضاء حاجتهم مطلوب، فتركه مكروه، واتخاذ الحاجب سببه،
وسبب المكروه مكروه.
وربما نقل قول بتحريمه عن بعض الفقهاء، وقربه فخر المحققين إن
كان على الدوام، واستحسنه الشهيد الثاني (3). والأقرب: الكراهة.

(1) الكافي 3: 369 / 5، التهذيب 3: 259 / 725، الوسائل 5: 213 أبواب أحكام
المساجد ب 14 ح 1.
(2) مستدرك الحاكم 4: 93، سنن البيهقي 10: 101.
(3) كل ذلك في المسالك 2: 358.
60

ولا بد من تقييده بما إذا لم يجب عليه القضاء مطلقا أو فورا، وإلا
يحرم، لأن سبب الحرام حرام.
وبما إذا كان في مكان غير مباح لمن لم يأذنه، وإلا فلا يجوز له
المنع.
فإن قيل: فعلى هذا يتعارض دليل الاستئذان مع دليل الكراهة
والحرمة هنا.
قلنا: لا تعارض، لأن مدلول الأول لزوم استئذان الداخل، ومدلول
الثاني رجحان إذن القاضي.
وبما إذا لم يكن له أمر مساو أو أهم، وإلا فيجوز أو يستحب.
ولكن ذكر القيدين الأخيرين غير لازم، لأن الكلام في القاضي من
حيث هو قاض، ولذا خصصنا الممنوع بالمتخاصمين، فإن كراهة منعهما
جعله أوجب من آداب القاضي.
وأما منع سائر المؤمنين من المتزاورين والمترددين فغير مخصوص
به، وليس هنا موقع تحقيقه، ولذا اقتصروا بذكر ما يدل على كراهة منع
الوالي مع تكثر أخبار المنع عن الاحتجاب.
المسألة الخامسة: يكره القضاء مع الغضب، والجوع، والعطش،
والهم، والحزن، ومدافعة الأخبثين.
للحسن: " من ابتلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان " (1).
ومرفوعة البرقي: " لا تقضين وأنت غضبان " (2).

(1) الكافي 7: 413 / 2، الفقيه 3: 6 / 19، التهذيب 6: 226 / 542، الوسائل 27:
213 أبواب آداب القاضي ب 2 ح 1.
(2) الكافي 7: 413 / 5، الفقيه 3: 7 / 24، التهذيب 6: 227 / 546، الوسائل 27:
213 أبواب آداب القاضي ب 2 ح 2.
61

ورواية سلمة: " ولا تقعدن في مجلس القضاء حتى تطعم " (1).
وفي النبوي: " لا يقضي إلا وهو شبعان ريان " (2).
وفي آخر لا يقضي وهو غضبان مهموم ولا مصاب محزون " (3).
وقد يستثنى الغضب لله تعالى، لقضية الزبير والأنصاري (4). وفيه
نظر.
والمروي في أمالي الشيخ: إن رجلا سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن
سؤال فبادر فدخل منزله، ثم خرج فقال: " أين السائل؟ " فقال الرجل: ها
أنا يا أمير المؤمنين، قال: " ما مسألتك؟ " قال: كيت وكيت، فأجابه عن
سؤاله، فقيل: يا أمير المؤمنين كنا عهدناك إذا سئلت عن المسألة كنت فيها
كالسكة المحماة جوابا، فما بالك أبطأت اليوم عن جواب هذا الرجل حتى
دخلت الحجرة؟ فقال: " كنت حاقنا، ولا رأي لثلاثة: لا لحاقن، ولا
حاقب، ولا حازق " (5).
وقد صرحوا بكراهة سائر ما يشبه المذكورات من شاغلات النفس
ومشوبات الخاطر، ولا بأس به وإن لم أعثر على نص عام.
ويمكن استنباط الجميع من التعليل المذكور في المروي عن الأمالي.
المسألة السادسة: يكره له تولي التجارة، لقوله (صلى الله عليه وآله): " ما عدل وال

(1) الكافي 7: 412 / 1، الفقيه 3: 8 / 28، التهذيب 6: 225 / 541، الوسائل 27:
211 أبواب آداب القاضي ب 1 ح 1.
(2) سنن البيهقي 10: 106.
(3) أورده في المسالك 2: 359 والرياض 2: 389، ولم نعثر على مصدره.
(4) كما في سنن البيهقي 6: 153.
(5) أمالي الشيخ الطوسي: 525. قال في معاني الأخبار: 237، الحاقن الذي به
البول، والحاقب الذي به الغائط، والحازق الذي به ضغطة - الخف.
62

اتجر في رعيته " (1).
وأما البيع والشراء نادرا - بحيث لا تصدق التجارة - فلا يكره، وينبغي
تركه، لبعض الاعتبارات العقلية.
والانقباض المانع من اللحن بالحجة.
واللين الباعث على الجرأة، وتكلمهم بما لا يعني.
وارتكاب الحكومة بنفسه، أي أن يحضر مع خصمه في منازعة بين
يدي قاض، قيل: لما روي: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) وكل عقيلا في خصومة،
ولما روي أن: " للخصومات قحما وإني لأكره أن أحضرها " (2).
وفي دلالتهما نظر، وقد حضر أمير المؤمنين (عليه السلام) المحاكمة في
دعوى درع طلحة (3) وغيرها.
نعم، يدل على كراهته بعض الاعتبارات.
المسألة السابعة: يستحب أن يكون كاتبه - إن احتاج إليه - فقيها،
جيد الخط - لئلا يغلط في الكتابة، ولا يشتبه خطه - بالغا، عاقلا، مسلما،
عادلا، بصيرا بما هو موكول إليه.. بل ربما يجب بعض ذلك، لتؤمن
خيانته وانخداعه بتزوير بعض الخصوم.
وأن يجلس كاتبه بين يديه ليملي عليه المطالب، فيكتبها ويشاهد ما
يكتبه، ليأمن من الغلط.
وإذا افتقر القاضي إلى مترجم فلا بد من مترجمين عدلين.

(1) الجامع الصغير للسيوطي 2: 500 / 7941، المغني لابن قدامة 11: 440 / 8269.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19: 107 / 260، والقحمة: المهلكة - مجمع
البحرين 6: 134.
(3) الكافي 7: 385 / 5، الفقيه 3: 63 / 213، التهذيب 6: 273 / 747، الإستبصار
3: 34 / 117، الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 6.
63

البحث الثالث
في بعض الأحكام المتعلقة بالقاضي
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفت كلماتهم في جواز أخذ الأجرة والجعل
على القضاء من المتخاصمين أو أحدهما أو غيرهما.
فقال في الكفاية: ولا أعرف خلافا بين الأصحاب في أنه لا يجوز له
أخذها من المتخاصمين مع وجود الكفاية من بيت المال، ومع وجود
الحاجة إليه ففي جواز أخذه منهما أو من أحدهما قولان، أشهرهما:
المنع (1). انتهى.
ونقل والدي في معتمد الشيعة الإجماع على الحرمة صريحا مع عدم
الحاجة.
وقال في التحرير: أما أخذ الأجرة عليه فإنه حرام بالإجماع، سواء
تعين عليه أو لم يتعين، وسواء كان ذا كفاية أو لا (2).
وفي المسالك: فمع وجود الكفاية من بيت المال لا يجوز له أخذها
من المتخاصمين مطلقا، ومع عدمها ووجود الحاجة إليها ففي جواز أخذه
منهما أو من أحدهما قولان، أشهرهما: المنع (3). انتهى.
وظاهره أيضا عدم الخلاف في المنع مع وجود الكفاية.

(1) الكفاية: 262.
(2) التحرير 2: 180.
(3) المسالك 2: 354.
64

وقال بعض الأجلة: ولو أخذ الجعل من المتخاصمين، فإن لم يتعين
للحكم وحصلت الضرورة قيل: جاز، وإن تعين للقضاء أو كان مكتفيا لم
يجز له أخذ الجعل قولا واحدا (1). انتهى.
وعن المبسوط أنه قال: عندنا لا يجوز بحال (2). وظاهره الإجماع
على المنع في الصورتين، ونقل الإجماع عليه عن الخلاف أيضا (3).
وقال في الشرائع: أما لو أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف،
والوجه التفصيل، فمع عدم التعيين وحصول الضرورة قيل: يجوز، والأولى
المنع، ولو اختل أحد الشرطين لم يجز (4). انتهى.
وظاهره وجود الخلاف مع عدم الضرورة أيضا.
وقال في المفاتيح: أما لو شرط على المتخاصمين أو أحدهما جعلا
ليفصل الحكومة بينهما - من غير اعتبار الحكم لأحدهما، بل من اتفق
الحكم له منهما على الوجه المعتبر - جاز عند بعضهم (5).
وظاهره الجواز في الحالين أيضا.
وقال في شرحه: والمشهور أن القاضي لو شرط على المتخاصمين أو
أحدهما بذله جعلا له - ليفصل المنازعة من غير اعتبار أن يحكم للباذل
بخصوصه - جاز له أخذ ذلك، بل لو شرط الجعل على من اتفق الحكم
لأحدهما على الوجه الموافق للحق - بأن قال: من غلب منكما فلي عليه كذا -
جاز أيضا عند الأكثر. انتهى.

(1) كشف اللثام 2: 143.
(2) نقله عنه في كشف اللثام 2: 143، وقد يستفاد من المبسوط 8: 85.
(3) الخلاف 2: 598.
(4) الشرائع 4: 69.
(5) المفاتيح 3: 251.
65

وظاهره أيضا الجواز، بل شهرته في الحالين.
ونقل عن الحلبي والحلي والمحقق الثاني (1) وجماعة (2): المنع.
وعن المفيد والنهاية والقاضي: الجواز مع الكراهة (3).
وكيف كان، فالحق: عدم الجواز مطلقا مع الكفاية، لظاهر الإجماع،
ولما مر في بحث التجارة من عدم جواز أخذ الأجرة على الواجب.
ولصحيحة ابن سنان: عن قاض بين فريقين يأخذ من السلطان على
القضاء الرزق، فقال: " ذلك السحت " (4)، فإن الظاهر من الرزق على القضاء
كونه بإزائه، فيكون أجرا، وهو غير ارتزاق القاضي كما يأتي.. وبذلك
يظهر ضعف تضعيف دلالتها، واحتمال حمل السحت فيها على الكراهة
بالإجماع على حلية الارتزاق.
والمروي في الخصال: " السحت أنواع كثيرة "، وعد منها أجور القضاة (5).
مضافا في صورة التعيين إلى عدم جواز توقيف أحد الواجب عليه
على الشرط، لأنه عمل لنفسه لا لأحد المتحاكمين.. بل قد يضاف ذلك
في صورة عدم التعيين أيضا، لما ذكر.
وفيه: أن المسلم عدم جواز التوقيف في الواجب العيني، ولذا قيل

(1) الحلبي في الكافي في الفقه: 283، والحلي في السرائر 2: 217، والمحقق
الثاني في جامع المقاصد 4: 36.
(2) منهم المحقق في الشرائع 4: 69، والعلامة في القواعد 2: 202، والشهيد في
الدروس 2: 69.
(3) المفيد في المقنعة: 588، النهاية: 367، والقاضي في المهذب 2: 586.
(4) الكافي 7: 409 / 1، الفقيه 3: 4 / 12، التهذيب 6: 222 / 527، الوسائل 27:
221 أبواب آداب القاضي ب 8 ح 1.
(5) الخصال: 329 / 26، الوسائل 17: 95 أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 12.
66

بجواز أخذ الأجرة فيما لا تشترط فيه القربة من الكفائيات، غاية الأمر أن
إيجاد ما تعلق به الوجوب لا يكون من جهة امتثال أمر الشارع، ولا يكون
الفاعل ممتثلا، ولا يلزم منه عقاب، أما على الفاعل فلعدم الوجوب عليه،
وأما على الجميع فلسقوط الواجب عنهم، لأن الواجبات الكفائية الغير
المشروطة بالقربة توصلية، ولازم الوجوب التوصلي تقييده بعدم تحقق
التوصل، فإذا حصل سقط.
ولكن الحق - كما سبق في كتاب التجارة - عدم جواز الأجرة على
الواجب على الفاعل مطلقا، عينيا أو كفائيا، محتاجا إلى نية القربة أم لا.
وأما مع الضرورة وعدم الكفاية، فمع التعيين لا يجوز أيضا إجماعا
كما صرح به والدي في معتمد الشيعة، لأن اشتراط الجعل توقيف لامتثال
أمر الشارع الواجب عليه على شرط وهو غير جائز.
وأما بدون التعيين، فقيل: يجوز، لانحصار الدليل على المنع حينئذ
بإطلاق الصحيحة والرواية، وهو معارض بأدلة نفي الضرر، وهي راجحة
بموافقة الكتاب ومعاضدة الاعتبار وأكثرية الأخبار، ولولا الرجحان أيضا
لكان المرجع إلى أصالة الجواز.
ولا يرد انتفاء الضرر بتحصيل الكفاية من المعدات لذوي الحاجات
والمبرات، لأن المفروض انتفاؤها أو تعسر أخذها عليه.
ومنعها والدي (رحمه الله) بإمكان دفع الضرر بترك القضاء وخروجه عن
الاستحباب حينئذ.
والحاصل: أن تعارض أدلة نفي الضرر مع أدلة حرمة الأجر إنما هو
إذا لم يجز ترك القضاء، ومع عدم التعيين يجوز، فلا تعارض، فيعمل
67

بالدليلين بترك القضاء الذي لا محذور فيه.
وهو كذلك، فالحرمة حينئذ هي الأقوى، لتعارض دليلي نفي الضرر
وحرمة الأجرة مع دليل القضاء، فلا يعلم الإذن في القضاء هنا، فلا يجوز.
ومنه يظهر فساد ما قد يقال من حصول ذلك التعارض مع التعيين
أيضا بين دليل التعيين وأدلة نفي الضرر، فيرجع إلى الأصل فيجوز.
لأن الرجوع إلى الأصل يوجب تحريم القضاء ووجوب التكسب
لدفع الضرر، فإن هذا إنما يتم لو لم يمكن دفع الضرر إلا بأخذ الأجرة،
والمفروض إمكان دفعه بالتكسب، وإلا لم يكن القضاء موجبا للضرر.
المسألة الثانية: يجوز له الارتزاق من بيت المال، ولو مع التعيين
وعدم الحاجة، كما صرح بهما والدي في معتمد الشيعة، وادعى بعضهم
الإجماع عليه.
لمرسلة حماد الطويلة، وفيها: " ويؤخذ الباقي، فيكون ذلك أرزاق
أعوانه على دين الله، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين
في وجوه الجهاد، وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة " (1) الحديث.
وقيد في اللمعة الجواز بالحاجة (2). ولا وجه له بعد عموم الرواية
المنجبرة.
ومعنى الارتزاق منه: هو أخذ الرزق منه لأجل كونه قاضيا، لا لقضائه
وعليه وبإزائه.. وإعطاء الوالي أيضا كذلك.
والفرق بين المعنيين واضح، فإن الأخ يعطي أخاه لكونه أخا له،

(1) الكافي 1: 539 / 4، التهذيب 4: 128 / 366، الوسائل 27: 221 أبواب آداب
القاضي ب 8 ح 2.
(2) اللمعة (الروضة البهية 3): 71.
68

لا لأجر الأخوة وبإزائه.. وكذا من وقف على المؤذن مثلا أو نذر له شيئا
فهو يعطيه لأجل كونه مؤذنا، لا بإزاء أذانه.. ولذا لو وقف أحد ضياعا على
شيعة بلده أو صائميه يجوز لهم الارتزاق من نمائه، مع أنه لا يجوز أخذ
شئ بإزاء التشيع والصوم.
ومن هذا يظهر أنه لا تعارض بين المرسلة وبين الصحيحة والرواية،
لعدم كون المأخوذ حينئذ أجرا أو رزقا على القضاء، وإن كان رزقا لكونه
قاضيا.
وهل يكره له ذلك مع اليسار؟.
صرح والدي في معتمد الشيعة بالكراهة، ناسبا له إلى الأكثر،
لصحيحة ابن سنان المتقدمة.
وفي دلالتها نظر يظهر مما مر.
نعم، لا بأس بالقول بالكراهة، لحكايتها عن الأكثر.
ولو لم يكن بيت المال، فهل يجوز له الارتزاق من سائر الوجوه التي
مصرفها الخير أو سبيل الله؟
الظاهر: الجواز مع الضرورة والحاجة، لتوقف التوصل إلى ذلك الخير
العام بالارتزاق، وأما بدونها فيشكل، سيما مع التعيين، بل لا يجوز حينئذ
البتة، كما لا يجوز صرفها إلى المصلين والصائمين لأجل صلاتهم وصيامهم.
المسألة الثالثة: يحرم على القاضي أخذ الرشوة - مثلثة الراء -
إجماعا من المسلمين، للمستفيضة من المعتبرة.
وفي موثقة سماعة: " إن الرشا في الحكم هو الكفر بالله " (1).

(1) الكافي 7: 409 / 2، التهذيب 6: 222 / 526، الوسائل 27: 222 أبواب آداب
القاضي ب 8 ح 3.
69

وفي مضمرته: " فأما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم " (1).
وكذا في روايته (2)، ومرسلة الفقيه (3)، ورواية عمار بن مروان (4).
وفي رواية يزيد بن فرقد: عن السحت، فقال: " الرشا في الحكم " (5).
وفي رواية السكوني: قال: " السحت ثمن الميتة " إلى أن قال:
" والرشوة في الحكم " (6).
وكما يحرم عليه أخذها كذلك يحرم على باذلها دفعها، لأنه إعانة
على الإثم والعدوان، ولقوله (عليه السلام): " لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم " (7).
ولا كلام في شئ من ذلك، وإنما الكلام في أمور ثلاثة:
أحدها: أن الرشوة المحرمة ما هي؟
وثانيها: أنه هل خصص من تحريم الإرشاء والارتشاء صورة، أم لا؟
وثالثها: في التفرقة بينها وبين الهدية للقاضي، وأنها هل هي أيضا
رشوة، أو كالرشوة محرمة، أم لا؟
أما الأول: فلا كلام في أن الرشوة للقاضي هي: المال المأخوذ من

(1) الكافي 5: 127 / 3، التهذيب 6: 352 / 997، الوسائل 17: 92 أبواب ما
يكتسب به ب 8 ح 2.
(2) تفسير العياشي 1: 321 / 112، الوسائل 27: 223 أبواب آداب القاضي ب 8
ح 8.
(3) الفقيه 3: 105 / 435، الوسائل 17: 94 أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 8.
(4) الكافي 5: 126 / 1، التهذيب 6: 368 / 1062، الوسائل 17: 92 أبواب ما
يكتسب به ب 5 ح 1.
(5) الكافي 5: 127 / 4، الوسائل 17: 93 أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 4.
(6) الكافي 5: 126 / 2، التهذيب 6: 368 / 1061، تفسير القمي 1: 170،
الخصال: 329 / 25، الوسائل 17: 93 أبواب ما يكتسب به ب 5 ح 5.
(7) سنن الترمذي 2: 397 / 1351، سنن ابن ماجة 2: 775 / 2313، مسند أحمد
2: 387، مستدرك الحاكم 4: 103.
70

أحد الخصمين أو منهما أو من غيرهما للحكم على الآخر، وإهدائه
وإرشاده في الجملة.
إنما الكلام في أن الحكم أو الإرشاد المأخوذين في مهيته، هل هو
مطلق شامل للحق والباطل، أو يختص بالحكم بالباطل؟
مقتضى إطلاق الأكثر وتصريح والدي العلامة في معتمد الشيعة
والمتفاهم في العرف هو: الأول، وهو الظاهر من القاموس والكنز ومجمع
البحرين (1).
ويدل عليه استعمالها فيما أعطي للحق في الصحيح: عن الرجل
يرشو الرجل على أن يتحول من منزله فيسكنه، قال: " لا بأس " (2).
فإن الأصل في الاستعمال إذا لم يعلم الاستعمال في غيره الحقيقة،
كما حقق في موضعه.
نعم، عن النهاية الأثيرية ما ربما يشعر بالتخصيص (3) ككلام بعض
الفقهاء، وهو لمعارضة ما ذكر غير صالح، مع أن الظاهر أن مراد بعض
الفقهاء تخصيص الحرمة دون الحقيقة.
وأما الثاني: فمقتضى إطلاق الأخبار التعميم.
وقد يخص الجواز للمرتشي إذا كان يحكم بالحق وإن لم يرتش.
وهو ضعيف غايته.
وقد يخص الجواز للراشي إذا كان محقا ولا يمكن وصوله إلى حقه
بدونها، ذكره جمع كثير (4) منهم الوالد الماجد.

(1) القاموس المحيط 4: 336، مجمع البحرين 1: 184.
(2) التهذيب 6: 375 / 1095، الوسائل 17: 278 أبواب ما يكتسب به ب 85 ح 2.
(3) النهاية الأثيرية 2: 226، قال: فالراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل.
(4) منهم المحقق في الشرائع 4: 78، والشهيد الثاني في المسالك 2: 364،
والروضة 3: 75.
71

وهو حسن، لمعارضة اطلاقات تحريمها مع أدلة نفي الضرر، فيرجع
إلى الأصل لو لم يرجح الثاني، ولكن الجواز حينئذ مخصوص بالراشي دون
المرتشي.
وقد يخص أيضا (1) بما إذا أرشى وارتشى للحكم بالباطل، إما
لاختصاص حقيقتها بذلك كما مر، وضعفه قد ظهر.. أو لتخصيص ذلك
بالصحيحة المذكورة المجوزة للإرشاء للتحول من منزله، ويضعف بأن
الكلام في الرشا في الحكم دون التحول من المنزل.
وأما الثالث: فالفرق بين الرشوة والهدية: أن الأولى - كما عرفت -:
هي المال المبذول للتوصل به إلى الحكم ابتداء أو إرشادا. والثانية: هي
العطية المطلقة، أو لغرض آخر نحو التودد أو التقرب إليه أو إلى الله.
والحاصل: أن كل مال مبذول لشخص للتوصل به إلى فعل صادر منه
ولو مجرد الكف عن شره لسانا أو يدا أو نحوهما فهو رشوة.
ولا فرق في الفعل - الذي هو غاية البذل - أن يكون فعلا حاضرا، أو
متوقعا، كأن يبذل للقاضي لأجل أنه لو حصل له خصم يحكم للباذل، وإن
لم يكن له بالفعل خصم حاضر ولا خصومة حاضرة.
وكل مبذول لا لغرض يفعله المبذول له، بل لمجرد التودد أو التقرب
إلى الله أو إليه أو لصفة محمودة أو كمال فيه، فهو هدية، وإن كان الغرض
من التودد والتقرب إليه الاحتفاظ من شر شخص آخر أو التوصل إلى فعل
شخص آخر يوجبه التقرب والتودد إليه.
وقد يستعمل لفظ أحدهما في معنى الآخر تجوزا.

(1) يعني: الحكم بالحرمة.
72

فما كان من الأول، فإن كان الفعل المقصود الحكم فهو حرام مطلقا
كما مر، سواء كان الحكم لخصومة حاضرة أو فرضية، ولذا حكموا بحرمة
الهدية الغير المعهودة قبل القضاء، لأنه قرينة على أن المقصود منه الحكم
ولو فرضا.
وهو كذلك، لصدق الرشوة عرفا، فتشمله إطلاقاتها، وعليه يحمل
إطلاق ما ورد في طريق العامة والخاصة كما في أمالي الشيخ: " إن هدايا
العمال " كما في بعضها، أو: " هدية الأمراء " كما في بعض آخر " غلول " أو
" سحت " (1).
وتدل عليه أيضا رواية أبي حميد الساعدي: قال: استعمل النبي (صلى الله عليه وآله)
رجلا - يقال له: اللثة - على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي
لي، فقام النبي (صلى الله عليه وآله) على المنبر فقال: " ما بال العامل نبعثه على أعمالنا
يقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، فهلا جلس في قعب بيته أو في بيت أمه
فينظر أيهدى له أم لا، والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء يوم
القيامة يحمله على رقبته " الحديث (2).
وإن كان غير الحكم، فإن كان أمرا محرما فهو أيضا كرشوة الحكم
محرم، لكونه إعانة على الإثم واتباعا للهوى.
وإن لم يكن محرما فلا يحرم، للأصل، واختصاص الأخبار المتقدمة
برشوة الحكم.
وما كان من الثاني لا يحرم.
وقيل بحرمته للقاضي أيضا إن كان للباذل خصومة حالية أو مالية،

(1) أمالي الشيخ 1: 268، الوسائل 27: 223 أبواب آداب القاضي ب 8 ح 6.
(2) سنن البيهقي 4: 158.
73

لإيجابه ميل قلبه، وانكسار قلب خصمه.
وفيه: أن إيجاب الميل القلبي لا يوجب التحريم، وحرمة كسر قلب
الخصم إنما تتأتى في الخصومة الحاضرة أو الواقعة يقينا ولو بعد حين،
ومع ذلك يوجب كسر قلبه إذا كان بحيث يطلع عليه، فلو فرض إهداء
شئ علم أن غرضه ليس فعلا أصلا ولم يطلع خصمه عليه لا يكون
حراما، وأما حصول ذلك العلم فهو أمر لا يكاد يحصل غالبا.
ولو لم يعلم مقصوده وأن المبذول هل هو من الأول أو الثاني، فمقتضى
الأصل الحلية، إلا أن تدل على قصده القرينة، ومنها: عدم الاعتياد قبل القضاء،
ومنها: حضور خصومة له أو عليه أو حصولها له بعد ذلك علما أو ظنا.
ولو لم يعتبر ذلك في التميز لزم عدم حرمة رشوة إلا ما صرح به
الراشي أنه للحكم، وهو خلاف الإجماع.
ولو تعارضت القرينتان - كأن يكون ذلك ممن جرت عادته بذلك
قبل حصول الخصومة، كالقريب والصديق الملاطف، فبذل بعد حضورها
أيضا - فالأحوط عدم القبول، بل الأحوط للقاضي سد باب الهدايا مطلقا،
بل حكم جمع بكراهتها له، ولا بأس به، لفتواهم.
فرع: يجب على المرتشي ردها على الراشي - وإن بذلها برضى نفسه -
مع بقاء عينها إجماعا، والوجه فيه ظاهر.
ويجب عليه رد عوضها مع تلفها أيضا - وإن لم يكن التلف بتفريطه -
وجوبا فوريا، على المصرح به في كلام الأصحاب، بل نفي الخلاف بيننا
عنه (1)، وعن ظاهر المسالك (2) وغيره: إجماعنا عليه.

(1) كما في غنائم الأيام: 675.
(2) المسالك 1: 167.
74

وهو أيضا فيما إذا كان بذلها من غير رضى الباذل وطيب نفسه ظاهر،
وأما لو بذلها بطيب نفسه - سيما إذا حكم له بالحق - فإن ثبت الإجماع على
ثبوت غرامتها عليه وضمانه إياها مطلقا، وإلا فللتأمل فيه - للأصل - مجال
واسع.
المسألة الرابعة: صرح جماعة - منهم: المحقق في الشرائع والفاضل في
القواعد والتحرير والإرشاد ووالدي العلامة (رحمه الله) في معتمد الشيعة - بعدم
نفوذ قضاء القاضي على من لا تقبل شهادته عليه، ولا لمن لا تقبل
شهادته له (1).
واستدلوا له بكونه شهادة وزيادة.
وفيه: منع ظاهر وإطلاقات نفوذ حكم الحاكم يشمل الجميع، فلا
مناص عن الحكم بالعموم إلا أن يثبت الإجماع على ما ذكروه، ولكنه غير
ثابت، بل قال بعض الأجلة في شرحه على القواعد: وخص بعضهم المنع
بقاضي التحكيم (2).
وجوزه المحقق الأردبيلي، لعموم الأدلة.
نعم، لا ينفذ حكم الحاكم لنفسه على خصمه إجماعا، لاختصاص
النصوص بما يتضمن الحكم للمتنازعين، أو ما يتبادر منه غير نفسه، بل
لإطلاق الأوامر بالرجوع إلى الحاكم، والنظر في التنازع والحوادث إلى من
علم أو عرف، أو رواة الحديث، من غير تفصيل بين العالم والعارف
والراوي وغيرهم، والرجوع وأمثاله لا يكون إلا إلى الغير.
ويدل عليه أيضا ما ورد في تنازع رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع الأعرابي في

(1) الشرائع 4: 71، القواعد 2: 202، التحرير 2: 181.
(2) كشف اللثام 2: 143.
75

ثمن الناقة (1) والفرس (2)، وتنازع ولي الله مع عقيل (3) وعباس (4). ويؤكده
تصريح الأصحاب بكراهة توليه للترافع مع خصمه عند حاكم آخر،
واستحباب التوكيل له.
ومنه يظهر عدم نفوذ حكمه فيما له الشركة فيه إذا كان هو أو وكيله
الخصم، لأنه حينئذ مأمور بالرجوع إلى الحاكم، ولا معنى لرجوع أحد إلى
نفسه.
وأما لو كان الخصم شريكه - كأن يدعي أخوه دارا في يد غيره بحق
الإرث - ينفذ حكمه في حق أخيه، للإطلاقات.. ولا يثبت منه حقه
حينئذ، لعدم حكمه لنفسه وعدم نفوذه لو حكم، فلو ترك المدعى عليه
الكل نفذ حكمه في النصف ولم يتنازع في نصف الحاكم أيضا فلا بحث،
وإن نازع معه يتحاكمان إلى ثالث، وإن حكم بخلاف ما حكم هو لأخيه،
كما إذا تحاكم كل من الشريكين مع خصمه إلى حاكم غير ما تحاكم به
الآخر فحكما كذلك، كل بحكم غير حكم الآخر.
وكذا إن ادعى أحد على أخيه حصته من دار مورثه ينفذ حكم الحاكم
لأخيه فيه، ولا تسقط به دعوى المدعي في حصة الحاكم، فلو ادعى
يتحاكمان إلى ثالث.
فإن قيل: ثبوت حق الشريك يستلزم ثبوت حق الحاكم أيضا، فثبوت

(1) الفقيه 3: 60 / 210، أمالي الصدوق: 90 مجلس 22، الإنتصار: 238، الوسائل
27: 274 أبواب كيفية الحكم ب 18 ح 1.
(2) الكافي 7: 400 / 1، الفقيه 3: 62 / 213، الوسائل 27: 276 أبواب كيفية
الحكم ب 18 ح 3.
(3) مناقب آل أبي طالب 2: 109.
(4) رجال الكشي 1: 279 / 109، 110.
76

المحكوم به لشريكه دون نفسه يستلزم تخلف الملزوم عن اللازم، وهو
باطل البتة، فيجب إما عدم نفوذ الحكم أصلا، أو ثبوت المحكوم به في
حصة الحاكم أيضا، بأن يثبت للشريك - لعمومات نفوذ حكم الحاكم
للغير - ولنفسه لأجل الاستلزام، ولكن ثبوته فيما له شركة فيه خلاف
الإجماع القطعي، فلا بد أن لا ينفذ في شئ منهما.
قلنا: ليست هذه اللوازم لوازم عقلية لا يمكن تخلفها عن الملزوم،
بل أمور شرعية قابلة للتخصيص، فالعمومات توجب نفوذ الحكم في حق
الشريك، والإجماع يمنع نفوذه في حق الحاكم، لأن بالإجماع تنفى
الملازمة هنا، ولا يمكن نفي ثبوت الملزوم، لعدم الإجماع فيه، وكون
عمومات النفوذ خالية عن المعارض.
وهل ينفذ حكمه لمن له الولاية بالأبوة أو الجدودة أو الوصاية عليه،
أم لا؟
قال في التحرير: ولو تولى وصي اليتيم القضاء فهل يقضي له؟ فيه
نظر ينشأ من كونه خصما في حقه كما في حق نفسه، ومن أن كل قاض هو
ولي الأيتام (1). انتهى.
والتحقيق: أنه إن كان الخصم والمنازع هو الحاكم فلا ينفذ حكمه
ولا بد من الرجوع إلى الغير، وإن كان غيره - كشريك لمن هو وليه - فينفذ
حكمه في حصة الشريك والمولى عليه له.
أما في حصة الشريك فبعمومات نفوذ حكمه.
وأما في حصة المولى عليه فبأدلة الملازمة بين ثبوت ذلك المال وبين

(1) التحرير 2: 181.
77

شركة المولى عليه، فإذا حكم أنه مال مورث الشريك فثبت حق المولى
عليه بأدلة الإرث.
بل وكذا غير المولى عليه والمدعي، فلو ثبت بعد دعوى المدعي
كون الملك الفلاني مال مورثه وحكم بحصته له ثبتت حصة سائر الكبار
أيضا، فلهم المطالبة بذلك الإثبات من غير حاجة إلى إقامة الشاهد ثانيا.
نعم، لو اعترف ذلك بعدم حقية نفسه يعارض ذلك دليل الاستلزام
ويرجع إلى الأصل.
فإن قيل: ما الفرق بين حصة الحاكم نفسه، فكانت لا تثبت
بالاستلزام وتثبت حصة من له الولاية عليه؟
قلنا: الفارق هو الإجماع المتقدم، فإنه معلوم في حصة نفسه، ولولاه
لقلنا بثبوتها أيضا، ولا إجماع هنا حتى من جهة ما يثبت للحاكم أيضا من
التسلط في التصرف بحق الولاية، إذ لم يتحقق الإجماع إلا في حصته
المالية.
وكذا الحكم في سائر الأيتام والمجانين والغيب الذي له الولاية عليه
عموما، فلا ينفذ حكمه لهم لو كان هو الخصم والمنازع، وينفذ حكمه لو
كان المنازع غيره، من قيم من جانبه على أمورهم، أو من جانب حاكم
آخر.
وليس القيم كالوكيل في المخاصمة والتنازع، حتى يكون هو بمنزلة
الموكل، بل هو بمنزلة الوكيل لمن هو قيم له، جعله الحاكم وكيلا له بحق
ولايته لا وكيلا لنفسه، ولذا يفترق مع الوكيل في أنه لا يشرط في الوكيل
الوثاقة والعدالة ويشترط في القيم، ويجوز له إجراء العقود بقيد الاحتساب
دون الوكالة.
78

ولو كان القيم هو الحاكم، ووكل أحدا في المنازعة، فلا ينفذ حكمه.
وكذا لا ينفذ حكمه لو وكل أحدا من جانب نفسه لولايته على ولده
الصغير أو ولد موصيه في منازعة.
ولو وكله في جميع أموره عموما من غير سبق نزاع فاتفقت المنازعة،
فهل ينفذ حكمه لوكيله؟ فيه إشكال.
كما أنه يشكل الحكم بجواز جعل أحد قيما لأحد هذين الصغيرين
لا وكيلا لنفسه حتى ينفذ حكمه له.
والأولى والأحوط حينئذ الرجوع في المنازعة إلى حاكم آخر.
ولو لم يكن هناك غيره فالأولى التوصل بالحيل الشرعية، فتنقل حصة
المولى عليه إلى غيره مع خيار فسخ في مدة معلومة، فيحكم للمنتقل إليه
ثم يفسخ.
فرع: لو باشر الحاكم بنفسه عقدا لغيره بوكالته كبيع أو نكاح، ثم
حصل النزاع فيه بين متنازعين، ينفذ حكم الحاكم فيه، للإطلاقات..
ولا يضر كونه وكيلا، لأنه كان وكيله في مجرد إيقاع عقد، وتمت الوكالة،
وليس مثل ذلك الوكيل ممن يرد قوله.
ولو باع عن بالغ غير رشيد لأحد ولاية، وباع أبوه أيضا لآخر كذلك،
أو نكح غير رشيدة بظن الولاية، ونكحت نفسها لآخر، فتنازع المتبايعان أو
الزوجان، ينفذ حكم ذلك الحاكم لمن حكم لهما، سواء كان النزاع في
الرشد وعدمه، أو في إجراء العقد وعدمه، أو في صحة عقد الحاكم عن
الرشيد والرشيدة وعدمه، للإطلاقات.
المسألة الخامسة: إذا حكم حاكم بحكم، لم يجب على حاكم آخر
البحث عنه، وجاز له إمضاؤه إذا اعتقده أهلا، بل يجب، للمقبولة.
79

لكن لو نظر فيه جاز، فإن ظهرت إصابته أو لم يظهر شئ من
الصواب والخطأ وجب الإمضاء.
وكذا إن ظهرت مخالفته لما هو صواب في نظر الثاني من الأدلة الظنية
المحتملة للمخالفة.
وإن ظهر خطؤه في دليل قطعي غير متحمل لقبول المخالفة من
المجتهدين، لم يجز امضاؤه، بل وجب عليه وعلى غير ذلك الحاكم
نقضه، سواء خفي الدليل على الحاكم الأول أو لا، وسواء أنفذه الحاكم
الأول أو لا، وسواء أنفذه الجاهل به أم لا، للإجماع - كما صرح به بعض
الأجلة في شرحه على القواعد أيضا (1) - وللقطع بأنه خلاف حكم الله،
فإمضاؤه إدخال في الدين ما ليس منه وحكم بغير ما أنزل الله، فيدخل في
نصوص من حكم به، أو لم يحكم بما أنزل الله.
وكذا إن ظهر خطؤه في دليل ظني عنده لأجل تقصيره في القدر
اللازم من الاجتهاد عند الأول، بل ينقض مع التقصير ولو اتفق مطابقته
لطريقة اجتهاده.
والحاصل: إن الموجب للنقض أحد الأمرين: إما الخطأ في الدليل
القطعي، أو التقصير في الاجتهاد، إذ ليس الحكم في الصورتين حكم الله
في حقه قطعا.
ولكن فهم التقصير في الاجتهاد إذا لم يخالف دليلا قطعيا مما
لا يظهر لغير نفسه غالبا وإن أمكن أحيانا، فالفائدة في الأغلب تظهر في
جواز نقض نفسه حكمه أو وجوبه.

(1) كشف اللثام 2: 154.
80

والظاهر أن صورة التقصير مراد من أطلق جواز النقض مع المخالفة،
كالشيخ وابن حمزة وابني سعيد والفاضل في التحرير والإرشاد (1).
وأما بدون التقصير بحسب اجتهاده فلا ينقض حكمه، لا من نفسه
ولا من غيره، وإن ظهر له بعد الاجتهاد دليل ظني يكون حجة عنده حال
الحكم من غير وجود ما يصلح لمعارضته، لأن الأدلة الظنية ليست كاشفة
عن الأحكام الواقعية، وإنما هي أمارات للأحاكم الظاهرية، فإذا لم يقصر
في استفراغ وسعه وبذل جهده بقدر ما أدى اجتهاده إلى كفايته من السعي
يكون الحكم حكم الله في حقه وحق من يحكم له وعليه، فلا وجه
للنقض.
وما ذكرنا هو الضابط في المقام، بل هو مراد من تعرض للمسألة من
الأصحاب، وإن اختلفت عبارتهم في تأدية المرام.
المسألة السادسة: لا ينقض الحكم بتغير الاجتهاد، لأن الحكم كان
ذلك في حقهم قبل التغير، إلا إذا كان التغير لأحد الأمرين المتقدمين.
ولو تغير قبل تمام الحكم وجب بناؤه على الرأي الثاني.
المسألة السابعة: لو ادعى المحكوم عليه عدم أهلية الحاكم لعدم
اجتهاده أو لفسقه - وهذا إنما يتصور إذا كان المحكوم عليه غائبا حين
الحكم، أو ادعى ظهور عدم أهليته حال الحكم بعده مع زعمه أولا أهلا -
فالخصم في تلك الدعوى يكون هو المحكوم له، وقد يكون الحاكم أيضا
إذا كانت الدعوى مما يوجب ضمانا أو تعزيرا عليه.
ثم هل تسمع تلك الدعوى على المحكوم له، أم لا؟

(1) الشيخ في المبسوط 8: 101، 102، وابن حمزة في الوسيلة: 209، وابن سعيد في
الجامع للشرائع: 529، والمحقق في الشرائع 4: 75، التحرير 2: 184، الإرشاد 2: 141.
81

استوجه في الشرائع والمسالك عدم السماع، وعدم تسلطه على
حلفه (1).
وصرح في الدروس بعدم سماع الدعوى على المحكوم له بفسق
الحاكم على سبيل الإطلاق (2).
وتردد في التحرير في ذلك كذلك (3).
واستشكل فيه في القواعد، ولكن في صورة عدم البينة (4).
وكذا في الكفاية، إلا أنه حكم بعدم السماع مع عدم البينة (5).
وظاهر الأخيرين - بل الأولين أيضا - سماع الدعوى مع البينة.
وأظهر منهما عبارة الشهيد في غاية المراد، قال: إذا ادعى المنكر
جرح الشهود أو الحاكم كلف البينة، فإن فقدها وادعى علم المدعي بذلك،
ففي توجه اليمين على المدعي وجهان. وصرح بعض فضلائنا المعاصرين
بأن النزاع في السماع وعدمه إنما هو في صورة فقد البينة، وأما معها فلا
نزاع في السماع.
قال: فدعوى فسق الحاكم مما لا ينبغي النزاع في مسموعيتها، إنما
النزاع في صورة تكون دعوى المنكر علم المدعي بالفسق حتى ينحصر دفع
النزاع بالحلف على عدم العلم، فإذا ادعى المحكوم عليه بعد الحكم فسق
الحاكم فيسمع ويطالب منه البينة، فإن أقامها فيبطل الحكم وإن بقي أصل
الدعوى، وإن فقدت البينة فالقاعدة توجه اليمين على المنكر.

(1) الشرائع 4: 107، المسالك 2: 387.
(2) الدروس 2: 85.
(3) التحرير 2: 189.
(4) القواعد 2: 208.
(5) الكفاية: 274.
82

ولكن لما كان الفسق فعل الحاكم ولا يصح الحلف على نفي فعل
الغير - بل إنما يصح حلف نفي العلم، وهو موقوف على دعوى العلم، بأن
ادعى المنكر علم المدعي بالفسق - فهذا هو الذي استشكلوا فيه وصار
معركة للنزاع (1). انتهى.
ولكن صريح المحقق الأردبيلي تحقق النزاع في صورة وجود البينة
أيضا، قال ما ملخصه: ولو ادعى المنكر بعد إقامة البينة فسق الشهود أو
القاضي فيمكن أن يسمع ويطالب بالبينة، فإن أثبته بالبينة فلا يثبت الحكم،
ويمكن أن لا يسمع.
وإن لم تكن بينة وادعى علم المدعي، فإن أقر المدعي به توقف
الحكم إن كان قبله وإن كان بعده أبطله، وإن أنكر المدعي فهل له تحليفه
على عدم العلم بذلك، أم لا؟ استشكله المصنف وغيره انتهى.
وكيف كان، فالحق سماع الدعوى في صورة وجود البينة وعدمها إن
كانت الدعوى على المحكوم له، لعمومات سماع الدعوى والقضاء وعدم
المخصص.
وهل المدعي المكلف على الإثبات: المحكوم له، أو المحكوم عليه؟
قال بعض الفضلاء المعاصرين: إن كان القاضي معروفا بالعدالة فعلى
القادح إثبات الجرح، وإن كان خامل الذكر فعلى المعدل إثباته (2).
أقول: دعوى المحكوم عليه إما تكون عدم علمه بأهلية الحاكم
فلا ينفذ حكمه عليه، أو علمه بعدم أهليته وفسقه.
فإن كان الأول، فلا ينبغي الريب في كون الإثبات على المحكوم له،

(1) انظر جامع الشتات: 677.
(2) انظر جامع الشتات: 677.
83

ولو بالمعروفية والاستفاضة.
وإن لم يكن له دليل مثبت فله تحليف المحكوم عليه لو ادعى علمه
بالأهلية.
ولو لم يدع علمه لم يسلط على تحليفه، ويعمل فيه بالأصل، وهو
عدم نفوذ حكمه عليه.
وإن كان الثاني، فمع عدم المعروفية لا ريب أيضا في كون الإثبات
على المحكوم له، فإن أثبت، وإلا فله تحليف المحكوم عليه، فإن حلف
بطل الحكم، وإن نكل ثبت، وإن رد الحلف انعكس.
وأما مع المعروفية فالإثبات على المحكوم عليه، فإن أثبته بالبينة
فهو، وإلا فإن ادعى علم المحكوم له فله تحليفه وإيقاف الحكم أو إبطاله،
وإن لم يدعه فتسقط دعواه.
احتج المحقق الأردبيلي على عدم سماع البينة مطلقا بأنه أمين الإمام،
وفتح هذا الباب موجب لعدم إجراء الأحكام والطعن في الحكام، فلا
يقبلون القضاء.
وفيه: أن كونه أمينه في زمن الغيبة فرع أهليته، فإن ثبت الفسق فليس
أمينا، وإلا يمكن سد باب تفسيق سائر الحكام بتعزير المدعي، حيث أهان
العلماء، مع أن العدول والحاكم الآخر أيضا أمناء الله، فإن كان الحاكم الأول
أمينا لا يقدحون فيه.. ولا يضر القدح، بل ذلك موجب لسعي القضاة في
الاجتناب عن العيوب أو سترها، وهو أيضا مصلحة تامة.
واحتجوا على عدم السماع بدون البينة بأمرين، أحدهما: لزوم الفساد.
والثاني: أنه ليس حقا لازما يثبت بالنكول ولا بيمين الرد.
ويضعف الأول بالمنع أولا، فإنه أي فساد في دعوى ذلك؟! وقد
84

يدعى على الحاكم نفسه بدعاوي، وهي غالبا متضمنة لتفسيقه من الكذب
أو الخيانة.
وثانيا بالمعارضة، فإن عدم سماعها قد يستلزم ضياع حق خطير
سهل الإثبات، أو إتلاف دم، أو تحليل بضع محرم، أو تحريم محلل،
ويستلزم جريان حكم شخص مجهول الحال أو معلوم الفسق لأحد عليه
بدون لزوم شرعي.
نعم، لهذا الكلام وجه في القضاة المنصوبة من الإمام حال الحضور،
وكأنه ذكره العامة وأخذه بعض أصحابنا وأجروه مطلقا، وإلا فكيف يرضى
أحد بأن يقول: إنه إذا ورد أحد - مع مال خطير أو جارية جميلة - قرية أو
بلدة وادعى عليه شخص مجهول أن المال ماله والجارية جاريته، وحكم
شخص في زي العلماء له بذلك، وأنه يجب على ذلك الشخص تسليم
المال والجارية وإن لم يعرف ذلك الشخص أو عرف فسقه ودنو مرتبة
علمه، ولم يسمع منه عذر ولا إرجاء (1)، سيما في مثل تلك الأزمنة التي
تصدى فيها كل متغلب في كل قرية أو بلدة للحكم؟!
ويضعف الثاني: بالمنع، ولم ليس حقا لازما ولا غير ثابت بالنكول
ورد اليمين إذا ادعى على المحكوم له أن ما أخذه لم يكن بالاستحقاق لعدم
أهلية الحاكم واقعا أو عنده؟!
هذا إذا كان التداعي مع المحكوم له.
ولو ادعى ما يوجب ضمانا أو تعزيرا على الحاكم فهو خصمه وعليه
الإثبات، لادعائه أمرا مخالفا للأصل، ولأنه الذي لو ترك ترك، وعدم ثبوت

(1) في " س ": ادعاء.
85

دخوله تحت إطلاقات نفوذ حكمه بعد.
فإن أثبت فهو، وإلا فيحلف المحكوم عليه إما على عدم الأهلية إن
أنكرها، أو على عدم علمه بالأهلية إن اكتفى بعدم العلم، الذي هو أيضا
موجب لعدم نفوذ حكمه عليه بدون ثبوت الأهلية.
فإن حلف بطل الحكم وضمن الحاكم، وإلا سقط حقه، وإن رد
الحلف فيحلف خصمه ويسقط عنه الضمان.
ولو ادعى المحكوم عليه خطأ الحاكم بما لا يعذر فيه، أو تقصيره،
أو جوره في الحكم، أو حكمه بشهادة الفاسقين عنده، ونحوه، فالخصم
أيضا إما المحكوم له أو الحاكم كما مر، ويجب احضار المدعى عليه، وفاقا
للشيخ والمحقق والمسالك، بل نسبه فيه إلى الأكثر (1)، وكذا في شرح
الإرشاد للأردبيلي في دعوى الحكم بشهادة الفاسقين، للعمومات المشار إليها.
إلا أن الإثبات حينئذ على المحكوم عليه، وهو المدعي، لأن مقتضى
إطلاقات نفوذ حكم الحاكم قبول حكمه مطلقا، إلا إذا ثبت خلافه، فإن لم
يثبت فعلى المدعى عليه اليمين.
ثم في جميع الدعاوي المذكورة إن كان هناك حاكم يقبله الخصمان
يتحاكمان إليه، وإلا فيكون كسائر الدعاوي التي لا حاكم فيها، فلا تسلط
لمن عليه الإثبات على خصمه، بل يعمل بالأصل حتى يظهر الأمر.
وقد يستشكل في سماع هذه الدعاوي أيضا بإيجابه إهانة الحكام
وتزهدهم في الحكم.
وإيجابه للعسر والحرج.

(1) الشيخ في المبسوط 8: 103، والمحقق في الشرائع 4: 83، 107. المسالك 2: 360.
86

وإفضائه إلى التسلسل.
ويجاب عن الأول: بمعارضته بإيجاب عدم السماع لإبطال حقوق
الناس، مع أنه إن ثبت ما يدعيه فلا بأس بالإهانة، بل ينبغي أن يستهان،
وإلا فلا إهانة، بل ربما يوجب العزة.
والثاني: بمعارضته أيضا بإيجاب العسر والحرج على الناس في
تضييع حقوقهم لو لم تسمع.
والثالث: بمنع الإفضاء.
ولو ادعى المحكوم عليه حكم الحاكم بالفاسقين (1) - مع عدم علمه
بفسقهما وخطئه في التعديل من غير تقصير منه - فلا يسمع، لأن المناط في
الحكم: العدالة عند الحاكم دون غيره.
نعم، لو أراد تبيين فسقهما عند الحاكم نفسه بعد حكمه فظاهرهم
سماعه ونقض حكمه لو ثبت عنده. ويجئ تحقيقه.
ولو ادعى على الحاكم - القاضي بعلمه بالواقعة أو بعدالة الشهود أو
نحوهما - كذبه لم يسمع منه، لأن قوله حجة.
المسألة الثامنة: لو تبين خطأ القاضي في دم أو قطع عضو أو مال،
فإن لم يجر الحكم بعد في الأولين يمنع من إجرائه، أو كانت العين باقية
في الثالث ولو عند المحكوم له فتسترد.
وإن كان بعد جريان الحكم وتلف العين، فإن ثبت جور القاضي
عمدا أو تقصيره في الاجتهاد ضمن، والوجه واضح.
وإن كان مع ذلك خصومة المحكوم له عدوانا، فإن كان هو مباشرا

(1) يعني بشهادة الفاسقين.
87

للقطع أو القتل أو الاتلاف فهو الضامن، لتقديم المباشر على السبب، وإن
لم يكن مباشرا - كما إذا حكم القاضي بعد دعواه فقتل أو قطع وكيل
المحكوم له - فيحتمل جواز رجوع المحكوم عليه إلى كل من القاضي والخصم.
وإن كانت خصومته جهلا بالمسألة فالظاهر أن الضمان على القاضي.
وإن كان الحكم من القاضي بعد بذل جهده فلا ضمان عليه أصلا،
للأصل وعدم الدليل.. بل على بيت المال إن كان في دم أو قطع، لرواية
الأصبغ بن نباتة: " ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فعلى بيت مال
المسلمين " (1).
وإن كان في مال، فمع بقاء عينه يسترد، وإن كانت تالفة فالمصرح به
في كلام جماعة أنه أيضا على بيت المال، فإن ثبت إجماع مركب فيه، وإلا
فالحكم به مشكل، لاختصاص النص بالدم والقطع.
ولا يبعد كونه على المحكوم له إن كانت خصومته عدوانا، وعدم
ضمان أحد إن كان جهلا.
وكذا فيما على بيت المال إذا لم يكن هناك بيت مال، للأصل، وعدم
دليل على تضمين شخص.
نعم، في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج: قال: كان
أبو عبد الله (عليه السلام) قاعدا في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابي سأل ربيعة
الرأي، فأجابه، فلما سكت [قال له الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت] (2)
ربيعة ولم يرد عليه شيئا، فأعاد المسألة عليه، فأجابه بمثل ذلك فقال

(1) الفقيه 3: 5 / 16، التهذيب 6: 315 / 872، الوسائل 27: 226 أبواب آداب
القاضي ب 10 ح 1.
(2) أثبتناه من المصدر.
88

الأعرابي: أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " هو
في عنقه " قال: " أو لم يقل، وكل مفت ضامن " (1).
ولكن الظاهر منها أن المراد بالضمان: كون إثمه وأجره في عنقه، وإلا
فمجرد الإفتاء لا يوجب الضمان، أو المراد: الضمان مع التقصير والخطأ،
إذ لا ضمان بدونهما إجماعا، فتأمل.
المسألة التاسعة: لو ترافعا عند مجتهد وتم قضاؤه لا يجوز لهما
الترافع عنده أو عند غيره ثانيا في هذه الواقعة بخصوصها، ولو ترافعا
لا يجوز للحاكم سماع الدعوى فيه إلا إذا ادعي خطأ ونحوه، وهي دعوى
أخرى.
ولو لم يتم القضاء يجوز الترافع عند الغير، ولا يجب عليهما الإتمام
عند الأول، فلو أقام مدع شهوده عند مجتهد لم يعرفهم وطلب التزكية
يجوز للمدعي ترك المرافعة عنده والترافع عند حاكم آخر يعرفهم،
للأصل، وعدم دليل على التعيين بالشروع في المرافعة أصلا.
المسألة العاشرة: إذا كان الحاكم عالما بالحق، فإن كان إمام الأصل
فيقضي بعلمه مطلقا إجماعا، وإن كان غيره فكذلك على الحق المشهور كما
صرح به جماعة، بل عن الانتصار والغنية والخلاف ونهج الحق وظاهر
السرائر: الإجماع عليه (2).
لأدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والقول باختصاصها بما إذا كانت الدعوى عدوانا وظلما، فلا تجري

(1) الكافي 7: 409 / 1، الوسائل 27: 220 أبواب آداب القضاء ب 7 ح 2.
(2) الإنتصار: 237، الغنية (الجوامع الفقهية): 624، الخلاف 2: 602، نهج الحق:
563، السرائر 2: 179.
89

فيما إذا جهل المدعي أو المنكر الحق.
غير صحيح، لأن الاختصاص إنما هو في النهي عن المنكر، وأما
الأمر بالمعروف فجار في جميع الصور.
ولعموم أدلة الحكم مع وجود الوصف المعلق عليه، كقوله تعالى:
* (والسارق والسارقة) * (1) و * (الزانية والزاني) * (2).
وقوله تعالى: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) * (3).
وأدلة إعانة الضعيف وإغاثة الملهوف ودفع الظلم عن المظلوم، فإن
كل ذلك يدل على المطلوب.
ويدل عليه أيضا قوله سبحانه: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون) * * (فأولئك هم الظالمون) * * (فأولئك هم
الفاسقون) * (4)، فإن العالم بالحق إن سكت فيكون ممن لم يحكم بما أنزل
الله، وإن حكم بغير ما يعلم فكذلك بزيادة الحكم بغير ما أنزل الله.
وقوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا
حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) * (5).
وظاهر أن كلا من السكوت والحكم بغير ما يعلم حقا ترك للحكم
بالعدل الذي هو المأمور به.
وقوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط) * (6).

(1) المائدة: 38.
(2) النور: 2.
(3) النور: 4.
(4) المائدة: 44، 45، 47.
(5) النساء: 58.
(6) النساء: 135.
90

وقوله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله) * (1).
فإن جميع ما ذكر يدل على وجوب الحكم بما يعلم أنه حق، وأنه
معروف، وأنه ما أنزل الله، على كل أحد.. إلا أن نفوذه منه ووجوب اتباعه
وإمضائه يحتاج إلى الدليل، حيث إنه خلاف الأصل، والدليل في أهل
الحكم موجود، فيجب عليه الحكم، ويجب على الناس اتباعه.
ويدل عليه أيضا قوله في مرفوعة البرقي المتقدمة: " رجل قضى بحق
وهو يعلم فهو في الجنة " (2)، دلت على جواز الحكم للعالم، ودلت أدلة
نفوذ حكم الحاكم على وجوب اتباعه.
ويمكن أن يستدل له أيضا برواية أبي ضمرة: " أحكام المسلمين
على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية من أئمة
الهدى " (3)، فإن سنتهم كانت قضاءهم بما يعلمون كما دلت عليه الأخبار.
وبصحيحة زرارة: في قوله تعالى: * (يحكم به ذوا عدل منكم) * (4)
" فالعدل رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام من بعده يحكم به فهو ذو عدل، فإذا
علمت ما حكم به رسول (صلى الله عليه وآله) والإمام فحسبك ولا تسأل عنه " (5).
وتدل عليه أيضا رواية الحسين بن خالد: " الواجب على الإمام إذا
نظر إلى الرجل يزني أو يشرب خمرا أن يقيم عليه الحد، ولا يحتاج إلى

(1) المائدة: 8.
(2) في ص 8 و 9.
(3) الكافي 7: 432 / 20، التهذيب 6: 287 / 796، الخصال: 155 / 195،
الوسائل 27: 231 أبواب كيفية الحكم ب 1 ح 6.
(4) المائدة: 95.
(5) التهذيب 6: 314 / 867، الوسائل 27: 70 أبواب صفات القاضي ب 7 ح 26.
91

بينة مع نظره، لأنه أمين الله في خلقه " (1) الحديث.
ولا يضر احتمال إرادة إمام الأصل، لعموم العلة، فإن العالم أيضا
أمين الله، كما في رواية إسماعيل بن جابر: " العلماء أمناء " (2).
وفي رواية السكوني: " الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا " (3)
الحديث.
والمروي في تحف العقول، وفيه: " مجاري الأمور والأحكام على
أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه " (4).
ويدل عليه أيضا ما ذكره السيد من إطباق الإمامية على إنكارهم على
أبي بكر في توقفه على الحكم لفاطمة، مع علمه بعصمتها وطهارتها وأنها
لا تدعي إلا حقا (5).
وقد يستدل أيضا بوجوه أخر غير تامة، كالإجماع المنقول.
وكون العلم أقوى من البينة.
واستلزام عدمه إما إيقاف الأحكام أو فسق الحكام، لأنهم إن حكموا
بخلاف معلومهم يلزم الفسق، وإلا الإيقاف.
فإن في الأول: عدم الحجية.
وفي الثاني: عدم معلومية العلة في البينة حتى يقاس عليها العلم.
وفي الثالث: منع الفسق إذا لم يدل دليل على جواز حكمه بعلمه.

(1) الكافي 7: 262 / 15، التهذيب 10: 44 / 157، الإستبصار 4: 216 / 809،
الوسائل 28: 57 أبواب مقدمات الحدود ب 32 ح 3.
(2) الكافي 1: 33 / 5.
(3) الكافي 1: 46 / 5.
(4) تحف العقول: 169.
(5) الإنتصار: 238.
92

خلافا لما حكاه السيد وجماعة عن الإسكافي، فلم يجوز عمل غير
الإمام بعلمه مطلقا (1)، بل ربما ينسب إليه عدم تجويزه عمل الإمام أيضا.
ونسب في شرح المفاتيح القول بعدم جواز عمل غير الإمام إلى
السيد. وهو غريب، فإنه ادعى إطباق الإمامية على الجواز، وغلط الإسكافي
أشد التغليط وخطأه.
وللمحكي عن ابن حمزة، فخص الجواز بحقوق الناس (2)، وحكي
ذلك عن الحلي أيضا (3)، وكلامه في قضاء السرائر عام (4).
وللمحكي عن الإسكافي في المختصر الأحمدي، فخصه بحقوق
الله (5).
ولا مستند لشئ من هذه الأقوال، إلا اعتبارات ضعيفة أو وجوه
مرجوحة، لا تصلح لمعارضة ما مر.
كما أنه يستدل للأول: بأنه موضع التهمة وموجب لتزكية النفس.
وللثاني: بالنبوي في قضية الملاعنة: " لو كنت راجما بغير بينة
لرجمتها " (6).
وبمثل قوله في الروايات المستفيضة: " لا يرجم الزاني حتى يقر أربع
مرات بالزنا إذا لم يكن شهود " (7).

(1) كما في الإنتصار: 237، وحكاه أيضا الفاضل المقداد في التنقيح 4: 242.
(2) الوسيلة: 218.
(3) حكاه فخر المحققين في الإيضاح 4: 313، والسبزواري في الكفاية: 263.
(4) السرائر 2: 179.
(5) كما في المسالك 2: 355.
(6) سنن ابن ماجة 2: 855 / 2560، مسند أحمد 1: 336.
(7) الوسائل 28: 103 أبواب حد الزنا ب 16.
93

وقوله: " لا يرجم الرجل والمرأة حتى يشهد عليه أربعة شهود " (1).
وللثالث: بمثل رواية البصري: خبرني عن الرجل يدعي قبل الرجل
الحق، فلا تكون له بينة بماله، قال: " فيمين المدعى عليه " (2)، حيث ترك
الاستفصال فيها.
ومرسلة يونس: " استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين
عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم يكن امرأتان فرجل
ويمين المدعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه " (3) الحديث.
وبالأخبار القائلة بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر (4).
وفي الأول: منع الكلية.
وفي الثاني: عدم ثبوت الرواية.
وفي البواقي: أنها معارضة لما مر، وما مر راجح بموافقة الكتاب
وعمل الأصحاب وأصل الجواز.. وبه يجاب أيضا عن دليل اتقاء موضع
التهمة فيما كان محلا للتهمة، إلا أن يوجب عسرا وحرجا أو ضررا، فيمكن
حينئذ نفي الوجوب.
هذا، مع إمكان منع اختصاص البينة في عرفهم بالشاهد وعدم صدقه
على علم الحاكم.

(1) الكافي 7: 184 / 4، التهذيب 10: 2 / 1، الإستبصار 4: 217 / 812، الوسائل
28: 95 أبواب حد الزنا ب 12 ح 4.
(2) الكافي 7: 415 / 1، التهذيب 6: 229 / 555، الفقيه 3: 38 / 128، الوسائل
27: 236 أبواب كيفية الحكم ب 4 ح 1.
(3) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم ب 7 ح 4.
(4) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم ب 3.
94

وإمكان اختصاص الاستخراج بما يحتاج إليه، والمعلوم للحاكم
لا يحتاج إلى استخراج.
مع أن مدلول أخبار البينة واليمين أن كل بينة فهي على المدعي،
لا أن كل مدع تجب عليه البينة.
مع أن الظاهر منها أنها في صورة الجهل بالواقعة، فالبينة شأنها التبيين
ولا تبيين في المبين.
هذا، ثم إن المانع من القضاء بالعلم استثنى صورا:
منها: تزكية الشهود وجرحهم.
ومنها: الإقرار في مجلس القضاء وإن لم يسمعه غيره.
ومنها: إقرار الخصم مطلقا.
ومنها: العلم بخطأ الشهود وكذبهم يقينا.
ومنها: تعزير من أساء أدبه في مجلسه وإن لم يعلم غيره.
ومنها: أن يشهد معه آخر، فإنه لا يقصر عن شاهد، والله العالم.
المسألة الحادية عشرة: لو جن الفقيه أو أغمي عليه أو فسق ثم عاد
إلى الحالة الأولى، تعود نيابته وولايته من غير نزاع على الظاهر، كما قاله
المحقق الأردبيلي، لدخوله بعد العود تحت العمومات والإطلاقات.
وأما ما ترى في كتب الأصحاب - من الخلاف في ذلك، وفتوى
الأكثر بعدم العود - فإنما هو في القاضي المنصوب من قبل الإمام الثابت
قضاؤه بالتخصيص دون التعميم.
المسألة الثانية عشرة: إذا كان تنازع المتخاصمين عند حاكم في أمر
لاختلاف المجتهدين فيه:
كأن يتنازع الولد الأكبر مع غيره في أخذ الحبوة مجانا أو بحساب
95

إرثه، أو فيما يحبى به.
أو ادعى أحد الشركاء الثلاثة الشفعة وأنكرها الآخران.
أو تنازع المتبايعان في نجاسة المبيع وعدمها.
أو تنازعت البكر ووليها في الاستقلال في العقد وعدمه.
أو تنازعا في دية جناية اختلف العلماء في مقدارها.. إلى غير ذلك.
يجب على الحاكم المترافع إليه الحكم في الواقعة بمقتضى رأيه
وفتواه إجماعا، لأنه حكم الله عنده وفي حق كل من يقلده أو يترافع إليه.
ولا يفيد تقليد أحدهما مجتهدا آخر يخالف رأيه رأي ذلك المجتهد،
أو كونه مجتهدا مخالفا لذلك المجتهد، إذ لم يثبت - من أدلة وجوب عمل
المجتهد باجتهاده أو المقلد باجتهاد مجتهده - الوجوب في ترتب الأثر،
حتى في موضع مزاحمة حق غيره، لو بنى ذلك الغير على اجتهاد مخالف
لاجتهاده.
والحاصل: أن الثابت ليس أزيد من ترتب آثار اجتهاده أو تقليده فيما
هو حق نفسه مما ليس له مزاحم من حقوق الغير، وإلا فلا دليل.
ثم المراد برأيه وفتواه ليس ما هو فتواه في جميع أجزاء الواقعة
المتنازع فيها، فإنه قد تكون فتواه فيها وجوب البناء على فتوى غيره في
جزء منها فيجب اتباعها، فإن فتوى كل مجتهد صحة عمل مجتهد آخر أو
مقلده إذا بناه على رأي ذلك المجتهد الآخر وعمل به فيه، فيجب الحكم
بمقتضاه لو كان كذلك.
فإذا كانت الواقعة بحيث لم يتحقق من أحد المتنازعين فيها بناء على
أمر بتقليد مجتهد، فيجب فيها الحكم في أصل الواقعة بمقتضى فتوى
الحاكم ورأيه فيها.
96

وإن تحقق فيها بناء على أمر بتقليد غيره، فيجب الحكم بمقتضى
ذلك البناء، لأن فتوى الحاكم أيضا على صحة ذلك الأمر حينئذ وترتب
الأثر عليه.
فإذا تنازع شخصان في أخذ الحبوة مجانا أو بإزاء إرثه ابتداء قبل
بنائهما فيها على تقليد مجتهد، يجب على الحاكم المفتي بالأخذ مجانا
الحكم به.
ولو كان المتنازعان مقلدين لمجتهد يعطيها بإزاء الإرث فعملا بها في
الواقعة، وأخذ الكبير بإزاء إرثه بتقليد مجتهده وأعطاه سائر الورثة بإزائه
أيضا بتقليده، ثم تنازعا فيها بعد ذلك عند الحاكم المذكور، يجب عليه
الحكم بكونها بإزاء الإرث، لا لأجل أنه فتواه مطلقا، بل لأجل أنهما قلدا
المجتهد الآخر وعملا به، وانتقل المحبو بإزاء الإرث إلى المحبو له، وما
بإزائه إلى سائر الورثة، وفتوى الحاكم أيضا على الانتقال المذكور بالتقليد
المذكور، وتوقف رفع حكم الانتقال إلى ناقل آخر، فيحكم بمقتضى هذه
الفتوى بأنها بإزاء الإرث.
وكذا لو كان المتنازعان في الشفعة مقلدين لمن يرى الشفعة في
الشركاء الثلاثة، فلو تنازعا قبل بنائهما على أخذ الشفيع المشفوع بتقليد
مجتهده، وترافعا عند من لا يرى ثبوت الشفعة حينئذ، يحكم ذلك بسقوط
الشفعة.
ولو بنيا الأمر على تقليد الأول، وأخذ الشفيع المشفوع بتقليده،
ورضى به الشريك تقليدا له أيضا، ثم تنازعا عند نافي الشفعة، يجب عليه
الحكم بكون المشفوع لآخذ الشفعة، لأنه أخذه بتقليد من يقول بثبوتها
وإعطاء الشريك الآخر أيضا بتقليده، فصار المشفوع ملكا للشفيع بفتوى
97

ذلك المترافع إليه أيضا، فيحكم بمقتضاه.
وكذا لو باع شخص الصيد المقتول بالتفنك (1) لأجل كونه مذكى عنده
بفتوى من يرى حليته، واشتراه المشتري أيضا بتقليده، وأجريا العقد، ثم
وقع بينهما التنازع، وترافعا عند من لا يرى حليته، يجب عليه الحكم
بصحة البيع، لأن فتواه صحة بيعه للمجتهد المفتي بحليته وطهارته
ولمقلده، وقد وقع ذلك من المتبايعين الكذائيين، فيكون صحيحا ممضى
عنده أيضا. وهكذا في جميع الوقائع.
نعم، يشترط حينئذ في الحكم بالصحة في تلك الموارد عمل
المتنازعين معا بمقتضى فتوى المجتهد الآخر، ولا يكفي تقليد أحدهما،
لما مر من عدم دليل على كفاية تقليد أحدهما فيما يكون الأمر بين اثنين.
نعم، لو لم تكن الواقعة مما يكون الأثر المترتب على العمل بين
المتنازعين، فيكفي تقليد أحدهما، كمسألة عقد البكر نفسها أو الولي، فلو
عقدت البكر نفسها لزوج بتقليد مجتهد يرى استقلالها، وقبله الزوج بتقليده
أيضا، ثم تنازع الولي عند من يرى استقلاله، يجب الحكم بصحة العقد، إذ
لا تعلق للولي في أثر العقد الذي هو حلية البضع، ولا يحتاج تقليد البكر
إلى رضى الولي.
ولو كان الحاكم في الأمثلة المذكورة في المعاملات ممن لا يقول
بلزوم التقليد في المعاملات، بل يكتفي بالمطابقة لرأي مجتهد، فبنى
المتنازعان الأمر أولا على أحد الطرفين، يجب على هذا الحاكم الحكم
بصحته بناء على رأيه أيضا.

(1) كلمة فارسية تعني: البندقية.
98

وكذا لو اكتفى بالتقليد اللاحق على العمل وقلدا بعد العمل أيضا.
وهكذا.
والمحصل: أنه يجب على الحاكم المترافع إليه أن يستخرج الأول
فتواه في كل الواقعة المتنازع فيها ويحكم بمقتضاها، سواء كانت مطابقة
لفتواه في جزء الواقعة أو لا، فيرى أنه إذا سئل منه: ما رأيك في الحبوة إذا
تنازع فيها الورثة؟ يفتي بأنها للأكبر مجانا، فيحكم به في الواقعة إذا تنازعا
قبل رضاء الطرفين وبنائهما على تقليد، إذ ليس للواقعة جزء آخر.
ولو بنى المتنازعان فيها على تقليد من لا يرى مجانا، فيزيد في
الواقعة جزء آخر، لأن التنازع إنما هو في الحبوة التي بنيا فيها الأمر على
تقليد.
ويرى أنه إذا سئل عنه: ما رأيك في الحبوة التي أخذها الأكبر مجانا
بتقليد من يراها كذلك وأعطاها سائر الورثة أيضا كذلك، فهل يصير مالا
حلالا له؟ يفتي بأنها ماله، فيجب الحكم به في الواقعة أيضا.
ولو سئل: أنه لو أخذها الأكبر بتقليد من يراها مجانا ولكن لم يرض
به الباقون؟ فيفتي بأنه لا يكفي تقليده فقط.
ويرى أنه إذا سئل: ما فتواك في حق باكرة زوجت نفسها بشخص
بتقليدهما لمن يرى استقلالها؟ يفتي بالصحة، فيجب عليه الحكم بها أيضا
بعد وقوع العقد، ولو فرض أن فتواه على عدم الصحة فيحكم به أيضا.
ولو تنازع الجاني والمجني عليه في قدر الدية المختلف فيها عند
حاكم فيجب حكمه بمقتضى رأيه، ولا يفيد هنا بناء أحدهما أو كليهما على
فتوى غيره، إلا؟ إذا عملا بها وأعطى الجاني الدية بمقتضاها وأخذها
المجني عليه كذلك.
99

وبالجملة: اللازم على الحاكم في جميع الوقائع تصوير فتواه في كل
الواقعة إذا سئل عنها فيها والحكم بها.
فرع: لو ترافع المتنازعان في أمر قبل بنائهما على أحد الطرفين
بالتراضي أو إجراء عقد فيه، وحكم الحاكم بمقتضى رأيه، فهل يجوز
للمتنازعين بعده البناء على تقليد الآخر في هذه الواقعة لو رضيا ويترتب
عليه أثره، أم لا؟
الظاهر: الثاني، لاستقرار الأمر على ما حكم به فلا ينقض، فلو حكم
الحاكم بإحباء شئ للولد الأكبر أو بكونه له مجانا بعد الترافع أو بسقوط
الشفعة، فلو تراضيا بخلافه بعد ذلك لم يترتب عليه أثر، فلا يصير الأخذ
بالشفعة لازما، ولا الشئ المحبو ملكا لغير الكبير، بل لو أرادوا اللزوم
احتاج إلى عقد آخر ناقل شرعي، كبيع أو صلح أو هبة.
المسألة الثالثة عشرة: قد عرفت أنه يجب على الحاكم إمضاء حكم
حكم به حاكم آخر مقبول الحكم عنده في واقعة خاصة، ولا يجوز له
نقضه. والظاهر أنه إجماعي، ونقل الإجماع عليه مستفيض، والأخبار تدل
عليه كما مر. والمراد بإمضائه: العمل بمقتضاه.
ولو أنكر المحكوم عليه حق المحكوم له فحضرا عند الحاكم الثاني
وادعى المحكوم له الحق وأنكر غريمه وتمسك المحكوم له بحكم الحاكم
الأول، يجوز للثاني الحكم به له أيضا، كما يجوز له الحكم بالبينة
والحلف.
والحاصل: أن الحكم السابق أيضا طريق لإثبات الحق كالبينة واليمين
والإقرار.
ويمكن أن يكون قوله في بعض الروايات المتقدمة: " أو سنة قائمة "
100

إشارة إلى ذلك أيضا، فإذا سمع الدعوى والإنكار وظهر له الحكم السابق
ظهورا علميا يحكم له ثانيا لأجل ذلك الحكم، إذ بعد علمه وفتواه
بوجوب اتباعه وعدم جواز رده يكون ذلك حكم الله في حقهما عنده،
فيجب عليه الحكم بمقتضاه.
وقد يقال: إنه وإن وجب إمضاؤه عليه، ولكن لا يجوز له الحكم،
لجواز ابتناء الأول على فتوى مخالفة لرأيه.
وأنا لا أفهم وجوب الإمضاء وعدم وجوب الحكم بمقتضاه، بل هما
متلازمان، ولا مخالفة للرأي أبدا، إذ كون كل ما حكم به المجتهد على أحد
الخصمين وله بعد الترافع حكم الله في حقهما إجماعي، بل ضروري
لا يحتمل المخالفة، فرأي كل مجتهد أن هذا حكم الله في حقهما وفتواه
على ذلك، وإن خالفه مع قطع النظر عن ذلك الحكم، ولكنه غير المورد.
وكذا لا أتفهم معنى ما قيل من أنه يجب عليه الإمضاء ولا يجوز له
الحكم بصحته، لجواز مخالفته لنفس الأمر، لاحتمال كذب المدعي
والشهود أو خطئهم.
وفيه: أن الصحة هنا ليست إلا ترتب الأثر شرعا، وهو لازم وجوب
الإمضاء، فلا معنى لوجوب أحدهما وعدم وجوب الآخر.
نعم، لو أراد بعدم جواز الحكم بالصحة الحكم بمطابقة الواقع ونفس
الأمر، فهو كذلك، ولكنه كذلك بالنسبة إلى حكم نفسه أيضا.
ولا فرق في وجوب الإنفاذ بين ما إذا كان الحاكم الأول حيا باقيا على
شرائط القضاء، أو غير باق، بأن صار فاسقا بعد الحكم قبل الإنفاذ أو
مجنونا أو كان ميتا.
101

وتفرقة بعضهم (1) بين الموت والفسق - بوجوب الإنفاذ على الأول
دون الثاني وإن كان الثاني أيضا ماضيا لو طرأ الفسق بعد الإنفاذ - لا وجه
لها، كما صرح به المحقق الأردبيلي.
ثم إن ما ذكرنا من وجوب الإنفاذ والحكم بمقتضاه إنما هو إذا علم
الحاكم الثاني بالحكم الأول، إما بحضوره مجلس الحكم وسماعه الدعوى
والإنكار والمرافعة والحكم، أو ثبت ذلك عنده ثبوتا علميا بأخبار متواترة
أو محفوفة بقرائن مفيدة للعلم.
وفي حكم العلم إقرار المتخاصمين، لنفوذ إقرار العقلاء على
أنفسهم.
والظاهر أنه إجماعي، ولا كلام في شئ من ذلك.
وإنما الكلام فيما إذا لم يعلم الحاكم الثاني بالحكم الأول، بل ظنه
بإحدى الطرق المورثة للمظنة، فهل يجب عليه الإمضاء، أم لا؟ والطرق
التي اختلفوا فيها ثلاثة:
الأول: مجرد الكتابة، بأن يكتب قاض إما مطلقا أو إلى خصوص
حاكم آخر: أن فلانا حضر مجلس الحكم وادعى على فلان وحكمت له أو
عليه بالمدعى. أو كتب: إني حكمت على فلان بكذا.
ولا خلاف في عدم اعتبارها لو كان المحكوم به من حقوق الله، بل
ادعي عليه الإجماع، لوجوب درئها بالشبهة.
ولو كان من حقوق الناس، فالمشهور فيها أضا ذلك، بل قيل:
بلا خلاف يوجد إلا من الإسكافي (2)، بل عن السرائر والمختلف والقواعد

(1) كما في المسالك 2: 381.
(2) كما في رياض المسائل 2: 408.
102

وفي التحرير: الإجماع عليه (1).
للأصل، وروايتي طلحة (2) والسكوني (3): " إن عليا (عليه السلام) كان لا يجيز
كتاب قاض في حد ولا في غيره، حتى وليت بنو أمية فأجازوا بالبينات ".
وضعفهما - لو كان - منجبر بالشهرة العظيمة والإجماعات المحكية
والأدلة القاطعة من الكتاب والسنة المانعة من العمل بالمظنة، فإن مجرد
الكتاب لا يفيد أزيد منها، لاحتمال التزوير، أو عبث الكاتب وعدم قصد ما
فيها، وغير ذلك من الاحتمالات.
خلافا للمحكي عن الإسكافي، فقال باعتبارها في حقوق الناس (4).
وظاهر المحقق الأردبيلي الميل إليه، بل في حقوق الله أيضا، قال
- بعد نقل قول الإسكافي -: وذلك غير بعيد، إذ قد يحصل الظن المتاخم
للعلم أقوى من الذي حصل من الشاهدين بالعلم بالأمن من التزوير وأنه
كتب قصدا لا غير، فإذا ثبت بأي وجه كان - مثل: الخبر المحفوف بالقرائن
المفيدة للعلم - يجب إجراؤه من غير توقف.
ويكون ذلك مقصود ابن الجنيد، ويمكن أن لا ينازعه فيه أحد،
ويكون مقصود الباقي: المنع في غير تلك الصور، بل الصورة التي لم تكن
مأمونة من التزوير ولا معلوما كونه مكتوبا قصدا، ولهذا يجوز العمل
بالمكاتبة في الرواية وأخذ المسألة والحديث.
وبالجملة: لا ينبغي النزاع في صورة العلم، ويمكن النزاع في صورة

(1) السرائر 2: 162، المختلف: 691، القواعد 2: 216، التحرير 2: 188.
(2) التهذيب 6: 300 / 841، الوسائل 27: 297 أبواب كيفية الحكم ب 28 ح 1.
(3) التهذيب 6: 300 / 840، الوسائل 27: 297 أبواب كيفية الحكم ب 28 ح 1.
(4) حكاه عنه في المختلف: 706.
103

الظن، ويمكن القول به هناك أيضا إذا كان أقوى من ظن الشاهدين،
ويكون احتمال النقيض مجرد التجويز العقلي، مثل: صيرورة أداني البيوت
علماء عالمين بجميع العلوم، والقول بعدمه في غير ذلك.
هذا في حقوق الناس.
وأما في حقوق الله، فيحتمل ذلك أيضا، لما مر. ويحتمل العدم
للدرء بالشبهات. انتهى.
ورد: بأن ذلك فرع قيام دليل قاطع على جواز العمل بالظن مطلقا،
ولم نجده في نحو المورد مما يتعلق بالموضوعات ولو كان الظن متاخما
للعلم، ومجرد كون ظن الكتابة أقوى من ظن الشهادة لا يوجب قطعيته
ولا حجيته، إلا أن تكون حجية الأخيرة من حيث إفادتها المظنة، وهو
ممنوع، بل هي من جهة الأدلة الأربعة وهي أدلة قاطعة أو ظنون مخصوصة
مجمع عليها.
فلا وجه لقياس الكتابة على الشهادة، ولا على الرواية وأخذ المسألة،
لقيام الأدلة المخصوصة على حجية الظن فيهما، ولذا يكتفى فيهما بظن ما
ولو لم يفد الظن الأقوى.
أقول: ما ذكره الراد صحيح لا غبار عليه، إلا أن مقتضى كلام
الأردبيلي اعتبار الكتابة الموجبة للعلم، كما هو صريح صدر كلامه إلى
قوله: ويمكن النزاع في صورة الظن.. والمستفاد من ذيله أيضا، لأنه اعتبر
فيه ما كان احتمال خلافه مجرد التجويز العقلي ومثل صيرورة الأداني علماء
متبحرين، وهذا وإن كان ظنا عند الحكماء، ولكنه علم عرفا وشرعا، لأنه
104

العلم العادي المجمع على اعتباره شرعا، كما بيناه في عوائد الأيام (1)،
ولا كلام في اعتبار ذلك.
نعم، يرد عليه حينئذ: أنه لا وجه لقياسه على الشهادة والرواية وأخذ
المسألة، لأنها ليست بهذه المثابة البتة، وإن كانت حجيتها معلومة من جهة
الأدلة.
وبالجملة: كلام الأردبيلي لا يخلو عن اضطراب، وإن كان الظاهر أن
مراده العلم العادي، فيرجع نزاعه مع القوم لفظيا.
الثاني: إخبار الحاكم الأول مشافهة: إني حكمت بكذا.
وفي إنفاذه ووجوب اعتباره وعدمهما خلاف:
الأول: للفاضل في القواعد والإرشاد، والشهيدين في الدروس
والمسالك (2).
والثاني: للخلاف والنافع (3).
وتردد في الشرائع والتحرير (4).
دليل الأول: أنه ثبت أن حكم الحاكم حكم الإمام والرد عليه حرام.
وأنه أقوى من الشاهدين.
ويرد الأول: بأنه لا كلام في وجوب إنفاذ حكم الحاكم، وإنما الكلام
في أنه هل يثبت بإخباره بعد الحكم، ولذا قال الأردبيلي: وليس إثباته بقول
الحاكم أقوى من إثباته بعدلين، إذ هما عدلان وهو عدل واحد، وقول

(1) عوائد الأيام: 153.
(2) القواعد 2: 217، الدروس 2: 92، المسالك 2: 380.
(3) الخلاف 2: 603، المختصر النافع 2: 283.
(4) الشرائع 4: 96، التحرير 2: 188.
105

العدلين حجة دون الواحد.
ومنه يعلم رد الثاني أيضا، مع أنه إنما يفيد لو كان قبول العدلين
لأجل المظنة، وليس كذلك.
ودليل الثاني: الأصل، وكون حكم الثاني بمجرد إخبار الأول حكما
بغير علم. وهو كذلك، فالثاني هو الأقوى.
نعم، لو ضمت مع إخباره قرائن مفيدة للعلم بصدور الحكم يجب
اعتباره.
الثالث: الشهادة على حكمه، بأن يشهد عدلان على صدور الحكم
منه لفلان على فلان بعد الترافع بكذا وكذا.
وقد وقع الخلاف فيها، فقيل بعدم قبولها مطلقا (1)، ويظهر من
المختلف أنه قول جماعة، قال: وربما منع من ذلك جماعة من علمائنا (2).
للأصل المتقدم ذكره مرارا.
ولذيل روايتي طلحة والسكوني المتقدمتين (3)، حيث قال: " فأجازوا
بالبينات ".
ورد الأصل بما يأتي.
والروايتان بضعفهما سندا الخالي عن الجابر هنا، ودلالة، لظهور
سياقهما في أن البينة التي كان بنو أمية يجيزونها إنما هي على صحة الكتابة
لا على أصل الحكم.
وقيل بعدم القبول إن كانت البينة مجردة عن الإشهاد - أي

(1) كما في المهذب 2: 587.
(2) المختلف: 706.
(3) في ص 50.
106

لم يشهدهما الحاكم الأول على حكمه في الواقعة - والقبول إن أشهدهما،
وهو مذهب المحقق في النافع (1) بل قيل بعدم خلاف فيه بين الأصحاب
كافة (2).
أما الأول: فلما مر من الأصل.
وأما الثاني: فلظاهر الإجماع.
ومسيس الحاجة إليه في إثبات الحقوق مع تباعد البلاد وتعذر نقل
الشهود أو تعسره، وعدم مساعدة شهود الفرع أيضا على التنقل، والشهادة
الثالثة غير مسموعة.
ولأنها لو لم تقبل لبطلت الحجج مع تطاول المدة، ولأدى إلى
استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة.
ولأن الغريمين لو تصادقا أن الحاكم الأول حكم بينهما ألزمهما الثاني
ما حكم به الأول إجماعا، على الظاهر المصرح به في بعض الكلمات،
فكذا إذا قامت البينة، إذ يثبت بالشهود ما يثبت بالإقرار.
ومال المحقق الأردبيلي إلى القبول مطلقا، لأن حكم الحاكم حجة
متبع يجب إنفاذه والعمل بمقتضاه على أي طريق ثبت عند حاكم آخر،
سواء كان بإقرار الخصم أو البينة، ولعدم تعقل مدخلية للإشهاد في
اعتبارها.
أقول: إن كان هناك دليل على وجوب قبول شهادة العدلين مطلقا كما
هو كذلك، أو في خصوص المورد، فالحق القبول مطلقا من غير مدخلية
للإشهاد فيه.. وإن لم يكن فالحق عدم القبول كذلك.

(1) المختصر النافع: 283.
(2) المسالك 2: 381 قال: إنه موضع وفاق.
107

وأما التفصيل المذكور فلا أرى له وجها مقبولا، إلا ما قد يضم مع
أصالة حجية شهادة العدلين من ظاهر الإجماع على عدم القبول هنا مع عدم
الإشهاد، أو ما قد يضم مع أصالة عدم الحجية من ظاهر الإجماع على
القبول مع الإشهاد.
وما قد يقال من مسيس الحاجة واقتضاء الضرورة للقبول، وللزوم
تقدير الضرورة بقدرها واندفاعها بالقبول مع الإشهاد يجب الاقتصار عليه.
وهما ضعيفان جدا، لمنع الإجماعين، سيما في جانب عدم القبول.
ومنع مسيس الحاجة أولا، لإمكان حصول العلم بالحكم بواسطة
القرائن المنضمة مع العدل أو العدلين أو جماعة من غير العدول، سيما مع
الكتابة، وإمكان إشهاد الشاهدين على شهادة الأصل، وغير ذلك.
مع أنه قد لا ترتفع الضرورة بالشهادة مع إشهاد الحاكم أيضا، لعدم
تمكن الشاهدين من المسافرة.
وبالجملة: اللازم في هذه المسألة البناء على حجية مطلق شهادة
العدلين وعدمها، وسيأتي تحقيقه في باب الشهادات.
ولكن ذلك إذا شهدا بالحكم، بأن يقولا: كنا في مجلس المرافعة،
فادعى فلان على فلان، وأنكر المدعى عليه أو كان غائبا، فحكم عليه
الحاكم بعد الإتيان بما كان عليه في الترافع.
وكذا لو علما بالدعوى والترافع بالقرائن ثم سمعا الحكم.
ولكن لو سمعا من الحاكم إخباره بالحكم - أي قال لهما: إني
حكمت قبل ذلك - لا تقبل الشهادة، لما عرفت من عدم وجوب قبول
إخبار الحاكم بنفسه بذلك عند الحاكم الآخر.
وكذا إذا حكم الأول - ثم كتب حكمه في ورقة فقال للشهود أو
108

الحاكم الثاني: ما في هذه الورقة حكمي - لم يجز للشهود أن يشهدوا
بالحكم بمجرد ذلك، ولا للحاكم أن ينفذه لسماعه أو لشهادة هذه الشهود.
وهو ظاهر مما تقدم وصرح به جماعة، منهم: الفاضل في الإرشاد،
والأردبيلي في شرحه (1)، وغيرهما.
نعم، لو كتب صورة حكمه قبل صدوره، ثم قال بمحضر الحاكم
الثاني أو الشهود: حكمت لفلان بما في هذه الورقة، وحفظت الورقة
بحيث أمن من التغير، يحتمل جواز إنفاذه وقبول الشهادة بها، فتأمل.

(1) الإرشاد 2: 148، الأردبيلي في مجمع الفائدة 12: 214.
109

المطلب الثاني
في كيفية القضاء والحكم
ولاحتياجه إلى المدعي والدعوى والمدعى عليه وجوابه، ولكل منها
متعلقات، فها هنا سبعة فصول:
الفصل الأول
في بيان شأن القاضي ووظيفته
بالنسبة إلى كل من المتداعيين أو كليهما.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لا خلاف في وجوب التسوية بين الخصوم في
العدل في الحكم، فلا تجوز التفرقة فيه بين المسلم والكافر، أو الشريف
والوضيع، أو العادل والفاسق، أو غيرهم، والإجماع منعقد عليه، وصريح
الكتاب يرشد إليه:
قال الله سبحانه: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا
حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) * (1).
وقال عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط

(1) النساء: 58.
110

ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) * (1).
وقال جل شأنه: * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم
بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى) * (2)، إلى غير ذلك.
والأخبار فيه مستفيضة.
ولو كان في العدل مظنة الضرر بما لا يرضى به الشارع، يجب ترك
الحكم دون الحكم بغير العدل، ومع ظنه في الترك أيضا فالظاهر الجواز،
ولا يبعد ترجيح أكثر الضررين وأشدهما.
وهل تجب التسوية بينهما في غير ذلك من وجوه الإكرام، أم
تستحب؟
ذهب الصدوقان إلى الأول (3)، وهو ظاهر النهاية (4) وصريح المحقق
والفاضل في غير المختلف (5) ونسبه في المسالك والروضة والمفاتيح
والمعتمد إلى المشهور (6).
وذهب الديلمي والفاضل في المختلف إلى الثاني (7). واختاره الحلي،
وجعل القول بالوجوب توهم من لا بصيرة له بهذا الشأن (8).
وظاهر الكفاية التردد (9).

(1) المائدة: 8.
(2) سورة ص: 26.
(3) نقله عنهما في المختلف: 700.
(4) النهاية: 338.
(5) المحقق في الشرائع 4: 80، والفاضل في التحرير 2: 183.
(6) المسالك 2: 365، الروضة 3: 72، المفاتيح 3: 252.
(7) الديلمي في المراسم: 230، المختلف: 701.
(8) السرائر 2: 157.
(9) الكفاية: 266.
111

والحق هو: الأول، لقول علي (عليه السلام) لشريح في رواية سلمة: " ثم
واس بين المسلمين بوجهك، ومنطقك، ومجلسك، حتى لا يطمع قريبك
في حيفك، ولا ييأس عدوك من عدلك " (1).
ورواية السكوني عن الصادق (عليه السلام): قال: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة، وفي النظر، وفي المجلس " (2).
ومثلها مرسلة الفقيه عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وفيها " فليساو " بدل
" فليواس " (3).
وقول النبي (صلى الله عليه وآله): " من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في
لحظه وإشارته ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحدهما ما لا يرفع على
الآخر " (4).
وقول الرضا (عليه السلام) في فقهه: " واعلم أنه يجب عليك أن تساوي بين
الخصمين، حتى النظر إليهما، حتى لا يكون نظرك إلى أحدهما أكثر من
نظرك إلى الثاني " (5).
ولأن تخصيص أحدهما يوجب كسر قلب الآخر ومنعه عن إقامة حجته.
والإيراد على الروايات بأنها ضعيفة سندا، فلا يثبت منها حكم
مخالف للأصل.

(1) الكافي 7: 412 / 1، الفقيه 3: 8 / 28، التهذيب 6: 225 / 541، الوسائل 27:
211 أبواب آداب القاضي ب 1 ح 1.
(2) الكافي 7: 413 / 3، التهذيب 6: 226 / 543، الوسائل 27: 214 أبواب آداب
القاضي ب 3 ح 1.
(3) الفقيه 3: 8 / 27، الوسائل 27: 214 أبواب آداب القاضي ب 3 ح 1.
(4) سنن البيهقي 10: 135، المسالك 2: 365.
(5) فقه الرضا " ع ": 260، مستدرك الوسائل 17: 350 أبواب آداب القاضي ب 3 ح 1.
112

مردود بعدم ضير هذا الضعف عندنا، سيما مع صحة الأولى عمن
أجمعوا على تصحيح ما يصح عنه، وانجبارها بالشهرتين.
نعم، غير الأخيرة لا يدل إلا على وجوب التساوي في بعض وجوه
الإكرام، فيبقى مثل: التعظيم والتكريم والقيام والإذن في الدخول، باقيا
تحت الأصل.
والأخيرة وإن كانت عامة إلا أن الشهرة التي ادعوها ليست إلا في
بعض الوجوه، لأنه المصرح به في كلام الأكثر، فلا يبعد تخصيص
الوجوب بما في غير الأخيرة، إلا أن المستفاد من التعليل في الأولى
التعميم، فهو (1) الأقرب.
واحتج الآخرون أما على نفي الوجوب فبالأصل، وأما على الاستحباب
فبالروايات المتقدمة، حيث يسامح في أدلة السنن. وجوابه قد ظهر.
فروع:
أ: الأمر بالمواساة في الوجه يشمل المواساة (2) في التوجه وعدمه،
وطلاقة الوجه وعدمها، وإن كان الظاهر منها هو الأول.
وبالمواساة في المنطق يشمل المواساة في الكمية والكيفية، ويعم ما
يتعلق بالدعوى وغيره من أنواع التكلم.
وبالمواساة في المجلس يشمل المواساة (3) في القرب وكيفية
الجلوس.

(1) في " ح ": وهو.
(2) في " ق " و " س ": المساواة.
(3) في " ح ": المساواة.
113

ب: لو دخل الخصمان قبل إظهار الدعوى وجلس أحدهما أقرب إلى
الحاكم، يجب عليه أن يسوي بينهما بعد الإظهار أيضا.
وإذا رضى الأدون مجلسا بما هو عليه فهل تسقط شرعية المساواة، أم
لا؟
فيه وجهان، من: أن الحكمة في الأمر بالمساواة هو عدم طمع
القريب وعدم كسر قلب البعيد.
ومن: إطلاق الروايات وعدم المقيد.
والأوجه الثاني، لإمكان تعدد العلة، وإطلاق غير المعللة من
الروايات.
ج: عدوا من وجوه الإكرام: الإنصات، والمراد به: الإصغاء إلى كلامه.
والحكم بوجوبه أو استحبابه - لعموم الرضوي والتعليل - ظاهر.
د: وعدوا منه: التسوية في السلام عليهما والجواب لهما إن سلما
معا، وهو كذلك، لما مر.
ولو سلم أحدهما دون الآخر يجب الجواب لمن سلم، ولا يجب
شئ للآخر.
ولو ابتدأ أحدهما بالسلام، فهل يجب أو يستحب تأخير الجواب
رجاء لأن يسلم الآخر، أم لا؟
اختار في المسالك: الأول، إذا لم يطل الفصل بحيث يخرج عن كونه
جوابا للأول (1).
والأظهر: الثاني، لأن البدأة بجواب سلام من ابتدأ بالسلام لا تنافي

(1) المسالك 2: 365.
114

التسوية عرفا، بل يمكن أن يقال: إن التأخير مناف لها، حيث بادر بجواب
أحدهما وأخر جواب الآخر.
بل لو قلنا بمنافاة المبادرة بجواب البادئ للتسوية لا يجب التأخير
أيضا على القول بالوجوب، ولا يستحب على القول بالاستحباب، لأن
وجوبها أو استحبابها إنما هو فيما إذا علم بتسليمهما معا، وهو غير متيقن
بعد.
ه‍: وجوب التسوية أو استحبابها مختص بالأفعال الظاهرية دون
الميل القلبي، بمعنى: محبة أحدهما، أو الميل إلى التكلم معه والقرب إليه
في المجلس والتعظيم له، أو الميل إلى أن يكون حكم الله موافقا لهواه،
للأصل، ولأن الحكم على القلب غير مستطاع.
وأما قضية قاضي بني إسرائيل المروية عن الباقر (عليه السلام) في صحيحة
الثمالي (1)، فلا تدل على أن المؤاخذة كانت على الأمر القلبي، بل كانت
على ما قاله بقوله: " قلت: اللهم " إلى آخره، حيث أظهر باللسان ما كان في
قلبه وإن لم يظهره على الخصمين.
نعم، يستحب الاجتهاد في تطهير السر بحيث يتساوى عنده جميع
عباد الله، ولكنه لا يختص بالقاضي، وكلامنا فيما يجب أو يستحب على
شخص من حيث هو قاض.
و: لا يختص وجوب التسوية فيما ذكر بحال حضور الخصمين معا،
بل يجب مع غياب أحدهما أيضا، لإطلاق الروايات، وإيجابه طمع من
يزيد إكرامه، الذي هو أحد علتي المنع في الرواية الأولى.

(1) الكافي 7: 410 / 2، التهذيب 6: 222 / 529، الوسائل 27: 225 أبواب آداب
القاضي ب 9 ح 2.
115

ز: الحكم بوجوب التسوية أو استحبابها مشروط بما إذا تساوى
الخصوم في الكفر والإسلام، فلو كان أحدهما مسلما والآخر كافرا جاز قيام
الكافر مع جلوس المسلم، أو كون المسلم أعلى منزلا منه علوا صوريا أو
معنويا. لا أعرف فيه خلافا، ونقل عليه الإجماع أيضا (1).
والدليل عليه - مضافا إلى اختصاص رواية سلمة والنبوي بالمسلمين،
واحتمال إرجاع الضمير في قوله: " بينهم " في رواية السكوني إلى المترافعين
المسلمين، وضعف الأخيرة وخلوها عن الجابر في المقام - ما روي: أن
عليا (عليه السلام) جلس بجنب شريح في حكومة له مع يهودي في درع وقال: " لو
كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقول: لا تساووهم في المجلس " (2)، وضعفه منجبر (بالعمل) (3).
وهل يختص ذلك بالمجلس، أو يتعدى إلى غيره أيضا؟
الظاهر: التعدي، كما اختاره في الروضة (4)، وإليه ذهب والدي في
المعتمد، واستقواه بعض المعاصرين (5)، للأصل، واختصاص النصوص
- بحكم التبادر واختصاص المورد - بالمسلمين، وخلو ما ظاهره العموم
عن الجابر عن ضعفه.
المسألة الثانية: قالوا: لا يجوز للحاكم أن يلقن أحد الخصمين ما
يستظهر به على خصمه ويستنصره ويغلب عليه، وأن يهديه إلى وجوه
الحجاج، واستدلوا عليه بظاهر الوفاق، وبأنه منصوب لسد باب المنازعة

(1) الرياض 2: 294.
(2) المغني 11: 444.
(3) ليس في " ح ".
(4) الروضة 3: 73.
(5) غنائم الأيام: 676.
116

لا لفتح بابها، فتجويزه ينافي الحكمة الباعثة لتعيينه.
وتأمل فيه السبزواري (1)، ومال الأردبيلي إلى الجواز إن لم يرد بذلك
تعليم ما ليس بحق، وجنح إليه بعض معاصرينا (2).
والحق: الحرمة مطلقا، سواء كان تلقين أحد الخصمين ببيان ما
يوجب استظهاره من غير أن يأمره بقوله أو فعله، مثل أن يقول لمن
لا يرضى بالحلف إذا رد عليه: كل من ادعى بالظن لا يرد عليه اليمين، أو
إن ادعيت بالظن لا يجوز لخصمك الرد.
أو يقول لمن يريد الجواب بالأداء في مقابلة دعوى القرض: كل من
يجيب بالأداء يجب عليه الإثبات والمنكر ليس له ذلك.
أو يأمره بالقول أو الفعل، مثل أن يقول: ادع بالظن، أو أنكر
القرض، أو نكل، أو رد اليمين.
وسواء كان ذلك مع علم الحاكم بأن ما يلقنه مخالف للواقع، مثل أن
يأمره بادعاء الظن مع علمه بأنه يدعي العلم، أو بإنكار القرض مع علمه
بتحققه، أو بتعيين المدعى به مع علمه بكونه مجهولا للمدعي.
أو يعلم أنه مطابق للواقع.
أو لا يعلم فيه أحد الأمرين، مثل أن يلقنه دعوى الظن فيما لم يعلم
أنه ظان أو عالم.
لكون الجميع منافيا للتسوية المأمور بها، وكون بعض صورها إعانة
على الإثم، وبعض آخر أمرا بالمنكر.
وتجويز التلقين بما يوجب التوصل إلى الحق ودفع الضرر - إذا علم

(1) الكفاية: 266.
(2) المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام: 676).
117

أنه لا يهدى إليه فيضيع حقه - ضعيف، لأن مع علم الحاكم يحكم بعلمه،
فلا يحصل ضرر.
وأما ما ذكروه دليلا على عدم الجواز مطلقا - من إيجابه فتح باب
المنازعة - فضعيف، لمنع عدم جواز فتحها كلية أولا، وعدم إيجابه له على
الإطراد ثانيا.
هذا حكم التلقين.
وأما الاستفسار المؤدي إلى تصحيح الدعوى أو الجواب، فهو أيضا
غير جائز، لما مر من منافاته التسوية، وإيجابه في بعض الصور إعانة على
الإثم.
سواء كان قبل تكلم من يستفسر منه، كأن يستفسر عن المدعى عليه
بعد دعوى القرض عليه: هل ما استقرضت أو استقرضت وأديت؟ وقد
يضم معه ما يوجب الجواب بما يستظهره، مثل أن يقول: هل ما
استقرضت حتى تكون البينة على المدعي، أو أديت حتى تكون البينة
عليك؟
أو بعد التكلم، مثل أن يستفسر عمن يجيب بعدم اشتغال الذمة أنه:
هل أديت أو ما استقرضت؟ والله العالم.
المسألة الثالثة: إذا دخل الخصمان، فإن بدر أحدهما بالدعوى سمع
منه، وإن لم يبدر وسكتا فلا يجب على الحاكم الأمر بالتكلم، ووجهه
ظاهر.
وقد ذكروا أنه يستحب أن يقول هو أو من يأمره: تكلما، أو ليتكلم
المدعي منكما.
ولم أعثر على دليل على الاستحباب، وظاهر الحلي عدم الاستحباب،
118

حيث قال: ولا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين، والمستحب له تركها
حتى يبدءا بالكلام، فإن صمتا فله أن يقول لهما حينئذ: إن كنتما حضرتما
بشئ فاذكراه (1). انتهى.
وقال والدي - طاب ثراه - في المعتمد بالاستحباب لو عرف كون
الحياء أو احتشامه مانعا لهما عن المبادرة. وليس ببعيد.
ثم إنهم قالوا: إنه إذا استحب التكلم يكره تخصيص أحدهما
بالخطاب (2)، لمخالفته للتسوية المتقدمة.
وفيه منع، لعدم منافاته للتسوية عرفا، لأنه ابتداء الكلام، ومجرد
تقديم الالتفات إلى أحدهما - سيما إذا علم كونه مدعيا - لا يخالف التسوية
عرفا.
وبذلك يوجه الحكم بالكراهة هنا ممن حكم بوجوب التسوية في
التكلم. وفيه ما فيه.
ووجهه في المعتمد بأن الحكم بالحرمة لأجل الانجبار، وهو فيما
نحن فيه مفقود، فلا يثبت من عموم الأخبار سوى الكراهة. وهو أيضا غير
جيد.
المسألة الرابعة: إذا ازدحم جماعة من المدعين، فإن جاءوا على
التعاقب وعرف الترتيب، قالوا: يقدم الأسبق فالأسبق.. وإن جاءوا معا، أو
لم يعرف الترتيب، أقرع بينهم، وقدم من خرجت قرعته.
وقيل: يكتب أسماء المدعين ويجعلها تحت ساتر ثم يخرج رقعة
رقعة، ثم يستدعي صاحبها فيحكم له (3). وهذا أيضا نوع من القرعة.

(1) السرائر 2: 157.
(2) القواعد: 204، الدروس 2: 74، المفاتيح 3: 252.
(3) الوسيلة: 211، والرياض 2: 395.
119

وقيل بالأول، إلا أن يكثروا وعسر الإقراع فبالثاني (1).
وقيل بجواز الأمرين مطلقا، ونسبه في المسالك إلى الأشهر (2).
وأصل هذا الحكم مشهور بين الأصحاب، مصرح به في كلماتهم، بل
لم أعثر فيه على مخالف.
وإطلاق عباراتهم يشمل ما لو تزاحموا في مجرد الورود والحضور
عند الحاكم وإن لم يتكلموا بعد ولم يطلبوا الترافع بل كانوا ساكتين، وما لو
تزاحموا في بيان الدعوى وطلب الترافع أيضا، وما لو بدر أحدهم بطلبه مع
سكوت الباقين.
والظاهر أن مرادهم إنما هو غير الصورة الأخيرة، لأن الحكم بتقديم
الأسبق ورودا فيها مشكل جدا، لأن الحكم والقضاء في الوقائع الخاصة
والقضايا الجزئية لا يجب إلا بطلب المدعي وترافعه، ومعه يجب، فبطلب
أحدهم يجب الاشتغال بقطع دعواه، ولم يجب الاشتغال بقطع سائر
الدعاوي بعد.
فعلى القول بكون وجوب الاشتغال بعد الطلب فوريا يكون بطلان
إطلاق وجوب تقديم الأسبق ظاهرا، بل يجب تقديم البادئ بالطلب وإن
لم يكن أسبق ورودا.
وعلى القول بعدم الفورية نقول: إن ما لم يجب الاشتغال به بعد
لا يمكن أن يجب تقديمه على الواجب ولو لم يكن فوريا، وإلا لانقلب غير
الواجب واجبا.
بل لا يبعد أن يقال: إن الصورة الأولى أيضا خارجة عن مقصودهم،

(1) كما في المهذب 2: 582 وكشف اللثام 2: 148.
(2) المسالك 2: 366.
120

لأن قطع الدعوى مع سكوت المدعي وعدم طلبه ليس بجائز، فكيف يحكم
بوجوب تقديمه؟!
إلا أن يقال: إن المراد تقديم الأمر بالتكلم، واستحباب أصله لا ينافي
وجوب تقديم بعض أفراده. ولكنه بعيد.
ثم إن أكثر الأصحاب لم يذكروا على ما حكموا به - من وجوب
تقديم الأسبق مع العلم بالسبق والقرعة بدونه - دليلا.. ويظهر من المسالك
أنه لمراعاة التسوية بين الخصوم (1).
وفيه: أن الثابت من التسوية هو وجوبه أو استحبابه بالنسبة إلى
شخصين متخاصمين، وأما بالنسبة إلى خصمين آخرين فغير ثابت.
واستدل والدي - طاب ثراه - على الأول في المعتمد بالأولوية، وعلى
الثاني بأن القرعة لكل أمر مشكل.
ويرد على الأول: منع الأولوية، وعلى تسليمها منع صلاحيتها
لإيجاب التقديم.
وعلى الثاني: منع الإشكال، لأنه إنما يكون إذا علم استحقاق أحدهما
للتقديم ولم يتعين، وأما إذا لم يعلم الاستحقاق فالحكم التخيير.
نعم، يظهر من السرائر أنه وردت بهذا الحكم رواية، حيث قال: فإذا
جلس حكم للأول فالأول، فإن لم يعلم بالأول أو دخلوا دفعة روى
أصحابنا أنه: يتقدم إلى من يأمر كل من حضر للتحاكم إليه أن يكتب اسمه
واسم أبيه وما يعرف به من الصفات الغالبة عليه دون الألقاب المكروهة،
فإذا فعلوا ذلك وكتب أسماءهم وأسماء خصومهم في الرقاع قبض ذلك كله

(1) المسالك 2: 366.
121

وخلط الرقاع وجعلها تحت شئ يسترها به عن بصره، ثم يأخذ منها رقعة
ينظر فيها ويدعو باسم صاحبها وخصمه فينظر بينهما (1). انتهى.
وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة، ولكن بملاحظة اشتهار الحكم عند
الأصحاب اشتهارا قويا كاد أن يكون إجماعا، لا يبعد القول بثبوت هذا
الحكم وجوبا.
فروع:
أ: كلما آل الأمر إلى الإقراع، فهل يقتصر على كتب اسم المدعي، أو
يكتب اسم خصمه أيضا؟
المشهور: الأول، لأنه المستحق للتقديم أو التأخير واقعا، المجهول
استحقاقه ظاهرا، والخصم تابع له.
نعم، لو ثبت للخصوم أيضا استحقاق عند تعددهم يفتقر إلى قرعة
أخرى، أو رقاع متعددة في القرعة الواحدة، ولكنه لم يثبت، فللمدعي
الاختيار في التعيين مع التعدد.
ولا يخفى أن هذا الدليل إنما يتم لو كان الموجب للإقراع هنا وضعه
لكل أمر مشكل. ولو كان موجبه الرواية المتقدمة فلا بد من كتب اسم
الخصم أيضا تعبدا، لذكره فيها.
ب: صرح في المسالك والتحرير بأن المقدم بالسبق أو القرعة إنما
يقدم في دعوى واحدة، فلو قال: لي دعوى أخرى مع هذا الخصم أو مع
غيره لم يسمع إلى أن يفرغ القاضي من سماع دعوى سائر الحاضرين،

(1) السرائر 2: 156.
122

فحينئذ تسمع دعواه (1).
ومستند الحكم غير واضح، فالحكم بوجوب التأخير مشكل.
ج: يجوز لمن حقه التقديم بالسبق أو القرعة إسقاط حقه، فيقدم من
له السبق بعده أو من خرجت القرعة له.
ولو وهب حقه لغيره، فهل يجب تقديمه، أو يجوز، أو يقدم من له
السبق؟
قيل بالأول، لأن الحق صار له.. ويخدشه أن الثابت ثبوته لنفسه،
وحصول النقل بالانتقال موقوف على الدليل، وليس، فالظاهر الثالث.
وهل تجوز للحاكم الشفاعة في الإسقاط أو الهبة؟
الظاهر: نعم، للأصل.
د: إذا حضر الخصمان فسبق أحدهما إلى الدعوى، ثم قطع المدعى
عليه دعواه بدعوى أخرى، أو قال: أنا المدعي، لم تسمع منه دعواه
بلا خلاف يعرف، بل يمنع حتى يجيب عن الدعوى وتنتهي الحكومة.
ويمكن أن يستدل عليه بحديث التسوية، وفي فقه الرضا (عليه السلام): " وإذا
تحاكم خصمان فادعى كل واحد منهما على صاحبه دعوى فالذي بدأ
بالدعوى أحق من صاحبه أن يسمع منه، فإذا ادعيا جميعا فالدعوى للذي
على يمين خصمه " (2)، وضعفه بالعمل مجبور.
واستدل في المسالك على هذا الحكم بما سبق من وجوب تقديم
السابق (3).

(1) المسالك 2: 366، التحرير 2: 183.
(2) فقه الرضا " (عليه السلام) ": 260، مستدرك الوسائل 17: 351 أبواب آداب القاضي ب 5 ح 1.
(3) المسالك 2: 366.
123

وفيه: أن هذا إنما يتم لو كان المراد بالسابق - فيما سبق - السابق
بالدعوى، وهو خلاف ظاهر كلام الأصحاب، بل الظاهر منهم أن المراد
منه: السابق بالورود، وعلى هذا فربما يكون الخصمان دخلا معا أو دخل
السابق بالدعوى متأخرا.
ولو ابتدرا معا، فالمشهور بين الأصحاب - كما في المختلف (1)
وغيره (2) وادعي الإجماع عليه (3) - أنه تسمع الدعوى من الذي على يمين
صاحبه، وهو المحكي عن علي بن بابويه في رسالته والمفيد في المقنعة
والشيخ في النهاية (4)، وادعى عليه الشيخ في الخلاف الإجماع (5)،
وقال السيد: إنه مما انفردت به الإمامية، وادعى الإجماع عليه
أيضا (6).
والشيخ بعد أن ادعى إجماع الطائفة مال إلى القرعة، واستوجهه في
المسالك (7).
وظاهر الكفاية والمفاتيح التوقف (8).
والأصل فيه ما رواه محمد بن مسلم عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: " إن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) قضى أن يقدم صاحب اليمين في المجلس بالكلام " (9).

(1) المختلف: 698.
(2) كالكفاية: 266.
(3) كما في مفتاح الكرامة 10: 32.
(4) حكاه عن علي بن بابويه في المختلف: 698، المقنعة: 725، النهاية: 338.
(5) الخلاف 6: 234 / 32.
(6) الإنتصار: 243.
(7) المسالك 2: 366.
(8) الكفاية: 266، المفاتيح 3: 252.
(9) الفقيه 3: 7 / 25، الوسائل 27: 218 أبواب آداب القاضي ب 5 ح 2.
124

واعترض بجواز أن يكون المراد باليمين يمين القاضي، كما احتمله
في المفاتيح (1)، أو الحلف كما احتمله الإسكافي (2)، لأنه صاحب اليمين إن
شاء أحلف خصمه وإن لم يشأ لم يحلف، بل يحتمل أن يكون المراد
بالتقديم بالكلام: التقديم بتكلم الحاكم معه.
ورد بالمخالفة للظاهر.
وبنقل الاتفاق في المسالك على أن المراد منه يمين الخصم.
وبأن الأصحاب حملوه عليه، وفهمهم قرينة.
وبصحيحة ابن سنان عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إذا تقدمت مع
خصم إلى وال أو إلى قاض فكن عن يمينه " يعني: يمين الخصم (3).
وفي الأول: أنا لو سلمنا مخالفة الأول للظاهر فمخالفة الثاني والثالث
ممنوعة.
والاتفاق المدعى غير ثابت.
والصحيحة لا تفيد أزيد من رجحان التيامن المرغب فيه في كل
شئ، إلا أن الحلي والشيخ في الخلاف والمبسوط قالا: إنه روى أصحابنا
يقدم من على يمين صاحبه (4). وكذا يدل عليه الرضوي المتقدم (5)، وهما
منجبران بالشهرة والإجماع المنقول، فلا مناص عن العمل بهما.
ه‍: ما ذكر من تقديم الأسبق إنما هو فيما إذا لم يستضر غيره

(1) المفاتيح 3: 253.
(2) نقله عنه في المختلف: 699.
(3) الفقيه 3: 7 / 26، التهذيب 6: 227 / 548، الوسائل 27: 218 أبواب آداب
القاضي ب 5 ح 1.
(4) الحلي في السرائر 2: 156، الخلاف 2: 599، والمبسوط 8: 154.
(5) في ص 1994.
125

بالتأخير، ولو استضر يقدم، دفعا للضرر، وعدم الشهرة الجابرة.
ولا بعد في جواز تقديم المرأة أيضا مطلقا، لعدم الانجبار.
و: قد ذكروا أن المفتي والمدرس أيضا كالقاضي عند تزاحم
المستفتين والطلبة في وجوب تقديم الأسبق أو القرعة، ومأخذ الحكم غير
معلوم.
المسألة الخامسة: قد صرح كثير من الأصحاب - منهم الشيخ في
المبسوط (1) - باستحباب ترغيب الخصمين إلى الصلح للقاضي.
ويظهر من السرائر ذهاب جمع إلى عدم الجواز، حيث قال: وله أن
يأمرهما بالصلح، ويشير بذلك، لقوله تعالى: * (والصلح خير) * (2) وما هو
خير فللإنسان فعله بغير خلاف من محصل، وقد يشتبه هذا الموضع على
كثير من المتفقهة، فيظن أنه لا يجوز للحاكم أن يأمر بالصلح ولا يشير به،
وهذا خطأ من قائله (3). انتهى.
وتفصيل الكلام: إن ترغيب الحاكم في الصلح إما يكون بعد الحضور
للمرافعة وقبل بيان الدعوى، أو يكون بعد البيان وقبل ثبوت الحق بالبينة أو
اليمين أو الإقرار أو سقوطه بالحلف، أو يكون بعد الثبوت أو السقوط وقبل
الحكم وإظهار الثبوت أو السقوط، أو يكون بعده.
ولا ينبغي الارتياب في استحباب الترغيب في الأولين.
ويدل عليه قوله تعالى: * (والصلح خير) *.
وقوله سبحانه: * (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) * (4).

(1) المبسوط 8: 170.
(2) النساء: 128.
(3) السرائر 2: 160.
(4) الحجرات: 10.
126

وقوله جل شأنه: * (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) * (1).
وقوله عز اسمه: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا
وتصلحوا بين الناس) * (2).
والمروي في تفسير الإمام، وهو طويل يذكر فيه كيفية قضاء
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي آخره: " فإذا ثبت عنده ذلك لم يهتك ستر
الشاهدين، ولا عابهما ولا وبخهما، ولكن يدعو الخصوم إلى الصلح، فلا
يزال بهم حتى يصطلحوا " الحديث (3).
وصحيحة هشام بن سالم: " لأن أصلح بين اثنين أحب إلي من أن
أتصدق بدينارين " (4).
ورواية أبي حنيفة سائق الحاج: قال: مر بنا المفضل وأنا وختني (5)
نتشاجر في ميراث فوقف علينا ساعة، ثم قال لنا: تعالوا إلى المنزل، فأتيناه
فأصلح بيننا بأربعمائة درهم، فدفعها إلينا من عنده، حتى إذا استوثق كل منا
من صاحبه قال: أما أنها ليست من مالي، ولكن أبو عبد الله (عليه السلام) أمرني إذا
تنازع رجلان من أصحابنا في شئ أن أصلح بينهما وأفتديهما من ماله (6).
وظاهر أبي الصلاح أن المستحب للقاضي الترغيب في أصل الصلح،

(1) الأنفال: 1.
(2) البقرة: 224.
(3) الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 6 ح 1، بتفاوت يسير.
(4) الكافي 2: 209 / 2، الوسائل 18: 439 أبواب أحكام الصلح ب 1 ح 1.
(5) الختن بالتحريك: كل من كان من قبل المرأة، مثل الأب والأخ، وهم الأختان.
هكذا عند العرب، وأما عند العامة فختن الرجل: زوج ابنته - الصحاح 5: 2107.
(6) الكافي 2: 209 / 4 وفيه: وافتديها من ماله، التهذيب 6: 312 / 863 الوسائل
18: 440 أبواب أحكام الصلح ب 1 ح 4، وفيه: وافتدى بها من ماله.
127

وأما التوسط فيما يصلحان به فيحوله إلى ثالث (1)، ولعله مخافة أن يتحشما
أو أحدهما من القاضي فيقع الصلح من غير رضاء.
وأما في الثالث، فإن أعلم الحاكم المدعي بالثبوت أو المنكر بالسقوط
فكالأخير، ويأتي حكمه.
وإلا، فإن طلب منه بتخير الحكم أو علم مطالبته بشاهد الحال
فالظاهر عدم الجواز، لمنافاته للفورية الثابتة من مطالبة التخير.
وإلا، فإن علم أنه لو أظهر الحكم لم يرض من له الحكم بالصلح
فلا يجوز أيضا، لكونه تدليسا وخيانة.. وإن لم يعلم بذلك فلا يبعد
الجواز، للأصل.. بل الاستحباب، للعمومات المتقدمة، ويدل عليه أيضا
حديث قضاء علي (عليه السلام) بين صاحبي الأرغفة الثمانية المروي في الكافي
والفقيه والتهذيب (2).
وقال والدي العلامة في المعتمد بعدم الجواز مع جهل صاحب الحق
بعلم الحاكم بالحق مطلقا.
ثم لو ارتكب القاضي المحرم وأمر بالصلح أو رغب فيه فيما يحرم
ورضى به، فقال والدي العلامة (رحمه الله) بصحة الصلح، لعدم تعلق النهي به، بل
بأمر الحكام.. نعم، له خيار الفسخ بعد علمه به.
وأما في الأخير، فالاستحباب غير واضح، لأنه حقيقة ليس ترغيبا في
الصلح، لأن الظاهر منه هو ما يكون قبل ثبوت الحق لإسقاط اليمين أو رفع
تجشم الإثبات، بل هو ترغيب لأحدهما باسقاط الحق أو بذل المال لغير

(1) الكافي في الفقه: 447.
(2) الكافي 7: 427 / 10، الفقيه 3: 23 / 64، التهذيب 6: 290 / 805 الوسائل
27: 285 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 21 ح 5.
128

مستحقه.
والظاهر أن إضافة الأصحاب الترغيب إلى ضمير التثنية لتخصيصهم
الاستحباب بغير هذه الصورة، إذ لا معنى لترغيب الخصمين حينئذ كما
لا يخفى.
وقول المحقق والفاضل في الشرائع والقواعد بكراهة شفاعة الحاكم
في إسقاط الحق (1) منزل على ذلك أيضا، فلا تنافي بين قولهما باستحباب
الترغيب في الصلح والكراهة في هذه الشفاعة، ولا حاجة في الجمع بينهما
إلى جعل الصلح متوسطا بين الإسقاط وعدمه، أو جعله مستثنى، أو حمله
على بعث غيره على ترغيبهما في ذلك، كما في المسالك (2).
وظاهر جماعة - كالمفيد والنهاية والكامل والمراسم والسرائر - عدم
جواز الشفاعة (3).
ودليلهم رواية السكوني، وفيها: " ولا تشفع في حق امرئ مسلم
ولا غيره إلا بإذنه " (4).
والنبوي: سأله أسامة حاجة لبعض من خاصم إليه، فقال له:
" يا أسامة، لا تسألني حاجة إذا جلست مجلس القضاء، فإن الحقوق ليس
فيها شفاعة " (5).

(1) الشرائع 4: 81، القواعد 2: 205.
(2) المسالك 2: 366.
(3) المقنعة: 724، النهاية: 341، المراسم: 231، السرائر 2: 160.
(4) الفقيه 3: 19 / 45 الوسائل 27: 304 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 35
ح 1.
(5) دعائم الإسلام 2: 537 / 1905، مستدرك الوسائل 17: 358 أبواب آداب
القاضي ب 11 ح 2، بتفاوت يسير.
129

والأولى قاصرة الدلالة على الوجوب. والثانية غير ثابتة الحجية..
فالكراهة أولى.
فرع: قال والدي العلامة (قدس سره) في المعتمد: ثم من يؤدى إليه شئ
بالصلح بالإعطاء أو الإسقاط بغير حق، فإن علم بعدم استحقاقه له حرم
عليه ووجب أن يتخلص منه، وإلا لم يحرم عليه، لعلمه ظاهرا بكونه حقا
له، نظرا إلى فعل الحاكم. انتهى. ولي فيه تأمل.
المسألة السادسة: قال جماعة بأنه يكره للقاضي أن يضيف أحد
الخصمين إلا ومعه خصمه (1).
لرواية السكوني: " إن رجلا أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) فمكث عنده أياما ثم
تقدم إليه في خصومة لم يذكرها لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال له: أخصم أنت؟
قال: نعم، قال: تحول عنا، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى أن يضاف خصم إلا ومعه
خصمه " (2)، وظاهرها عدم الجواز، وبه صرح في المبسوط (3). وهو الأقوى.
وتدل عليه أيضا منافاته للتسوية الواجبة.
وصرح في القواعد (4) وغيره (5) بكراهة حضوره ولائم الخصوم، وعلل
بأنه لئلا يزيد أحدهم في إكرامه فيميل إليه.. ويمكن القول بتحريمه إذا كان
لأحد المتخاصمين، لمنافاته التسوية، بل لهما أيضا إذا دخل في الرشوة
المحرمة.

(1) المبسوط 8: 151: القواعد 2: 205.
(2) الكافي 7: 413 / 4، التهذيب 6: 266 / 544، الفقيه 3: 7 / 21 الوسائل 27:
214 أبواب آداب القاضي ب 3 ح 2، بتفاوت.
(3) المبسوط 8: 151.
(4) القواعد 2: 205.
(5) المسالك 2: 364.
130

المسألة السابعة: يكره أن يسار القاضي أحدا في مجلسه، لكونه مورثا
للتهمة، ولمرفوعة البرقي (1)، ومرسلة الفقيه (2): قال أمير المؤمنين (عليه السلام)
لشريح: " لا تسار أحدا في مجلسك ".
وأما مسارة أحد الخصمين فهي محرمة، لمنافاتها التسوية.
المسألة الثامنة: يكره أن يعنت الشهود، أي يدخل عليهم المشقة،
ويكلفهم ما يثقل عليهم من التفريق والمبالغات في مشخصات القضية، إذا
كانوا من ذوي البصائر والأديان القوية.
ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد، وهو أن يداخله في التلفظ
بالشهادة، بأن يدخل في أثناء شهادته كلاما يجعله ذريعة إلى أن ينطق بما
أدخله الحاكم، ويعدل عما كان يريد الشاهد، هداية له إلى شئ ينفع
فتصح شهادته، أو يضر فترد شهادته.
أو يتعقبه عند فراغه بكلام ليجعله تتمة للشهادة، بحيث تصير به
الشهادة مسموعة أو مردودة.
بل الواجب أن يصبر عليه حتى ينتهي ما عنده، ثم ينظر فيه ويحكم
بمقتضاه من قبول أو رد.
وإذا تردد الشاهد في شهادته لم يجز له ترغيبه في إقامتها، لجواز
عروض أمر يوجب التردد.
ولا يجوز له تزهيده في الإقامة، ولا أن يردده فيها.

(1) الكافي 7: 413 / 5، التهذيب 6: 227 / 546، الوسائل 27: 213 أبواب آداب
القاضي ب 2 ح 2.
(2) الفقيه 3: 7 / 24، بتفاوت يسير، الوسائل 27: 213 أبواب آداب القاضي ب 2
ح 2.
131

ولا يجوز له إيقاف عزم الغريم عن الإقرار، ويجوز ذلك في حقوق
الله سبحانه، كما تنبه عليه قضية ماعز (1).
والوجه في الكل واضح.
المسألة التاسعة: قالوا: يستحب إجلاس الخصمين بين يدي
الحاكم. وهو كذلك، لأنه أقرب إلى التسوية وأسهل للمخاطبة.
ولقول علي (عليه السلام) حين ترافعه مع يهودي في الدرع عند شريح: " لولا
أنه ذمي لجلست معه بين يديك، غير أني سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول:
لا تساووهم في المجالس " (2).
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قضى أن يجلس الخصمان بين يدي
القاضي (3).
ولو قاما بين يديه جاز.
قيل: ولا تجوز الإقامة إن لم يرضيا (4).
وهو حسن إن كان القضاء في مكان مباح لهما أو مملوك لمن أذن
بالجلوس لهما، وإلا فتجوز إن لم يأذن المالك بالجلوس، بل تجب.
وإن اختار أحدهما القيام مع جلوس الآخر فقد أسقط نفسه حقه
بالتسوية، فيجوزه من يرفع الأمر بالتسوية حين إسقاط أحدهما. والحق عدم
السقوط كما مر.
المسألة العاشرة: إذا تعدى الغريمان أو أحدهما سنن الشرع، فإن

(1) سنن البيهقي 8: 226.
(2) المغني 11: 444 - 445، بتفاوت.
(3) المغني 11: 445.
(4) انظر كشف اللثام 2: 149.
132

كان بالإتيان بمحرم - كفحش أو ضرب أو إيذاء للغريم أو معاونه أو للقاضي
بنسبته إلى جور أو ميل أو مثل ذلك - فعلى القاضي العمل بمراتب النهي عن
المنكر في ردعه عن التعدي، وإجراء حكم ما صدر فيه من حد أو تعزير، إن كان
مما له حكم.
وإن كان بغير المحرم - كإساءة أدب ومثلها - فينبغي له وعظه وإرشاده
برفق ومداراة.
المسألة الحادية عشرة: قالوا: من أتى القاضي مستعديا على خصمه
والتمس من الحاكم إحضاره، فإن كان خصمه في البلد وكان ظاهرا غير
معذور يمكن إحضاره وجب على الحاكم إجابته وإحضاره مطلقا، سواء
حرر المستعدي دعواه أم لا، وسواء شق عليه الحضور في مجلس الحكم
- لكونه من أهل الصيانات والمروات - أم لا.
ونسبه في الكفاية إلى المعروف من مذهب الأصحاب (1)، وفي
المسالك وشرح المفاتيح والمعتمد وعن المبسوط: ادعاء الإجماع عليه (2).
قيل: لتوقف الحكم الواجب بينهما على ذلك، ولأن الحاكم منصوب
لاستيفاء الحقوق، وترك الإحضار تضييع لها (3).
واحتاط في الكفاية في إحضاره قبل تحرير الدعوى، لأن في
الإحضار في مجلس الحكم نوع إيذاء، فلعل دعواه كانت غير
مسموعة (4).

(1) الكفاية: 365.
(2) المسالك 2: 265، المبسوط 8: 154. وفيه: وهو الأقوى عندنا...
(3) الرياض 2: 393.
(4) الكفاية: 265.
133

وعن الإسكافي: التخصيص بمن لا يشق عليه الحضور من جهة
الرفعة والشرف، وأما هو فيوجه الحاكم إليه من يعرفه الحال ليحضر، أو
وكيل له، أو أن ينصف خصمه ويغنيه عن معاودة الاستعداء (1).
وفي المبسوط عن بعضهم: إن كان من أهل الشرف فيستدعيه الحاكم
إلى منزله دون مجلس الحكم، لما ذكر (2).
ورد بعدم منافاة ذلك للشرف، فإن عليا (عليه السلام) حضر مع يهودي عند
شريح، وحضر عمر مع أبي عند زيد بن ثابت ليحكم بينهما في داره،
وحج المنصور فحضر مع جمالين مجلس الحكم لحلف كان بينهما (3).
قالوا: وإن احتاج الإحضار إلى بعض الأشخاص المرتبين على باب
القاضي فالظاهر أن مؤنتهم على الطالب إن لم يرزقوا من بيت المال.
وإذا ثبت عند القاضي امتناعه من غير عذر أو سوء أدب فللقاضي أن
يستعين على إحضاره بأعوان السلطان، فإذا حضر عزره بما يراه.
وفي كون مؤنة المحضر - والحال هذه - على المدعي أو على
الخصم، وجهان، جزم بعضهم بالثاني (4) ولا وجه له.
قالوا: ومتى كان للمطلوب عذر مانع من الحضور - كالمرض
والخوف من عدو وشبههما - فليس للقاضي أن يكلفه الحضور، بل يكلفه
بعث وكيل ليخاصم عنه، أو يبعث القاضي من يحكم بين المتخاصمين،
وإن دعت الحاجة إلى تحليفه يرسل إليه من يحلفه.

(1) حكاه عنه في المختلف: 702.
(2) المبسوط 8: 154.
(3) انظر المبسوط 8: 154.
(4) كما في المسالك 2: 365.
134

قالوا: وإن كان المطلوب خارج البلد لا يحضره القاضي بمجرد
التماس المدعي، بل يسأله أن يحرر دعواه عليه، فإن حررها وكانت دعوى
مسموعة أحضره وإن كان في بلدة بعيدة منه، وإن لم يحرر دعواه وحررها
وكانت غير مسموعة لم يكلفه الحضور.
والفرق بين المسألتين في اعتبار التحرير في الثانية دون الأولى لزوم المشقة
والضرر وعدمهما، إذ ليس في إحضار الحاضر مؤنة ولا مشقة، بخلاف الغائب.
وخالف في ذلك الإسكافي أيضا، ولم يوجب الإحضار حينئذ
بمجرد تحرير الدعوى أيضا، بل قال: لم يجب إلا بعد أن يثبت المستعدي
حقه عند الحاكم (1). ومثله قال في الخلاف (2).
وفرق في المبسوط بين كونه في بلد تحت ولاية القاضي وغيرها،
فيحضر بالتحرير في الأول، ويقضي على الغائب في الثاني (3).
وفرق في المختلف بين ما إذا لم يتمكن المدعي من الإثبات وطلب
غريمه للإحلاف، أو لم يكن له مال، بل كان بيد الغريم، فلا يمكنه
استيفاء الحق لو ثبت منه بدون حضوره.. وبين ما إذا تمكن وكان له مال
يستوفي منه الحق إن ثبت.. فيحضر في الأول دون الثاني (4).
وقد تلخص مما ذكر: أن في صورة الحضور في البلد: ظاهر الأكثر
الاتفاق على الإحضار ولو قبل التحرير، لغير ذوي الأشراف وأرباب المعاذير.
نعم، ناقش بعض متأخري المتأخرين في ذلك، واحتمل اختصاص

(1) حكاه عنه في المختلف: 702.
(2) الخلاف 6: 235 - 236 / 34.
(3) المبسوط 8: 155.
(4) المختلف: 703.
135

وجوب الإحضار مع الحضور بصورة تحرير الدعوى (1). وهو ظاهر المحقق
الأردبيلي، بل تأمل هو في جواز الإحضار بدون (2) التحرير أيضا.
وفي صورة الغيبة: ولا يحضر قبل التحرير، وأما بعده فالأكثر على
الإحضار، والفاضل في المختلف على التفصيل المذكور، والمحقق
الأردبيلي على التفصيل المنقول عن المبسوط.
هذا في الرجل.
وأما المرأة، فقالوا: إن كانت برزة كان حكمها حكم الرجل، فتحضر
حيث يحضر الرجل ولو من غير البلد، ولكن يشترط هنا - زيادة على
الرجل - أمن الطريق من هتك عرض ووجود محرم ونحوه.
وفي الكفاية: الأولى البعث إليها للإحضار أو التوكيل، إلا بالنسبة إلى
من لا تبالي بالإحضار أصلا (3).
قالوا: وإن كانت مخدرة لم تكلف الحضور بنفسها، بل يبعث إليها
من يحكم أو يأمرها بالتوكيل.
وفي الكفاية: لا يعتبر في المخدرة لأن لا تخرج إلا لضرورة، بل
الظاهر أن التي قد تخرج إلى عزاء ذوي الأرحام أو زياراتهم أو إلى الحج
وزيارة المشاهد أحيانا مخدرة.
بل مع كثرة ذلك وخروجها إلى السوق للبيع والشراء ونحوهما كثيرا
- كالخروج لشراء الخبز والقطن وبيع الغزل ونحوها - بحيث لا تبالي
بالخروج، فهي برزة، والمرجع فيها إلى العرف والعادة.

(1) حكاه في الرياض 2: 393.
(2) في " ق " بذلك...
(3) الكفاية: 265 - 266.
136

وعن الشيخ في المبسوط: إن البرزة هي التي تبرز لقضاء حوائجها
بنفسها، والمخدرة هي التي لا تخرج لذلك، وهو قريب (1). انتهى.
قال في القواعد وشرحه: فإن اختفى المدعى عليه المحضر نادى
منادي الحاكم على بابه ثلاثة أيام إن لم يحضر سمر (2) بابه وختم عليه
وجمع أهل محلته وأشهدهم على أعدائه.
فإن لم يحضر وسأل المدعي ختم بابه ختمها، فإن لم يحضر بعد
الختم بعث الحاكم من ينادي إن لم يحضر أقام الحاكم عنه وكيلا وحكم عليه.
فإن لم يحضر فعل ذلك وحكم عليه إن ثبت عليه شئ وإن لم
يحكم عليه حال الغيبة ابتداء (3). إنتهى.
هذا ما ذكروه في هذا المقام، ولم أجد على أكثر ما ذكروه دليلا، ولا
أرى له وجها، إلا إذا قلنا بعدم جواز الحكم على الغائب مطلقا.
وأما لو قلنا بجوازه كذلك أو على الغائب عن البلد، فلا وجه
لوجوب الإحضار فيما يجوز فيه الحكم عليه، لعدم توقف الحكم عليه، بل
يحكم مع غيبته، فإن أدى إلى الحلف، فإن جوز الحلف في غير مجلس
القضاء يبعث من يحلفه، وإلا يحضره حينئذ.
وإن أدى إلى أخذ مال فيؤديه الحاكم من مال المدعى عليه إن كان،
وإن كان ماله عند نفسه يبعث من يأخذه منه أو يأتي بحجته، بل يمكن أن
يقال بعدم وجوب ذلك حينئذ على الحاكم عينا، بل يجب على كل مقتدر

(1) الكفاية: 266.
(2) السمر: شدك شيئا بالمسمار. وسمره يسمره وسمره، جميعا: شده. لسان
العرب 4: 378.
(3) القواعد 2: 207، كشف اللثام 2: 334.
137

على إجراء حكمه كفاية.
والتمسك بالإجماع ضعيف، لأن تحققه - بعد ما علمت - غير ثابت،
ومنقوله غير حجة، وأضعف منه التمسك بجريان الصدر السلف عليه، إذ
لم يكن في السلف للفرقة الناجية قضاة علانية يحضرون ويعزرون غالبا،
بحيث تثبت منه السيرة أو الإجماع، وكان الحكم بيد المتغلبة.
وبالجملة: لا وجه تاما لوجوب الإحضار مع جواز الحكم على
الغائب، فالأقرب: التخيير، والأولى البعث إليه وإخباره بأنه يحضر أو
يحكم عليه.
ثم إن بعض شراح المفاتيح - بعد بيان وجوب الإحضار كما تقدم -
قال في شرح مسألة الحكم على الغائب: كما يجب على القاضي إحضار
الخصم مع سؤال المدعي وإمكان حضوره، كذلك يجوز - على المشهور -
أن لا يحضره، بل يحكم على من غاب عن مجلس القضاء، سواء كان
مسافرا أو حاضرا في البلد. انتهى.
ولا يخفى ما فيه من التناقض ظاهرا.
وأما بعث المنادي وختم الدار فلم أظفر له على رواية، ويشبه أن
يكون ذلك مستخرجا من الاعتبارات التي يستحسنها العامة، وإن كان شأن
مثل الفاضل أرفع من ذلك، ولولا أنه تصرف في مال الغير بدون إذنه لقلنا
باستحبابه، لفتوى ذلك الشيخ الجليل.
والله هو الهادي إلى سواء السبيل.
138

الفصل الثاني
فيما يتعلق بالمدعي ودعواه
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لما كانت تتعلق بالمدعي أحكام - كتقديم مختاره
من الحاكمين، وطلب البينة منه، ونحو ذلك - مست الحاجة إلى معرفته،
وعرفه الفقهاء بثلاثة تعريفات:
أحدها: أنه الذي لو ترك الخصومة والنزاع لترك وحاله، وخلي
ونفسه.. وبعبارة أخرى: أنه الذي لو سكت ولم يخاصم سكت عنه، ولم
يخاصم، ولم يتوجه إليه كلام، ولم يطالب بشئ.
وثانيها: إن المدعي هو الذي يدعي خلاف الأصل. والظاهر أن المراد
بالأصل هو القاعدة دون أصل العدم خاصة، فيكون مدعي ملكية عين في
يد غيره مدعيا.
وثالثها: إن المدعي هو الذي يذكر أمرا خفيا بحسب الظاهر، أي
خلاف الظاهر بحسب المتعارف والمعتاد.
والمنكر خلاف المدعي على كل من التعريفات.
وقد زيد رابع أيضا، وهو الذي يدعي الثاني أو الثالث، نقله في
النافع والشرائع والقواعد والروضة قولا (1)... ويحتمل أن يكون الترديد

(1) المختصر النافع: 284، الشرائع 4: 106، القواعد 2: 208، الروضة 3: 76.
139

لبيان تعدد القول دون أقسام المدعي، كما هو الظاهر من الشرائع.
وقد يزاد خامس، وهو: أن المدعي من يكون في مقام إثبات قضية
على غيره، ذكره في مجمع البحرين قائلا: إنه الظاهر من الحديث (1).
وحكي نسبته إلى الصدوق أيضا.
وليس المراد بالترك في التعريف الأول تركه مطلقا ولو من غير جهة
تلك الدعوى الخاصة التي يدعيها، بل المراد تركه من هذه الجهة ومن تلك
الحيثية، فإن قيد الحيثية في التعاريف مأخوذ، بل رجوعه إلى ما تقتضيه
الحالة السابقة شرعا لولا تلك الدعوى، كما صرح به والدي العلامة (قدس سره) في
المعتمد، قال: المراد بالترك هو: عدم الإلزام بأمر متجدد حادث، مع العمل
بالحالة السابقة والرجوع إلى ما ثبت شرعا قبل الدعوى. وبعدمه: الإلزام
بمتجدد حادث لإثبات واقع قبلها. انتهى.
وذكر قريبا منه المحقق الأردبيلي.
والمراد بالأصل في التعريف الثاني هو القاعدة الثابتة شرعا، اللازم
أخذها لولا ثبوت خلافها، سواء كان أصل العدم أو غيره، لا خصوص
أصل العدم والاستصحاب.
وعلى هذا يظهر تساوق المعنيين الأولين واتحادهما وتلازمهما في
جميع الموارد، إذ كل من يدعي خلاف أصل بالمعنى الذي ذكرنا لو ترك
دعواه يترك ويعمل بالأصل الذي ادعى خلافه، وكل من يترك على الحالة
السابقة ويعمل بمقتضاها شرعا لو ترك الدعوى يدعي خلاف الأصل
بالمعنى المذكور.

(1) مجمع البحرين 1: 143.
140

وما يتوهم فيه افتراقهما من دعوى المديون الرد، حيث إنه يدعي
خلاف الأصل ولا يترك لو ترك.
فاسد، لأنه أيضا لو ترك هذه الدعوى يترك من هذه الحيثية، ويعمل
بمقتضى الحالة السابقة، وهي وجوب الرد عليه.
وكذا الكلام في دعوى المتصرف في مال الغير - بنحو من الأنحاء -
الرد، فإن عدم ترك مدعي الإيفاء والرد بعد الإقرار ومؤاخذته بهما إنما هو
مقتضى الحالة السابقة المستصحبة ورجوع إليها.
وقد يتوهم الافتراق في مثل دعواه عدم كون بائع مال زيد وكيلا عنه
مع إقرار زيد بالتوكيل ليرد العين أو يسترد الثمن أو لا يطالب به.
وهو أيضا فاسد، لأنه ليس مدعيا في تلك الدعوى، بل هو المدعي
للوكالة بعد الإقرار بملكية الغير، لأنه لو ترك يترك على ما تقتضيه الحالة
السابقة شرعا من الرد والاسترداد.
نعم، لو ادعى المشتري استحقاق الرد أو الاسترداد مطلقا فيكون
مدعيا من تلك الجهة، فها هنا دعويان، إحداهما: فساد البيع من غير
تعرض للتوكيل وعدمه، فالمشتري مدع بالمعنيين. والأخرى: فساده من
جهة انتفاء التوكيل، وهو مدعى عليه من هذه الجهة.. وهكذا في أمثاله.
ومما ذكرنا ظهر أيضا اتحاد المعنى الخامس مع الأولين أيضا.
وأما تفسيره بمعنى من يدعي خلاف الظاهر فهو قد يفارق الأولين،
كما في مثال إسلام الزوجين الذي ذكروه، إذا ادعى أحدهما التقارن والآخر
التعاقب، حيث إن الأصل التعاقب، لأصالة تأخر إسلام كل منهما إلى آخر
ما يمكن التأخير إليه.. وخلاف الظاهر العلم بالتقارن.
ويفارقهما أيضا في دعوى زيد مالا على عمرو، فإنه مدع على
141

الأولين دون التفسير بدعوى خلاف الظاهر.
وكيف كان، فالظاهر من المعاني المذكورة هو أحد الثلاثة، أو
جميعها، من جهة أنها تتحد مواردها للعرف، الذي هو الحاكم في أمثال
المقام، فإنه المتبادر عرفا.
ولا يعارضه وضع لغوي، لعدم ثبوت وضع لغوي - مخالف لذلك -
لمبدأ اشتقاق المدعي، الذي هو: الدعوى أو الادعاء.. ولا يضر ثبوته
لمثل الدعاء والدعوة، لاختلاف اللفظين ولو من جهة الهيئة الاشتقاقية.
ويدل عليه أيضا استقراء موارد استعمال هذه الألفاظ في الأخبار، كما
لا يخفى على المتتبع.
وأما التفسير بدعوى خلاف الظاهر، فهو مما لا دليل عليه، ولا شاهد
له من العرف أو اللغة، ويخالف ما يطلق عليه المدعي في بعض الموارد
قطعا كما أشرنا إليه.
ومع ذلك يخدشه: أن الظهور والخفاء قد يحصل بأمارات جزئية
مختلفة بالنسبة إلى الأشخاص - كالعدالة والأمانة وسائر القرائن - فيلزم أن
يكون شخص واحد في دعوى واحدة مدعيا عند حاكم يعرف ديانة
المدعي عليه، ومنكرا عند آخر لا يعرفها، ويستبعد وضع لفظ المدعي
والمنكر لمثل ذلك.
ولذلك قد يقال: بأن المراد بالظاهر في ذلك التفسير هو الظاهر
شرعا، أي لولا دليل على خلافه ثبت أخذه شرعا ما لم يثبت خلافه،
ويرجع حينئذ إلى المعنى الأول، بالمعنى الذي ذكرنا للأصل.
وقد يفسر الظاهر بمقابل الخفي، والأصل بأصل العدم والاستصحاب،
142

ويحمل الترديد في التعريف - كما في النافع والشرائع (1) وغيرهما (2) - على
الاختلاف في تقديم الأصل أو الظاهر عند تعارضهما.
[ففي] (3) كل موضع يقدم الأصل يجعل المدعي من يدعي خلافه.
وفي كل موضع يقدم الظاهر يجعل من يدعي خلاف الظاهر.
وفي كل موضع تساويا في الظهور والخفاء ومخالفة الأصل وموافقته
- كما لو ادعى كل منهما عينا في يدهما جميعا - يرجع إلى التداعي، لكون
كل منهما مدع من جهة، ومدعى عليه من أخرى.
ولا يخفى أن هذا أيضا يرجع إلى التفسير الأول، لأن الظاهر الثابت
تقديمه شرعا على الأصل هو الأصل بالمعنى الذي ذكرناه، ومع ذلك
لا يلائم تعريفه بمن يدعي خلاف الظاهر خاصة.
وقد يقوى تعريفه بمدعي خلاف الظاهر بتعلق اليمين في بعض
الموارد على من معه الظاهر، فمقابله يكون مدعيا.
وفيه: أنه كل ما كان كذلك فإنما هو في موضع يكون الظاهر حجة
شرعا، فيكون أصلا ولو سلم عدم حجيته في بعض المواضع، فيكون تعلق
اليمين ثابتا بدليل خارج، كما في اليمين المردودة وجزء البينة
والاستظهارية.. وليس في مطلق تعلق اليمين دلالة على كون مخالفه
مدعيا.
وقد يقوى أيضا بأن جعل البينة على المدعي قرينة على أنه الطرف
الأضعف، والمنكر هو الطرف الأقوى، ولذا جعلت عليه اليمين، ومن معه

(1) المختصر النافع: 284، الشرائع 4: 106.
(2) كالمسالك 2: 387، الرياض 2: 410.
(3) في " ح " و " ق ": في، والأنسب ما أثبتناه.
143

الظاهر يقوى طرفه بالظهور، فيكون مخالفه مدعيا.
ولا يخفى ما فيه، فإنه علة مستنبطة لا حجية فيه، مع أن الظهور إن
كان بدون لزوم أخذه شرعا تمنع تقويته، وإلا فيرجع إلى الأصل بالمعنى
الذي ذكرناه.
ثم لا يخفى أن توجه اليمين في بعض الموارد على المدعي
لا يوجب نقضا في تعريفه أصلا، إذ ليس عدم توجه اليمين جزء من
حقيقته ولا مأخوذا في تعريفه، وإنما هو حكم شرعي ثابت له بالعمومات
أو المطلقات القابلة للتخصيص والتقييد، فكلما توجه يمين على المدعي
العرفي فهو من ذلك الباب، مع أن في ما مثلوا به للنقض من الودعي
المدعي للرد كلاما مرت الإشارة إليه.
ولا يخفى أيضا أنه يمكن أن يكون شخص واحد مدعيا ومدعى عليه
باعتبارين، وكل من المتداعيين مدعيا ومنكرا كذلك، كما مر بعض أمثلته
في مسألة تقديم من يختاره المدعي من الحاكمين، ومنه ما إذا ادعى البائع
بيع عبده وادعى المدعي شراء أمة البائع، إلى غير ذلك.
المسألة الثانية: يشترط في المدعي أن يكون بالغا عاقلا، فلا تسمع
دعوى الصغير ولا المجنون، بلا خلاف يوجد، كما صرح به طائفة (1)، بل
بالإجماع كما في المعتمد، بل بالإجماع المحقق.
قيل: وللأصل، أي أصالة عدم ترتب آثار الدعوى من وجوب
سماعها وقبول بينة المدعي وسقوط دعواه بالحلف وثبوتها بالنكول ونحوها
عليها، لاختصاص ما دل على سماع الدعوى وأحكامها - بحكم التبادر -

(1) منهم المحقق في المختصر النافع: 284، العلامة في القواعد 2: 208،
السبزواري في الكفاية: 274، صاحب الرياض 2: 410.
144

بما إذا صدرت ممن اجتمعت فيه الشرائط، التي منها التكليف، مضافا إلى
تضمن الدعوى أمورا تتوقف على التكليف، كإقامة البينة ونحوها (1).
ولا يخلو عن نظر، لمنع التبادر المذكور من مثل قوله: * (كونوا
قوامين بالقسط) * (2) وقوله: * (فاحكم بين الناس بالحق) * (3) ونحوهما (4)،
بل مثل قوله عليه السلام: " البينة على المدعي " (5)، لأن ذلك حكم وضعي
لا تكليفي.. ومنع توقف ما ذكر على التكليف، ولو سلم فينتقل الكلام في
دعوى لا تتوقف على ذلك، فالمناط: الإجماع.
مضافا إلى تضمن الدعوى كثيرا تصرفات مالية - كإحلاف أو إقرار -
لا تجوز منهما، إلا أن مقتضاهما الاقتصار في عدم السماع بما يثبت فيه
الإجماع، أو ما أوجب تصرفا ماليا منه..
فلو جاء يتيم لا ولي له إلى حاكم وادعى: أن فلانا أفقأ عيني أو قتل
أبي أو نزع ثوبي ويريد الفرار ولي بذلك شهود فاسمع شهودي وخذ
بحقي، ولا يمكن الأخذ بعد فراره، فليس فيه تصرف مالي له، وتحقق
الإجماع على عدم السماع فيه غير معلوم.
نعم، يمكن القول بعدم جواز إحلافه ولا قبول حلفه لو رد إليه
حينئذ، بل الحاكم يحلف المنكر من جهة ولايته لو ظن صدق الصغير،
فتأمل.
وزاد المحقق الأردبيلي (رحمه الله) ووالدي العلامة - طاب ثراه - وبعض

(1) انظر الرياض 2: 410.
(2) النساء: 135.
(3) سورة ص: 26.
(4) المائدة: 8، 42.
(5) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3.
145

آخر (1): الرشد أيضا، وادعى في المعتمد الإجماع عليه صريحا.
ولا أرى له دليلا، سيما فيما لا يتضمن دعوى مالية، كادعاء القذف
والضرب والجرح ونكاح الولي في حال الصغر ونحوها.. والإجماع مطلقا
غير ثابت.
نعم، لا تسمع دعواه المتضمنة للتصرفات المالية، لعدم جوازها من
السفيه، أو تسمع إلا إذا انتهى إلى تصرف مالي.
وأن يدعي لنفسه أو لمن له الولاية عليه أبوة أو حكومة أو قيمومة أو
وصاية أو وكالة، بالإجماع مطلقا إثباتا، وفي الجملة نفيا.
وقد يزاد دليلا للنفي: أن المدعي من يطالب بحق مالي أو غيره،
ولاحق لغير من ذكر، وحق الغير ليس له مطالبته.
وفي كون المدعي من ذكر مطلقا وعدم جواز مطالبة حق الغير كذلك
ولو بمجرد إثباته نظر.
وقد يزاد أيضا الأصل، فإن الأصل عدم وجوب السماع، وعدم جواز
إجبار الغريم على الجواب، وعدم ترتب سائر آثار الحكم.
وفيه: أنه حسن لولا عمومات الحكم، نحو قوله سبحانه: * (وأن
احكم بينهم بما أنزل الله) * (2).
و: * (لتحكم بين الناس بما أراك الله) * (3).
و: * (فاحكم بين الناس بالحق) * (4).

(1) كالمحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام): 677.
(2) المائدة: 49.
(3) النساء: 105.
(4) سورة ص: 26.
146

وقد أنزل سبحانه وأراه أن البينة على المدعي (1)، والأصل عدم نزول
غيره من رد الدعوى وعدم سماعها.
ومقتضى الأمر بالمحاكمة بينهم هو التحاكم ورفع النزاع مطلقا، فالمناط
في جانب النفي هو الإجماع، فيقتصر فيه على الثابت فيه الإجماع، وهو
المدعي عن الغير بلا ولاية ولا وكالة ولا إذن صريح أو بالفحوى أو شاهد الحال،
فلو ادعى بأحد هذه الوجوه تسمع الدعوى، ويحكم بما تقتضيه الشريعة.
وأما ما على الحاكم بعد السماع وما يجوز للمدعي بعد الدعوى فهو
أمر آخر، إذ تختلف آثار الدعوى في الموارد، فإنه ليس على الوكيل
والوصي الحلف ولا رد اليمين بدون التوكيل فيه للوكيل أو المصلحة للولي،
ولا ينفذ إقرار الوكيل، ولا يجوز له الأخذ بدون التوكيل فيه.
والحاصل: أن المراد هنا بيان شرائط صحة الدعوى وسماعها، وأما
لوازمها وآثارها فيذكر كل منهما في موضعه.
ثم بما ذكرنا - من الاقتصار في النفي بموضع الإجماع - يعلم عدم
توقف سماع دعوى الوكيل على ثبوت وكالته، كما هو ظاهر التحرير في
بحث جواب المدعى عليه أن ما في يده ليس له وأنه لغائب، قال: ولو أقام
ذو اليد البينة للغائب لم يقض بها للغائب، ولو ادعى وكالة الغائب كان له
إقامة البينة عن الغائب (2).
وظاهر المحقق الأردبيلي وبعض الفضلاء المعاصرين التوقف، حيث
قيدا السماع بالثبوت (3).

(1) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3.
(2) التحرير 2: 190.
(3) غنائم الأيام: 677.
147

وبما ذكرنا - من الاكتفاء بشاهد الحال - يصح سماع دعوى الأمين
الذي بيده ماله الغير ولا يمكنه إثبات وكالته في الدعوى، ومع إيجاب
تأخيرها ضياع حق مالكه، مع أن في مثله حقا للأمين أيضا، وهو أنه لولا
الادعاء للزم التفريط المستلزم للضمان، بل له حق الأخذ منه.
وكذا يصح سماع دعوى مثل الجار الذي ادعى لجاره الغير الحاضر
على شخص بأنه سرق مال جاره ويريد الفرار.
ودعوى رد صديقه الغائب الدين الذي يدعيه الدائن عند الحاكم
ليأخذ من ماله.
أو إيفاء الميت - الذي له صغار - دينا يدعيه عليه غيره، ويعلمه
شخص آخر، ويعلم شهوده عليه.
هذا إذا كانت الدعوى بشاهد الحال بقصد كونه من جانب المالك،
وإلا فقد يدخل في باب الشهادة.
المسألة الثالثة: يشترط في سماع الدعوى صحتها وإمكان ما يدعيه
- فلا عبرة بدعوى محال عقلا أو عادة أو شرعا - ولزومه، فلو ادعى هبة أو
وقفا لم تسمع إلا مع دعوى الإقباض، وكذا الرهن عند مشترط الإقباض
فيه، فإن الإنكار فيما لا يلزم رجوع، ولأنه مع الإثبات لا يجوز الإجبار على
التسليم، كذا ذكروا.
وفيه نظر، لأن أصل الملك شئ، ولزومه أمر آخر، ولكل منهما
فوائد، فيمكن دعوى أحدهما بدون الآخر، وإذا ثبت أحدهما يبقى الآخر،
فإن سلم المدعى عليه ذلك، وإلا لا بد من إثبات ذلك الأمر إن أراد اللزوم،
فيمكن أن يثبت أو يحلف كما في سائر الدعاوى، ولولاه لزم عدم دعوى
شراء حيوان إلا مع ضم مضي زمان سقوط خيار الثلاثة وتفرق المجالس.
148

والظاهر عدم القائل بذلك، ولذا تأمل في أصل الاشتراط المحقق
الأردبيلي، معللا بما ذكرنا، فلا يبعد سماع الدعوى، ومع ثبوتها العمل
بمقتضاها ولوازمها، إن متزلزلا فمتزلزلا، وإن لازما فلازما.
ولو قلنا: بأنه إن ذكر فائدة للدعوى أو كانت الفائدة موافقة للأصل
تسمع وإلا فلا، كان أقرب، بل هو الأظهر، كما سيظهر وجهه.
المسألة الرابعة: يشترط أن يكون المدعى به مما يصح تملكه، فلا
تسمع دعوى ما لا يملك، كحشرات الأرض - إلا مع التصرف فيه لمنفعة
مقصودة للعقلاء كدواء - وكالخمر والخنزير إذا كان المدعي مسلما ولو على
ذمي، والوجه ظاهر.
المسألة الخامسة: ذهب المحقق (1) وجماعة (2) إلى أنه يشترط في
الدعوى كونها بصيغة الجزم، فلو قال: أظن، أو: أتوهم أن لي أو لأبي
عليك دينارا، أو أنك سرقت مالي، لم تسمع دعواه، حتى ادعى اليقين
فيما ادعاه، وهو المحكي عن ابن زهرة والكيدري والتنقيح (3)، ونسبه في
الكفاية إلى المشهور (4)، وفي المعتمد إلى الأكثر.
وحكي عن الشيخ نجيب الدين بن نما وفخر المحققين والشهيدين
في النكت والمسالك عدم الاشتراط (5)، وهو ظاهر المحقق الأردبيلي،

(1) الشرائع 4: 82.
(2) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 366، السبزواري في الكفاية: 266، صاحب
الرياض 2: 410.
(3) الغنية: 625، حكاه عن الكيدري في الرياض 2: 410، التنقيح الرائع 4: 267.
(4) الكفاية: 266.
(5) حكاه عن ابن نما في الشرائع 4: 82 بقرينة ما في الإيضاح 4: 327 - 328
والتنقيح 4: 267 و....، وفخر المحققين في الإيضاح 4: 327، وحكاه عن
نكت الإرشاد في الرياض 2: 410، المسالك 2: 366.
149

واختاره بعض فضلائنا المعاصرين (1).
ولكن المنقول عن الأول عدم الاشتراط في التهمة (2)، وعن المحقق
الثاني عدم الاشتراط فيما يخفى عادة ويعسر الاطلاع عليه - كالقتل والسرقة
ونحوهما - والاشتراط في نحو المعاملات (3)، وهو ظاهر الدروس والروضة (4).
وقيل: لعلهم أرادوا بذلك ما ذكره ابن نما، فيتحدان، وهو ظاهر
بعض مشايخنا المعاصرين، حيث نفي الخلاف في الاشتراط فيما
لا يخفى، قال: وأما في غيره - كالتهمة - فقولان، ونسب القول بعدم
الاشتراط إلى الذين ذكرناهم (5).
ونقل في شرح المفاتيح عن الشهيد الثاني وابن نما القول بعدم
الاشتراط مطلقا، ثم قال: وقوى المحقق الشيخ علي عدم الاشتراط فيما
يخفى عادة. وظاهره تغاير القولين.
ولعل من حكم بالاتحاد فهم من التهمة ما يخفى، ومن حكم بالتغاير
حمل التهمة على مجرد التوهم، الذي هو أعم من الظن.
وتردد الفاضل في القواعد والإرشاد والتحرير (6)، وهو ظاهر
الصيمري والمفاتيح وشرحه والكفاية (7)، وإن كان كلام الأخير إلى عدم

(1) المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام): 678.
(2) انظر الشرائع 4: 82.
(3) حكاه عنه في مفتاح الكرامة 10: 69.
(4) الدروس 2: 84، الروضة 3: 80 - 81.
(5) انظر الرياض 2: 410.
(6) القواعد 2: 208، الإرشاد 2: 144، التحرير 2: 186.
(7) المفاتيح 3: 259، الكفاية: 266.
150

الاشتراط أميل.
وقال والدي المحقق (رحمه الله): والتحقيق عندي سماع الدعوى أولا، مع
احتمال إقرار الخصم، أو شهادة بينة لها، أو ادعاء المدعي سماع أحدهما،
حذرا من تأدي عدمه إلى الإضاعة المنهي عنها.. فإن تحقق أحدهما حكم
بمقتضاه، وإلا سقطت الدعوى كسقوطها أولا إن قطع بعدم احتمال شئ
منها.
إلى أن قال: فالظاهر أن المشترط للجزم لا ينفي إصغاء الحاكم إلى
الظان أولا مع تطرق الاحتمالات المذكورة، وإنما لم يتعرض لذلك
مسامحة، أو إحالة إلى الظهور. إنتهى.
والأقوى: عدم الاشتراط مطلقا، سواء كانت في المخفيات وغيرها،
كما صرح به الفاضل المعاصر (1)، لأصالة عدم الاشتراط.. مع صدق
الدعوى على غير المجزومة أيضا، فيقال: دعوى ظنية، أو احتمالية، ويدل
عليه عدم صحة السلب عرفا، فتشملها إطلاقات أحكام الدعوى والمدعي.
ولعموم أدلة الحكم، كقوله سبحانه: * (وأن احكم بينهم بما أنزل
الله) * (2).
وقوله جل شأنه: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر
بينهم) * (3).
وقوله عز جاره: * (فاحكم بين الناس بالحق) * (4)، وغير ذلك (5).

(1) المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام): 678.
(2) المائدة: 49.
(3) النساء: 65.
(4) سورة ص: 26.
(5) النساء: 135.
151

قيل: في دلالة عموم أدلة الحكم نظر، إذ لعل الحكم وما أنزل الله
عدم السماع (1).
وفيه: أنه يتم لولا مثل قوله: " البينة على المدعي " فإنه الحق ومما
أنزل الله، والأصل عدم إنزال غيره.
وللروايات المذكورة في باب ضمان الصائغ والأجير وغير ذلك
الباب (2).
وكرواية بكر بن حبيب: " لا يضمن القصار إلا ما جنت يداه، وإن
اتهمته أحلفته " (3).
والأخرى: أعطيت جبة إلى القصار فذهبت بزعمه، قال: " إن اتهمته
فاستحلفه، وإن لم تتهمه فليس عليه شئ " (4).
وصحيحة أبي بصير: عن قصار دفعت إليه ثوبا فزعم أنه سرق من
بين متاعه، فقال: " عليه أن يقيم البينة أنه سرق من بين متاعه وليس عليه
شئ " (5).
والأخرى: " لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك، إلا أن يكونوا
متهمين فيجيئون بالبينة، ويستحلف لعله يستخرج منه شئ " (6).

(1) الرياض 2: 411.
(2) الوسائل 19: 141 و 148 أبواب أحكام الإجارة ب 29 و 30.
(3) التهذيب 7: 221 / 967، الإستبصار 3: 133 / 481، الوسائل 19: 146 أبواب
أحكام الإجارة ب 29 ح 17.
(4) التهذيب 7: 221 / 966، الوسائل 19: 146 أبواب أحكام الإجارة ب 29 ح 16.
(5) الكافي 5: 242 / 4، الفقيه 3: 162 / 712، التهذيب 7: 128 / 953، الوسائل
19: 142 أبواب أحكام الإجارة ب 29 ح 5.
(6) التهذيب 7: 218 / 951، الفقيه 3: 163 / 715، الوسائل 19: 144 أبواب
أحكام الإجارة ب 29 ح 11.
152

وتوهم اختصاص تلك الروايات بالتهمة - فلا تنهض دليلا على
العموم - فاسد، لأن التهمة تعم جميع المواضع التي ينكر فيها المدعى
عليه، فإنها لا تختص بمثل القتل والسرقة، بل تشمل الكذب في الإنكار
وجلب النفع ودفع الضرر أيضا.. ولا ينفك المدعى عليه المنكر عن اتهامه
بأحد هذه الأمور.
ولا يضر الاختصاص بالأشخاص المذكورين فيها، لأن الظاهر عدم
الفرق، مع أن العلة المذكورة في الأخيرة لعلها عامة.
وتؤيد المطلوب أيضا روايتا أبي بصير (1) والأصبغ (2) الواردتين في
قضية الشاب الذي ذهب [أبوه] (3) مع جمع إلى سفر ولم يرجع، حيث
قضى شريح فيها بالحلف، ثم فرق أمير المؤمنين (عليه السلام) بين الشهود.. فإن
الظاهر كون دعوى الشاب احتمالية أو ظنية.
ويؤيد المطلوب أيضا سماع دعوى الورثة وحلفهم بنفي العلم ببراءة
المديون.
احتج المشترطون بأن المتبادر من الدعوى ما كان بالجزم.
وبأن الدعوى توجب التسلط على الغير بالالتزام بالإقرار، أو بالانكار،
أو التغريم، وهو ضرر عليه.
وبأن الدعوى في معرض أن يتعقبها يمين المدعي، أو القضاء
بالنكول، وهما غير ممكنين، لاستحالة الحلف بدون الجزم، وامتناع ثمرة

(1) الكافي 7: 371 / 8، التهذيب 6: 316 / 875، الفقيه 3: 15 / 40، الوسائل
27: 279 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 20 ح 1.
(2) الكافي 7: 373 / 9، الوسائل 27: 208 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 20 ح 1.
(3) ما بين المعقوفين ليس في النسخ، أضفناه من المصادر.
153

النكول، إذ لا يستحل للغريم أن يأخذ بمجرد إنكار المدعى عليه ونكوله،
لاحتمال كونه للتعظيم أو غيره.
وبالأخبار المصرحة: بأنه إذا رد اليمين على المدعي فلم يحلف فلا
حق له، كصحيحتي محمد (1) وجميل (2)، ومرسلتي أبان (3) ويونس (4)،
وأخبار البصري (5) والبقباق (6) ويونس (7).
والجواب عن الأول: منع التبادر كما مر، ولا يثبته حكم الإمام [عليه
السلام] في بعض الأخبار (8) برد اليمين على المدعي بالإطلاق، لأن غايته
أنه عام خص.
وعن الثاني: منع كون الإنكار والحلف ضررا، ولو سلم فتخصيص
عمومات نفي الضرر بالأدلة الشرعية ليس بعزيز، مع أنه قد يعارض بضرر
المدعي أيضا في عدم سماعه، كما إذا قطع بأن أحد هذين أخذ ماله ولم

(1) الكافي 7: 416 / 1، التهذيب 6: 230 / 557، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 1.
(2) الفقيه 3: 37 / 127، الوسائل 27: 242 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 7 ح 6.
(3) الكافي 7: 416 / 4، التهذيب 6: 230 / 561، الوسائل 27: 242 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 5.
(4) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 4.
(5) الكافي 7: 415 / 1، التهذيب 6: 229 / 555، الفقيه 3: 38 / 128، الوسائل
27: 236 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 4 ح 1.
(6) الكافي 7: 417 / 2، التهذيب 6: 231 / 563، الوسائل 27: 243 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 8 ح 2.
(7) لم نعثر عليه.
(8) الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 7.
154

يعلم التعيين، فتكون دعواه على كل منهما غير مجزومة، وتخصيص
السماع بمثل ذلك لعله فصل بلا قائل.
وعن الثالث: منع امتناع ثمرة النكول، ومنع عدم الحلية بمجرد
النكول، فإن الشارع قد أحل المال للغريم في نظائره كثيرا، كما في
صحيحة الحلبي: في الغسال والصباغ: " ما سرق منهما من شئ فلم يخرج
منه على أمر بين أنه قد سرق وكل قليل له أو كثير فهو ضامن، فإن فعل
فليس عليه شئ، وإن لم يفعل ولم يقم البينة وزعم أنه قد ذهب الذي قد
ادعى عليه فقد ضمنه إن لم تكن له بينة على قوله " (1).
وصحيحته الأخرى: عن رجل جمال استكري منه إبل، وبعث معه
بزيت إلى أرض، فزعم أن بعض الزقاق انخرق فاهراق ما فيه، فقال: " إنه
إن شاء أخذ الزيت " وقال: " إنه انخرق، ولكنه لا يصدق إلا ببينة عادلة " (2).
والثالثة: في حمال يحمل معه الزيت، فيقول: قد ذهب، أو أهرق،
أو قطع عليه الطريق: " فإن جاء ببينة عادلة أنه قطع عليه أو ذهب فليس
عليه شئ، وإلا ضمن " (3).
إلى غير ذلك من الأخبار المتكثرة (4).
وإذا استحل في هذه الموارد أخذ المال من الغريم إذا لم تكن له بينة
مع احتمال صدقه وعدم علم المدعي بكذبه، فلم لا يستحل فيما نحن فيه

(1) الكافي 5: 242 / 2، التهذيب 7: 218 / 952، الفقيه 3: 161 / 708، الوسائل
19: 141 أبواب أحكام الإجارة ب 29 ح 2، بتفاوت.
(2) الكافي 5: 243 / 1، التهذيب 7: 217 / 950، الفقيه 3: 162 / 710، الوسائل
19: 148 أبواب أحكام الإجارة ب 30 ح 1، بتفاوت يسير.
(3) الفقيه 3: 161 / 707، الوسائل 19: 153 أبواب أحكام الإجارة ب 30 ح 16.
(4) الوسائل 13: 276 أبواب أحكام الإجارة ب 30.
155

بالنكول؟! وهل كان المدعي عالما باشتغال ذمته؟!
بل هذه الأخبار أيضا أدلة لنا، إذ ليس للمدعي فيها أيضا إلا دعوى
الخيانة أو التفريط احتمالا، فحكم الإمام بالسماع وطلب البينة من المدعى
عليه والضمان بدونه.
وقد يوجد ما يمكن فيه طلب البينة من المدعى عليه في غير الدعوى
المجزومة أيضا، كما إذا ادعى عليه: إني أظن، أو أتوهم عدم ردك ما
استقرضت مني وبقاءه عليك.
وعن الرابع: بأنه مخصوص بما أمكن فيه الرد قطعا، وهو هنا غير
ممكن، لنهي الشارع عن الحلف بدون العلم.
وبأن الظاهر من قوله: " فلم يحلف " أنه نكل عن الحلف، لا أن
الشارع لم يجوز له ذلك، بل نقول: إنه صرح في روايتي أبي بصير (1)
ويونس (2) أنه: " لا يستحلف الرجل إلا على علمه " فتدلان على عدم جواز
الرد في المورد، والأخبار المتقدمة مخصوصة بما يجوز فيه الرد قطعا بل
في بعضها: إن المدعى عليه يستحلف المدعي، وفي آخر: إن الحلف
واجب على المدعي بعد الرد إليه، فلا يشمل المورد قطعا، بل وكذا كل ما
يتضمن رد المدعى عليه، فإنه يدل على جوازه له.
فإن قيل: فتح باب ذلك قد يوجب الضرر ببسط يد المتغلبة، فإن
كثيرا منهم يقطعون بعدم حلف الأشراف وذوي الشؤون للشئ اليسير،

(1) الكافي 7: 445 / 2، التهذيب 8: 280 / 1021، الوسائل 23: 247 أبواب الايمان
ب 22 ح 2.
(2) الكافي 7: 445 / 4، التهذيب 8: 280 / 1022، الوسائل 23: 247 أبواب
الايمان ب 22 ح 4.
156

فيدعون على هذا دينارا وعلى ذلك كذا، وهكذا.
قلنا أولا: بالمعارضة بالمثل في الضرر - كما مر - لمن قطع بالأخذ
وتردد في الأخذ بين شخصين أو أكثر.
وثانيا: أنه إن ظن المدعى عليه أو احتمل كذب المدعي في ادعاء
الظن أو الاحتمال فله أيضا حلفه على أنه ظان أو مجوز.، وإلا فلا يكون
تغلب وفتح لباب التغلب.
ثم إن مقتضى الأدلة التي ذكرنا: عموم سماع الدعوى الغير
المجزومة، سواء كانت ظنية أو احتمالية، بل وهمية، كما يظهر من كلام
جمع شمول محل النزاع له، كالشرائع والمفاتيح (1) وغيرهما (2)، حيث
عنونوا محل النزاع بقولهم: أظن، أو: أتوهم.. بل ظاهر كل من قال بعدم
الجزم في التهمة التعميم، إذ لا اختصاص للتهمة بالظن.
وقال في الدروس: وأما الجزم فالإطلاق محمول عليه، فلو صرح
بالظن أو الوهم فثالث الأوجه السماع فيما يعسر الاطلاع عليه (3).
وهو صريح في شمول النزاع للوهم أيضا.
واختصاص بعضهم بذكر الدعوى الظنية في مورد الخلاف لا وجه له.
ومن ذلك يظهر جواز تحليف كل من الجماعة التي يعلم عدم خروج
الحق من بينهم.
فرع: لو أنكر المنكر في هذه الدعوى ظن المدعي عليه أو تجويزه
فلا يخلو إما يدعي علمه بعدم المدعى به، أو علمه بتحققه من جهة اشتباه

(1) الشرائع 4: 82، المفاتيح 3: 259.
(2) الروضة 3: 80، مفتاح الكرامة 10: 69.
(3) الدروس 2: 84.
157

عليه وادعى الظن لعدم التسلط على رد الحلف.
وله تحليفه على عدم العلم في الصورة الأولى، لعموم الأدلة، فيندفع
تسلط المدعي إن نكل أو رد الحلف على مدعي العلم، ويتسلط على
إحلاف المدعى عليه ظنا إن حلف على انتفاء العلم.
وأما على الثانية، فليس له حلف المدعي على انتفاء العلم، لأن غايته
أنه يقول: إني لا أحلف ولا أريد ادعاء العلم، ورد الحلف إنما هو في
صورة التشبث بالعلم لا غيره، وبمجرد النكول عليه لا يثبت تحققه وانتفاء
الظن حتى تلغى الدعوى الظنية، فتكون دعواه الظنية باقية.
نعم، له أن يحلف المدعى عليه على انتفاء المدعى به، فتتم
الدعوى، وعلى انتفاء الظن تماما تسقط الدعوى أيضا إن لم يدع بعده
العلم. وله يمين المنكر، وللمنكر الرد إن ادعى العلم بعده.
وأما تسلط المنكر على المدعي بحلفه على أنه ظان في أصل الدعوى
الظنية - كما ذكره بعض معاصرينا - فلا أرى له وجها.
المسألة السادسة: هل يشترط في سماع الدعوى كون المدعى به
معلوما معينا بالوصف في المثلي، والقيمة في القيمي، والجنس، والنوع،
والقدر، أم تكفي معلوميته في الجملة، كثوب، أو فرس، أو مال أو شئ؟
الحق: الثاني، وفاقا للنافع والإرشاد والقواعد والإيضاح والمسالك
والروضة (1) ووالدي العلامة في المعتمد وأكثر متأخري المتأخرين (2)، بل

(1) المختصر النافع: 284، الإرشاد 2: 143، القواعد 2: 208 الإيضاح 4: 328،
المسالك 2: 367، الروضة 3: 79.
(2) كالسبزواري في الكفاية: 266، الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 335،
صاحب الرياض 1: 413.
158

الأكثر مطلقا كما في شرح المفاتيح، لعمومات الدعوى والمدعي والحكم،
ولأن عدم سماعه قد يوجب الضرر المعلوم المنفي شرعا، لأنه ربما يعلم
حقه بوجه ما خاصة ويمكنه إثباته، ولا يعلم شخصه أو صفته، فلو
لم تسمع دعواه لبطل حقه.
ويؤيده سماع دعوى الوصية بالمجهول والإقرار به.
خلافا للمحكي عن المبسوط والسرائر والدروس (1)، ونسب إلى
التحرير أيضا (2)، وليس كذلك، لأنه نقله عن الشيخ وتنظر فيه (3).
واستدل على العدم بعدم فائدتها، وهو حكم الحاكم لو أقر به
المدعى عليه أو ثبت بالبينة.
ويضعف: بمنع عدم الفائدة، لأنه يلزم حينئذ ببيان الحق المقر به أو
المثبت، ويقبل تفسيره بمسمى الدعوى، ويحلف على نفي الزائد، أو
العلم به إن ادعى عليه أحدهما كما يأتي.. كذا قالوا.
وهو حسن لو فسره الخصم، أما لو لم يفسر - إما لادعائه الجهل
أيضا، أو لإصراره على العدم الواقعي وإن ألزم به ظاهرا - فإن كان الجهل
في القدر فيلزم بالقدر المشترك، وهو أقل قدر ثبت، وإن كان الجهل في
النوع أو الوصف فالظاهر الرجوع إلى القيمة، لأن بعد ثبوت العين عليه
وعدم إمكان استخلاصها يجوز للمدعي أخذ القيمة من باب التقاص، كما
بين في مسألة المقاصة.. وعلى هذا، فيرجع الجهل أيضا إلى القدر،
فيؤخذ بأقل ما يمكن من الثمن.

(1) المبسوط 8: 156، السرائر 2: 177، الدروس 2: 84.
(2) كما نسبه إليه في الرياض 2: 413.
(3) التحرير 2: 186.
159

المسألة السابعة: لا يشترط عند كافة أصحابنا - على ما صرح به
بعضهم (1) - ذكر سبب استحقاق المدعي، ولا كشف ما يلزمها ويتعلق بها
من الحقوق واللوازم، بل يكفي فيها الإطلاق مجردا عن ذكر السبب وغيره،
لأصالة عدم الاشتراط، وللعمومات المشار إليها، مع أن أسباب الاستحقاق
كثيرة، وضبط جميعها وذكر مقدارها مما يؤدي إلى الحرج.
نعم، يشترط في دعوى القتل من ذكر سبب دعواه وكيفية قتله - بأنه
قتله بنفسه أو بأمره، عمدا أو شبه عمد، أو خطأ - للخلاف الواقع في
أحكام القتل باختلاف أسبابه وكيفياته.
ومن مخالفينا من اشترط في صحة الدعوى ذكر السبب وتفصيل وجه
لزومه في ذمة الخصم، إلا أنه خص ذلك بالدعاوي المتعلقة بالعقود،
فاعتبر في دعوى البيع مثلا ذكر المبيع ووقوعه منه أو من وكيله، تعيين ثمنه
حالا أو مؤجلا، وغير ذلك من المشخصات، (وفي دعوى الزوجية ادعاء
العقد بخصوصياته، وتعيين المهر، ومطالبة النفقة، وسائر حقوقها) (2) (3).
ومنهم من اشتراط ذلك في دعوى النكاح خاصة (4).
المسألة الثامنة: يشترط في وجوب سماع الدعوى والحكم عليها أن
تكون متضمنة لوقوع التخاصم والتنازع، أو الإنكار، أو نحوه، صريحا أو
ظاهرا، فلو قال أحد: إن لي عشرة دراهم على زيد، وهو معترف بها
ويؤديها، ولكن أريد منك طلبه وسماع الإقرار منه والحكم بمقتضاه، أو

(1) كالفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 335.
(2) ما بين القوسين ليس في " ق ".
(3) المغني والشرح الكبير 11: 449.
(4) حكاه عنهم في كشف اللثام 2: 335.
160

أريد إقامة البينة وصدور الحكم. لم يجب السماع، ولو سمع وأقيمت
البينة، أو أقر عنده، لم يجب الحكم، بل لا يجوز من باب القضاء، لظهور
الدعوى فيما كان فيه مخاصمة، ولاختصاص أدلة وجوب القضاء ونفوذه
وظهورها فيما كان كذلك، فلا يكون ذلك قضاء شرعيا نافذا، ولا تترتب
عليه آثاره من عدم جواز النقض لو وقع التخاصم بعد ذلك.
نعم، يكون الحاكم شاهد أصل إن سمع الاعتراف، أو فرع واحد إن
أقيمت عنده البينة.
ولذا صرح الفاضل في التحرير في بحث القضاء على الغائب بأنه
لا بد أن يدعي جحود الغائب، فلو أقر أنه معترف لم تسمع بينته إلا لأخذ
المال، ولو لم يتعرض لجحوده احتمل السماع وعدمه (1). انتهى.
وقوله: لأخذ المال، يعني: أنه إذا ادعى عدم أدائه المال أو تأخيره
وتضرره بالتأخير وأراد أخذه جاز سماع دعواه وبينته لذلك، فإن ذلك
خصومة ونزاع.
واحتمل السماع مع عدم التعرض للجحود لظهور طلب الحكم وإرادة
إقامة البينة في ذلك.
وعلى هذا، فلا يجوز القضاء فيما ليس فيه طرف دعوى موجود،
كما إذا وقف أحد ضيعة بطريق مختلف فيه عند الفقهاء، وأراد سد دعوى
سائر البطون بإصدار الحكم باللزوم والصحة عن فقيه دفعا لادعاء بعض
البطون اللاحقة، لم يؤثر الحكم في ذلك.
وكذا إذا أوصى إلى غير عادل، وأراد سد دعوى الورثة بطلب الحكم

(1) التحرير 2: 187.
161

بالصحة واللزوم عن مجتهد يرى ذلك، أو طلب الحكم في دين مؤجل
يعترف به الدائن احتياطا لإنكاره بعد حلول الأجل، إلى غير ذلك.
ولو كان الغريم معترفا ولكن ماطل في الأداء، فيجوز الترافع، ولكن
الدعوى في المماطلة دون الإنكار.
وأما ما ذكروه - من أن جواب المدعى عليه إما إقرار أو إنكار -
فالمراد أنه إذا ادعى المدعي إنكاره أو أطلق الدعوى الظاهرة في الإنكار
تسمع الدعوى ويطلب الغريم، فإن أقر بعد الطلب فحكمه كذا.
المسألة التاسعة: يشترط في سماع الدعوى أن تكون صريحة في
استحقاق المدعي لما يدعيه، فلو ادعى: أن هذه ابنة أمته، لم تسمع، لعدم
فائدتها، لجواز ولادتها في غير ملكه.. وكذا لو قال: هذه ابنة أمتي وولدتها
في ملكي، لاحتمال كون الابنة حرة، أو ملكا لغيره، فيما لم يصرح
باستحقاق الأخذ، لم تسمع.
وكذا لو ادعى أنه اشترى ضيعتي، أو غصب داري، أو أقرض مني
عشرة، لم تسمع ما لم يقيدها بما يصرح باستحقاقه الآن، لجواز أن يكون
اشترى وأدى الثمن، أو غصب ورد، أو ابتاع بعده، أو أقرض وأداه..
فمجرد تلك الدعاوي لا توجب دعوى حق.
ولو ضم معه ما يصرح بالحق تسمع، فإنه بدون الضم لا يدعي
استحقاق شئ ولا يطلبه، لأنه المفروض.
أما لو ضم مع ذلك مطالبة المدعى به فهي دعوى الاستحقاق،
فتسمع.
162

ومن ذلك يظهر أن ما ذيله به جماعة (1) هذه المسألة - من حكم
تصديق الخصم له في هذه الدعوى مطلقا، أو مع ضم ما ينافي ملكية
المدعي من كونه إقرارا أو لا، والفرق بين تصديق ما ذكر وتصديق أن هذا
الغزل من قطنه أو الدقيق من حنطته - ليس في موقعه أصلا، لأن فرض هذه
المسألة: أن المدعي لا يدعي استحقاقا ولا يطالب شيئا، ولذا لا تسمع بينته
على ما ادعاه، فلا تترتب فائدة على كونه إقرارا له أم لا من جهة هذه
المسألة.. وليس من متمماتها أو فروعها.
نعم، هذا من مسائل كتاب الإقرار، وتظهر فائدته فيما إذا ادعى
المدعي الاستحقاق، فتأمل.
هذا، ثم إنه قد يناقش في إطلاق حكمهم بعدم سماع الدعوى فيما
لم تكن صريحة في الاستحقاق أيضا، بأن يقال: إن كان مرادهم أنه
لا تسمع إذا قال: اشترى مني ذلك - مثلا - ولا أدعي شيئا آخر، أو لا
دعوى لي غيرها، فهو كذلك.
أما لو قال: هذه دعواي الآن، لوجود بينتي عليها الآن، وأدعي تمامها
بعد ذك، فلم لا تسمع؟! فلعله تكون له بينة أخرى غير حاضرة على إقرار
خصمه: بأني ما أديت ثمن ذلك ممن اشتريت، أو ثبت بعد ذلك فساد
الشراء، أو نحو ذلك من الفوائد.
ومن ذلك يعلم أنه لو أطلق الدعوى المذكورة أيضا يجب سماعها،
لاحتمال ترتب الفوائد عليها.
وأولى منه بالسماع ما إذا ادعي أن هذا زوجي، أو هذه زوجتي، من

(1) منهم العلامة في التحرير 2: 189، والفخر في الإيضاح 4: 327، والفاضل
الهندي في كشف اللثام 2: 335، والفيض في المفاتيح 3: 259.
163

غير ضم دعوى في حق آخر، لاستقلال الزوجية بترتب أحكام عليها إذا
ثبتت.
أقول: السماع في دعوى الزوجية صحيح، لما ذكر، إلا أن المناقشة
المذكورة في عدم سماع الدعوى الغير الصريحة ليست بجيدة، إذ على ذلك
يكون لهذه الدعوى فردان أو أفراد، بعضها مسموعة وبعضها غير مسموعة
فإذا أطلق فلا يعلم أنه ادعى المسموعة حتى يجب السماع وطلب
الجواب، أو لا حتى لا يجب، والأصل عدم الوجوب.
وكذا لو قيد الدعوى ب‍: الآن، وبقوله: أدعي تمامها بعد ذلك، لأن
التمام غير معلوم، فلعله أيضا لم يوجب السماع.
بل لو عينه وقال: أدعي مطالبة الثمن - مثلا - بعد ذلك، لم يجب، إذ
لعله لم يدع، أو لم يتمكن من الادعاء.
المسألة العاشرة: لا شك في عدم سماع دعوى بعينها ثانيا بعد رفعها
إلى الحاكم وحكم فيها بحكم.
وأما لو ادعى أمرا آخرا متعلقا بتلك الدعوى موجبا لنقض الحكم
- كفسق شهود المشهود له، أو إقرار الخصم بالحق، أو رد ما يدعيه المدعي
ونسيانه حال الترافع - فهل تسمع تلك الدعوى، أم لا؟
فيه خلاف، بل وقع الخلاف في الأولين قبل الحكم أيضا، فتردد
الفاضل في التحرير في سماعها (1)، واستشكل في الإرشاد فيهما (2)، وكذا
في القواعد في فسق الشهود (3).

(1) التحرير 2: 189.
(2) الإرشاد 2: 143.
(3) القواعد 2: 208.
164

وجعل الشهيد في الدروس الأقرب عدم السماع فيها (1)، ولكن جعل
في قواعده الأقرب السماع فيها (2).
وفي الكفاية: عدم السماع في الأول، والتردد في الثاني (3).
وقال والدي - طاب ثراه - في المعتمد في الثلاثة: إن فيها وجهين،
وقوى (رحمه الله) العدم.
ويظهر من القواعد - بل الدروس وغاية المراد - أن النزاع إنما هو إذا
أراد الإحلاف دون ما إذا كانت له بينة، فإنها تسمع حينئذ. وصرح بعض
فضلائنا المعاصرين بذلك (4)، كما مر في مسألة الدعوى على الحاكم أيضا.
وكيف كان، فالحق السماع في غير ما إذا كان بعد الحكم لليمين،
لعمومات سماع الدعوى والحكم بالبينة واليمين والنكول.
وقد يستدل في صورة كون الدعوى بعد الحكم بابتناء الحكم أولا
على فاسد لم يعلم فساده.
وفيه: أن قبل السماع لا يعلم الفساد بعد.
واستدل الوالد (قدس سره) بثبوت الحكم على الوجه المعتبر، والأصل صحته
حتى يقطع ببطلانه، ومجرد دعوى الخصم فساده لا توجب القطع به، فلا
يلزم السماع وترك ما ثبت في الشرع اعتباره لأجله.
وفيه أولا: أنه لو تم ذلك لجرى في كل دعوى مخالفة للأصل.
وثانيا: إنا لا نقول بفساد الحكم قبل القطع شرعا بالبطلان، ولا إفساده

(1) الدروس 2: 85.
(2) القواعد والفوائد 1: 412.
(3) الكفاية: 274.
(4) جامع الشتات: 677.
165

بمجرد دعوى الخصم، ولا ترك ما ثبت اعتباره بمجرد السماع، بل
تستصحب الصحة وتسمع الدعوى، فإن وجد ما يوجب الفساد يحكم به،
وإلا فلا.
وثالثا: إن العمومات المذكورة مخرجة عن الأصل.
وأما إذا كان الحكم باليمين فلا تسمع الدعوى بعده، للنصوص، إلا
إذا ادعى إقرار الحالف بعد الحكم، كما يأتي.
المسألة الحادية عشرة: تسمع دعوى المؤجل قبل حلول الأجل،
إجماعا كما صرح به والدي (رحمه الله) في المعتمد، لعموم أدلة الدعوى والحكم،
ولأنها دعوى حق لازم.
ولا يصلح التأجيل، للمانعية، مع أن المنع قد يؤدي إلى الإضاعة،
لإمكان الإثبات قبل الحلول، وتعذره بعده، لفقد الشهود، أو الحاكم، أو
مثل ذلك.
المسألة الثانية عشرة: لو ادعى المحكوم عليه فسق الشهود ولا بينة
له، وادعى علم المشهود له، فاستوجه جماعة عدم تسلطه على حلفه (1).
وتحقيق الكلام - على نحو مفيد في كل ما كان من قبيل هذا المقام -:
إن من شرط سماع الدعوى على شخص أن تكون - بحيث لو ثبت بالبينة
أو الإقرار أو النكول ثبت على المدعى عليه نفسه - حقا لازما، فلا تسمع
الدعوى الغير المفيدة أصلا، كأن يدعي على شخص أنك ضحكت علي.
ومن هذا الباب ما لو ادعى على الشاهد: إنك تعلم فسق نفسك، أو
اعترفت بذلك، لأنه لا يفيد لو ثبت، لأن المعتبر عدالته عند المتخاصمين،

(1) الدروس 2: 85، المسالك 2: 388، الكفاية: 274.
166

أو الحاكم، لا عند نفسه.
وكذا لا تسمع الدعوى التي لا توجب حقا على المدعى عليه، كأن
يقول للحاكم في موضع لا ضمان عليه: إنك غير قابل، أو خاطئ، أو
جائر (1)، للأصل، وعدم شمول أدلة سماع الدعوى لمثل ذلك أيضا.
مضافا في الأخير إلى أنه يشترط كون الدعوى بحيث لو أقر المدعى
عليه أو حلف بعد الرد أو النكول ثبت الحق، ولا يثبت بشئ من ذلك حق
على الحاكم أو الشاهد، ولا على المشهود له، إذ لا يثبت بإقرار الغير
ولا نكوله أو رده الحلف حق على الغير.
ومثلها الدعوى على الشاهد: إنك كاذب، أو خاطئ، فيما لا ضمان
عليه.
وأما لو كانت هذه الدعاوى في موضع أوجب ثبوتها ضمانا على
الحاكم أو الشاهد، فتسمع كما مر سابقا.
ولو كانت إحدى هذه الدعاوى من المحكوم له فتسمع، ولذا تقبل
منه البينة.
ولكن يشترط في دعوى فسق الشاهد عليه بيانه لموجب الفسق، إذ
ربما يزعم غير ما يوجب الفسق فسقا.
ويشترط أيضا دعوى كونه فاسقا واقعا، أو عند الحاكم، لا عند المدعي
فقط، لأن المشروط هو عدالة الشاهد عند الحاكم لا عند المشهود له خاصة.
بخلاف فسق الحاكم، فإن فسقه عند المحكوم له مانع من نفوذ
حكمه له وعليه، فلو ادعى عليه بما يوجب فسق الحاكم عنده لا عند الحاكم

(1) في " ح ": خائن.
167

- كالغيبة، إذا ظن الحاكم كونها صغيرة، والمحكوم له كونها كبيرة - تسمع.
ولو كان ما يوجب الفسق عند أحد المتخاصمين دون الآخر كان لكل
منهما حكمه.
ولو ادعى على المشهود له كذب الشهود، وأراد بالكذب ما هو
المشهور في معناه من عدم المطابقة للواقع، فإن كانت له بينة على ذلك فهو
يرجع إلى تعارض البينتين، وإن لم تكن له بينة لا تسمع الدعوى، وقد قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أنا أقضي بالبينات، فمن قطعت له مال أخيه فقد قطعت
له قطعة من النار " (1).
وبالجملة: دعوى عدم المطابقة للواقع عين أصل الإنكار الساقط
بالبينة بمقتضى الأخبار، فلا تسمع ثانيا.
بخلاف فسق الحاكم، فإن انتفاءه شرط في نفوذ حكمه دون عدم
المطابقة للواقع، بل صرحت الأخبار بعدم اشتراطه كما مر.
وإن أراد بالكذب عدم المطابقة لاعتقاد الشاهد فقط، فلا تسمع
أيضا، لعدم ترتب فائدة عليه. وكذا إن أراد عدم المطابقة للواقع والاعتقاد
معا.
وإن ادعى مواضعة الشاهد والمشهود له على شهادة الزور، فالظاهر
سماع الدعوى، وجواز الإحلاف، والحكم بالرد والنكول.
وكذا لو ادعى إقرار خصمه بالمدعى به، فتردد في الشرائع في الزام

(1) الكافي 7: 414 / 1، التهذيب 6: 229 / 552، الوسائل 27: 232 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 2 ح 1، والرواية فيها هكذا: " إنما أقضي بينكم بالبينات
والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه
شيئا فإنما قطعت له به قطعة من النار ".
168

الخصم بالجواب وعدمه (1)، واستظهر في المسالك الإلزام وسماع
الدعوى (2)، وهو الحق، إذ إقراره أمر يثبت به حقه ظاهرا، ولا يجب أن
يكون مما يوجب الثبوت واقعا، وإلا لم يفد فيما إذا ادعى عليه الحق
أيضا.. وعلى هذا، فيثبت حقه بإقامة البينة على الإقرار، وبالنكول واليمين
المردودة.
المسألة الثالثة عشرة: إذا تمت الدعوى يطلب الحاكم من المدعى
عليه الجواب، إما بعد سؤال المدعي - كما عن الشيخ وفي الشرائع
والقواعد (3) - لأنه حق له، فيتوقف على مطالبته.
أو من غير مسألته، كما قواه الشيخ أيضا في المبسوط (4)، وحكاه في
المختلف عن الشيخين والديلمي والحلي (5).
وحكي عن التحرير أيضا، لدلالة شاهد الحال على مطالبة
المدعي (6). ويظهر من تعليله أنه أيضا يشترط طلب المدعي.
ولكن الخلاف في اشتراط الإذن الصريح، أو يكفي المطلق، والأظهر
كفاية المطلق، لأنه إن أريد بالإذن الصريح ما يدل عليه اللفظ مطابقة
فلا دليل عليه، وإن كان مطلقا - ولو بالالتزام العرفي - فما طلب أولا يستلزم
ذلك عرفا.

(1) الشرائع 4: 107.
(2) المسالك 2: 388.
(3) الشيخ في المبسوط 8: 157، الشرائع 4: 82، القواعد 2: 208.
(4) المبسوط 8: 157.
(5) المختلف: 700.
(6) التحرير 2: 186.
169

الفصل الثالث
فيما يتعلق بالمدعى عليه، وجوابه، وما يترتب عليه
وهو لا يخلو عن أقسام، لأنه (1) إما يقر، أو ينكر، أو يسكت، أو
يدعي الرد أو الإبراء أو نحوهما، أو يقول: لا أدري، أو: هذا ليس لي،
ونحوه، أو يكون المدعى عليه غائبا.. فها هنا ستة أبحاث.
البحث الأول
في الإقرار
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: متى تحقق الإقرار بجميع المدعى به، وكان المقر
جامعا للشرائط المقررة في بابه - من البلوغ والعقل وعدم الحجر في
الماليات - لزم عليه ما أقر، سواء حكم الحاكم به أم لا، لأن إقرار العقلاء
على أنفسهم جائز.
بخلاف ما إذا أقام المدعي بينة، فإنه لا يثبت بمجرد إقامتها، لأنها
منوطة باجتهاد الحاكم في قبولها وردها.
وتظهر ثمرة الفرق بين المقامين بذلك في جواز مقاصة المدعي حقه
إذا ادعاه ظنا أو احتمالا، فيجوز بالاقرار وإن لم يحكم الحاكم بعد، دون
البينة، فإنه يتوقف على الحكم.

(1) في " ح ": لأن جوابه إما.....
170

وفي جواز أخذ المقر به عنه لكل أحد من باب النهي عن المنكر.
وفي جواز الحكم لقاض آخر بعد علمه بالإقرار، بخلاف البينة المعدلة
عند القاضي الأول، فإنه لا يجوز الحكم للثاني بدون التعديل عند نفسه.
والحاصل: أن الإقرار علة تامة لثبوت الحق عليه، بخلاف البينة،
فإنها مع الحكم علة.. أو يقال: إن الإقرار حجة مطلقة لكل أحد، والبينة
لم تثبت حجيتها إلا للحاكم.
فإن قيل: كما أن ثبوت الحق بالبينة يتوقف على ثبوت حجية البينة
أولا بأدلتها، ثم النظر في حالها من العدالة والجرح ونحوهما، ثم النظر في
دلالة اللفظ المؤدى به الشهادة.. فكذلك الثبوت بالإقرار، فإنه يتوقف على
جواز إقرار العقلاء بأنفسهم، وثبوت الرواية، وفهم المراد من الجواز، ثم
النظر في حال المقر من كونه بالغا عاقلا رشيدا غير مكره، ثم النظر في حال
لفظ الإقرار، فإن في الألفاظ حقائق ومجازات، ولها قرائن، ولذا عنون
الفقهاء مسائل كثيرة في تحقيق معاني الإقرارات.
ولا يمكن أن يقال: إن أدلة حجية البينة تختص بحجيتها للحاكم دون
دليل ثبوت الإقرار، لأنه لا فرق بينهما من هذه الجهة، وإنما يختص الحكم
بالحاكم، لأدلة اختصاص الحكم به وعدم جوازه لغيره.
قلنا: فرق بينهما، أولا: في المقدمة الأولى، فإن حجية الإقرار
لا تثبت بالحديث المذكور خاصة، بل هي صارت ضرورية لكل أحد
- خاصي وعامي - فلا يحتاج إلى اجتهاد في حجية الأخبار سندا ومتنا
والفحص عن المخصص والمعارض ونحوهما.. بخلاف أدلة البينة.
فإن قلت: حجية البينة العادلة أيضا صارت اليوم ضرورية.
قلت: نعم، ولكن للحاكم، يعني: ثبت على كل أحد أنها حجة
171

للحاكم لا لكل أحد، بخلاف الإقرار.
وثانيا: في المقدمة الثانية، فإن ما يحتاج معرفته من حال البينة أمور
شرعية توقيفية خلافية صعبة المأخذ، يحتاج إلى الاجتهاد في مأخذه من
العدالة والتهمة والإصرار على الشهادة، ومن معرفة من لا تجوز شهادته ومن
تجوز ونحو ذلك... بخلاف حال المقر غالبا، فإن معرفة أحواله بالنسبة
إلى المجتهد وغيره متساوية.
نعم، لو كان المقر في حالة اختلافية شرعا، بحيث تحتاج معرفته إلى
الاجتهاد والفقاهة من علامات البلوغ أو الرشد أو نحوهما، فنقول: يتوقف
الثبوت بالإقرار على الحكم أيضا.
وثالثا: في المقدمة الثالثة، فإن فهم الإقرار إنما هو كفهم سائر معاني
الألفاظ العرفية التي يتساوى فيها العامي والخاصي، وحجة على كل أحد..
بخلاف ما تؤدى به الشهادات، فإن فيها اختلافات، كقبول الشهادة العلمية
والاستصحابية ونحوهما.
نعم، لو فرض ثبوت الحق بالتواتر بألفاظ محكمة على نحو يظهر
على كل أحد، فنقول: إنه كالإقرار، ولكنه فرد نادر، ومع ذلك ليس إثباتا
بالبينة التي تقابل الإقرار.
فرع: إثبات الإقرار بالبينة كالإقرار في لزوم الحكم به، إلا أن في
الإقرار لا تسمع دعوى عدم الاستحقاق حينئذ، لأنه إنكار بعد الإقرار، إلا
إذا أقر بالاشتغال سابقا.. وتسمع في إثباته.
والمراد بسماعه في إثباته: أنه يسمع لو ادعى سبب عدم الاستحقاق،
كرد أو إبراء، وحينئذ ينقلب مدعيا، وله إحلاف المدعي على نفيه.. ولعل
ذلك مراد الفاضل في القواعد من حكمه بجواز إحلاف المنكر المدعي
172

- المثبت لإقراره بالبينة - على نفي الاستحقاق (1).
المسألة الثانية: وإذا أقر المدعى عليه، فإن التمس المدعي الحكم به
له عليه فالظاهر عدم الخلاف بينهم في وجوبه حينئذ، وإن اختلفوا فيه قبل
سؤال المدعي.
وفيه: أن بعد ما تقرر عندهم في المسألة الأولى - من عدم كون
الحكم هنا جزءا لسبب ثبوت الحق، وجواز أخذ المدعي بنفسه بدون
الحكم قهرا أو تقاصا، وجواز أخذ سائر المقتدرين - فلا وجه للحكم
بوجوب الحكم بسؤال المدعي مطلقا، لعدم دليل عليه.
نعم، يصح ذلك لو توقف الوصول إلى الحق عليه، فالصحيح التقييد به.
لا يقال: عمومات وجوب الحكم بما أنزل الله (2) تثبته هنا أيضا.
قلنا: لا شك أنها مقيدة بصورة التوقف، لأن الحكم من الواجبات
المشروطة بالحاجة، فإنه لو فرض أن بعد الترافع وقبل الحكم وقع الصلح
بين المتداعيين أو أعطاه حقه أو نحو ذلك، لا يجب الحكم على الحاكم.
ثم على القول بوجوبه مطلقا أو في صورة التوقف فهل يجب بعد
سؤال المدعي، أو قبله؟
فيه قولان، والأولى والأحوط: التوقف بالسؤال ولو بشاهد الحال،
بل مقتضى الأصل عدم الوجوب بدونه، بل يمكن القول بعدم الجواز أيضا
وعدم ترتب الأثر عليه، لأن الحكم إلزام مخالف للأصل.
المسألة الثالثة: وإذا وجب عليه الحكم فيحكم عليه بما يفيد إنشاء
إلزامه من الألفاظ، ولا يكفي مثل قوله: ثبت عندي في ترتب الأثر، لأنه

(1) القواعد 2: 212.
(2) المائدة: 47 - 49.
173

ليس حكما، بل إخبار.
ولو طلب المدعي كتابة الحجة على المدعى عليه ليكون في يده،
ففي وجوب إجابته وعدمه قولان، أشهرهما - كما صرح به في المفاتيح (1)
وشرحه وغيرهما (2) - الوجوب.
وحكى في المبسوط قولا بعدمه (3) واختاره بعض متأخري
المتأخرين، للأصل. وهو الحق، لأنه إن كان لإنشاء الحكم فقد حكم لفظا
ولا يجب غيره، وإن كان لاستمراره والدوام عليه بعد ذلك فأي دليل على
وجوب ذلك؟! فإنه قد لا يحتاج إليه بعد ذلك، ولو احتاج فقد لا ينساه
الحاكم أو الشهود على الحكم، وإن نسيه فقد لا يتذكر بملاحظة الكتابة.
ولذا اقتصر جمع من المتأخرين في إيجاب الكتابة بما إذا توقف
إيصال الحق المحكوم به عليها.
وهو أيضا غير سديد، لأنه لا يختص بالكتابة ولا بالحاكم، بل يجب على
كل أحد الإيصال بما أمكنه من باب الأمر بالمعروف، فلا وجه حينئذ للتخصيص
بالكتابة، فإنه قد يحصل الأثر بنصب أحد على الأخذ منه، أو إعلام مقتدر
برسالة، أو برفع صوت وغلظة عليه، أو بتخويف، أو غير ذلك من الوجوه.
وقد يتوقف على أحد هذه الأمور، فذكر الكتابة وإيجابها بخصوصها
لا وجه له.
هذا، مع أن ترتب الأثر على الكتابة غالبا يكون بإراءتها لمقتدر على
إجراء الحكم فيجريه، فهو إن أجراه بمجرد الكتابة من غير ضم بينة معها
- كما هو المتعارف في هذه الأزمنة - فهو غير جائز، والكتابة - لأجل ذلك -

(1) المفاتيح 3: 255.
(2) المسالك 2: 364.
(3) المبسوط 8: 118.
174

تكون نوع إعانة على الإثم.. وإن ضم معها البينة فهي بنفسها كافية، إلا أن
يفرض كون الكتاب قرينة موجبة لحصول العلم بضم خبر عدل أو فساق،
أو [وقف] (1) المقتدر الإيصال بالكتاب.
ثم إنه إذا لم تجب الكتابة وطلبها المدعي وأجابه الحاكم استحبابا فله
أخذ الأجرة عليها وثمن القرطاس والمداد، ومتى وجبت لم يجز له أخذ
الأجرة، لعدم جوازه في الواجبات العينية ولا الكفائية، كما مضى في كتاب
التجارة، بل لا يجوز له طلب ثمن القرطاس ونحوه أيضا.
ومن القائلين بوجوب الكتابة إذا توقف أثر الحكم عليها من لم يجوز
الأجرة على الكتابة، وجوز أخذ نحو القرطاس.
وهو غير جيد، لأن إعداد ما تتوقف عليه الكتابة الواجبة أيضا يكون
كأصل الكتابة مما يتوقف عليه الواجب، فيكون إعداده واجبا عليه لو لم
يؤده المدعي، فإن أراد جواز الأخذ منه لو أعطاه فهو كذلك، لأنه أيضا نوع
إعداد، وإن أراد أنه يجوز إيقاف الكتابة على أخذه منه فلا.
ثم إذا كتب الكتاب ينبغي - بل يلزم عليه - أن يكتبه على نحو يخصص
المدعي والغريم ويميزهما عن غيرهما، بحيث لا يقبل الاشتباه، ويأمن عن
التزوير، سواء حصل ذلك المقصود بكتابة النسب أو الحلية (2) أو هما معا.
والخلاف في هذا المقام في أنه هل يكفي الأول أو الثاني ونحو ذلك
لا وجه له، إذ ليس ذلك منوطا بدليل شرعي، وإنما المقصود رفع الاشتباه
والأمن من التزوير، وقد يحصل التزوير بالاكتفاء بالنسب، كما قد يحصل
بالاكتفاء بالحلية، ولا بد في النسب أيضا إلى ذكره بقدر لا يقبل اللبس
عادة، فقد يتعدد زيد بن عمرو بن بكر الإصفهاني مثلا.

(1) في " ح " و " ق ": توقف، والأنسب ما أثبتناه.
(2) الحلية: بمعنى الصفة - مجمع البحرين 1: 105.
175

وقد يتواطئان على تشهير أحدهما بتلك النسبة في بلد آخر، بحيث
يحصل العلم لكثير من أهل ذلك البلد، وتنتهي مسببيته إلى كتابته باسمه
ونسبه، أو قول المكاريين، أو نحوهما.
ولا بد من تمييز المدعي أيضا كما ذكرنا، إذ قد يقع التزوير من جهته
فيتواطئان على ادعائه وحكم الحاكم له وأخذه المدعى به بحضوره لدفع
خصومة شخص آخر.
المسألة الرابعة: وإذ حكم الحاكم عليه، فإن أدى المحكوم عليه
الحق بنفسه فهو، وإلا فإن كان ذا مال فيكلف بالأداء، فإن امتنع ومطل
بلا عذر مقبول كان للمدعي أخذه منه قهرا ولو بالملازمة له.
وإن لم يقدر فيجب على كل من يقدر كفاية، فإن احتاج الإيصال إلى
عقوبة له - من حبس أو إغلاظ في القول ونحوهما - فيجب على الحاكم..
والظاهر عدم جوازه للغير ولو نفس المدعي.
أما جوازه للحاكم فلتوقف إيصال الحق عليه وهو واجب.
وللخبر المشهور المنجبر: " لي الواجد يحل عقوبته وعرضه " (1).
والمستفيضة الواردة في حبس المماطل، كموثقة عمار: " كان
أمير المؤمنين (عليه السلام) يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثم يأمر فيقسم
ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فيقسم بينهم " يعني: ماله (2). ونحوها
ذيل رواية الأصبغ (3).

(1) مجالس الطوسي: 532، الوسائل 18: 333 أبواب الدين والقرض ب 8 ح 4،
وفيه: " لي الواجد بالدين يحل عرضه وعقوبته ".
(2) الكافي 5: 102 / 1، التهذيب 6: 191 / 412، الإستبصار 3: 7 / 15، الوسائل
18: 416 أبواب أحكام الحجر ب 6 ح 1، بتفاوت.
(3) الفقيه 3: 19 / 43، التهذيب 6: 232 / 568، الوسائل 27: 247 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 11 ح 1.
176

أقول: الالتواء من اللي، وهو سوء الأداء والمطل.
وروايتي غياث، الأولى: " إن عليا (عليه السلام) كان يفلس الرجل إذا التوى
على غرمائه، ثم يأمر به فيقسم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فقسمه
بينهم " يعني: ماله (1).
والثانية: " إن عليا (عليه السلام) كان يحبس في الدين، فإذا تبين له إفلاس
وحاجة خلى سبيله حتى يستفيد مالا (2) ". وقريبة منها صدر رواية
الأصبغ (3).
ورواية السكوني: " إن عليا (عليه السلام) كان يحبس في الدين، ثم ينظر، فإن
كان له مال أعطى الغرماء، وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء، فيقول
لهم: اصنعوا به ما شئتم، إن شئتم فآجروه، وإن شئتم فاستعملوه " (4).
وبهذه الأخبار - المعتضدة بلزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
مثل: رواية جابر الطويلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: " فأنكروا
بقلوبكم، وألفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم " (5)، ومرسلة التهذيب:
" قد حق لي أن آخذ البرئ منكم بالسقيم، وكيف لا يحق لي ذلك؟! وأنتم

(1) التهذيب 6: 299 / 833، الوسائل 18: 416 أبواب أحكام الحجر ب 6 ح 1.
(2) التهذيب 6: 196 / 433 و 299 / 834، الإستبصار 3: 47 / 156، الوسائل 18:
418 أبواب أحكام الحجر ب 7 ح 1.
(3) الفقيه 3: 19 / 43، التهذيب 6: 232 / 568، الوسائل 27: 247 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 11 ح 1.
(4) التهذيب 6: 300 / 838، الإستبصار 3: 47 / 155، الوسائل 18: 418 أبواب
أحكام الحجر ب 7 ح 3.
(5) الكافي 5: 55 / 1، التهذيب 6: 180 / 372، الوسائل 16: 131، أبواب الأمر
والنهي وما يناسبهما ب 3 ح 1.
177

يبلغكم عن الرجل منكم القبيح ولا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه
حتى يتركه " (1)، وغير ذلك (2) - تخصص أدلة نفي الضرر ونحوها.
وأما صحيحة زرارة: " كان علي (عليه السلام) لا يحبس في السجن إلا ثلاثة:
الغاصب، ومن أكل مال اليتيم ظلما، ومن ائتمن على أمانة فذهب بها، وإن
وجد له شيئا باعه، غائبا كان أو شاهدا " (3) - حيث دلت من جهة إطلاق
الجزء المنفي من الحصر على عدم حبس غير الثلاثة - فهي أعم مطلقا مما
مر، فيجب تخصيصها به.
وأما وجوبه على الحاكم فلكونه أمرا جائزا يتوقف عليه واجب، هو
إيصال الحق، وما يتوقف عليه الواجب واجب، بل تدل عليه الروايتان
الأخيرتان وما بمعناهما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأما اختصاص وجوبه بالحاكم فلا اختصاص غير الخبر الأول من
أخبار الحبس بفعل الإمام (عليه السلام).. والأول مجمل، حيث إنه حكم بحل
العقوبة، ولم يبين أنه على من يحل، فيقتصر فيه على المتيقن.
وأما أخبار الأمر بالمعروف وإن كانت عامة إلا أنها مخصصة بمثل
رواية مسعدة بن صدقة: سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أواجب هو على الأمة جميعا؟ فقال: " لا " فقيل: ولم؟ قال: " إنما هو على
القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعفة الذين لا يهتدون
سبيلا " إلى أن قال: " والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل: قول الله

(1) التهذيب 6: 181 / 375، الوسائل 16: 145 أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما
ب 7 ح 4.
(2) الوسائل 16: 144 أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ب 7.
(3) التهذيب 6: 299 / 836، الإستبصار 3: 47 / 154، الوسائل 27: 248 أبواب
كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 11 ح 2.
178

عز وجل: * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر) * (1) فهذا خاص غير عام " الحديث (2).
ومن ذلك يعلم أنه إذا آل الأمر إلى العقوبة والإيذاء لا يجوز لغير
الحاكم، لأنها أعمال غير جائزة في الأصل يجب الاقتصار فيها على موضع
الرخصة، ولأن غيره لا يعلم قدر الجائز منها فيتعدى عن الحق.
فروع:
أ: هل يجوز للحاكم الإذن لغيره، ولغيره المباشرة بإذنه بقدر ما أذن
فيه؟
الظاهر: نعم، لأنه حينئذ يكون عالما، كما ورد في رواية مسعدة.
ب: هل يجوز لمباشر الإيصال مع العقوبة أو بدونها أخذ الأجرة
عليها؟
الظاهر: لا، لما مر في كتاب التجارة، إلا إذا لم تكن له كفاية لمعاشه
لو اشتغل بالإيصال - أي تضرر ضررا بينا - فيسقط عنه الوجوب، لمعارضة
أدلته مع أدلة نفي الضرر، والأجرة حينئذ على بيت المال إن كان، وإلا على
المدعي إن طلب وأراد، ولا يجوز الأخذ من المدعى عليه بوجه.
ج: إذا ماطل المحكوم عليه، ولم يقتدر الحاكم على الإيصال،
وطلب المدعي من الحاكم كتابة الحكم أو شهادة الشاهدين عليه أو نحوهما
حتى يوصله ويجري الحكم من يقدر عليه، يجب عليه - كما مر - إن لم

(1) آل عمران: 104.
(2) الكافي 5: 59 / 16، التهذيب 6: 177 / 360، الوسائل 16: 126 أبواب الأمر
والنهي وما يناسبهما ب 2 ح 1.
179

يعلم ترتب محرم عليه، كالتعدي من الجائز في الإيذاء، من قذف أو
ضرب أو أخذ مال أو مطالبة من أقربائه ونحوها.
وإن علم ذلك، فإن كان مقصود الحاكم أيضا أن يفعل المدعي كذلك
فهو معاونة على إثمين: إثم المدعي - حيث إن أخذه ذلك ليؤديه إلى
المقتدر الجائر المتعدي عن الجائز معاونة للجائر (1) على إثمه - وإثم الجائر.
وإن لم يكن مقصوده ذلك، فإن علم أن المدعي يفعل كذلك فلا
معاونة منه على إثم الجائر - كما بينا في العوائد (2) - ولكنه معاونة على إثم
المدعي، ولكن لا يحرم على الحاكم مع ذلك، لتعارض أدلة حرمة المعاونة
على الإثم مع أدلة وجوب ردع المماطل وأخذ الحق منه، فيرجع إلى أصل
الجواز.. بل يمكن القول بذلك في حق المدعي أيضا، لمعارضة أدلة نفي
الضرر في حقه مع أدلة حرمة المعاونة، فتأمل.
د: العقوبة المجوزة للحاكم في حق المماطل لا تختص بالحبس
والإغلاظ، بل قد تنتهي إلى الأكثر منه - من ضرب - فيجوز أيضا، لإطلاق
العقوبة وقوله: " صكوا جباههم " وقوله: " لا يؤذونه ".. ويجب الاقتصار
على الأقل.
وإنما أطنبنا في ذلك المقام للاحتياج إليه في أمثال تلك الأزمنة.
ه‍: لو لم تفد العقوبة في أدائه، ولم يمكن بيع ماله، يحبس حتى
يؤدي أو يموت أو يبرئه الغريم.
المسألة الخامسة: كما تجوز للحاكم عقوبة المماطل الغير المؤدي
للحق، فهل يجوز له إعطاء ماله للمحكوم له من غير إذنه إذا أمكن وكان من

(1) في " ح " و " ق ": على الجائر، والصحيح ما أثبتناه.
(2) عوائد الأيام: 27.
180

جنس الحق، وبيعه وإعطاؤه الثمن إن لم يكن من جنسه، أم لا؟
وإذا جاز فهل هو مقدم على العقوبة - يعني: أن العقوبة إنما تكون إذا
لم يمكن إعطاء المال، أو بيعه - أو مخير بينهما، أو يتأخر فيعاقب، فإن
أبى مع العقوبة أيضا يعطي أو يبيع؟
لم يحضرني الآن تصريح بذلك من الأصحاب، إلا ما ذكره بعض
الأجلة في شرحه على القواعد، حيث قال: وإن عرف كذبه في دعوى
الإعسار حبس حتى يخرج من الحق بنفسه، أو يباع عليه ماله ويعطى
صاحب الحق (1). إنتهى.
فإن كان قوله: " يباع " عطفا على " حبس " يكون تخييرا بين الحبس
والبيع، وإن كان عطفا على " يخرج " يكون حكما بتأخير البيع عن العقوبة.
وقال بعض الفضلاء المعاصرين: ثم إن كان المقر واجدا للمال فيلزم
بإعطائه ولو بحبس الحاكم وإغلاظ القول، أو بأن يبيع ماله في أداء دينه
لو لم يمكن الاستيفاء إلا بذلك (2). انتهى.
فإن كان قوله: " بذلك " إشارة إلى الحبس والبيع معا يكون قولا
بالتخيير، وإن كان إشارة إلى البيع يكون قولا بتأخير البيع عن الحبس.
أقول: كما أن العقوبة مخالفة للأصل لا ترتكب إلا مع الدليل،
فكذلك إعطاء ماله أو بيعه، لأن تمييز ما في ذمة شخص من بين أمواله بيده
وبيع غير المالك لا يجوز، والدليل على حلية العقوبة موجود كما مر،
ولا دليل على الإعطاء والبيع إلا كونه مما يتوقف عليه إيصال الحق
الواجب، وهو - قبل اليأس بالعقوبة المنصوص جوازها - ممنوع، فلا يجوز

(1) انظر كشف اللثام 2: 336.
(2) غنائم الأيام: 679.
181

إلا بعد عدم تأثير العقوبة.
وتدل عليه أيضا الروايات المتقدمة المصرحة بتأخير البيع عن
الحبس (1).
نعم، إذا لم يمكن العقوبة لغيبة - بخفاء أو فرار - يجوز البيع
والإعطاء أولا، لكونه مما يتوقف عليه الإيصال.
وهل يباع بغير الغريم، أو يجوز البيع به أيضا؟
الظاهر: الثاني، للأصل.
ولا يتوهم أن الظاهر من الروايات البيع بالغير، حيث قال: " باعه،
فيقسم "، لأنه يمكن أن تكون الفاء تفصيلية، أي باعه بأن يقسمه بين
الغرماء، فيبيع كلا منهم بقدر حصته.. بل هو الظاهر من قوله: يعني ماله،
فإن الظاهر أن الغاية لبيان أن المقسوم بينهم نفس المال دفعا لتوهم تقسيم
الثمن، [لا أنها] (2) لبيان أن المبيع نفس المال لدفع توهم بيع المديون،
لأنه ليس محلا للتوهم.
هذا، مضافا إلى كون تقدير الثمن في قوله: " يقسمه " خلاف
الأصل.
المسألة السادسة: لو ادعى المحكوم عليه بالإقرار أو بغيره الإعسار،
فإن علمه الحاكم أو أقر به المحكوم له يثبت إعساره..
وإلا فإما لا يعلم له مال أو لا، حتى ما أخذه من المحكوم له، وذلك
يكون بأن تكون الدعوى على نفقة زوجة أو صداقها أو دية جرح أو مال
مصالحة دعوى غير ثابتة أو نحوها.

(1) راجع ص 124 و 125.
(2) في " ح ": لأنها، وفي " ق ": إلا أنها، والصحيح ما أثبتناه.
182

أو يعلم له مال ويعلم تلفه أيضا، كأن يعلم أن ما أخذه من المحكوم
له أنفقه، أو أخذ منه قهرا، أو سرق، ونحو ذلك، ولا يعلم ما سواه.
أو يعلم له مال غير معلوم التلف، ولو كان هو ما اقترضه من الغريم
أو اشتراه منه.
فعلى الأولين، فإن ادعى المحكوم له علمه بكذبه في الإعسار وكونه
ذا مال تطلب منه البينة، لأنه مدع حينئذ، والبينة على المدعي، فإن جاء بها
وأثبت عليه مالا موجودا يؤخذ منه، وإن لم يؤده كان حكمه حكم الواجد
للمال، وقد مر.
وإن أثبت عليه مالا قبل ذلك، ولم يعلم تلفه، يصير من القسم
الأخير، ويأتي حكمه.
وإن لم تكن له بينة أحلف المحكوم عليه، لأنه منكر حينئذ، واليمين
على من أنكر.
وإن لم يدع علمه بكذبه بل ظن ذلك أو جوزه لما مر سابقا من سماع
الدعوى بالظن والاحتمال، فيكون المحكوم له مدعيا، والمحكوم عليه
منكرا، فاليمين عليه.
وتأمل فيه المحقق الأردبيلي، بل قال بعد تأمله: وعدم إحلافه أظهر،
لظاهر آية النظرة، ولعدم الدليل على الإحلاف إلا في الصورة الأخيرة.
وفيه: أن مدلول الآية إنظار ذي العسرة، وعسرته بعد غير معلومة لا
واقعا ولا شرعا، فكيف يستدل لحكمه بالآية؟! والدليل له - على ما
اخترناه من سماع الدعوى المظنونة والموهومة - ظاهر، لصدق المدعي
والمنكر.
نعم، يشكل ذلك على القول بعدم سماعها، لعدم الدليل،
183

وتصريحهم بالإحلاف هنا أيضا مؤيد لما اخترناه.
وهل له رد الحلف إذا كان غريمه جازما في دعواه يساره أم لا؟
فيه إشكال ينشأ من عمومات الرد وعدم المانع، ومن أن فائدة الرد
الخروج عن عهدة المدعى به إذا حلف المدعي، فإن قوله: " رددت عليك
اليمين " متضمن ل‍: أنه إن حلفت أخرج عن عهدة دعواك، وهو يثبت هنا
بعدم القدرة عليه، فكيف يرد؟! بل في شمول عمومات الرد لمثل المقام
تأمل أيضا.
ولعل الأول أظهر، إذ تظهر الفائدة في نكول المدعي فتسقط دعواه،
وفي حلفه، فإن إنكاره القدرة لا يثبت انتفاءها واقعا، فيثبت عليه اليسار
بعد حلف المدعي، ويعمل معه ما يعمل مع الواجد من الحبس والغلاظ
إلى أن يؤدي أو يموت أو يبرئه المدعي.
وإن لم يرد الحلف - إما لعدم إمكانه، كما إذا كانت دعوى يساره غير
مجزومة، أو لم يرد الرد - فإن حلف على عدم اليسار حكم له بالإعسار،
وإن نكل ولم يحلف فقال في القواعد وحكي عن التذكرة: إنه يحلف
مدعي اليسار، فيحكم بيساره، ويعمل معه عمل الواجد من الحبس (1).
وقال بعض الفضلاء المعاصرين: إنه يعمل به عمل الواجد، فيحبس
من غير ذكر حلف المدعي (2).
ولعله مبني على الخلاف في أن مع نكول المنكر هل يثبت حق
المدعي، أو يرد الحاكم اليمين على المدعي.. ويأتي تحقيقه.
وعلى الأخير - وهو أن يعلم له مال وادعى تلفه - فتؤول الدعوى إلى

(1) القواعد 2: 209، التذكرة 2: 58.
(2) غنائم الأيام: 680.
184

تلف المال، والأصل بقاؤه، فيصير المدعي عليه بالحق مدعيا لتلف المال
فتطلب منه البينة، فإن أقامها يحكم له بالإعسار، ويعمل معه عمل ذي
العسرة، ويأتي.
وإن لم يقم البينة، فقال جماعة - منهم: الشرائع والقواعد والكفاية (1)
وغيرها (2)، بل قال بعض مشايخنا المعاصرين: إنه المشهور (3) - إنه يحبس
حتى يعين إعساره، أو يقر، أو يخرجه صاحب الحق.
وعن التذكرة: أنه يحلف مدعي الحق على عدم التلف ثم يحبس (4).
وهو ظاهر بعض متأخري المتأخرين (5).
حجة الأول: رواية غياث الثانية، وصدر رواية الأصبغ، ورواية
السكوني، المتقدمة جميعا في المسألة الرابعة.
ودليل الثاني: العمومات الآتية المصرحة بأنه إذا لم تكن للمدعي بينة
فيمين المدعى عليه أو المنكر (6).
أقول: مقتضى الأخبار الأولى الحبس مطلقا، سواء كان المدعى عليه
منكرا جازما بعدم التلف أو لا، بل كان يقول: لا أدري، كما هو الأكثر..
ولكنها مخصوصة بالدين، بل من لم يثبت حاله من الإعسار وعدمه.
ومقتضى العمومات الثانية حلف المدعى عليه في خصوص صورة
الإنكار ودعوى عدم التلف، ولكنها عامة في الدين والعين وسائر الحقوق.

(1) الشرائع 2: 95، القواعد 2: 209، الكفاية: 267.
(2) كالمسالك 2: 367.
(3) انظر الرياض 2: 396.
(4) التذكرة 2: 58.
(5) انظر كشف اللثام 2: 337.
(6) انظر الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 7.
185

فتتعارضان بالعموم من وجه في صورة إنكار المدعي، ولا أصل هنا،
وكل من الحبس والإحلاف مخالف للأصل محتاج إلى الإذن، فمقتضى
القاعدة التخيير بين الحبس أو لا، أو الإحلاف ثم الحبس، إلا أني لم أجد
به قائلا، ولكن إثبات الإجماع المركب في أمثال المقام مشكل، والأحوط
الإحلاف ثم الحبس، ودليل تجويز الإحلاف حينئذ أدلة الاحتياط، كما بينا
في موضعه.
ولكن يحصل الإشكال للحاكم حينئذ لو لم يحلف المنكر لعدم
التلف، فهل يحكم بنكوله ويثبت به الإعسار، أو يحبس؟
ولندرة الفرض - من جهة أن الأغلب عدم علم المدعي، ولو فرض
أحيانا - فنكوله نادر، ولو فرض النكول فتمكن الحبس للحاكم في هذه
الأزمنة مشكل، وجواز غيره من العقوبات هنا غير ثابت، فصرف الوقت في
حاله حينئذ ليس بذلك المهم.
وكيف كان، فلو لم ينكر المدعي عدم التلف يحبس، للروايات
المتقدمة الخالية عن المعارض.
هذا، وللمحقق الأردبيلي هنا كلام آخر، حيث قال:
قد لا تكون له بينة ويكون معسرا لا مماطلا، ومجرد وجود مال
سابقا لا يستلزم بقاءه، والرواية ضعيفة، ودلالتها غير ظاهرة.. وقد يكون
ظاهر حاله إتلافه، كأن يستقرض ليخرجه في مؤنته مع حاجته، أو وجد
عنده وكان يحتاج كل يوم إلى نفقة، وكيف يأتي بالبينة بإخراج كل
درهم؟! فيمكن عدم الحبس، بل إحلافه على عدم بقائه عنده، ويخلى
سبيله إلى الميسرة ويؤيده ظاهر الآية، فإن الظاهر منها كونه ذا عسرة
بحسب الظاهر لا نفس الأمر، وهو حينئذ كذلك، فيمكن عدم اليمين أيضا
186

لذلك، إلا أنه لما ادعي عليه المال، وعلم وجوده، ولم يكن للمدعي إثبات
البقاء، والاستصحاب يقتضي البقاء، وأنكر هو وجوده، أحلف. انتهى.
أقول: أما دعوى ضعف الرواية - بعد اشتهار العمل بمضمونها -
فلا يضر.. وأما عدم ظهور دلالتها فلا يتحقق وجهه.
وأما ظهور إعساره، فإن بلغ ذلك إلى حد يعتبر شرعا فلا كلام،
لحصول التبيين المذكور في الروايات.. وأما إذا لم يبلغ ذلك فلا وجه
لاعتباره وترك النص لأجله، ولفظ " ذي العسرة " موضوع للمعنى الواقعي،
غاية الأمر تقييده بالعلم أيضا، وأما بأمثال ذلك الظهور فلا، وإحلاف مدعي
التلف لا وجه له، وجعله منكرا للبقاء لا (وجه) (1) يجعله منكرا، وإلا
لجرى ذلك في كل مدع.. فكلامه غير سديد.
فروع ثلاثة:
أ: البينة التي تقام على الإعسار يلزم أن تشهد بتلف المال علما أو
حسا على اختلاف القولين في مسألة الشهادة، وحينئذ تقبل، لأنها بينة
الإثبات، أما لو شهد بمطلق الإعسار فهو راجع إلى النفي، فلا تقبل.
نعم، إذا كان مراقبا لأحوال المشهود له، مطلعا على خفايا أمره، فله
أن يشهد بما ضبط واطلع من أحواله وأعماله الكاشفة عن العسر، فإن علم
الحاكم بها عسره يحكم به، وأما شهادته بأنه ذو عسرة أو معسر فلا وجه
لقبولها، إلا إذا اكتفينا بالشهادة العلمية، وقلنا بأن تلك شهادة إثباتية،
والمقدمتان ممنوعتان.

(1) ليست في " ح ".
187

ب: مؤنة المحبوس حال الحبس من ماله، ووجهه ظاهر.
ويشكل الأمر لو لم يكن له شئ ظاهر، وكان ينفق كل يوم بقرض أو
كسب قدر مؤنته أو سؤال أو كل على غيره ونحوها، بل قد يغتنم المحبس لذلك.
وكذا الإشكال في مؤنة الحبس، فإنه يحتاج إلى مكان ومراقب ليلا
ونهارا لئلا يهرب، فإن كان هناك بيت مال فالمؤنتان عليه، وإلا فإن بذله
خصمه من ماله فلا إشكال أيضا، وإلا فتحميله على الحاكم ضرر عليه منفي
شرعا، فيعارض بأدلته أدلة الحبس، فيرجع إلى أصل عدم وجوب الحبس
عليه، أو يقال بالتخيير، فله إطلاقه ولا يجب عليه شئ.
ج: إذا لم يكن للحاكم محبس، ولا أعوان ينصبها للمراقبة، وسائر
ما يحتاج إليه للحبس - كما هو الغالب في تلك الأزمنة - فله بعثه إلى
محبس السلطان ونحوه، وللسلطان ونحوه الحبس بإذن الحاكم، لأنه يصير
حينئذ محبسا للقاضي. ولو لم يتمكن من ذلك أيضا سقط عنه.
المسألة السابعة: ثم إذا حكم للمدعى عليه بالإعسار بالبينة، أو علم
الحاكم، أو اليمين، أو الإقرار، فذهب جماعة إلى أنه ينظر ويمهل ويخلى
سبيله حتى يحصل له مال، وهو مذهب المفيد والشيخ في الخلاف والحلي
والمحقق والقواعد والمسالك والمهذب والصيمري (1) والمعتمد
وغيرهم (2)، بل هو المشهور كما في المسالك والكفاية وشرح القواعد
للهندي (3) والمعتمد، وغيرها (4).

(1) المفيد في المقنعة: 723، الخلاف 1: 624، الحلي في السرائر 2: 160،
المحقق في الشرائع 4: 84، القواعد 2: 209، المسالك 2: 367.
(2) كما في التبصرة: 187.
(3) المسالك 2: 367، الكفاية: 267، كشف اللثام 2: 336.
(4) كالروضة 3: 83، الرياض 2: 396.
188

للأصل، وقوله تعالى: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * (1)،
وروايتي غياث والأصبغ المتقدمتين (2)، ومفهوم الحصر في صحيحة زرارة
السابقة (3).
ورواية السكوني: " إن امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها
وكان زوجها معسرا فأبى (عليه السلام) أن يحبسه، وقال: إن مع العسر يسرا " (4).
وعن الشيخ في النهاية: أنه يسلم إلى الغرماء ليؤاجروه ويستعملوه
ويستوفوا حقهم من ما يفضل من قوته وقوت عياله (5)، لرواية السكوني
المتقدمة في المسألة الرابعة، ووصفها في المختلف بالمشهور (6).
وعن ابن حمزة قول ثالث، مفصل بين ما إذا كان المعسر ذا حرفة
يكتسب بها فالثاني، وما إذا لم يكن كذلك - ونفى عنه البعد في
المختلف (7) - فالأول (8)، للرواية الأخيرة، كما في المختلف، أو جمعا بينها
وبين الروايات السابقة (9) كما قيل، ولأنه يتمكن من أداء ما وجب عليه
وإيفاء الحق صاحبه فيجب عليه كالسعي في المؤنة، وحيث يتمكن من
الكسب لا يكون معسرا، لتحقق اليسار بالقدرة على تحصيل المال، ولهذا

(1) البقرة: 280.
(2) في ص: 124 و 125.
(3) في ص 178.
(4) التهذيب 6: 299 / 837 و ج 7: 454 / 1817، الوسائل 18: 418 أبواب أحكام
الحجر ب 7 ح 2.
(5) النهاية: 352.
(6) المختلف: 711.
(7) المختلف: 711.
(8) الوسيلة: 212.
(9) في ص 124 و 125.
189

الحق القادر على الكسب بالغني في باب الزكاة.
أقول: قد يخالجني - في التمسك بهذه الأخبار في تخلية سبيله حتى
يستفيد مالا، وفي إيجاره واستعماله - شئ، وهو أنه قد استفاضت الأخبار
على أن الإمام يقضي دين المديونين عن سهم الغارمين:
ففي مرسلة العباس: " الإمام يقضي عن المؤمنين الديون ما خلا مهور
النساء " (1).
وفي رواية أبي نجار: جعلت فداك، إن الله عز وجل يقول: * (وإن
كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها الله
عز وجل في كتابه، لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر إليه لا بد من أن
ينظر، وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه على عياله، وليس له غلة ينتظر
إدراكها، ولا دين ينتظر محله، ولا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال: " نعم،
ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام، فيقضي ما عليه من الدين من سهم
الغارمين " الحديث (2). وغير ذلك من الأخبار (3).
وأخبار المسألة واردة في فعل علي (عليه السلام)، وهو إمام مبسوط اليد،
بيده بيت المال والزكوات، فكان عليه الأداء، فما التوفيق بين هذه
الأخبار؟! وهلا يؤدي الإمام ديونهم؟! ولا يمكن حمل أخبار المسألة على
صورة عدم حضور سهم الغارمين عنده، لأنه ليس قضية في واقعة، بل

(1) الكافي 5: 94 / 7، التهذيب 6: 184 / 379، الوسائل 18: 337 أبواب الدين
والقرض ب 9 ح 4.
(2) الكافي 5: 93 / 5، وفيه بدل " أبي نجار ": " أبي محمد " وكذا في التهذيب 6:
185 / 385 والوسائل 18: 336 أبواب الدين والقرض ب 9 ح 3، وفي الوافي 18:
789 / 15 عن الكافي: أبي نجاد..
(3) الوسائل 18: 335 أبواب الدين والقرض ب 9.
190

يصرح بأنه (عليه السلام) كان يفعل ذلك، وهو دال على التجدد الاستمراري.
والذي أراه أن أخبار قضاء الإمام مخصوصة بمن لم يكن له طريق
إلى الوفاء، ولا يمكنه استفادة المال من استغلال أو تكسب أو عمل، كما
تشعر به رواية أبي نجار، وأخبار المسألة مخصوصة بمن أمكنه استفادة
المال، كما يصرح به قوله: حتى يستفيد المال، وقوله: ليستعملوه، أي
يطلبوا منه العمل وتكون لفظة " حتى " تعليلية، أي يخلي سبيله ليستفيد
المال ويؤدي الدين.
والتوفيق بين رواية السكوني (1) وسائر روايات المسألة: أن مورد
سائر الروايات إنما هو ما إذا كان المديون بحيث يعلم من حاله أنه يستفيد
المال بنفسه من غير حاجة إلى استعماله فيها وإجباره عليها، كما هو
المستفاد من قوله: حتى يستفيد. ومورد رواية السكوني إنما هو ما إذا لم
يكن كذلك ولم يبال بعدم أداء الدين وعدم الاستفادة، إذ من الظاهر أن من
يعلم من حاله أنه يستفيد بنفسه لا حاجة فيه إلى المؤاجرة والاستعمال.
وبما ذكرنا يرتفع التنافي بين الأخبار طرا.
ثم نقول: إن بما ذكرنا ظهر عدم صلاحية شئ من الأخبار لمستند
المشهور، لأن المشهور: أنه يخلى سبيله ويترك بحاله مطلقا، سواء كان
قادرا على الاستفادة - ولو بالتكسب - أم لا، وهو لا يلائم مع قوله: خلى
سبيله حتى يستفيد (2)، أي ليستفيد، فإن التخلية إنما كانت لذلك، ولو
منعت من إرادة هذا المعنى - لاحتمال كون حتى للغاية - فنقول: باحتمال
التعليلية يسقط استدلالهم.

(1) المتقدمة في ص 125.
(2) راجع ص 125 و 126.
191

وأما صحيحة زرارة (1)، فلا دلالة لها أصلا، لأن الظاهر المتبادر من
الحبس إسجانه في سجن الإمام، وأما اشتغاله بالكسب فليس حبسا قطعا.
ومنه يظهر حال رواية السكوني الأخيرة.
وأما الآية الشريفة، فكما مرت إليه الإشارة لا تدل على مرادهم
أصلا، لأن من يقدر على استفادة المال ولو بالتكسب - الذي لم يكن شاقا
عليه، بل هو حرفته وعليه معاشه - لا يصدق عليه أنه ذو عسرة أصلا،
لا لغة ولا عرفا.
ولو سلمنا صدقه عليه فنقول: إن الإنظار المأمور به هو ترك مطالبة
أداء الدين حال العسرة، فإذا تركه وأخره أنظره ولو أمره بالتكسب
وتحصيل اليسار ثم الأداء، ألا ترى أنه يصح أن يقال: أمهله حتى يشتغل
ببيع ضياعه ويأخذ ثمنه ويعطيه، فيصدق الإنظار مع أنه مشغول بطلب
المشتري والمبايعة وأخذ الثمن.
والحاصل: أن الإنظار هو الإمهال والتأخير، ويمكن أن يكون المراد
إمهاله في أداء الدين وتأخيره مطالبته. وأما الأصل فإنما يفيد لو لم يكن
دليل مخرج عنه، ولا شك أن قضاء الدين على كل متمكن منه واجب،
والقادر على العمل والتكسب متمكن فيجب عليه، ولازمه وجوب العمل
والكسب من باب المقدمة، ولازمه جواز أمره به وحمله عليه، بل وجوب
ذلك.
وظهر مما ذكرنا خلو المشهور عن الدليل، وكذا قول النهاية إن أراد
دفعه إلى الغرماء مطلقا، سواء أمكنه الاستفادة بعمل أم لا، وسواء أدى ما

(1) المتقدمة في ص 126.
192

يجب عليه بنفسه مع الإمكان [أم لا (1)]، إذ ظاهر أن الرواية مخصوصة
بصورة قدرته على عمل تحصل منه أجرة وشئ وإلا فلا فائدة فيه - كشيخ
هرم أعمى ومفلوج وأعرج وأشل - وبصورة عدم اشتغاله بنفسه ووفائه
الدين.
ومنه يظهر خلو قول ابن حمزة (2) أيضا عن الدليل لو أراد الإطلاق.
فالحق - كما هو ظاهر المحقق الأردبيلي، وصاحب الكفاية (3)،
وبعض مشايخنا المعاصرين وفضلائهم (4) - أنه وإن لم يتسلط الغريم على
استيفاء منافعه وإجارته ابتداء ولكن يجب على المديون المتمكن من العمل
والكسب اللائق بحاله الغير الشاق عليه الكسب.
ولو ترك هذا الواجب وتوانى منه - بحيث يترتب عليه ضرر الغرماء -
على الحاكم إجباره أمرا بالمعروف ودفعا للضرر.
ولو رأى أنه لا ينجح فيه أمره وجبره وإقامته على الفعل الواجب إلا
بالدفع إلى الغرماء أمكن الجواز، بل الوجوب، بل يجب إن أمكن.
فروع:
أ: إذا أمر بالتكسب أو استعمل، يوضع مما استفاده مؤنته ومؤنة عياله
الواجب نفقتهم بالمعروف، ويصرف الزائد في الدين.
ب: التكسب يشمل جميع الصنائع والحرف والأشغال - ولو مثل

(1) أضفناه لاقتضاء السياق.
(2) الوسيلة: 212.
(3) الكفاية: 267.
(4) انظر الرياض 2: 396، غنائم الأيام: 679.
193

الاحتطاب والاحتشاش - إذا كان ممن يتخشى (1) منه ذلك، ويليق بشأنه
وحاله، ولا يعد شاقا عليه عرفا.. ويقتصر في زمان التكسب بما هو
متعارف سائر الناس في حرفهم وصنائعهم.
ج: لو رضي الغريم بإمهاله حتى يحصل له مال وعفى عن تكسبه
فله ذلك.. ولو تعدد الغرماء ورضي بعضهم دون بعض يأمره من لم يرض
بالتكسب، ويكون جميع فاضل مؤنته مما استفاد لذلك.
د: لو ارتاب الحاكم بالمقر وشك في بلوغه، أو عقله، أو رشده، أو
اختياره، أو شبه ذلك مما هو شرط في صحة إقراره، توقف في الحكم
حتى يستبين حاله، ووجهه واضح.

(1) أي يترجى منه ذلك - ففي مجمع البحرين 1: 124 ولسان العرب 14: 228:
خشيت بمعنى: رجوت.
194

البحث الثاني
في الإنكار
اعلم أنه إذا أنكر المدعى عليه ما ادعي عليه فلا يخلو إما أن يكون
الحاكم عالما بالحال أو لا، وعلى الثاني فإما تكون للمدعي بينة أم لا،
فها هنا مقامان:
المقام الأول
فيما إذا كان الحاكم عالما
وقد عرفت أن الحق أنه يقضي حينئذ بعلمه مطلقا، ولكن بقيت هنا
مسائل ينبغي التنبيه عليها:
المسألة الأولى: لو كان الحاكم حكم في الواقعة بحكم سابقا - بعلمه
أو بغيره من الإقرار أو البينة أو اليمين - وتذكره، يقضي بمقتضاه، سواء
تذكر مستند الحكم السابق أم لا، لأن حكمه أيضا حجة تامة ومستند
شرعي، فهو عالم بحكم الواقعة، فيشمله مثل قولهم (عليهم السلام): " رجل يقضي
بالحق وهو يعلم " (1) وسائر عمومات الحكم.
وإن لم يتذكر الحكم، فإن شهد عدلان بحكمه به فالأصح لزوم
القضاء به، وفاقا لوالدي العلامة (رحمه الله) لعموم قبول شهادة العدلين كما يأتي.

(1) الكافي 7: 407 / 1، الفقيه 3: 3 / 6، التهذيب 6: 218 / 513، الوسائل 27:
22 أبواب صفات القاضي ب 4 ح 6.
195

وقيل بالمنع، لإمكان رجوعه إلى العلم (1).
وفيه: منع كلية الإمكان أولا، ومع صلاحيته للمنع ثانيا وإنما هو إذا
كان العمل بالشاهدين من باب الظن، وتختص حجيته هنا بصورة انسداد
باب العلم.
وظاهر التحرير التردد في المسألة (2)، حيث نقل القولين من غير
ترجيح.
ولو لم يكن شاهد، وكان هناك خطه وخاتمه لم يحكم به وإن أمن
التزوير، للأصل.
نعم، لو ضم معه قرائن أخرى موجبة للعلم بحكمه يلزم الحكم،
والوجه واضح.
المسألة الثانية: لا يختلف لزوم حكمه بما حكم أولا مع تذكر
الواقعة أو شهادة العدلين أن يعلم عدم تبدل رأيه في بعض جزئيات
الواقعة، أو كلها، أو لم يعلم، أو علم التبدل، لأنه قد ثبت (الحق بالحكم
السابق) (3)، فيجب استصحابه، ولا يصلح تبدل الرأي لرفعه، كما إذا لم
يحصل التنازع بعده، وكذا إن ظهر له طريان الفسق لشهود الحكم الأول
بعده.
المسألة الثالثة: لو تذكر ثبوت الحق عنده أولا من غير حكم به، أو
شهد بذلك الشاهدان.. فإن تذكر مستند الثبوت أو شهد به الشاهدان
بحيث ثبت، يحكم بمقتضاه.

(1) الدروس 2: 78.
(2) التحرير 2: 185.
(3) بدل ما بين القوسين في " ح ": الحكم بالحق.
196

لا لأجل الثبوت السابق، لعدم كون مجرد الثبوت بدون الحكم ملزما
للخصم.
بل لأجل المستند، لعدم دليل على وجوب مقارنة قيام المستند لحال
الحكم.
ولكن يشترط حينئذ عدم تبدل رأيه، فلو ثبت عنده أولا بشهادة
النساء مثلا، أو بشهادة رجل ويمين المدعي، ولم يحكم، وتبدل رأيه قبل
الحكم عن قبول ذلك في مثل تلك الواقعة، لا يحكم به، للأصل، لعدم
تعلق حق على الخصم حتى يستصحب، والثبوت السابق بدون الحكم غير
ملزم.
نعم، لو طرأ فسق الشهود لم يمنع من الحكم، والفرق: أن المعتبر
في عدالة الشاهد إنما هو حال الأداء، وفي فتوى المجتهد حال الحكم.
وإن لم يتذكر المستند ولم يثبت بمثل العدلين أيضا فلا يحكم،
للأصل، إذ لم يثبت أن مجرد الثبوت عند الحاكم - من غير ظهور المستند
الثابت اعتباره شرعا - من مستندات الحكم.
فإن قيل: الثبوت عند الحاكم قائم مقام علمه، فإذا جاز حكمه بعلمه
جاز بالثبوت أيضا.
قلنا: لا نسلم أن مطلق الثبوت عنده قائم مقام علمه، بل الثبوت مع
الحكم، وأما بدونه فلا، وأما الحكم بعد الثبوت بالمستند فليس لأجل
الثبوت، بل لأجل المستند.
المسألة الرابعة: لو لم يتذكر الواقعة ولكن شهد عدلان بشهادته
فيها، فهل يجوز حكمه بمقتضى شهادته هذه، أم لا؟
قال والدي العلامة (رحمه الله) في المعتمد: نعم. ولعله لأجل أنه إذا جاز
197

حكم الحاكم بشهادة نفسه جاز بما ثبتت به شهادته أيضا، لأنه حكم بشهادة
نفسه أيضا.
وفيه: أنه إنما يصح لو كان حكمه بشهادة نفسه لأجل أنها شهادة
نفسيته - كما في شهادة الشاهدين - وليس كذلك، لعدم دليل عليه، وإنما
هو لأجل علمه حين الحكم، وهو منتف هنا.. فالأصح عدم جواز الحكم
بها، للأصل.
المسألة الخامسة: لا يجوز للحاكم العالم بالواقعة - فيما يجوز حكمه
بعلمه - قطع النظر عن العلم وإيقاف الحكم على غيره من البينة أو اليمين،
لأن معنى الإيقاف: أنه لو كان الغير مخالفا للعلم عمل به، وهو غير جائز،
إذ قبول البينة إنما هو إذا لم يعلم مخالفتها للواقع وإلا فلا تقبل إجماعا،
ولأنه موجب للحكم بخلاف ما يعلم، بل بغير ما أنزل الله باعتقاده.
بل نقول: إن المتبادر من عمومات طلب البينة واليمين إنما هو في
صورة اشتباه الواقعة، وعلى هذا فلا يكون بناء العمل على الغير مشروعا
أيضا.
ومنه يظهر عدم جواز طلب البينة أو اليمين، لأنه إلزام للمطلوب منه
بدون ملزم شرعي.. بل لا يجوز الإحلاف ولو مع رضى الخصمين، لأنه
أمر شرعي يتوقف على التوقيف.
ويجوز طلب البينة من غير أمر وإلزام، بأن يقول: إن كان لك بينة
وأردت إقامتها فلك ذلك، لأصالة جواز الإتيان بها، وجواز إخبارها،
وجواز استماع خبرها، بل قد يكون راجحا إذا أوجب البعد عن معرض
التهمة، والله العالم.
198

المقام الثاني
فيما إذا لم يكن الحاكم عالما بالحال
والحكم حينئذ إما يكون باليمين، أو بالبينة، أو بهما.. وتفصيل
الكلام فيها في ثلاثة مواضع بعد ذكر مقدمة.
المقدمة: اعلم أن من القواعد الثابتة المسلمة بين الأمة المدلول عليها
بالأخبار (1): أن الدعاوى تقطع بالبينة واليمين.
قال الله سبحانه: * (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) * (2).
وفي رواية أبي ضمرة: " أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة،
أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية من أئمة الهدى " (3).
وفي مرسلة أبان: " أقض بينهم بالبينات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به "
وفيها أيضا: " ثم أوحى الله تعالى إليه " أي إلى داود " أن احكم بينهم
بالبينات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به " (4).
وفي صحيحة سعد وهشام: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما أقضي بينكم
بالبينات والأيمان " الحديث (5).

(1) انظر الوسائل 27: 229 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 1.
(2) البقرة: 140.
(3) الكافي 7: 432 / 20، التهذيب 6: 287 / 796، الخصال: 155 / 195 وفيه:
بتفاوت يسير، الوسائل 27: 231 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 1 ح 6.
(4) الكافي 7: 414 / 3، التهذيب 6: 228 / 551، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 1 ح 2 وفيه: أقض عليهم...
(5) الكافي 7: 414 / 1، التهذيب 6: 229 / 552، الوسائل 27: 232 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 2 ح 1.
199

وفي تفسير الإمام (عليه السلام): " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحكم بين الناس
بالبينات والأيمان في الدعاوى " (1)، إلى غير ذلك.
ثم إن هذا حكم مجمل وقاعدة مبهمة.
ومن القواعد المسلمة بين الأمة الثابتة بالأخبار المستفيضة المفصلة
لذلك المجمل: أن البينة على المدعي واليمين على المنكر..
ففي صحيحة الحلبي وجميل وهشام: " البينة على من ادعى واليمين
على من ادعي عليه " (2).
وفي صحيحة العجلي: " الحقوق كلها: البينة على المدعي واليمين
على المدعى عليه، إلا في الدم خاصة " الحديث (3).
وفي رواية أبي بصير: " إن الله [عز وجل] حكم في الدماء ما لم
يحكم في شئ من حقوق الناس، لتعظيمه الدماء، لو أن رجلا ادعى على
رجل عشرة آلاف درهم أو أقل من ذلك أو أكثر لم يكن اليمين على
المدعي، وكانت اليمين على المدعى عليه " الحديث (4).
وفي صحيحته: " إن الله حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم، حكم
في أموالكم أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه " الحديث (5).

(1) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 2 ح 3.
(2) الكافي 7: 415 / 1، التهذيب 6: 229 / 553، الوسائل 27: 233 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 3 ح 1.
(3) الكافي 7: 361 / 4، الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 3 ح 2..
(4) الكافي 7: 362 / 8، الفقيه 4: 73 / 223، التهذيب 10: 167 / 663، الوسائل
29: 156 أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب 10 ح 5.
(5) الكافي 7: 361 / 6 و 415 / 2، الفقيه 4: 72 / 219، التهذيب 6: 229 / 554،
الوسائل 27: 234 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3 ح 3، و ج 29: 153
أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب 9 ح 4.
200

وغير ذلك مما يأتي.
ثم من القواعد المسلمة كذلك أيضا الثابتة كذلك: أن البينة واليمين
ليستا بمجتمعتين، بل يمين المدعي عليه إنما هي إذا لم يقم المدعي البينة،
فالبينة مقدمة على اليمين، واليمين بعد عدم البينة..
ففي صحيحة سليمان بن خالد: " أحكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى
اسمي تحلفهم به " ثم قال: " هذا لمن تقم له بينة " (1).
ومرسلة يونس: " استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين
عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل
ويمين المدعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه، فإن لم
يحلف ورد اليمين على المدعي فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقه،
فإن أبى أن يحلف فلا شئ له " (2).
وفي تفسير الإمام (عليه السلام): " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا تخاصم إليه رجلان
في حق قال للمدعي: ألك بينة؟ فإن أقام بينة يرضاها ويعرفها أنفذ الحكم
على المدعى عليه، وإن لم تكن له بينة حلف المدعى عليه بالله ما لهذا قبله
ذلك الذي ادعاه ولا شئ منه " الحديث (3)، إلى غير ذلك مما يأتي.
ثم إن ما ذكرنا من القواعد الثلاث مطردة عند أصحابنا في جميع

(1) الكافي 7: 415 / 4، التهذيب 6: 228 / 550، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 1 ح 1.
(2) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 4.
(3) الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 6 ح 1.
201

الدعاوي المسموعة، التي يتعين فيها جواب المدعى عليه، بحيث لو أقر
ألزم بالحق، سواء كانت الدعوى مالية أو غير مالية، كالنكاح والطلاق
والرجعة والعتق والنسب والولاء وغيرها. وخالفنا في ذلك بعض العامة،
ولم يثبتوا اليمين على المنكر فيها سوى الدعاوى المالية غالبا (1).. وعموم
ما مر يرده.
نعم، هذه القاعدة غير مطردة في الحدود إذا كان حق الله المحض
خاصة، بلا خلاف يعرف كما في الكفاية (2) وغيره (3)، بل بالإجماع كما
صرح به المحقق الأردبيلي.
للنبوي: " لا يمين في حد " (4).
وفي مرسلة الصدوق: " ادرؤا الحدود بالشبهات، ولا شفاعة ولا كفالة
ولا يمين في حد " (5).
ومرسلة البزنطي: " أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) برجل، فقال: هذا
قذفني، ولم تكن له بينة، فقال: يا أمير المؤمنين، استحلفه، فقال: لا يمين
في حد، ولا قصاص في عظم " (6)، ونحوها في مرسلة ابن أبي عمير (7).

(1) انظر بداية المجتهد 2: 473.
(2) الكفاية: 271.
(3) كالرياض 2: 405.
(4) لم نعثر على كذا نص، نعم ورد مضمونه في دعائم الإسلام 2: 466 / 1653،
مستدرك الوسائل 18: 26 أبواب مقدمات الحدود ب 21 ح 1.
(5) الفقيه 4: 53 / 190، الوسائل 28: 47 أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة
ب 24 ح 4.
(6) الكافي 7: 255 / 1، الوسائل 28: 46 أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة
ب 24 ح 1.
(7) التهذيب 10: 79 / 310، الوسائل 28: 46 أبواب مقدمات الحدود وأحكامها
العامة ب 24 ح 1.
202

وفي رواية غياث بن إبراهيم: " لا يستحلف صاحب الحد " (1).
ورواية إسحاق بن عمار: " إن رجلا استعدى عليا (عليه السلام) على رجل،
فقال له: إنه افترى علي، فقال علي (عليه السلام) للرجل: أفعلت ما فعلت؟ فقال:
لا، ثم قال علي (عليه السلام) للمستعدي: ألك بينة؟ قال: فقال: ما لي بينة، فاحلفه
لي، قال (عليه السلام): ما عليه يمين " (2).
ويدل عليه أيضا الأصل، واختصاص ما دل من النص والفتوى غالبا
بالمنكر لما عدا الحد من الحقوق المالية ونحوها مما يستحقها المدعي،
[مع أن الحد حق الله سبحانه، وإذن صاحب الحق] (3) شرط في سماع
الدعوى، ولم يأذن الله سبحانه فيها، بل ظاهره الأمر بالستر والإخفاء،
والكف عن التتبع وكشفها، ودرء الحدود بالشبهات.
ويستفاد من أكثرها أنه إذا كانت الدعوى مما يشترك فيه حق الله وحق
الناس - كالقذف والزنا - ولا بينة للمدعي، غلب حق الله على حق الناس،
ولا يستحلف المدعى عليه، كما عليه الأكثر. ويدل عليه أيضا قوله سبحانه:
* (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم) * (4)
دلت على أنه إذا لم يأت مدعي الزنا بالشهود يحد ولا يستحلف.
وعن الشيخ في المبسوط: ترجيح حق الآدمي، فيستحلف المدعى

(1) التهذيب 10: 150 / 602، الوسائل 28: 46 أبواب مقدمات الحدود وأحكامها
العامة ب 24 ح 2.
(2) التهذيب 6: 314 / 868، الوسائل 28: 46 أبواب مقدمات الحدود وأحكامها
العامة ب 24 ح 3.
(3) بدل ما بين المعقوفين في النسخ: مع الحد إن أذن صاحب.. والصحيح ما أثبتناه.
(4) النور: 4.
203

عليه الزنا، فإن حلف حد القاذف، وإن رد وحلف القاذف فيثبت الزنا في
حقه بالنسبة إلى حد القذف دون ثبوت حد الزنا (1). واستحسنه في
الدروس (2). والأصل والكتاب والسنة يرده.
نعم، إذا كانت الدعوى مركبة من حقين - كالسرقة المستلزمة للغرامة
وللقطع - تسمع في حق الآدمي خاصة، ويستحلف وتترتب عليه آثاره
بالنسبة إلى الغرامة، وسيأتي إن شاء الله تحقيقه في موضعه.
ثم إن ما ذكرناه من القواعد إنما هو على الأصل في المحاكمات، وقد
يتخلف في بعض الموارد بالدليل، كضم اليمين مع البينة في الدعوى على
الميت، وكالدعوى على قيم الصغير، حيث لا يمين عليه، ويأتي كل في
موضعه. وعليك بملاحظة الأصول (3) المذكورة إلى أن يأتيك الدليل.
وإذ علمت أن على المدعي البينة أولا، فإذا تلقى المدعى عليه
بالإنكار فيقول الحاكم للمدعي: ألك بينة، كما قاله النبي [(صلى الله عليه وآله)] في
المروي عن تفسير الإمام المتقدم والولي [(عليه السلام)] في رواية إسحاق
المتقدمة، راجحا مطلقا، لإطلاق رواية التفسير، ووجوبا إن جهل المدعي
بأن عليه البينة لتوقف الحكم عليه.. فإن قال: ليس لي بينة، استحلفه على
ما حكم به الله.. [وإن] (4) قال: نعم، استحضرها منه كذلك.. وإن قال: لي
بينة واحدة، استحضرها واستحلفه، وحكم في كل من الصور بما يقتضيه
حكم الله، كما نبينه في المواضع الثلاثة:

(1) المبسوط 8: 215.
(2) الدروس 2: 93.
(3) في " ق ": الأمور.
(4) ما بين المعقوفين ليس في " ح " و " ق "، أضفناه لاستقامة المعنى.
204

الموضع الأول
في الحكم باليمين
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا قال المدعي: إنه لا بينة لي، عرفه الحاكم أن له
اليمين على خصمه المنكر لحقه، فإن التمس المدعي منه إحلافه أحلفه.
ولا يجوز للحاكم تحليفه إلا بعد سؤال المدعي، بلا خلاف بينهم كما
في المسالك والمفاتيح وشرحه (1)، وقولا واحدا كما ذكره بعضهم (2)،
واتفاقا كما في شرح القواعد للهندي (3)، بل بالإجماع كما في المعتمد، بل
هو إجماع محقق، فهو الدليل عليه، مضافا إلى أنه حق للمدعي، فيتوقف
على مطالبته.
وليس هنا شاهد حال دل على رضائه بإحلاف القاضي أو حلف
المنكر بنفسه، إذ ربما يتعلق الغرض بأن لا يحلفه لتبقى دعواه توقعا لوجود
شهود له، أو تذكر، أو لردعه عن الإنكار، أو انتظار زمان آخر صالح
للدعوى أو الإحلاف، أو طي الدعوى بالصلح ببعض (4) المدعى به، أو
أخذ ماله تقاصا، أو غير ذلك.
ويمكن أن يستدل له بصحيحة ابن أبي يعفور: " إذا رضي صاحب

(1) المسالك 2: 368، المفاتيح 3: 255.
(2) انظر الرياض 2: 397.
(3) كشف اللثام 2: 337.
(4) في " ق ": بنقص....
205

الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه فحلف أن لا حق له قبله ذهبت اليمين
بحق المدعي فلا حق له " قلت: وإن كانت له بينة عادلة؟ قال: " نعم، فإن
أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له حق، وكانت اليمين قد
أبطلت كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه " (1).
فإنه (عليه السلام) علق إذهاب اليمين بالحق برضى صاحب الحق، وأيضا
اشترط استحلافه - أي طلبه الحلف - فلا تذهب الدعوى بدون طلبه.
وعلى هذا، تدل على المطلوب أخبار أخر متضمنة لقوله:
" استحلفه " كروايتي خضر بن عمرو: في الرجل يكون له على الرجل مال
فيجحده، قال: " إن استحلفه فليس له أن يأخذ منه بعد اليمين شيئا "
الحديث (2)، حيث شرط عدم جواز الأخذ باستحلافه.
والأخبار بهذا المضمون كثيرة، وبها تقيد إطلاقات حلف المدعى
عليه.
وعلى هذا، فإن تبرع المنكر بالحلف أو أحلفه الحاكم بدون إذنه
لغى، وأعيد ثانيا مع التماس المدعي.
المسألة الثانية: كما أنه لا اعتداد بإحلاف الحاكم بدون إذن المدعي
كذلك لا اعتداد بإحلاف المدعي بدون إذن الحاكم وحكمه به، ولا يحلف
المدعى عليه بدونه، كما هو المصرح به في كلام الأصحاب من دون ذكر
خلاف ولا ظهور مخالف.

(1) الكافي 7: 417 / 1، الفقيه 3: 37 / 125، التهذيب 6: 231 / 565، الوسائل
27: 244 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 9 ح 1، بتفاوت.
(2) الكافي 5: 101 / 3، و ج 7: 418 / 2، الفقيه 3: 113 / 481، التهذيب 6:
231 / 566، و ج 8: 293 / 1085، الوسائل 23: 285 أبواب الأيمان ب 48
ح 1، و ج 27: 246 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 10 ح 1، بتفاوت.
206

وقال بعض مشايخنا المعاصرين: من غير خلاف بينهم أجده، بل
ظاهر الأردبيلي نسبته إلى الأصحاب كافة. انتهى (1).
وقال في موضع آخر: بلا خلاف، بل ظاهرهم الإجماع عليه كما
يستفاد من كثير (2). إنتهى.
وقال بعض الفضلاء المعاصرين: ولم نعرف في ذلك خلافا (3).
والظاهر أنه كذلك.
واحتج له تارة بأنه وظيفته.
وهو لا يخلو عن مصادرة.
وثانية: بأنه من تتمة الحكم، ولا حكم بغيره.
وهو أيضا لا يخلو عن خدشة، إذ يمكن أن يقال: إنه من مقدمات
الحكم لا من أجزائه - كإحضار البينة - فلا يثبت اختصاصه به من اختصاص
الحكم به.
وثالثة: بأنه المتبادر إلى الفهم من الاستحلاف في الروايات.
وفيه: أن المذكور في الروايات استحلاف المدعي دون الحاكم.
ورابعة: باستصحاب عدم لزوم ما يترتب على الحلف من سقوط
الحق ونحوه إلا بالمتيقن.
وفيه: أنه كان حسنا لولا العمومات والإطلاقات بالترتب على حلف
المدعى عليه، مثل قوله في رواية البصري: " فإن حلف فلا حق له " (4) وفي

(1) الرياض 2: 397.
(2) الرياض 2: 403.
(3) غنائم الأيام: 690.
(4) الكافي 7: 415 / 1، الفقيه 3: 38 / 128، التهذيب 6: 229 / 555، الوسائل
27: 236 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 4 ح 1.
207

مرسلة يونس: " فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقه " (1)، إلى غير ذلك.
والقول: بأن غاية ما في الأخبار الإطلاق، وهو منصرف إلى ما هو
الغالب في الحلف في مقام الدعاوى، من كونه بإذن الحاكم، مع أنها منساقة
لبيان حكم آخر غير ما يراد إثباته..
قابل للخدش والمنع، فإن الاختصاص بالإطلاق - ثم غلبة ما ذكر
حين صدور الأخبار، ثم ورودها مورد حكم آخر، ثم عدم إفادة مثله لو
سلم للإطلاق والعموم - مما يقبل المنع.
فلم يبق دليل للمسألة إلا ظاهر الإجماع، وهو حسن.
وتدل عليه أيضا رواية محمد بن قيس: " إن نبيا من الأنبياء شكا إلى
ربه كيف أقضي بأمور لم أخبر ببيانها؟ قال: فقال: ردهم إلي وأضفهم إلى
اسمي يحلفون به " (2)، ونحوه في مرسلة أبان وفي صحيحة سليمان بن خالد.
ويؤيده أيضا المروي في تفسير الإمام المتقدم في المقدمة - حيث
نسب التحليف إلى رسول (صلى الله عليه وآله) (3) - وبعض الأخبار المتضمنة لقضاء
أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإن الثابت من تلك الأخبار: أن ذلك وظيفة الحاكم،
وأنه ما لم يأت بذلك لم يتم حكمه، فلا يجوز له الحكم.. ويتحقق الإذن
من الحاكم بمجرد الأمر بالحلف، ولا يحتاج إلى تلقينه ألفاظها، للأصل.
المسألة الثالثة: صرح جماعة - منهم: الحلي والمحقق والفاضل (4)

(1) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 4.
(2) الكافي 7: 414 / 2، الوسائل 27: 230 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 1 ح 3.
(3) راجع ص 149.
(4) الحلي في السرائر 2: 183، المحقق في الشرائع 4: 88، والمختصر: 282،
الفاضل في القواعد 2: 211، والتبصرة: 188.
208

وغيرهم (1) - بأنه يجب أن يكون الحلف في مجلس القضاء والحكم، ونفى
عنه بعض مشايخنا المعاصرين الخلاف، بل قال: إن ظاهرهم الإجماع
عليه (2).
إلا أن ظاهر الفاضل في التحرير عدم اشتراط ذلك ولا وجوبه، حيث
قال: وإن أمسك المدعي عن إحلاف المنكر ثم أراد إحلافه بالدعوى
المتقدمة جاز، لأنه لم يسقط حقه منها وإنما أخرها (3).
وأما قوله في باب الحلف -: لا ينبغي للحاكم أن يحلف أحدا إلا في
مجلس حكمه إلا في حق المعذور (4) - فلا يدل على الحرمة ولا الاشتراط،
بل لفظ " لا ينبغي " ظاهر في الكراهة.
وإلى ذلك مال بعض فضلائنا المعاصرين، قال: وأما لزوم كونه في
مجلس الحكم - كما يظهر من بعض العبارات - فوجوبه غير معلوم وإن كان
هو المنساق من ظاهر الروايات، لكنها لا تفيد الاشتراط، بل ما يدل على
استحباب تغليظ اليمين بالمكان يدل على جوازه في غيره أيضا، سيما مع
الكراهة في بعضها (5). إنتهى.
واستدلوا للوجوب ببعض ما مر دليلا على لزوم كونه بإذن الحاكم.
وقد عرفت ما فيه.
وقد يستدل أيضا بما مر في الأخبار المستفيضة من أمر الحاكم
بإضافة المدعى عليه إلى الاسم فيحلف به، فإن المتبادر عن ذلك أنه يلزم

(1) كالسبزواري في الكفاية: 270، والفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 340.
(2) الرياض 2: 403.
(3) التحرير 2: 186.
(4) التحرير 2: 191.
(5) غنائم الأيام: 690.
209

أن يكون في حضوره، ولا أقل من عدم العلم بالامتثال بدون ذلك.
وفيه منع ظاهر، لصدق الإضافة إلى الاسم بالأمر بالحلف به كيف ما
كان.
وقد يقال: إن المتبادر من قوله: " أضفهم إلى اسمي يحلفون به " أن
اللازم الحلف لأجل طلب الحاكم، فلو حلف المدعى عليه لا لذلك لم يكن
معتدا به.
ولا يعلم كونه لذلك إلا بتصريح المدعى عليه، أو بقرينة تدل عليه..
والتصريح لا يفيد، لكونه جالبا به النفع، دافعا للمضرة، فلا بد من أن
يستدل عليه بالقرائن، وليست إلا كونه في حضوره بعد طلبه، إذ المستفاد
من ذلك أنه أوقعه لأجله، بل لا يمكن تحقق أزيد من ذلك، فلا بد من
الإتيان به.
فإن قيل: الإتيان بالحلف بعد طلب نائب الحاكم في الإحلاف أيضا
كذلك.
قلنا: نعم، لو قلنا بجواز الاستنابة فيه، ولكنه غير معلوم، لأنه أمر به
الحاكم، والأصل عدم جواز الاستنابة فيه وعدم كفايته.
وفيه: أنه تتحقق الإضافة بالأمر بالحلف، ووجوب كون حلفه بقصد
أمر الحاكم به فلا دليل عليه، فإذا وكل عليه أحدا ليأتي بالمأمور به يصدق
عليه الحلف بأمر الحاكم، وليس ذلك استنابة في الحلف، مع أنه لو تم
ذلك لدل على لزوم كون الحلف في مجلس الحاكم دون مجلس الحكم،
وهو غير مطلوبهم.
ومنه يظهر أن القول بعدم الوجوب والاشتراط أظهر.
210

فروع:
أ: القائلون بوجوب كونه في مجلس الحكم استثنوا من ذلك
المعذور، كالمريض والزمن (1) - اللذين لا يمكنهما أو يشق عليهما الحضور
إلى الحاكم - والخائف، وغير البرزة من النساء، والحائض والنفساء، مع
كون الحاكم في موضع لا يجوز لهما المكث فيه أو الدخول.
قالوا: فيستنيب الحاكم حينئذ من يحلفه، لاستلزام الحضور مع ذلك
العسر والحرج، وإلزام الحاكم حينئذ بمباشرته الإحلاف بالمسير إليه مستلزم
للنقص فيه، أو إلقائه في ضيق وشدة وعسر، مع عدم كونه معهودا في
الأزمنة السابقة. واحتمل بعض الأصحاب وجوب ذلك على الحاكم، إلا إذا
وجب النقص (2).
أقول: لازم أدلة نفي العسر والحرج أحد الأمرين: إما جواز
الاستنابة، أو جواز إيقاف الحكم إلى ارتفاع العذر، إلا في عذر لم يرج
زواله.
فالحكم بالأول مطلقا لا وجه له، إلا أن يقال بالتخيير، ومرجعه إلى
جواز الاستنابة أيضا.
ولكن هذا إنما يتم على ما هو المشهور من عدم جواز إذن الحاكم
لمقلده العادل في الحكم في واقعة مخصوصة.
أما على ما اخترناه - من جوازه - فيرتفع العذر بالإذن لمن يقولون

(1) الزمانة: العاهة، وآفة في الحيوان. يقال: زمن الشخص زمنا وزمانة فهو زمن من
باب تعب، وهو مرض يدوم زمانا طويلا - مجمع البحرين 6: 260.
(2) حكاه عنه في الرياض 2: 403.
211

باستنابته في الإحلاف أن يحكم ويستحلف.
نعم، لو فرض عدم إمكان ذلك لتم الحكم بالتخيير المذكور.
ب: قد ظهر من عدم اشتراط كون الحلف في مجلس الحكم جواز
تأخير المدعي إحلاف المنكر إلى وقت آخر، كما نقل عن التحرير (1).
ولا يشترط إعادة الدعوى ثانيا، بل لا يلزم إحضاره عند الحاكم
أيضا.
ج: قال في القواعد والتحرير (2): لو قال: أبرأتك من هذه اليمين،
سقط حقه منها في هذه الدعوى، وله أن يستأنف الدعوى، لأن حقه
لا يسقط بالإبراء من اليمين.. فإن استأنف الدعوى وأنكر الخصم فله
إحلافه، لأن هذه دعوى مغايرة للتي أبرأه من اليمين فيها (3). انتهى.
وهو كذلك، لأنا لو قلنا بسقوط حق هذه اليمين الحاصل بحكم
الحاكم بسبب تلك الدعوى لا يوجب سقوط حقه الذي كان يدعيه،
للأصل.. ومع بقائه يجوز له دعواه ثانيا، ومع الدعوى يجب على الحاكم
استماعها والحكم بمقتضاها، فإذا حكم بالحلف يكون هذا حقا ثابتا (4) ثبت
بالدعوى الثانية.. وإن شئت قلت: لم يثبت من الإسقاط إلا سقوط اليمين
الثابتة بذلك الحكم دون غيره.
المسألة الرابعة: ثم المنكر - الذي وجه الحاكم إليه الحلف - إما أن
يحلف حلفا معتبرا شرعا - كما يأتي بيانه - أو يرده على المدعي، أو ينكل

(1) التحرير 2: 186 و 191.
(2) ليست في " ح ".
(3) التحرير 2: 186، ولم نجدها في القواعد.
(4) في " ح ": ثانيا....
212

ويأبى عن أحد الأمرين.
فإن حلف سقطت الدعوى عنه في الدنيا، ولكن لا تبرأ ذمته من
الحق في نفس الأمر لو كان كاذبا، بل يجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى
التخلص من حق المدعي بلا خلاف، بل بالإجماع، له، وللاستصحاب
- حيث لم يثبت من أدلة سقوط الدعوى أزيد من سقوطها ظاهرا -
وللمعتبرة من الأخبار:
كصحيحة سعد وهشام: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنما أقضي بينكم
بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، وأيما رجل قطعت له
من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له قطعة من النار " (1).
والمروي في تفسير الإمام (عليه السلام): " فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أيها
الناس، إنما أنا بشر وإنكم تختصمون، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته،
وإنما أقضي على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشئ
فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من النار " (2).
ويستفاد منها مثل ذلك في جانب المدعي لو شهدت له البينة الكاذبة،
وبخصوصه وردت أخبار كثيرة، منها: رواية المناهي المشهورة المروية في
الفقيه، وفيها: " إنه نهى عن أكل مال بشهادة الزور " (3).
ثم بما ذكرنا تخصص الأخبار المتضمنة لنفي الحق للمدعي عن
المنكر بعد حلفه أو ثبوته له بعد بينته لحقوق الدنيا، فإنها تسقط عن المنكر

(1) الكافي 7: 414 / 1، التهذيب 6: 229 / 552، الوسائل 27: 232 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 2 ح 1.
(2) الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 2 ح 3، بتفاوت يسير.
(3) الفقيه 4: 2 / 1 بتفاوت يسير، الوسائل 27: 232 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 2 ح 2.
213

بعد الحلف المعتبر، فلا تجوز له المطالبة ولا المقاصة بماله كما كان له قبل
الحلف، ولا العود في الدعوى، فلو عاد إليها لم تسمع منه، بلا خلاف فيه
يوجد، بل باتفاق المسلمين كما قيل (1).
للنصوص المستفيضة، كصحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة في المسألة
الأولى، وفي آخرها: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ومن حلف لكم بالله فصدقوه،
ومن سألكم بالله فاعطوه، ذهبت اليمين بحق المدعي ولا دعوى له " (2).
وروايتي خضر بن عمرو المتقدمتين فيها أيضا (3)، ورواية البصري
المروية في الفقيه: عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلا تكون له بينة
بماله، قال: " فيمين المدعى عليه، فإن حلف فلا حق له، وإن رد اليمين
على المدعي فلم يحلف فلا حق له " (4).
ومرسلة إبراهيم بن عبد الحميد: في الرجل يكون له على الرجل
المال فيجحده إياه فيحلف له يمين صبر (5)، أله عليه شئ؟ قال: " لا،
ليس له أن يطلب منه " (6).
وصحيحة سليمان بن خالد: عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني

(1) انظر كشف اللثام 2: 337.
(2) الفقيه 3: 37 / 126، الوسائل 27: 245 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 9 ح 2، بتفاوت.
(3) راجع ص: 154.
(4) الفقيه 3: 38 / 128، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 4 ح 1.
(5) أي ألزم بها وحبس عليها، وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم - النهاية لابن
الأثير 3: 8.
(6) الكافي 7: 418 / 3، التهذيب 8: 294 / 1086، الوسائل 23: 286 أبواب
الأيمان ب 48 ح 2، بتفاوت.
214

عليه وحلف، ثم وقع له عندي مال، فآخذه لمكان مالي الذي أخذه
وأجحده وأحلف عليه كما صنع؟ فقال: " إن خانك فلا تخنه، ولا تدخل
فيما عبته عليه " (1).
ورواية عبد الله بن وضاح: كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة
فخانني بألف درهم، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد علمت أنه
حلف يمينا فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة، فأردت
أن أقتص الألف درهم التي كانت لي عنده فأحلف عليها، فكتبت إلى أبي
الحسن (عليه السلام) فأخبرته أني قد أحلفته فحلف، وقد وقع له عندي مال، فإن
أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت، فكتب: " لا تأخذ
منه شيئا، إن كان ظلمك فلا تظلمه، ولولا أنك رضيت بيمينه فحلفته
لأمرتك أن تأخذه من تحت يدك ولكنك رضيت بيمينه، لقد مضت اليمين
بما فيها " فلم آخذ منه شيئا (2).
وأما حسنة الحضرمي: رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها،
أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي؟ فقال: " نعم "
الحديث (3)..
فهي أعم مطلقا مما مر، لشمولها للحلف قبل استحلاف المدعي

(1) الكافي 5: 98 / 1، الفقيه 3: 113 / 482، التهذيب 6: 197 / 437
و 348 / 980، الإستبصار 3: 52 / 171، الوسائل 17: 274 أبواب ما يكتسب به
ب 83 ح 7.
(2) الكافي 7: 430 / 14، التهذيب 6: 289 / 802، الإستبصار 3: 53 / 175،
الوسائل 27: 246 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 10 ح 2.
(3) التهذيب 6: 348 / 982، الإستبصار 3: 52 / 168، الوسائل 17: 273 أبواب
ما يكتسب به ب 83 ح 4.
215

والحاكم أيضا، فيجب تخصيصها بما مر.. مع أنها لا تصلح لمعارضة ما
مر، لأشهريته رواية وشذوذها.
ومقتضى صريح الصحيحة الأولى وإطلاق البواقي أو عمومها عدم
الفرق في ما ذكر بين ما لم يقم بعد الحلف بينة أو أقامها، كما هو الحق
المشهور، واختاره الشيخ في الخلاف والنهاية وموضع من المبسوط، ونسبه
الإسكافي إلى الصادقين (عليهما السلام) (1)، وعن الخلاف والغنية الإجماع عليه (2).
خلافا للمحكي عن موضع من المبسوط، فتسمع البينة مطلقا (3)،
ولعله لإطلاقات سماع البينة.
وفيه: أنها بما مر مقيدة، سيما مع شذوذ ذلك القول بالمرة.
وللمحكي عن المفيد وابن حمزة والقاضي والديلمي، فتسمع - إلا
إذا شرط الحالف سقوط الحق باليمين - إلحاقا لها بالإقرار، فكما يجب
الحق به بعد الحلف - كما يأتي - يجب بها أيضا (4).
وهو قياس مع الفارق، فإن الإجماع في الإقرار موجود دون البينة،
وأيضا الإقرار تمام العلة في ثبوت الحق، بخلاف البينة، فإنها لا تثبته إلا
بعد الحكم، ومع ذلك فهو اجتهاد في مقابلة النص.
وللمحكي عن موضع آخر من المبسوط والحلبي والحلي (5)، ومال

(1) الخلاف 2: 622، النهاية: 340، المبسوط 8: 210، حكاه عن الإسكافي في
المختلف: 699.
(2) الخلاف 2: 622، الغنية (الجوامع الفقهية): 625.
(3) المبسوط 8: 158.
(4) المفيد في المقنعة: 733، ابن حمزة في الوسيلة: 213، حكاه عن القاضي في
المختلف: 699، الديلمي في المراسم (الجوامع الفقهية): 657.
(5) المبسوط 8: 210، الحلبي في الكافي في الفقه: 447، الحلي في السرائر 2:
159 وفيه: وإن قال المدعي: ليس معي بينة، وطلب من خصمه اليمين فحلفه
الحاكم، ثم أقام بعد ذلك البينة على صحة ما كان يدعيه، لم يلتفت إلى بينته
وأبطلت.. وهو كما ترى مخالف لما نسب إليه، قال في مفتاح الكرامة 10: 77
أو وجدوا ذلك في السرائر ولم نعثر عليه.
216

إليه في المختلف (1)، فتسمع لو أحلف مع نسيان البينة أو عدم علمه بها،
ولا تسمع مع العلم بها والرضا به عنها، لأن طلب الإحلاف لظن عجزه من
استخلاص حقه بالبينة.
وجوابه ظاهر مما مر.
ومقتضى إطلاق أكثر الأخبار أو عمومها وكذا الفتاوى عدم الفرق في
ذلك بين دعوى العين والدين، ولازمه أنه لو ظفر صاحب العين بها بعد
الحلف لم يجز له أخذها، ولو أخذها كان فعل حراما، كما هو مقتضى
قوله: " ذهبت اليمين بحق المدعي " وقوله: " فلا حق له " (2)..
إلا أنه يمكن أن يقال: إن المستفاد - من قوله: " قطعت له قطعة من
النار " و: " لا يأخذنه " في صحيحة سعد وهشام وتفسير الإمام والنهي عن
الأكل (3) - أنه لا يملكه الحالف ولا يملكه غيره أيضا، فالعين باقية على
ملكية المالك البتة، ضرورة عدم تملك غيرهما.
بل يدل قوله: " لا يأخذنه " أن للمالك التصرف فيه، فيكون له فيه
حق، وليس جميع أنواع الحقية الدنيوية منفية عنه، وبه يحصل نوع من
الإجمال في الحق المنفي، فيقتصر فيه على المصرح به في الأخبار من
الادعاء والمطالبة والتقاص، ويبقى غير ذلك، وهو مقتضى الاستصحاب

(1) المختلف: 699.
(2) المتقدمين في ص: 154 و 162.
(3) الوارد في رواية المناهي، وقد تقدم الجميع في ص 161.
217

أيضا، فلا تخرج العين عن ملكية المالك، فله التصرف فيها وأخذها لو
أمكن بدون الدعوى والمطالبة والتقاص.
ولا يجوز لغيرهما العالم بالحقيقة ابتياعها عن الحالف ولا ردها إليه
لو وقعت في يده.
ويجب على وارث الحالف المطلع ردها، وعلى الغير أمر الحالف
بالرد من باب النهي عن المنكر، وكذا في الدين، فإنه يجب على العالم
بالواقع نهيه عن ذلك المنكر.
هذا، ثم إنهم قالوا: لو أكذب الحالف نفسه أو ادعى سهوه أو نسيانه
أو إثباته بالحلف - للعجز عن الأداء حين الترافع - واعترف بالحق المدعى
كلا أو بعضا جاز للمدعي المطالبة وحلت له المقاصة.
قال المحقق الأردبيلي: ولعله لا خلاف فيه. وقيل: بل لا خلاف
ظاهرا بينهم (1). وعن المهذب والصيمري دعوى الإجماع عليه (2)، وصرح
بالإجماع والدي العلامة في المعتمد، فإن ثبت الإجماع فهو، وإلا فالأخبار
المتقدمة ترده، ودعوى انصرافها بحكم التبادر إلى غير محل الكلام واهية.
والوجوه التي استدلوا بها لتخصيص الأخبار غير تامة..
منها: ما ذكره في المسالك بقوله: لتصادقهما حينئذ على بقاء الحق
في ذمة الخصم، فلا وجه للسقوط (3).
وما ذكره المحقق الأردبيلي من عموم إقرار العقلاء على أنفسهم
جائز، ومن عموم أدلة جواز المقاصة.

(1) انظر الرياض 2: 398.
(2) لم نعثر عليه في المهذب، ولكن نسبه إليه في الرياض 2: 398.
(3) المسالك 2: 368.
218

وما ذكره غيرهما (1) من خصوص الخبر: إني كنت استودعت رجلا
مالا فجحدنيه فحلف لي، ثم إنه جاء بعد ذلك بسنتين بالمال الذي كنت
استودعته إياه، فقال: هذا مالك فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في
مالك فهي لك مع مالك، واجعلني في حل، فأخذت منه المال وأبيت أن
أخذ الربح منه، وأوقفت المال الذي كنت استودعته حتى استطلع رأيك،
فما ترى؟ قال: فقال: " خذ نصف الربح وأعطه النصف وحلله، لأن هذا
رجل تائب " (2).
والرضوي: " وإذا أعطيت رجلا مالا فجحدك وحلف عليه، ثم أتاك
بالمال بعد مدة وبما ربح فيه وندم على ما كان منه، فخذ منه رأس مالك
ونصف الربح، ورد عليه نصف الربح، هذا رجل تائب " (3)..
لضعف الكل غايته:
أما الأول، فلكونه اجتهادا في مقابلة النص، أو مصادرة على
المطلوب.
وأما الثاني، فلأن مقتضى جواز الإقرار الحكم بتعلقه بما في ذمته
حينئذ واقعا، ولا دلالة على ذلك على جواز المطالبة أو التقاص أصلا، فإنه
ليس بأقوى من علم المدعي نفسه بذلك، مع أنهم صرحوا بأنه إذا لم يقر
لا تجوز له المطالبة أو التقاص، وصرحوا بأنه لا تبرأ ذمة الحالف في نفس
الأمر.

(1) انظر الرياض 2: 398.
(2) الفقيه 3: 194 / 882، التهذيب 7: 180 / 793، الوسائل 23: 286 أبواب
الأيمان ب 48 ح 3.
(3) فقه الرضا (عليه السلام): 252، المقنع: 124.
219

ومع ذلك قالوا: إن المحلوف له المطلع على ذلك الأمر النفس
الأمري ليس له المطالبة والتقاص، مع أن الثابت من الإقرار ليس إلا تعلقه
في ذمته قبل الحلف، وأما بعده وبعد تصريح الأخبار بأن اليمين أذهب
حقه فلا.
ومن ذلك ظهر ضعف ما قيل من أن التعارض بين عموم الإقرار وما
مر من الأخبار بالعموم من وجه، والترجيح للأخير (1).
فإن قيل: معنى جوازه أنه يؤخذ به فيحصل التعارض.
قلنا: بل معناه أنه مثبت للحق عليه، فكما أن الثبوت الواقعي المعلوم
للمدعي لم يكن مجوزا للمطالبة والتقاص فكذا ذلك.
وأما الثالث، فلأن أدلة التقاص أعم مطلقا من صحيحة سليمان بن
خالد ورواية ابن وضاح المتقدمتين (2)، والقاعدة: تخصيصها بهما.
وأما الرابع، فلأن محل الكلام جواز الدعوى والمطالبة والتقاص،
دون جواز الأخذ لو بذل الحالف المال، فإنه جائز مع عدم الإقرار أيضا،
كيف؟! وهم صرحوا بأن على الحالف مطلقا إبراء ذمته عن الحق المحلوف
عليه، ونهى في الأخبار - كما مر - عن أخذ ما حلف به لو كان كاذبا..
وعلى هذا فالحكم المذكور مشكل غاية الإشكال.
ولذا تردد فيه صاحب الكفاية، بل يشعر منه الميل إلى خلافه، حيث
قال: قالوا كذا، وظاهر الروايات يدل على خلافه (3). انتهى.
والأحوط أنه إن بذله الحالف أخذه كما في غير الإقرار أيضا، وإلا

(1) انظر الرياض 2: 398.
(2) في ص 163.
(3) الكفاية: 267.
220

فلا يقتص ولا يطالب ولا يدعيه.
فرع: على القول بجواز المطالبة مع إكذاب نفسه لو ادعى صاحب
الحق أن الحالف أكذب نفسه فأنكر كانت دعوى مسموعة، وطولب فيها
بالبينة والمنكر باليمين، والوجه ظاهر.
المسألة الخامسة: إذا لم يحلف المدعى عليه، بل رد اليمين على
المدعي، جاز وصح بالإجماع محققا ومحكيا (1)، له، وللنصوص
المستفيضة، كمرسلة يونس المتقدمة في المقدمة (2)، ورواية البصري
المتقدمة في المسألة الرابعة، وقوله في آخر تلك الرواية: " ولو كان حيا
لألزم اليمين، أو الحق، أو يرد اليمين عليه " (3).
وصحيحة محمد: في الرجل يدعي ولا بينة له، قال: " يستحلفه، فإن
رد اليمين على صاحب الحق فلم يحلف فلا حق له " (4).
ورواية عبيد: في الرجل يدعى عليه الحق ولا بينة للمدعي، قال:
" يستحلف، أو يرد اليمين على صاحب الحق، فإن لم يفعل فلا حق
[له] " (5).
ومرسلة أبان: في الرجل يدعى عليه الحق وليس لصاحب الحق بينة،

(1) كما في الرياض 2: 398.
(2) راجع ص 149.
(3) الفقيه 3: 38 / 128، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 4 ح 1.
(4) الكافي 7: 416 / 1، التهذيب 6: 230 / 557، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 1.
(5) الكافي 7: 416 / 2، التهذيب 6: 230 / 556، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 2، بدل ما بين المعقوفين في " ح " و " ق ": عليه،
وما أثبتناه من المصادر.
221

قال: " يستحلف المدعى عليه، فإن أبى أن يحلف وقال: أنا أرد اليمين
عليك لصاحب الحق، فإن ذلك واجب على صاحب الحق أن يحلف
ويأخذ ماله " (1).
وصحيحة هشام: " يرد اليمين على المدعي " (2).
ورواية أبي العباس: " إذا أقام الرجل البينة على حقه فليس عليه
يمين، فإن لم يقم البينة فرد عليه الذي ادعى عليه اليمين، فإن أبى أن
يحلف فلا حق له " (3)، ونحوها موثقة جميل (4) ومرسلة أبان (5)، إلى غير
ذلك.
ثم بعد الرد إن حلف المدعي باليمين المردودة استحق وأخذ الحق
بالإجماع، له، ولمرسلتي يونس وأبان المتقدمتين، المنجبرتين - لو كان
فيهما ضعف - بالإرسال.
فروع:
أ: إذا رد المنكر اليمين على المدعي فليس للمدعي الرد ثانيا،
بلا خلاف، لاستلزامه التسلسل، ولأن جواز الرد أمر توقيفي ولا دليل عليه،

(1) الكافي 7: 416 / 4، التهذيب 6: 230 / 561، الوسائل 27: 242 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 5.
(2) الكافي 7: 417 / 5، التهذيب 6: 230 / 560، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 3.
(3) الكافي 7: 417 / 2، التهذيب 6: 231 / 563، الوسائل 27: 243 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 8 ح 2.
(4) المتقدمة الإشارة إليها في ص 102 ولكن بعنوان صحيحة جميل.
(5) الكافي 7: 417 / 2، الوسائل 27: 243 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 8 ح 2.
222

ولتصريح المرسلتين المتقدمتين بوجوب اليمين عليه.
وهل للمنكر استردادها وحلفه بنفسه؟
فإن كان بعد حلف المدعي فليس ذلك له، بلا إشكال وخلاف،
وعن المسالك الإجماع عليه (1)، ولثبوت الحق على المنكر بحلفه بمقتضى
الأخبار المتقدمة فيجب على الحاكم الحكم به، ولا يسقط الحق الثابت
باليمين. وإن كان قبل حلفه، فعن الشيخ - كما في الدروس (2) وغيره (3) -
أنه أيضا كذلك إذا لم يرض به المدعي، وهو الأصح، لأن كلا من الحلف
والرد والاسترداد أمور شرعية موقوفة على التوقيف، ولا توقيف هنا.
فإن قيل: جاز للمنكر الحلف قبل الرد فيستصحب.
قلنا: يعارضه جوازه للمدعي أيضا بعد الرد فيستصحب، ولا يمكن
استصحابهما معا، لعدم إمكان اجتماع الحلفين.
فإن قيل: يمكن أن يكون جوازه للمدعي مقيدا بعدم الاسترداد.
قلنا: يعارضه إمكان تقييد جوازه للمنكر أيضا بعدم الرد، مع أن
المصرح به في الأخبار - كما مر - وجوبه على المدعي، وذلك يستلزم
سقوطه عن المنكر حال وجوبه عليه، لعدم إمكان بقائهما معا، فلا يبقى
شئ يستصحب، بل يستصحب عدمه في حقه.
وظاهر الدروس أن له ذلك (4). ونفى بعض الفضلاء المعاصرين عنه
البعد، محتجا بأن الرد في معنى الإباحة لا الإبراء، والأصل بقاء الحق (5).

(1) المسالك 2: 373.
(2) الدروس 2: 94.
(3) كالمسالك 2: 373.
(4) الدروس 2: 94.
(5) انظر غنائم الأيام: 681.
223

وفيه: أنه إن أريد أنه إباحة لا إبراء فمع أنه لا معنى محصل له نقول:
إنه ليس بشئ منهما، بل أمر شرعي، كمطالبة المدعي أولا عنه الحلف،
فإنه ليس إباحة ولا إبراء.
وإن أريد أنه في معناها من جهة عدم اللزوم فهو مصادرة محضة.
وأما أصل بقاء الحق فقد عرفت حاله.
ثم بما ذكرنا ظهر عدم جواز الاسترداد مع رضا المدعي أيضا،
لجريان الأدلة فيه أيضا، ودعوى الإجماع في أمثال تلك المسائل مجازفة.
ب: إذا رد المنكر اليمين على المدعي فهل للمدعي إلزام المنكر
بإحضار المال قبل اليمين؟
قال في المختلف: لا نص فيه (1). وعن الحلبي: القطع بأنه له (2).
وعن الشهيد الثاني: العدم (3)، وهو مختار والدي، وهو الأظهر، للأصل،
وعدم ثبوت حق عليه بعد.. والقدرة على الإثبات ليس ثبوتا.
ج: اختلفوا في أن حلف المدعي باليمين المردودة، فهل يمينه
بمنزلة البينة، أو الإقرار؟ وفرعوا على ذلك الخلاف فروعا كثيرة مذكورة
في مواضعها.
والحق - كما ذكره المحقق الأردبيلي وصاحب الكفاية (4) ووالدي
العلامة في المعتمد - عدم مستند مقبول يصح الاتكاء عليه لشئ من القولين،
واللازم إرجاع كل فرع فرع إلى الأصول والقواعد واعتبار الأدلة فيها.

(1) المختلف: 700 وفيه: ولم يحضرني الآن قول لأصحابنا يوافقه على ذلك،
والوجه المنع.....
(2) الكافي في الفقه: 447.
(3) الروضة 3: 86.
(4) الكفاية: 268.
224

المسألة السادسة: مقتضى ما ذكرنا من توقيفية الرد وأصالة عدم
جوازه - بل دلالة قوله: " واليمين على المدعى عليه " في الأخبار المتكثرة (1)
على عدم الرد - اختصاصه بمورد الإجماع والنصوص، وكلاهما
مخصوصان بما إذا كان المدعي صاحب الحق وادعى لنفسه الحق، أما الأول
فظاهر، وأما الثاني فللتصريح في جميع الأخبار المتقدمة بقوله: " حقه " أو:
" لا حق له " أو: " صاحب الحق " أو: " ماله " حتى آخر رواية البصري، كما
يظهر مما تقدم على ما نقلناه عنه وما تأخر (2).
نعم، ظاهر صحيحة هشام (3) إطلاق المدعي، ولكن يضعفه:
جواز انصرافه إلى الغالب، وهو المدعي لنفسه، كما يستفاد من سائر
الأخبار أيضا، بل تبادره منه.
وعدم ظهور قول بالإطلاق، بل ظهور إطباق الأصحاب على خلافه.
وإجمال قوله: " يرد "، حيث إنه ليس المراد منه الإخبار الذي هو
حقيقته، ولا الطلب، ولا الرجحان، بل مجاز آخر، وهو يمكن أن يكون
مطلق الجواز، وأن يكون الجواز المطلق.. والثاني غير معلوم، والأول
لا يفيد الإطلاق.
ومعارضتها مع الأخبار المتكثرة القائلة بأن اليمين على المدعى عليه.
وعلى هذا، فلا دليل على جواز الرد على من يدعي لغيره حقا،
حيث تجوز له الدعوى، ولذلك صرح الأصحاب - من غير خلاف بينهم
يوجد - باستثناء جواز الرد فيما إذا كان المدعي وصيا ليتيم، أو قيما له أو

(1) المتقدمة في ص 149.
(2) المتقدمة إليها الإشارة جميعا في ص 102 و 162 و 170.
(3) المتقدمة في ص 170.
225

لغائب، أو وليا لأحدهما أو لمجنون أو سفيه، أو وصيا لحج أو خمس أو
زكاة أو نحو ذلك.
وعلى هذا، فيلزم على المنكر - على تقدير الإنكار - إما دفع الحق
على المدعي أو اليمين له، يعني: إذا لم يحلف يحكم عليه بوجوب الأداء،
لما يأتي من الحكم على ثبوت الحق بالنكول، لعمومات: " البينة على
المدعي واليمين على من أنكر " الخالية عن معارضات الرد هنا.
ومنهم من حكم في غير الأخير بالإيقاف حتى يبلغ الطفل ويفيق
المجنون ويرجع الغائب فيحلف، وفي الأخير يحبس المنكر حتى يحلف
أو يقر.
وليسا بوجه، أما الأول فلأنه ترك لأدلة الحكم بالنكول بل موجب،
وأما الثاني فلذلك، مضافا إلى عدم دليل على جواز الحبس.
نعم، لو كان المدعي وكيلا، يرد اليمين ويحلف الموكل، لأنه
المدعي حقيقة والوكيل آلته، بخلاف الوصي والقيم.
وكذا يشترط في جواز الرد عدم مانع من يمين المدعى عليه، فإن
كان هناك مانع منه لا يكون رد، إذ جواز رد اليمين فرع جواز اليمين، فإذا
لم يجز لم يجز، ولذا خص الأصحاب جواز الرد أيضا بما إذا كانت
الدعوى مجزومة.
وأما إذا كانت مظنونة أو موهومة - على القول بسماعهما - لا يكون
رد، لأن اليمين لا يكون إلا على البت واليقين كما يأتي، فلو لم يحلف
يحكم عليه، لما مر.
المسألة السابعة: لو لم يحلف المدعي بعد رد اليمين إليه، فإن كان
عدم حلفه تركا له وامتناعا عنه - بأن يقول: لا أحلف، أو: لا أريد أن
226

أحلف، لكون الحلف مكروها أو تركه مرغوبا إليه - سقط حقه وبطلت
دعواه في ذلك المجلس إجماعا، وفي غيره أيضا على الأشهر الأظهر، بل
عليه أكثر من تقدم (1) وعامة من تأخر، للأخبار المتقدمة جميعا، فليس له
مطالبة الخصم بعد ذلك، ولا استئناف الدعوى في مجلس آخر، ولا مقاصته.
وحكى بعض الأجلة الخلاف فيه عن المبسوط وعن موضع من
القواعد، فتسمع دعواه في مجلس آخر (2)، والأخبار المذكورة تدفعه.
ولا فرق في سقوطه مطلقا بين ما إذا لم يقم بعده بينه أو أقامها،
لإطلاق النصوص والفتاوى.
وفي التحرير وعن الشهيدين (3) وبعض من تبعهما (4): سماع دعواه
إذا أتى ببينة، واختاره والدي (رحمه الله) في المعتمد، ولعله لأجل أن معنى قوله
في الروايات المتقدمة -: " إن لم يكن شاهدا ولا بينة له " أو: " ليس له بينة "
ونحوها -: انتفاؤها في نفس الأمر وانحصار الحجة المثبتة لحقه في اليمين.
وفيه: أنه لو سلم ذلك فلا يجري في رواية أبي العباس وموثقة
جميل ومرسلة أبان (5)، فإنها متضمنة لقوله: " فإن لم يقم بينة " الشامل
لجميع صور عدم إقامة البينة، سواء كان لعدمها، أو عدم تذكرها، أو عدم
إرادتها، أو غير ذلك.

(1) كالصدوق في المقنع: 132، والطوسي في النهاية: 340، والحلي في السرائر
2: 159.
(2) انظر كشف اللثام 2: 337، وهو في المبسوط 8: 209، والقواعد 2: 209.
(3) التحرير 2: 194، الشهيد الأول في الدروس: 177، والشهيد الثاني في الروضة
3: 86.
(4) كالفيض الكاشاني في المفاتيح 3: 257، وصاحب الرياض 2: 399.
(5) المتقدمة جميعا في ص 170.
227

واستدل والدي بانصراف إطلاق أخبار المسألة إلى صورة عدم البينة.
وفيه: منع ظاهر.
وإن لم يكن عدم حلفه امتناعا وتركا - بل كان استمهالا حتى ينظر في
الحساب، أو يسأل الشركاء أو غيرهم، أو كان لأجل توقع حضور بينته (1)
أو قال: احضر البينة - ترك ولم يبطل حقه على الأصح كما في المسالك (2)
وغيره (3)، لأصالة بقاء حقه، وعدم فورية اليمين.
وظاهر التحرير عدم السماع حينئذ أيضا (4).
واستشكل فيه المحقق الأردبيلي وصاحب الكفاية (5)، لعموم الأدلة.
وفيه: منع العموم، فإن معنى قوله: " أبى أن يحلف " - كما في طائفة
من الأخبار المذكورة (6) -: ترك الحلف والامتناع منه، ولا يقال للمستمهل
المقتدر: إنه أبى، بل هو الظاهر من قوله: " فلم يحلف " كما في طائفة
أخرى (7)، لأن الظاهر من عدم الحلف الامتناع منه، سيما بملاحظة الطائفة
الأولى، فيبقى الأصل والاستصحاب بحاله.
وحينئذ فهل يقدر الإمهال بقدر أم لا؟
الظاهر: الثاني وفاقا للمسالك (8)، للأصل، وعدم الدليل، وأصالة

(1) في " ق " زيادة: أو إحضاره.
(2) المسالك 2: 368.
(3) كالمفاتيح 3: 257: والرياض 2: 399.
(4) التحرير 2: 194 وفيه: لا تسمع دعواه إلا ببينة، وإن طلب الإمهال أخر.....
(5) الكفاية: 268.
(6) في ص 102 و 170.
(7) تقدمت في ص 162.
(8) المسالك 2: 368.
228

عدم اللزوم بالتقدير، ولأن اليمين هنا لإثبات حقه، واليمين حقه، فله
تأخيره ما شاء، بخلاف المدعى عليه.
المسألة الثامنة: لو لم يحلف المدعى عليه ولم يرد اليمين، بل أبى
عن أحد الأمرين ونكل عن الحلف، قالوا: يقول له الحاكم: إن حلفت وإلا
جعلتك ناكلا، أو قال: إن حلفت أو رددت اليمين أو جعلتك ناكلا.
وعلى القول برد الحاكم اليمين بعد النكول إلى المدعي يقول: حلفت
أو رددت وإلا رددت وجعلتك ناكلا.
قالوا: ويستحب تثليث ذلك.
وعن المبسوط والدروس وجوب المرة الأولى (1).
ولم أعثر على دليل عليه - كما اعترف به بعض آخر أيضا (2) -
والأصل ينفيه، كما أنه ينفي استحباب الثلاث بل المرة أيضا، إلا أن يثبت
بفتوى الفقهاء، حيث يسامح في أدلة السنن.
ولكن فيه أيضا في المقام إشكالا، إذ مقتضى الأخبار ثبوت الحق
عليه، أو ثبوت الرد على المدعي بترك الحلف، فسقوطهما - بعد قول
الحاكم ما ذكر وقبوله الحلف بنفسه - مناف لتلك الأخبار، محتاج إلى
الدليل، ولذا قالوا بعدم قبول يمين المنكر بعد الحكم بالنكول، فإنه لا فرق
في ذلك بين قبل الحكم وبعده، لأن النكول يوجب الحكم، والحكم أحد
الثبوتين، فما يدل على عدم قبول الحلف في إسقاط ما ثبت على المنكر
بالحكم بعده يدل على عدم قبوله في إسقاط ما ثبت على الحاكم من الحكم

(1) المبسوط 8: 159 وفيه: يقول هذا له ثلاثا...، نعم نسب إليه في مفتاح
الكرامة 10: 80 وجوب المرة الأولى فقط، الدروس 2: 89.
(2) حكاه عن الأردبيلي في مفتاح الكرامة 10: 80.
229

بالنكول قبله أيضا، ولو قاله قبل إظهار عدم الحلف لكان أولى.
وكيف كان، فإذا نكل وأصر عليه ففي حكمه خلاف، فذهب
الصدوقان والمفيد والشيخ في النهاية والديلمي في المراسم والقاضي في
الكامل وأبو الصلاح والمحقق في الشرائع والنافع والمعتبر والفاضل في
التلخيص والمحقق الثاني إلى أنه يقضى عليه بمجرد نكوله (1).
وهو قول ابن زهرة في الغنية بعد ما ذكر في موضع منه ما يدل على
القول الآخر - كما حكي عنه - حيث قال في موضع آخر بعده: وإن نكل
المدعى عليه عن اليمين ألزمه الخروج عن خصمه مما ادعاه (2).
واختاره من متأخري المتأخرين جماعة، كالكفاية والمفاتيح وشرحه
ووالدي العلامة (3) وبعض الفضلاء المعاصرين (4)، وهو ظاهر الشهيد
الثاني (5).
وذهب الإسكافي والشيخ في المبسوط والخلاف والقاضي في
المهذب والحلي وابن حمزة والفاضل في أكثر كتبه والشهيد إلى أنه يرد
الحاكم اليمين على المدعي، فإن حلف ثبت حقه، وإن نكل بطل (6).

(1) المفيد في المقنعة: 724، النهاية: 340، المراسم: 231، أبو الصلاح في
الكافي في الفقه: 447، الشرائع 4: 85، النافع: 282، وحكاه عن تعليق النافع
للمحقق الثاني في مفتاح الكرامة 10: 83.
(2) الغنية (الجوامع الفقهية): 626.
(3) الكفاية: 268، المفاتيح 3: 257.
(4) المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام): 685.
(5) الروضة 3: 369.
(6) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 695، المبسوط 8: 117 و 159 و 160
و 212، الخلاف 2: 621، المهذب 2: 585، الحلي في السرائر 2: 165، ابن
حمزة في الوسيلة: 217، الفاضل في المختلف: 695، التحرير 2: 186،
التبصرة: 187، الشهيد في الدروس 2: 89.
230

واختاره بعض مشايخنا المعاصرين (1)، ونسبه بعضهم إلى أكثر
المتأخرين (2)، وعن الخلاف والغنية الإجماع عليه (3)، وفي السرائر: أنه
مذهب أصحابنا عدا الشيخ في النهاية (4).
والحق هو الأول، لاستصحاب عدم ثبوت الحلف على المدعي،
وعدم توقيفية الرد من الحاكم، لصدر رواية البصري المروية في الكافي
والتهذيب: عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلا تكون له بينة بماله، قال:
" فيمين المدعى عليه، فإن حلف فلا حق له، وإن لم يحلف فعليه " (5).
وذيلها المروي في الكافي والتهذيب والفقيه، وفيه: " ولو كان حيا
لألزم اليمين، أو الحق، أو يرد اليمين عليه " الحديث (6).
وفي كل من صدرها وذيلها دلالة على المطلوب، أما الصدر ففي
قوله: " وإن لم يحلف فعليه " وأما الذيل ففي قوله: " لألزم اليمين، أو
الحق، أو يرد اليمين ".
والإيراد عليها تارة بضعف السند. وهو - بعد وجودها في الكتب الأربعة -
عندنا باطل، مع أنه بتلقي الأصحاب لها منجبر. والقول - بأنه جابر لخصوص ما
تلقوه لا جميعا - فاسد، لأنه إنما هو إذا كان الانجبار مخصوصا بالمدلول، وأما مع

(1) انظر الرياض 2: 400.
(2) كما في الرياض 2: 400.
(3) الخلاف 2: 621، الغنية (الجوامع الفقهية): 625.
(4) السرائر 2: 180.
(5) الكافي 7: 415 / 1، التهذيب 6: 229 / 555، الوسائل 27: 236 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 4 ح 1.
(6) الفقيه 3: 38 / 128.
231

الانجبار المتني فيكون حجة في جميع ما يدل عليه الكلام، كما بينا في موضعه.
وأخرى: باختلاف النسخة، فإن الرواية على ما في الفقيه خالية عن
قوله: " وإن لم يحلف فعليه " بل بدله: " وإن رد اليمين على المدعي فلم
يحلف فلا حق له " وعلى هذا فلا دلالة فيها على الحاكم.
وفيه: أن الاختلاف إنما يوهن إذا كان في النسخ من الكتاب الواحد،
أما من الكتب المتعددة فلا، لأن الأصل فيه تعدد الرواية دون نسخ الرواية
الواحدة، هذا مع أن ذيله - الذي هو أدل على المطلوب من صدره - اتفقت
عليه كتب المشايخ الثلاثة.
وثالثة: بضعف الدلالة، إذ لا قائل بإطلاق ثبوت الحق عليه بعدم
الحلف، بل لا بد إما من تقييده بالنكول عن الرد، أو بما إذا رده على
المدعي وحلف، والأول ليس بأرجح من الثاني.
وفيه: أن مقتضى الإطلاق ثبوت الحق بعدم الحلف على المنكر،
سواء لم يرد مع ذلك اليمين، أو رده وحلف المدعي، أو رده ولم يحلف،
خرج الأخير بالدليل فيبقى الباقي، ومثل ذلك الاستدلال جار في أكثر أبواب
الفقه، وليس من باب احتمال التقديرين أو التجويزين حتى يحتاج إلى
الترجيح ويحصل الإجمال بدونه.
ورابعة: باحتمال كون المبتدأ المقدر لقوله: " فعليه " الحلف،
والضمير المجرور للمدعي، أي فالحلف على المدعي، أو يكون المبتدأ
المقدر: الحق المالي - وهو الدعوى - والضمير للمنكر.
وفيه: أنه خلاف الظاهر، وفتح باب تلك الاحتمالات يسد باب
الاستدلال غالبا.
وخامسة: باحتمال التقية فيه، لكون ذلك مذهب جمع من العامة،
232

ومنهم أبو حنيفة (1).
وفيه: أنه إنما يفيد في موضع المعارضة ولا معارض للرواية.
هذا، مع أن غير الأخير من تلك الوجوه لا يضر في دلالة الذيل.
وتضعيف دلالته - باحتمال كون قوله: " أو يرد اليمين عليه " بصيغة
المجهول، فيراد رد الحاكم - سخيف غايته، لأنه لا يسبق إلى ذهن من له
أدنى إنس بالكلام مثل ذلك، مع أن رد الحاكم على المدعي ليس منوطا
بالحياة، وأيضا لو كان كذلك للزم أن يقول: " ويرد " بلفظة: الواو،
دون: أو، على ما هو بصدده.
نعم، يكون الإلزام بالحق مع رد الحاكم، فلا معنى للتقسيم بالأقسام
الثلاثة، وهذا ظاهر.
وتدل على المطلوب أيضا صحيحة محمد: عن الأخرس كيف
يحلف؟ قال: " إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كتب له اليمين وغسلها وأمره بشربها
فامتنع فألزمه الدين " (2).
وظاهر أنه لم يرد اليمين على المدعي كما تدل عليه لفظة " الفاء "،
فإنها تدل على ترتب الإلزام على الامتناع من غير حاجة في بيان عدم الرد
إلى توسيط قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة.. ولا قائل بالفرق بين
الأخرس وغيره.
والإيراد عليها تارة بمثل ما مر من لزوم تقدير، لعدم جواز الإلزام
بالامتناع عن اليمين إلا مع الامتناع عن الرد أيضا، وتقديره ليس بأولى من

(1) انظر بداية المجتهد 2: 469.
(2) الفقيه 3: 65 / 218، التهذيب 6: 319 / 879، الوسائل 27: 302 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 33 ح 1، بتفاوت يسير.
233

تقدير رد الحاكم على المدعي.
وفيه: أن لزوم تقدير إنما هو إذا قلنا: إن النكول وعلة الإلزام بالحق
هما الامتناعان معا، وليس كذلك، بل النكول والموجب للإلزام هو الامتناع
عن اليمين، إلا إذا ردها مع ذلك إلى المدعي، فإذا امتنع نكل، وألزم ما لم
يظهر رد، فلا يحتاج إلى تقدير عدم الرد وذكره، لأن الامتناع كاف في
الإلزام ما لم يظهر منه الرد.
وأخرى: بأنه قضية في واقعة، فلا تكون عامة.
وفساده ظاهر، لأنه إن أريد بعدم عمومها عمومها بالنسبة إلى رد
اليمين بعد الامتناع وعدمه فقد عرفت أن لفظة " الفاء " - الدالة على الترتيب
المثبت لعلية الامتناع فقط - تدل على أن الإلزام مترتب على الامتناع.
وإن أريد عمومها بالنسبة إلى غير هذا الأخرس أو الشخص
المخصوص، فعدم القول بالفصل كاف في التعميم.
وثالثة: بأنه فرع العمل به في كيفية إحلاف الأخرس، ولم يقل به غير
نادر.
وفيه أولا: إنا نقول بالعمل به فيها وإن لم يكن مشهورا.
وثانيا: إن مخالفته المشهور إنما هو إذا قلنا: إن العمل بهذه الكيفية
لخصوصيتها، وأما لو قلنا بكونه لأجل أنها أحد أفراد الإشارة المفهمة،
لم يخالف الشهرة كما يأتي.
ورابعة: بمنافاتها لما ذكر من نقل الجمهور خلافه في النكول عن
علي (عليه السلام).
وفيه: أنه أي اعتماد على نقل الجمهور؟! وكم من هذا القبيل - كما
لا يخفى - على من لاحظ إسنادهم في الفرائض إليه؟!
234

ومما يدل على المطلوب أيضا رواية أبي بصير المتقدمة في المقدمة،
حيث قال فيها: " لو أن رجلا ادعى على رجل عشرة آلاف درهم أو أقل من
ذلك أو أكثر، لم يكن اليمين على المدعي، وكانت اليمين على المدعى
عليه " (1).
فإن قوله: " لم يكن اليمين " عام شامل لما إذا نكل المدعى عليه عن
اليمين أو لم ينكل، رد اليمين على المدعي أو لم يرد، خرجت صورة الرد
بالإجماع والنصوص، فيبقى الباقي.
ومنه ما إذا نكل المدعى عليه فلا يمين على المدعي حينئذ بمقتضى
الرواية، فلا يخلو إما يلزم المدعى عليه بالحق، أو المدعي بترك الدعوى،
أو يوقف الحكم، والأخيران باطلان بالإجماع، فيبقى الأول وهو
المطلوب.
وبتقرير آخر: إذا نكل المدعى عليه فليس إلا يمين المدعي، أو إلزام
المدعى عليه إجماعا، والأول باطل بعموم الرواية، فبقي الثاني، وهو
المطلوب.
وقد يستدل أيضا بقولهم (عليهم السلام): " البينة على المدعي، واليمين على
من أنكر " (2)، وفي إتمام دلالته إشكال.
احتج الآخرون (3) بالإجماع المنقول.
واستصحاب براءة ذمة المنكر.

(1) الكافي 7: 362 / 8، الفقيه 4: 73 / 223، التهذيب 10: 167 / 663، الوسائل
29: 156 أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب 10 ح 5.
(2) انظر الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3.
(3) كما في الرياض 2: 400.
235

والنبوي العامي: أنه (صلى الله عليه وآله) رد اليمين على طالب الحق (1).
ورواية عبيد وصحيحة هشام، المتقدمتين في المسألة الخامسة (2).
وبنقل الجمهور نسبة ذلك القول إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
والأول: مردود بعدم الحجية، سيما مع مخالفة فحول الطائفة قبل
الدعوى، بل مخالفة الناقل نفسه قبلها كالشيخ (3)، أو بعدها كابن زهرة (4)،
ولذا جعل في المسالك والمعتمد هذا الاحتجاج من غرائب الاحتجاجات (5).
والثاني: بمعارضته مع أزيد منه من الاستصحابات المتقدمة، ثم
بمزايلته بما ذكرنا من الأدلة.
والثالث: بعدم الحجية، ثم بعدم الدلالة، لكونه قضية في واقعة
لا يعلم حالها أنها في أي واقعة.
والرابع: بعدم الدلالة، لأن الظاهر أن فاعل " يرد " هو المدعى عليه،
لمناسبته لضمير: " يستحلف " المقارن له، ولا أقل من الاحتمال المسقط
للاستدلال.
والخامس: بذلك أيضا، لما مر من تعدد مجازه وعدم تعيينه، ولعله
أنه قد يجوز الرد.
والسادس: بعدم حجية نقلهم وإن أطبقوا عليه.
وقد استدل بوجوه أخر بينة الوهن، فلا فائدة في التعرض لها.

(1) سنن الدارقطني 4: 213 / 24.
(2) راجع ص 169 و 170.
(3) النهاية: 340.
(4) الغنية (الجوامع الفقهية): 626.
(5) المسالك 2: 369.
236

فرعان:
أ: لو سكت المدعى عليه بعد عرض الحاكم عليه اليمين فهل هو
نكول أم لا؟
قال في التحرير: نعم، بعد تعريف القاضي أنه إذا عرض عليه اليمين
ثلاثا وامتنع بسكوت أو غيره استوفى الحق بيمين المدعي (1).
أقول: الأولى الرجوع في ذلك إلى العرف، فإن سكوته قد يكون
لتدبر وتأمل في الواقعة، أو لدهش، أو لتعظيم للحلف، فإن دلت القرائن
الحالية على أنه تارك للحلف يصير ناكلا.. ولعله لذلك جعل في التحرير
تنكيله بعد التعريف ثلاثا، إذ مع ذلك يحكم العرف بترك الحلف.
ب: ظاهر عبارات الأصحاب - كما قيل (2)، ومنهم الفاضلان (3) - عدم
الالتفات إلى قول المنكر لو بذل بعد نكوله اليمين، بأن حلف، أو يقول:
ندمت من النكول بل أحلف.
وخصه المحقق في النافع والفاضل في التحرير بما إذا كان ذلك بعد
الحكم عليه بالنكول (4).
ونفى بعضهم الخلاف فيه في هذه الصورة على القول المختار، وفي
صورة إحلاف الحاكم المدعي على القول الآخر، مستدلا بثبوت الحق على
المدعى عليه بذلك، فيستصحب إلى تيقن المسقط، واختصاص السقوط

(1) في النسخ: المدعى عليه، والصحيح ما أثبتناه كما في التحرير 2: 194.
(2) انظر الرياض 2: 401.
(3) المحقق في الشرائع 4: 85، العلامة في القواعد 2: 209.
(4) النافع: 282، التحرير 2: 194.
237

بيمينه بحكم التبادر وغيره بيمينه قبل الحكم عليه بنكوله (1).
واستشكل بعض آخر في عدم الالتفات إذا كان ذلك قبل الحكم،
ومنهم من حمل إطلاقاتهم على ما في النافع أيضا (2).
أقول: بل يمكن حمل كلام النافع على إطلاقاتهم، فإنه قال: لو بذل
المنكر اليمين بعد الحكم بالنكول لم يلتفت إليه. وكما يمكن أن تكون
" الباء " سببية يمكن أن تكون إلصاقية، أي بعد ثبوت النكول وتحققه..
وكيف كان، فالعلة المذكورة لعدم الالتفات مشتركة، لأن كما أن الحكم
بسبب النكول أو إحلاف المدعي علة لثبوت الحق عليه فيستصحب،
فكذلك أصل النكول سبب وعلة لثبوت حق الحكم ووجوبه، أو جوازه
بالحق أو بالرد على الحاكم، فيجب استصحابه. والحاصل: أن بعد الحكم
يستصحب ثبوت الحق على المدعى عليه، وقبله على الحاكم، ولا فرق.
وأما ما ذكره الأردبيلي ردا على إطلاقهم، من أنه فرع ثبوت الحق
بالنكول فورا ولا دليل عليه.
ففيه: أنه وإن كان كذلك ولكن ثبت ما على الحاكم عليه فورا، إذ
يمكن أن يقال في ثبوت الحق بتوقفه على الحكم، وأما وظيفة الحاكم
فلا يتوقف ثبوتها على طول مدة قطعا.
إلا أن يقال: إنه يمكن أن يكون ما على الحاكم مقيدا بعدم الرجوع
عن النكول فلا يمكن استصحابه، ولا يجري ذلك في ثبوت الحق في
ذمته، فإنه لا يقبل التقييد.
ولكن ذلك يصح على القول بتوقف ثبوت الحق على الرد على

(1) انظر الرياض 2: 401.
(2) كما في غنائم الأيام: 685.
238

المدعي.
وأما على المختار، فالظاهر ثبوته بالنكول، وحكم الحاكم جزء لسبب
ثبوته على الناس لا في الواقع، أو على الحاكم، فبالنكول يثبت الحق على
الحاكم، فيحكم به لإثباته على الغير، فتأمل.
وقد يقال أيضا: بأن عدم الالتفات قبل الحكم أو بعده إنما هو إذا
عرض حكم النكول على المدعى عليه، أو كان عالما به، وأما لو لم يعرض
عليه فادعى الجهل بحكم النكول فيشكل نفوذ القضاء، لظهور عذره.
وفيه: أن ذلك ليس حكما تكليفيا حتى يعذر فيه الجاهل أحيانا، بل
وضعي، وليس الاستشكال هنا إلا كالاستشكال في ثبوت الدية على من
كسر رأس غيره مع الجهل بثبوت الدية به.
وعلى القول بعدم الالتفات مطلقا أو بعد الحكم فهل يتفاوت الحكم
برضى المدعي بيمينه أم لا؟
قيل: نعم (1)، والأظهر: لا، لأنه أمر شرعي لا ينوط برضى أحد
الخصمين أو عدم رضاه.

(1) كشف اللثام 2: 337.
239

الموضع الثاني
في الحكم بالبينة
وفيه أيضا مسائل:
المسألة الأولى: وإن قال المدعي: لي بينة، استحضرها الحاكم منه
وجوبا إن علم جهل المدعي بان له الإحضار، وجوازا مطلقا كما عليه
الأكثر، كما صرح به جماعة، ومنهم: الشيخان والديلمي والحلبي والقاضي
في أحد قوليه (1)، للأصل.
وخلافا للمبسوط والمهذب والسرائر، فلم يجوزوه مطلقا، لأنه حق
له، فله أن يفعل ما يرى (2).
وفيه: أن الأمر هنا للإرشاد دون الإيجاب.
ومنهم من فصل بين علم الحاكم بمعرفة المدعي بماله وجهله به (3)،
والظاهر أن ذلك أيضا مراد المبسوط ومن تبعه، كما أن الظاهر أن مرادهم
نفي جواز الأمر الإيجابي، ومراد المجوزين الإرشادي، فيعود نزاع الكل إلى
اللفظي.. ثم - بعد حضور البينة - يجئ الوجهان في سؤال الحاكم عنها
قبل طلب المدعي وعدمه، ولعل الأقرب: الجواز.
المسألة الثانية: لا يتعين على المدعي إذا كانت له بينة غائبة

(1) المفيد في المقنعة: 723، الطوسي في النهاية: 339، الديلمي في المراسم:
231، الحلبي في الكافي في الفقه: 446، حكاه عن القاضي في المختلف:
690.
(2) المبسوط 8: 159، المهذب 2: 585، السرائر 2: 158، 165.
(3) كالعلامة في المختلف: 690، والقواعد 2: 210، والشهيد في الدروس 2: 90.
240

إحضارها ولا حاضرة إقامتها، بل يجوز له الإحلاف حينئذ أيضا، بمعنى:
أن المدعي الذي له بينة مخير بين إقامة البينة والتحليف، وللحاكم تخييره
بينهما.. صرح به في التحرير (1)، ونفى بعض مشايخنا المعاصرين عنه
الخلاف في صورة عدم حضور البينة، ثم قال: بل ذكر جماعة من دون
خلاف بينهم ثبوت الخيار للمدعي بين إحلافه وبين إقامة البينة ولو كانت
حاضرة، لأن الحق له، فله أن يفعل ما يشاء منهما (2). انتهى.
ونسب بعض فضلائنا المعاصرين تخييره مطلقا إلى المستفاد من
الأدلة، وقال: فلا يتوهم أنه مع إمكان إقامة البينة لا يجوز التحليف (3).
انتهى.
أقول: وتدل عليه صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة في المسألة الأولى
من الموضع الأول (4)، حيث حكم فيها بذهاب اليمين بحق المدعي كلما
رضي بيمين المنكر، بل صرح بأنه كذلك وإن كانت له بينة عادلة.
وإطلاق رواية محمد بن قيس المتقدمة في المسألة الثانية منه (5).
ولا تنافيها صحيحة سليمان بن خالد المتقدمة في المقدمة (6)، حيث
قال: " هذا لمن لم تقم له بينة "، لأن المشار إليه للفظ " هذا " هو ما تقدم من
الأمر بالإضافة إلى الاسم الدال على تعيينه لمن لم تقم له البينة، وهو
كذلك، مع أن المذكور فيها عدم إقامة البينة لا عدم وجودها، وأما بعد قيام

(1) التحرير 2: 191.
(2) انظر الرياض 2: 397.
(3) غنائم الأيام: 685.
(4) راجع ص 153 و 154.
(5) راجع ص 156.
(6) راجع ص 149.
241

البينة فلا شك في عدم الحلف.
ولا مرسلة يونس المتقدمة فيها أيضا (1)، حيث قال: " فإن لم يكن
شاهد فاليمين على المدعى عليه "، لأن جزاء الشرط هو كون اليمين متعينا
ولازما على المدعى عليه، كما تدل عليه لفظة " على "، ولا شك أنه فرع
عدم البينة، وأما معها فلا يتعين عليه، بل المدعي بالخيار.
ولا المروي عن تفسير الإمام المتقدم فيها أيضا (2)، حيث علق
تحليف الرسول (صلى الله عليه وآله) للمدعى عليه بقوله: " وإن لم تكن له بينة "، لأن
المراد منه: وإن لم يقم البينة، بقرينة ما تقدم عليه من قوله: " فإن أقام
بينة "، ولأن المعلق على عدم البينة هو تحليف الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو لا ينافي
اختيار المدعي، فإن الحاكم ليس له خيار.
وعلى ما ذكر، فلو كانت للمدعي بينة وأعرض عنها والتمس اليمين،
أو قال: أسقطت البينة واكتفيت باليمين، فهل يجوز الرجوع قبل الحلف؟
الأظهر الأشهر - كما صرح به بعض من تأخر (3) - نعم، لأصالة بقاء
الخيار، وعدم دليل على اللزوم بذلك الاختيار، وأصالة عدم السقوط بذلك
الإسقاط. ولا يعارضها استصحاب بقاء ما ثبت للحاكم بالتماسه من جواز
تحليف المنكر أو وجوبه، لأن المسلم ثبوته له هو ثبوته ما دام المدعى
عليه باق على ذلك الاختيار.
المسألة الثانية: إن قال المدعي: لي بينة غائبة، خيره الحاكم بين
الصبر إلى حضورها وبين الإحلاف، لما عرفت من كونه مخيرا بينهما، فإن

(1) راجع ص 149.
(2) راجع ص 149.
(3) كالعلامة في التحرير 2: 191.
242

اختار الأول قبل منه، وقالوا: يؤجل ويضرب له وقت بمقدار إحضارها،
ومنهم من لم يذكر التأجيل.
وتدل على الأول رواية سلمة بن كهيل المتضمنة لما ذكره أمير
المؤمنين (عليه السلام) لشريح: " واجعل لمن ادعى شهودا غيبا أمدا بينهما، فإن
أحضرهم أخذت له بحقه، وإن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية " (1).
والقضية التي أمر بإيجابها عند عدم الحضور لا تخلو عن إجمال،
فيمكن أن تكون حلف المنكر، وأن تكون إسقاط الحق، وأن تكون
غيرهما، إلا أن الظاهر أحد الأولين، لعدم معهودية غيرهما، بل عدم
تصوره.
ويدل على التأجيل أيضا أنه ربما أحضر المدعى عليه من بلد بعيد،
لعدم وجود أهل الترافع في بلدهما، ويتضرر المدعى عليه بالمكث حتى
أراد المدعي إحضار البينة، وبالرجوع والعود أيضا، ولا يمكنه التوكيل
للحلف، فلا بد من تعيين الأمد، وهو الأظهر.
والحق أنه ليس للمدعي مطالبة غريمه بالكفيل حتى يحضر البينة،
ولا ملازمته، ولا حبسه، وفاقا للمبسوط والخلاف والإسكافي والحلي
والقاضي في أحد قوليه (2)، وعليه أكثر المتأخرين بل عامتهم كما قيل (3)،
ونسبه بعضهم إلى المشهور مطلقا (4)، للأصل، فإن مطالبة الكفيل قبل ثبوت

(1) الكافي 7: 412 / 1، الفقيه 3: 8 / 28، التهذيب 6: 225 / 541، الوسائل
27: 211 أبواب آداب القاضي ب 1 ح 1.
(2) المبسوط 8: 159، الخلاف 2: 600، حكاه عن الإسكافي في المختلف:
690، الحلي في السرائر 2: 158، القاضي في المهذب 2: 586.
(3) انظر الرياض 2: 397.
(4) كما في الكفاية: 269.
243

الحق أمر بلا دليل، سيما مع جواز الحكم على الغائب، وملازمته وحبسه
عقوبة قبل حصول السبب لا دليل عليها.
وعن المقنعة والنهاية والقاضي - في قوله الآخر - والوسيلة والغنية:
جوازه له (1)، بل عن الأخير نفي الخلاف فيه، حفظا لحق المدعي، حذرا
عن ذهاب الغريم، ولزوم مراعاة حق المسلم في نفس الأمر، فيجب
التكفيل من باب المقدمة.
وفيه: أنه لم يعلم ثبوت حق نفس أمري له، بل هو مجرد احتمال،
وهو لا يصلح دليلا، فأين الحق الواجب مراعاته حتى يكون التكفيل
مقدمته؟!
المسألة الرابعة: بعد حضور البينة لا يقول الحاكم لهما: اشهدا، لأنه
إيجاب بلا دليل على الوجوب، بل يقول: من كان عنده كلام أو شهادة،
أو: إن كان عندكما شهادة، فليذكر ما عنده إن شاء، فإن أجابا وشهدا فلينظر
في أمر الشهادة:
فإن لم تكن الشهادة جامعة لشرائطها - الاتفاقية، كالمطابقة للدعوى،
أو الخلافية على الموافق للراجح في نظره، من الحسية والعلمية، أو
الأصلية والفرعية، أو الاستصحابية والحالية، كما تأتي كلها في باب
الشهادات - فليطرحها.
وإن كانت جامعة لها فلينظر في حال الشاهدين:
فإن علم عدم كونهما جامعين للشرائط الآتية في باب الشهادة - من
العدالة، وانتفاء الشركة، والتهمة، والعداوة، وكثرة النسيان، والبلوغ،

(1) المقنعة: 733، النهاية: 339، حكاه عن القاضي في المختلف: 690،
الوسيلة: 212، الغنية (الجوامع الفقهية): 626.
244

ونحوها مما يأتي - فليطرح شهادتهما أيضا.
وإن علم اجتماعهما لجميع الشرائط قبل شهادتهما وحكم.
وإن جهل كل حالهما أو بعضها استكشف عنها بما هو طريق
الاستكشاف، فإذا انكشف الحال فليعمل بمقتضاها من القبول والرد، ولو
لم ينكشف فليعمل بمقتضى نظره (في كل حال) (1) من الشرائط، من
أصالة وجوده أو عدمه، أو اشتراط العلم بالوجود أو عدم العلم بالخلاف،
أو نحو ذلك مما يأتي، ويعمل بمقتضاه.
المسألة الخامسة: إن عرف الحاكم فسقهما لا يطلب التزكية من
المدعي، لأن الجارح مقدم، وله العمل بعلمه، إلا أن تكون معرفته
استصحابية، أو مستندة إلى ظاهر حال يمكن التخلف.
فلو أراد المدعي في الأول إثبات زوال الحالة الاستصحابية وتوبته من
الفسق المعلوم يسمع، وكذا لو أراد في الثاني إثبات ما يخالف الظاهر، كما
إذا كان الشاهدان أو أحدهما من شركاء العاشر (2)، فإن ظاهر حاله حينئذ
الفسق، وأراد المدعي إثبات أنه مجبور على ذلك، وعمله مقصور بما هو
مجبور فيه، أو أن مقصوده من الشركة دفع الظلم عن المعشور من ماله
وبذل حصته، أو إخفاء ماله، أو نحو ذلك. ونحوه إثبات أن مدمن الخمر
مجبور، أو أنه - لمرض منحصر علاجه فيه - معذور.
ويمكن الاكتفاء باشتراط معرفة الحاكم في ذلك، لأن معرفته إنما
تكون إذا كان باب تلك الاحتمالات مسدودا عنده عادة، وأما مع احتمال

(1) بدل ما بين القوسين في " ق ": في احتمال كل.....
(2) التعشير: وهو أخذ العشر من أموال الناس بأمر الظالم، يقال: عشرت القوم عشرا
بالضم: أخذت منهم عشر أموالهم، ومنه العاشر - مجمع البحرين 3: 404.
245

- ولو بعيدا - فلا يكون عالما.
ولو لم يحتمل الحاكم ولكن ادعى المدعي إثباته وخطأ الحاكم
يسمع.
المسألة السادسة: قد أشرنا إلى أنه إن عرف الحاكم عدالتهما
واجتماعهما للشرائط حكم بشهادتهما، ولا أعرف في ذلك خلافا، بل
صرح بانتفائه جماعة، منهم صاحب الكفاية (1).
ويدل عليه قوله في المروي في تفسير الإمام المتقدم ذكره في
المقدمة: " فإن أقام بينة يرضاها ويعرفها أنفذ الحكم على المدعى عليه " (2)،
ولما مر من حكم الحاكم بعلمه مطلقا، بل قد عرفت أن من لم يجوز عمله
بعلمه استثنى هذه الصورة.
ولا يلزم عليه حينئذ سؤال المدعى عليه أنه: هل لك جرح فيه أو
كلام، للأصل.
وهل يجوز له ذلك؟
الظاهر: نعم، لعدم دليل على المنع، فإن قال المدعى عليه: لا كلام
لي، أنفذ الحكم، وإن قال: نعم، سمع دعواه، لكونه دعوى، فيجب
سماعها.
وكذا لو ادعى عليه الجرح من غير سؤال الحاكم، فإن أثبت ما ادعاه
يطرح الشاهدان، وإلا فيحكم بمقتضى علمه، إذ لم يرد عليه ما يزيله.
ولا حلف له حينئذ على أحد ولو على المدعي لو أنكر ما ادعاه من الجرح.
ثم يعزر المدعى عليه أو يحد إن كان جرحه الذي لم يقدر على إثباته

(1) الكفاية: 264.
(2) راجع ص 149.
246

مما يوجب أحدهما.
وهل يقبل حينئذ قول المدعي فقط ولو لم يكن عادلا إذا ذكر ما
يوجب جرحه، لجهله بأنه يوجب الجرح، أو لغير ذلك؟
يأتي تحقيقه في باب الشهادات عند بيان ما يثبت العدالة والجرح.
وهل معرفة الحاكم الكافية في المقام: المعرفة العلمية، أو تكفي
الظنية بعد كونها معتبرة شرعا، كتزكية العدلين قبل ذلك؟
الظاهر: أنه لا ينبغي الريب في الثاني، لأن الظن المعتبر شرعا قائم
مقام العلم.
فرع: لو بنى الحاكم فيهما بالعدالة الاستصحابية وحكم ثم ظهر
فسقهما حال الحكم ينقض الحكم كما صرحوا به، لأن فقد الشرط يقتضي
عدم المشروط، ووجوده العلمي إنما يفيد لوجوب الحكم حال العلم وقد
حكم، لا لتأثير الحكم بعد الانكشاف.
المسألة السابعة: وإن جهل الحاكم حالهما - من اجتماع الشرائط
وعدمه - استكشف عنه بما هو طريق الانكشاف في كل شرط، وقد يكون
مما يعمل فيه بالأصل، كما يأتي في موضعه.
وهل يكون إقرار الخصم بالعدالة وباجتماع سائر الشرائط كافيا في
الاستكشاف ومثبتا لوجود الشرط، أم لا؟
فيه خلاف يأتي تحقيقه في باب الشهادات.
وإن لم ينكشف من قول الخصم وكان محتاجا إلى الاستكشاف طلبه
من المدعي حتى تبين الحال بالبينة المقبولة أو نحوها.
وهل يتعين ذلك على كشف المدعي وإقامته البينة، حتى لو قال:
لا بينة لي على تزكية الشهود - مثلا - أو: لا أعرف شاهدا عليها، أو قال:
247

يتعسر علي ذلك، أو قال: لا أفعل، سقطت الشهود ويطرح الحاكم
شهادتهما؟
أو طلبه من المدعي أحد طرق فحص الحاكم، فله الفحص من غير
جهة المدعي، بل عليه ذلك لو لم يفعل المدعي؟
الظاهر: الثاني، كما يأتي في باب الشهادات، ويدل عليه فعل رسول
الله (صلى الله عليه وآله) المروي في تفسير الإمام (عليه السلام) (1).
ثم لو أقام المدعي البينة على التزكية، أو استكشف الحاكم من جهة
غيره، قالوا: يطلب الحاكم من المنكر الجرح، فإن أرادوا لزومه فلا أرى
عليه دليلا، إلا إذا علم جهله باستحقاقه الجرح لو كان، حيث إن إهمال
ذكره يوجب بطلان حقه، مع تأمل فيه أيضا.. وإن أرادوا جوازه فهو
كذلك.
ثم إن اعترف المنكر بعدمه حكم، وإن ادعاه بعد طلب الحاكم أو
بنفسه قبل الطلب يؤمر بإحضار الجارح، فإن أحضره يعمل معه كما يعمل
مع بينة المدعي من الرد والقبول والاستكشاف.
وإن استنظر واستمهل قالوا: يمهل ثلاثة أيام، أما الإمهال فقالوا: لأنه
مقتضى العدل، ولرواية سلمة المتقدمة في المسألة الثالثة (2).
وفيهما نظر، أما الأول فلأن العدل يحصل بالحكم ثم الاسترداد إن
ثبت الجرح بعد ذلك أيضا، بل هو أقرب إلى العدل.
وأما الثاني، فلأن الظاهر من قوله في الرواية: " فإن أحضرهم أخذت
له بحقه " أن المراد شهود المدعي المطالب للحق، فتأمل.

(1) الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 6 ح 1.
(2) راجع ص 191.
248

وأما تقديره بثلاثة أيام فلم أقف على ما يدل عليه، ويستشم من كلام
بعضهم احتمال الإجماع عليه (1)، واستشهد له بعضهم بالإمهال بذلك القدر
في بعض الأمور الأخر (2).
وضعفه ظاهر، ولذا قيل: لو ادعى أن شهودي على الجرح على
مسافة لا يصلون إلا بعد الثلاثة، يمهل الأزيد (3).
وفيه إشكال، بل في الثلاثة أيضا، لثبوت العدالة بالبينة، وأصالة عدم
الجرح، وإمكان التلافي لو أثبته بعد الحكم.
ولو قلنا بالإمهال وطلب المدعي التكفيل فيما يحتمل الفرار أو
الاختفاء أو نحوهما فقبوله هنا أولى منه في إمهال المدعي لإحضار البينة..
والظاهر أن له ذلك هنا، لثبوت حقه.
فرع: لا بأس بتفريق الشهود إذا ارتاب الحاكم بهم أو احتمل
غلطهم، للأصل، بل ربما يستحب تأسيا بالحجج (عليهم السلام).
وقيل: محل التفريق قبل الاستزكاء (4). ولا بأس به، لوجوب الحكم
فورا بعده إذا طلب المحكوم له.
المسألة الثامنة: إذا أقام المدعي البينة المستجمعة للشرائط فلا يمين
عليه، بلا خلاف فيه كما في الكفاية (5) وغيره (6)، بل بالإجماع كما عن

(1) كما في الرياض 2: 397.
(2) كما في مفتاح الكرامة 10: 88. قال: وهو مقدر في بعض المسائل الفقهية كما
في خيار الحيوان وخيار التأخير وحبس الغريم على مختار الشيخ.....
(3) كما في الرياض 2: 397.
(4) المسالك 2: 363.
(5) الكفاية: 268.
(6) كالرياض 2: 401.
249

الخلاف (1)، وبه صرح بعض فضلائنا المعاصرين (2).
ويدل عليه الأصل، والأخبار المستفيضة المتضمنة لقوله (عليه السلام): " البينة
على المدعي واليمين على المدعى عليه " (3) فإن التفصيل قاطع للشركة.
وصحيحة محمد: عن الرجل يقيم البينة على حقه، هل عليه أن
يستحلف؟ قال: " لا " (4)، ونحوها روايته (5).
وكذا موثقة أبي العباس (6)، وموثقة جميل، ورواية أبي العباس،
ومرسلة أبان، المتقدمة جميعا في المسألة الخامسة من الموضع الأول (7).
وأما قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح في رواية سلمة -: " ورد اليمين
على المدعي مع بينته، فإن ذلك أجلى للعمى وأثبت في القضاء " (8)
فلا يصلح لمعارضة ما ذكر، لشذوذه، مع أنه إما يحمل على الاستحباب
بقرينة نفي الوجوب في الأخبار الأخر، أو على البينة الواحدة، إما لعمومها
وخصوصية ما مر، أو للجمع بينها وبين ما مر بشهادة ما يدل على ضم
اليمين مع الشاهد الواحد.

(1) الخلاف 2: 600.
(2) المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام): 686.
(3) انظر الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3.
(4) التهذيب 6: 230 / 558، الوسائل 27: 243 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 8 ح 1.
(5) الكافي 7: 417 / 1، التهذيب 6: 231 / 564، الوسائل 27: 243 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 8 ح 1.
(6) التهذيب 6: 230 / 559، الوسائل 27: 243 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 8 ح 1.
(7) راجع ص 170.
(8) الكافي 7: 412 / 1، الفقيه 3: 8 / 28، التهذيب 6: 225 / 541، الوسائل
27: 211 أبواب آداب القاضي ب 1 ح 1.
250

وأما مكاتبة الصفار الصحيحة -: هل تقبل شهادة الوصي للميت بدين
له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقع (عليه السلام): " إذا شهد معه آخر عدل
فعلى المدعي يمين " (1) - فلا تنافي ما مر، لأنها محمولة على عدم قبول
شهادة الوصي.
ثم إن ما ذكرنا إنما هو على الأصل، وقد يستثنى منه بعض المواضع
بالدليل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
المسألة التاسعة: لو قال المدعي بعد إقامة الشهود: كذبت شهودي،
بطلت الشهود، فلا تسمع شهادتهم في حقه، ولكن لا تبطل دعواه، كذا
قالوا.
والوجه فيه: أن الكذب على المشهور وإن كان مخالفة الواقع - وعليه
فيكون التكذيب اقرارا على انتفاء الحق - ولكن الظاهر المتفاهم منه في
العرف أنه مخالفة الاعتقاد، ولا أقل من احتمال ذلك، فلا تسقط الدعوى
به.
ولا فرق في ذلك بين ما إذا كان التكذيب قبل الحكم أو بعده، إذ بعد
الحكم ينكشف بطلان المستند، لأن إقرار صاحب الحق دليل شرعي.

(1) الكافي 7: 394 / 3، الفقيه 3: 43 / 147، التهذيب 6: 247 / 626، الوسائل
27: 371 أبواب الشهادات ب 28 ح 1.
251

الموضع الثالث
فيما يحكم فيه بالبينة واليمين معا
وهو ما يستثنى من القاعدة المتقدمة من عدم تعلق اليمين بالمدعي،
ويخرج عن تحت ذلك الأصل بدليل.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: مما استثني من القاعدة: الدعوى على الميت، فإن
المدعي إذا أقام البينة يستحلف معها على بقاء الحق في ذمة الميت
استظهارا، على المعروف من مذهب الأصحاب كما في الكفاية، بل
لا مخالف يظهر منهم كما فيه أيضا (1)، بل بلا خلاف مطلقا كما في
المفاتيح (2) وشرحه وغيرهما (3)، بل بالإجماع كما في المسالك والروضة
وشرح الشرائع للصيمري (4)، بل بالإجماع المحقق.
له، ولرواية البصري المتقدم صدرها: " وإن كان المطلوب بالحق قد
مات، فأقيمت البينة عليه، فعلى المدعي اليمين بالله الذي لا إله إلا هو: لقد
مات فلان وأن حقه لعليه، فإن حلف وإلا فلا حق له، لأنا لا ندري لعله قد
أوفاه ببينة لا نعلم موضعها، أو بغير بينة قبل الموت، فمن ثم صارت عليه

(1) الكفاية: 268.
(2) المفاتيح 3: 258.
(3) كالرياض 2: 401.
(4) المسالك 2: 369 و 370، الروضة 3: 104.
252

اليمين مع البينة، فإن ادعى ولا بينة له فلا حق له، لأن المدعى عليه ليس
بحي، ولو كان حيا لألزم اليمين، أو الحق، أو يرد اليمين، فمن ثم لم يثبت
له حق " (1).
وتجويز إرادة البينة الواحدة وكون اليمين يمين جزء البينة خلاف
الظاهر، بل يأباه التعليل.
والإيراد بأن اليمين على الوجه المغلظ المذكور فيها ليست بواجبة
إجماعا، فلا يكون قوله: " فعلى المدعي " للإيجاب، فلا يثبت المطلوب.
مردود بأنه لا دلالة فيها على إرادة الإتيان باليمين على هذا الوجه، بل
يجوز أن يكون توصيفه (عليه السلام) تعظيما لله لا لأجل ذكره في اليمين.
ومكاتبة الصفار الصحيحة المتقدم صدرها أيضا: أو تقبل شهادة
الوصي على الميت بدين مع شاهد آخر عدل؟ فوقع: " نعم، من بعد يمين " (2).
فروع:
أ: هل يختص ذلك الحكم بالميت، أو يتعدى إلى ما يشاركه في
المعنى، كالطفل والمجنون والغائب؟
الأكثر - كما في المسالك وشرح الصيمري والكفاية وشرح المفاتيح
والمعتمد (3) وغيرها (4) - إلى التعدي، وهو مذهب الفاضل في جملة من

(1) الكافي 7: 415 / 1، الفقيه 3: 38 / 128، التهذيب 6: 229 / 555، الوسائل
27: 236 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 4 ح 1، بتفاوت يسير.
(2) الكافي 7: 394 / 3، الفقيه 3: 43 / 147، التهذيب 6: 247 / 626، الوسائل 27:
371 أبواب الشهادات ب 28 ح 1، وفي غير الفقيه من المصادر لا توجد لفظة " بدين ".
(3) المسالك 2: 370، الكفاية: 268.
(4) كمفتاح الكرامة 10: 93، والرياض 2: 401.
253

كتبه، منها التحرير (1)، ووالدي العلامة في المعتمد، للعلة المنصوصة، أو
اتحاد طريق المسألتين، لا من باب القياس الممنوع.
وفيه: أن إحدى العلتين المنصوصتين هي كون المدعى عليه ليس
بحي، واختصاصها بالميت ظاهر، مع أنها علة لانتفاء الحق مع عدم البينة
لا لثبوت اليمين.
والأخرى: " لأنا لا ندري لعله قد أوفاه ببينة لا نعلم موضعها " وهي
أيضا مختصة به، لقوله بعد ذلك: " قبل الموت ".
مع عدم إمكان تحقق الإيفاء من الطفل، ومعارضته في الغائب مع
مرسلة جميل: " الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة، ويباع ماله
ويقضى عنه دينه وهو غائب " (2).
وعلى هذا، فكما يحتمل كون العلة عدم الوصول إلى العلم بالحال
بالفعل، يمكن أن يكون عدم إمكان الوصول بعد ذلك، فيختص بالميت،
فلا يمكن الاعتماد بذلك التعليل في غير مورد النص.
وبما ذكر يظهر حال اتحاد الطريق، مع أن مورد النص - وهو الميت -
أقوى من الفرع.
والاستدلال بصدر صحيحة الصفار المتقدمة قبل ذلك - بحمل الرجل
على الغائب، أو تعميمه وإخراج غير المذكورين بالدليل - خلاف الظاهر،
وموجب للتخصيص الغير الجائز، وهو إخراج الأكثر، مع احتمال كون ضم
اليمين فيها لعدم قبول شهادة الوصي كما مر، ولذا ذهب المحقق (3)

(1) القواعد 2: 210، التحرير 2: 187.
(2) التهذيب 6: 296 / 827، الوسائل 27: 294 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 26 ح 1.
(3) الشرائع 4: 85.
254

وجماعة - ومنهم أكثر متأخري المتأخرين (1) - إلى العدم، وهو الأقوى.
ب: لما كان الحكم المذكور - أي ضم اليمين مع البينة - مخالفا
للأصل يجب الاقتصار فيه على المتيقن، وهو ما إذا كانت الدعوى على
الميت دينا، فلو كانت عينا في يده بعارية أو غصب أو نحوهما دفعت إليه
مع البينة من غير يمين، كما صرح به جماعة، منهم: القواعد والمسالك
والتنقيح (2)، لاختصاص النص بالدين، أما الصحيحة فلتصريحها بلفظ: الدين،
وأما الرواية فلظهورها فيه أيضا، لمكان لفظ: " الحق " و: " لعليه " و: " أوفاه ".
نعم، صحيحة الصفار مطلقة على ما نقلها في الكفاية، حيث لم يذكر
فيه لفظ: بدين، ولذا استشكل في المسألة لذلك الإطلاق (3)، ولكن النسخ
المصححة التي كانت عندنا كلها مشتملة على لفظ: بدين، وعلى هذا فلا
إشكال في المسألة ولو كان بمجرد اختلاف النسخ.
وأما ما قيل من أن النص وإن كان مخصوصا بالدين إلا أن مقتضى
التعليل المنصوص - وهو الاستظهار - العموم (4).
ففيه: أن العلة هي احتمال الإيفاء، وهو في العين التي بيده غير جار،
بل الجاري فيها النقل بالبيع ونحوه.. وغير ذلك من التعليل مستنبط لا يعبأ
به.
ولو لم توجد العين المدعى بها في التركة وحكم بضمانها على الميت
للمالك ففي إلحاقها بالعين - نظرا إلى الأصل - أو بالدين - لانتقالها إلى الذمة -

(1) كالشهيد الثاني في الروضة 3: 105، والمسالك 2: 370، والفاضل السبزواري
في الكفاية: 269، وصاحب الرياض 2: 401.
(2) القواعد 2: 210، المسالك 2: 370، التنقيح 4: 256.
(3) الكفاية: 268.
(4) انظر الرياض 2: 401.
255

وجهان، أظهرهما: الثاني، لصيرورتها دينا بعد الفقدان، فتشملها الأخبار.
نعم، لو فقدت بعد الموت أو لم يعلم أنها فقدت حال الحياة أو
بعدها فحكم المدعى به حكم العين، لعدم معلومية الانتقال إلى ذمة الميت.
ج: لو أقر له قبل الموت بمدة لا يمكن فيها الاستيفاء عادة، بل قد
يعلم عدمه - كما إذا أقر عند جماعة ومات بعد الإقرار بحضورهم من غير
غيبة لهم - ففي وجوب ضم اليمين إلى البينة وجهان.
رجح في المسالك والكفاية والمعتمد العدم (1)، لعدم جريان التعليل
المذكور في الخبر هنا.
وفيه: أن التعليل لا يوجب تخصيص الإطلاق، لأن العلل الشرعية
معرفات لا ينتفي المعلول بانتفائها، فإنه قد يكون وجود العلة في بعض
الأفراد علة للحكم في الجميع، مع أن التعليل - كما قيل (2) - يمكن أن
يكون من باب إبداء النكتة والتمثيل، فإن احتمال الإبراء أيضا قائم، وكذا
احتمال نسيان المقر للإيفاء وتذكره لو كان حيا حين الدعوى.
ولذا قوى بعض فضلائنا المعاصرين (3) الضم، لإطلاق النص.
وهو حسن، إلا أن فيه: أن النص معارض بأخبار أخر واردة في إقرار
المريض، وفي الوصية بالدين:
كصحيحة منصور: عن رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه دينا،
فقال: " إن كان الميت مرضيا فأعطه الذي أوصى له " (4).

(1) المسالك 2: 370، الكفاية: 269.
(2) قاله في غنائم الأيام: 687.
(3) المحقق القمي في غنائم الأيام: 687.
(4) الكافي 7: 41 / 2، الفقيه 4: 170 / 594، التهذيب 9: 159 / 656، الإستبصار
4: 111 / 426، الوسائل 19: 291 أبواب أحكام الوصايا ب 16 ح 1 و ج 23:
183 أبواب الإقرار ب 1 ح 1، بتفاوت يسير.
256

وصحيحة أبي ولاد: عن رجل مريض أقر عند الموت لوارث بدين
له عليه، قال: " يجوز ذلك " (1).
ورواية السكوني: في رجل أقر عند موته لفلان وفلان لأحدهما
عندي ألف درهم، ثم مات على تلك الحال، فقال: " أيهما أقام البينة فله
المال، وإن لم يقم واحد منهما البينة فالمال بينهما نصفان " (2).
ومكاتبة الصهباني: امرأة أوصت إلى رجل وأقرت له بدين ثمانية
آلاف درهم - إلى أن قال - فكتب (عليه السلام) بخطه: " إن كان الدين صحيحا
معروفا مفهوما فيخرج الدين من رأس المال " (3) إلى غير ذلك (4).
فإن هذه الأخبار شاملة لصورة عدم حلف المقر له أيضا، فتعارض ما
مر بالعموم من وجه، وإذ لا ترجيح فيرجع إلى القاعدة المتقدمة المكتفية
للمدعي بالبينة، وهو الأصح، بل مقتضاها عدم اشتراط عدم إمكان
الاستيفاء أيضا، بل يكون الحكم ذلك إذا أقر عند الموت أو أوصى بالوفاء
عند الموت.. إلا أن الظاهر أن ذلك مختص بإقرار الميت، فلو شهد
شاهدان بانتقال شئ إليه قبل موته بمدة لا يمكن الاستيفاء يجب ضم
اليمين، لاختصاص النص بالإقرار، وألحقها والدي (رحمه الله) بالإقرار أيضا.

(1) الكافي 7: 42 / 5، التهذيب 9: 160 / 660، الإستبصار 4: 112 / 430،
الوسائل 19: 292 أبواب أحكام الوصايا ب 16 ح 4.
(2) الكافي 7: 58 / 5، الفقيه 4: 174 / 610، التهذيب 9: 162 / 666، الوسائل
23: 183 أبواب الإقرار ب 2 ح 1.
(3) التهذيب 9: 161 / 664، الإستبصار 4: 113 / 433، الوسائل 19: 294
أبواب أحكام الوصايا ب 16 ح 10.
(4) انظر الوسائل 19: 291 أبواب أحكام الوصايا ب 16.
257

وهل تلحق به شهادة البينة ببقاء الحق إن قبلناها؟
قال والدي (رحمه الله): نعم. والأظهر العدم، لشمول دليل اليمين وعلتها له
أيضا.
د: هل يختص ضم اليمين بما إذا كان الثبوت بالبينة - كما هو مورد
النص - أو يضم لو كان الثبوت بعلم الحاكم بالقضية أيضا وحكم بها؟
قيل: ولا يبعد ترجيح الضم (1). وهو كذلك، للعلة المنصوصة.
وليس ذلك من قبيل الدعوى على غير الميت، لاختصاص العلة
بالميت، ولكنها غير مختصة بالبينة وإن كان المعلول مخصوصا. واحتمال
الإبراء أو مقاصة الميت لدين له أو غير ذلك قائم هنا أيضا.
وقيل: نعم، لو فرض انتفاء جميع الاحتمالات رأسا عند الحاكم
لاتجه عدم ضم اليمين (2).
أقول: بل يكفي في عدم الضم حينئذ انتفاء احتمال الإيفاء خاصة عن
الحاكم، لأن المورد خاص بالإثبات بالبينة والتعليل باحتمال الإيفاء، فإذا
انتفيا معا فلا وجه للضم حينئذ.
وجعل التعليل تمثيلا - أي جعله من باب ذكر فرد من أمثلة
الاحتمالات والسكوت عن الباقي - إنما يحسن مع شمول المورد، وأما
بدونه فلا فائدة له.
وإن أريد من التمثيل ذكر فرد وإرادة كل ما هو مثله فلا وجه له أصلا،
فعدم الضم حينئذ أقوى، فيختص عدم الضم بما إذا كان الإثبات بعلم
الحاكم لا من جهة البينة خاصة حتى لا يشمله إطلاق المورد وعلم الحاكم

(1) غنائم الأيام: 687.
(2) غنائم الأيام: 687.
258

عدم الإيفاء حتى لا يشمله التعليل، وذلك يتحقق بإقرار الميت عند الحاكم
في زمان لا يحتمل الإيفاء بعده، وقد يعلم عدم الإيفاء بالقرائن الخارجية.
والظاهر أن في حكم الحاكم أيضا غيره ممن بيده مال للميت وعلم
بالواقعة وبعدم الإيفاء فله تسليمه للمدعي من غير يمين.
ه‍: لو علم المدعي ببقاء حقه على الميت له المقاصة، ولا يمين
عليه حينئذ.
و: اليمين المتوجهة إلى المدعي حينئذ يمين واحدة، سواء كان
الوارث واحدا أو متعددا، فلا يكلف الحلف لكل وارث يمينا على حدة،
قصرا للحكم المخالف للقاعدة على القدر المتيقن، ولأنه دعوى واحدة
على مال الميت.
ز: لو كان للمدعي شاهد واحد وحلف يمينا لجزء البينة، فهل
يحتاج إلى يمين أخرى للاستظهار، أم لا؟
صرح في الإرشاد بعدمه، وعلل بأن الشاهد واليمين حجة بنفسه،
فلا يحتاج إلى ضم شئ آخر.
وبأنه غير مورد النص، لأنه ما إذا ثبت الحكم بالبينة.
وبأنه لا فائدة في تكرار اليمين.
والأول معارض بالشاهدين.
والثاني مردود بعموم التعليل.
والثالث بالفرق بين اليمينين، فإن الأولى على حصول الاشتغال،
والثانية على بقاء الحق.
نعم، لو حلف أولا بما يفيد البقاء أيضا - أي على الوجه المذكور في
259

الرواية (1) - يمكن الاكتفاء بها، لعدم الفائدة، وعدم شمولها للعلة المذكورة،
وإفادتها لها حينئذ.
ح: لو أقام البينة ففقد الحاكم أو غاب قبل الحلف لا يثبت له حق.
واحتمال أن يكون له أن يأخذ حقه ويقول: أنا باذل اليمين فاحلفني على
الوجه الشرعي، لا وجه له.
ط: قال المحقق الأردبيلي: لا يسقط اليمين بإسقاط بعض الحق،
فلا يمكن أن يسقط من مال الطفل شئ لليمين، فيعطي الباقي بغير يمين،
لأن الثبوت موقوف عليها، وقد صرح في الرواية: بأنه إذا لم يحلف لا حق
له.. كما لا يمكن إسقاط شاهد واحد بإسقاط البعض.
نعم، إذا كان الوارث ممن يصح صلحه ينبغي المصالحة، وكذا مع
الولي وصيا أو حاكما بإسقاط البعض بإسقاط اليمين، فإنه أصلح من
الإحلاف وإعطاء جميع الحق، والولي لا يترك مصلحته. انتهى.
أقول: ما ذكره - من عدم تبعيض الحق بتبعيض الحجة، وعدم ثبوت
شئ إلا بتمام الحجة - صحيح ظاهر.
وكذا ما ذكره من جواز إسقاط الولي بعض الحق بإسقاط اليمين إذا
رأى في ذلك المصلحة، وهو إنما يكون إذا قطع - بل أو ظن - أن المدعي
يحلف ويأخذ الجميع، فإن له حينئذ إسقاط بعض الحق بإسقاط اليمين، أو
المصالحة ببعض الحق، لأن له أن يفعل للمولى عليه ما يرى مصلحة له..
كما تدل عليه صحيحة ابن رئاب، حيث قال في آخرها: " فليس لهم "
أي للصغار " أن يرجعوا فيما صنع القيم لهم، الناظر لهم فيما يصلحهم " (2).

(1) المتقدمة في 200 و 201.
(2) الكافي 7: 67 / 2، الفقيه 4: 161 / 564، التهذيب 9: 239 / 928، الوسائل
19: 421 أبواب أحكام الوصايا ب 88 ح 1، بتفاوت يسير.
260

وصحيحة ابن سنان: في قول الله عز وجل: * (فليأكل بالمعروف) * (1)
قال: " المعروف هو القوت، وإنما عنى الوصي أو القيم في أموالهم وما
يصلحهم " (2).
وصحيحته الأخرى، وفي آخرها: " فليأكل بالمعروف الوصي لهم
والقيم في أموالهم ما يصلحهم " (3).
ولو علم عدم إتيان المدعي بالحلف أو ظن ذلك - بل ولو احتمله -
لا يجوز له إعطاء البعض، لعدم تحقق المصلحة.
ي: قيل: لو ادعى وارث زيد على وارث عمرو بشغل ذمة عمرو
بحق زيد وأقام البينة، فهل يكون تحت النص، وحينئذ يحلف المدعي
على نفي العلم باستيفاء مورثه أو الإبراء، أو على البت، إذ الاستيفاء والإبراء
من المدعي أيضا متصور، لأنه بعد مورثه صاحب الحق؟
لم أجد فيه تصريحا، والظاهر دخوله تحت الرواية، لكون الدعوى
على الميت، ووجود العلة المنصوصة، بل هي هنا أغلظ.
وفي كيفية الحلف هنا ظني أنه لو قلنا بالحلف على نفي العلم ببراءة
ذمة عمرو من هذا الحق مطلقا لكان له وجه. انتهى.
قال والدي (رحمه الله) في المعتمد أيضا بضم يمين نفي العلم، إلا مع
اعتراف وارث الميت بعدم علم المدعي، فيسقط اليمين حينئذ. انتهى.
أقول: ولا شك في دخول هذه الصورة أيضا تحت الرواية موضوعا

(1) النساء: 6.
(2) الكافي 5: 130 / 3، التهذيب 6: 340 / 950، الوسائل 17: 250 أبواب ما
يكتسب به ب 72 ح 1.
(3) التهذيب 9: 244 / 949.
261

وتعليلا، ولكن القول بيمين نفي العلم ليس له وجه أصلا، لأنها ليست من
اليمين التي ذكرها في الرواية، ولا يدل عليها دليل آخر، وإنما هي تثبت في
كل موضع ادعى أحد على غيره علما مثبتا لحق عليه، أو نافيا لحق منه على
غيره لولا ذلك العلم لثبت، فتشمله أدلة ثبوت اليمين على المدعى عليه..
ولم يفرض هنا ادعاء علم على وارث الطالب بالحق، ولو فرض لم يكن
علمه على نفيه مثبتا لحق عليه، ولا نافيا من الغير له حقا لولا ذلك العلم
لثبت، إذ الكلام بعد في ذلك، والنزاع في اشتراط العلم ببقاء الحق واليمين
عليه، لا عدم العلم بعدم البقاء.
والتحقيق: أنه - كما ذكره هذا القائل - صار صاحب الحق وطالبه
حينئذ وارث زيد، فإن علم هو بالبقاء يحلف عليه على النحو المذكور في
الرواية ويأخذ الحق، وإلا فلا حق له - كما نص به في الرواية - كما كان
مورثه أيضا كذلك، ولم يتحقق سبب لصيرورة الوارث أقوى من المورث.
ولا يتوهم أن الأحكام مشروطة بالإمكان، معلقة عليه، فإذا لم يمكن
منهم (1) ينتفي الحكم، ولما لم يمكن للوارث الحلف على البت فينفي عنه
الحلف رأسا لا بالبت ولا بنفي العلم، ويكون ذلك خارجا عن تحت
الرواية مندرجا في أصل القاعدة.
لأن ذلك إنما يتم في التكليفيات دون الوضعيات، فلو كان إثبات
الحلف في المورد من باب التكليف لكان ذلك، ولكن هو وضع لإثبات
الحق، فهو سبب له، فغايته أن حال عدم الإمكان لا يتحقق المسبب، لا أن
يخرج الموضوع عن تحت الرواية..

(1) ليست في " ق ".
262

فإنه إذا قال الشارع: كل من نجس ثوبه يجب عليه غسله، يحكم
بخروج من لا يتمكن من غسله لعدم الماء عن تحت الموضع، وليس هذا
الحكم له، لكونه تكليفيا.
بخلاف ما لو قال: كل من نجس ثوبه فتطهيره إنما هو بالغسل، فإذا
لم يغسل لم يطهر، فإذا لم يمكن الغسل نقول بعدم تحقق الطهارة، لا أن
عدم الإمكان يصير سببا لخروج غير المتمكن عن تحت العموم وتطهر ثوبه
بعدم إمكان الغسل.
ولذا لو كان زيد حيا وطلب الحق بنفسه ولكن ادعى ظن البقاء أو
احتماله لا يثبت له الحق بدون الحلف، لأجل عدم إمكان الحلف له.
ثم على ما ذكرنا لو تعدد الوارث يحلف كل على بقاء قدر حصته،
ولو حلف بعضهم دون بعض ثبت سهم الأول وسقط سهم الثاني، ولو كان
فيهم صغير أو مجنون أو غائب يظهر حكمه في الفرع الآتي.
يا: لو كان المدعي على الميت وليا أو وصيا تكفيه البينة، ولا يتوقف
الثبوت على اليمين، للقاعدة المتقدمة، وعدم اندراجه تحت موضوع
الرواية، لاختصاصه بمدعي حق نفسه، لقوله: " وأن حقه " وقوله: " فلا حق له ".
ولا يفيد عموم العلة هنا، لأنها تعليل لقوله: " فعلى المدعي " إلى
آخره، لا لقوله: " فلا حق له " خاصة، بقرينة قوله: " فمن ثم صارت عليه
اليمين " فيكون المعنى: وإن كان المطلوب ميتا فقبول بينة الطالب معلق
على اليمين، للعلة المذكورة.
ولما لم يكن التعليق فيما إذا كان المدعي وليا أو وصيا فيحتمل
أمران، أحدهما: انتفاء التعليق، والآخر: انتفاء المعلق عليه، فلا يمكن تعيين
263

أحدهما ويجئ الإجمال (1)، فيرجع إلى القاعدة، لعدم ثبوت المخرج عنها.
ولا يرد مثل ذلك في الوارث، لأنه داخل في موضوع الرواية،
ولأجله يثبت الحكم له لولا العلة أيضا، بخلاف ما هو خارج عنه، فإن
ثبوت الحكم فيه إنما هو لأجل عموم العلة، والعلة لما كانت للتعليق
فلا يعلم أن مع عدم إمكان المعلق هل ينتفي الحكم أو التعليق.
ولنوضح ذلك بمثال: إذا قال الشارع: جواز شراء جلد الميتة مشروط
بالدباغة، فإن دبغ وإلا فلا يجوز. وعلة اشتراطه بالدباغة أنه نجس، فيحكم في
كل جلد ميتة بعدم الجواز بدون الدبغ وإن كان مما لا يمكن دبغه، لعموم قوله:
وإلا فلا يجوز. ولكن لا يمكن إثبات الحكم بعموم التعليل للدبس النجس،
فإنه غير قابل لذلك الاشتراط، فيمكن أن يكون الحكم فيه عدم الجواز أيضا،
وأن يكون عدم الاشتراط. ولو كان يقول: وعلة عدم جواز البيع أنه نجس، لعم
الدبس أيضا.
بل يظهر مما ذكرنا أنه يمكن منع عموم العلة بالنسبة إلى مثل الولي
أيضا، لأن بعد كون التعليل للاشتراط باليمين - كما هو في الرواية - يكون
معنى التعليل هكذا: ثبوت الحق مشروط باليمين، لأنا لا ندري لعله أوفاه
ببينة، وكل ما لا ندري فيه ذلك يشترط ثبوت الحق فيه باليمين.
والمتبادر الظاهر من هذا الكلام أن كل ما يمكن فيه اليمين مشروط
بذلك لا مطلقا، كما إذا علل اشتراط دباغة الجلد بأنه نجس، فإنه في قوة:
أن كل ما نجس يشترط جواز شرائه بالدباغة، فإنه يفهم كل أحد فيه
اختصاصه بما يقبل الدبغ.
بخلاف ما لو علل عدم جواز الشراء مطلقا بالنجاسة، بل صرح الفاضل في

(1) في " ح ": الاحتمال.....
264

التحرير - في بحث الحكم على الغائب، حيث جعله كالميت، وأوجب اليمين
فيه أيضا - بأنه: لو ادعى وكيل شخص على الغائب فلا يمين ويسلم الحق (1).
والظاهر أن مراده: ما إذا لم يكن الموكل حاضرا يمكن إحلافه.
فإن قيل: صحيحة الصفار (2) مطلقة شاملة للمورد أيضا.
قلنا: نعم، ولكن دلالتها - على عدم قبول شهادة الوصي مع شاهد
آخر بدون اليمين - إنما هي بمفهوم لم تثبت حجيته.
وإنما أطنبنا الكلام في المقام لأن الفرع من الفروع المهمة، ولم أعثر
على من تعرض له بنفي أو إثبات إلا ما نقلناه عن التحرير.
المسألة الثانية: ومما استثني أيضا من القاعدة: ما إذا كان للمدعي
شاهد واحد، فإنه يحلف لأجل الشاهد الآخر، فيحكم له.
والحكم بالشاهد الواحد واليمين في الجملة مما لا خلاف فيه بين
أصحابنا وأكثر العامة، كما في الكفاية (3)، ونقل عليه الإجماع جماعة (4)، بل هو
إجماع محقق، فهو الدليل عليه، مضافا إلى المستفيضة من الصحاح وغيرها.
كصحيحة منصور: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقضي بشاهد واحد مع
يمين صاحب الحق " (5)، ونحوها موثقة البصري (6).

(1) التحرير 2: 187.
(2) المتقدمة في ص 199 و 201.
(3) الكفاية: 272.
(4) منهم الحلي في السرائر 2: 140، الشهيد الثاني في المسالك 2: 375، صاحب
الرياض 2: 406.
(5) الكافي 7: 385 / 4، التهذيب 6: 272 / 741، الإستبصار 3: 33 / 113،
الوسائل 27: 264 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 2.
(6) التهذيب 6: 273 / 743، الإستبصار 3: 33 / 114، الوسائل 27: 267 أبواب
كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 8.
265

وصحيحة حماد بن عيسى: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قضى بشاهد ويمين " (1).
ومرسلة الفقيه: قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشهادة شاهد ويمين المدعي،
وقال (صلى الله عليه وآله): " نزل علي جبرئيل بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق " وحكم
به أمير المؤمنين (عليه السلام) بالعراق (2).
وصحيحة البجلي: دخل الحكم بين عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي
جعفر (عليه السلام)، فسألاه عن شاهد ويمين، فقال: قضى به رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
وقضى به علي (عليه السلام) عندكم بالكوفة " (3).
وصحيحة محمد: " لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد إذا
علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأما ما كان من حقوق الله
ورؤية الهلال فلا " (4).
وصحيحة حماد بن عثمان: " كان علي (عليه السلام) يجيز في الدين شهادة
رجل ويمين المدعي " (5).
وصحيحة أخرى لمحمد: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجيز في الدين

(1) الكافي 7: 385 / 2، التهذيب 6: 275 / 748، الإستبصار 3: 33 / 112،
الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 4.
(2) الفقيه 3: 33 / 103، الوسائل 27: 269 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 14 ح 14، وفيه: بتفاوت يسير.
(3) الكافي 7: 385 / 5، التهذيب 6: 273 / 747، الإستبصار 3: 34 / 117 وفيه:
دخل الحكم بن عيينة، الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 14 ح 6.
(4) الفقيه 3: 33 / 104، التهذيب 6: 273 / 746، الإستبصار 3: 33 / 116،
الوسائل 27: 268 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 12، بتفاوت.
(5) الكافي 7: 385 / 1، التهذيب 6: 275 / 749، الإستبصار 3: 33 / 111،
الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 3.
266

شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدين، ولم يكن يجيز في الهلال إلا
شاهدي عدل " (1).
وموثقة أبي بصير: عن الرجل يكون له عند الرجل الحق وله شاهد
واحد، قال: فقال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقضي بشاهد واحد ويمين
صاحب الحق، وذلك في الدين " (2).
ورواية القاسم بن سليمان: " قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشهادة رجل مع
يمين الطالب في الدين وحده " (3).
ورواية داود بن الحصين، وهي طويلة، وفي آخرها: " ولا يجيز في
الطلاق إلا شاهدين عدلين " قلت: [فأنى] ذكر الله تعالى قوله: * (فرجل
وامرأتان) * (4)؟ قال: " ذلك في الدين، إذا لم يكن رجلان فرجل وامرأتان،
ورجل واحد ويمين المدعي إذا لم تكن امرأتان، قضى بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وأمير المؤمنين (عليه السلام) [بعده] عندكم " (5).
وصحيحة الحلبي: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أجاز شهادة النساء مع يمين

(1) الكافي 7: 386 / 8، التهذيب 6: 272 / 740، الإستبصار 3: 32 / 108،
الوسائل 27: 264 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 1، بتفاوت
يسير.
(2) الكافي 7: 385 / 3، التهذيب 6: 272 / 742، الإستبصار 3: 32 / 109،
الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 5.
(3) التهذيب 6: 273 / 745، الإستبصار 3: 32 / 110، الوسائل 27: 268 أبواب
كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 10.
(4) البقرة: 282.
(5) التهذيب 6: 281 / 774، الإستبصار 3: 26 / 81، الوسائل 27: 360 أبواب
الشهادات ب 24 ح 35، وفي " ح " و " ق ": قلت: فإن...... وأمير المؤمنين (عليهم السلام)
عندكم، وما أثبتناه من المصادر.
267

الطالب في الدين، يحلف بالله أن حقه لحق " (1) وقريبة منها مرسلته (2).
وموثقة منصور: " إذا شهد لطالب الحق امرأتان ويمينه فهو جائز " (3)،
وغير ذلك من الأخبار (4).
ثم مقتضى الأصل الثابت بالقاعدة المذكورة - واختصاص النصوص
كلها بما يختص بحقوق الناس، لأنها إما متضمنة للفظ: " صاحب الحق " أو:
" الدين " أو ما يخلو عن مثله، كصحيحتي حماد بن عيسى والبجلي، فوارد
بلفظ: " قضى " وهو غير مفيد لعموم أو إطلاق، لأنه قضية في واقعة - اختصاص
الثبوت بها بحقوق الناس دون حقوق الله، كما عليه الإجماع انعقد أيضا.
وتدل عليه صريحا صحيحة محمد المتقدمة، فلا ريب في ذلك
الاختصاص أصلا.
وهل يختص من حقوق الناس بالأموال، كالقرض والغصب، وما
يقصد منه المال، كعقود المعاوضات والقراض والوصية والجنايات الموجبة
للديات ونحوها؟
قال في الكفاية: المعروف من مذهب الأصحاب أنه لا يثبت بهما
غير الأموال من حقوق الناس، فلا يثبت الطلاق والنسب والوكالة والوصية

(1) الكافي 7: 386 / 7، الفقيه 3: 33 / 106، التهذيب 6: 272 / 739،
الإستبصار 3: 32 / 107، الوسائل 27: 271 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 15 ح 3.
(2) الكافي 7: 390 / 2، التهذيب 6: 269 / 723، الإستبصار 3: 29 / 95،
الوسائل 27: 351 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 24 ح 2.
(3) الفقيه 3: 33 / 105، الوسائل 27: 271 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 15 ح 1.
(4) انظر الوسائل 27: 364 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14، و ص 271
ب 15، و ص 350 أبواب الشهادات ب 24.
268

إليه وعيوب النساء (1). انتهى.
وقيل: ولا يقضى بهما في غير المال وما يقصد منه المال
بلا خلاف. وقيل أيضا: ظاهر الأصحاب الإطباق على تقييده بالمال (2).
انتهى.
ويظهر من الكفاية التردد في ذلك التخصيص، حيث قال: فإن
لم يثبت إجماع على التخصيص كان القول بالعموم غير بعيد (3). انتهى.
وذهب الشيخ في النهاية والحلبي وابن زهرة إلى التخصيص من بين
الأموال أيضا بالدين (4)، وعن الأخير الإجماع عليه.
أقول: دليل التخصيص الأخير هو موثقة أبي بصير، ورواية القاسم بن
سليمان، ورواية داود بن الحصين، المؤيدة بصحاح حماد بن عثمان
ومحمد والحلبي.
والإيراد عليها بأنه لا دلالة فيها إلا على أن قضاءه بذلك كان في
الدين، ولم يقض به في غيره، وهو أعم من عدم جواز القضاء به فيه، فقد
يجوز ولكن لم يتفق له (صلى الله عليه وآله).
ضعيف جدا، لأن المتبادر من قوله في الموثقة: " كان يقضي بذلك
وذلك في الدين " وكذا قوله في الرواية: " وحده " أن تجويزه القضاء به كان
مختصا به، مع أن رواية داود لم تتضمن القضاء أولا، بل هي صريحة في
التخصيص.

(1) الكفاية: 272.
(2) انظر الرياض 2: 406 - 407.
(3) الكفاية: 272.
(4) النهاية: 334، الحلبي في الكافي في الفقه: 438، ابن زهرة في الغنية (الجوامع
الفقهية): 624.
269

وأما التخصيص الوسط فلا أرى في الأدلة منه عينا ولا أثرا.
وقد يستدل له بأخبار الاختصاص بالدين منضمة مع تتمة صحيحة
البجلي المتقدم صدرها، المتضمنة لادعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) على عبد الله بن
قفل التميمي عند شريح درع طلحة، حيث وجدها بيده، وقال: " إنها
أخذت غلولا " (1) فطلب شريح البينة، فشهد الحسن (عليه السلام)، فقال شريح:
هذا شاهد، ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر، وساق الكلام
إلى أن قال: " فغضب علي (عليه السلام) وقال: خذوها " أي الدرع " فإن هذا قضى
بجور ثلاث مرات " ثم أخذ في عد تلك الثلاث، إلى أن قال: " ثم أتيتك
بالحسن فشهد، فقلت: هذا واحد، ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون
معه آخر، وقد قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشهادة واحد ويمين " الحديث (2).
فإن الدرع كانت عينا موجودة لا دينا، فيعلم أن القضاء بذلك
لا يختص بالدين المعهود، بل المراد من الدين مطلق المال، كما قد يحمل
عليه كلام النهاية (3)، ويشعر كلام بعض اللغويين إلى أنه مطلق الحقوق (4).
وفيه: أنه يمكن أن تكون تخطئته في قوله: " ولا أقضي بشهادة شاهد
حتى يكون معه آخر " حيث أتى بالنفي للماهية الدال على العموم، بل هو
الظاهر، حيث ذكر (عليه السلام) في مقام تعداد الخطأ ذلك القول لا عدم حكمه في
الواقعة بالشهادة واليمين.
ويدل عليه أيضا استشهاده بقضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) مطلقا من غير بيان

(1) غلولا: أي سرقة من الغنيمة قبل القسمة - مجمع البحرين 5: 436.
(2) الكافي 7: 385 / 5، التهذيب 6: 273 / 747، الإستبصار 3: 34 / 117،
الوسائل 27: 265 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 14 ح 6.
(3) حمله عليه في المختلف: 725.
(4) مجمع البحرين 6: 253.
270

موضع قضائه.
ثم لو سلم ذلك، فمقتضى الجمع التخصيص بالدين والعين، وأما
التعدي إلى غيرهما من الحقوق المتعلقة بالأموال - كالرهن والمساقات
والإجارات ونحوها - فلا يكون عليه دليل.
والتمسك بعدم القول بالفصل في المقام ضعيف.
وأما حمل الدين على مطلق المال فهو مما تأباه اللغة والعرف وكلام
الأصحاب طرا، حيث يقابلون الدين مع العين أو مع المال.
وبالجملة: إن كانت دلالة الموثقة والروايتين على الاختصاص بالدين
تامه - كما هو كذلك - يجب القول بالتخصيص الأخير، لأخصيتهما من
سائر الأخبار، وإلا فالتخصيص الأول، وهو الاختصاص بحقوق الناس، لما
عرفت.
وأما الوسط فلا وجه له أصلا.
نعم، ظاهر الحلي والفاضل في المختلف دعوى الإجماع على كفاية
الشاهد واليمين في الأموال (1)، ونفى جماعة - على ما قيل (2) - الخلاف فيه.
ولكن قد عرفت مرارا عدم حجية الإجماع المنقول وحكاية نفي
الخلاف، سيما أن كلام الحلي ليس صريحا في الإجماع، فإنه قال: ويحكم
بالشاهد واليمين في الأموال عندنا. ومثل ذلك ليس دعوى للإجماع، ومع
ذلك مختص بالأموال، وشموله - لما يكون المقصود منه المال مطلقا،
كالنكاح والرهن وقتل الخطأ ونحوهما مما ذكروه - ليس بظاهر.
وكذا كلام المختلف، فإنه ذكر الدين والعين مع عدم صراحته أيضا

(1) الحلي في السرائر 2: 116، المختلف: 716.
(2) الكفاية: 285، الرياض 2: 406.
271

في دعواه، لأنه قال: المال سواء كان دينا - كالقرض - أو عينا يثبت بشاهد
وامرأتين إجماعا، وكذا بشاهد ويمين. فإن قوله: " وكذا " يمكن أن يكون
إشارة إلى نفس الثبوت لا الثبوت مع الإجماع.
هذا، مع معارضتهما بدعوى إجماع ابن زهرة على الاختصاص بالدين (1)،
وظهور مخالفة طائفة من فحول القدماء (2).
ومع ذلك كيف تسمع دعوى نفي الخلاف؟! ومع أن أكثر ما ذكروه
من دعوى نفي الخلاف أو المعروفية من مذهب الأصحاب ونحوهما إنما
هو على عدم ثبوت غير الأموال بالشاهد واليمين، كما مر من عبارة الكفاية (3).
وقد يستدل لتخصيص الوسط برواية عامية رواها ابن عباس: إن
النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " استشرت جبرئيل في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار
بذلك في الأموال لا تعدو ذلك ".
وهي رواية ضعيفة لا تصلح للاستناد وإن قلنا بموافقتها للشهرة، لأنها
لا تجبر الروايات العامية، مع أنها عامة يجب تخصيصها بما يدل على
الاختصاص بالدين، وهو أولى من جعل الحصر في روايات الدين إضافيا
قطعا.
هذا، مع ما في التخصيص الوسط من الإجمال والاختلاف في بيان
المطلوب الذي لا يكاد يبين بيانا مستندا إلى دليل، فإن منهم من عبر
بالأموال (4)، ومنهم من قال: العين والدين (5)، وقال القاضي: المال وما كان

(1) الغنية (الجوامع الفقهية): 624.
(2) كالطوسي في النهاية: 334.
(3) الكفاية: 272.
(4) كالشهيد الثاني في المسالك 2: 376.
(5) كالحلي في السرائر 2: 116.
272

وصلة إليه (1)، وقال الحلي (2) وأكثر المتأخرين (3): المال، أو ما يقصد منه
المال.
ثم اختلفوا في المراد مما يقصد منه المال أو يكون وصلة إليه، أنه
هل ما كان كذلك بأصل الشرع، أو كان الغرض من الدعوى ذلك، أو كان
يستتبع المال، أو كان الغرض من فعله المال؟
وذكروا أمثلة لا ينطبق بعضها على بعض، فذكروا منها: الجنايات
الخطائية، مع أنه ليس المقصود من فعله أو الغرض من وضعه مال، بل قد
لا يكون الغرض من الدعوى أيضا ذلك، بل يتصور المدعي جواز
القصاص.
وذكروا لما ليس مما يقصد منه المال: الوكالة والوصاية والنسب، مع
أن دعوى الوكالة كثيرا ما تكون بقصد المال، كأخذ حق الوكالة، أو تصحيح
عمل الوكيل في المال ليأخذه، أو إفساده، كالبيع.
ودعوى الوصاية قد (4) تكون لأخذ حق السعي، وقد تكون لتصحيح
بيع الوصي.
ودعوى النسب قد تكون لأخذ الميراث أو النفقة وغير ذلك.
ولأجل ما ذكرنا من إجمال المراد واختلافهم في تأديته قد وقعت
للقائلين بهذا القول من فقهائنا الأطياب - من المتقدمين والمتأخرين في
أبواب الاختلاف في دعوى العقود والإيقاعات من الوقف والنكاح والطلاق

(1) المهذب 2: 562.
(2) السرائر 2: 140.
(3) كالمحقق في الشرائع 4: 92، والعلامة في المختلف: 716، والشهيد الثاني في
الروضة 3: 142.
(4) في " ح " زيادة: لا.
273

والخلع والعتق والتدبير والمكاتبة والسرقة وغيرها - اختلافات شديدة
بينهم، بل بين كتب فقيه واحد، بل بين مباحث كتاب واحد، بحيث لا يكاد
ينضبط ولا يرتفع، وليس ذلك إلا لعدم استناد تعيين الموضوع إلى مستند
شرعي مضبوط.
فهذا القول مما لا ينبغي الركون إليه والسكون لديه، بل إما يعمم
الثبوت - كما في حقوق الناس، كما يميل إليه في الكفاية (1)، إن لم تتم أدلة
التخصيص بالدين، إما سندا أو دلالة - أو يخصص بالدين إن قلنا بتمامية
أدلتها، كما هو كذلك، لأنها من الروايات المعتبرة، مع أن واحدة منها
موثقة، وهي في نفسها عندهم حجة، وبأخبار صحيحة أخرى معتضدة،
ودلالتها واضحة جدا.
فالحق: اختصاص الثبوت بالشاهد الواحد ويمين المدعي بالدين
لا غير.
فروع:
أ: المراد بالدين الذي يثبت بشاهد ويمين: كل حق مالي للغير،
متعلق بذمة الآخر، بأي سبب تعلق بالذمة، فيشمل ما استقرضه، وثمن
المبيع، ومال الإجارة، والمهر، ودية الجنايات، والمغصوب، والمسروق،
والنفقة، والموصى به، والمضمون له، والمحول إليه، وغير ذلك.
والمراد بكون الدعوى دينا: أن يكون هو المقصود من الدعوى،
ويكون مأخوذا فيه، ويكون هو المدعى به بالذات والمطلوب من الخصم

(1) الكفاية: 272.
274

وإن تعلقت الدعوى أو الإنكار بالسبب، فلو تلفت منه مائة دينار لأجل
شراء ملكه وهو أنكر الشراء يكون دعوى الدين، وكذا لو ادعى مائة دينار
لأجل الجناية أو السرقة أو الإجارة ونحوها، لصدق دعوى الدين في الكل.
بخلاف ما لو ادعى نفس السبب من دون مطالبة ما يترتب عليه، فإنه
لا تصدق عليه دعوى الدين.
ولذا لو ادعت امرأة على رجل مائة دينار من جهة الصداق، فبذل
المائة، يسقط تسلطها عليه.
بخلاف ما لو ادعي النكاح الذي جعل الصداق فيه مائة، إلا إذا كان
أثر السبب (والمطلوب) (1) منه منحصرا في ذلك الدين، فإنه لو ادعى أحد
وصية مائة دينار يكون دعوى الدين، إذ لا يقصد من دعواها إلا المائة
دينار، أي لا يتبادر من دعواها إلا طلب ذلك.
ب: قالوا: يشترط شهادة الشاهد أولا وثبوت عدالته ثم اليمين، ولو
بدأ باليمين وقعت لاغية، وافتقر إلى إعادتها بعد الإقامة، ولم يظهر في ذلك
مخالف، بل نسبه في المفاتيح إلينا (2)، ونفى عنه الخلاف في شرحه،
واستدل له بتعليل ضعيف غايته.
وقد يستدل أيضا بأن هذا حكم مخالف للأصل، فيقتصر في ثبوت
الحق به على موضع اليقين، وهو ما إذا تأخر اليمين.
وفيه: أن هذا إنما يتم لولا إطلاقات طائفة من النصوص بالثبوت
بذلك، فإن أكثرها وإن كان خاليا عن الإطلاق - لتضمنه الإخبار عن حكم
النبي والولي، فهو إخبار عن واقعة، ومثله لا إطلاق فيه - إلا أن صحيحة

(1) في " ق ": فيه المطلوب.
(2) المفاتيح 3: 264.
275

محمد الأولى وصحيحة منصور الأخيرة ورواية داود (1) مطلقة.. ونفي
إطلاقها - لكونها واردة في بيان حكم آخر غير ما نحن فيه، ولأن المتبادر
منها تقديم اليمين - ضعيف، لعدم منافاة الورود مورد حكم آخر للإطلاق،
ولظهور منع التبادر، ولذا تأمل طائفة في ذلك الحكم، كصاحبي الكفاية
والمفاتيح (2).
واختار شارح المفاتيح عدم اشتراط الترتيب، وهو الأقوى.
ج: لا تثبت دعوى جماعة مع شاهد إلا مع حلف كل منهم، فلو
حلف بعضهم دون بعض ثبت نصيب الحالف فقط، للأصل، فإن الأصل
عدم ثبوت نصيب الغير، ولم تكن للممتنع معه شركة فيما يثبت، لأن
الحلف جزء سبب الاستحقاق، وهو يختص بأحدهما، فيمكن إبراء شريكه
أو استيفاؤه.
وذلك بخلاف ما إذا ادعى أحد الشريكين بسبب مشترك فأقر الغريم،
فإن ما أقر به للمدعي يشترك فيه الآخر أيضا، لأن نسبة الإقرار إليهما على
السواء، وكذا البينة، فما يأخذه أحد الجماعة من نصيبه بسبب الحلف
لا يشترك معه غيره ممن لم يحلف، وما يأخذه بسبب الإقرار أو البينة
يشترك معه فيه الباقون، كذا قالوا.
أقول: ما ذكروه من اختصاص ما أخذه الحالف به وعدم اشتراك غيره
معه إنما هو فيما إذا كان المدعى به دينا أو عينا وأخذ ما أخذ منها مشاعا،
أي اشترك مع الغريم فيها بالإشاعة بقدر نصيبه..
أما لو كان المدعى به عينا وأخذ نصيبه منها مفروزا فلا بد من القول

(1) المتقدمة جميعا في ص 213 و 214 و 215.
(2) الكفاية: 272، المفاتيح 3: 264.
276

بكونه مشتركا بينه وبين باقي الشركاء..
مثلا: إذا ادعى أخوان على زيد حنطة معينة مشاهدة بأنها من مال
مورثنا، وأقاما شاهدا واحدا، وحلف أحدهما دون الآخر، وأخذ الحالف
نصف تلك الحنطة، يجب أن يكون مشتركا بين الأخوين..
وكذا إذا ادعيا أرضا معينة وأخذ الحالف نصفها المعين بأن يقتسم مع
الغريم، فلا بد من الشركة.
لا لأجل الحلف، حتى يرد أنه لا يثبت بالحلف مال الغير.
بل لأجل اعترافه بأنه مال المورث، وهو مأخوذ به، كيف ولو ادعاه
لنفسه وأخذه بالشاهد واليمين أو اليمين المردودة، ثم أقر بأنه مال عمرو،
يتسلط عمرو على أخذه منه، فأثر الحلف رفع مانع تصرفه، وحكم ظاهر
الشرع باستحقاقه القبض والشركة أثر الإقرار.
ولعل مراد القوم من نفي الاشتراك أيضا في غير تلك الصورة.
فإن قيل: يلزم مثل ذلك في نصيبه من الدين المأخوذ بالحلف
والعين المأخوذة بالإشاعة كذلك أيضا، لما ذكر.
قلنا: لا يلزم ذلك أصلا، لأن المقر به في الدين ليس إلا اشتغال ذمة
الغريم بحصته وبحصة الشركاء، ولا يثبت بذلك شئ أصلا، ويثبت
بالشاهد واليمين اشتغال ذمته بحصة الحالف، أي بأمر كلي يساوي حصته
من الدين، وهذا الكلي ليس جزءا من الكلي الأول، لعدم تعيينه، بل
يساوي بعضه، وتعين ذلك الكلي المحكوم عليه له بإقباض الغريم وقبض
الحالف، ولا اعتراف من الحالف على شركة الشريك فيه، وإنما اعترافه في
أمر كلي ثابت في الذمة، ولم يقصد الغريم أنه يعطيه من باب ذلك الكلي،
لعدم اعترافه بثبوته عليه، ولو قصد أيضا لم يفد، فهذا الشخص الخارجي
277

لا دليل على شركة الشركاء فيه أصلا، وأين الاعتراف باستحقاق الشريك
شيئا في ذمة الغريم عن الاعتراف بشركته في ذلك الشئ المعين؟!
فإن قيل: فعلى هذا يلزم عدم شركة الشريك فيما يقبضه الآخر من
الدين المشترك الذي يقر به الغريم، أو يثبت بالبينة أيضا - كما حكي عن
الحلي في باب الشركة من السرائر (1)، وإن وافق القوم في باب الدين
والصلح (2) - لأن شركة الشريك في أمر انتزاعي كلي ثابت في الذمة،
ولا يلزم من ذلك شركته فيما أعطاه الغريم لأحدهما ويقصده، وهو أيضا
قبضه لنفسه.
نعم، لو أقبضه الغريم لهما معا تمت شركتهما، حيث إن التعيين بيد
الغريم.
والقول بأن قصد الغريم إنما يعتبر ويؤثر في تعيين قدر الدين من
ماله وإفرازه عن سائر ما بيده، لا في تعيين الشركاء في الدين، وإنما هو بيد
الشريك، فما عينه الغريم يصير للدين بقصده، ويكون مراعى في حق
الديان حتى يعينوا المستحق..
فاسد جدا، لأنه إن أريد أن التعيين بيد جميع الشركاء من القابض
وغيره فهم لا يقولون به، بل يقولون بشركة الشريك الآخر ولو لم يرض
القابض.
وإن أريد أن التعيين بيد غير القابض فهو أيضا ليس كذلك.
وإن أريد أن للجميع التعيين بقدر الحصة فهو أمر لا دليل عليه
ولا سبيل، وأيضا يلزم أنه لو كانت عليه ديونا متعددة لديان عديدة من غير

(1) السرائر 2: 402.
(2) السرائر 2: 45، 68.
278

شركة يشترك الباقون فيما قبضه أحد الديان لنفسه بقصده وقصد الغريم
أيضا، وهو مما لا يقول به أحد.
وأي فرق بين الديون المتعددة لديان متعددة وبين دين واحد
لديان؟! فإن التفرقة إنما هي قبل التعلق بالذمة، وأما بعده فالمتعلق بالذمة
أمر كلي متخصص بحصص متعددة في الصورتين.
وبالجملة: جعل الدين في إحدى الصورتين كليا واحدا مشتركا وفي
الأخرى كليات متعددة غير مشتركة ليس إلا محض التصوير والاعتبار، وإلا
فالدين وما في الذمة فيهما مائة درهم - مثلا - لشخصين، وليس إناطة تعيين
المستحق بيد الشريك في بعض الصور مستندا إلى دليل فقهي شرعي.
قلنا: نعم، يلزم ما ذكر، وهو الموافق للأصل، إلا أن الدليل الشرعي
أوجب الشركة في الدين المشترك، وهو المستفيضة من الأخبار المعتبرة،
كصحيحة سليمان بن خالد (1)، وموثقة غياث بن إبراهيم (2)، وروايتي ابن
سنان (3) وابن حمزة (4)، وغيرها (5)، المؤيدة بالشهرة العظيمة، ولولاها لكنا
نقول في الدين المشترك الثابت بالإقرار أو البينة أيضا باختصاص القابض
بما قبضه، ولكن الدليل أوجب القول بالتشريك، بمعنى: أن الشريك الآخر
له المطالبة وإن كانت له الإجازة في الاختصاص أيضا، ولذلك يقتصر فيه
على موضع الدليل.

(1) الفقيه 3: 23 / 60، التهذيب 6: 207 / 477، الوسائل 18: 370 أبواب الدين
والقرض ب 29 ح 1.
(2) الفقيه 3: 55 / 190، التهذيب 6: 195 / 430، الوسائل 18: 435 أبواب
أحكام الضمان ب 13 ح 1.
(3) التهذيب 7: 186 / 821، الوسائل 19: 12 أبواب أحكام الشركة ب 6 ح 2.
(4) التهذيب 7: 185 / 818، الوسائل 19: 12 أبواب أحكام الشركة ب 6 ح 1.
(5) انظر الوسائل 19: 12 أبواب أحكام الشركة ب 6.
279

وبذلك تندفع بعض الإيرادات الواردة في المسألة والإشكالات
الموردة فيها.
ولتحقيق هذه المسألة موضع آخر تذكر فيه.
د: لو ادعى قيم المولى عليه من الطفل والمجنون والغائب، وأقام
شاهدا واحدا، لا يحلف المدعي، لاختصاص اليمين بصاحب الحق، بل
توقف الدعوى - مع عدم مصلحة في طيها بيمين الغريم أو الصلح أو
غيرهما - إلى رفع الحجر عن صاحب الحق، فإن حلف أخذ، وإلا سقط.
ولو كان المدعي وصيا على الثلث - مثلا - لا يحلف، بل تسقط
دعواه، لأصالة عدم ثبوتها.. ولو حلف سائر الورثة كلا أو بعضا يأخذون
نصيبهم ولا يخرج منه الثلث، لأن الحلف أثبت حصته خاصة.
ه‍: لو أقام المدعي شاهدا واحدا، ثم رضى بيمين المنكر، كان له
ذلك، للأصل.. ويستحلفه، فإن حلف قبل عوده سقطت الدعوى، وإن
عاد قبل حلفه وأراد بذل الحلف قال في التحرير: احتمل إجابته إلى ذلك
وعدمها (1).
أقول: بل تتعين الإجابة، للأصل، وعدم مشروعية اليمين بدون طلب
المدعي، وقياسها على اليمين المردودة - كما ذكره الشيخ (2) - غير صحيح،
للفارق.
وقال في التحرير: لا تقبل في الأموال شهادة امرأتين ويمين المدعي (3).
أقول: صحيحتا الحلبي ومنصور (4) تدلان على القبول.

(1) التحرير 2: 194.
(2) المبسوط 8: 190.
(3) التحرير 2: 193.
(4) المتقدمتان في ص 215 و 216.
280

البحث الثالث
في السكوت
فإن سكت المدعى عليه بعد طلب الجواب عنه، فإن كان لدهشة
أزالها الحاكم بالرفق والإمهال.
وإن كان لغباوة وسوء فهم توسل إلى إزالته بالتعريف والبيان.
وإن كان لآفة من صمم أو خرس توسل إلى معرفة جوابه بالإشارة
المفهمة للمطلوب باليقين (1).
وإن كان لعدم فهم اللغة توسل إلى إفهامه إلى مترجمين عدلين، وكذا
لو احتاج الحاكم إلى فهم جوابه.. ولا يكفي واحد، لأصالة عدم حجية
قوله، فيقتصر في محل الحاجة إلى المجمع عليه.
وإن كان سكوته تعنتا ولجاجا ألزمه الجواب أولا باللطف والرفق، ثم
الغلظة والشدة، متدرجا من الأدنى إلى الأعلى، على حسب مراتب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.. فإن أجاب وإلا حبسه (حتى يجيب) (2) إن
سأله المدعي إلى أن يجيب أو يعفو الخصم، أو يموت، عند المفيد
والشيخ في النهاية والمختلف والديلمي وابن حمزة (3)، وكافة المتأخرين
كما في المسالك والكفاية (4).

(1) في " ق ": بالتعين.....
(2) كذا، والأنسب بالسياق حذفه.
(3) المفيد في المقنعة: 725، النهاية: 342، المختلف: 691، الديلمي في
المراسم: 231، ابن حمزة في الوسيلة: 217.
(4) المسالك 2: 370، الكفاية: 269.
281

واستدل عليه تارة بما ذكره في الشرائع والتحرير من أن به رواية (1)،
وهي وإن كانت مرسلة إلا أنها منجبرة بما ذكر.
وأخرى: بحديث: " لي الواجد يحل عقوبته " (2) حيث إنه واجد
للجواب ويماطل فيه، بناء على تفسيرهم العقوبة بالحبس خاصة.
وثالثة: بما مر من حبس الأمير الغريم باللي والمطل (3).
وقيل: يجبر حتى يجيب بالضرب والإهانة (4). ولعله لإطلاق
العقوبة، بناء على عدم ثبوت التفسير المذكور، ولأنه طريق الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
وعن المبسوط والسرائر (5) وبعض المتأخرين (6): أن الحاكم يقول له
ثلاثا: إن أجبت وإلا جعلتك ناكلا، وفي المبسوط: أنه قضية المذهب.
واستدل له بأن السكوت إما هو النكول أو هو أقوى، لأن الناكل منكر
غير حالف ولا راد، وهذا إما مقر أو منكر كذلك.
وأدلة الكل مدخولة:
أما أدلة الأول، فلأن ضعف الرواية وإن انجبر بما مر إلا أن متنها ليس
معلوما، حتى في دلالته ينظر، ومثل ذلك ليس عند الأصحاب بمعتبر.
وتفسير العقوبة بخصوص الحبس غير ثابت. وحبس الأمير لا يفيد
التخصيص، مع أن كونه في مثل المورد غير معلوم، وصدق الواجد على

(1) الشرائع 4: 86، التحرير 2: 187.
(2) مجالس الشيخ: 532، الوسائل 18: 333 أبواب الدين والقرض ب 8 ح 4، بتفاوت.
(3) في ص: 124.
(4) حكاه في كشف اللثام 2: 338 وفيه: ولم نعرف القائل.
(5) المبسوط 8: 160، السرائر 2: 163.
(6) حكاه عنه في الرياض 2: 401.
282

مثل ذلك غير ظاهر.
ومنه يظهر ضعف دليل الثاني أيضا.
وأما أدلة الثالث فلمنع كونه نكولا، مع أنه ما ورد لفظ النكول في
الروايات. ثم منع كونه إما مقرا أو منكرا، فقد يكون أدى الحق ولم يكن
منكرا يلزمه اليمين، ولا مقرا يلزمه الحق، فيسكت عن الإنكار لعدم
صحته، وعن الإقرار لإلزامه بالمقر به مع عدم البينة على أدائه، وعدم
تقصيره في فقد البينة حتى يرد: أنه أدخل الضرر على نفسه، لإمكان موت
الشهود.. وإمكان التورية منه لا يفيد، إذ قد لا يعلم شرعيتها، أو لا يهتدي
إلى طريقها.
نعم، يمكن أن يستدل للقول الأخير بما ذكره بعضهم من جريان أدلة
النكول فيه، كقوله في رواية البصري - على طريق الفقيه - المتقدمة:
" فيمين المدعى عليه، فإن حلف فلا حق له "، فإنه لا شك في صدق
المدعى عليه عليه، فيدل بالمفهوم على أنه إن لم يحلف فللمدعي حق
عليه.
وأظهر منه منطوق قوله: " فإن لم يحلف فعليه " في هذه الرواية على
طريقي الكافي والتهذيب.
وللثاني: بقوله في آخرها على الطرق الثلاثة: " ولو كان حيا لألزم
باليمين، أو الحق، أو يرد اليمين عليه " (1)، حيث إنه أمر بالإلزام بأحد
الأمرين، ولا يتحقق الإلزام إلا بالأمر أولا، ثم الإيذاء، ثم الضرب وهكذا.
وللأول: بأن الإلزام ليس مطلقا، بل مجمل، فيقتصر فيه على
المتيقن، وهو الحبس.

(1) الفقيه 3: 38 / 128، بتفاوت يسير.
283

ويمكن الجواب عن الاستدلالين الأخيرين بأخصية الصدر عن
الذيل، لمكان قوله: " فإن لم يحلف "، فيجب تخصيص الذيل به، ويلزمه
التخيير في مبدأ الأمر بين أحد الثلاثة، فإذا لم يحلف ولم يرد - كما في
المورد - يبقى الإلزام بالحق كما هو القول الأخير، ولعله الأقوى، فتأمل.
284

البحث الرابع
فيما إذا أجاب المدعى عليه بقوله: لا أدري، أو هذا ليس لي،
أو لفلان، ونحوه، ليصرف الدعوى عن نفسه.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: إذا أجاب المدعى عليه بنحو قوله: لا أدري، فقال
صاحب الكفاية وقبله الأردبيلي: إن مقتضى ظاهر كلامهم أنه لم يكف
حلف المنكر على نفي العلم، وأنه لا يجوز حينئذ الحلف بنفي الاستحقاق
لعدم علمه، بل لا بد من رد اليمين، وإن لم يرد يقضى عليه بالنكول مطلقا،
أو بعد رد اليمين على المدعي (1).
وقال بعض المعاصرين - بعد نقله عنهما -: ولم يحضرني ذكر ذلك
في كلام غيرهما (2).
أقول: التحقيق: أنه إن ادعى المدعي العلم عليه علما أو ظنا - بل أو
احتمالا - فله حلفه على نفي العلم، كما صرح به بعض مشايخنا
المعاصرين أيضا (3)، لأنه دعوى صحيحة مستلزمة - بعد تحقق المدعى به
بالنكول - ثبوت الحق له، فيدخل في عموم اليمين على من أنكر.. وبعد
الحلف يسقط أصل الدعوى، لا لما ذكره أيضا من تركب الدعوى من
أمرين - فإذا سقط جزؤه سقط الكل، كما ذكروه في الحلف على نفي العلم

(1) الكفاية: 270.
(2) غنائم الأيام: 692.
(3) انظر الرياض 2: 404.
285

بفعل المورث - بل لأن بعد ثبوت انتفاء علمه بالحلف لا تسلط له عليه
بدون البينة، كما يأتي.
نعم، لو أقام بعد ذلك بينة تقبل، لأن الحلف كان على نفي العلم،
ولازمه عدم سماع بينة العلم.
وإن لم يدع عليه العلم ولا بينة له فلا تسلط له عليه أصلا بمطالبة
الحق، للأصل الخالي عن المعارض بالمرة.. ولا بالحلف، للأدلة المصرحة
بأن الحلف على البت كما يأتي.
فلو لم تكن بينة له سقطت دعواه، بمعنى: عدم ترتب أثر عليها في
حقه، إذ لم يثبت من الشارع في حق المدعي سوى البينة أو التحليف،
وهما منفيان في المقام قطعا، والأصل عدم تحقق مقتضى الدعوى، فيحكم
به.
وتدل عليه موثقة سماعة: عن رجل تزوج أمة أو تمتع بها فحدثه ثقة
أو غير ثقة، فقال: إن هذه امرأتي وليست لي بينة، قال: " إن كان ثقة فلا
يقربها، وإن كان غير ثقة فلا يقبل [منه] " (1).
وحسنة عبد العزيز: إن أخي مات وتزوجت امرأته، فجاء عمي
فادعى أنه كان تزوجها سرا، فسألتها عن ذلك فأنكرت أشد الإنكار وقالت:
ما كان بيني وبينه شئ قط، فقال: " يلزمك إقرارها ويلزمه إنكارها " (2).
ورواية يونس: عن رجل تزوج امرأة في بلد من البلدان، فسألها:

(1) التهذيب 7: 461 / 1845، الوسائل 20: 300 أبواب عقد النكاح وأولياء العقد
ب 23 ح 2، وفيهما: عن رجل تزوج جارية..... فحدثه رجل ثقة....، وما بين
المعقوفين ليس في " ح " و " ق "، أثبتناه من المصدرين.
(2) الكافي 5: 563 / 27، الفقيه 3: 303 / 1452، الوسائل 20: 299 أبواب عقد
النكاح وأولياء العقد ب 23 ح 1.
286

ألك زوج؟ فقالت: لا، فتزوجها، ثم إن رجلا أتاه فقال: هي امرأتي،
فأنكرت المرأة ذلك، ما يلزم الزوج؟ فقال: " هي امرأته، إلا أن يقيم
البينة " (1).
دلت هذه الروايات على عدم قبول مدعي الزوجية في سقوط حق
الزوج الثاني، مع أن الثاني غير عالم به، كما يدل عليه الفرق بين الثقة
وغيره في الأولى، وسؤاله عن حالها في الثانيتين، وأنه لا حلف عليه.
وأما قوله في الأولى: " إن كان ثقة فلا يقربها " فلكونها جملة محتملة
للإخبارية لا يفيد أزيد من الكراهة، ولذا خصه بالمقاربة دون سائر الأمور،
ولم يحكم بزوجية الأول بمجرده.
واختصاص الروايات بدعوى الزوجية غير ضائر، لعدم القول بالفصل
بين الحقوق.
وما نقل عن بعضهم في هذه المسألة - من أنه يحلف على نفي
العلم (2)، واحتمله الأردبيلي ونفى عنه البعد في الكفاية (3) - فمرجعه إلى ما
ذكرنا، إذ ظاهر أن هذا الحلف إنما هو إذا جوز المدعي علمه حتى تتحقق
دعواه ولو احتمالا.. أما لو اعترف بعدم علمه فلا معنى ليمين نفي العلم.
وأما ما قيل من احتمال أن يقال برد الحاكم أو المدعى عليه الحلف
إلى المدعي (4) فلا وجه له، لأنه أمر مخالف للأصل، محتاج إلى التوقيف،
ولا توقيف.

(1) التهذيب 7: 468 / 1874، الوسائل 20: 300 أبواب عقد النكاح وأولياء العقد
ب 23 ح 3.
(2) حكاه عنه في الرياض 2: 404.
(3) الكفاية: 270.
(4) انظر الرياض 2: 404.
287

ولا يتوهم عموم بعض روايات اليمين، مثل قولهم: " أحكام
المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية " (1)
وقولهم: " اقض بينهم بالبينات، وأضفهم إلى اسمي " (2)، لأنها بين مجملة
ومعينة لكون اليمين على المدعى عليه، والمبين حاكم على المجمل، سيما
مع التصريح في صحيحتي العجلي وأبي بصير وروايته، المتقدمة جميعا في
مقدمة المقام الثاني من البحث الثاني (3).
وكذا لا يتوهم دلالة إطلاقات رد اليمين، لأن الرد إنما يكون مع تعلق
اليمين بالمدعى عليه، فإذا لم يتعلق لا يكون رد، مع أنه لا إطلاق فيها
يشمل المورد.
والقول - بأنه لولاه [للزم] (4) عدم سماع دعوى مسموعة بلا جهة -
واه جدا، لأن طلب الجواب من المدعى عليه ثم طلب البينة من المدعي
وتحليفه على نفي العلم لو ادعاه عين سماعها.
نعم، يلزم عدم ثبوت تسلط للمدعي في بعض الصور - وما الضرر
فيه؟! - كما في مورد الروايات الثلاث، الذي لا خلاف فيه أيضا ظاهرا،
وكما فيما إذا كان المدعى عليه وارثا، بل هو من أفراد موضوع المسألة،
غاية الأمر صيرورة دعواه لاغية، فليكن كذلك، وما الضرر فيه بعد كونها
مخالفة للأصل؟!
والقول بأن الأصل عدم انقطاع الدعوى المسموعة بلا بينة ولا يمين:
مردود بأن الأصل أيضا عدم توجه اليمين على المدعي، مع أن أصالة

(1) راجع ص 147.
(2) راجع ص 147.
(3) راجع ص 148.
(4) بدل ما بين المعقوفين في " ح " و " ق ": لزم، والظاهر ما أثبتناه.
288

عدم الاشتغال وعدم وجود دليل شرعي على الحكم به دليل على الانقطاع،
مزيل للأصل.
ولا يتوهم أنه يمكن إلزام المدعى عليه بلا يمين مردودة أيضا لعدم
المعارض لقول المدعي، لأن الأصل من أقوى المعارضات، ومن أين ثبتت
حجية قول المدعي الجالب للنفع لدفع الأصل الثابت من الشرع؟!
فإن قيل: بوجوب حمل أفعال المسلم وأقواله على الصحة والصدق.
قلنا: من أين ثبت ذلك؟! سيما إذا كان قوله مخالفا للأصل مثبتا
للحق على الغير، ولم نعثر إلى الآن على دليل تام على ذلك، كما بيناه في
كتابي عوائد الأيام ومناهج الأحكام.
سلمنا، فغاية ما نسلمه أنه لا يكذب في ادعاء علمه، ولكن من أين
تثبت حجية علمه علينا؟!
فإن قيل: ورد في رواية البصري المتقدمة: " ولو كان حيا لألزم
اليمين، أو الحق، أو يرد اليمين عليه " (1) دلت على أنه لو كان حيا لتعلق به
أحد الثلاثة، ولما لم يكن اليمين أو رده هنا فتعين الإلزام بالحق.
قلنا: يجب إما تخصيص الحي بالعالم، أو تخصيص الإلزام والرد به،
ولا مرجح، فيحصل الإجمال المسقط للاستدلال.. والله الموفق في كل
حال.
وأما ما احتمله في الكفاية من كون عدم العلم بثبوت الحق كافيا في
الحلف على عدم الاستحقاق، لأن وجوب إيفاء حقه إنما يكون عند العلم
به (2)..

(1) راجع ص 179.
(2) الكفاية: 270.
289

ففاسد، لأن المدعي إما يحتمل علمه أو لا، فإن احتمله فله حلفه
على نفيه، وإن لم يحتمله فهو على ما ذكره معترف بعدم الاستحقاق أيضا،
فكيف يحلفه؟!
ثم بما اخترناه صرح به بعض معاصرينا، حيث قال ما ملخصه: إنه
إن ادعى المدعى عليه العلم فلا إشكال في جواز الحلف على نفي العلم،
وبه تسقط الدعوى، وإن لم يدع عليه العلم فمقتضى الأصل والأخبار أنه
لا يتوجه عليه شئ أصلا، إذ الأصل براءة ذمته، ولم ينكر شيئا مما يدعيه
المدعي حتى يصدق عليه المنكر، مع أنها غير ممكنة حينئذ، فلا يكفي
صدق المدعى عليه عليه أيضا، ولا يجب عليه رد اليمين، بل الظاهر أن
الحاكم أيضا لا يرده، إذ لا معنى لرد اليمين إلا بعد ثبوته على المدعى
عليه، ولا يثبت شئ باليمين على المدعى عليه حينئذ، فلا يجوز للمدعي
أيضا الحلف حينئذ، ولا يثبت به شئ لو حلف (1). انتهى.
هذا إذا كانت الدعوى على الدين وما في الذمة.
وأما إذا تعلقت بالأعيان الخارجية فهو على قسمين:
أحدهما: أن تكون العين في يد المدعى عليه، لأجل انتقالها إليه من
متصرف لها غير ثابت اعترافه بما ينافي الملكية بأحد أنحاء الانتقال،
كالإرث، أو الشراء، أو نحوهما، ولا خلاف حينئذ في أنه إذا لم تكن
للمدعي بينة ليس له على المدعى عليه تسلط، سوى اليمين على نفي العلم
إن ادعاه عليه، كما يأتي.
وثانيهما: أن تكون العين بيده من غير ادعائه الملكية لها، بل يعترف
بأنه لا يعرف صاحبها، لأجل نسيانه أو غيره، فله أقسام:

(1) انظر غنائم الأيام: 692.
290

الأول: أن يجيب المتصرف بأني لا أدري هل هو مني، أو من
المدعي.. فإن ادعى عليه المدعي الدراية علما أو ظنا أو احتمالا فله إحلافه
على نفي العلم، فإن نكل أو رد فيما يجوز فيه الرد وحلف المدعي يحكم
به له ويأخذه، لا لكون النكول أو الرد إقرارا، لمنعه، بل للأخبار النافية
للحق عن الناكل والراد مع حلف المردود إليه، فينحصر الحق في المدعي.
وإن حلف، أو لم يدع المدعي العلم عليه، فالظاهر القرعة بينهما،
لأنها لكل أمر مجهول.
الثاني: أن يجيب بأني لا أدري أنه هل هو مني، أو منك، أو من
ثالث حاضر يمكن الترافع معه..
فإن نفاه الثالث عن نفسه ينحصر بين المدعي والمتصرف، ويرجع
إلى الأول.
وإن ادعاه لنفسه فلكل منهما إحلاف المتصرف على نفي العلم مع
ادعائه عليه، فإن نكل عنهما أو عن أحدهما يسقط حقه وينحصر بين
المتداعيين، ويرجع إلى مسألة تنازع اثنين في عين في يد ثالث لم يصدق
أحدهما إن لم يصدق أحدهما، وإلى مسألة تنازعهما في يد ثالث صدق
أحدهما إن رجع إلى تصديقه، وستأتي المسألتان.
وإن حلف المتصرف لهما فالظاهر الإقراع بين الثلاثة.
وإن قال الثالث أيضا: لا أدري، ومنع عن أخذ المدعى، فله
إحلافهما على نفي العلم إن ادعاه عليهما، وإحلاف من يدعيه عليه خاصة،
فمع نكولهما أو أحدهما يسقط حق الناكل، ومع حلفهما يقرع بين الثلاثة.
وإن أقر المتصرف للمدعي بعد الترديد يقبل منه، لأن قوله أولا بعدم
العلم ليس إقرارا على أحد.
291

نعم، للثالث إحلافه لو ادعى علمه، وتغريمه لو نكل أو رد.
الثالث: أن يكون الثالث من لا يمكن الترافع معه - كالفقراء، أو غائب
مفقود الخبر، أو صغير، أو مجنون - فمع ادعائه العلم عليه يحلفه، فإن
لم يحلف يسقط حق نفسه ويقرع بين الباقين، وإن حلف يقرع بين
الثلاثة.. ويقبل قوله إن أقر بعد ذلك قبل الإقراع للمدعي، لعدم تحقق
شئ مقبول شرعا ينافيه.
نعم، للصغير أو المجنون بعد الكمال تغريمه لو ادعى عليه العلم
ونكل عن يمينه.
الرابع: أن يكون الثالث مسافرا، وحكمه أيضا يظهر مما ذكرنا في
الأقسام السابقة.
الخامس: أن يجيب بأني لا أدري أنه مني، أو من المدعي، أو من
غيرنا، من غير تعيين، فمع عدم ادعاء العلم على المتصرف يقرع بين
الثلاثة أيضا، فإن خرجت القرعة لأحدهما يرد إليه، وإن خرجت للغير
يدخل في مجهول المالك. وكذا مع ادعاء العلم عليه وحلفه.
ومع نكوله أو رد اليمين وحلف المدعي يسقط حق المتصرف،
ويقرع بين المدعي والغير، فإن خرجت للمدعي يعطى العين، وإن خرجت
للغير فللمدعي إغرام المتصرف، لتضييعه حقه.
السادس: أن يجيب بأني لا أدري أنه من المدعي، أو الغير المعين،
أو غير المعين، مع اعترافه بأنه ليس من نفسه، فهو يخرج عن تلك
المسألة، ويدخل في المسألة الآتية إن شاء الله، (وإن كان له جهة مناسبة مع تلك
المسألة لأجل قوله: لا أدري أنه منك، وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى) (1).

(1) ما بين القوسين ليس في " ح ".
292

المسألة الثانية: لو كان جواب المدعى عليه: إنه ليس لي، ليصرف
الدعوى عن نفسه، وهو إنما يكون إذا كانت الدعوى على عين في يد
المدعى عليه، وهو على أربعة أقسام:
أحدها: أن يقول: ليس لي، مقتصرا عليه.. أو يضم معه قوله: هو
لرجل لا أعرفه - من باب التفعيل - أي لا أسميه.. أو يضم معهما أو مع
أحدهما: وليس لك، أو: لرجل غيره وغيرك.
والوجه فيه - وفاقا للشرائع والقواعد والمسالك (1) وغيرها (2) - أنه
لا ينزع من يد المتصرف، لأن انتفاء ملكيته لا يفسد يده، لإمكان كونها
بالإجارة، أو الوكالة، أو العارية، أو اللقطة، أو غيرها، ولا ترتفع الخصومة
عنه، بل يخاصم بمطالبته البيان، توصلا للمدعي بحق ترافعه، فإن للمدعي
على من عينه حقا إما الأخذ إن أقر، أو الحلف إن أنكر.
ولو كذب المقر ثبت لصاحب ما يجهل مالكه عليه الحق، فيكون
تركه البيان تفويتا لحق الغير، وهو منكر يجب صرفه عنه على طريقة النهي
عن المنكر، وأيضا يخاصم بمطالبة الحلف على نفي علمه بحقية المدعي،
ويقبل إن أقر بعد ذلك، لما سيأتي في بحث التنازع في الأعيان من أن إقرار
ذي اليد مطلقا يجعل المقر له ذا اليد، المقتضي للملكية له.
والوجه الآخر: أنه ينزع الحاكم المال من يد المتصرف، ويحفظه إلى
أن يظهر مالكه، وترتفع الخصومة منه، وعلله في الإيضاح بأن بنفي
المتصرف عن نفسه وعدم البيان لمالكه صار مجهول المستحق (3).
وفيه: أن جهل الحاكم أو المدعي بالمقر له لا يدخله في عنوان

(1) الشرائع 4: 112، القواعد 2: 231، المسالك 2: 392.
(2) انظر كشف اللثام 2: 364.
(3) إيضاح الفوائد 4: 402.
293

مجهول المالك، ثم إن كل ذلك إذا لم تكن للمدعي بينة، وإلا فيأخذه.
وقيل: تجري في ذلك القسم الأقوال الثلاثة المتقدمة في السكوت،
من الحبس، والإجبار على البيان، والإلزام بالحق.
والأولان هما مثل المطالبة بالبيان، وأما الأخير فبعد نفيه عن نفسه
لا وجه له.
والقول - بأن هذا الإقرار لا يثبت مال الغير - ممنوع، ولعل وجهه: أنه
يحتمل تفسيره بما لا يقبل، كأن يقول: إنه للتهمة.
وفيه: أن عدم قبول كونه للتهمة لا يوجب عدم قبول نفيه عن نفسه.
وكذا ما ذكره في المسالك، من أن الظاهر أن ما في يده ملكه، وما
صدر عنه ليس بمزيل (1).
فإنه إن أراد أنه ليس بمزيل لمطلق اليد فهو مسلم، ولكنه غير مفيد.
وإن أراد أنه ليس بمزيل لليد المقتضية (2) للملكية فهو ممنوع.
وإن أريد أنه ليس بمزيل لأصل الملكية المتحققة أولا بظاهر اليد فقد
عرفت ما فيه، فإن إقراره على نفسه مزيل له.
وثانيها: أن يقول: ليس لي ولا أعرف مالكه - من باب المعرفة - أي
لا أدري من هو.. ولم يحضرني من صرح بحكمه.
والوجه فيه: أنه يخرج عن ملكية المتصرف، وترتفع عنه خصومة
المدعي، إلا إذا ادعى عليه العلم بحقيته فيحلفه، فإن نكل أو رد وحلف
المدعي يأخذ الغرامة منه، لتضييعه حقه باعترافه بأنه مجهول المالك، الذي
هو إما مال الإمام، أو الفقراء، أو لمن يعرفه بعد تعريف السنة، أو غير

(1) المسالك 2: 392.
(2) في " ق ": المتضمنة....
294

ذلك من أقسام مجهول المالك، وليس المدعي أحدها.
وإن حلف ترتفع خصومة المدعي عنه.
وعلى التقديرين ليس لأحد - حتى الحاكم - أخذه منه، للأصل،
حيث (1) يحتمل أن يكون مما يبقى في يده للتعريف.
نعم، لو عين وجه الجهل يعمل بمقتضاه.
الثالث: أن يضيفه إلى من تمتنع مخاصمته، كالفقراء - بالوقف أو
غيره - والوقف لمسجد (أو مشهد) (2) أو مدرسة أو نحوها..
(ولا تنصرف) (3) الخصومة عنه إلا بيمين نفي العلم وحلفه، فإن لم يحلف
يغرم، وإن حلف ولا بينة للمدعي يرتفع تسلطه، ولا ينتزع من يد
المتصرف، لجواز توليته.
ومن هذا القسم: ما لو أقر به لطفله، أو لطفل الغير، أو مجنون، أو
غائب، أو مفقود الخبر.. ولا تسلط للمدعي حينئذ على الولي بدون البينة
إذا كان غير المتصرف، وله عليه يمين نفي العلم إن كان هو المتصرف
وادعى علمه، لفائدة الغرامة.
ومن هذا الباب: ما لو نقله المتصرف إلى غيره - من طفل أو غيره -
ممن لا يدعي المدعي علمه قبل تمام الترافع، فإنه لا تسلط للمدعي حينئذ
سوى إحلاف المتصرف إن ادعى علمه، وإغرامه إن نكل أو رد.
الرابع: أن يضيفه إلى معين لا تمتنع مخاصمته، وهو على قسمين،
لأنه إما يقول: هي لزيد البالغ الحاضر، أو يقول: هي لزيد البالغ المسافر،
أو الحاضر في بلدة بعيدة، ليوقف الدعوى ويؤخرها، مع صرفها عن

(1) في " ح ": حتى....
(2) ليست في " ح ".
(3) بدل ما بين المعقوفين في " ح " و " ق ": وتنصرف، والظاهر ما أثبتناه.
295

نفسه.
أما الأول، فقال في الكفاية في ذيل مسألة سكوت المدعى عليه:
وإذا قال المدعى عليه: هذا لفلان، صرفت الدعوى عنه.
وإن ادعى المدعي العلم على المدعى عليه بأن هذا له صحت الدعوى.
فإن أقر به بعد الإنكار، قال بعضهم: إنه يسلم من غير حاجة إلى
الإثبات، لأنه مؤاخذ بإقراره، والمال في يده، وهو قادر على دفعه إلى
أهله، وتلزمه الغرامة للمقر له أولا.
وفيه: أنه مؤاخذ بإقراره الأول، فلا يصح إقراره الثاني المخالف
للأول، فالظاهر أنه تلزمه الغرامة للمدعي.
وإن أصر على الإنكار يلزمه الحلف على عدم علمه بذلك، فإن
حلف أو نكل يترتب على كل واحد حكمه، ويجوز له الرد، لجواز علم
المدعي بعدم علم المنكر، فيستحب فيه حكم الحلف والرد والنكول على
ما مر (1). انتهى.
أقول: ما ذكره في رد قول البعض صحيح، ولكن إطلاقه لزوم الغرامة
للمدعي غير صحيح، بل لا يلائم قوله: صرفت الدعوى عنه، بإطلاقه، إذ
لو تمكن من الادعاء على المقر له وإثبات دعواه بإقراره أو بالبينة فلا وجه
لتغريم المدعى عليه، بل لا وجه له قبل المرافعة مع المقر له مطلقا، إذ لعله
يقر أو يرد الحلف أو ينكل، فيأخذ المدعي العين، فلا وجه لتغريمه، لأنه
لم يتلف العين عليه.
ومنه يعلم عدم تسلط يمين نفي العلم على المدعى عليه أيضا قبل
الترافع مع المقر له، بل الصحيح أن يقال: صرفت الدعوى عنه إلى المقر له

(1) الكفاية: 269.
296

إن أمكن، فيرافع معه..
فإن رجعت العين إليه بإقرار أو بينة أو نكول أو رد حلف تمت
الدعوى ولا شئ على المدعى عليه..
وإن لم ترجع وحكم بها للمقر له، أو كان ممن لم يتمكن المدعي
من الترافع معه، فيرجع إلى المدعى عليه.
فإن لم يدع العلم بصحة دعواه - ولو ظنا أو احتمالا - فلا تسلط له
عليه..
وإن ادعاه، فإن أقر يغرم، وإن أصر فله إحلافه على نفي العلم، فإن
حلف تمت الدعوى أيضا..
وإن لم يحلف - بل رد الحلف إن أمكن، بأن تكون دعواه جزما،
وحلف المدعي أو نكل - فعليه الغرامة للمدعي، لإتلافه ما كان يعلم أنه
ماله.
هذا إذا لم تكن للمدعي بينة على إقرار المدعى عليه له سابقا على
إقراره للمقر له، وإن كانت له وأثبته فيأخذ العين عن المقر له مع الإمكان،
وهو يرجع إلى المدعي إن شاء، ويستغرم منه، لاعترافه بالإقرار الثاني
تضييعه حقه بالإقرار الأول، ومع عدم الإمكان يأخذ الغرامة من المدعى
عليه.
هذا كله إذا صدق زيد الحاضر المقر له المقر في إقراره له، ولو كذبه
ففي المسالك: إن فيه أوجها:
أحدها: أنه ينزع الحاكم منه، ويحفظه إلى أن يظهر مالكه، لخروجه
عن ملك المتصرف بإقراره، وعدم دخوله في ملك المقر له بإنكاره، وعدم
ثبوت ملك المدعي، وأصالة عدمه.
297

والثاني: أنه يترك في يد المدعى عليه، إذ لا منازع له، ولعله يرجع
ويدعيه.
والثالث: أنه يسلم للمدعي، لعدم المنازع له فيه (1).
واحتمله في القواعد أيضا (2).
أقول: يرد على الأخير: إن عدم المنازع لا يكفي في دفع الأصل
وحصول التسلط له على المتصرف، وعدم شمول أدلة ما يسلم للمدعي لما
لا يد عليه للمورد، ولذا تنظر فيه في الإيضاح (3) بأنه لا دليل عليه.
وعلى ما قبله: بمنع أنه لا منازع له، بل على الحاكم منازعته، حيث
إنه يتصرف في ملك ليس له ينفيه عن نفسه، ولا لغير المقر له حتى يحتمل
جواز تصرفه فيه لأجله، لإقراره بأنه له، ولا للمقر له، لتكذيبه.. فلا يبقى
وجه لتصرفه. ورجوعه بعد نفيه عن نفسه غير مفيد، لعدم ثبوت اقتضاء
اليد الكذائية لأصالة الملكية.
فأوجه الأوجه هو: الأول، كما قطع به في الشرائع (4) واختاره في
القواعد (5).
وأما الثاني - وهو أن يقول: إنه لغائب معين - قال في المسالك ما
ملخصه: أنه تنصرف الخصومة عنه إلى الغائب، فإن كانت للمدعي بينة قضي
على الغائب بشرطه، وإلا أقر في يد المدعى عليه.. ولو طلب المدعي إحلافه
على نفي العلم بأن العين له فالأظهر أنه له، فإن أقر أو نكل يغرم القيمة، فإن

(1) المسالك 2: 392.
(2) القواعد 2: 232.
(3) إيضاح الفوائد 4: 402.
(4) الشرائع 4: 112.
(5) القواعد 2: 232.
298

سلمت العين للمدعي بعد حضور الغائب بالبينة أو إقراره يرد القيمة (1). انتهى.
أقول: كل ما ذكره صحيح لا خدشة فيه، إلا حكمه بإغرام القيمة
معجلا للمدعي مع الإقرار أو النكول، فإن قبل حضور المقر له والترافع له
لم يعلم تضييع حق له غرامة للمدعي، إذ لعل المقر له يقر له أو ينكل، فلو
قيل بتأخير الإغرام إلى طي الدعوى مع الغائب فلعله كان أظهر.
ثم لو حضر الغائب وكذب المقر فحكمه كما إذا كذبه الحاضر، وقد مر.
فروع:
أ: قال في المسالك: لو أقام المقر له البينة على ملكه لم يكن
للمدعي تحليف المقر ليغرمه (2).
أقول: والفرق بينه وبين استقرار الملك للمقر له بالحلف: أن حلفه
مسبب عن صيرورته ذا اليد الحاصلة بإقرار المدعي، فهو السبب للحيلولة
بينه وبين العين، بخلاف البينة.. ولكن لا يخفى أن هذا إنما يتم على قبول
بينة الداخل، والله العالم.
ب: قال في التحرير في صورة الإقرار للغائب: لو أقام ذو اليد بينة
تشهد أنها للغائب، سمعها الحاكم، ولم يقض بها للغائب، لأنه لم يدع هو
ولا وكيله، وإنما الفائدة: سقوط اليمين عن المقر إذا ادعي عليه العلم.
ولو ادعى وكالة الغائب كان له إقامة البينة عن الغائب.
ولو ادعى رهن الغائب أو إجارته فالأقرب سماع البينة على الغائب
بالملك، لتعلق المقر بحق (3). انتهى.

(1) المسالك 2: 393.
(2) المسالك 2: 393.
(3) التحرير 2: 190.
299

أقول: الكل كذلك، أما سماع بينته للغائب فلأن بإقراره خرج عن
كونه داخلا، وبادعائه ملكية الغير الصارفة للدعوى عنه، فمن جهة حق
صرف الدعوى عنه يصير مدعيا لنفسه هذا الحق فتسمع بينته فيما يتعلق
بنفسه، ومنه يظهر وجه سقوط اليمين عن المقر.
وأما إقامة البينة عن الغائب مع دعوى الوكالة، فلما سبق من كفاية
الوكالة الادعائية في سماع الدعوى والحكم.
وأما قبول البينة بملك الغائب عند دعوى الرهن أو الإجارة، فلأن
دعواه في الرهن والإجارة الصحيحين، وصحتهما موقوفة على ملكية
الغائب، فدعوى ملكية الغائب أيضا جزء من الدعوى لنفسه، كما إذا ادعى
على الغائب بيع ملكه له حال بلوغه، فبينة البلوغ حقيقة بينة لحق المدعي.
ثم إن في صورة إقامة المقر البينة - لا بدعوى الوكالة، بل لإسقاط
اليمين، أو تصحيح الرهن أو الإجارة، وحضر الغائب وطلب الحكم -
افتقر إلى دعوى مجددة، فيحكم بمقتضاها، فإن أقام المدعي بينة قضي
بدون بينة الغائب، لأنه الداخل.
300

البحث الخامس
فيما إذا أجاب المنكر بالإبراء أو الإقباض
وينقلب حينئذ مدعيا والمدعي منكرا.
ولا فرق في هذه الدعوى بين أن كان المدعي أقام البينة أولا أو لا،
وليس فيه تكذيب لبينته.. ثم جواب المدعى عليه الثانوي أيضا إما إقرار،
أو إنكار، أو سكوت، وحكم الكل كما مر.
نعم، لو أجاب ب‍: لا أدري، يكون الأصل حينئذ معه، ويعمل
بمقتضى الأصل.
301

البحث السادس
فيما إذا كان المدعى عليه غائبا
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا ادعى المدعي دعوى مسموعة، فإما يكون
المدعى عليه حاضرا في المجلس، أو غائبا عنه.
فعلى الأول، قال في الدروس باشتراط القضاء عليه بعلمه (1)، فلو
لم يعلم - لعدم فهم، أو اختلاف لغة، أو عدم التفات - لم يقض عليه، أي
قبل السؤال.
وهو كان حسنا - للأصل - لولا إطلاقات الأمر بالحكم والقضاء المتقدمة.
كصحيحة سليمان: " احكم بينهم بكتابي " (2).
ومرسلة يونس: " استخراج الحقوق بأربعة وجوه " (3).
ومرسلة أبان: " اقض بينهم بالبينات " (4)، وغير ذلك.
وتوهم تبادر كونه بعد السؤال عن الخصم، أو بعد علمه، فيقتصر في
غيره على موضع النص، وهو الغائب.

(1) الدروس 2: 91.
(2) الكافي 7: 415 / 4، التهذيب 6: 228 / 550، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 1 ح 1.
(3) الكافي 7: 416 / 3، التهذيب 6: 231 / 562، الوسائل 27: 241 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 7 ح 4.
(4) الكافي 7: 414 / 3، التهذيب 6: 228 / 551، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 1 ح 2 وفيه: اقض عليهم بالبينات.
302

مردود بمنع التبادر، وجريان السيرة على ذلك - لو سلم - فإنما هو
على الإعلام دون اشتراطه.
إلا أنه يرد على الأول: أن القضاء بكتاب الله لا يدل على القضاء قبل
السؤال، إذ لعل حكم الكتاب هو السؤال عن المدعى عليه.
وعلى الثاني: أنه لا شك أن استخراج الحق يحصل بالإقرار أيضا،
فإما يجعل الحصر إضافيا، أو تخصص الحقوق بما جحدت بعد السؤال
وبالغائب، وليس أحد المجازين أولى من الآخر.
وعلى الثالث: يتضمن قولهم: " وأضفهم إلى اسمي يحلفون به "
وذلك يدل على وقوع الجحود أيضا.
أما ما في صحيحة سليمان من قوله: " هذا " أي الإضافة إلى الاسم
" لمن لم تقم له بينة " فلا يدل مفهومه إلا على أن مع قيام البينة لا يحلف،
وأما الحكم بها بدون وقوع النزاع والجحد أو بعد الجحود خاصة فلا.
وعلى هذا، فالأظهر عدم القضاء بالبينة فيما نحن فيه قبل السؤال، بل
تدل عليه صريحا رواية محمد بن مسلم: " إذا تقاضى إليك رجلان
فلا تقض للأول حتى تسمع من الآخر " (1) فلو جعل الحاضر الغير العالم
كالغائب لم يكن بعيدا.
وعلى الثاني: فإما أن يكون غائبا عن بلد الحكم أيضا، أو عن
المجلس دون البلد.
فعلى الأول: يجوز الحكم عليه بعد قيام البينة أو علم الحاكم، بل
يجب حيثما يجب الحكم، سواء كان بعيدا أو قريبا، بلا خلاف أجده، بل

(1) الفقيه 3: 7 / 23، التهذيب 6: 227 / 549، الوسائل 27: 216 أبواب آداب
القاضي ب 4 ح 2.
303

مطلقا كما قيل (1)، بل باتفاق أصحابنا كما في المسالك (2)، بل بالإجماع كما
صرح به والدي العلامة (رحمه الله) في المعتمد، بل بالإجماع المحقق، له..
ولمرسلة جميل: " الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة، ويباع
ماله، ويقضى عنه دينه وهو غائب، ويكون الغائب على حجته إذا قدم "
قال: " ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا بكفلاء إذا لم يكن مليا " (3)،
ونحوها روايته عن محمد (4).
وضعفهما غير ضائر، سيما مع الانجبار، وصحة الأولى على الأصح
عن ابن أبي عمير.
ويدل عليه أيضا عموم صحيحة زرارة المتقدمة (5) في حكم المقر
المماطل.
وأما الاستدلال بعمومات لزوم الحكم مطلقا (أو بالبينة) (6) فهو كان
حسنا لولا رواية محمد المخصصة هنا بصورة السماع من الخصم.
وأما المروي في قرب الإسناد: " لا يقضى على غائب " (7) فحمله

(1) انظر الرياض 2: 414.
(2) المسالك 2: 370.
(3) التهذيب 6: 296 / 827، الوسائل 27: 294 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 26 ح 1، بدل ما بين المعقوفين في " ح " و " ق ": عنه، وما أثبتناه من
المصدرين.. وليس فيهما: إذا لم يكن مليا.
(4) الكافي 5: 102 / 2، الوسائل 27: 294 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 26 ح 1.
(5) التهذيب 6: 299 / 836، الإستبصار 3: 47 / 154، الوسائل 27: 248 أبواب
كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 11 ح 2.
(6) ليست في " ق ".
(7) قرب الإسناد: 141 / 508، الوسائل 27: 296 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 26 ح 4.
304

بعضهم على التقية، وآخر على الغائب عن المجلس دون البلد، وفي
الوسائل على عدم الجزم بالحكم، لجواز قبول حجة الغائب (1). والأولى
رده بالمخالفة للإجماع هنا، مع أنه لا يفيد أزيد من المرجوحية.
وعلى الثاني: فإما يتعذر حضوره، أو لا يتعذر، وعلى الثاني: إما
علم امتناعه من الحضور، أو لم يعلم.
فإن تعذر فيجوز الحكم عليه أيضا بلا خلاف كما قيل (2)، بل عليه
الوفاق في المسالك (3)، والإجماع في المعتمد وغيره (4)، فإن ثبت الإجماع
وإلا فللكلام فيه مجال واسع، إذ لا يكون عليه دليل سوى عمومات
الحكم، وقد عرفت تخصيصها، وعمومات الحكم على الغائب، وستعرف
ما فيها.
وإن لم يتعذر، فإن امتنع فكذلك أيضا، ومن معاصرينا من جعل
ذلك أيضا محل الخلاف الآتي (5)، وهو غير صحيح، لتصريح الشيخ في
المبسوط بجواز الحكم في صورة الامتناع (6).
وإن لم يعلم امتناعه ففيه خلاف، فقال الشيخ في المبسوط: إن
الصحيح أنه لا يقضى عليه (7). واختاره والدي العلامة (رحمه الله) في المعتمد،
ومال إليه المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد، بل وكذلك في الصورتين

(1) الوسائل 27: 296.
(2) انظر الرياض 2: 414.
(3) المسالك 2: 370.
(4) الخلاف 2: 601.
(5) غنائم الأيام: 688.
(6) المبسوط 8: 162.
(7) المبسوط 8: 162.
305

الأوليين أيضا إن لم يثبت الإجماع على الجواز فيهما.
وذهب الفاضلان والشهيدان وفخر المحققين (1) وغيرهم من المتأخرين
ومتأخريهم (2) - بحيث يكاد أن يكون ذلك إجماعا منهم - إلى الجواز،
ونسبه في المسالك (3) وغيره (4) إلى المشهور.
نعم، يستشم من الدروس التوقف (5)، حيث ذكر المسألة ولم يبين
الترجيح، وهو الظاهر من القواعد أيضا، حيث قال: وإن كان حاضرا على
رأي (6).
وكيف كان، فدليل المشهور ما مر من العموم والخصوص.
واستدل أيضا بالخبر المستفيض عنه (صلى الله عليه وآله) - كما قيل (7) - الوارد في
حكاية زوجة أبي سفيان (8).
وفيه: أن الظاهر منه أنه من باب الاستفتاء والإفتاء دون الحكم،
لقولها: أيجوز أن آخذ من ماله؟ ولعدم تحقق طلب بينة عنها، ولا يمين،
ولا غيرهما من لوازم القضاء.

(1) المحقق في الشرائع 4: 86، المختصر: 285، الفاضل في التحرير 2: 187،
والتبصرة: 189، الشهيدان في اللمعة والروضة 3: 103، والمسالك 2: 370،
فخر المحققين في الإيضاح 4: 359.
(2) كالسبزواري في الكفاية: 269. والكاشاني في المفاتيح 3: 253، والفاضل
الهندي في كشف اللثام 2: 347.
(3) المسالك 2: 370.
(4) كالكفاية: 269.
(5) الدروس 2: 91.
(6) القواعد 2: 216.
(7) انظر المسالك 2: 370.
(8) صحيح مسلم 3: 1338.
306

وقوله (صلى الله عليه وآله): " خذي ما يكفيك " وإن كان ظاهرا في الحكم إلا أنه
يحمل على إرادة جواز الأخذ، بقرينة ما ذكر.
هذا، مع أنه لا دليل على حضور أبي سفيان في البلد، أو عدم
امتناعه، أو تعذره من الحضور..
ولا إطلاق فيه، لكونه قضية في واقعة، فلا يتم الاستدلال به
ولا بالعموم، لما مر من المخصص، بل ولا خصوص مجوزات الحكم على
الغائب، لما يأتي.
احتج الشيخ بأن القضاء على الغائب ضرورة يقتصر فيها على موضع
الحاجة (1).
والأردبيلي: بأنه إدخال الضرر على الغائب، إذ قد يتعذر عليه إقامة
الحجة بعد الحكم، وعلى تقديرها قد يتعذر عليه استيفاء الحق من
الخصم، أو الكفيل، لموت أو فقر.
ومرجع الأول إلى الأصل، والثاني إلى قاعدة نفي الضرر.
والأول: يندفع بالدليل.
والثاني: يخرج عنه أيضا به، مع أن ترك القضاء أيضا قد يكون
ضررا على المدعي.. وأيضا لو كان إيجاب الحكم لتعذر إقامة الحجة
لا وجه له ولو سلم فهو نادر، والضرر الحاصل من تعذر الاستيفاء - لو كان -
إنما هو من جهة دفع المال دون القضاء.
وقد يستقرب العدم بضعف الخبرين (2) سندا ودلالة.
أما الأول فظاهر.

(1) المبسوط 8: 162.
(2) أي مرسلة جميل ورواية محمد المتقدمتان في ص 252.
307

وأما الثاني فلعدم ظهور الخبرين في الحاضر في البلد الغير المتعذر
حضوره، ولعله لأجل ظهور قوله: " قدم " في المسافر، وكذا الحاجة إلى
دفع المال وأخذ الكفيل، مع أن الغائب يحتاج إلى متعلق مقدر، فهو إما
البلد أو المجلس، فيحصل فيه الإجمال الموجب للاقتصار على المتيقن..
ولو منع احتياجه إلى المتعلق وجعل لفظه مستعملا في الشخص الغير
الحاضر لصار أشكل، لمنع صدقه عرفا على من في البلد.
والجواب: أما عن ضعف السند فقد مر.
وأما عن ضعف الدلالة: فيمنع ظهور لفظ: " قدم " في المسافر لغة،
بل يصدق على قدوم المجلس أيضا، ودفع المال وأخذ الكفيل يمكن
تحققه كثيرا في الحاضر في البلد أيضا، والغائب مطلق كالأكل، فلا يحتاج
إلى متعلق خاص، فيتحقق كلما تحققت الغيبوبة.. إلا أنه يمكن أن يقال:
إنه ليس المراد مطلق الغيبوبة كالأكل، إذ كل شخص غائب عن غير موضع
واحد، فالمراد: الغائب عن موضع خاص، ولا دليل على أنه مجلس
الحكم، فيدخله الإجمال المسقط للاستدلال.. ولا يبقى دليل على جواز
الحكم على مثل ذلك الغائب، وقد عرفت حال عمومات الحكم.
فإذن قول الشيخ هو الأظهر وعليه العمل، (وجانب العدم أحوط) (1).
المسألة الثانية: يكفي في جواز القضاء عليه إقامة البينة عليه،
ولا يحتاج إلى يمين. وذهب جماعة (2) - منهم الوالد العلامة - إلى إحلاف
المدعي، بل ادعى عليه الشهرة، وقد مر دليلهم بجوابه في بحث الدعوى
على الميت.

(1) بدل ما بين القوسين في " ح ": وإن كان مراعاة جانب العدم أحوط.
(2) كالسبزواري في الكفاية: 269.
308

المسألة الثالثة: إذا حكم على الغائب فهل يدفع إلى المدعي المدعى
به، أم لا؟
المعروف من مذهب الأصحاب: نعم، ويدل عليه الخبران (1).
وهل هو على الوجوب بعد طلب المدعي، أم الجواز؟
الخبران لا يثبتان أزيد من الجواز، فهو الوجه.
وأما عمومات النهي عن المنكر ونحوها فلا تفيد هنا، إذ مع بقاء
الغريم على الحجة وعدم الإحاطة بما يحتج به لا يعلم منكر، ولا حق ثابت
بلا كلام حتى يجب استيفاؤه.
وهل يتوقف جواز الدفع على أخذ الكفيل، كما ذهب إليه الشيخ في
النهاية والقاضي والحلي على ما حكي عنهم، والمحقق في كتابيه (2)،
وجمع من المتأخرين (3)، منهم الوالد العلامة؟
أم لا، كما حكي عن ابن حمزة (4)؟ بل هو مذهب كل من أوجب
اليمين هنا، فاكتفوا بالتحليف عن التكفيل.
الحق هو: الأول، للخبرين المتقدمين، ولكن التكفيل فيهما مقيد
بعدم كون المدعي مليا، فمع ملاءته لا تكفيل، وهو كذلك، لذلك.
وظاهر أن علة التكفيل والتقييد إنما هي دفع الضرر عن الغريم لو ثبت
استحقاقه الاسترداد، وعلى هذا فيجب أن يكون الكفيل من يسهل الاستيفاء
عنه، وكذلك الملاءة، فلو كان مليا ولكن كان المال المحكوم به له خطيرا

(1) أي مرسلة جميل ورواية محمد، المتقدمتان في ص 304.
(2) النهاية: 352، وحكاه عن القاضي في الرياض 2: 414، الحلي في السرائر 2:
34، المحقق في الشرائع 4: 85، والنافع: 285.
(3) كابن سعيد في الجامع للشرائع: 527، والعلامة في القواعد 2: 216.
(4) الوسيلة: 214.
309

زائدا عن قدر ملاءته لا يكتفى بها.
وبالجملة: مقتضى العلة المستفادة: تحصيل الوثوق بسهولة الاستيفاء
ودفع الضرر عن الغريم لو تمت حجته.
المسألة الرابعة: جواز الحكم على الغائب يختص عندنا - كما
قيل (1) - بحقوق الناس مطلقا، مالا كانت أو عقدا أو غيرهما، دون حقوق
الله المحضة، فلا يجوز الحكم فيها على الغائب، وقيل: الظاهر أنه
إجماعي (2)، وصرح والدي في المعتمد بالإجماع عليه.
ويدل عليه - بعد ظاهر الإجماع - الأصل، وقوله: " ادرءوا الحدود
بالشبهات " (3) فإن احتمال إقامة الغائب الحجة شبهة وأي شبهة؟!
وشمول العمومات لحقوق الله غير معلوم، سيما ما تضمن منه مثل
قوله: " احكم بين الناس " و: " بينهم " و: " اقض لهم " (4).
وأما الخبران وإن كانا شاملين لها إلا أنهما يعارضان رواية قرب
الإسناد (5) المنجبرة في المورد، فإما ترجح - لمرجوحية الخبرين بمخالفة
العمل فيه أو يتساقطان، فيرجع إلى الأصل، مع أن نفس مخالفتهما للعمل
في المورد يسقط حجيتهما فيه.
وإذا كانت الدعوى فيما يتضمن الحقين - كالسرقة - فالمشهور فيه
أيضا أنه يحكم على السارق بغرامة المال بعد الثبوت، بخلاف القطع،

(1) انظر الرياض 2: 415.
(2) غنائم الأيام: 688.
(3) الفقيه 4: 53 / 190، الوسائل 28: 47 أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة
ب 24 ح 4.
(4) انظر الوسائل 27: 229 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 1.
(5) المتقدمة في ص 252.
310

فيصبر حتى يحضر فيثبت عليه، ولا منافاة بين الحكمين، وهو كذلك،
ويظهر وجهه مما مر.
وتردد المحقق في الشرائع (1)، ووجه العدم هو كونهما معلولين لعلة
واحدة، فلا ينفكان.
ويدفعه: أن كون السرقة علة تامة للقطع ممنوع، بل هو مع حضور
المدعى عليه.
وقد يعتذر بأن علل الشرع معرفات، ولا مانع عن تخلفها عن
المعلول، كما لو أقر بالسرقة مرة فتثبت الغرامة دون القطع، وكذا لو أقر
المحجور عليه بالمال فيثبت الحكم في القطع دون المال.
وفيه: أن المعرف معناه: أن يعرف العالم بالأحكام المستأهل
لمعرفتها ثبوت الحكم بسبب وجوده، فلا يتخلف عنه.. والله العالم.
المسألة الخامسة: قد دل الخبران وصرح الأصحاب: بأن الغائب
المحكوم عليه على حجته، فإذا حضر فادعى فسق الشهود، أو الرد، أو
الإبراء، أو تحقق رضاع محرم في دعوى النكاح، أو عدم أهلية الحاكم، أو
وجود بينة معارضة لبينة، أو غير ذلك من الحجج، يحكم له بمقتضاه.
وهل يشترط أن تكون إقامة الحجة عند الحاكم الأول، أو يجوز له
إقامتها عند حاكم آخر؟
الظاهر هو: الثاني، للأصل، إلا في جرح الشهود وتعارض البينات،
لأنهما من تتمة الحكم الأول، ولم يثبت جواز إتمام حكم واحد من
حاكمين، ولا حجية الجرح الثابت عند أحدهما، ولا الشهادة المؤداة عنده

(1) الشرائع 4: 86.
311

على الآخر.
والحاصل: جواز الإقامة عند الغير إذا كانت الحجة دعوى أخرى
طارئة على الأولى، وعدمه إذا كانت نقضا في الدعوى الأولى.
نعم، الظاهر أنه يجوز لهما بعد حضور الخصم إعادة الترافع عند
الغير، فتقام الحجة عنده بعد إقامة المدعي حجته، لأن القضاء الأول غير
تام بعد، فيجوز تركه والرجوع إلى الغير، ولذا يؤخذ الكفيل.
وعلى هذا، فلو مات الحاكم الأول أو سافر سفرا يتعسر الوصول إليه
قبل إقامة الغريم حجته بجرح الشهود أو معارضة البينة يعيدان المرافعة عند
حاكم آخر، فتأمل.. والله العالم.
312

الفصل الرابع
فيما إذا كان المدعى عليه
أو المدعي أو كلاهما غير صاحب الحق
وفيه بحثان:
البحث الأول
فيما إذا كان المدعى عليه المخاصم
مع المدعي غير الغريم الذي تعلق الحق به لو كان
وهو إما يكون وارثا للغريم، أو مملوكا، أو وكيلا له، أو وليا بالأبوة،
أو الوصاية، أو الحكومة، أو القيمومة.. فهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: إذا كان المدعى عليه وارثا للغريم، فيشترط في
سماع دعواه أمران:
أحدهما: ثبوت موت المورث.
والثاني: تخلف مال عنه تحت يده.
فإن اعترف المدعي بانتفاء الأمرين لم تسمع الدعوى، لكونها لاغية.
وإن اعترف الوارث بهما سمعت الدعوى قطعا.
وإن اختلفا فيهما أو في أحدهما فتحصل حينئذ ثلاث دعاو أو
دعويان: دعوى الأمرين، أو أحدهما، ودعوى المال.. ويبدأ بأي من
الثلاثة أراد، لعدم دليل على تقديم أحدها.
وقد يتراءى هاهنا إشكال، وهو أن هذه الثلاثة ليست بدعوى واحدة،
313

لجواز تغاير أحكامها، فتثبت إحداها بالبينة، والأخرى بالشاهد واليمين،
والثالثة باليمين المردودة وبالشاهدين واليمين، أو تثبت اثنين منها
ويتصالحان في الأخيرة، فهي دعاو متعددة، وصحة كل منها - أي صحة
سماعها - متوقف على ثبوت الأخرى الموقوف على صحتها، وكونها
مسموعة أيضا يتوقف على صحة الأخرى.
ودفعه: أن سماع كل منها موقوف على احتمال تحقق المدعى به فيها
وفي الأخريين، وهو متحقق غير متوقف على شئ، وفائدة كل منها
التسلط على أخذ المال بعد تمام الدعاوى الثلاث، أو رفع تسلطه على
الوارث. وبذلك تفترق الدعوى على الوارث عن الدعوى على المورث بأن
الأخيرة دعوى واحدة غير متوقف مقتضاها على شئ آخر، بخلاف
الدعوى على الوارث. وقد تفترق أيضا بأن اليمين في الدعوى مع المورث
على البت في نفي المدعى به، وهنا على نفي العلم.
وفيه: أن المورث أيضا إن قال: لا أدري، وادعى المدعي علمه
يحلفه على نفي العلم، كما أن الوارث أيضا إن ادعى نفي المدعى به..
وهو أمر ممكن، كما إذا ادعى ثمن الضيعة الفلانية على المورث، وعلم
الوارث أداءه في حضوره، أو قال: إني أقرضت مورثك المبلغ الفلاني في
اليوم الفلاني في المكان الفلاني، وعلم هو انتفاءه، يحلف على البت في
نفي المدعى به، كما صرح به بعض فضلائنا المعاصرين أيضا (1).
ولا دليل على أن يمين الوارث منحصر في يمين نفي العلم،
فتأمل.

(1) المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام): 692.
314

فرعان:
أ: لو حلف الوارث على نفي العلم، فهل تسقط دعوى المدعي في
أصل الحق وإن حصلت له بينة بعد وأراد إقامتها، أم لا؟
قال بعض المعاصرين: فيه نظر، والحق: أن الأدلة المتقدمة لا دلالة
فيها على ما نحن فيه، ولا يبعد سماع البينة حينئذ (1). انتهى.
أقول: ما نفى البعد عنه قريب جدا، بل هو كذلك، لأن المستفاد من
الأدلة الدالة على سقوط الحق باليمين ليس إلا سقوط ما حلف على نفيه،
وهو العلم فيما نحن فيه، بل صرح بذلك في صحيحة ابن أبي يعفور،
وفيها: " وكانت اليمين قد أبطلت كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه
عليه " (2).
نعم، لو أراد إقامة البينة بعده على إثبات علمه بإثبات إقراره ونحوه
لا تسمع.
ب: لو رد الوارث المدعى عليه العلم باليمين، فهل يتعين عليه
الحلف على علمه، أو يكفي الحلف على ثبوت الحق، فقد يسهل على
المدعي الحلف عليه دون الحلف على علم الوارث؟
قال بعض المعاصرين: الظاهر أن الخيرة بيد الحالف لا المحلف،
فيجوز له الحلف على ثبوت الحق (3).

(1) غنائم الأيام: 692.
(2) الكافي 7: 417 / 1، الفقيه 3: 37 / 125، التهذيب 6: 231 / 565، الوسائل
27: 244 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 9 ح 1.
(3) غنائم الأيام: 692.
315

أقول: فيه نظر، بل الحق تعين الحلف على العلم، لأن الحلف أمر
توقيفي، ولم يثبت جواز حلف المدعي إلا مع الرد، والرد لا يكون إلا على
إثبات ما توجه على المنكر، فكما لا يجوز للمدعي إحلاف الوارث النافي
للعلم إلا بنفي العلم، فبعد رده لا يجوز له الحلف إلا بإثبات العلم، لأن
مخيره ليس ما رده.
ومنه يظهر أنه ليست الخيرة بيد المحلف أيضا، بل تتعين شرعا.
وأما ما مر في بحث الحلف من جواز حلف المنكر على نفي الأعم
مع دعوى الأخص، فلكون الأخص مندرجا تحت الأعم ومستلزما له،
وليس كذلك المورد، فإن ثبوت الحق واقعا لا يستلزم علم الوارث.
المسألة الثانية: إذا كان المدعى عليه مملوكا، فهل الغريم هو أو
مولاه؟
اختلف كلام الأصحاب فيه، فقال المحقق في الشرائع: الغريم مولاه،
سواء كانت الدعوى في المال أو الجناية (1). بمعنى: أنه إذا أقر المملوك
لم يسمع، بل يترتب الأثر على إقرار مولاه، فيؤخذ بإقراره المال المدعى
على المملوك أصالة أو بواسطة الجناية خطأ.. ولو أنكر المملوك لا يترتب
عليه أثره من اليمين وردها والقضاء مع النكول أو مع رد اليمين، وأن ذلك
كله إلى المولى.
وكذا القصاص، فإنه لا يقتص منه بإقراره، بل يقتص منه بإقرار مولاه
بالموجب. وكذا لو ثبت المدعى بالبينة. ويتوجه اليمين على المولى.
وبالجملة: المدعى عليه في الدعوى على المملوك هو المولى

(1) الشرائع 4: 90.
316

لا المملوك مطلقا، وإليه ذهب الفاضل في التحرير والإرشاد والقواعد (1).
إلا أن في الأخير قرب توجه اليمين في موردها على العبد، ومع
نكوله عنها تثبت الدعوى في ذمته، يتبع بها إذا أعتق.
وفي باب الإقرار منه حكم بعدم قبول إقرار العبد على نفسه مطلقا،
لكن يتبع بالمال بعد العتق، وحكم بعدم قبول إقرار المولى عليه مطلقا،
لكن في الإقرار عليه بالجناية يجب المال ويتعلق برقبته (2).
وعن الشيخ في المبسوط: إن الغريم في الجناية الموجبة للقصاص
العبد مطلقا، وفي موجب المال المولى كذلك (3).
وقال في المسالك: إن الأقوى أن الغريم كل واحد من العبد
والمولى، فإن وقع النزاع مع العبد لم ينفذ إقراره معجلا مطلقا، وثبت بعد
العتق مطلقا، فيتبع بالمال وتستوفى منه الجناية.
وإن أنكر وحلف انتفت عنه الدعوى مطلقا، وإن ردها أو نكل اتبع
بموجبها بعد العتق كما لو أقر.
وإن وقع النزاع بينه وبين المولى - سواء كان قد وقع بينه وبين العبد
أم لا - فإن أقر بالمال لزم مقتضاه معجلا في ذمته، أو متعلقا برقبة العبد
على حسب موجب الدعوى.
وإن أقر بالجناية لم يسمع على العبد بالنسبة إلى القصاص، ولكن
يتعلق برقبة المجني عليه بقدرها، فيملكه المقر له إن لم يفدها المولى (4).

(1) التحرير 2: 190، القواعد 2: 211.
(2) القواعد 1: 278.
(3) المبسوط 8: 215.
(4) المسالك 2: 374.
317

واستشكل في الكفاية - بعد نقل قوله - في قوله: بعدم نفوذ إقراره
معجلا مطلقا، على القول بأن العبد يملك شيئا، أو على بعض الوجوه.
وكذا في قوله: إن ردها أو نكل اتبع بموجبها بعد العتق، على القول
المذكور. وكذا في قوله: وإن وقع النزاع بينه وبين المولى، فإن أقر بالمال
لزم مقتضاه معجلا في ذمته، أو متعلقا برقبة العبد (1). انتهى.
وقال المحقق الأردبيلي - بعد نقل القول الأول -: وفيه تأمل ظاهر، إذ
قد يمنع لزوم المال على السيد بمجرد إقرار أن مملوكه أتلف مال الغير أو
أخذه، وأيضا قد يترتب على إقراره أثر، بأن يتبع بعد العتق.
نعم، لو كان المدعى مالا موجودا في يد المولى صح ذلك.
وكذا في القصاص، فإنه قد يترتب على إقراره أثر، بمعنى: أنه إذا
أقر بالموجب وأنكر السيد يجب عليه القصاص بعد العتق.
وأيضا إثبات القصاص عليه بالفعل مع إنكاره وعدم البينة بمجرد
إقرار السيد مشكل جدا، فإن للعبد أيضا حقا، كيف وهو المتألم؟!
نعم، يمكن أن يتملك المجني عليه منه حينئذ بقدر الجناية.
وأيضا كيف يتوجه اليمين إلى السيد مع إنكاره وإقرار العبد، ويحلف
على نفي فعل الغير مع إقرار الغير به؟!
نعم، يمكن الإحلاف على نفي العلم، وكأنه المراد. انتهى.
أقول: إن ما استشكله في الكفاية على قول صاحب المسالك - على
القول بتملك العبد - فهو في موقعه جدا، وكذا كثير مما أورده الأردبيلي
على القول الأول.

(1) الكفاية: 271.
318

وكذا يشكل ما ذكروه من أخذ العبد بالإقرار حين الرقية بعد العتق.
وتحقيق الكلام: إن الدعوى على العبد - سواء كان هو المخاطب
بالدعوى أو المولى - إما مالية، أو بدنية، أو غيرهما.
فإن كانت مالية، فإما يتبعها إقرار أو لا، فإن تبعها الإقرار فإما يكون
هو إقرار المولى، أو العبد، أو هما.
فإن أقر المولى خاصة، فتتفرع المسألة على أن الحقوق المالية
المتعلقة بالعبد هل تتعلق بالمولى مطلقا، أو على القول بعدم تملك العبد
شيئا؟
فإن ثبت ذلك ينفذ الإقرار في حق المولى، لأنه إقرار على نفسه، وإلا
فلا يثبت شئ على المولى ولا على العبد مطلقا.
وإن أقر العبد خاصة فلا ينفذ إقراره في حق المولى مطلقا، للأصل..
ولا في حق نفسه، على القول بعدم تملكه وتعلق ما يتعلق بسببه بالمولى،
لا في حال الرقية ولا بعد العتق، أما حال الرقية فظاهر، وأما بعدها فلأن
على ذلك ليس إقرارا على نفسه حتى تكون الرقية مانعة عن نفوذه فيؤثر
بعد رفع المانع، بل إقرار في حق الغير، ولذا لو أقر المولى حينئذ ثبت
الحق عليه، ولا معنى لثبوت حق واحد على شخصين، وأيضا تعلقه على
العبد بعد العتق فرع كونه إقرارا على نفسه، وكونه كذلك فرع تعلقه عليه
بعد العتق، وهذا دور.
وأما على القول بتملكه وتعلق الحقوق بنفسه فينفذ إقراره في حقه.
فإن أقرا معا فالنافذ إقرار المولى على نفسه إن قلنا بعدم تملك العبد
وتعلق الحقوق بالمولى، ويلغى إقرار العبد، وإقرار العبد على القول الآخر
ويلغى إقرار المولى.
319

وإن لم يتبع الدعوى إقرار أصلا، فإما تكون للمدعي بينة أو لا..
فإن كانت له بينة يثبت الحكم المشهود به على المولى إن قلنا بتعلق
الحقوق المالية بسبب العبد على المولى وعدم تملك العبد، وعلى العبد إن
قلنا بتملكه وتعلق الحقوق بنفسه، وعليه بعد العتق إن لم يثبت تعلقها
بالمولى وقلنا بعدم تملكه.
وإن لم تكن له بينة فالحلف على من ينفذ إقراره كما مر، والنكول
كالإقرار.
وإن كانت الدعوى بدنية - حبسا، أو ضربا، أو جرحا، أو قتلا -
فتثبت بالبينة، وبإقرارهما معا، وبإقرار أحدهما ونكول الآخر، أو رده
الحلف وحلف المدعي، ولا يثبت بإقرار أحدهما خاصة شئ، ولا بنكوله
ولا بيمينه المردودة شئ أصلا، حتى على العبد بعد عتقه، لأن حال الرقية
ليس إقرارها على نفسه محضا.
وإن كانت الدعوى غير المالية والبدنية - كالطلاق - فهو كسائر من
يدعى عليه إن لم يكن له تعلق بالمولى.. والله العالم.
المسألة الثالثة: لو كان المدعى عليه وكيلا لصاحب الحق - ومنه
الأمين في المعاملات - أو وليا له بأحد وجوه الولاية، فلو أثبت المدعي
حقه بالبينة أو الشاهد واليمين يحكم له، وإلا فلا يفيد إقرار المدعى عليه،
لأنه في حق الغير، ولا يحلف، إذ لا حلف للغير، ولأن الحلف إنما يكون
فيما يثبت الحق بترك الحلف بالإقرار أو النكول، وليس كذلك في حق
الغير.
وليس له رد الحلف إلا في الوكيل إذا كان وكيلا في ذلك أيضا عموما
أو خصوصا، لما مر في بحث يمين المنكر في المسألة السادسة، ولأنه
320

ليس للوكيل والولي إلا الإتيان بمصلحة الموكل والمولى عليه، ولا مصلحة
في رد الحلف.
ولا يترتب أيضا على جوابه - بأنه ليس لموكلي، أو لمن لي الولاية
عليه - ما يترتب على جواب صاحب الحق بذلك، لأنه إقرار على الغير.
فإن قيل: فعلى هذا فما فائدة مطالبة الجواب عن الوكيل والولي؟ بل
ما فائدة الدعوى عليهما؟! بل يحكم حينئذ للمدعي كما يحكم على
الغائب له.
قلنا: فائدته أنه لعله يجيب بإبراء، أو رد، أو نقل ويثبته، أو
يستحلف إن كان وكيلا فيه. وكذا يظهر في جرح الشهود وتعارض البينات
ونحوها.
ويظهر من ذلك أنه لو باع أمين شخص شيئا منه لزيد، فادعى زيد
بعده العين، أو اشتراط خيار في العقد، أو نحوهما، ولا بينة، لا تسلط له
على حلف الأمين.. وكذا لو اشترى له.
321

البحث الثاني
فيما إذا كان المدعي غير صاحب الحق
وفيه أيضا مسائل:
المسألة الأولى: لو كان المدعي وكيل صاحب الحق، وكان هو
غائبا، وأقام الوكيل البينة له، وثبتت دعواه، فقال الغريم: أبرأني صاحب
الحق، أو: وفيته حقه، وأراد التأخير إلى حضور الموكل واستحلافه، ففي
إلزامه على الحق أو تمكنه وجهان:
الأول: مختار الشرائع والتحرير - وإن احتمل فيه التوقف أخيرا -
والقواعد والإرشاد والإيضاح (1) وغاية المراد والمحقق الأردبيلي والمعتمد،
وبعض المعاصرين (2)، ومال إليه في المسالك (3)، وحكي عن القفال من
العامة (4).
وهو الأقرب، لثبوت الحق على الغريم، ولا يبطل بالاحتمال
المخالف للأصل.
قيل: ولأن دعوى الغريم على الموكل فلا تسقط دعوى آخر به،
ولأن ذلك يوجب انتفاء فائدة التوكيل، لإمكان هذه الدعوى لكل خصم،
وهو - مع أنه خلاف المعلوم من المذهب - مستلزم للعسر والحرج (5).

(1) الشرائع 4: 86، التحرير 2: 187، القواعد 2: 216، الإيضاح 4: 358.
(2) غنائم الأيام: 689.
(3) المسالك 2: 371.
(4) حكاه عنه في المسالك 2: 371.
(5) غنائم الأيام: 689.
322

وفيهما نظر، أما الأول فلرجوع الدعوى إلى الوكيل أيضا بعدم
استحقاقه الأخذ لأجل إبراء موكله أو أخذه، بل الدعوى معه حقيقة وما
تشبث به مستند دعواه.
وأما الثاني، فلأن مجرد الإثبات أيضا فائدة عظيمة، إذ لعل الموكل
لا يتمكن منه بعد ذلك.
ولم أعثر على مصرح بالوجه الثاني، نعم ظاهر الكفاية التوقف (1)،
وليس لهذا الوجه دليل تام.
وهل يسلم المال إلى الوكيل مع الكفيل، أو بدونه؟
استقرب الأردبيلي الأول، لأن فيه جمعا بين الحقين.
والوجه: الثاني، للأصل، وعدم ثبوت حق للغير يلزم جمعه.
هذا إذا لم يكن الوكيل وكيلا مطلقا، أو في خصوص دعوى الإبراء أو
الدفع أيضا، وإلا فاللازم عدم إلزامه الغرامة حتى تتم الدعوى الثانية، كذا
قيل (2).
وهو حسن إن لم يعزل نفسه بعد إثبات الدعوى الأولى، إلا أنه لو
عزل لم يتسلط على المطالبة أيضا، إلا أن يقال بجواز عزله في بعض ما
وكل فيه.
هذا كله إذا لم يصبر الوكيل، وإلا فيجوز له التأخير عن أصل الدعوى
وعن المطالبة، لعدم لزوم فعل ما وكل فيه عليه، إلا أن يكون قد أوجب
على نفسه بوجه من الوجوه، فتأمل.
ثم إن إلزام الغريم على دفع المال إنما هو إذا كان الوكيل وكيلا في

(1) الكفاية: 269.
(2) غنائم الأيام: 689.
323

الأخذ أيضا، وإلا فيكتفي بإلزامه الغريم على إيصال المال إلى مالكه.
فرع: قد مر سابقا سماع دعوى الوكيل بالوكالة الادعائية، فإن أثبت
دعواها بالبينة يحكم بها، ولكن لا يرد إليه المال ولو ادعى الوكالة في
أخذه، لعدم الدليل.. وإن لم يثبت بالبينة فله إحلاف الغريم، لعمومات
اليمين على المنكر. فإذا جاء صاحب الحق، فإن قبل الوكالة فهو، وإلا فإن
اتفق الثلاثة على عدم التوكيل لغى الحكم، وإن اختلفوا فهي دعوى أخرى
يحكم فيها بمقتضى الشريعة.
فإن قيل: اليمين حق لصاحب الحق، فلا يجوز لغيره مطالبته
وإسقاطه بلا دليل - كالمال - سيما إذا أنكر الغريم الوكالة.
قلنا: هو يطلب حق نفسه، لأن للوكيل - ولو كان ادعائيا - حقا على
الغريم من جهة عمومات البينة والحلف والحكم، فهذا الحلف حق له من
جهة كونه مدعيا، فيطالبه، فإن قبله صاحب الحق فهو، وإلا فله المطالبة
أيضا، فتأمل.
المسألة الثانية: لو كان صاحب الحق في زمن الغيبة الإمام الغائب (عليه السلام)،
كأن يكون لميت لا وارث له مناسبا دينا على غيره، أو اعترف أحد حال
حياته بالاشتغال بالمظالم المجهول مالكها - على القول بكونها مالا للإمام،
أو علم اشتغاله بها من جهة أخرى، أو علم ذلك على حي - فإن كان النائب
العام عالما بالدين والمظالم وببقائهما وكذب المنكر فله الحكم بوجوب
الأداء ومطالبته منه وأخذه، لا من باب القضاء والترافع، بل من باب الأمر
بالمعروف ونحوه مما مر في بحث حكم الحاكم بعلمه، ولكن حصول مثل
ذلك العلم له نادر جدا.
فإن أنكر الغريم ولم يتمكن النائب العالم عن استيفاء الحق عن الإمام
324

بنفسه ترافع معه بنصب وكيل أو نائب آخر، فإن أقام البينة حكم له، وإلا
فله حلفه إن رأى المصلحة للحق، وله ترك الدعوى مع المصلحة، وله
المصالحة معها أيضا.
وإن لم يعلم به النائب، فإن كانت هناك بينة فللنائب الادعاء الظني،
فيترافعان عند حاكم آخر - لعدم دليل على نفوذ حكمه فيما ادعاه بنفسه -
أو يوكل غيره من جانب الإمام لا من جانب نفسه، فيترافع ذلك الغير
والمدعى عليه عنه ذلك الحاكم، ويحكم بمقتضاه.
فإن ثبت بالبينة فيحكم، وإلا فله إحلافه بالظن الحاصل من البينة
الغير المقبولة، أو الشاهد الواحد، أو كونه في روزنامجته (1)، أو غير ذلك.
فإن حلف سقطت الدعوى، وإن نكل ثبت عليه الحق، ولا رد هنا.
وإن اعترف بالحق وادعى الأداء فعليه الإثبات، وإن لم يثبت فعليه
الأداء، لأدلة النكول، من دون يمين على المدعي، للأصل.. وكذا لا يمين
على المدعي إن كان هناك شاهد واحد، بل يتوجه اليمين على المدعى
عليه، إما يحلف فيتخلص، أو ينكل فيحكم عليه.
ثم إن الإحلاف فيما له ذلك ليس واجبا مطلقا، بل قد يجب وقد
لا يجب، بل قد لا يجوز، وإنما يتبع ذلك مصلحة حق الإمام.
وقال الشيخ في المبسوط هنا بحبس المدعى عليه حتى يعترف، أو
يحلف (2). وهو مبني على عدم حكمه بالنكول، وكذا حكم في الدروس
أيضا (3).

(1) كلمة فارسية تعني: دفتر المذكرات اليومية.
(2) المبسوط 8: 214.
(3) الدروس 2: 90.
325

واستشكل المحقق في الشرائع فيه بأن الحبس عقوبة لم يثبت
موجبها (1).
واستوجه في المسالك القضاء بالنكول (2)، ولو لم يقل به في غير
ذلك الموضع.
وإن كان المال المدعى أنه للإمام عينا مجهولا مالكها، وادعى أحد
أنها له، فيحكم بها له، إذ كل عين ادعاها أحد ولم يعرف مالكها فيحكم بها
له، ولا يفيد علم الحاكم أو الشاهد، لأن غايته أنهما لا يعرفان مالكها.
نعم، لو فرض علمهما بكذبه أنه مالكها بوجه من الوجوه فيفيد،
ولكن من أين يحصل ذلك العلم؟!
المسألة الثالثة: لو كان المدعي وصيا لميت وادعى وصيته
للمساكين، فإن أقام البينة فيحكم، وإلا فله إحلاف الوارث، فإن حلف
سقطت الدعوى، وإن نكل ثبت الحق - كما نقله في المسالك عن قوم (3) -
لأدلة ثبوت الحق بالنكول، واستوجهه في المسالك هنا أيضا وإن لم يقل
بالحكم بالنكول في غيره.
ولا رد هنا، ولا يمين جزء البينة إذا كان هناك شاهد واحد.
وقيل: يحبسهم حتى يحلفوا أو يعترفوا (4). وإليه ذهب في المبسوط
والدروس (5). ولا دليل عليه، ولذا قال في القواعد في هذه المسألة وفي

(1) الشرائع 4: 92.
(2) المسالك 2: 375.
(3) المسالك 2: 375.
(4) حكاه في المبسوط 8: 214 بقوله: وقال آخرون يحبس الورثة حتى يحلفوا أو
يعترفوا.
(5) المبسوط 8: 214، الدروس 2: 90.
326

سابقتها: إن فيه نظرا (1).
وأما إحلاف الفقير فلم يقل به أحد، ولا وجه له أيضا، لعدم تعين
الحق لفقير خاص.
ولو تعدد الوارث واعترف البعض ثبتت حصته، ويعمل في الباقي بما مر.
ولو كان المدعي وصيا على الثلث وادعى دينا لميت، فكذلك أيضا.
ولو كان وصيا على طفل، فادعى دينا على رجل ولا بينة له،
يستحلف الرجل، فإن حلف يسقط، وإن نكل يثبت.
وقيل: إن لم يحلف توقف الدعوى حتى يبلغ الطفل ويحلف
ويحكم له (2).
ولا وجه له، وإن قال في المسالك: إنه الذي يقتضيه مذهبنا..
ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى مذهبهم في رد اليمين على المدعي مع
النكول، وحينئذ كان للإيقاف وجها، وكذا إذا كان له شاهد واحد كما مر.
المسألة الرابعة: قال في الشرائع والمسالك: إنه لو كان للميت دين
على آخر، فالمحاكمة والمرافعة فيه للوارث وإن كان على الميت دين
يحيط بالتركة أو يزيد عليها، وليست المحاكمة حينئذ للغرماء، واستدلا بأن
الوارث إما مالك أو قائم مقام المالك (3).
قال في المسالك: وعلى هذا، فلو توجه اليمين مع الشاهد أو يرد
الغريم فالحالف هو الوارث وإن كان المنتفع بالمال هو المدين (4). انتهى.

(1) القواعد 2: 212.
(2) انظر المسالك 2: 375.
(3) الشرائع 4: 92، المسالك 2: 375.
(4) المسالك 2: 375.
327

ونسب في الكفاية ذلك إلى الأصحاب، مشعرا بدعوى الوفاق، بل
تشعر به نسبة الخلاف إلى بعض العامة خاصة، قال: لا يحلف ليثبت مالا
لغيره.
قالوا: فلو ادعى غريم الميت مالا له على آخر مع شاهد، فإن حلف
الوارث ثبت، وإن امتنع الوارث من الحلف لم يكن للغريم الحلف عند
الأصحاب، وعلل بأن التركة تنتقل إلى الوارث، أو تكون على حكم مال
الميت، وعلى التقديرين خارجة عن ملك الغريم. وفيه خلاف لبعض
العامة. ولا يجبر الوارث على الحلف (1). انتهى.
ويشعر أيضا كلام المسالك بدعوى الوفاق، حيث قال: وإن امتنع الوارث
من الحلف لم يكن للغريم الحلف عندنا، لأنه لا يثبت بيمينه مالا لغيره (2).
وقال بعض الفضلاء المعاصرين: الظاهر أنه لا خلاف فيه بين
الأصحاب.
قال في القواعد في هذه المسألة: المحاكمة للوارث على ما يدعيه
لمورثه وعليه، ولو أقام شاهدا حلف هو دون الديان، فإن امتنع فللديان
إحلاف الغريم، فيبرأ منهم لا من الوارث، فإن حلف الوارث بعد ذلك كان
للديان الأخذ من الوارث إن أخذ.. وهل يأخذون من الغريم؟ إشكال (3).
انتهى.
أقول: ما ذكره - وكذا ذكره غيره (4) أيضا من ثبوت الإحلاف للغريم

(1) الكفاية: 273.
(2) المسالك 2: 377.
(3) القواعد 2: 212.
(4) كالفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 342.
328

مع امتناع الوارث عن الحلف - ينافي نفي المحاكمة للغريم مطلقا، بل يثبت
له حقا فيها أيضا وإن قدم الوارث وخص الغريم بالإحلاف دون الحلف.
بل تنظر شيخنا الشهيد (قدس سره) في الدروس في نفي الحلف عن الغريم
أيضا، قال: ولا يمين لإثبات مال الغير، وفيما له به تعلق نظر - كغريم
الميت إذا أقام له شاهدا بدين، والمرتهن إذا أقام شاهدا بملك الراهن،
وامتنع من اليمين - من النفع، ومن ثبوت الملك أولا للغير (1). انتهى.
ثم أقول أولا: إنهم - كما ذكر - فرعوا اختصاص المحاكمة بالوارث
وإثبات الحلف له دون الغريم بأنه لا يمين لإثبات مال الغير، مع أنه جار
في الوارث أيضا على القول بعدم انتقال التركة إلى الوارث، كما هو الحق
المشهور، فإنه على ذلك القول إما يكون مال الديان، أو في حكم مال
الميت، وعلى التقديرين ليس مالا للوارث.
والقول - بأنه ينتقل أولا إلى الوارث ثم منه إلى الغريم - قول
بلا دليل، كيف؟! وقد قال الله سبحانه: * (من بعد وصية يوصي بها أو
دين) * (2).
ومخالفة ظاهر الآية ببعض الاعتبارات الوهمية لا وجه له.
والقياس على المفلس ضعيف، فإن المال ثابت كونه له، والتفليس
لم يخرجه من ماله، بخلاف المورد.
وكونه في حكم مال الميت لا يجعله مال الوارث.
وكونه قائما مقام الميت مطلقا ممنوع، سيما فيما إذا لم ينتقل إليه
شئ، ولو سلم فثبوت جميع أحكامه له ممنوع، ولو سلم فحلف الميت

(1) الدروس 2: 95.
(2) النساء: 11.
329

في إثبات ما في حكم ماله لو كان حيا ممنوع، وإنما هو لإثبات ماله، مع أن
عدم الانتقال إلى الديان أيضا محل كلام.
وغاية ما يستدلون به له أنهم لو أبرأوا الميت عن الدين ينتقل المال
إلى الوارث، ولا شئ من مال الشخص ينتقل بالإبراء إلى غيره.
وهو استدلال ضعيف، إذ لأحد أن يقول: إن الإبراء ليس بناقل، بل
هو سبب لبراءة ذمة الميت، فهي رافع للمانع عن الانتقال، وسبب الانتقال
الإرث الخالي من المانع.
وثانيا: إن المحاكمة والحلف والإحلاف لا تختص بإثبات المال، بل
تجري في دعوى الحقوق والتعلقات أيضا، ومن البديهيات أن هذا المال لو
ثبت لكان للديان فيه حق وتعلق ولو كان هو الانتقال إليه بعد النقل إلى
الوارث، وهذا أيضا نفع وحق يقع فيه النزاع والتحاكم، فتكون المحاكمة
والحلف من الغريم لإثبات حق الغريم بنفسه لا حق الغير.. وإلى ذلك أشار
في الدروس بقوله: من النفع (1).
وثالثا: إن جميع أدلة سماع الدعوى وإثبات حق المرافعة للمدعي
وأدلة الحلف والإحلاف والرد شاملة للغريم هنا، فلا وجه لرفع اليد عنها،
بل في شمولها للوارث نظر ظاهر، إذ لا يعد عرفا في مثل ذلك المال أنه
حق الوارث.
ورابعا: إن في تخصيص المحاكمة والحلف والإحلاف بالوارث
وعدم اعتناء فيه بالغريم ضررا وإضرارا ظاهرين على الغريم، فإن الوارث
ربما لا يحلف ولا يستحلف، بل لا يقيم البينة أيضا إذا علم أنه لا ينتفع

(1) الدروس 2: 95.
330

بها، وهو منفي في الشريعة المقدسة، بل ربما يكون الوارث غائبا مفقود
الخبر، أو صغيرا، أو امرأة غير عالمة بالدين، والغريم عالم به.
ومنه يظهر أن الحق: أن المدعي إذا كان الدين محيطا بالتركة هو
الغريم، وله الترافع والحلف والإحلاف، وما ذكره في الكفاية والمسالك (1)
ليس صريحا في دعوى الإجماع، بل ولا ظاهرا فيه أيضا، ولو كان صريحا
لم تكن فيه حجية، سيما مع مخالفة الفاضل وعدم موافقة الشهيد (2) بل
عدم تعرض كثير من الأصحاب له.
وهل للوارث المحاكمة والحلف والإحلاف أيضا، أم تختص بالغريم؟
الأول محتمل أيضا، لنوع تعلق للوارث به ولو من جهة إيجاب
استيفائه براءة مورثه، (أو إيجاب إبراء) (3) من الغريم، للانتقال إليه
واستخلاص المال له لو ظهر بعده مال آخر، وكونه في حكم مال مورثه،
وكون نماؤه - لو كان - زائدا عن الدين له، إلى غير ذلك.
وعلى هذا، فلو تحاكم الغريم وأخذ المال بالبينة أو الحلف لا تسلط
للوارث أصلا.
ولو تحاكم الوارث وأخذه كان الغريم أخذه منه، أو من الذي عليه
المال، وليس له المرافعة ثانيا.
ولو تحاكم الغريم وأسقط دعواه بالإحلاف كان للوارث التحاكم، فإن
أخذ هو المال يكون للغريم الأخذ منه.
ولو تحاكم الوارث وأسقط دعواه بالإحلاف فللغريم التحاكم أيضا،

(1) الكفاية: 273، المسالك 2: 377.
(2) الفاضل في القواعد 2: 212، الشهيد في الدروس 2: 95.
(3) بدل ما بين القوسين في " ق ": وإيجاب الإبراء.
331

لأن إحلاف شخص لا يسقط إلا ما يتعلق بنفسه.
فرع: لو أحاط دين جماعة بالتركة فادعى آخر بأن له على الميت
دينا، فتشارك الغرماء بقدر نصيبه، فهل يتحاكم مع سائر الغرماء، أو مع
الوارث؟
الظاهر: جواز محاكمة كل منهما معه، ويظهر حكمه بعد الترافع مما
مر، فتأمل.. والله العالم.
332

الفصل الخامس
في نبذ من أحكام الدعاوى في الأعيان
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قيل: ظاهر اليد يقتضي الملكية ما لم تعارضه
البينة، بلا خلاف فيه يوجد، وربما كان ذلك إجماعا، بل ضرورة،
والنصوص به مع ذلك مستفيضة:
منها: - زيادة على ما تأتي إليه الإشارة في بحث تعارض البينة - الخبر
المروي في الكتب الثلاثة، وفيه: أرأيت إذا رأيت [شيئا] في يد رجل
أيجوز [لي] أن أشهد أنه له؟ فقال: " نعم " قلت: فلعله لغيره، قال (عليه السلام):
" ومن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك، ثم تقول بعد الملك: هو
لي، وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه إليك من قبله؟ "
ثم قال (عليه السلام): " ولو لم يجز هذا ما قام للمسلمين سوق " (1).
وقريب منه الخبر المروي في الوسائل عن تفسير علي بن إبراهيم
صحيحا، وعن الاحتجاج مرسلا، عن مولانا الصادق (عليه السلام) في حديث
فدك: " إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأبي بكر: تحكم فينا بخلاف حكم الله

(1) الفقيه 3: 31 / 92، وفي الكافي 7: 387 / 1، والتهذيب 6: 261 / 695،
والوسائل 27: 292 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 25 ح 2:...؟ قال:
نعم، قال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له، فلعله لغيره، فقال له أبو
عبد الله (عليه السلام): أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فلعله لغيره،
فمن أين جاز لك أن....، وما بين المعقوفين ليسا في " ح " و " ق "، أضفناهما من
المصادر.
333

تعالى في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شئ
يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟ قال: إياك كنت أسأل البينة على ما
تدعيه، قال: فإذا كان في يدي شئ فادعى فيه المسلمون، تسألني البينة
على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبعده، ولم تسأل
المؤمنين البينة على ما ادعوا كما سألتني البينة على ما ادعيت عليهم؟! "
الخبر (1). انتهى (2).
أقول: في شرح المفاتيح أيضا ادعاء الاتفاق على أصل الاقتضاء.
ثم أقول: الرواية الأولى هي رواية حفص بن غياث، وهي وإن كانت
ضعيفة إلا أن الرواية معتبرة، لوجودها في الأصول المعتبرة، ومع ذلك
بعمل الأصحاب منجبرة، وبالرواية الأخرى وغيرها معتضدة.
وتدل عليه أيضا موثقة يونس بن يعقوب: في المرأة تموت قبل
الرجل أو رجل قبل المرأة، قال: " ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، وما
كان من متاع الرجل والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شئ منه فهو
له " (3).
ولا شك أن الاستيلاء على الشئ يتحقق بكونه في يده،
والاختصاص بمتاع البيت غير ضائر، لعدم الفاصل.
ويمكن أن يستدل على المطلوب أيضا برواية مسعدة: " كل شئ هو
لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل ثوب

(1) تفسير القمي 2: 156، الإحتجاج: 92، الوسائل 27: 293 أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى ب 25 ح 3، بتفاوت.
(2) الرياض 2: 415.
(3) التهذيب 9: 302 / 1079، الوسائل 26: 216 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 3.
334

يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك لعله حر قد باع
نفسه أو خدع فبيع أو قهر، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك،
والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة " (1).
وتدل عليه أيضا رواية حمزة بن حمران: أدخل السوق فأريد أن
أشتري جارية فتقول: إني حرة، فقال: " اشترها، إلا أن تكون لها بينة " (2).
وصحيحة العيص: عن مملوك ادعى أنه حر ولم يأت ببينة على
ذلك، أشتريه؟ قال: " نعم " (3).
فلا كلام في أصل المسألة، وإنما الكلام في مواضع:
الأول: في معنى اليد، فإنه قد يتصور أن معنى اليد في هذا الكلام
ليس على حقيقته، بل المراد المعنى المجازي، ولعدم انحصاره في معنى
خاص إما يدخله الإجمال، أو يحمل على أقرب المجازات، وهو أيضا
لا يخلو عن إبهام وإجمال.
وفيه: أن اليد وإن كانت حقيقة في العضو المخصوص إلا أنها في هذا
التركيب ليست مجازا، لأن هذا التركيب حقيقة في معنى خاص يعرفه أهل
المحاورات بقرينة التبادر وعدم صحة السلب، فيجب الحمل عليه.
ولا شك في صدق الكون في اليد عرفا فيما كان تحت اختياره
ويتصرف فيه التصرفات الملكية - كالبيع، والإجارة، والإعارة، ونحوها -

(1) الكافي 5: 313 / 40، التهذيب 7: 226 / 989، الوسائل 17: 89 أبواب ما
يكتسب به ب 4 ح 4.
(2) الكافي 5: 211 / 13، الفقيه 3: 140 / 613، التهذيب 7: 74 / 318، الوسائل
18: 250 أبواب بيع الحيوان ب 5 ح 2.
(3) الفقيه 3: 140 / 614، التهذيب 7: 74 / 317، الوسائل 18: 250 أبواب بيع
الحيوان ب 5 ح 1.
335

وكذا فيما يستعمله وينتفع به ويتصرف فيه بالإفساد والإصلاح، كالركوب
والحمل في الدابة، والعمارة والتخريب في الدار، والغرس والزرع في
الأرض، وهكذا.. ومن وجوه الاستعمال: وضع متاعه، أو جنس آخر، بل
مطلق ماله فيه، للصدق العرفي.
وهل تصدق اليد على شئ بكونه في مكانه المختص به تملكا أو
استئجارا أو عارية، كغلة في بيته، أو دابة في مذوده (1)، أو متاع في دكته؟
الظاهر: نعم، للصدق العرفي.
وأما في كون ماله فيه من غير وضعه فيه أو عدم ثبوت ذلك - كمذود
فيه دابته، أو دار فيها متاعه - يدا نظر، الظاهر: العدم ما لم يعلم أنه بنفسه
وضعه، للشك في صدق الاسم، فلو كانت هناك دابة عليها حمله الذي
حمله بنفسه عليها تصدق اليد على الدابة، بخلاف ما إذا كان عليها حمله
ولم يثبت أنه حمله عليها، أو حمله غيره الذي يدعي الدابة وبيده لجامها.
وهل يكون إغلاق باب الدار ونحوها وكون مفتاحها في يده يدا؟
الظاهر: نعم، لو كان هو الذي أغلق الباب وأخذ المفتاح.
وقد تتعارض الأمور الموجبة لصدق اليد في مال، كما إذا كان متاع
زيد في الدار وأغلق عمرو بابها، أو تكون دابة في حصار وعليها حمل
الغير، أو زمامها في يد الغير، ونحو ذلك.. ويجب الرجوع إلى العرف في
الصدق في أمثاله.
ومن صور التعارض: ما إذا كان طريق في دار زيد ويسلكه عمرو
فادعى ملكيته، والظاهر حينئذ ترجيح السالك. ومنه: الدابة عليها حمل زيد

(1) المذود: معلف الدابة - مجمع البحرين 3: 46.
336

ولجامها بيد عمرو.
ومن باب التعارض: ما اتفق في هذه الأيام في قريتنا، فكانت فيها
دار فيها طريق يعبر عنه عامة الناس، فسد مالك الدار الطريق ولم ينازعه
أحد من العابرين إلا واحد، فزاحمه وادعى الملكية متشبثا باليد الحاصلة
من العبور، فمنعنا صدق اليد له عليه، لعدم ثبوت ما كان ينتفع به منه أمرا
مخصوصا به تصدق لأجله يده عليه.
ومنه يعلم أنه لو لم يكن ذلك الطريق في ملك شخص معلوم،
وادعى أحد ملكيته، ونازعه واحد من العابرين لأجل نفسه لا للعامة، لأجل
يد العبور، لا يصلح لمزاحمته، لعدم كون ذلك يدا، وإن جاز له مزاحمته
لكونه طريقا مسلوكا له ولغيره.
ثم لا يتوهم أن ما ذكرنا - من عدم توقف صدق اليد على التصرفات
الملكية - يخالف ما ذكره جماعة في بحث ما يصير به الشاهد شاهدا من
الإشكال في جواز الشهادة بالملكية بدون مشاهدة التصرفات، كصاحب
الكفاية، بل المحقق (1)، بل قد يستشكل مع التصرفات أيضا، ونقل التردد
فيه عن المبسوط (2)، لأن اليد شئ، والشهادة على الملكية شئ أخر..
ولذا تراهم جميعا يقولون: اليد المنفردة عن التصرف هل تصحح الشهادة
على الملكية، أم لا؟ فيثبتون اليد، ويختلفون في الشهادة، بل قد يثبتون
اليد ويضمون معها التصرف أيضا.
وكذا لا ينافي ما ذكروه مع ما سنذكره من اقتضاء مطلق اليد أصالة
الملكية، كما أن استصحابها أيضا يقتضي أصالتها مع الاختلاف في جواز

(1) الكفاية: 284، المحقق في الشرائع 4: 134، المختصر: 289.
(2) المبسوط 8: 181 - 182.
337

الشهادة بالملكية الاستصحابية.. ولذا اتفقوا على أن ما كان في يد مورث
شخص ولم يعلم حاله يحكم بملكيته له، ويجوز اشتراؤه منه ولو لم تجز
الشهادة له بملكية مورثه.
الثاني: المراد بكون اليد ظاهرة في الملكية واقتضائها لها: أنها الأصل
فيها، لا أنها الدليل عليها، فلا يخرج عن مقتضاها بلا دليل مخرج،
ولا يعارض دليلا أصلا، بل ترفع اليد عنه مع الدليل، كما هو الشأن في
الأصول، ولذا لولا أنه ورد من الشرع الحلف على المنكر لولا البينة لما
حكمنا به.
والدليل على ذلك الإجماع، وأخبار سؤال البينة عن المنازع (1)
والحكم بها، وقوله في رواية مسعدة المتقدمة: " حتى يستبين لك غير
ذلك " (2)، وبها تقيد الإطلاقات أيضا.
الثالث: لا شك في أنه يشترط في اقتضاء اليد أصالة الملكية عدم
انضمام اعترافه بعدم الملكية بالإجماع، فإنه دليل مخرج عنها.
وهل يشترط انضمام ادعائه الملكية، أم لا؟
الظاهر: الثاني، لعموم صدر رواية حفص المتقدمة (3)، الحاصل من
ترك الاستفصال، وموثقة يونس السابقة (4)، بل لظاهر الإجماع، ولذا يحكم
بملكية ما في يد الغائب - وكان في يد المتوفى - له، ويحكم بكونه ميراثا
منه ما لم يعلم خلافه، ويجوز الانتفاع بما في يد أحد مع إذنه من دون

(1) المتقدمة في ص: 283.
(2) راجع ص 282.
(3) في ص 281.
(4) في ص 282.
338

سؤال ادعائه الملكية وعدمه.
نعم، الظاهر اشتراط عدم انضمام ادعاء عدم العلم بملكيته أيضا، فلو
قال ذو اليد: إني لا أعلم أنه ملكي أم لا، لا يحكم بملكيته، لأن الثابت من
اقتضاء اليد الملكية غير ذلك المورد.
أما الإجماع فظاهر، وأما أخبار طلب البينة من مدعيه فكذلك أيضا.
وأما الروايتان المتقدمتان (1) فلظهورهما في ذلك، بل قوله في الثانية:
" يملكونه " صريح فيه، كما أن قوله في الأولى: " صار ملكه إليك من قبله "
ظاهر فيه أيضا.
وأما الموثقة (2) فلإمكان منع صدق الاستيلاء عليه في مثل ذلك
الشئ.
مضافا إلى رواية جميل بن صالح الصحيحة عن السراد: رجل وجد
في بيته دينارا، قال: " يدخل منزله غيره "؟ قلت: نعم كثير، قال: " هذه
لقطة " قلت: [فرجل وجد] في صندوقه دينارا، قال: " يدخل أحد يده في
صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ " قلت: لا، قال: " فهو له " (3).
فإنه حكم فيما هو في داره الذي لا يعلم أنه له مع كونه في يده على
ما مر، ومستوليا عليه أنه ليس له، وأيضا علل كون ما وجد في الصندوق له
بما يفيد العلم بأنه ليس لغيره.
وإلى موثقة إسحاق بن عمار: عن رجل نزل في بعض بيوت مكة

(1) في ص 281 و 282.
(2) المتقدمة في ص 282.
(3) الكافي 5: 137 / 3، الفقيه 3: 187 / 841، التهذيب 6: 390 / 1168،
الوسائل 25: 446 أبواب اللقطة ب 3 ح 1، بدل ما بين المعقوفين في " ح " و " ق ":
فوجد، وما أثبتناه من المصادر.
339

فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة، فلم تزل معه ولم يذكرها حتى
قدم الكوفة، كيف يصنع؟ قال: " [يسأل] عنها أهل المنزل لعلهم
يعرفونها " قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال: " يتصدق بها " (1).
فإنه لا شك أن الدراهم كانت في تصرف أهل المنزل على ما عرفت،
ولو أنهم قالوا: لا نعلم أنها لنا أو لغيرنا، فيصدق أنهم لا يعرفونها،
فلا يحكم بملكيتها لهم.
ومن ذلك يعلم أن اليد لا تكفي في حكم ذي اليد لأجلها لنفسه إن
لم يعلم ملكيته، ولكن المراد بعدم علمه الملكية: عدم علمه بالملكية
الشرعية لا الواقعية، فإن الغالب أن الوارث لا يعلم حال ما انتقل إليه من
مال مورثه، والمشتري في السوق لا يعلم أنه من مال البائع، إذ ربما سرقه
أو غصبه، فإن اليد الخالية عن اعتراف المورث والبائع بالعلم بعدم الملكية
أو عدم العلم بالملكية الشرعية كافية في علم الوارث والمشتري بالملكية
الشرعية..
فلو كان متاع في دكة أحد ولم يعلم أنه مما ورثه أو اشتراه أو وضعه
غيره، لا يجوز له التصرف فيه.
وكذا إذا كان في ما خلفه مورثه شئ اعترف المورث بأني لا أعلم أنه
مني أو لا.
وكذا لا يجوز شراء شئ عن شخص كان في يده ويقول: إني
لا أعلم أنه من أموالي أو من الغير.
بل يلزم على ذي اليد الفحص، فإن لم يتعين مالكه يكون مجهول

(1) التهذيب 6: 391 / 1171، الوسائل 25: 448 أبواب اللقطة ب 5 ح 3، بدل ما
بين المعقوفين في " ح " و " ق ": فاسأل، وما أثبتناه من المصادر.
340

المالك، إما كونه مجهولا عند غير ذي اليد فظاهر، وإما عنده فكذلك أيضا،
لأجل أنه يعلم أنه لا يعلم.
الرابع: كما أن مقتضى اليد أصالة الملكية فيما يملك كذلك مقتضاها
أصالة الاختصاص بذي اليد فيما ليس ملكا - كالوقف - فلو كان شئ في يد
أحد مدعيا وقفيته عليه فادعاه غيره ولا بينة له يقدم قول ذي اليد، لموثقة
يونس بن يعقوب المتقدمة (1)، بل الظاهر الإجماع أيضا.
الخامس: ما ذكر من تقديم قول ذي اليد لدلالة اليد على الملكية أو
الاختصاص إنما هو إذا لم يعارضه أصل آخر، وأما إذا عارضه أصل أو
استصحاب آخر ففي بعض موارده الخلاف، وفي بعض آخر يقدم
الاستصحاب كما يأتي.
فلو ادعى مالك الأرض ملكيتها والمتشبث بها وقفيتها عليه منه، أو
المتشبث: الإجارة، والمالك: عدمها، أو المتشبث: التحجير، وغيره أثبت
تحجيره السابق، لا يقدم قول ذي اليد كليا، وتحقيق كل مسألة مذكور في
موضعها.
السادس: هل يختص اقتضاء اليد لأصالة الملكية أو الاختصاص
بالأعيان، أم يجري في المنافع أيضا؟
لم أعثر بعد على مصرح بأحد الطرفين، والظاهر هو الأول، للأصل،
وعدم ثبوت الإجماع في غير الأعيان، واختصاص أكثر الأخبار بها.
أما أخبار تعارض البينات (2) والروايتان الأخيرتان فظاهرة، لأن
موردها في الأعيان.

(1) في ص 282.
(2) انظر الوسائل 27: 249 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12.
341

وأما رواية حفص (1)، فلأن لفظ: " شيئا " فيها وإن كان نكرة في سياق
الشرط المفيدة للعموم إلا أن رجوع الضمير في قوله: " الشراء منه " و: " أن
تشتريه " يوجب إما تخصيصه بالأعيان، أو التوقف، كما بين في الأصول،
لعدم جواز الشراء في المنافع إجماعا.
وأما الموثقة (2)، فلرجوع الضمير المجرور فيها إلى المتاع، الذي هو
من الأعيان.
وأما رواية مسعدة (3)، فلأن الاستدلال بها إنما هو بواسطة الأمثلة
المذكورة فيها، وكلها من الأعيان. وأما قوله: " والأشياء كلها على هذا "
فإنما يدل على الحلية دون المطلوب.
نعم، ظاهر حديث فدك (4) العموم، إلا أنه يمكن دعوى اختصاص
صدق اليد حقيقة بالأعيان، فإنها المتبادر عرفا من لفظ: " ما في اليد "، بل
الاستيلاء وصدقه على المنافع غير معلوم، بل نقول: إن الكون في اليد
والاستيلاء إنما هو في الأشياء الموجودة في الخارج القارة، وأما الأمور
التدريجية الوجود الغير القارة - كالمنافع - فلو سلم صدق اليد والاستيلاء
فيها فإنما هو فيما تحقق ومضى، لا في المنافع الآتية التي هي المراد هنا.
ولا يتوهم أن ما ورد في خصوص الرحى الواقعة على نهر ماء الغير
والمنع عن سد الماء عنه (5) يثبت اقتضاء اليد في المنافع الملكية أيضا،
وكذا ما ذكره جماعة في الميراث، لأن عدم اقتضاء اليد الملكية لا ينافي

(1) المتقدمة في ص 281.
(2) المتقدمة في ص 282.
(3) المتقدمة في ص 282.
(4) المتقدم في ص 281 و 282.
(5) الوسائل 25: 431 أبواب إحياء الموات ب 15 ح 1.
342

المنع عن سد منفعة مخصوصة بدليل آخر - كالخبر، أو الضرر - فيختص
الحكم بمورده.
وأما ما قد يدعى من ظهور اليد في الملكية، وهو حاصل في المنافع
أيضا.
ففيه - بعد تسليم اليد -: منع حجية ذلك الظهور أولا، ومنع الظهور
ثانيا، لأنه لو سلم فإنما هو في الأعيان مع التصرفات الملكية. وأما في
المنافع التي أعيانها ملك الغير فلا، لشيوع مشاهدة تصرفات الناس في كثير
من المنافع من غير تحقق جهة اللزوم والملكية، فيحمل الجار على حائط
جاره أو المشترك، وينصب الميازيب على داره، ويطرح الثلج، ويضع
خشب السقف على حائطه، ويجري الماء من داره إلى داره، أو ماءه إلى
داره، ويستعمل المسلمون - بشاهد الحال - بعضهم ماء بعض، ويجرون
مياههم في دورهم، وقد يغيرون مواضع الجريان في كل عام، ويبنون
الحياض الكبيرة المجددة، إلى غير ذلك.
بل يمكن ادعاء ظهور عدم الملكية في أمثال ذلك، وابتناء الأمر أولا
على المسامحة، أو شاهد الحال.
السابع: ما ذكر - من أن الاستيلاء يدل على أصالة الاختصاص
للمستولي - إنما هو إذا لم يكن هناك مدع ثبت له اختصاص آخر أيضا،
فلو كان كذلك لا يفيد الاستيلاء شيئا، لأن جهة الاختصاص الثابتة
بالاستيلاء غير معينة، وإرجاعها إلى ما يدعيه المستولي لا دليل عليه
بخصوصه حتى يحمل عليه، والجهة الأخرى للغير ثابتة، فليس لها
معارض معلوم، ولا رافع كذلك.
فلو ادعى أحد استئجار شئ في يد غيره، مدعيا بأنه استأجره،
343

تطلب البينة من المدعي، لأصالة الاختصاص بالمستولي، فإن جهة
الاختصاص بينهما واحدة.
بخلاف ما لو ادعى المالك عدم الإجارة، لأن ملكيته مختصة به،
والمستأجر يدعي الاختصاص الاستئجاري، ولا دليل عليه.
وكذا لو ادعى أحد اختصاصه بشئ في يده، ويستولي عليه من جهة
استحقاق منفعته بصلح ونحوه، وادعى (1) المالك عدمه، فلا يقدم قول
المستولي، لثبوت جهة اختصاص للمالك، وعدم ثبوت الاختصاص النفعي
للمستولي فاحتفظ بذلك، فإنه مفيد في كثير من المواضع.
الثامن: يشترط في دلالة اليد على الملكية احتمال كونها ناشئة من
السبب المملك، فلو علم مبدؤها وأنه ليس سببا مملكا لا حكم لها، كيد
الغاصب والودعي، وكما إذا كان شئ لم يحتمل وجها شرعيا مملكا، وكما
إذا أخذه المدعي بحضورنا وأثبت يده عليه، للإجماع، واختصاص الأدلة
بغير ذلك.
والمراد باحتمال الاستناد إلى السبب المملك أيضا: الاحتمال
المتحقق بعد إعمال الأصول والقواعد الممهدة الثابتة، فلو كانت هناك يد لم
يعلم منشؤها، ولكن علم مسبوقيتها بيد عارية أو غصب، ولم يعلم أن اليد
الحالية هل هي تلك اليد، أو زالت الأولى وحصلت يد حاصلة من السبب
المملك، فمقتضى استصحاب اليد السابقة وأصالة عدم حدوث يد أخرى
يجعلها هي اليد الأولى، فلا تفيد ملكيته.
وليس هذا من باب تعارض الاستصحاب والأصل مع اليد المقتضية

(1) في " ق ": وإن ادعى.....
344

للملكية، بل تصير اليد بواسطة الأصل والاستصحاب غير اليد المقتضية.
التاسع: لا يشترط في صدق اليد عرفا مباشرة ذي اليد بنفسه
للتصرف، بل تكفي مباشرة الوكيل والمستعير والأمين والمستأجر والغاصب
بعد ثبوت أحد هذه الأوصاف له في ذلك التصرف، للصدق العرفي.. وكذا
يد المقر أنها لزيد، فإنه يقال عرفا: إنها في يد زيد، فتأمل.
العاشر: يمكن أن تكون يدان أو أزيد على شئ واحد، بمعنى: أن
تكون يد كل منهما بحيث لو كانت منفردة لصدق كون ذيها ذا اليد بالنسبة
إلى تمام الشئ عرفا، كالدابة يركبانها رديفين، أو السراج يستضيئان به،
واللحاف ينامان معا في كل ليلة فيه، والإناء يأكلان منه دفعة، وحينئذ
فيحكم بكونهما ذا اليد على ذلك الشئ، لا أن يد كل منهما على بعضه
المشاع، لإمكان كون شئ واحد في يد اثنين، فلا ضرورة إلى التبعيض.
وليست اليد كالملكية التي لا يمكن تعلقها بتمام شئ بالنسبة إلى كل
من الشخصين، بل مثل القرابة لشخصين والتوطن في بلدتين، والجارية
لدارين، والمصاحبة مع شخصين، والمؤانسة لهما، وهكذا.
الحادي عشر: اقتضاء اليد للملكية التامة لذي اليد إنما هو إذا
لم تعارضها يد أخرى أيضا، أي كانت يدا منفردة، فلو كان شئ واحد في
يد شخصين - بحيث لم تختص يد كل بالبعض عرفا - لا يدل على ملكيته
لواحد منهما، للمعارض، ولا لهما معا بأن يكون تمامه ملكا لهما، لعدم
الإمكان.
وهل يحكم حينئذ بالاشتراك في الملكية حتى يكون بينهما بالسوية؟
كما هي قاعدة الشركة، مع عدم دليل على الاختلاف، أم لا، بل يحكم
بواسطة اليدين على نفي ملكية غيرهما وإن لم يحكم بملكيتهما أو
345

أحدهما؟
ظاهر أكثر الأخبار المتقدمة وإن كان خاليا عن الدلالة في ذلك، لأن
الرواية الأولى (1) مختصة باليد الواحدة، والعلة المذكورة فيها بقوله: " ومن
أين جاز لك " إلى آخره، لا تدل على أنه إذا اشتراه من اثنين يجوز له أن
يشهد أنه لهما، بل تدل على أنه يجوز له أن يشهد أنه ملك لهما أو
لأحدهما.
والثانية (2) وإن كانت أعم إلا أنها لا تدل على الأزيد من طلب البينة
من الخارج عنهما، المستلزم لاقتضاء نفي ملكية الغير وحصول الملكية في
الجملة الشاملة لملك هذا وهما معا بالشركة، وأما الاشتراك بخصوصه فلا.
وكذا إطلاق الروايات الثلاث الأخيرة (3).
إلا أن مقتضى قوله في الموثقة: " ومن استولى على شئ منه فهو
له " (4) أنه لو استوليا معا عليه كان لهما، وبمقتضى قاعدة التساوي في
الشركة المبهمة أنه بينهما نصفين، ومرجعه إلى أن اليدين المشتركتين
تقتضيان الملكية المشتركة.
وتعضده الروايات الكثيرة (5) الدالة على تنصيف ما يدعيه الاثنان
ويدهما عليه بدون البينة لأحدهما، أو مع البينة لهما، بل الظاهر أنه
إجماعي أيضا، كما يظهر من حكمهم بالتنصيف في تداعي شخصين ما في

(1) المتقدمة في ص 281.
(2) المتقدمة في ص 281 و 282.
(3) المتقدمة في ص 282 و 283.
(4) المتقدمة في ص 282.
(5) انظر الوسائل 18: 450 أبواب أحكام الصلح ب 9، و ج 27: 249 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 12.
346

يدهما معا.
الثاني عشر: لو أقر ذو اليد بملكية زيد، ثم أقر بعده لعمرو، يحكم
باليد لزيد، لثبوتها بالاعتراف الأول، وعدم صدق اليد عرفا للثاني بعد
الأول، فلا يصلح الثاني لمعارضة الأول، فيبقى الأول بلا معارض
ومستصحبا.
المسألة الثانية: لو تنازع اثنان في عين واحدة، بأن ادعى كل منهما
جميعها، فإما تكون في يدهما، أو يد أحدهما، أو يد ثالث، أو لا يد
عليها، فهذه أربع صور.
الصورة الأولى: أن تكون في يدهما معا، فترجع دعوى كل منهما
إلى النصف الذي في يد الآخر، ويكون النصف الآخر خاليا له عن
المعارض، لما مر في الموضع الحادي عشر من المسألة الأولى.
وعلى هذا، فإن كانت هناك بينة لأحدهما يحكم بالجميع له، لأن
البينة حجة شرعية.
وإن كانت لهما فيرجع إلى تعارض البينات، ويأتي حكمه.
وإن لم تكن بينة يحلف كل منهما على نفي ما يدعيه صاحبه مما في
يده، لأنه منكر بالنسبة إليه، ولا يتعرض في الحلف لإثبات ما في يده، إذ
لا يمين على ما لا دعوى فيه. فإن حلفا أو نكلا قضي بينهما بالسوية من
غير رد يمين على المنكول له، على المختار.
وإن حلف أحدهما ونكل الآخر بعده قضي بالجميع للحالف من غير
رد يمين أخرى عليه، على ما اخترناه من القضاء بالنكول.
وإن نكل الأول ثبتت دعوى صاحبه في نصف الناكل، فإن حلف
الآخر لنفي النصف الذي ادعاه صاحبه عليه يخلص الكل له.
347

وعلى القول برد يمين الناكل، تثبت على كل منهما اليمين المردودة
مع نكولهما، وعلى الحالف يمين أخرى بعد نكول الثاني مع نكوله بعد
حلف الأول، فيحلف مرتين، وكذا إذا كان النكول قبل حلف صاحبه.
وهل يجمع اليمينين حينئذ في يمين واحدة، أم لا؟
الوجه: الأول، كما هو ظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف كما
قيل (1)، لما أثبتنا في موقعه من أصالة تداخل الأسباب.
ثم إنه هل يتخير الحاكم في البدأة بينهما بالإحلاف، أو يقرع بينهما؟
فيه وجهان، وقيل: يبدأ بالسابق منهما بالدعوى، فيحلف صاحبه (2). وهو
حسن، لما مر من تقديم حق من بدر بالدعوى.
ويمكن الاستدلال أيضا بأن كلا منهما - لكون يد الآخر عليها -
مدعي، ولكون يده عليها منكر، فلكل منهما الحلف والإحلاف،
فيتحالفان، أو ينكلان، أو يحلف أحدهما وينكل الآخر، لعموم الأدلة،
فالترجيح على الأخير ظاهر، وعلى الأولين لا يمكن الجمع بإعطاء جميع
العين كلا منهما ولا منع كليهما، لعدم خروج الملكية عنهما، ولا ترجيح
أحدهما بزيادة، لعدم المرجح، فلم يبق إلا التنصيف، ولكن فيه كلام يأتي
من عدم ظهور مثل ذلك من المدعي والمنكر المتقابلين.
ويدل على المطلوب أيضا: أنه ثبت تنصيف العين بينهما في المورد
من الأخبار، كمرسلة ابن المغيرة الصحيحة عن ابن محبوب - مع كون
الإرسال عن غير واحد من أصحابنا -: في رجلين كان معهما درهمان،
فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك، فقال أبو

(1) رياض المسائل 2: 416.
(2) انظر الكفاية: 275.
348

عبد الله (عليه السلام): " أما الذي قال هما بيني وبينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين
ليس له فيه شئ وأنه لصاحبه، ويقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين " (1)،
المعتضدة بموثقة يونس المتقدمة (2).
ورواية السكوني: في رجل استودع رجلا دينارين واستودعه آخر
دينارا، فضاع دينار منهما، فقضى لصاحب الدينارين دينارا، ويقسمان
الدينار الباقي بينهما نصفين (3).
وثبت أيضا بالعمومات المشار إليها توقف القضاء بينهما على
التحالف، فيعمل بالجميع، فيتحالفان ويقتسمان نصفين.
ولكن يبقى هاهنا شئ يرد على ذلك وعلى ما تقدم أيضا، وهو أن
الظاهر المتبادر من الأخبار الأخيرة - التي هي أخص مطلقا من العمومات -
أن الاقتسام إنما هو بلا حلف، بل هو من مقتضى إطلاقها أو عمومها، فإنها
حاكمة بالتقسيم مطلقا، سواء حلفا أو حلف أحدهما خاصة..
فمقتضى الاستدلال تقديم الأخيرة والقضاء بينهما نصفين من دون
حلف، كما هو مختار المحقق في الشرائع صريحا (4)، والسيد أبي المكارم
في الغنية ظاهرا، مدعيا عليه إجماع الطائفة، قال فيه: وإن كان لكل واحد
منهما يد ولا بينة لأحدهما كان الشئ بينهما نصفين، كل ذلك بدليل إجماع
الطائفة (5). انتهى.

(1) التهذيب 6: 208 / 481، وفي الفقيه 3: 22 / 59، والوسائل 18: 450 أبواب
أحكام الصلح ب 9 ح 1، بتفاوت يسير.
(2) في ص 282.
(3) الفقيه 3: 23 / 63، التهذيب 6: 208 / 483 و ج 7: 181 / 797، الوسائل 18:
452 أبواب أحكام الصلح ب 12 ح 1، بتفاوت.
(4) الشرائع 4: 110.
(5) الغنية (الجوامع الفقهية): 625.
349

ونقل القول به في التحرير أيضا، حيث قال في المسألة على ما
حكي: إن فيها قولين (1). وظاهر بعض فضلائنا المعاصرين التردد (2)، حيث
نقل القولين من غير ترجيح، ولكن المشهور بين الأصحاب - كما صرح به
الصيمري - هو الأول. وقال في المسالك: بل لم ينقل الأكثر فيه خلافا (3).
إلا أن هذه الشهرة المحكية لا توجب وهنا فيما يقتضيه الاستدلال، سيما مع
معارضتها بالإجماع المحكي، وعدم تعرض طائفة لأصل المسألة، منهم
الشيخ في النهاية (4).
هذا، مع ما في دلالة العمومات على ثبوت الحلف في صورة التداعي
كما يأتي بيانه، فالأقوى هو مختار الشرائع، والله العالم.
الصورة الثانية: أن تكون في يد أحدهما، فيقدم قوله وتطلب البينة
من الخارج، فإن أقامها فيحكم بها له إجماعا، وإن أقاماها يرجع إلى
التعارض الآتي حكمه.
وإن لم تكن بينة، فللخارج إحلاف ذي اليد المنكر، فإن حلف
سقطت الدعوى عنه، وإن نكل يحكم بالعين للمدعي الخارج بدون يمين
على الأظهر، ومعها على القول الآخر، ولا خلاف في شئ مما ذكر غير ما
أشير إلى الخلاف فيه.
وتدل عليه الأخبار المتواترة معنى المتقدمة أكثرها، وفي الرواية:
" فإن كانت له " أي للمدعي الخارج " بينة، وإلا فيمين الذي هو في يده،

(1) التحرير 2: 195، قال: وهل يحلف كل واحد على النصف المحكوم له به أو
يكون له من غير يمين؟ الأقوى عندي الأول مع احتمال الثاني.
(2) غنائم الأيام: 706.
(3) المسالك 2: 390.
(4) النهاية: 344.
350

هكذا أمر الله عز وجل " (1).
الصورة الثالثة: أن تكون في يد ثالث ولا بينة، وحينئذ فإما يصدق
أحدهما بخصوصه، أو يصدقهما معا، أو يصدق أحدهما لا بعينه - أي
يقول: أنها لأحدهما ولا أعرفه - أو يكذبهما معا، أو يقول: لا أدري أنها
لهما أو لا:
فعلى الأول، قالوا: بأنها للمصدق له مع يمينه، فإنه في حكم ذي
اليد، وعلى الثالث المصدق اليمين للآخر إن ادعى عليه علمه بأنها له، فإن
امتنع يجب عليه إغرام القيمة له بلا يمين، أو مع اليمين المردودة، على
اختلاف القولين، لأنه لا يمكنه دفع العين، لاستحقاق المصدق له إياها
بإقراره، فلا يمكنه الارتجاع عنه، وتفويته العين على الآخر بإقراره، فيغرم
القيمة. ولم أعثر على مصرح بخلاف ذلك، بل لعله إجماعي.
ويدل على كونه للمصدق له أنه حينئذ يكون ذا اليد، فإن ظاهر
العرف أن من أسباب صدق اليد كونه الشئ تحت تصرف من ثبت أنه
مباشره، كالوكيل والأمين والمستودع والمستأجر والمستعير، أو أقر
بذلك.. ولعل إلى ذلك يشير استدلالهم بأنه في حكم ذي اليد، بل تصريح
جماعة - منهم الشهيد في الدروس (2) - بأن ذا اليد من صدقه الثالث.
ويدل عليه أيضا أنه أقر الثالث بكونه له، ومن أقر شيئا في يده لأحد
فهو له.
لا لعموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، لأن الإقرار على النفس إنما

(1) التهذيب 6: 240 / 594، الإستبصار 3: 43 / 143، الوسائل 27: 234 أبواب
كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3 ح 4، والمعترضة من المصنف.
(2) الدروس 2: 100.
351

هو في نفيه عن نفسه لا في إثباته للغير، مع أن الثابت دلالته من العموم
ليس إلا نفوذه على نفسه لا على غيره.
بل للمستفيضة الدالة على من أقر بعين لأحد فهو له، كمرسلة
جميل: في رجل أقر أنه غصب رجلا على جاريته، وقد ولدت الجارية من
الغاصب، قال: " ترد الجارية وولدها على المغصوب إذا أقر بذلك، أو
كانت له بينة " (1)، وعمومها الحاصل من ترك الاستفصال - بل من أداة
الشرط - يشمل صورة ادعاء الغير للجارية أيضا.
وصحيحة سعد بن سعد: عن رجل مسافر حضره الموت فدفع مالا
إلى رجل من التجار، فقال: إن هذا المال لفلان بن فلان ليس له فيه قليل
ولا كثير، فادفعه إليه يصرفه حيث شاء، فمات ولم يأمر فيه صاحبه الذي
جعله له بأمر، ولا يدري صاحبه ما الذي حمله على ذلك، كيف يصنع؟
قال: " يضعه حيث شاء " (2)، ومثلها صحيحة إسماعيل الأحوص (3).
دلتا على ثبوت المال لصاحبه بمجرد الإقرار، ولا يمكن أن يكون
ذلك لادعائه ما لا يد لأحد عليه، لأنه لم يكن مدعيا له.
وصحيحة أبي بصير: عن رجل معه مال مضاربة، فمات وعليه دين،
فأوصى أن هذا الذي ترك لأهل المضاربة، أيجوز ذلك؟ قال: " نعم، إذا
كان مصدقا " (4)، أي لم يكن متهما.

(1) الكافي 5: 556 / 9، الفقيه 3: 266 / 1266، التهذيب 7: 482 / 1936،
الوسائل 21: 177 أبواب نكاح العبيد والإماء ب 61 ح 1، بتفاوت.
(2) التهذيب 9: 160 / 662، الوسائل 19: 293 أبواب أحكام الوصايا ب 16 ح 6.
(3) الكافي 7: 63 / 23، الوسائل 19: 293 أبواب أحكام الوصايا ب 16 ح 6.
(4) التهذيب 9: 167 / 679، الوسائل 19: 296 أبواب أحكام الوصايا ب 16 ح 14.
352

وتؤيده أيضا رواية [المهتدي] (1): إن أخي مات وتزوجت امرأته،
فجاء عمي فادعى أنه تزوجها سرا، فسألتها عن ذلك فأنكرت أشد الإنكار
وقالت: ما كان بيني وبينه شئ قط، فقال: " يلزمك إقرارها ويلزمه
إنكارها " (2).
وتدل على سلطنة المدعي على إحلاف المصدق له عمومات البينة
على المدعي واليمين على من أنكر.
وعلى تغريم المصدق لو نكل أو رد اليمين: أن بالنكول أو اليمين
المردودة ثبت عليه الحق، كما مر في الأخبار المتقدمة في بحث النكول
ورد اليمين (3).
وكل من ثبت عليه حق للغير وضيعه فعليه الغرامة، كما دلت عليه
العلة المنصوصة في رواية عمر بن حنظلة: في رجل قال لآخر: أخطب لي
فلانة، فما فعلت من شئ مما قاولت من صداق أو ضمنت من شئ [أو
شرطت] فذلك رضا لي، وهو لازم لي، ولم يشهد على ذلك، فذهب
فخطب له وبذل عنه الصداق وغير ذلك مما طالبوه وسألوه، فلما رجع إليه
أنكر له ذلك كله، قال: " يغرم لها نصف الصداق عنه، وذلك أنه هو الذي
ضيع حقها " الحديث (4)، دلت على أن من ضيع حقا لغيره فعليه الغرامة له.
وعلى الثاني قالوا: يقضى بها لهما بالسوية، ولكل منهما إحلاف

(1) في " ح " و " ق ": المهدي، والصحيح ما أثبتناه.
(2) الكافي 5: 563 / 27، الفقيه 3: 303 / 1452، الوسائل 20: 299 أبواب عقد
النكاح وأولياء العقد ب 23 ح 1.
(3) انظر الوسائل 27: 241 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 7.
(4) الفقيه 3: 49 / 169، التهذيب 6: 213 / 504، الوسائل 19: 165 أبواب أحكام
الوكالة ب 4 ح 1، ما بين المعقوفين ليس في " ح " و " ق "، أضفناه من المصادر.
353

الآخر كما لو كانت في يدهما، ولهما إحلاف المصدق إن ادعيا علمه،
لفائدة الغرم، فإن حلف فهو، وإلا فيغرم القيمة تماما لهما، ويقتسمانها
بينهما نصفين على القول بالحكم بالنكول.. وعلى القول برد اليمين
عليهما، فإن حلفا معا يغرم التمام كذلك أيضا، وإلا غرم نصف القيمة
للحالف منهما.
ويظهر الوجه في هذه الصورة أيضا مما ذكرنا في سابقتها بعينه.
وعلى الثالث، قيل: يحتمل القرعة، فيحلف من خرجت له، فإن
نكل حلف الآخر، وإن نكلا قسمت بينهما.. ويحتمل القضاء بينهما نصفين
ابتداء بعد حلفهما أو نكولهما كما لو كانت بيدهما (1).
أقول: بل الأوجه الثاني، لرواية السكوني: " قال أمير المؤمنين (عليه السلام)
في رجل أقر عند موته لفلان وفلان لأحدهما عندي ألف درهم، ثم مات
على تلك الحال، فقال: أيهما أقام البينة فله المال، فإن لم يقم واحد منهما
البينة فالمال بينهما نصفان " (2).
ولكن الظاهر من الرواية التنصيف بدون الإحلاف، بل هو مقتضى
إطلاقها، فالقول به - كما فيما إذا كان في يديهما معا - أوجه.
وحكم الفاضل في القواعد بالقرعة بينهما من غير ذكر حلف (3)، وهو
كان حسنا لولا الرواية المذكورة.
وعلى الرابع، قالوا: حلف لهما وأقرت العين في يده، سواء ادعاها

(1) انظر المسالك 2: 390، الرياض 2: 416.
(2) الكافي 7: 58 / 5، الفقيه 4: 174 / 610، التهذيب 9: 162 / 666، الوسائل
23: 183 أبواب الإقرار ب 2 ح 1، بتفاوت.
(3) القواعد 2: 222.
354

لنفسه أم لا، ولا يجب عليه نسبة الملك إلى نفسه أو إلى أحد معين، وهو
كذلك، لثبوت يده عليها بالتصرف، وبعدم الاعتراف بها للغير.
وعلى الخامس، فإن قال: لا أدري أنها لهما أو لغيرهما - مع اعترافه
بأنها ليست لنفسه - أقرع بينهما وفاقا للقواعد (1)، لأنها لكل أمر مجهول،
ولا حلف، لما يأتي في الصورة الرابعة.. وكذا إن قال: لا أدري أنها لي أو
لهما.
الصورة الرابعة: أن لا تكون يد عليها، قال المحقق الأردبيلي: فهي
مثل ما كانت في يد ثالث، ولم يصدق أحدهما، ولم يدعيا علمه، فيحلفان
أو ينكلان ويقتسمانها بالسوية.. وإن حلف أحدهما دون الآخر تكون
للحالف بحكم العقل، ولرواية إسحاق بن عمار، وفيها: " فلو لم تكن في
يد واحد منهما وأقاما البينة؟ قال: أحلفهما، فأيهما حلف ونكل الآخر
جعلتها للحالف " (2). انتهى.
أقول: الحلف أمر شرعي يتوقف على التوقيف، ولا أرى دليلا على
حلفهما هنا والحكم بنكولهما أو نكول الناكل، والرواية مخصوصة بصورة
إقامتهما البينة، والتعدي يحتاج إلى الدليل، والقرعة لكل أمر مجهول،
فالرجوع إليها أظهر، كما حكم به علي (عليه السلام) في روايتي أبي بصير وابن
عمار:
الأولى: " بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) إلى اليمن، فقال له حين
قدم: حدثني بأعجب ما ورد عليك، قال (عليه السلام): يا رسول الله، أتاني قوم قد

(1) القواعد 2: 222.
(2) الكافي 7: 419 / 2، التهذيب 6: 233 / 570، الإستبصار 3: 38 / 130،
الوسائل 27: 250 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 2.
355

تبايعوا جارية، فوطؤوها جميعا في طهر واحد، فولدت غلاما، فاختلفوا
فيه، كلهم يدعيه، فأسهمت بينهم وجعلته للذي خرج سهمه، وضمنته
نصيبهم " الحديث (1).
والأخرى: " إذا وطئ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد، فولدت،
فادعوه جميعا، أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد [ولده، ويرد] قيمة
الولد على صاحب الجارية " الحديث (2)، وعمل بها الأصحاب طرا في
مورده من غير إحلاف.
فإن قيل: عمومات البينة على المدعي واليمين على المنكر تشمل
المورد.
قلنا: العمومات غير ظاهرة في مثل ذلك، بل ظاهرة في غيره، حتى
ما تتضمن لفظ " المدعى عليه " الغير المعلوم تحققه عرفا هنا، حيث إنه
لا يد لأحد عليها حتى يصدق الادعاء عليه.
وقد يقال: إن الرواية الواردة في قضية فدك: " وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " (3) تشمل المورد، لصدق من
أنكر عليه، وكذا رواية ابن أبي يعفور: " إذا رضي صاحب الحق بيمين

(1) الفقيه 3: 54 / 183، وفي الكافي 5: 491 / 2، والتهذيب 8: 170 / 592،
والاستبصار 3: 369 / 1320، والوسائل 27: 258 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 13 ح 5: واحتجوا، بدل فاختلفوا.
(2) الفقيه 3: 52 / 176، التهذيب 8: 169 / 590، الإستبصار 3: 368 / 1318،
الوسائل 27: 261 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 13 ح 14، وبدل ما بين
المعقوفين في " ح " و " ق ": له يرد، وما أثبتناه من المصادر.
(3) تفسير القمي 2: 156، الإحتجاج: 92، الوسائل 27: 293 أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى ب 25 ح 3.
356

المنكر لحقه فاستحلفه فحلف أن لا حق له قبله، ذهبت اليمين بحق
المدعي " الحديث (1).
ورد: بأن مدلولهما أن كل بينة على المدعي وكل يمين على المنكر،
لا أن كل مدع ومنكر عليه البينة واليمين. وحاصله: منع عموم من أنكر
والمنكر، بل نفي عموم المدعي في جميع الروايات أيضا.
وفيه: أنه لا وجه لمنع العموم حتى في قوله: " من أنكر "، لأن
الموصولة المتضمنة لمعنى الشرط - أي ما كان ما بعده علة لما قبله - تفيد
العموم، كما بين في الأصول.
نعم، يرد عليه أولا: معارضة العمومات مع روايتي أبي بصير وابن
عمار.
وثانيا: أن [أحد] (2) هذين المتخاصمين في مفروض المسألة
لا يصدق عليه المدعى عليه ولا المنكر - بأي معنى من المعاني المذكورة
لهما - في مقابلة المدعي، الذي هو من لو ترك ترك، إلى آخر التعاريف..
بل هما مدعيان، فلا يتوجه عليهما يمين ولو أبيت، إلا أن المنكر عرفا من
تشبث بالإنكار، فلا يمكن أن يكون المراد الإنكار الالتزامي، إذ يكون كل
مدع منكرا أيضا، ولا يقول به أحد، مع أن الإنكار الالتزامي لا يكفي في
صدق المنكر العرفي قطعا، فلا بد من إرادة الصريح.. ولا شك أن الإنكار
الصريحي لا يكون في جميع صور مفروض المسألة، بل إنما هو إذا قال
كل من المدعيين: إنه ليس لك، منضما مع قوله: إنه لي.

(1) الكافي 7: 417 / 1، الفقيه 3: 37 / 125، التهذيب 6: 231 / 565، الوسائل
27: 244 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 9 ح 1.
(2) ما بين المعقوفين ليس في " ح " و " ق "، أضفناه لاستقامة المعنى.
357

وثالثا: أن المتبادر من المدعي والمنكر في صورة ذكرهما ومقابلتهما:
الذي لم يجتمع معه الآخر، فالمراد بالمدعي: الذي لم يكن منكرا،
وبالمنكر: الذي لم يكن مدعيا، كما هو ظاهر.
ورابعا: أنا لو سلمنا الجميع فلا يحكم بعد حلفهما بالتنصيف، لجواز
إسقاط حق كل منهما بحلف الآخر، فلا يحكم لواحد منهما، فتأمل.
هذا إذا كانت دعواهما دفعة واحدة، عرفا أو حقيقة، وإلا فيحكم بها
للمتقدم ادعاء، وتطلب البينة من الآخر أو الإحلاف، كما مر.
ثم إن كل ما ذكر في هذه الصور الأربع إذا لم تكن هناك بينة، وإلا
فإن كانت لأحدهما حكم بها له، لأن البينة حجة شرعية.. وإن كان لكل
منهما وأمكن الجمع بينهما - كما لو شهدت إحداهما بملك زيد أمس،
والأخرى بانتقاله إلى عمرو الآن، أو أطلقت أحدهما وفصلت الأخرى -
جمع بينهما، لوجوب العمل بهما مع عدم التنافي، ولو لم يمكن الجمع
فتتعارض البينات، ويأتي حكمه.
المسألة الثالثة: لو ادعى أحد مالا لا يد لأحد عليه، ليس لأحد منعه
من التصرف فيه، ولا طلب البينة منه، ولا إحلافه، للأصل، والإجماع، بل
الضرورة كما قيل (1) وموثقة منصور، بل صحيحته: عشرة كانوا جلوسا
ووسطهم كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضا: ألكم هذا الكيس؟ فقالوا
كلهم: لا، فقال واحد منهم: هو لي، [فلمن هو؟] قال: " هو للذي ادعاه " (2)،

(1) انظر الرياض 2: 413.
(2) الكافي 7: 422 / 5، التهذيب 6: 292 / 810، النهاية: 350 / 7، الوسائل
27: 273 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 17 ح 1، وما بين المعقوفين ليس
في " ح " و " ق "، أضفناه من المصادر.
358

ومقتضى قوله: " هو للذي ادعاه " أنه يحكم به له، وأنه يجوز ابتياعه منه
والتصرف فيه بإذنه. ونفي عنه الخلاف أيضا (1).
وقد يستدل له بصحيحة البزنطي أيضا: عن الرجل يصيد الطير الذي
يسوى دراهم كثيرة، وهو مستوي الجناحين، وهو يعرف صاحبه، أيحل له
إمساكه؟ قال: " إذا عرف صاحبه رده عليه، وإن لم يكن يعرفه وملك
جناحه فهو له، وإن جاء طالب لا تتهمه رده عليه " (2).
وفيه: أن الأمر بالرد فيها مقيد بعدم الاتهام، الذي هو حقيقة في عدم
تجويز كذبه، وإلا فيكون منهما، ومع عدم تجويز الكذب يخرج عن
الموضوع، لأنه حينئذ يعلم ملكية الغير.
والاحتجاج له بوجوب حمل أفعال المسلمين على الصحة والصدق
موقوف على ثبوت القاعدة، وهو في حيز المنع، مع أنها مخصوصة
بالمسلم، والمدعي أعم منه.
فروع:
أ: لو ادعاه ثان بعد تصرف المدعي الأول له، أو الحكم به له، يكون
الثاني مدعيا، فتجري عليه أحكامه، ويقدم قول الأول، للاستصحاب،
ولأنه مقتضى كونه له فهو كذي اليد، ولعدم دليل على قبول دعوى الثاني،
لاختصاص الإجماع والنص بالأول.
وكذا إذا ادعى الثاني بعد ادعاء الأول بزمان لا يعد ادعاؤهما دفعة
عرفا، إذ بالدعوى الأولى صار مالا للمدعي بحكم النص، وإن لم يضم بعد

(1) كما في الرياض 2: 413.
(2) التهذيب 6: 394 / 1186، الوسائل 25: 461 أبواب اللقطة ب 15 ح 1.
359

معه الحكم أو التصرف فيستصحب.
نعم، لو كان ادعاؤهما دفعة عرفية أو حقيقية يجئ الإشكال، لعدم
ثبوت إجماع، والخروج عن النص، لظهوره فيما لا يدعي معه في زمان
واحد عرفا، وسيأتي حكمه في باب التنازع في الأعيان.
ب: لو لم تكن عليه يد ولا مدع ظاهر، لا يحكم بكونه مجهول
المالك، ولا تجري عليه أحكامه إلا بعد الفحص اللازم، وهو القدر
الميسور منه، لعدم صدق عنوان مجهول المالك أو غير معروف المالك
عرفا إلا بعد هذا القدر من الفحص، فإذا تحقق وتصرف فيه النائب العام
من جانب الإمام، أو تصدق به فادعاه مدع، لا يسمع منه إلا بعد الإثبات،
للاستصحاب، واختصاص النص والإجماع بغير ذلك، فإن أثبته يرد إليه مع
بقاء العين، ولا ضمان مع التلف.. بل وكذا على الظاهر لو ادعاه بعد الفراغ
عن الفحص والحكم بصدق العنوان، لما مر.
ج: هل حكم ما في يد أحد ولا يدعي ملكيته - بل يجهل مالكه، أو
ما في ذمة أحد كذلك - كحكم ما لا يد عليه، فيحكم به لمن يدعيه، أو لا؟
مقتضى أصالة عدم براءة ذي اليد عن اشتغاله بإيصاله إلى صاحبه
وأصالة عدم تسلط المدعي على أخذه وعدم شرعية الحكم به له: الثاني،
والموثقة (1) مخصوصة بغير ذلك المورد.
ومما ذكرنا من الأصول والخصوصية يظهر الفرق بينه وبين ما لا يد
لأحد عليه.
ولهذا القسم أنواع كثيرة، منها: اللقطة، والضالة، والكنز، ومال من لا يعرف

(1) أي موثقة منصور المتقدمة في ص 306.
360

له وارث إذا ادعى أحد الوراثة، والمنهوب من بين جماعة غير محصورين،
والمغصوب منهم، والموروث ممن اعترف المورث بعدم ملكيته، والمنسي
صاحبه، وأحد المشتبهين اللذين كل منهما لشخص وتلف أحدهما، وغير ذلك.
وما ذكرناه إنما هو على سبيل الأصل المناسب لهذا المقام، وإلا
فلبعضها أو كلها أحكام خاصة، مذكورة كل منها في مورده إن شاء الله.
د: الظاهر اختصاص الحكم بما لا يد عليه أصلا لا على عينه
ولا على منفعته، فلو كان شئ لم تكن يد على عينه، ولكن كانت منفعته
في يد واحد أو جماعة محصورين أو غير محصورين، ينتفعون به ولا
يدعون ملكيته، لا يحكم بملكية أحد بمجرد ادعائه، ولا يخلى بينه وبينه
إلا ببرهان وبينة، للأصل، وعدم ثبوت الإجماع في مثل ذلك، بل ثبوت
عدمه، واختصاص النص بغير ذلك..
فلو كان هناك طريق مسلوك للعام أو الخاص - على القول بعدم كون
الخاص ملكا لسالكيه - لا يملكه أحد بمجرد دعوى الملكية، وكذا لو كان
رباط ينزله الناس من غير ادعاء ملكيته ولا اشتهار وقفيته، أو بركة كذلك
يتروون منها.. بل يحكم في الأول بكونه طريقا، ويعمل فيه بما يعمل في
الطرق، وفي الأخيرين بمجهول المالكية، والله العالم.
المسألة الرابعة: إذا ادعى كل منهم أنه اشترى العين من ذي اليد،
وأقبض الثمن، والعين المبيعة في يد البائع، فهو من مسألة تنازع
المتداعيين ما في يد ثالث، وقد مرت، وقد يذكر حكم ذلك منفردا لأجل
بعض خصوصيات البيع الذي يظهر حكمه بالتأمل.
المسألة الخامسة: لو ادعى اثنان أن ثالثا اشترى من كل منهما هذا
المبيع، وكل يطالبه بالثمن، فإن أقر لهما ألزم بالثمنين، لإمكان الصدق
361

وصحة البيعين، بأن يشتري من أحدهما فباعه من الآخر ثم اشترى منه.
وإن أقره لأحدهما لزمه الثمن له وحلف للآخر، وإن نكل أغرم له.
وإن أنكرهما ولا بينة حلف لهما.
وإن أقام كل منهما بينة ثبت البيعان ويلزم الثمنان، إلا في صورة
لم يمكن الاجتماع، فيرجع إلى المرجحات المعتبرة الآتية في بحث
تعارض البينات، من الأعدلية والأكثرية إن كانت، وإلا إلى الإقراع، فمن
أخرجته القرعة قضي له بالثمن الذي شهدوا به بعد حلفه للآخر، فإن امتنع
حلف الآخر وحكم له، فإن امتنع قسم الثمن بينهما مع التشابه، ويحكم
لكل واحد منهما بنصف ما ادعاه من الثمن مع الاختلاف.
المسألة السادسة: لو ادعى كل واحد من شخصين كل واحد من
ثوبين - مثلا - في يد كل واحد منهما أحدهما ما في يد الآخر، فإن لم تكن بينة
يحلف كل منهما للآخر بنفي ما في يده لصاحبه، ويحكم له بما في يده.
وإن كانت لأحدهما بينة يحكم له بهما جميعا، الذي في يد صاحبه
للبينة، والذي في يده لأنه في يده ولا بينة لصاحبه، إلا أنه يحلف لدفع
صاحبه عما في يده.
ولو كانت لهما البينة يحكم لكل منهما بما في يد الآخر، لما يأتي من
ترجيح بينة الخارج.
المسألة السابعة: إذا ادعى زيد على عمرو عينا في يد عمرو، وأقام
المدعي بينة، حكم له قطعا، وانتزعت من يد عمرو، وتسلم إلى زيد، فإن
ادعى عمرو بعد أخذ زيد الملك السابق، وأقام البينة، وشهدت البينة على
أنها كانت له قبل الانتزاع، لم تقبل بينته (وفاقا للشرائع والإرشاد (1)) (2).

(1) الشرائع 4: 116، الإرشاد 2: 151.
(2) ما بين القوسين ليس في " ق ".
362

لا لأنه ذو اليد حينئذ أيضا نظرا إلى أنه يدعي أن الأخذ منه ظلم
فكأنها في يده، لأنه الآن ليس ذا اليد قطعا، والنزع عنه بحكم الحاكم ليس
ظلما، فلا يدخل تحت ما دل على عدم قبول بينة ذي اليد، بل يصدق عليه
المدعي.
ولا لأنه على ذلك يصير جعل المدعى عليه خارجا، وانتزاع العين
من المدعى عليه ثانيا سهلا بتأخير بينته إلى الحكم والانتزاع، لأنه لافساد
في ذلك، وكم من الحيل الشرعية التي تبنى عليها الأحكام.
ولا لأنه نقض للحكم الأول، وهو غير جائز، لمنع كونه نقضا وإن
عبر به في الشرائع والقواعد (1)، لأن النقض إنما هو إذا كان إبطالا لحكم
الحاكم من جهة حكمه لا لدعوى أخرى.
بل لأنه إما يقتصر على الشهادة بالملك السابق، فيرجع إلى تعارض
الملك القديم واليد الحالية، وسيأتي أن اليد مقدمة.. أو يضم معها قوله:
لا أعلم لها مزيلا، أو: أعتقد ملكيته الآن للاستصحاب، ونحوهما، بناء
على قبولهما، فيرد بالعلم بالمزيل، وهو حكم الحاكم، بل وكذا لو قال:
وهو إلى الآن ملكه، لأن غايته أنه أمارة كحكم الحاكم بقطع الملكية..
فتبقى اليد الحالية بلا معارض.
وإن ادعى ملكا لاحقا بعد الانتزاع منه، وأقام عليه البينة، فالوجه:
قبول البينة واسترداد العين، لعدم التعارض بين البينتين.
وإن أطلق الدعوى، وأقام البينة المطلقة وقبلناها، فالوجه: القبول
والاسترداد أيضا، لعدم المانع، وصدق المدعي.

(1) الشرائع 4: 116، القواعد 2: 233.
363

وحكم في القواعد بنقض الحكم واسترداد العين على الإطلاق
الشامل للصور الثلاث، ولكن قال: على إشكال (1). ويظهر وجه الحكم
والإشكال مما ذكرنا.
وبنى في المسالك الحكم في الصورة الأولى على أن المراد ببينة
الخارج والداخل هل الخروج والدخول عند الملك المدعى، أو حال
التعارض (2)؟ وستعلم أن المعتبر حال التعارض، للصدق العرفي.
المسألة الثامنة: لو كانت العين بيديهما معا، وادعى أحدهما الكل،
والآخر النصف، ولا بينة، فعلى ما ذكرنا - في مسألة ما إذا كانت العين
بيديهما، وادعى كل منهما الكل - من أن الكل بيد كل منهما يكون النصف
لمدعي الكل بلا معارض، ويكون النصف في يدهما معا، فيكون هو
المتنازع فيه، وحكمه حكم العين التي تنازع فيها اثنان يدهما عليه، من غير
فرق بين المشاع والمعين.
وكذا في صورة البينة لهما، يكون في النصف حكم الكل الذي تنازع
فيه اثنان وأقاما البينة، ويأتي حكمه.
وكذا يظهر حكم ما إذا زاد ما يدعيه الآخر عن النصف، أو نقص، أو
زاد المدعون عن الاثنين.. وبالجملة: جميع ما يتصور من الأقسام.
المسألة التاسعة: إذا تنازع الزوجان أو ورثتهما أو أحدهما مع ورثة
الآخر في أمتعة البيت الذي في يدهما، فإن كانت هناك بينة لأحدهما كلا أو
بعضا قضي له بها بلا خلاف، وإن لم تكن بينة فاختلفوا فيها على خمسة
أقوال:

(1) القواعد 2: 233.
(2) المسالك 2: 396.
364

الأول: أنهما فيها سواء مطلقا، سواء كان المتنازع فيه مما يصلح
للرجال خاصة أو النساء كذلك أو لهما، وسواء كانت الدار لهما أو لأحدهما
أو لثالث، وسواء كانت الزوجية باقية أو زائلة، وسواء كانت يدهما عليه
تحقيقا بالمشاهدة أو تقديرا، فيتحالفان، أو ينكلان، فيقسم بينهما
بالسوية، ويختص الحالف بالجميع لو حلف أحدهما ونكل الآخر.
حكي عن المبسوط وظاهر الإرشاد وصريح القواعد والإيضاح
والتنقيح (1)، ونسبه الأردبيلي في شرح الإرشاد إلى المتن وجماعة.
ولكن كلام المبسوط ليس صريحا في اختصاص الفتوى بذلك، لأنه
قال بعد القول المذكور: وروى أصحابنا أن ما يصلح للرجال فللرجل، وما
يصلح للنساء فللمرأة، وما يصلح لهما يجعل بينهما (2)، وفي بعض
الروايات: أن الكل للمرأة وعلى الرجل البينة، لأن من المعلوم أن الجهاز
ينتقل من بيت المرأة إلى بيت الرجل (3)، والأول أحوط (4). انتهى.
فإن قوله: والأول، يحتمل أن يراد به ما أفتى به أولا وحكي عنه،
وأن يراد به ما رواه الأصحاب، لكونه أولا بالنسبة إلى الرواية الثانية،
ويؤيده ما في الخلاف من جعله الأحوط ذلك (5). وكيف كان، فلا تكون
فتواه منحصرة بما حكي عنه أولا، بل هي إما تكون أحوط، فتجوز غيرها
أيضا، أو تكون غيرها أحوط، فتجوز أيضا، بل تكون أولى.

(1) المبسوط 8: 310، القواعد 2: 223، الإيضاح 4: 381، التنقيح 4: 278.
(2) انظر الوسائل 26: 213 أبواب ميراث الأزواج ب 8.
(3) الكافي 7: 130 / 1، التهذيب 6: 298 / 831، الإستبصار 3: 45 / 151،
الوسائل 26: 213 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 1.
(4) المبسوط 8: 310.
(5) الخلاف 2: 645.
365

ثم إن دليلهم على ذلك ما مر - في تنازع الشخصين في عين كانت
في يدهما - من العمومات وغيرها، فإن هذه الدعوى أيضا فرد من سائر
الدعاوى، فتشملها أدلتها.
الثاني: إن ما يصلح للرجل خاصة يحكم به للرجل، وما يصلح
للنساء كذلك يحكم به للمرأة، وما يصلح لهما يقسم بينهما بعد التحالف أو
النكول.
حكي عن الشيخ في النهاية والخلاف والإسكافي والحلي في السرائر
وابن حمزة والكيدري والنافع وظاهر الشرائع والتحرير والمهذب
والدروس (1)، وقربه القاضي ولكن في الدعوى بعد الطلاق، بل هو مذهب
الأكثر كما في المسالك وشرح المفاتيح (2)، بل هو المشهور كما في الشرائع
وصريح النكت، بل عن الخلاف وفي السرائر الإجماع عليه، ونسبه في
المبسوط - كما مر - إلى روايات الأصحاب (3).
لقضاء العادة بذلك، وصحيحة رفاعة: " إذا طلق الرجل امرأته وفي
بيتها متاع فلها ما يكون للنساء، وما يكون للرجال والنساء قسم بينهما "
قال: " وإذا طلق الرجل المرأة فادعت أن المتاع لها، وادعى الرجل أن
المتاع له، كان له ما للرجال، ولها ما للنساء " (4).

(1) النهاية: 350، الخلاف 2: 645، حكاه عن الإسكافي في المسالك 2: 398،
السرائر 2: 194، ابن حمزة في الوسيلة: 227، النافع: 285، الشرائع 4: 119،
التحرير 2: 200، المهذب 2: 579، الدروس 2: 110.
(2) المسالك 2: 398.
(3) المبسوط 8: 310.
(4) الفقيه 3: 65 / 215، التهذيب 6: 294 / 818، الإستبصار 3: 46 / 153،
الوسائل 26: 216 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 4، بتفاوت.
366

وموثقة يونس: في المرأة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل المرأة،
قال: " ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، وما كان من متاع الرجال والنساء
فهو بينهما، ومن استولى على شئ [منه] فهو له " (1).
وفي موثقة سماعة: عن رجل يموت، ماله من متاع البيت؟ قال:
" السيف والسلاح [والرحل] وثياب جلده " (2).
واختصاص الأولى بالطلاق والثانية بالموت غير ضائر، للإجماع
المركب، وتتميم كل منهما بالأخرى، لعدم التنافي.
وكذلك لا يضر عدم تصريح صدر الصحيحة والخبرين الآخرين
بالتنازع، لشمولها له، مضافا إلى ظهورها فيه، سيما مع ضم ذيل الصحيحة.
وكذا لا يضر عدم اشتمال كل من الصدر والذيل والخبرين على
الأحكام الثلاثة بعد اشتمال الكل للكل، مضافا إلى ثبوت الحكم في صورة
صلاحية المتاع لهما بما مر في القول الأول، وفي الصورتين الأخريين
بالظهور المستند إلى العادة.
والثالث: إن القول قول المرأة مطلقا، فالمتاع المتنازع فيه كله لها، إلا
ما أقام الرجل عليه البينة.
وهو المحكي عن صريح الشيخ في الاستبصار وظاهر الكليني في
الكافي (3)، ورجحه في شرح المفاتيح، وحكاه الأردبيلي عن التهذيب أيضا.

(1) التهذيب 9: 302 / 1079، الوسائل 26: 216 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 3.
وما بين المعقوفين من المصدرين.
(2) التهذيب 6: 298 / 832، الإستبصار 3: 46 / 152، الوسائل 26: 215 أبواب
ميراث الأزواج ب 8 ح 2، ما بين المعقوفين ليس في " ح " و " ق "، أضفناه من المصادر.
(3) الإستبصار 3: 44، الكافي 7: 130 / 1، التهذيب 6: 298، و ج 9: 301،
وحكاه عنهما في الرياض 2: 418.
367

لصحيحة البجلي: " هل قضى ابن أبي ليلى بقضاء ثم رجع عنه؟ "
فقلت له: بلغني أنه قضى في متاع الرجل والمرأة - إذا مات أحدهما فادعى
[ورثة] الحي وورثة الميت أو طلقها الرجل فادعاه الرجل وادعته المرأة -
بأربع قضيات - فعدها الراوي إلى أن قال في الرابعة: - ثم قضى بعد ذلك
بقضاء لولا أني شاهدته لم أروه عليه، ماتت امرأة منا ولها زوج وتركت
متاعا فرفعته إليه، فقال: اكتبوا إلي المتاع، فلما قرأه قال للزوج: هذا يكون
للرجل والمرأة فقد جعلناه للمرأة، إلا الميزان فإنه من متاع الرجل فهو لك
- إلى أن قال: - فقلت: ما تقول أنت فيه؟ فقال: " القول الذي أخبرتني أنك
شهدته وإن كان قد رجع عنه " فقلت: يكون المتاع للمرأة؟ فقال: " أرأيت
إن أقامت بينة إلى كم كانت تحتاج؟ " فقلت: شاهدين، فقال: " لو سألت
من بينهما " يعني: الجبلين، ونحن يومئذ بمكة " لأخبروك أن الجهاز
والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به،
وهذا المدعي، فإن زعم أنه أحدث فيه شيئا فليأت عليه بالبينة " (1).
وقريبة منها الصحيحة الأخرى له ولإسحاق بن عمار، وفيها: " إلا
الميزان، فإنه من متاع الرجل فللرجل " (2).
وصحيحته الثالثة، وهي أيضا قريبة منهما، إلا أنها لا تتضمن استثناء
الميزان، وفي آخرها: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " القضاء الأخير وإن كان قد
رجع عنه، المتاع متاع المرأة، إلا أن يقيم الرجل البينة، قد علم من بين

(1) الكافي 7: 130 / 1، التهذيب 6: 298 / 831 و ج 9: 301 / 1078، الإستبصار
3: 45 / 151، الوسائل 26: 213 أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 1، بتفاوت
يسير.. ما بين المعقوفين ليس في " ح " و " ق "، أضفناه من المصادر.
(2) التهذيب 6: 297 / 830، الإستبصار 3: 45 / 150، الوسائل 26: 213 أبواب
ميراث الأزواج ب 8 ذ ح 1.
368

لابتيها " (1) يعني: بين جبلي منى " أن المرأة تزف إلى بيت زوجها بمتاع " (2).
الرابع: إن ما لا يصلح إلا للرجال فهو للرجل، وما يصلح لهما أو
للنساء خاصة فهو للمرأة، وهو مذهب الصدوق في الفقيه (3)، ومستنده
الصحيحتان الأوليان المتقدمتان دليلا للثالث.
الخامس: الرجوع في ذلك إلى العرف العام أو الخاص، الدال على
اختصاص بعضه بأحدهما، فإن وجد عمل به، وإن فقد أو اضطرب كان
بينهما نصفين..
اختاره الفاضل في المختلف والشهيدان في النكت والروضة والمحقق
الشيخ علي، واستقربه في الكفاية، واستحسنه في المهذب، ونفى عنه
البأس في شرح الشرائع للصيمري (4).
لأن عادة الشرع في باب الدعاوى - بعد الاعتبار والنظر - راجعة إلى
ذلك، ولهذا حكم بقول المنكر مع اليمين، بناء على الأصل، وكون
المتشبث أولى من الخارج، لقضاء العادة بملكية ما في يد الإنسان غالبا،
فحكم بإيجاب البينة على من يدعي خلاف الظاهر، والرجوع إلى من
يدعي ظاهر العرف.
ويؤيده استشهاده (عليه السلام) بالعرف، حيث قال: " قد علم من بين

(1) لابتا المدينة: حرتان عظيمتان يكتنفانها. واللابة: هي الحرة ذات الحجارة السود
قد ألبتها لكثرتها، وجمعها: لابات، وهي الحرار، وإن كثرت فهي اللاب واللوب،
مجمع البحرين 2: 168.
(2) التهذيب 6: 297 / 829، الإستبصار 3: 44 / 149، الوسائل 26: 213 أبواب
ميراث الأزواج ب 8 ذ ح 1.
(3) الفقيه 3: 65.
(4) المختلف: 698، الروضة 3: 108، الكفاية: 278، المهذب 2: 579.
369

لابتيها " وقال: " لو سألت من بينهما ".
أقول: أما ما ذكروه دليلا للقول الأول فهو حسن على ما استثنوه في
مسألة التداعي فيما كان بيد المتداعيين من أن يد كل منهما على النصف،
ومن أن كلا منهما مدع ومنكر. ولكن قد عرفت ما في الأساس الثاني.
ويمكن منع الأول هنا، لأنه إنما كان فيما إذا علم أن المدعى به
بيديهما معا، وهو هنا غير معلوم، وليس أيضا مما لم يكن يد أحدهما
عليه.
وأما ما ذكرناه من الأخبار للمسألة المذكورة فهي غير مفيدة للمورد،
لأنها إما مخصوصة بأعيان خاصة ليس المورد منها، أو مخصوصة بالمورد
حاكمة فيه بغير ذلك.
مع أنه لو سلم الأساسان فهما عامان، وأخبار المسألة خاصة، يجب
تخصيصهما بها، سيما مع موافقة الخصوص للشهرة المحققة والمحكية (1)
والإجماعات المنقولة (2)، وندرة القائل بحكم العموم للمورد، سيما مع ما
عرفت من عدم اقتصار فتوى المبسوط بذلك (3)، ورجوع الفاضل عنه في
المختلف (4)، وعدم ظهور كلامه في الإرشاد على الحكم بذلك، فلا محيص
عن قطع النظر عن ذلك القول وتركه.
وأما ما ذكروه دليلا للثاني، فأما أول دليليهم - وهو قضاء العادة - فإنه
إن أريد به قضاء العادة في المالكية، بمعنى: أن العرف والعادة يقضيان بأن

(1) كما قد يستفاد من الشرائع 4: 119.
(2) كما في الخلاف 2: 645، السرائر 2: 194.
(3) المبسوط 8: 310.
(4) المختلف: 698.
370

ما يصلح للرجال فهو من مال الرجال، وكان هو ملكه، وهو الذي جاء به،
وما كان للنساء فهو من مال النساء كذلك، وما يصلح لهما فهو يحتمل
الأمرين..
ففيه أولا: أنه ليس كذلك كليا ولا غالبا، فكم من امرأة معسرة من
بيت فقير يعلم أنها لا تملك شيئا أو إلا قليلا، يتزوجها رجل من الأغنياء
المتمولين ويهيئ لها من الألبسة النسائية والحلي والحلل ما لا يحصى كثرة،
وقد يموت أحدهما في أسرع وقت، يعلم أنه لم تتمكن الزوجة من
تحصيل هذه الأشياء بنفسها.
وكم من أمة يعتقها مولاها ويتزوجها ولا شئ لها.
وكم من امرأة مات أخوها أو أبوها أو ولدها أو زوجها السابق، فترث
منه ألبسة رجالية وأسلحة وسروجا.
وكم من رجل ماتت زوجته السابقة أو أمها أو بنتها أو أختها، فيرث
منها مقانع وحليا وثيابا نسائية..
وثانيا: أنه إن أريد بالعادة عرف زمان خاص وبلد مخصوص نادر،
فظاهر أن مثل ذلك مما لا يعتني به الفقيه، ولا يجعله دليلا على حكم كلي
عام يشمل الأزمان والبلدان جميعا.
وإن أريد غير ذلك، فهو ليس كذلك، كما يشاهد في هذه الأزمان
- بل يقطع به من قبل ذلك بكثير وفي أكثر هذه البلدان - من أن الزوج يجئ
بأكثر الألبسة النسائية وحليها، والزوجة الموسرة بقدر حالها تجئ بلباس
لزوجها، وهذا أمر متعارف مشاهد، مع أن هذا أمر مختلف باختلاف
الأزمان والأشخاص والبلدان والقرى والطوائف، اختلافا محسوسا مشاهدا.
وإن أريد بقضاء العادة قضاؤها في اليد، وكان المراد تعيين ذي اليد
371

منهما، حيث إن الغالب اشتباه من بيده منهما في متاع البيت، حتى يحكم
بمقتضى اليد..
ففيه: أنه إن أريد القضاء العلمي - كما يظهر من المحقق الأردبيلي -
فهو ممنوع، إما مطلقا، أو إلا نادرا، في مثل اللباس الذي يلبس كل يوم أو
غالبا.
وإن أريد الظني، فمع أنه أيضا لا يحصل كليا - فإن من المشتركات ما
يظن أنه بيد المرأة، تتصرف فيه في البيت كالأواني والسفرة والمكنسة
وغيرها - لا حجية فيه، ولا يعد مثل ذلك قضاء، مع أن المعتاد في بعض
البلدان أن التصرف في الأدوات الرجالية أيضا مع النسوان.
وأما ثاني دليليهم - وهو الأخبار - فهو حسن، إلا أنه تعارضها الأخبار
الثلاثة التي [بعدها] (1) للبجلي (2)، فلا بد أن ينظر في حال المتعارضين،
وسيأتي.
وأما دليل القول الثالث - وهو الأخبار الثلاثة المشار إليها - فالأخيرة
منها وإن طابقته ولكن الأوليين لا تطابقانه، لدلالتهما على اختصاص ما
يختص بالرجال بالرجل، فإنه الذي حكم به ابن أبي ليلى أخيرا وصححه
الإمام (عليه السلام)، والمتاع الذي كتبوه وحكم فيه بكونه للمرأة مصرح به فيهما
بكونه للرجل والمرأة، وهو المراد من قوله: فقلت: يكون المتاع للمرأة؟
فإن اللام للعهد، بقرينة قوله: " القول الذي أخبرتني ".
ولو أريد مطلق المتاع ليحصل التعارض بين القولين والتنافي - ولو

(1) بدل ما بين المعقوفين في " ح ": يعدها وفي " ق " " يعد " والظاهر ما أثبتناه،
والضمير عائد إلى الأخبار الأولى.
(2) المتقدمة في ص 316 و 317.
372

لم يجعل الأول قرينة للثاني أيضا - يحصل الإجمال في المراد، ويجب
الأخذ بالمتيقن، وهو متاع الرجال والنساء، ولم يعلم أيضا دخول ما
يختص بالرجال في الجهاز الذي يجاء به من بيت الزوجة، بل الظاهر إما
متاع النساء خاصة، أو المشترك، إذ لا يرتاب أحد في أن للزوج أيضا في
البيت شيئا، لأنه لم يدخله عاريا فلا يحتاج فيما يختص بالرجال - ولو شيئا
- إلى البينة.
بل نقول: إنه يعلم كل من بين لابتيها - بل كل أحد - أن الزوج ليلة
الزفاف لم يكن جالسا في بيته عاريا مكشوف الرأس والعورة، بلا فراش
ولا وطاء ولا آنية ولا إبريق ولا كوزة ولا سراج، منتظر لأن تجئ الزوجة
بهذه الأشياء، والغالب أن لباسه غير منحصر بما لبسه حينئذ أيضا.. وعلى
هذا، فيكون للزوج أيضا شئ في البيت قطعا، فيحصل الإجمال في المراد
من التعليل المذكور، ولا يصلح قرينة لشئ.
ولكون الأوليين أخص مطلقا من الأخيرة فيجب تخصيصها بهما، مع
أن الواقعة في الجميع واحدة.
وعلى هذا، فلا تصلح تلك الأخبار دليلا لذلك القول أصلا، مع أن
وجود القائل بهذا القول غير معلوم، فإن نسبته إلى الكليني ليست إلا لمجرد
نقل هذه الأخبار، كما صرح به من نسبه إليه، وهو لم ينقل إلا الخبرين
الأولين، فلو صحت النسبة من هذه الجهة لكان هو أيضا كالصدوق، وقائلا
بالقول الرابع.
وما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار - سيما الاستبصار - ليس صريحا
ولا ظاهرا في الاختيار، وإنما دأبه فيهما إبداء الاحتمالات للجمع بين
الأخبار. ومنه يظهر سقوط هذا القول أيضا من درجة الاعتبار.
373

وأما دليل القول الرابع - وهو الخبران الأولان للبجلي، أو مع الثالث
بعد الجمع - فهو كان حسنا لولا معارضته مع أخبار القول الثاني، وندرة
القائل بمضمونهما، بل لا يعلم قائل به، فإن عبارة الصدوق ليست صريحة
في اختيار (1) ذلك، وإنما ذكر ذلك في بيان معنى الحديث، وسيأتي الكلام
فيه.
وأما القول الخامس، فمراد القائل به إما الرجوع إلى العرف والعادة
في الحكم بالملكية، يعني: أن ما يحكم العرف والعادة بكونه ملكا للزوج
يحكم به له، وما يحكمان فيه بكونه ملكا للزوجة يحكم به لها.
أو مراده: الرجوع إليهما في تعيين ذي اليد، أي ما جرت العادة فيه
بكونه في يد الزوجة يحكم بكونه في يدها، فيقدم قولها بدون البينة مع
اليمين، وما جرت فيه بكونه في يد الزوج يحكم بكونه في يده كذلك.
وعلى الأول، إما يكون المراد: الملكية الحالية، أي يرجع إلى العرف
والعادة، فيحكم بالملكية للزوج حال التنازع فيما يحكمان حينئذ بكونه
ملكا له، وبالملكية للزوجة كذلك.
أو يكون المراد: الملكية السابقة، أي يرجع إلى بناء العرف والعادة
فيما تجئ به الزوجة إلى بيت الزوج من مالها، ويأخذه الزوج من ماله
ويجئ به، فيبنى الحكم عليه.
وعلى جميع التقادير، إما يكون المراد بالعرف والعادة: ما يفيد منهما
العلم، أو الأعم منه ومن الظن.
فإن كان المراد العلم، فلا حكم علميا للعرف والعادة في الملكية

(1) في " ق ": اعتبار...
374

السابقة في أمتعة البيت من حيث هي كذلك أبدا، لا في الأزمنة السابقة
ولا اللاحقة، ومن أين يحصل ذلك العلم لولا الأمور الخارجة؟! ولو فرض
حصول علم بذلك لأجل العادة المفيدة للعلم فنحن نسلم الحكم فيه،
ولكنه ليس مخصوصا بأمتعة البيت، بل كل شئ علم الحاكم أنه من مال
أحد المدعيين بإحدى طرق العلم أو أنه بيده يحكم له بمقتضاه.
وإن كان المراد الأعم، فحصول الظن بالملكية السابقة - سيما إذا
مضت من مبدأ النكاح مدة متطاولة، كخمسين سنة أو ستين - مشكل غالبا.
ولو قطع النظر عن ذلك فلا تضايق بتسليم الظن العادي في بعض
الأشياء بالنسبة إلى بعض الأشخاص أو الطوائف في بعض البلاد أو
الأزمان، وإن منعه صاحب التنقيح أيضا ومنع الرجحان (1).
ولكن ما الدليل على اعتبار ذلك الظن؟ فإنه لو كان المناط هو الظهور
فالظن لم تكن له جهة اختصاص بمتاع البيت والزوج والزوجة، بل يلزم
الأخذ به في غير ذلك المورد، كدعوى الرجل مع أخته، ويعتبر الظن
الحاصل من الشاهد الواحد، بل من حال المدعي والمدعى عليه.
ولا يمكن أن يقال: إنه خرج بالإجماع، إذ الإجماع لم يختص
بموضع دون موضع، بل انعقد على عدم اعتبار الظهور الظني غير الظنون
المخصوصة في هذا الباب.
والعجب كل العجب من الفاضل، حيث استشهد لاعتبار التنازع
الظاهر في باب الدعاوى بقبول قول المنكر مع اليمين، باعتبار قضاء العادة
بملكية الإنسان غالبا ما في يده (2)، ولم يستشهد لعدم اعتبار الظهور بعدم

(1) التنقيح الرائع 4: 279.
(2) المختلف: 698.
375

قبول دعوى المدعي العادل المتدين شيئا في ذمة الفاسق المتغلب، ولو ضم
معه شهادة فاسقين مورثة لشدة الظهور، ونحو ذلك، مع أن تقديم قول
المنكر لا يختص بالأعيان الكائنة في اليد، بل يشمل ما في الذمة أيضا، مع
أن منشار النجار وكتاب العالم إذا كان بيد شخص معروف بالسرقة وخرج
من بيت النجار والعالم لو ادعاه النجار والعالم يقدم قول ذي اليد السارق،
مع أن الظاهر خلافه، فيعلم أن ذلك ليس باعتبار الظهور والمظنة.
هذا إذا كان المراد الملكية السابقة.
ولو أريد الملكية الحالية فلا وجه لحصول العلم أو الظن بها من
حيث إنه متاع البيت وأنهما الزوجان أصلا، وكيف يعلم أو يظن بما وقع
بينهما في زمان اجتماعهما؟!
وكذا الكلام إن كان المراد تعيين ذي اليد بالعرف والعادة.
فإن قيل: التعليل المذكور الذي ذكره الإمام (عليه السلام) في الأخبار الثلاثة (1)
بقوله: " يعلم من بين لابتيها " إلى آخره، يدل على اعتبار العادة في ذلك.
قلنا: العلة المذكورة هي العلم كما في بعضها، والإخبار العلمي
- الذي هو وظيفة البينة - كما في بعض آخر، ولا كلام فيه حينئذ، وإنما
الكلام في تحقق العلم العادي كما هو المعلوم، ولعله كان عادة مخصوصة
معلومة في بلده (عليه السلام) في ذلك الزمان، مع أن في التعليل إجمالا لا يتم
الاستدلال به، كما مرت الإشارة إليه.
ومن ذلك ظهر خلو هذا القول عن الدليل التام أيضا، فلا ينبغي
الارتياب في سقوطه من البين. وظهر بطلان الأقوال الثلاثة، التي هي غير

(1) المتقدمة في ص 316 - 317.
376

الثاني والرابع.
وبقي الكلام فيهما وفي دليلهما، فنقول: لا شك في كون متاع النساء
للنساء، للتصريح به في روايات القول الثاني، وعدم دلالة سائر الروايات
على خلافه إن لم تدل عليه بالأولوية أو العموم.
ولا في كون متاع الرجال للرجال، لتصريح صحيح رفاعة وموثقة
سماعة وصحيحتي البجلي الأوليين (1) من غير معارض أيضا، سوى عموم
صحيحة البجلي الأخيرة، وتخصيصها بالخصوصيات متعين، مع أن في
عمومها نظرا، بل الظاهر أن المراد بمتاع المرأة فيها هو المتاع الذي حكم
فيه أبو ليلى، وصرح بأنه يكون للرجل والمرأة.
نعم، يقع التعارض بين الأخبار في المتاع المشترك، فإن صريح
صحيحة رفاعة وموثقة يونس أنه يقسم بينهما، وصريح الصحاح الثلاثة
للبجلي - التي هي صحيحة واحدة حقيقة، وإن كان بعض رجال أسنادها
مختلفة - أنه للمرأة، فلا بد من الترجيح، ولا شك أنه للأوليين، لمخالفة
الأخيرة للشهرة العظيمة القديمة والجديدة، بل عدم عامل بها صريحا البتة،
سوى المشايخ الثلاثة، واثنان منهما وإن شاركا الآخر في ذلك الحكم
ولكنهما خالفاه في حكم متاع الرجال، وخالفا الصحاح أيضا، فليس عامل
بها إلا الصدوق خاصة، وعمله أيضا غير معلوم كما مرت إليه الإشارة، بل
عمل الشيخين الأخيرين أيضا، فلا شك أن مثل ذلك الخبر ليس بحجة وإن
لم يكن له معارض، فكيف معه؟!
هذا، مع ما في دلالة الصحاح على إطلاق الحكم وكليته من

(1) المتقدمة جميعا في ص 314 و 315 و 316.
377

المناقشة، لمكان التعليل المذكور فيها، فإن مقتضاه أن الحكم المذكور
مخصوص بما توجد فيه العلة، وهو العلم بأن الزوجة أهدت الجهاز
والمتاع إلى بيت الزوج، ولم يعلم أن للزوج أيضا فيه شيئا، فلا يجري فيما
علم أن الزوجة لم تهد الجهاز إليه، أو لم يعلم ذلك، أو علم أن الزوج
أرسل أمتعته إلى بيت الزوجة، وهي أهدتها - أو مع شئ آخر - إلى بيت
الزوج، كما هو متعارف الآن في كثير من البلدان، أو علم أن للزوج أيضا
في بيته أمتعة.
وبالجملة: لا يثبت الحكم في غير مورد تجري فيه العلة، كما هو
الآن في أكثر البلدان.
وظهر من ذلك أن الترجيح للروايتين الأوليين، الحاكمتين بأن المتاع
يقسم بينهما، وأن الحق هو القول الثاني، فعليه العمل.
فروع:
أ: اعلم أن أخبار المسألة خالية عن ذكر اليمين رأسا، بل الظاهر منها
انتفاؤها، ولا دليل على ثبوت اليمين إلا عمومات اليمين على من ادعي
عليه، بجعل المرأة مدعى عليها فيما يصلح لها، والرجل فيما يصلح له،
وكل منهما في النصف فيما يصلح لهما، وقد عرفت حالهما في مثل المورد.
إلا أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على ثبوتها، ومن لم يتعرض لها فإنما
هو لأجل كون المقام مقام بيان من يقدم (1) قوله فقط.
ويؤيد ثبوتها الاعتبار أيضا، فإن ما يصلح للمرأة لو كان بيدها في غير

(1) في " ح ": تقدم...
378

بيت زوجها، وادعى الزوج، لا يترك للمرأة بدون يمينها، فكيف إذا كان
في بيت الزوج ولم تثبت يدها، وكذلك الرجل؟!
ويمكن أن يجعل ذلك دليلا بالأولوية، فالظاهر أن الأحكام الثلاثة
إنما هي بعد اليمين، فيحكم بمقتضاها، ومع النكول يحكم بمقتضاه.
وهذا ظاهر إذا كانت الدعوى بين الزوجين بنفسهما، ولو كانت بين
أحدهما ووارث الآخر، فيحلف أحدهما فيما يتعلق به على البت، والوارث
فيما يتعلق به على نفي العلم بأنه من مال المدعي، لأن الأخبار مطلقة بأنه
من مال مورثه، ولم يثبت الإجماع - لو كان هنا - على الأزيد من ذلك.
ويؤكده أنه يكتفى فيما في يد مورثه بذلك الحلف لو ادعي على
الوارث، وهذا أقوى منه، لتصريح الأخبار بأنه له (1).
ويجب أن يكون الحلف على الوارث بعد ادعاء المدعي العلم عليه،
وإلا فيعطى بلا يمين.
ويحتمل ثبوت اليمين عليه إلا إذا أقر المدعي بعدم علمه، بناء على
أن يقول: إن هذا اليمين جزء الحكم، لا أنه حق لغيره، كاليمين
الاستظهارية وجزء البينة.
ومنه يظهر الحكم لو كانت الدعوى بين الوارثين، فيحلف كل منهما
على نفي العلم بالتفصيل المذكور.
ولو كان أحد الوارثين أو كلاهما صغيرا أو مجنونا أو غائبا يدفع ما
يتعلق به إلى وليه بدون يمين، كما إذا كان بيد مورثه في بيت آخر، لإطلاق
الأخبار بأنه له، ولا يقصر ذلك من حكم الشارع باقتضاء اليد الملكية.

(1) الوسائل 27: 249 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12.
379

ب: الحكم المذكور مخصوص بمتاع البيت الذي لم يعلم أنه بيد
أحدهما وتصرفه بخصوصه، ولو علم ذلك - كالثوب الذي على الرجل أو
المرأة، أو الحلي الذي عليها - فهو لذي اليد بعد اليمين، لقوله (عليه السلام) في
موثقة يونس: " ومن استولى على شئ منه فهو له " (1).
وعلى هذا، فلو كان في الدار بيت أو في البيت مخزن كان بيد
أحدهما - أي هو الذي يغلق بابه ويفتح، ومفتاحه بيده دون الآخر،
وبالجملة يكون بيده خاصة عرفا - فيحكم بما فيه له وإن كان مما يصلح
للآخر أو مشتركا، إلا إذا كان إغلاقه وفتحه بأمر الآخر أو بإذنه، أو لأجل
مصلحته، أي لا يكون بحيث لا يقال عرفا: إنه بيت ذلك أو مخزنه، ويده
عليه دون الآخر.
وكذا لو كان في البيت صندوق، هو ملك أحدهما ومفتاحه بيده،
ولا يدخل الآخر يده عليه بدون رضاه.
ج: وأيضا يختص الحكم بمتاع البيت أو الدار الذي هما يسكنانه
ويترددان فيه لا غير ذلك، كما يظهر من التعليل الوارد في صحيحة البجلي،
حيث قال " يهدى إلى بيت زوجها " (2)، وكذا يظهر من صحيحة رفاعة
وموثقة سماعة (3).
وأما قوله في موثقة يونس: " ما كان من متاع النساء " وكذا قوله: " وما
كان من متاع الرجال والنساء " فلا بد له من قيد، مثل قوله: ما كان متعلقا
بهما، أو: بيدهما، أو: في بيتهما، أو نحو ذلك.. وحيث لا يعلم القيد

(1) المتقدمة في ص 315.
(2) المتقدمة في ص 316.
(3) المتقدمتان في ص 314 و 315.
380

فيقدر المتيقن، وهو متاع البيت كما في سائر الأخبار.
والمراد من متاع البيت: ما يكون في بيتهما يتمتعان به، أي شئ كان،
ولذا مثل بعضهم لما يصلح للرجال منه بالأسلحة والمناطيق، وما يصلح
لهما بالفرش والحبوبات، وعد في موثقة سماعة السيف والسلاح من متاع
البيت، وليس المراد ما يتعارف التمتع به في البيت، كما في لفظ أثاث الدار.
ويشترط أن يكون البيت أو الدار مما يتعلق بهما ويتصرفان فيه، فلو
كان للزوجة بيت معين في الدار، ولا مدخل لها في غيره، لا يجري الحكم
في متاعه.
ومنه بيت الضيافة للرجال، وبيت الحكم والتدريس، والاصطبل،
الذي يختص بالتصرف فيه الرجل.
ولو كان لأحدهما شئ خارج البيت يحكم فيه لذي اليد منهما، ولو
كان بيد ثالث يصدق قوله في حقهما، كما مر بأقسامه.
د: لا فرق في الحكم المذكور بين ما إذا كان التداعي في تمام متاع
البيت أو بعضها، لإطلاق الأدلة.
ه‍: اعلم أن الحكم في أكثر الأخبار المذكورة مخصوص بالزوجة
الدائمة، لتصريح صحيحة رفاعة بالطلاق المختص بها، واشتمال الصحاح
الثلاث على قوله: " طلقها " المخصص للمرأة - التي هي مرجع الضمير -
بالدائمة، أو الموجب للتوقف في التخصيص والعموم.
ولكن مقتضى إطلاق المرأة في موثقة يونس ثبوت الحكم في
المنقطعة أيضا، وهو مقتضى دليل القائلين بالقول الأول، لأن مرجعهم إلى
العمومات الجارية في كل أحد ومنه المنقطعة، وكذا دليل القائلين بالقول
الأخير، وهو الرجوع إلى العرف إن تحقق وإلا فإلى العمومات.. ولذا
381

أجرى في القواعد الحكم في تداعي العطار والنجار في آلاتهما (1).
ومنه يعلم عدم انعقاد إجماع على التخصيص بالدائمة، وحينئذ فالعمل
بمقتضى إطلاق الموثقة - مع عدم منافاة اختصاص البواقي له - أولى وأظهر.
و: لو ادعى أحدهما اليد المستقلة على بعض المتاع، فإن كان مما
يختص به فلا تترتب ثمرة على المتنازع، لاتحاد حكمه مع ثبوت اليد وعدمه.
ولو ادعاها في المختص بالآخر أو المشترك يترافعان أولا في ذلك،
فعلى مدعي اليد الإثبات، فإن أثبتها يقدم قوله، وإلا فله إحلاف الآخر، فإن
نكل فعليه حكمه، وإن حلف تنفى اليد المستقلة، ويحكم بمقتضى حكم
متاع البيت الذي لا يستولي عليه أحدهما.
ز: هل الحكم المذكور مخصوص بما لم تعلم فيه ملكيته السابقة
لأحدهما، وأما فيما علم فيه فيستصحب حتى يظهر خلافه، أو لا، بل
يجري فيه أيضا؟
مقتضى التعليل المذكور في الصحاح الثلاث: الأول، لأنه صرح بأن
هذا الحكم لأجل ملكية الزوجة السابقة، ولو ادعى الزوج أنه أحدث في
البيت شيئا فعليه البينة.. ولا يضر ترك العمل بأصل الحكم فيها، لأن ترك
جزء من الحديث - لمعارض - لا يوجب ترك الباقي.
ولكن مقتضى إطلاق سائر الأخبار: [الثاني] (2)، فيتعارضان بالعموم
من وجه، ويرجع إلى استصحاب الملكية، بل اليد السابقة أيضا.
فالحق هو: الأول، إلا أن تعلم يد مستقلة حالية فيه للآخر، فتقدم
على الملكية السابقة، والله العالم بحقائق الأمور.

(1) القواعد 2: 223.
(2) بدل ما بين المعقوفين في النسخ: الأول، وهو غير صحيح.
382

الفصل السادس
في بيان نبذة من أحكام تعارض الملك السابق واليد،
وتعارض البينات وتصادقهما
بحيث يستلزم العمل بكل منهما تكذيب الأخرى، وإلا فيجب
التوفيق بينهما، والعمل بكل منهما، لكونه حجة شرعية، وهو غالبا يكون
في تنازع الأعيان.
وقد يتحقق في الديون إذا بين المدعي السبب، كأن يقول: لي عليه
عشرة ثمن الفرس الفلاني الذي بعته يوم كذا، وأقام عليه بينة، وأقام
المدعى عليه البينة على أن هذا الفرس بعينه مات بشهر قبل ذلك عند
المدعي.
وقد يتحقق في سائر الحقوق أيضا، كأن يقيم المدعي البينة على أنه
جرحه اليوم الفلاني في موضع كذا، وأقام المدعى عليه البينة على أنه كان
في ذلك اليوم في بلدة أخرى بينهما مسافة عشرة أيام.
ثم العين التي تعارضت فيها البينتان إما تكون في يد أحد المتداعيين،
أو يدهما معا، أو يد خارج عنهما، أو لا تكون عليها يد.. ونبين أحكامها
في مسائل:
المسألة الأولى: إذا كانت في يد أحدهما وأقام كل منهما بينة،
فللأصحاب فيه أقوال:
الأول: ترجيح بينة الخارج مطلقا، سواء شهدت البينة من الجانبين
بالملك المطلق، أو المقيد بالسبب، أو التفريق.
383

وهو المحكي عن والد الصدوق والشيخ في كتاب البيوع من الخلاف
والديلمي وابن زهرة والكيدري (1)، وعن الغنية دعوى إجماعنا عليه،
واختاره طائفة من المتأخرين (2)، منهم بعض مشايخنا المعاصرين (3).
ودليلهم على ذلك: الإجماع المنقول، والمستفيضة المصرحة: بأن
البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه (4)، فإن التفصيل قاطع
للشركة، ومقتضاها اختصاص قبول البينة من المدعي، كما استدل به أكثر
الأصحاب.
ويدل عليه صريحا خبر منصور - الذي لو كان فيه ضعف فبالشهرة
مجبور -: رجل في يده شاة، فجاء رجل فادعاها، فأقام البينة العدول أنها
ولدت عنده، ولم يهب ولم يبع، وجاء الذي في يده بالبينة مثلهم عدول
وأنها ولدت عنده، ولم يهب ولم يبع، فقال: " حقها للمدعي، ولا أقبل من
الذي في يده بينة، لأن الله تعالى إنما أمر أن تطلب البينة من المدعي، فإن
كانت له بينة وإلا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر الله عز وجل " (5).
وهذه الرواية بنفسها أيضا حجة مستقلة على المطلوب، وذكر السبب
في السؤال غير ضائر، لعموم الجواب والعلة.

(1) حكاه عن والد الصدوق في المقنع: 133، الخلاف 3: 130، المراسم: 234،
ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625.
(2) كالعلامة في القواعد 2: 222، الشهيد الثاني في الروضة 3: 108 و 109،
الفاضل الهندي في كشف اللثام 2: 365.
(3) انظر الرياض 2: 419.
(4) انظر الوسائل 27: 233 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3.
(5) التهذيب 6: 240 / 594، الإستبصار 3: 43 / 143، وفيهما بتفاوت يسير،
وأورد ذيله في الوسائل 27: 234 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 3 ح 4.
384

والرضوي المنجبر ضعفه بما ذكر، قال عليه السلام: " فإذا ادعى
رجل على رجل عقارا أو حيوانا أو غيره، وأقام بذلك بينة، وأقام الذي في
يده شاهدين، فإن الحكم فيه أن يخرج الشئ من يد مالكه إلى المدعي،
لأن البينة عليه " (1).
ومبنى استدلالهم على أصالة عدم حجية بينة الداخل، فلا يرد عليهم:
أنه إن كان بناؤهم على عدم حجيتها فهو مناف لقبولها في بعض الموارد،
وإن كان على قوة الظن فقد يكون الظن الحاصل من بينة الداخل أقوى من
بينة الخارج.. فإنا نختار الأول، والأصل لا ينافي الخروج عنه بالدليل.
قيل: ظاهر المستفيضة أن وجوب البينة على المدعي لا عدم الحكم
بها لو أقامها المنكر، أي تجب البينة على المدعي، ولا يكلف المنكر
تجشمها، واليمين أيضا لا يجب إلا على المنكر، فالتفصيل إنما هو في
الواجب لا في الجائز، فنقول بسماع بينة المنكر أيضا، كما صرح به جماعة
في موارد عديدة:
منها: ما ذكروا في مقام تعارض البينات، بأنهما تعارضتا فتساقطتا،
والتساقط لا يكون إلا مع حجيتهما، وبأن لذي اليد دليلين: اليد والبينة،
وبتقديم الأعدل والأكثر منهما.
ومنها: ما ذكره الفاضل في القواعد والتحرير والشهيد في الدروس
من سماع بينة ذي اليد قبل المخاصمة للتسجيل، وبعدها لدفع اليمين.
ويدل على سماع بينة الداخل أيضا عموم قولهم: " أحكام المسلمين

(1) فقه الرضا (عليه السلام): 261، مستدرك الوسائل 17: 372 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 10 ح 3.
385

على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنة ماضية " (1).
وقوله سبحانه لنبي من الأنبياء: " اقض بينهم بالبينات، وأضفهم إلى
اسمي " (2).
وكون قول العدلين دليلا شرعيا غالبا.
وخصوص الأخبار، كصحيحة حماد الحاكية لأمر اللعين موسى بن
عيسى في المسعى، إذ رأى أبا الحسن موسى (عليه السلام) مقبلا [من المروة على
بغلة، فأمر ابن هياج رجلا من همدان منقطعا إليه أن يتعلق بلجامه ويدعي]
البغلة، فأتاه وتعلق باللجام، وادعى البغلة، فثنى أبو الحسن (عليه السلام) رجله
ونزل عنها، وقال لغلمانه: " خذوا سرجها وادفعوها إليه " فقال: والسرج
أيضا لي، فقال: " كذبت، عندنا البينة بأنه سرج محمد بن علي، وأما البغلة
فإنا اشتريناها منذ قريب، وأنت أعلم بما قلت " (3).
ورواية فدك المتقدمة (4)، فإنه لو كانت إقامة البينة للمنكر بلا فائدة
وغير مجوزة لكان أولى بالمجادلة به مع أبي بكر.
ورواية حفص السابقة (5)، حيث قال فيها: أيجوز لي أن أشهد أنه
له؟ إلى غير ذلك.

(1) الكافي 7: 432 / 20، التهذيب 6: 287 / 796، الخصال: 155 / 195،
الوسائل 27: 231 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 1 ح 6.
(2) الكافي 7: 414 / 3، التهذيب 6: 228 / 551، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 1 ح 2 وفيه: اقض عليهم...
(3) الكافي 86: 8 / 48، الوسائل 27 / 291 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 24 ح 1، بدل ما بين المعقوفين في " ح " و " ق ": على بغلته رجلا أن يدعي،
وما أثبتناه من المصدر.
(4) في ص 281.
(5) في ص 281.
386

وأما رواية منصور (1) فيمكن أن يكون وجه التعليل فيها: أن الله حكم
بإعمال بينة المدعي وإحقاق حقه بمجرد البينة وإن ثبتت للمدعى عليه أيضا
بينة، إلا أنه لا يمكن ثبوت حق المدعى عليه بالبينة إذا لم تكن للمدعي
بينة (2).
أقول أولا: إن ما ذكره - من أن غاية ما يفيده، إلى آخره - فيه: أنه لو
سلمنا أن معنى قولهم: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ما
ذكره من التفصيل بين الواجبين دون الجائزين معينا أو احتمالا، فمع منعه
- كما يأتي - يرد عليه: أنه يمكن للمستدل أن يقول: إنه على التقديرين
يثبت ترتب الأثر على بينة المدعي، وأما تأثير بينة المنكر فيكون احتماليا،
بل يكون مسكوتا عنه على ذلك الاحتمال أيضا، والأصل عدمه.. وما ذكره
دليلا لتأثيره غير ناهض كما يأتي، فيمكن تتميم الاستدلال أيضا.
وثانيا: إنه على ما ذكره يجوز للمنكر الحلف وتجوز إقامة البينة، وقد
مر في بحث كيفية الحكم جواز ترك المدعي لبينته الغائبة أو الحاضرة،
والاكتفاء بإحلاف الخصم، وقد عرفت نفيهم الخلاف فيه.
وإذا جاز للمدعي ترك بينته وللمنكر رفع الحلف بالبينة، فأين
الوجوب الثابت لهما من هذه الأخبار؟!
هذا، مع أن سماع بينة المنكر دفعا لليمين في غير مقام التعارض
ممنوع، كيف؟! وقال بعض مشايخنا المعاصرين: إن وظيفة ذي اليد
اليمين دون البينة، فوجودها في حقه كعدمه بلا شبهة، ولذا لو أقامها بدلا

(1) المتقدمة في ص 332.
(2) غنائم الأيام: 702.
387

عن يمينه لم تقبل منه إجماعا إن لم يقمها المدعي (1). انتهى.
وثالثا: إن الإمام في هذه الأخبار ليس في مقام بيان التكليف حتى
يفيد الوجوب أو الجواز، وإنما هو في مقام التوقيف وبيان الحكم
الوضعي، وهو المتبادر من هذا الكلام في ذلك المقام، فالمعنى: أن حكم
الله (الموقف الذي وضعه) (2) هو إتيان المدعي بالبينة والمدعى عليه
بالحلف، والتفصيل قاطع للشركة في التوقيف والوضع، فلا يترتب أثر على
بينة المدعى عليه إلا بدليل آخر.
ورابعا: إن ما ذكره - من قول جماعة بسماع بينة المدعى عليه في
موارد - فمع كون أكثرها من الأقوال النادرة الشاذة لو سلم غير مفيد، إذ
نحن نقول بكون ذلك من باب القاعدة ويقبل التخصيص، كما خص جانب
المدعي بثبوت اليمين عليه مع الرد، ومع الشاهد الواحد، ومع كون
الدعوى على الميت، وفي الدماء، وغير ذلك، فلا يصير ذلك دليلا على
صرف اللفظ عن ظاهره، ولا موجبا لإثبات أثر بينة المنكر، الذي هو
خلاف الأصل في غير تلك الموارد.
وخامسا: إن استدلاله بسماع بينة المنكر بالعمومين اللذين ذكرهما
باطل جدا، إذ لا عموم في الحديث الأول أصلا، فإن المعنى: أن الحكم
يتحقق بأحد هذه الأمور، أما أن مواردها أين هي فلا يعلم من الخبر، ولذا
لا يحكم في المدعى باليمين، وليست السنة ماضية في جميع الموارد.
وأما الثاني، فلو كان عاما لاقتضى الجمع بين البينة واليمين في جميع
الموارد، لا قبول البينة فقط، بل لا دلالة على قبولها في مورد أصلا،

(1) الرياض 2: 420.
(2) بدل ما بين القوسين في " ح ": الموظف الذي وظفه.
388

فالمراد منه العمل بكل في مورده الثابت شرعا.
وسادسا: إن كون قول العدلين دليلا مطلقا - حتى في موقع الترافع
وعن المنكر - فأول الكلام، والاستقراء المفيد غير ثابت.
وسابعا: إن الاستدلال بصحيحة حماد غريب جدا، لأنه لم يكن في
مقام إقامة البينة والترافع، وإنما ترك الإمام البغلة توقيا لدينه، حيث كان
يجوز صدقه فيها مع جواز رد قوله، كما صرح به في رواية حفص
المتقدمة (1)، ولوجود البينة على أن السرج لمحمد بن علي فكان يعلم أنه
كاذب فيه فلم يطعه.
وثامنا: أنه لا دلالة لرواية فدك على ما رآه، إذ لعل المخالفين
يجوزون بينة الداخل، فلا يصير ما ذكره حجة عليهم، مع أنه تكفي للحاجة
حجة واحدة.
وتاسعا: إن رواية حفص ليست صريحة في جواز الشهادة وقبولها
عنه في جميع الموارد وموضع التنازع، فلعل المراد نسبته إليه - كما صرح
به الإمام بعد ذلك - أو يشهد له بالملك الاستصحابي، أو ملكية الأمس،
ونحو ذلك، مع أن جواز الشهادة لا يستلزم جواز القبول، ألا ترى أن
الفاسق لو سأل الإمام: إني لو رأيت في يد أحد شيئا يملكه أيجوز لي أن
أشهد له؟ بحيث يقول: نعم، ولا يقول: إنه غير مقبول الشهادة.
وعاشرا: أن الإمام (عليه السلام) قال: " ولا أقبل من الذي في يده بينة " في
رواية منصور، وهو صريح في عدم قبول بينة المدعى عليه، وعدم ثبوت
حقه به.

(1) في ص 281.
389

ثم إنه ذكر بعض أمور أخر، لا فائدة في ذكرها سوى التطويل.
الثاني: أنه ترجح بينة الداخل مطلقا، وهو المحكي عن كتاب
الدعاوى من الخلاف (1).
واحتج له بالأصل. والاستصحاب.
وبأن ذا اليد له حجتان: اليد والبينة، والآخر له حجة واحدة،
فيترجحان عليه.
وبأن البينتين تعارضتا وتساقطتا، فبقيت العين في يد صاحب اليد
بلا بينة للمدعي.
وببعض الأخبار العامية والخاصية، الآتية إليها الإشارة، المخصوصة
بما ذكر فيه السبب، سوى رواية إسحاق على ما في التهذيب (2)، ولكن
الظاهر اختصاصها أيضا بذلك، لإيرادها بعينها في الكافي مسببة (3)، كما
يأتي.
ولو سلم عمومها فلا بد من تخصيصها، لدلالة صدرها على الرواية
الأخرى، على أن مع مسببية البينتين يحلفان، وبضميمة الإجماع المركب
والأولوية يثبت الحكم في الصورة الباقية أيضا..
مع أنها معارضة مع رواية منصور المتقدمة، المتضمنة لقوله: " لا أقبل
من الذي في يده بينة "، وأعميتها من صورة التعارض غير ضائرة، إذ عدم
القبول مع عدم المعارض يستلزمه معه بالطريق الأولى.

(1) الخلاف 2: 635.
(2) التهذيب 6: 233 / 570، الوسائل 27: 250 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 12 ح 2.
(3) الكافي 7: 419 / 2.
390

ولو قطع النظر عن الجميع وفرض تمامية الدلالة، تكون خارجة عن
الحجية، للشذوذ الشديد.
الثالث: ترجيح الخارج مطلقا، إلا إذا انفردت بينة الداخل بذكر
السبب، فيرجح.
حكي عن الشيخ في النهاية (1)، وقد ينسب إلى الصدوق أيضا (2)، وعن
القاضي والطبرسي والشرائع والنافع والمختلف والتحرير والإرشاد والقواعد
ونكت الإرشاد والروضة والمهذب - ناسبا خلافه إلى الندرة - والتنقيح (3).
وحجتهم على الجزء الأول ما مر دليلا للقول الأول.
وعلى الثاني - على ما قيل (4) - يستشعر من كلام الشيخ في الخلاف
والمبسوط ومن كلام ابن فهد من الإجماع على تقديم بينة الداخل مع ذكر
السبب مطلقا، أو مع تفردها به، وتأييده بالسبب، والأخبار الآتية المشار
إليها، المتضمنة لتقديم قول ذي اليد مع ذكر السبب.
الرابع: ترجيح الخارج مطلقا، إلا إذا تضمنت البينتان أو بينة الداخل
فقط ذكر السبب، فيرجح الداخل.
نسب إلى الشيخ في جملة من كتبه (5)، وقد ينسب إلى القاضي
وجماعة، ومن المتأخرين من أنكر ظهور قائل بهذا القول عدا الشيخ في

(1) النهاية: 344.
(2) الموجود في الفقيه 3: 39 غير مطابق للنسبة، فراجع.
(3) القاضي في المهذب 2: 578، حكاه عن الطبرسي في الرياض 2: 420،
الشرائع 4: 111، النافع: 286، المختلف: 692، التحرير 2: 195، القواعد 2:
232، الروضة 3: 109، التنقيح 4: 280 - 281 وفيه نقل للقول دون الأخذ به.
(4) رياض المسائل 2: 420.
(5) كالاستبصار 2: 42، الخلاف 2: 636.
391

طائفة من كتبه مع تأمل في بعضها أيضا (1).
واستدلوا بالخبر العامي الذي رواه جابر: إن رجلين تداعيا دابة، فأقام
كل منهما البينة أنها دابته أنتجها، فقضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) للذي في يديه (2).
ورواية إسحاق " إن رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابة
في أيديهما، فأقام كل واحد منهما البينة أنها أنتجت عنده، فأحلفهما علي (عليه السلام)،
فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو
لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البينة؟ قال: احلفهما، فأيهما حلف
ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين، قيل:
فإن كانت في يد أحدهما وأقاما جميعا البينة؟ قال: أقضي بها للحالف
الذي في يده " (3).
وموثقة غياث بن إبراهيم: " اختصم إليه رجلان في دابة، وكلاهما
أقاما البينة أنه أنتجها، فقضى بها للذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده
جعلتها بينهما نصفين " (4).
الخامس: ترجيح الخارج مطلقا، إلا مع أعدلية بينة الداخل، ثم
أكثريتها، فيترجح، وهو للمفيد (5).

(1) انظر الرياض 2: 421.
(2) سنن البيهقي 10: 256، بتفاوت يسير.
(3) الكافي 7: 419 / 2، وفي التهذيب 6: 233 / 570، الإستبصار 3: 38 / 130
لا توجد: في دابة في أيديهما، فأقام كل واحد منهما البينة أنها أنتجت عنده،
فأحلفهما علي (عليه السلام)، الوسائل 27: 250 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 12 ح 2.
(4) الكافي 7: 419 / 6، التهذيب 6: 234 / 573، الإستبصار 3: 39 / 133،
الوسائل 27: 250 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 3.
(5) المقنعة: 730.
392

السادس: ترجيح أكثرهما عددا، ومع التساوي فللحالف منهما، ومع
حلفهما أو نكولهما فللداخل.
نقل عن الإسكافي (1)، واختاره من متأخري المتأخرين صاحب
المفاتيح وشارحه (2)، إلا أنهما اقتصرا على تقديم الأكثر، ومع التساوي في
العدد يقدمان بينة الخارج.
وتدل على اعتبار الأكثرية صحيحة أبي بصير: عن الرجل يأتي القوم
فيدعي دارا في أيديهم، ويقيم الذي في يده الدار البينة أنه ورثها من أبيه
ولا يدري كيف أمرها، فقال: " أكثرهم بينة يستحلف وتدفع إليه " وذكر:
" أن عليا أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت لهؤلاء البينة أنهم أنتجوها
على مذودهم (3) لم يبيعوا ولم يهبوا، وقامت لهؤلاء البينة بمثل ذلك،
فقضى بها لأكثرهم بينة واستحلفهم " (4).
السابع: الفرق بين السبب المتكرر - كالبيع - وغير المتكرر - كالنتاج
ونساجة الثوب - نسب إلى ابن حمزة (5)، وفسر في شرح المفاتيح قوله بأنه
إذا شهدت لذي اليد على سبيل التكرار - كأن يقول: كان يبيعه مرة ويشتريه
أخرى - ترجح بينته، وإن قالت: اشتراها مرة، واقتصر على ذلك، أو قال
قولا آخر، قدمت بينة الخارج.

(1) حكاه عنه في المختلف: 693.
(2) المفاتيح 3: 271.
(3) المذود: معلف الدابة - مجمع البحرين 3: 46.
(4) الكافي 7: 418 / 1، الفقيه 3: 38 / 129 - 130، التهذيب 6: 234 / 575،
الإستبصار 3: 40 / 135 الوسائل 27: 249 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 12 ح 1، بتفاوت.
(5) الوسيلة: 219، ونسبه إليه في المسالك 2: 391.
393

الثامن: تقديم بينة الخارج، إلا إذا شهدت بالملك، وشهدت بينة
الداخل بالإرث، فيقدم أكثرهم بينة ويستحلف، هو ظاهر الصدوق في
الفقيه (1)، وحكي عن الحلبي (2)، وتدل عليه صحيحة أبي بصير المتقدمة.
التاسع: الرجوع إلى القرعة مطلقا، حكي عن العماني (3)، مدعيا تواتر
الأخبار بقضاء النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك (4).
وربما توجد في المسألة أقوال أخر.
وقد تردد جماعة في المسألة أيضا، كما في الدروس واللمعة
والمسالك والكفاية (5)، وقد اختلف بعضهم مع بعض في نسبة الأقوال
أيضا.
أقول: لا ينبغي الريب في أن الأصل مع القول الأول، لما مر من
الأدلة المثبتة للقاعدة، وهي كون البينة حجة للخارج، وأصالة عدم حجيتها
لغيره، ومع ذلك أفتى بمقتضى ذلك الأصل جماعة من فحول العلماء، من
القدماء وغيرهم (6)، وادعي عليه الإجماع (7)، فلا يجوز رفع اليد عنه إلا
بمخرج، فاللازم النظر في أدلة سائر الأقوال.

(1) الفقيه 3: 39.
(2) قال في الرياض 2: 420:... ويحتمل فيه القول بمضمونه كما حكاه في
المختلف عن الحلبي. إلا أن المنقول في المختلف: 693 هو عين ما في الكافي:
440، ولم نر فيه ظهورا في ذلك.
(3) حكاه عنه في المختلف: 693.
(4) الوسائل 27: 257 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 13.
(5) الدروس 2: 101، اللمعة (الروضة 3): 107، المسالك 2: 390، الكفاية:
276.
(6) راجع ص 331 و 332.
(7) كما في الغنية (الجوامع الفقهية): 625.
394

فنقول: أما أدلة الثاني فغير تامة جدا، أما الأصل والاستصحاب
فلاندفاعهما ببينة المدعي، التي هي حجة شرعية، بل برواية منصور
المتقدمة (1) أيضا.
وأما سقوط بينة المدعي بالتعارض فلكونه فرع التعارض، الذي هو
فرع كون بينة المنكر دليلا شرعيا، وهو ممنوع غايته.
وأصالة حجية قول العدلين غير ثابتة، ولو سلمت فهي في مقام
الترافع غير مسلمة، لقطع الإمام الشركة، وقول نادر بسماعها غير مفيد،
سيما مع معارضته بدعوى الإجماع على خلافه كما مر.
وبعض الأخبار المشار إليها غير ناهضة، لما مر من اختصاصها
بالمقيد بالسبب، ولم نعثر على خبر غير مقيد، ولم يدعه أحد، بل صرح
بعضهم بعدم وضوحه (2).
فلا شك في سقوط هذا القول من البين بالمرة، سيما مع ما له من
الشذوذ والندرة، كما صرح به بعض الأجلة (3).
وأما أدلة الجزء الثاني للثالث فيرد على أولها: عدم حجية الإجماع
المنقول أولا.
ومنع ظهور كلمات من ذكر في الإجماع ثانيا.
ومعارضته مع صريح نقل الإجماع في الغنية المؤيد بموافقة أكثر
القدماء ثالثا.
وعلى ثانيها: منع كون السبب مؤيدا، كما صرح به بعض مشايخنا،

(1) في ص 332.
(2) كما في الرياض 2: 419.
(3) انظر الرياض 2: 419.
395

حيث قال: مع أن في حصول التأيد بالسبب نظرا، ولو سلم فلا نسلم
كليته (1).
وعلى ثالثها: أن الأخبار موردها اشتمال البينتين على السبب،
فلا ربط لها بمحل البحث من كون بينة الداخل مقيدة خاصة.
والتتميم بالأولوية - كما في المسالك (2) - مردود بأن صحته فرع
قولهم بالأصل، وهو تقديم بينة الداخل في المسببين حتى يسري في الفرع
بالأولوية، وهم لا يقولون به، مع أن العمل بالأولوية إنما يتم مع مقطوعية
العلة، وهي ليست هنا بمقطوعة ولا مظنونة، لأن ذكر السبب إنما وقع في
كلام السائل.
وأما دليل الرابع - وهو الأخبار الثلاثة المتقدمة - فمع كون أولها عاميا
ضعيفا غير منجبر، أن شيئا منها لا يدل على المطلوب، إذ ليس فيها إلا أن
بعد شهادتهما بالنتاج عنده قضى لذي اليد بعد الحلف كما في الأولين، أو
مطلقا كما في الأخير، الواجب حمله على المقيد أيضا..
وهذا كما يمكن أن يكون لتعارض البينتين المسببتين وتقديم بينة
ذي اليد منهما، يمكن أن يكون لطرح بينة الداخل، لعدم توقيفيته، وعدم
فائدة لبينة الخارج، لكونها شهادة على الملك القديم، وكونه مرجوحا
بالنسبة إلى اليد الحالية كما هو المشهور.
بل الاحتمال الثاني هو الأظهر، لقضائه (عليه السلام) بعد الحلف، الذي
لا يقولون به القائلون بالقول الرابع، وإنما هو على الاحتمال الثاني، فلا
يكون لهذا القول ولا لسابقه دليل أصلا كالقول السابق عليهما.

(1) انظر الرياض 2: 421.
(2) المسالك 2: 390.
396

مع أنه على فرض الدلالة - كما زعمه المستدل - يحصل التعارض
بينهما وبين أخبار القول الأول، والترجيح مع أخبار الأول، لموافقتها لأصالة
عدم حجية بينة الداخل وعدم وجوب الحلف، وللسنة النبوية الثابتة - التي
هي كون إقامة البينة وظيفة المدعي، وهي من المرجحات المنصوصة -
وللشهرة العظيمة سيما القديمة، ومخالفتها لأكثر العامة، كما صرح به التقي
المجلسي في حاشية الفقيه (1).
وتدل عليه رواية جابر، ونسبة القضاء في الخبرين إلى أمير
المؤمنين (عليه السلام) (2).
وأما ما في الخلاف - من سماع أبي حنيفة بينة الداخل (3) - فهو ليس
صريحا في أنه يقدمها في مورد الروايات - كما ظن - حتى يكون مرجحا
لروايات القول الرابع.
فخلو هذا القول عن الدليل أيضا في غاية الظهور كالقول الخامس
أيضا، فإنه مع ندرته جدا - كما صرح به بعض الأجلة، حيث ناقش مع
المهذب والدروس في نسبة اعتبار الأعدلية قبل الأكثرية إلى قدماء
الأصحاب كما في الأول، أو أكثرهم كما في الثاني، وقال: لم أقف على
قائل منهم بذلك عدا من ذكرنا، أي المفيد، وإن قالوا بذلك فيما إذا كانت
العين بيد ثالثة (4). انتهى - لا شاهد له من الأخبار أصلا.
نعم، في رواية البصري: " كان علي (عليه السلام) إذا أتاه خصمان يختصمان

(1) انظر روضة المتقين 6: 175.
(2) المتقدمة جميعا في ص 340.
(3) الخلاف 2: 635.
(4) انظر الرياض 2: 420.
397

بشهود، عدلهم سواء، وعددهم سواء، أقرع بينهم على أيهم يصير اليمين "
الحديث (1).
ولا دلالة له على هذا المطلب أصلا، إذ لا دلالة لها إلا على أنه إذا
لم يكن عدلهم وعددهم سواء لم يقرع، ولا يعلم أنه ما يصنع، مع أن إرادة
الأعدلية من تساوي عدلهم غير معلومة، واعتبر معه التساوي في العدد
أيضا، ومع ذلك لا دلالة لها على كون العين في يد واحد منهما.
وأما القول السادس، فمع ما ذكر من الشذوذ المخرج لدليله عن
الحجية، يرد على دليله - وهو الصحيحة - أن الاستدلال بها إن كان من جهة
ذيلها المتضمن لقضاء علي (عليه السلام) في البغلة فلا تعرض فيها لكونها في يد
أحدهما كما هو محل النزاع، فيحتمل كونها في يد ثالث، ولا بأس بالقول
به حينئذ كما يأتي.
وإن كان من جهة صدرها فهو أخص مما هو بصدده، لصراحتها في
أن بينة ذي اليد إنما هي على كون الدار بيده بالإرث، وهو القول الثامن،
فلا يفيد له، مع عدم دلالتها على سائر مطالبه من الحلف مع التساوي
والحكم للداخل مع النكول.
وأما السابع، فلم أعثر له على دليل.
وأما الثامن، فدليله - كما عرفت - هو الصحيحة المذكورة، وهي وإن
كانت دالة على ذلك القول إلا أن شذوذها ومخالفتها لشهرة القدماء - حتى
لم يذكر عامل بها سوى من ذكر، وكلام الصدوق أيضا ليس صريحا في

(1) الكافي 7: 419 / 3، الفقيه 3: 53 / 181، التهذيب 6: 233 / 571، الإستبصار
3: 39 / 131، الوسائل 27: 251 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 5،
بتفاوت.
398

الفتوى بمضمونها - يمنع من العمل بها.
وأما التاسع، فدليله الأخبار المتكثرة كما ذكره، وهي - كما قال -
كثيرة معتبرة يأتي ذكرها، إلا أنها برمتها مطلقة، وأخبار القول الأول - بكون
العين في يد أحدهما - مقيدة، والخاص مقدم على العام البتة، سيما مع
موافقة الخاص للشهرة، بل الإجماع، ومخالفة العام في عمومه لعمل
الأصحاب.
ومن ذلك ظهر أن أقوى الأقوال وأمتنها هو القول الأول، فعليه
الفتوى وعليه المعول.
المسألة الثانية: لو كانت العين في يديهما معا، وأقام كل واحد
منهما بينة على الجميع، قضى لهما نصفين، تساوت البينتان كثرة وعدالة
وإطلاقا وتقييدا أم اختلفتا، بلا إشكال في أصل الحكم كما في المسالك (1)،
وعلى المعروف بينهم كما في الكفاية (2)، وبلا خلاف كما في المفاتيح (3)،
وعلى الأشهر، بل عليه عامة من تأخر إلا من ندر كما قيل (4).
لمرسلة ابن المغيرة الصحيحة عن ابن محبوب، ورواية السكوني،
المتقدمتين في المسألة الثانية من بحث أحكام الدعاوى في الأعيان (5)،
الممكن تعميمهما لمورد النزاع بترك الاستفصال عن إقامة البينة وعدمها.
ولقوله (عليه السلام) في موثقة غياث المتقدمة: وقال: " لو لم تكن في يده

(1) المسالك 2: 390.
(2) الكفاية: 276.
(3) المفاتيح 3: 271.
(4) انظر الرياض 2: 421.
(5) راجع ص 296 و 297.
399

جعلتها بينهما نصفين " (1) فإنه أعم من أن تكون في يديهما.
بل صرح بعضهم بأن المراد: أنه لو لم تكن في يده فقط بل تكون
في يديهما (2).
ورواية تميم بن طرفة: إن رجلين عرفا بعيرا، فأقام كل واحد منهما
بينة، فجعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بينهما (3). ومعنى قوله: عرفا - كما فسر -:
أنهما أحضراه عرفة، وكان في يديهما.
وتوهم كونها قضية في واقعة - فيحتمل اشتمالها على ما يخرج عن
مفروض المسألة - ليس في موقعه، لأن غرض الإمام (عليه السلام) عن حكاية قضاء
الأمير (عليه السلام) بيان الحكم، كما تدل عليه تتمة الخبر وجرت عليه طريقة الأئمة
وأصحابهم ويتفاهم منه عرفا، فلا يكون شئ له مدخلية في الحكم عن
الكلام خارجا، بل القرينة الحالية قائمة على أن مناط القضاء كان هو ما في
الكلام خاصة.
ويدل عليه أيضا ما مر في المسألة الأولى من بحث أحكام الدعاوى،
من أن كلا منهما مدع ومنكر، فيعمل ببينته وتنصف، بالتقريب المتقدم في
المسألة المذكورة.
إلا أنه يمكن أن يقال: إن إعمال البينة هو العمل بتمام مقتضاها، ولما
لم يمكن ذلك في المتعارضتين فتكونان عن مدلول العمومات خارجتين.

(1) راجع ص 340.
(2) انظر الرياض 2: 420.
(3) الكافي 7: 419 / 5، الفقيه 3: 23 / 61 وفيه بدل " عرفا ": ادعيا، التهذيب 6:
234 / 574، الإستبصار 3: 39 / 134، الوسائل 27: 251 أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى ب 12 ح 4.
400

وهل يتعلق الحلف بكل منهما أيضا، فيقتسمان بعد حلفهما أو
نكولهما، ويختص بالحالف مع نكول أحدهما؟ كما قواه الفاضل في
التحرير، وجعل عدم اعتبار اليمين احتمالا (1)، وصرح به أيضا في
التنقيح (2)، بل قيل: المستفاد من التنقيح عدم الخلاف في الإحلاف (3).
ويدل عليه أيضا صريحا صدر رواية إسحاق بن عمار المتقدمة (4)،
وهي غير منافية، للروايات المتضمنة للنصف بالإطلاق (5)، فيجب العمل
بهما، مع أن هذه الرواية مخصوصة صريحا في المورد، والروايات إما
ظاهرة فيه أو عامة له.
أو لا، كما هو المشهور؟
الظاهر: الأول، لما مر.. ولا يضر كون ما في الرواية قضية في واقعة
بالتقريب المتقدم في رواية تميم.
ثم الخلاف في المسألة في مقامات أربعة:
أحدهما: في إطلاق الحكم المذكور بالنسبة إلى البينات، والمخالف فيه
- على ما قيل (6) - جمع من القدماء وصاحب المهذب من المتأخرين، وبعض
الفضلاء المعاصرين (7)، فخصوا ذلك بما إذا تساوت البينتان في الأمور المرجحة
من الأعدلية والأكثرية وذكر السبب، وحكموا مع الاختلاف فيها لأرجحهما.

(1) التحرير 2: 194.
(2) التنقيح 4: 281.
(3) انظر الرياض 2: 422.
(4) في ص 340.
(5) الوسائل 27: 249 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12.
(6) انظر الرياض 2: 421.
(7) المهذب البارع 4: 492، المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام: 704).
401

واختلفوا في المرجح أيضا، فعن المفيد: اعتبار الأعدلية هنا
خاصة (1)، وعن الإسكافي: اعتبار الأكثرية كذلك (2)، وعن المهذب: اعتبار
الأعدلية فالأكثرية (3)، وعن ابن حمزة: اعتبار الأعدلية أو الأكثرية أو التقييد
بالسبب (4)، وعن الديلمي: اعتبار المرجح من غير بيان له (5).
ولا دليل على شئ منها، سوى ذيل صحيحة أبي بصير المتقدمة (6)،
المرجحة للأكثرية فقط، وهو - لكونه قضية في واقعة - لا يصلح دليلا لشئ من
تلك الأقوال، إلا أن يضم معه التقريب المتقدم، فيصير دليلا للإسكافي خاصة.
وظاهر أن قوله شاذ نادر، فتكون الرواية الموافقة له - لمخالفة الشهرة
القديمة العظيمة - عن حيز الحجية خارجة، فتكون هي مرجوحة بالنسبة إلى
دليلنا بمخالفة تلك الشهرة، بل السنة الثابتة، وإن كانت بالنسبة إلى هذا الذيل
عامة، لأن مخالفة عمومها أيضا داخلة في أسباب المرجوحية المنصوصة.
ولو قطع النظر عن جميع ذلك فيعارض دليلنا بالعموم من وجه،
والأصل مع عدم قبول بينة الداخل وإن كان أكثر، بل مطلق البينة، سيما في
صورة التعارض، فيكون كما لا بينة له، والحكم التنصيف أيضا.
وعدا ما قيل من أن حال البينتين حال الخبرين المتعارضين (7).
وهو قياس باطل، بل مع الفارق، للخلاف في مناط العمل بالخبر هل

(1) المقنعة: 730.
(2) حكاه عنه في المختلف: 693.
(3) المهذب 2: 578.
(4) الوسيلة: 218.
(5) المراسم: 234.
(6) في ص 341.
(7) انظر غنائم الأيام: 704.
402

هو من حيث إنه خبر، أو من حيث إفادته المظنة، وعلى الأخير يمكن
لزوم متابعة أقوى الظنين.. بخلاف البينة، فإن مناط العمل بها خصوصيتها
- كاليد - كما صرح به جماعة من الأصحاب، ولذا يعمل بها ولو لم تفد
المظنة، بل حصل من قول المدعى عليه أو بشهادة الفاسق ظن أقوى منها.
وثانيها: في أصل الحكم المذكور، والمخالف فيه - كما حكي -
العماني (1)، فإن إطلاق كلامه يقتضي لزوم القرعة هنا أيضا وتقديم من
أخرجته، ودليله المستفيضة (2) المتقدمة إليها الإشارة.
وجوابه: إن دليلنا أخص مطلقا منها، راجح عليها بما مر، فيجب
التخصيص.
لا يقال: يلزم تخصيص الأكثر، إذ لم تبق إلا صورة واحدة، هي كون
العين في يد ثالث، أو مع كونها مما لا يد عليها، وهو أيضا تخصيص
المساوي، وفيه أيضا كلام.
لأنا نقول: إن روايات القرعة ليست مخصوصة بالأعيان، فتشمل
غيرها أيضا، مع أن أكثرها قضايا في وقائع.
وثالثها: في سبب الحكم المذكور، فقيل: هو تساقط البينتين، فيكون
كما لا بينة فيه (3).
وقيل: لأن لكل واحد منها مرجحا باليد على نصفها، فيبنى على
ترجيح بينة الداخل (4).
وقيل: لترجيح بينة الخارج فيقضى لكل واحد منهما بما في يد

(1) المختلف: 693.
(2) الوسائل 27: 257 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 13.
(3 و 4) نقلهما في المسالك 2: 390 من غير تعيين القائل ولم نعثر عليه.
403

صاحبه (1).
وتظهر الثمرة في ثبوت اليمين، فتثبت عليهما على الأول، ولا يمين
على الأخيرين.
والحق: أن أكثرها تخريجات واستنباطات غير ملائمة لطريقة
الإمامية، بل السبب ما ذكرنا من العمومات والأخبار الخاصة.
ورابعها: في لزوم اليمين وعدمها، فإن المشهور - كما قيل (2) - هنا
عدم اليمين، لإطلاق الروايات المتقدمة (3)، وعدم صراحة رواية إسحاق (4)
في كون العين بيديهما.
وفيه: أن عدم صراحتها لعلها على بعض الطرق، وأما على ما نقله
في الوافي عن التهذيب والكافي فهي صريحة في كونهما ذا اليد (5).. والله
هو المعتمد.
المسألة الثالثة: لو كانت في يد ثالث، يقضى بأرجح البينتين عدالة،
ومع التساوي في العدالة يقضى بأكثرهما عددا، ومع التساوي يقرع بين
المتداعيين، فمن خرج اسمه أحلف وقضي له، ولو امتنع حلف الآخر
وقضي له.. فإن نكلا قضي بينهم بالسوية على المشهور بين الأصحاب
خصوصا المتأخرين، بل عليه عامتهم كما قيل (6)، وفاقا لنهاية الشيخ
والتهذيب والاستبصار وموضع من الخلاف والصدوقين والحلبي والقاضي

(1) الشرائع 4: 111.
(2) الرياض 2: 422.
(3) في ص: 339 و 340.
(4) المتقدمة في ص 340.
(5) الوافي 16: 931.
(6) انظر الرياض 2: 422.
404

والحلي وابن حمزة ويحيى بن سعيد وابن زهرة مدعيا عليه الإجماع (1).
ودليلهم: أما على اعتبار الرجحان بالأعدلية فرواية البصري: " كان
علي (عليه السلام) إذا أتاه خصمان بشهود، عدلهم سواء، وعددهم سواء، أقرع
بينهم على أيهم يصير اليمين " قال: " وكان يقول: اللهم رب السماوات
السبع أيهم كان الحق له فأده إليه، ثم يجعل الحق للذي يصير عليه اليمين
إذا حلف " (2).
وأما على اعتبار الأكثرية فهي أيضا، مضافة إلى صحيحة أبي بصير
المتقدمة (3) دليلا للقول السادس من المسألة الأولى..
وموثقة سماعة: " إن رجلين اختصما إلى علي (عليه السلام) في دابة، فزعم
كل واحد منهما أنها نتجت على مذوده، وأقام كل واحد منهما بينة سواء في
العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلم السهمين كل واحد منهما بعلامة، ثم
قال: اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع ورب العرش العظيم
عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم أيهما كان صاحب الدابة وهو أولى بها
فأسألك أن تخرج سهمه، فخرج سهم أحدهما فقضى له بها " (4).

(1) النهاية: 344، التهذيب 6: 237، الإستبصار 3: 42، الخلاف 2: 638،
الصدوقين في الفقيه 3: 39، والمقنع: 133، الحلبي في الكافي في الفقه: 449،
المهذب 2: 578، الحلي في السرائر 2: 167، ابن حمزة في الوسيلة: 220،
ابن سعيد في الجامع: 532، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625.
(2) الكافي 7: 419 / 3، الفقيه 3: 53 / 181، التهذيب 6: 233 / 571،
الإستبصار 3: 39 / 131، الوسائل 27: 251 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 12 ح 5، بتفاوت.
(3) في ص 341.
(4) الفقيه 3: 52 / 177، التهذيب 6: 234 / 576، الإستبصار 3: 40 / 136،
الوسائل 27: 254 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 12، بتفاوت.
405

وأما على الرجوع إلى القرعة فبالروايات المتقدمة (1)، مضافة إلى
صحيحة الحلبي (2)، ورواية داود بن سرحان: في شاهدين شهدا على أمر
واحد، وجاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا واختلفوا، قال: " يقرع
بينهم، فأيهما قرع فعليه اليمين، وهو أولى بالقضاء " (3).
وأما على تأخر القرعة عن الأكثرية فباختصاص جميع روايات القرعة
بصورة التساوي في العدد، كما هو ظاهر.
وأما على تأخرها عن الأعدلية فللرواية الأولى أيضا (4).
وأما على تأخر الأكثرية عن الأعدلية فلم أعثر على دليل لهم.
نعم، استدل له بعض مشايخنا بالإجماع المنقول عن الغنية (5).
ولا يخفى ضعفه، بل ضعف بعض أدلتهم الأخر المذكورة أيضا، فإن
دلالة رواية البصري وموثقة سماعة على اعتبار الأعدلية والأكثرية ليست إلا
بمفهوم الوصف، الذي هو عند المحققين غير حجة.
والأولى الاستدلال بالرضوي المنجبر ضعفه بما مر، قال: " فإن لم
يكن الملك في يد أحد، وادعى الخصمان فيه جميعا، فكل من أقام عليه
شاهدين فهو أحق به، فإن أقام كل واحد منهما شاهدين فإن أحق المدعيين

(1) انظر الوسائل 27: 257 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 13.
(2) التهذيب 6: 235 / 577، الإستبصار 3: 40 / 137، الوسائل 27: 254 أبواب
كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 11.
(3) الكافي 7: 419 / 4، الفقيه 3: 52 / 178، التهذيب 6: 233 / 572،
الإستبصار 3: 39 / 132، الوسائل 27: 251 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 12 ح 6.
(4) أي رواية البصري المتقدمة في ص 353.
(5) انظر الرياض 2: 421.
406

من عدل شاهداه، فإن استوى الشهود في العدالة فأكثرهم شهودا يحلف
بالله ويدفع إليه الشئ، وكل مالا يتهيأ فيه الإشهاد عليه فإن الحق فيه أن
تستعمل فيه القرعة " (1).
لا يقال: إن قوله: " فإن لم يكن الملك في يد أحد " - الظاهر في أنه
لا يد عليه أصلا - يخرج الكلام عن مفروض المسألة، لأن المتبادر من
اليد: اليد المقتضية (2) للملكية، واليد المنضمة مع اعتراف المتصرف بعدم
استحقاقه له - كما هو المفروض - ليست يدا كذلك، كما مر مفصلا،
فالمفروض أيضا مما لا يد عليه، مع أن الظاهر في قوله: " يد أحد " - بعد
بيان حكم ما في يد أحدهما - إرادة عدم كونه في يد أحد من المتداعيين.
بل يمكن أن يقال: إن الظاهر من قوله: " ويدفع إليه الشئ " أيضا
ذلك، فإن الظاهر من دفع الشئ أنه في يد أحد.
نعم، بقي أن الظاهر من قوله: " من عدل شاهداه " أن الترجيح بأصل
العدالة دون الأعدلية.
وقوله: " فإن استوى الشهود في العدالة " وإن احتمل الثاني إلا أنه
ليس نصا فيه، بل يحتمل الأول أيضا.
إلا أنه يمكن أن يقال: إن الظاهر من التساوي في العدالة بالإطلاق
من غير تقييد بأصلها يفيد التساوي في القدر أيضا، ولذا يصح سلب
التساوي عرفا عن المختلفين في القدر، ويؤكده قوله في الرواية الأولى:
" عدلهم سواء " فإنه ظاهر في حد العدالة.

(1) فقه الرضا (عليه السلام): 262، مستدرك الوسائل 17: 372 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 10 ح 3.
(2) في " ق ": المتضمنة...
407

وأما على حلف من خرجت القرعة باسمه والقضاء له بعدها فبرواية
البصري وصحيحة الحلبي، وبهما يقيد إطلاق الموثقة والرضوي.
وأما على التنصيف بعد نكولهما، فقيل: للإجماع المنقول
المتقدم (1)، ووهنه ظاهر.
وقيل: لتعارض البينتين وتساقطهما، مع عدم إمكان ترجيح إحداهما
على الأخرى بالقرعة، فلم يبق إلا النصف (2).
أقول: ويمكن الاستدلال له بعمومات التنصيف المتقدمة هنا وفي
بحث الدعوى في الأعيان، كموثقة غياث (3)، ورواية تميم (4)، ومرسلة ابن
مغيرة (5) وغيرها (6)، خرجت صورة اختلاف البينتين عدالة أو عددا، وقيل:
القرعة والحلف بما مر (7)، فيبقى الباقي.
وظهر بما ذكر أن سند المسألة واضح، والحكم بها - كما قالوا -
متعين.
وأما المخالف فيها من الفتاوى، فبين من اقتصر على اعتبار الأعدلية
خاصة، كالمفيد (8).
ومن اقتصر على اعتبار الأكثرية خاصة، كالإسكافي ومحتمل

(1) انظر الرياض 2: 423.
(2) كما في الإيضاح 4: 407.
(3) المتقدمة في ص 340.
(4) المتقدمة في ص 348.
(5) المتقدمة في ص 296.
(6) كرواية السكوني المتقدمة في ص 302.
(7) كما في المبسوط 8: 264.
(8) المقنعة: 730.
408

الصدوقين (1)، وهو ظاهر المحقق الأردبيلي، حيث قال: إن العدالة تكفي
للشهادة، وأما أن زيادتها تفيد الترجيح فلا.
ومن اقتصر على اعتبارهما خاصة، من غير ذكر الترتيب بينهما
ولا القرعة بعدهما، كموضع من الخلاف، قائلا: إنه الظاهر من مذهب
أصحابنا (2).
ومن اقتصر على ذكر المرجح مطلقا، من دون بيان له ولا ذكر قرعة،
كالديلمي (3).
أو مع ذكر القرعة بعد العجز عن الترجيح، مدعيا عليه إجماع
الإمامية، كموضع آخر من الخلاف (4).
وبين من قدم الأكثرية على الأعدلية، كالحلي (5)، معزيا له إلى ظاهر
الأصحاب.
وبين من اقتصر على القرعة خاصة، كالعماني (6).
وبين قائل بالقرعة مع الشهادة بالملك المطلق من الجانبين، وبالقسمة
نصفين إن كانت الشهادتان مقيدتين، والقضاء للمقيد إن كانتا مختلفتين،
كالشيخ في المبسوط (7).

(1) حكاه عن الإسكافي في المختلف: 693، حكاه عن والد الصدوق في المقنع:
134، الصدوق في المقنع: 134.
(2) الخلاف 2: 636.
(3) المراسم: 234.
(4) الخلاف 2: 638.
(5) السرائر 2: 169.
(6) المختلف: 693.
(7) المبسوط 8: 258.
409

والكل أقوال نادرة عن الدليل التام خالية كما لا يخفى على المتتبع،
سيما بعد ما ذكرنا في هذه المسألة والمسألتين السابقتين.
وأما المخالف لها من الأخبار فبعض العمومات اللازم تخصيصها بما
مر، ورواية إسحاق المتقدمة (1) المتضمنة لقوله: " فلو لم تكن في يد واحد
منهما وأقاما البينة؟ قال: " احلفهما، فأيهما حلف ونكل الآخر جعلتها
للحالف، فإن حلفا جميعا جعلتها بينهما نصفين ".
ولكن عدم قائل به يوجب رفع اليد عنه بالمرة.
ثم إنه قد عرفت اعتبار اليمين مع القرعة، وظاهر الصدوقين والشيخ
في النهاية والخلاف والتهذيب والاستبصار والقاضي وابن زهرة اعتبارها مع
الأكثرية أيضا (2)، وادعى في الخلاف والغنية إجماع الإمامية عليه.
وتدل عليه صحيحة أبي بصير والرضوي المتقدمان (3)، فالقول به
متعين.
وأما مع الأعدلية فلا دليل على اعتبارها، ولذا يظهر من جماعة
- منهم: الشرائع والنافع والإرشاد والتحرير والقواعد واللمعة - عدمه (4)،
وعن الروضة اعتبارها معها (5)، والأصل ينفيه.. والله العالم.

(1) في ص 340.
(2) حكاه عن والد الصدوق في المقنع: 134، الصدوق في المقنع: 134، النهاية:
343، الخلاف 2: 636، التهذيب 6: 237، الإستبصار 3: 42، القاضي في
المهذب 2: 578، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 625.
(3) في ص 341 و 354.
(4) الشرائع 4: 111، النافع: 286، التحرير 2: 195، القواعد 2: 232، اللمعة
(الروضة البهية 3): 107.
(5) الروضة 3: 107.
410

فرع: لم يتعرض الأكثر لتصديق الثالث لأحد المتداعيين هنا، كما
تعرضوا له في صورة عدم البينة.
قيل: لعل إطلاقهم هنا مبني على الإغماض عن حكم اليد وخلافها،
ونظرهم إلى بيان سائر المرجحات (1). انتهى.
وهو محتمل، ويحتمل أيضا أن يكون بناؤهم على عدم اعتبار
تصديقه، نظرا إلى إطلاق الأدلة، كما فهمه المحقق الأردبيلي في شرح
الإرشاد، حيث حكم بتفرقة المطلوب بين صورة عدم البينة وصورة
وجودها في سماع تصديق الثالث، وقال بأن الحكم بالتصديق والحلف هنا
أيضا ممكن.
ووجه عدم الاعتبار حينئذ - كما يظهر من الفاضل في التحرير (2) -: أن
البينتين متطابقتان على عدم ملكية الثالث، فلا يكون إقرارا، لأنه إنما يكون
في ملك الشخص واقعا أو ظاهرا، ومع البينتين لا يكون كذلك، وللتأمل فيه
مجال.
المسألة الرابعة: لو لم تكن العين في يد أحد، فإن كانت لواحد
منهما بينة يقضى له، وإن كانت البينة لهما فظاهر عبارة الصدوقين أن حكمه
حكم يد الثالث (3)، وقال بعض فضلائنا المعاصرين: إنه الأولى (4).
وهو كذلك، لإطلاق أكثر الأخبار المتقدمة - إن لم نقل جميعا -
بالنسبة إلى هذه الصورة أيضا.

(1) غنائم الأيام: 708.
(2) التحرير 2: 195.
(3) الصدوق في المقنع: 133 - 134، وحكاه عن والده.
(4) المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام: 708).
411

المسألة الخامسة: كل ما ذكر إنما كان في تعارض البينات في
الأعيان من الأموال، وقد يتحقق في الديون، كما إذا كانت دعوى الدين
مقرونة بسبب خاص يقيم المنكر البينة على انتفاء السبب.
وكما إذا ادعى أحد على آخر جناية فيها الدية خاصة في وقت
خاص، وأقام بينته، وأقامها الآخر على أنه لم يكن حاضرا في هذا الوقت.
أو ادعى أحد بالشهود وصية زيد له بثلث ماله، وادعاها آخر أيضا
كذلك.
وقد يتحقق في غير الأموال من الحقوق أيضا، كما إذا أقام أحد
شهودا على زوجية زينب له، وأقامها الآخر كذلك.
أو أقام أحدهما على وصية زيد له بالولاية على الصغير، وأقام آخر
أيضا كذلك.. إلى غير ذلك.
والتحقيق في الجميع: أن يبنى على أصالة عدم قبول بينة المنكر،
وعلى تعيين القرعة لكل أمر مشكل.
وعلى هذا، فنقول: إن جميع الأخبار المتضمنة لسماع بينة المنكر
أيضا ومزاحمتها لبينة المدعي كانت مخصوصة بالأعيان من الأموال، فلا أثر
لها في غيرها أصلا، وكل ما دل على سماع بينة المدعي وقبولها
فمخصوص بحكم العقل بما لا يعارضه مثلها..
فمورد التعارض الواقع في غير الأعيان إن كان مما يكون أحدهما
مدعيا والآخر منكرا تطرح بينة المنكر ويعمل بمقتضى بينة المدعي.
وإن كان مما يكون كلاهما مدعيين ولا دليل للحكم في خصوص
المسألة، يقرع ويحكم بمقتضى القرعة، لعموم: " القرعة لكل أمر مجهول "
412

أو: " مشكل " (1) المستفيضة دعوى الإجماع على روايته والعمل به (2)،
ولصحيحة الحلبي ورواية داود بن سرحان ورواية البصري والرضوي،
المتقدمة جميعا (3).
وتدل عليه أيضا مرسلة داود بن أبي يزيد العطار الآتية (4).
ورواية زرارة: رجل شهد له رجلان بأن له عند رجل خمسين
درهما، وجاء آخران فشهدا بأن له عنده مائة درهم، كلهم شهدوا في
موقف، قال: " أقرع بينهم، ثم استحلف الذين أصابهم القرع بالله أنهم
يشهدون بالحق " (5).
ومقتضى هذه الرواية وروايتي البصري وداود بن سرحان وصحيحة
الحلبي الإحلاف بعد القرعة أيضا، وعليه العمل.
وبهذه الأخبار تقيد المطلقات في مقام تعارض البينات.. والله العالم.
المسألة السادسة: لو تعارضت اليد الحالية مع الملكية السابقة أو
اليد السابقة، ففي تقديم الحالية أو السابقة قولان، كل منهما عن الشيخ في
كل من المبسوط والخلاف (6).
وتبعه على الأول جماعة (7)، ولعلهم الأكثرون، ومنهم من

(1) الوسائل 17: 189 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 13 ح 11.
(2) انظر عوائد الأيام: 226.
(3) في ص 353 و 354.
(4) في ص 371.
(5) التهذيب 6: 235 / 578، وفي الكافي 7: 420 / 1، الإستبصار 3: 41 / 138،
الوسائل 27: 252 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 7: يحلفون
بالحق، بدل: يشهدون بالحق.
(6) المبسوط 8: 269 و 280، الخلاف 2: 641.
(7) كالعلامة في القواعد 2: 232 و 234، يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع:
532، الشهيد الثاني في الروضة 3: 109.
413

المتأخرين: الكفاية والمفاتيح وشرحه (1)، وبعض فضلائنا المعاصرين (2).
وعلى الثاني: الشرائع (3)، ويظهر من الإرشاد الميل إليه.
ويظهر من التحرير وجه ثالث هو التساوي، حيث قال: ولو كان السبق في
جانب واليد في جانب، ففي تقديم السبق أو اليد أو التساوي نظر (4). انتهى.
واحتج للأول بأن اليد ظاهرة في الملك الحالي، ولا تدفعها اليد
السابقة، لاحتمال كونها بعارية ونحوها، ولا الملك السابق، لاحتمال
انتقالها منه إلى الغير، ولعدم مطابقة الدعوى والشهادة، إذ الدعوى بالملك
الحالي، والشهادة متعلقة بالسابق.
وفيه - مضافا إلى أن احتمال العارية ونحوها متحقق في اليد الحالية
أيضا -: أن اليد والملك السابقين وإن لم يصلحا لدفع الحالي ولم يطابقا
الدعوى إلا أن استصحاب مقتضى اليد السابقة وأصل الملك السابق صالح
لدفعه، مطابق للدعوى.
والقول بأن الاستصحاب إنما يعمل به لولا المعارض له، واليد الحالية
هنا له معارض، خصوصا في اليد السابقة، لانقطاعها رأسا، كما ذكره
بعضهم (5).
أو أن الاستصحاب وإن عارض اليد ولكن اليد أقوى، لأن اقتضاءها
الملكية وإن كان ظنيا لكن نفسها قطعي، بخلاف استصحاب مدلول
الشهادة، فإن مقتضى الشهادة ظني وكذا استصحابه، فالأول ظن حاصل من

(1) الكفاية: 277، المفاتيح 3: 273.
(2) المحقق القمي في رسالة القضاء (غنائم الأيام: 710).
(3) الشرائع 4: 112.
(4) التحرير 2: 195.
(5) انظر المسالك 2: 393.
414

القطع، والثاني ظن حاصل من الظن، فيقدم، كما قاله آخر.
أو أن الثابت حجيته هو ما شهد به الشاهد بعلمه أو ظنه
الاستصحابي، وأما ظن الحاكم لاستصحاب المخبر به فلا دليل على
حجيته، ولا يستلزم فعليه الظن للشاهد، وإنما الثابت حجية علمه القطعي
في القضاء، لا مطلق الظن، كما ذكره ثالث.
فاسد، سيما الأخير..
أما الأول: فلأن مقتضى التعارض رفع اليد عن المتعارضين عند عدم
المرجح، لا تقديم أحدهما.
نعم، لو كانت اليد دليلا على الملك يدفع بها الاستصحاب عند
التعارض، ولكن قد عرفت أنه أيضا كالاستصحاب من باب الأصل.
وأما الثاني: فلمنع كون اليد أقوى بعد ثبوت حجية الكل من الشارع،
وما ذكر في تقويتها من تخريجات العامة العمياء، ثم منع إيجاب مثل تلك
القوة - لو كانت - للتقديم.
وأما الثالث: فلأن أخبار عدم نقض اليقين بالشك أدلة واضحة على
حجية ذلك الاستصحاب، ولو اختص جواز قضاء الحاكم بعمله لما جاز
الحكم بالبينة أيضا، إذ لا تفيد العلم.
فإن قيل: هي أمارة ثبتت حجيتها شرعا.
قلنا: وكذلك الاستصحاب، ولو سلمنا أن حجية الاستصحاب لأجل
الظن فإنما هو ظن ثابت الحجية.
واستدل للثاني: بأن اليد الحاضرة إن كانت دليل الملك فالسابقة
المستصحبة أو الملك السابق المستصحب أولى، لمشاركتهما في الدلالة
415

على الملك الحالي، وانفرادهما بالزمن السابق (1).
وفيه: أن انفرادهما بالسابق لا يوجب ترجيحا إلا من جهة
الاستصحاب أيضا، وإذا سقط بالمعارضة لا يبقى وجه ترجيح.
وذكر الحلي في السرائر (2) - في مسألة تعارض بينتي ملك القديم
والأقدم - ما يمكن أن يستدل به للثاني هنا أيضا، بأن يقال بعد ثبوت
الملكية السابقة: لا يمكن الملكية الحادثة إلا بانتقال عن الأول إلى الثاني،
وهو خلاف الأصل، وموجب بوجوب الدرك على الأول، وهو أيضا
خلاف الأصل.
وفيه: أن هذا الأصل معارض بأصالة اقتضاء اليد الملكية، الموجبة
للانتقال والدرك، فلا تأثير له، ولا يفيد تعدد خلاف الأصل في جانب، كما
بيناه في محله.. مع أن توقف ملكية الثاني على الانتقال عن الأول ممنوع،
لجواز بناء الشاهد على الملكية الظاهرة المستفادة من اليد أو نحوها، وكان
واقعا ملكا للثاني، وكان بيده وكالة أو نحوها، فأخذ المال من غير انتقال.
ثم بما ذكر يظهر دليل الوجه الثالث المذكور في التحرير أيضا (3).
والتحقيق: أن اقتضاء اليد للملكية بعارض استصحاب الملكية،
فلا يبقى لشئ منهما حكم، ولكن أصل اليد لا يعارضه شئ، وهو باق
بالمشاهدة والعيان، والأصل عدم التسلط على انتزاع العين من يده،
ولا على منعه من التصرفات التي كان له فيها، حتى بيعها وإجارتها، إذ غاية
الأمر عدم دليل لنا على ملكيته، ولكن لا دليل على عدم ملكيته أيضا،

(1) انظر المسالك 2: 393.
(2) السرائر 2: 169.
(3) التحرير 2: 195.
416

وأصالة عدم الملكية بالنسبة إليه وإلى غيره سواء، مع ثبوت أصل الملكية،
فلا يجري فيه ذلك الأصل أيضا.
مضافا إلى إمكان حصول جواز هذه التصرفات كلا أو بعضا بالتوكيل
والإجارة والولاية والإذن وغيرها، فتبقى أصالة عدم التسلط وأصالة جواز
تصرفاته خالية عن المعارض..
وإلى هذا يشير كلام من قال: إن احتمال كون اليد الثانية بالعارية أو
غيرها لا يلتفت إليه مع بقاء اليد على حالها، فإن المقصود الأصلي من
إعمال اليد هو إبقاء تسلطها على ما فيها وعدم جواز منعها من التصرفات
كيف شاء بسبب احتمال الغصب أو العارية أو غيرهما، فيحكم عليها بما
يحكم على ملك الملاك، وليس هذا معنى الحكم بأنه ملك (1). انتهى كلامه
رفع مقامه.
فإن قيل: كما أن الملكية أو اليد السابقة تقتضي استصحاب الملكية،
كذلك تقتضي استصحاب تسلط المالك الأول والحاكم على منع ذي اليد
عن التصرفات أيضا، وبه تندفع أصالة عدم التسلط.
قلنا: ليس تسلط الأول كالملكية التي إذا حدثت يحكم لها بالاستمرار
حتى يثبت المزيل، بل هو مما يمكن تقييده بقيد، والمعلوم من التسلط
الأولي هو تسلطه ما دام يحكم له بالملكية وتعلم له الملكية، فالمعلوم
ثبوته أولا ليس إلا ذلك المقيد، فبعد انتفاء الحكم بالملكية والعلم بها ينتفي
القيد، ويتغير الموضوع.
ثم إنه كما أن نفس اليد المشاهدة الحالية ومقتضياتها - سوى الملكية -

(1) غنائم الأيام: 710.
417

لا معارض لها، فكذلك أيضا كون البينة على غير ذي اليد، وكون من يدعيه
مطالبا بالبينة، وذي اليد باليمين، إذا لم يخرج خارج اليد عن صدق
المدعي عرفا، ولا صاحبها عن المنكر كذلك..
فيدل على كون وظيفة الأول البينة والثاني اليمين قولهم: " البينة على
المدعي، واليمين على من أنكر " ورواية فدك المتقدمة (1)، فتكون البينة
على المالك السابق واليمين على ذي اليد، ولا يمنع ذو اليد من شئ من
التصرفات، وليس المطلوب من ترجيح اليد الحالية غير ذلك أيضا، مع أنه
يمكن جعل هذين الأمرين دليلا برأسه على الملكية أيضا بالإجماع المركب
يسقط به الاستصحاب بالمرة لعدم صلاحيته لمعارضة الدليل مطلقا.
فرعان:
أ: صرح جماعة من الأصحاب - منهم: المحقق في الشرائع
والفاضل في جملة من كتبه والمحقق الأردبيلي وفي المسالك والكفاية
والمفاتيح (2) وغيرها (3) - بأنه لو شهدت بينة المدعي: أن صاحب اليد
غصبها، أو استأجرها، أو استعارها، أو نحو ذلك، سقط اعتبار اليد،
وحكم بها للمدعي.. ونفى عنه الإشكال في المسالك، بل ظاهره بل
صريحه نفي الخلاف عنه، وفي الإيضاح: أنه تقبل الشهادة حينئذ قولا
واحدا (4)، وهو مؤذن بدعوى الإجماع عليه، ونفى عنه الريب في شرح

(1) في ص 281.
(2) الشرائع 4: 113، الفاضل في القواعد 2: 234، التحرير 2: 196، المسالك
2: 393، الكفاية: 277، المفاتيح 3: 273.
(3) كما في كشف اللثام 2: 367.
(4) إيضاح الفوائد 4: 414.
418

المفاتيح.
وكيف كان، فلا ريب في الحكم، لأن استصحاب اليد السابقة
الغصبية أو الاستئجارية مثلا وأصالة عدم حدوث يد أخرى يجعل اليد
الحالية يد مباشرة لا المقتضية للملكية، فلا يبقى معارض للاستصحاب،
بل ليس مقتض لملكية ذي اليد، إذ ليس إلا اليد، واقتضاؤها مخصوص بما
إذا لم يدل على عدمه دليل، وما ذكرنا دليل على عدم الاقتضاء.
ب: قال في الكفاية: وفي كلامهم القطع بأن صاحب اليد لو أقر
أمس بأن الملك له - أي للمدعي - أو شهدت البينة بإقراره أمس له، أو أقر
بأن هذا له أمس، قضي به له، وفي إطلاق الحكم بذلك إشكال (1). انتهى.
وكذا حكم في القواعد بثبوت الإقرار، واستصحاب موجبه لو شهدت
البينة بإقراره له بالأمس، أو أقر المدعى عليه بالأمس أنه له، وبالانتزاع عن
يده لو أقر بأنه كان ملك المدعي بالأمس (2).
وكذا في التحرير (3) وشرح الإرشاد للأردبيلي في صورة الشهادة
بإقرار الأمس، وصورة إقرار المدعي بأنه كان له بالأمس، إلا أنه جعل
الأقرب في الصورة الأخيرة الانتزاع من يده، مؤذنا بوقوع الخلاف فيه، إلا
أنه قال في شرح الإرشاد: إنه غير واضح الدليل إلا أن يكون إجماعا.
وقال في تمهيد القواعد: لو قال المدعى عليه: كان ملكك بالأمس،
أو قال المقر بذلك ابتداء، قيل: لا يؤخذ به، كما لو قامت بينة بأنه كان
ملكه بالأمس، والأقوى أنه يؤاخذ، كما لو شهدت البينة بأنه أقر أمس.

(1) الكفاية: 277.
(2) القواعد 2: 234.
(3) التحرير 2: 195.
419

انتهى.
وقد يستدل على بعض هذه الصور - ويفرق بينه وبين ما تقدم - بأن
الإقرار ينبئ عن التحقيق، والشاهد قد يخمن، ويقال فيما تقدم: بأن اليد
محسوسة، والشهادة مظنونة، وبأن استصحاب المقر به ظن ناشئ من
القطع، واستصحاب المشهود به ظن حاصل من الظن.
ولعمري أنه لا يليق للفرقة الإمامية أن تتشبث بأمثال هذه
التخريجات.
والتحقيق: أنه إن أقر المدعى عليه في الحال - أي بعد الادعاء عليه -
بأنه كان له في السابق، أو ثبت هذا الإقرار بالبينة، يقدم المدعي، لأن ذلك
الإقرار المسموع منه أو الثابت بالبينة يتضمن أمرين، أحدهما: ملكية
المدعي في السابق، وثانيهما: الانتقال منه إلى المدعى عليه، وهو في الثاني
مدع ولا تفيده اليد لمعارضة الاستصحاب، فتكون عليه البينة والإثبات،
نظير الدعوى بالدين، فإنه لو ادعي عليه عن مبيع اشتراه بالذمة فأقر بذلك
البيع يصير مدعيا، وترفع اليد عن أصالة براءة الذمة ونحوه ولو لم يصرح
بأني أديته.
وعلى هذا، فتشمله عمومات البينة على المدعي واليمين على
المدعى عليه.
وهذا مراد من قال بأن ذلك اعتراف من ذي اليد بكونه مدعيا وظيفته
الإثبات.
وأما لو كان المدعى عليه أقر في السابق بملكيته، أو ثبت إقراره
السابق، فلا يوجب تقديم المدعي، لأن ذلك لا يجعله مدعيا عرفا، سواء
كان ذلك الإقرار سابقا على يده أو على الادعاء عليه.
420

وفي حكم الإقرار بالملكية السابقة للمدعي الإقرار بالاشتراء ونحوه
من وجوه الانتقالات، بل ذلك أولى بالقبول، لأظهريته في جعله مدعيا.
المسألة السابعة: كما يتحقق التعارض بين الشاهدين ومثلهما،
يتحقق بينهما وبين شاهد وامرأتين، وكذلك بينهم وبين مثلهم، والمعروف
من مذهبهم عدم تحققه بين الشاهدين، أو شاهد وامرأتين، وبين شاهد
ويمين.
قيل: لضعف الشاهد واليمين، من جهة وقوع الخلاف في كونه
مثبتا، ومن جهة أن الحالف يصدق نفسه، بخلاف الشاهدين، فإنهما
يصدقان غيرهما (1).
ولا يخفى ضعف الوجهين، وأنهما من الوجوه المستنبطة الموافقة
لطريق العامة، التي فتح بابها شيخ الطائفة في خلافه ومبسوطه (2)، حيث
جرى فيهما على طريقة المخالفين والترجيح بين أقوالهم بمذاقهم، لكونه
مختلطا معهم كما ذكره الحلي في السرائر (3) وغيره، فظن الداخل في فقه
الإمامية الغير السائر على بصيرة في دينه أن أمثال هذه الوجوه مما تعتبره
الإمامية أيضا، لحسن الظن بالشيخ والغفلة عن مرامه.
وقد علل المحقق الأردبيلي عدم تعارضهما بأن الشاهد واليمين ليسا
بحجة شرعية مستقلة في جميع الأحكام، بل الشاهد حجة مع انضمام يمين
المدعي في بعض الأحكام مع تعذر الشاهدين.
وهو حسن، إلا أن لقائل أن يقول: إن الكلام في الأحكام التي يكون

(1) انظر المسالك 2: 391.
(2) الخلاف 2: 637، المبسوط 8: 210.
(3) السرائر 2: 171.
421

الشاهد واليمين حجة فيها، كما إذا كانا مدعيين فيما كان بيديهما معا، أو
بيد ثالث، أو لا يد عليه، ومنه الوصية بالثلث إذا ادعاها كل شخص لنفسه،
ولازم الدليل حصول التعارض، لعموم أدلة حجية الشاهد واليمين في تلك
الموارد، ولكنه إنما يتم عند من يقبلهما في مطلق الأموال أو حقوق الناس.
وأما على اختصاصهما بالديون - كما هو الحق - فلا يمكن فيها
التعارض، إلا إذا ادعى دينا بسبب خاص - كثمن مع فرس معين في زمان
معين - وأتى بالشاهد الواحد وحلف معه، وأتى المدعى عليه بشاهدين
على موت ذلك الفرس قبل ذلك الزمان.
ويمكن أن يقال حينئذ أيضا: إن بينة المنكر لا دليل على قبولها إلا
مع التعارض مع البينة في موارد خاصة لا مطلقا، فلا تعارض بينة الشاهد
واليمين أصلا.
هذا، ثم إنه نقل في الشرائع عن الشيخ قولا بالتعارض والقرعة
بينهما (1)، وكذلك صرح في الدروس بقوله بذلك (2)، وعن فخر المحققين
نفي القول عنه (3)، بل نقول إنه متردد، وبه صرح في المسالك بعد نقل
عبارته في المبسوط (4).
ولا يخفى أن عبارته المنقولة في المسالك ظاهرة في التعارض، إذ
لولاه للزم الحكم بالثلث لزيد الذي له الشاهدان، وطرح قول عمرو الذي له
الشاهد واليمين، فلولا حجية مستنده وتعارضه مع مستند زيد فما وجه

(1) الشرائع 4: 111.
(2) الدروس 2: 102.
(3) إيضاح الفوائد 4: 409.
(4) المسالك 2: 391.
422

القرعة؟! وليس معنى التعارض إلا تضاد المدلولين وعدم العمل بهما.
وأما حمل مراده على أنه على القول بالتعارض - كما هو أحد قولي
المخالفين، فمقتضى مذهبنا الإقراع دون التنصيف - فخلاف الظاهر.
وأما قوله: على مذهبنا يقرع، فنظره إلى أن القرعة لكل أمر مجهول،
وهذا ظاهر، والله العالم.
المسألة الثامنة: قد عرفت لزوم التنصيف بين المتداعيين في بعض
الموارد، فاعلم أنه قال في الشرائع: وكل موضع قضينا فيه بالقسمة فإنما
هو في موضع يمكن فيه فرضها - كالأموال - دون ما يمتنع، كما إذا تداعى
رجلان زوجة (1).
قال في المسالك: بل الطريق هنا الحكم لمن أخرجته القرعة، إذ
لا سبيل إلى غيره، وتؤيده مرسلة داود العطار: في رجل كانت له امرأة،
فجاء رجل بشهود شهدوا أن هذه المرأة امرأة فلان، وجاء آخرون فشهدوا
أنها امرأة فلان، فاعتدل الشهود وعدلوا، قال: " يقرع بين الشهود، فمن
خرج اسمه فهو المحق، وهو أولى بها " (2)، وعلى هذا فلا فائدة في
الإحلاف بعد القرعة، لأن فائدته القضاء للآخر مع نكوله، وهو منفي
هنا (3). انتهى.
أقول: هذا الاستدراك إنما يحسن عند من يحكم بالنصف بعلل
مستنبطة، وأما على ما هو التحقيق من أنه لدلالة الأخبار عليه فلا حاجة إلى

(1) الشرائع 4: 112.
(2) الكافي 7: 420 / 2، التهذيب 6: 235 / 579، الإستبصار 3: 41 / 139،
الوسائل 27: 252 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 12 ح 8، بتفاوت.
(3) المسالك 2: 391.
423

الاستدراك، لأن أخبار النصف كلها واردة في الأموال - كالبغلة والدابة
والدرهم ومتاع البيت - وأما غيرها فلا، بل هي داخلة في عموم القرعة
وخصوصياتها في تعارض البينات، كروايتي البصري وداود بن سرحان
وصحيحة الحلبي (1)، فيعمل بها.
وأما ما ذكره أخيرا - من نفي فائدة الإحلاف بعد الإقراع - ففيه نظر،
إذ مع حلفه يحكم بالزوجية له، ومع نكوله يعرض الحلف على الآخر، فإن
حلف يحكم له، وإن نكل هو أيضا يحكم لمن صدقته الزوجة، لادعائها
وعدم معارض شرعي، فإن لم تصدق أحدهما فتمنع عنهما ويخلى
سبيلها، ولا دليل على لزوم القضاء لأحدهما.. إلا أن مقتضى مرسلة داود
عدم الإحلاف والعمل بمقتضى القرعة، لقوله: فهو المحق والأولى.. فهو
متعين.
ولا يرد: أن مقتضى رواية البصري وما بعدها الإحلاف.
لأنها عامة، والمرسلة خاصة بالزوجة، فتخصص بها، فإن لوحظت
جهة عموم للمرسلة أيضا - لدلالتها على الأولوية مطلقا، سواء كان بعد
الحلف أو قبله - فيتساقطان، ويبقى حكم القرعة بلا معارض، فتأمل.
وهل يفيد تصديق الزوجة لأحدهما قبل الإقراع للحكم له؟
قال الأردبيلي: نعم. ولا أرى له دليلا، فتأمل.. والله العالم.
المسألة التاسعة: إذا تعارضت البينتان في الملك واختلفتا في
التأريخ - بأن تكون أحدهما في الحال والأخرى من سنة إلى الحال، أو
تكون أحدهما من سنة إلى الحال والأخرى من سنتين إلى الحال -

(1) المتقدمة جميعا في ص 353 و 354.
424

فالمشهور ترجيح الأقدم، لتعارض البينتين في الوقت المشترك بينهما
فسقطتا، والمختصة بالوقت المتقدم سلمت عن المعارض فيستصحب
حكمها.
واعترض عليه: بأن مناط الحكم الملك في الحال، وقد استويا (1).
وفيه: أن لازمه عدم الحكم بمقتضى البينة الحالية، وذلك لا ينافي
الحكم بمقتضى الاستصحاب.
وتوهم أن استصحاب الشاهد قد سقط بالتعارض، واستصحاب
الحاكم لا يفيد..
باطل كما يأتي في مسألة استصحاب الشاهد، ومرت الإشارة إليه
أيضا في مسألة تعارض الملك القديم واليد الحادثة.
وفي المسالك: إن المسألة مفروضة فيما إذا كان المدعى به في يد
ثالث.. وأما إذا كان في يد أحدهما، فإن كانت بينة الداخل أسبق تأريخا
فهو المتقدم لا محالة، لأن بعد التساقط تبقى للداخل اليد والاستصحاب
معا.
وإن كانت بينة الخارج أسبق، فإن لم يجعل السبق مرجحا يقدم
الداخل أيضا، لبقاء اليد خالية عن المعارض.
وإن جعلناه مرجحا يتعارض مع يد الداخل، فيمكن أن يقدم
الداخل، لأن اليد أقوى من الاستصحاب، وأن يقدم الخارج، لأن جهة بينته
أقوى، وإذا انضمت هذه الجهة مع الاستصحاب يترجح، وإن تعارضا
فتساقطا (2).

(1) انظر المسالك 2: 392، الكفاية: 277.
(2) المسالك 2: 392.
425

قال في الكفاية - بعد نقل ذلك -: والظاهر أن هذه التفاصيل إنما
تجري على القول بتقديم بينة الداخل لا مطلقا (1).
أقول: مراده أنا إذا قلنا بترجيح بينة الخارج لم يكن اعتبار لبينة
الداخل، فتكون لاغية، بخلاف ما إذا قلنا بترجيح الداخل، فإنه لا يكون إلا
لطرح البينتين وملاحظة المرجحات الأخرى، التي منها اليد، فقد تكون في
الطرف الآخر أيضا.
ومنه يظهر أن كلام المسالك ليس مبنيا على مخالفته لما اختاره أولا
من ترجيح بينة الخارج، بل نظره إلى أن فرض المسألة لا يمكن إلا على
اعتبار بينة الداخل وتقديمه.
وقد يقال: إن ما ذكره إنما يتم لو بنى ترجيح بينة الخارج على
حديث: " البينة على المدعي "، أما لو بنى على المرجح الخارجي - ككون
التأسيس أولى من التأكيد - فيمكن إجراء الكلام على تقديم بينة الخارج
أيضا، ولا بأس به، إلا أن المبنى الثاني مما لم يعبأ به أحد من محققي
الطائفة.
واعلم أيضا أن مفروض المسألة - كما ذكرنا - إنما هو إذا صرحت
بينة القديم أو الأقدم بالملكية الحالية أيضا، أو ضم مع الملكية القديمة
قوله: ولا أعلم له مزيلا، ونحوه، على كونه معتبرا مقبولا، كما سيأتي
تحقيقه، أو يسكت عن الحال إن قلنا بكفايته في ثبوت الشهادة الحالية
أيضا.. وأما لو ضم مثل قوله: ولا أدري ماذا حدث في الحال، ونحوه مما
ينفي الشهادة الحالية، فهو خارج عن المسألة، فتأمل.

(1) الكفاية: 277.
426

ثم أقول: إن بعض ما ذكر إنما هو إذا قلنا بأن تقديم بعض البينات
المعارضة على البعض في مقام تعارضها إنما هو بالمرجحات الاعتبارية
الظنية كما هو طريق العامة وإن اقتفى أثرهم بعض الخاصة غفلة عن
الحقيقة.
وأما على ما ذكرنا - من أن المناط هو الأدلة الشرعية من الأخبار
والإجماع - فلا وقع لأكثر هذه التفصيلات الضعيفة، بل الحكم هو
المشهور، للاستصحاب المذكور إن كان في يد ثالث، وإلا فيقدم ذو اليد،
كما مر وجهه في مسألة تعارض الملك القديم واليد الجديدة.
هذا لو قطع النظر عن إطلاق أخبار المسألة، وإلا - كما هو الحق -
فهو المتبع، ولا تساقط للبينات.
المسألة العاشرة: قالوا: لو تعارضت البينة بالملك المطلق والبينة
باليد فالترجيح لبينة الملك، لأن اقتضاء اليد للملكية إنما هو بعنوان الأصل،
فيزول بالدليل.
واستشكل فيه في الكفاية بجواز أن يكون مستند الشهادة بالملك
أيضا هو اليد، فلا يزيد على الشهادة باليد (1).
وضعف: بأن بناء الشهادة على مجرد اليد في غاية الندرة، مع
الإشكال في جوازه (2).
وفيه: منع الندرة، بل لعله الغالب.. وإشكال الفقهاء في جوازه
لا يوجب تفطن الشاهد أيضا.
والتحقيق: أنا إن اكتفينا في قبول الشهادة بالملك المطلق فلا ينبغي

(1) الكفاية: 277.
(2) غنائم الأيام: 712.
427

الريب في دفعها لليد، لما مر، وليس علينا الالتفات إلى المستند.
وإن قلنا بلزوم ذكر المستند فاللازم ملاحظة حال المستند مع اليد،
فإن دفعها يقدم المستند وإلا اليد، فإذا شهد بأنه اشتراه زيد عن مالكه،
وأخذه ذو اليد غصبا أو عارية، تقدم شهادة الملك، وإن قال: اشتراه
وملكه، ولا أعلم مزيله، يبنى على كفاية ذلك في الشهادة الحالية وعدمها.
المسألة الحادية عشرة: لو تعارضت البينة بسبب الملك - مثل قوله:
اشتراه أو أنتجه في ملكه - والبينة بالتصرف تصرف الملاك، قيل: قدمت
بينة الملك بالسبب، لكون التصرف أعم من الملك المطلق (1).
أقول: إن ضمت كل من البينتين قوله: واعلم أنه ملكه الحال، فإن
اعتبرنا هذه الشهادة فيرجع إلى ما تقدم من تعارض البينتين، ولا تثمر زيادة
السبب أو اليد شيئا، وإن لم نعتبرها فتكون الشهادة هي السبب واليد،
ويرجع إلى ما إذا لم تضم هذه الزيادة.. فإن اكتفينا في قبول الشهادة
للملكية الحالية بالملكية السابقة مع السكوت، أو: ولا أعلم له مزيلا،
تندفع بها أصالة اليد، وإلا فتقدم اليد، لعدم معارض لها، سوى
الاستصحاب المندفع باليد، كما يأتي.. والله العالم.

(1) القواعد 2: 223، المسالك 2: 392.
428

الفصل السابع
في ذكر بعض المسائل التي يقع فيها التنازع
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال في القواعد: لو كان في دكان عطار ونجار
فاختلفا في قماشه، حكم لكل بآلة صناعته.
وقال أيضا: لو كان الخياط في دار غيره فتنازعا في الإبرة والمقص
حكم بهما للخياط، لقضاء العادة بأن من دعى خياطا إلى منزله فإنه
يستصحب ذلك معه.
ولو تنازعا في القميص فهو لصاحب الدار، لأن العادة أن القميص
لا يحمله الخياط إلى منزل غيره.
وراكب الدابة أولى من قابض لجامها.
وصاحب الحمل أولى.
والسرج لصاحب الدابة دون الراكب.
والراكب أولى بالحمل من صاحب الدابة.
ولو تنازع صاحب العبد وغيره في ثياب العبد فهي لصاحب العبد،
لأن يد العبد عليها.
ولو تنازع صاحب الثياب وآخر في العبد تساويا، لأن نفع الثياب
يعود إلى العبد لا إلى صاحبه.
ولو تنازع صاحب النهر والأرض في حائط بينهما فهو لهما، لأنه
429

حاجز بينهما فتساويا (1). انتهى.
أقول: هذه المسائل كلها متفرعة على الحكم بشئ لصاحب اليد مع
يمينه، فالمرجع فيها إلى تعيين ذي اليد، وقد عرفت سابقا أنه لا نص على
تعيينه من الشارع ولا من أهل اللغة، فيجب الرجوع فيه إلى العرف، فمن
حكم العرف بكونه ذا اليد ومتصرفا فيه يقدم قوله مع يمينه.
ولا شك أن مناسبة شئ لصناعة أحد وحرفته لا توجب صدق ذي
اليد العرفي، وكذا ظن ملكيته لا يكفي في ذلك الصدق، ولذا لو ادعى نجار
منشارا - في يد خياط - أنه ملكه، لا يقدم قوله.
نعم، لو قلنا: إن حكم الشارع بتقديم قول ذي اليد إنما هو لمظنة
ملكيته، صح تقديم قول من ظن ملكيته لشئ، لا لصدق اليد، بل لذلك
الظن، وهو غير معلوم.
وعلى هذا، فاللازم في هذه المسائل الرجوع إلى العرف، فنقول:
أما في الأولى، فلا نسلم صدق ذي اليد عرفا على كل ذي صناعة من
المتداعيين المذكورين في آلات صناعته، إلا إذا علمنا مع ذلك باستعماله
إياها مكررا، وتقلباتها فيه، وأخذها، ووضعها، والعمل بها، ولولا ذلك
فالظاهر تساويهما.
وكذا الثانية، لأن كون خياط في دار غيره لا يدل على أنه دعي إليها
للخياطة.
ولو سلم فلا يدل على أنه حمل معه الإبرة والمقص.
ولا بعد في حمل خياط قميصا معه إلى دار دعي إليها.

(1) القواعد 2: 223.
430

فلو كانت الإبرة والمقص بيد الخياط مستعملا إياهما آخذا وواضعا
لهما يحكم فيهما بيده.
والقميص لو كان في يد صاحب الدار أو موضوعا في داره فله.
ولو كان بيد الخياط أو في حجره أو منديله فله.
ولو كان يقصه أو يخيطه في دار زيد ففيه إشكال، لعدم معلومية
صدق اليد عرفا عليه مع ذلك، إلا إذا علم أنه لم يدع إلى الدار للخياطة، بل
إلا إذا لم يعلم أنه دعي إليها لها.
وأما الثالثة فكما ذكره.
والرابعة كذلك إذا علم أن صاحب الحمل هو الذي حمله على الدابة
بنفسه، وأما لو علم أن قابض اللجام هو الذي وضع عليها حمل ذلك
الشخص وشدها فلا نسلم صدق ذي اليد على صاحب الحمل.
وكذا لو اختلفا في واضع الحمل.
وفي الخامسة يحكم لصاحب الدابة لو لم يعلم أن واضع السرج
عليها ذلك الغير، وإلا فالظاهر تقديم قول الغير، للصدق العرفي.
والسادسة محل إشكال، والظاهر فيها التساوي.
والسابعة كما قال.
والثامنة محل إشكال، بل الظاهر تقديم صاحب الثياب، لصدق اليد
عرفا، ولا مدخلية لعود نفع الثوب في الصدق.
وأما التاسعة، فإن لم يعلم اختصاص أحدهما بمكان الحائط، ولم
تكن الأرض مما يحكم في العرف بأن الحائط لها - كأن يكون الحائط
مختصا بحد واحد منها، وكانت سائر حدودها خالية عن الحائط - فالظاهر
أنه كما لا يد لأحد عليه.
431

وإن كان المكان مختصا بأحدهما فالحائط له.
ولو كانت الأرض مما تقضي العادة بتعلق الحائط بها - كما إذا كانت
محوطة من الجوانب الأربعة - فالحائط لصاحب الأرض.
المسألة الثانية: قال أيضا: ولو اختلف المؤجر والمستأجر في شئ
في الدار، فإن كان منقولا فهو للمستأجر، وإلا فللمؤجر (1).
أقول: هذه أيضا من متفرعات اليد والتصرف، والظاهر أنه (قدس سره) بناها
على مظنة الملكية، وقد عرفت ما فيه، مع أن ما ذكره بإطلاقه في ذلك
أيضا محل نظر، فإن في جريان الحكم في كل منقول وكل مثبت غير
ظاهر، فإن الحكم بكون مصراع الباب المقلوع الظاهر فيه آثار القلع
والخشبة الكبيرة المعلوم استخراجها من بناء من المستأجر مشكل، والحكم
بكون السلم أو الباب المثبتين أو المسمار المثبت - سيما إذا كانت الدار بيد
المستأجر بالإجارة منذ سنين عديدة - للمؤجر أشكل.
والتحقيق: أنه تتعارض هنا ملكية العين مع ملكية المنفعة في التأثير
في صدق اليد عرفا، فإن كان لأحدهما فيها تصرف السكنى - بأن يكون
ساكنا فيها - فاليد في المنقولات له مطلقا، بل في غيرها أيضا على احتمال،
وإن لم يسكن فيها أحدهما فالساكن فيها أخيرا هو صاحب السكنى، فتأمل.
المسألة الثالثة: قال في التحرير: لو ادعى أنك مزقت ثوبي فلي
عليك الأرش، كفاه أن يقول: لا يلزمني الأرش، لجواز التمزيق وعدم تعلق
الأرش.. فلو أقر طولب بالبينة ويتعذر عليه.
قال: وكذا لو ادعى عليه دينا، فقال: لا تستحق عندي شيئا،

(1) القواعد 2: 223.
432

لم يكلف الحلف على عدم الإقراض، لجواز الاستيفاء أو الإبراء.
ولو ادعى عينا، فقال: ليس عندي ما يلزمني التسليم، كفى في
الجواب، لجواز أن تكون رهنا أو مستأجرة.. فلو أقام المالك البينة بالملك
وجب التسليم (1). انتهى.
أقول: ما ذكره في الجواب فهو كذلك، إذ لا شك أن مجرد دعوى
التمزيق أو الإقراض أو أخذ العين لا يوجب جوابا - كما مر في بحث
الدعوى - بل الموجب للجواب هو المجموع المركب من الأفعال
المذكورة، واستحقاق الأرش أو استيفاء الدين أو تسلم العين.. فبالجواب
عن الجزء الأخير يحصل الجواب عن الدعوى المركبة، والأصل عدم
وجوب الإلزام بالجواب عن الجزء الآخر الذي لا يلزم بدعواه منفردا جوابا.
وأما ما يستفاد من صدر كلامه وصريح ذيله - من أنه لو أقام المدعي
البينة على الجزء الأول يطالب المدعى عليه بالجواب، والخروج عن الحق -
فهو كذلك فيما كان بحيث لو ثبت ما ادعاه كان مثبتا لحق على المدعى عليه
مطلقا، كالإقراض وأخذ العين.
وأما لو كان له فردان أحدهما لا يوجب حقا عليه فلا يطالب المدعى
عليه بالجواب أو الخروج عن الحق ما لم يدع الفرد الموجب وأقام البينة
عليه..
فلو ادعى عليه أنه جنى عليه دابته حين ركوبه، ولي عليه الدية،
وأقام البينة على جناية الدابة، لم تفد ما لم يقيدها بكون الجناية من يده.
وكذا لو قال: مزق ثوبي - وقلنا بعدم لزوم الأرش بالتمزيق لا عن

(1) التحرير 2: 189.
433

عمد - لم تفد إقامة البينة ما لم يقيد التمزيق بالعمد.. ولعل ذلك مراد
الفاضل أيضا.
المسألة الرابعة: لو كتب الحاكم كتابا للمدعي بالحكم، فاستوفى
حقه من المدعى عليه، وطلب الكتاب من المدعي، قال في التحرير:
لا تجب إجابته (1).
وهو كذلك، للأصل، ولأنه ملكه لسبق حقه عليه، ولاحتمال ترتب
فائدة له عليه.
نعم، قال: لو قال للحاكم: اكتب لي محضرا بقبض الحق مني، لئلا
يطالبني الخصم به ثانيا في موضع آخر، فالوجه: وجوب إجابته.
أقول: لا ينبغي الريب في رجحانها، لأن فيها إجابة ملتمس مسلم،
ولكن لا دليل على وجوبها، والأصل ينفيه.
المسألة الخامسة: إذا اتفقا على استئجار شئ معين في مدة معينة،
واختلفا في الأجرة، فالاختلاف إن كان في قدرها، كأن يقول المؤجر:
عشرة، والمستأجر: خمسة، فإن لم تكن لأحدهما بينة فالمشهور - كما في
الكفاية (2) - بتقديم قول المستأجر مع يمينه، لأنه منكر للزيادة التي يدعيها
المؤجر، ولا بينة للمدعي.
وفيها قول للشيخ (3) وبعض المتأخرين (4) بالتحالف، لكون كل منهما
مدعيا لعقد ينكره الآخر، ثم الرجوع إلى أجرة المثل.

(1) التحرير 2: 186.
(2) الكفاية: 277.
(3) انظر المبسوط 8: 263.
(4) حكاه عنه في الكفاية: 277.
434

وقول للشيخ أيضا بالقرعة مطلقا (1)، لأنها لكل أمر مشكل.
وقول له أيضا بالتفصيل بالفرق بين النزاع قبل انقضاء الأجل
فالتحالف، أو بعده فالقرعة أو تقديم قول المستأجر مترددا بينهما (2).
وإن كانت لهما البينة فمع تقديم تأريخ إحداهما تبطل الأخرى، ومع
الاتحاد أو الجهل بالمتقدم فالمشهور - كما في الكفاية (3) - تقديم بينة
المؤجر، لأنه المدعي.
وفيه أيضا قول بالتحالف (4)، وبالقرعة (5) - فيحلف من أخرجته
القرعة - وبتقديم بينة المستأجر على القول بتقديم بينة الداخل (6).
وإن كانت لأحدهما البينة، ففي الكفاية: أن الحكم فيه لذي البينة.
واستدل له الأردبيلي بأن كل واحد منهما مدع في الجملة.
وإن كان الاختلاف في نوع الأجرة حتى لا يكون بينهما قدر مشترك،
فظاهرهم انحصار القول فيه بالتحالف، أو القرعة مع عدم البينة، أو إقامتهما
البينة، ومتابعة البينة إن أقامها واحد منهما.
أقول: أما القول بتقديم قول المستأجر في صورة الاختلاف في القدر
وعدم البينة لأنه المنكر، وكذا القول بتقديم بينة المؤجر في صورة تعارض
البينتين، لا يلائم ما ذكروه في صورة وجود البينة لأحدهما من الحكم لذي

(1) حكاه عنه في المسالك 2: 394.
(2) حكاه عنه في المسالك 2: 394.
(3) الكفاية: 278.
(4) الكفاية: 278.
(5) المبسوط 8: 264. الكفاية: 278.
(6) الكفاية: 278.
435

البينة مطلقا، لأن مقتضى دليلهم للأولين عدم اعتبار بينة المستأجر، فكيف
يحكم له بها؟!
والتحقيق: أنه لا ينبغي الريب في كون المستأجر مدعيا أيضا - كما مر
في كلام الأردبيلي - وإن استلزمت دعواه نفي الزائد، للصدق الواضح العرفي.
ونظير ذلك دعوى المطالب بالدين للأداء، فإنه مدع مع استلزامه نفي
ما يطالب به.
وكذا لو ادعى زيد على عمرو مائة، ثمن فرسه المعين الذي باعه له
أمس، وادعى عمرو موت ذلك الفرس بعينه شهرا قبل الأمس، وكانت له
بينة، فإنه تسمع بينته وإن استلزمت نفي ما يدعيه زيد من الثمن عنه.
والأمر كذلك هنا، لأن المستأجر يدعي وقوع العقد على الخمسة،
وهو ادعاء وإن استلزم نفي الزائد، فتقديم قوله مطلقا - لأنه منكر محض -
لا وجه له.
نعم، هو منكر لوقوع العقد على العشرة المستلزمة لإثبات الزيادة،
كما أن المؤجر منكر لوقوعه على الخمسة المستلزمة لنفيها، فالقول الأول
- في صورة عدم البينة والاختلاف في القدر - غير جيد.
وأما القول بالتحالف فيها فهو وإن كان موافقا للقاعدة، إلا أن الرجوع
إلى أجرة المثل بعده غير جيد، لأنها قد تكون أنقص من الخمسة، مع
اعتراف المستأجر باشتغال الذمة بها، وقد تكون أزيد من العشرة، مع
اعتراف المؤجر بعدم استحقاق الزائد.. بل هما معترفان بوقوع العقد على
المعين، وأنه ليس غير الخمسة أو العشرة، فالرجوع بعد التحالف إلى
القرعة بين القدرين أجود، مع أن في التحالف هنا أيضا كلاما مر وجهه،
436

وهو أن المتبادر من المدعي والمنكر - في صورة التقابل وتوظيف حكم
لكل منهما - هو المدعي والمنكر المحض في الدعوى الواحدة، مع أن
بيمين أحدهما أولا وسقوط دعوى الآخر تثبت دعوى الحالف، لاعترافهما
بعدم خروج العقد عن أحد الأمرين.
فأجود الأقوال هو القول الثالث، وهو الرجوع إلى القرعة، وأحوطهما
الجمع بين التحالف والقرعة في القدر، كما مر.
هذا مع عدم البينة، وأما مع وجودها لهما فالرجوع إلى القرعة أظهر،
لرواية البصري وصحيحة الحلبي المتقدمتين في بحث تعارض البينات (1)،
سيما مع ما ذكرنا من عدم معلومية شمول البينة على المدعي واليمين على
المدعى عليه لمثل ذلك، خصوصا رواية منصور المتضمنة للفظ: ذي اليد (2).
ومع وجودها لأحدهما فالحكم لذي البينة، لصدق المدعى عليه،
كما مر.
وكذا الحكم في صورة الاختلاف في النوع، فيقرع مع عدم البينة، أو
وجودها لهما، ويحكم لذي البينة مع وجودها لأحدهما.
مسألة: إذا ادعى استئجار دار بأجرة، وقال المؤجر: بل بيت منها
بتلك الأجرة، ولا بينة، فقال الشيخ والمحقق: يقرع (3). وقيل: يقدم قول
المؤجر، لأنه المنكر للزيادة (4). والأول أقرب، لما مر.

(1) راجع ص 353 و 354.
(2) التهذيب 6: 240 / 594، الإستبصار 3: 43 / 143، الوسائل 27: 255 أبواب
كيفية الحكم ب 12 ح 14.
(3) الشيخ في المبسوط 8: 264، المحقق في الشرائع 4: 113.
(4) الكفاية: 278.
437

وقيل بالتحالف حينئذ، فيحكم للحالف، ومع حلفهما أو نكولهما
يحكم ببطلان الإجارة، وعدم استحقاق الأجرة، ومع استيفاء المنفعة بأجرة
المثل، ووجهه كون كل منهما منكرا (1).
وقد مر ما يضعفه، مع أنه قد يوجب إسقاط ما يعترفان باستحقاقه
من الأجرة المعينة ومنفعة البيت.
ولو كانت لأحدهما بينة يقضى له.
ولو كانت لهما، فمع اتحاد التأريخ أو الجهل يقرع.
ومع تقدم تأريخ الدار تبطل إجارة البيت.
ومع تقدم إجارة البيت حكم به بالأجرة المسماة، وبطل من إجارة
الدار ما قابلها، وصح في الباقي، ويعلم ذلك بمعرفة أجرة المثل ومراعاة
النسبة.
ولو ادعى استئجار بيت بأجرة، وقال المؤجر: بل آجرت ذلك البيت
الآخر بها، ولا بينة، يقرع بينهما.
وتوهم كون ذلك دعويان متخالفتان - فيعمل في كل منهما بمقتضى
القضاء - إنما يصح إذا اقتصر كل منهما على دعوى إجارة ما يدعيه، دون
نفي الآخر.
وأما مع اعترافهما أو أحدهما بوحدة العقد والمؤجر به فلا يتم ذلك،
إذ قد يحلفان أو ينكلان، فيلزم الحكم بما يعترفان فيه بعدم الاستحقاق.
ولو كانت بينة لأحدهما يحكم له.

(1) القواعد 2: 228.
438

ولو كانت لهما يقرع أيضا إذا اتفق المتنازعان على وحدة المؤجر به،
وعدم استحقاق الأجرتين والمنفعتين، وإلا فيحكم لهما.
وكذا يقرع لو وقعت الدعوى المذكورة على أجرة عينية مخصوصة
واحدة - كثوب معين - إلا إذا أقاما البينة وتقدم تأريخ أحدهما فيحكم بها،
ويبطل الآخر.. والله العالم بحقائق أحكامه.
439

المطلب الثالث
في بيان ما يحتاج إلى الرفع إلى الحاكم والدعوى والرجوع
إلى حكمه، وما لا يحتاج إليه ويجوز فيه التقاص بدون الترافع
اعلم أن منشأ التخالف بين الشخصين والتنازع في واقعة إما يكون
لأجل جهل طالب الحق - الذي هو المدعي - بحكم الواقعة، ولأجله يجوز
ثبوت حق له على خصمه فينازعه.
أو جهله بنفس الواقعة، كالدعوى الظنية أو الاحتمالية، على القول
بسماعهما.
أو لأجل اختلاف المجتهدين في حكم الواقعة، فطالب الحق يقلد
من يقول بثبوت الحق له، وخصمه يقلد من ينفيه، أو الأول يقلد من يثبت
حقا في واقعة - كالقصاص - والثاني يقلد من يثبت غيره، كالدية. ومنه
تنازع أحد الشركاء الثلاثة في الشفعة، والولد الأكبر مع سائر الورثة في
الحبوة، والمتبايعين في لزوم العقد وعدمه في الصيغة الفارسية، وغير ذلك.
أو لأجل إنكار المدعى عليه الحق عدوانا، أو سهوا ونسيانا، أو عدم
بقاء الحق وإن لم يكن منكرا.
وقد يكون الاحتياج إلى الرفع إلى الحاكم لمجرد الاستيفاء، من غير
سبق منازعة وإنكار - كطالب القصاص ممن يقر بالقتل وهو تحت يد
الولي، أو طالب الحق من صغير أو غائب ماله في يده، ونحو ذلك -
ويكون النزاع حينئذ فرضيا.
440

فإن كان منشأ النزاع المتحقق أو الفرضي أحد الجهلين فلا مناص من
الترافع، أو ترك الحق..
أما في الجهل الأول فلأن الطالب لا يعلم الحكم، فلعله لم يكن بذي
حق، والأصل عدم ثبوته له.
وأما في الثاني فلأنه لا يعلم ثبوت حق له، ولا يثبت له حق إلا
بالحلف أو النكول الذي يختص الحكم به بالحاكم.
وكذا إن كان المنشأ اختلاف العلماء، فلا يجوز للطالب أخذ حق
بدون الترافع وحكم الحاكم، لأن ثبوت الحق له إما يكون بتقليد الطرفين
لمن يقول بثبوته - والمفروض انتفاؤه، وإلا لما كان بينهما نزاع - أو بحكم
الحاكم.
وأما ثبوته بتقليد المدعي خاصة فلا، لأن القدر المسلم ثبوته أن رأي
المجتهد حكم له ولمقلده ما لم يزاحمهما حق شخص آخر لا يقلده في
ذلك الأمر - كما مر في أوائل الباب - ولم يثبت من أدلة التقليد أزيد من
ذلك.
وأما كونه حكما ثابتا له إذا زاحمه حق غيره الذي لا يقلد ذلك
المجتهد فلا دليل عليه أصلا، فلا يصير السيف - مثلا - ملكا له بالحبوة
بتقليد من يقول بدخوله في الحبوة ما لم يقلده سائر الورثة أيضا، فلا يجوز
له التقاص بسببه.
وإن كان منشأ النزاع الفرضي أو الواقعي مجرد إنكار المدعى عليه
بأحد وجوهه المذكورة، أو عدم بقائه، أو عدم كون الإبقاء بيده
- كالقصاص، أو الحق الذي على الصغير مثلا، والمال بيد ذي الحق - فقد
وقع الخلاف في توقف استيفاء الحق في بعض موارده على الترافع وعدمه.
441

والمراد توقفه عليه شرعا، بمعنى: أنه هل يجوز لطالب الحق
الاستيفاء لو أمكن بدون الرفع ويحل له ما استوفاه شرعا؟ وإلا فلا كلام في
التوقف في صورة عدم إمكان الاستيفاء لجحود الخصم وتغلبه، بحيث
لم يمكن الوصول إلى الحق ودفع تغلب الخصم بدون التوصل إلى الحاكم.
ثم لبيان محل الخلاف وتحقيق الحق في المقام نقول: والمطلوب إما
يكون عقوبة، أو حقا غير مالي، أو مالا، فهاهنا ثلاثة أبحاث:
442

البحث الأول
في العقوبات
وهي إما قصاص، أو حد، أو دية، والأخير داخل في الدعاوى المالية.
أما الأول: ففيه قولان:
الأول: عدم الاحتياج إلى الحاكم، وجواز استقلال الولي في
القصاص، اختاره في موضع من المبسوط والنافع (1)، وظاهر الشرائع حيث
جعل التوقيف أولى (2)، والفاضل في أحد قوليه (3)، وأكثر المتأخرين، بل
عامتهم - كما قيل (4) - ونسبه في كتاب قصاص المسالك إلى الأكثر (5).
والثاني: وجوب الرفع إلى الحاكم، ذهب إليه في موضع آخر من
المبسوط وفي الخلاف (6)، وعن المقنعة والمهذب والكافي والقواعد والغنية
وقضاء المسالك (7)، وفي الكفاية: لا أعرف فيه خلافا (8). وعن الغنية:
بلا خلاف (9)، وعن ظاهر الخلاف: الإجماع عليه (10).

(1) المبسوط 7: 54، النافع: 299.
(2) الشرائع 4: 228.
(3) التحرير 2: 255.
(4) الرياض 2: 521.
(5) المسالك 2: 477.
(6) المبسوط حكاه عنه في التنقيح 4: 444، الخلاف 2: 369.
(7) المقنعة: 760، المهذب 2: 485، الكافي: 383، الغنية (الجوامع الفقهية):
620، المسالك 2: 477.
(8) الكفاية: 275.
(9) الغنية (الجوامع الفقهية): 620.
(10) الخلاف 2: 369.
443

والأقوى هو الأول، لقوله سبحانه: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (1)، وعموم أخبار جواز اقتصاص الولي من
الجاني (2)، وهي كثيرة جدا، والأصل عدم التوقف على شئ.
ودليل الثاني: الإجماع المنقول.
واحتياج إثبات القصاص واستيفائه إلى الاجتهاد، للاختلاف.
والقياس على الحدود بالطريق الأولى.
ومفهوم رواية محمد: " من قتله القصاص بأمر الإمام فلا دية له في
قتل ولا جراحة " (3).
وبعض اعتبارات أخر ضعيفة.
ويرد الأول: بعدم الحجية، سيما مع مخالفته للشهرة المطلقة
والمقيدة المحكية.
والثاني: بخروج موضع الاختلاف عن محل الخلاف، إذ هو تيقن
الولي بثبوت القصاص، وهو غير متوقف على إذن الحاكم في كثير من
الموارد، ومنها: ما إذا كان الولي من أهل الاجتهاد والنظر، أو عالما بمواقع
الإجماع أو الضرورة، أو بفتوى المجتهد، ونحو ذلك.
والثالث: ببطلان القياس، وبمنع الأولوية، لعدم مقطوعية العلة.
والرابع: - مع كون مفهومه مفهوم وصف لا حجية فيه - بأنه لو اعتبر
لكان مقتضاه ثبوت الدية على الولي القاتل إذا لم يكن بإذن الإمام،
والقائلون بالتوقف لا يقولون به.

(1) البقرة: 194.
(2) الوسائل 29: 126 أبواب القصاص في النفس ب 62.
(3) التهذيب 10: 279 / 1091، الوسائل 29: 183 أبواب قصاص الطرف ب 21
ح 1.
444

مضافا إلى أنه لا يدل على اعتبار إذنه بالخصوص، فإن كل قصاص
شرعي إنما هو بأمر الإمام.
ثم على القول الأخير، لو بادر الولي إلى القصاص لم يكن عليه قود
ولا دية بلا خلاف، للأصل، واختصاص أدلتهما بغير ذلك. وفي استحقاقه
التعزير وعدمه قولان.
وهل قصاص الطرف كقصاص النفس - لأنه قصاص، وللأصل،
والعمومات - أو يجب فيه الرفع، لأنه بمثابة الحد؟ الأقرب: الأول، لما
ذكر.
وأما الثاني: فلا تجوز المبادرة إليه بدون إذن الحاكم، لظاهر
الإجماع، ورواية حفص بن غياث: من يقيم الحدود: السلطان أو القاضي؟
فقال: " إقامة الحدود إلى من إليه الحكم " (1).. والله العالم.

(1) الفقيه 4: 51 / 179، التهذيب 6: 314 / 871 و ج 10: 155 / 621، الوسائل
27: 299 أبواب كيفية الحكم ب 31 ح 1 و ج 28: 49 أبواب مقدمات الحدود
ب 28 ح 1.
445

البحث الثاني
في الحقوق الغير المالية، كالزوجية،
والوصاية، والطلاق، وحق الشفعة، والخيارات، ونحوها.
والظاهر: الإجماع على عدم وجوب المرافعة وإذن الحاكم فيها،
واستقلال ذي الحق في استيفائه مع الإمكان وعلمه بحقه - اجتهادا، أو
تقليدا، أو ضرورة وإجماعا - لظاهر الإجماع، والأصل الخالي عن
المعارض بالمرة.
مضافا إلى رجوع بعض الحقوق إلى المال الثابت جواز أخذه
بلا رفع، كما في الحق الثابت بخيار الفسخ، ونحوه، فتأمل.
446

البحث الثالث
فيما إذا كان المطلوب مالا، عينا أو دينا
وفي كل منهما: إما يكون المطلوب منه مقرا به باذلا غير مماطل
ولا معتذرا، أو لا يكون كذلك.
فإن كان الأول فلا كلام فيه، ولا دعوى، ولا يجوز الأخذ بدون إذن
الغريم حينئذ، لأن الغريم مخير في جهة القضاء، فلا يتعين إلا بتعيينه.
نعم، للحاكم أيضا تعيينه لو كان الغريم غائبا، لعموم النص المصرح
بالقضاء عن الغائب.
وإن كان الثاني، فالظاهر الإجماع على عدم وجوب الرفع، وجواز
مقاصة الطالب عن مال المطلوب منه بنفسه في الجملة. وإنما الخلاف في
بعض موارده.
ولنذكر أولا طائفة من الآيات والأخبار المجوزة للمقاصة، ثم نتبعها
بما يستنبط منها.
أما الآيات: فقوله سبحانه: * (فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم) * (1).
وقوله: * (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * (2).
وأما الأخبار: فمنها صحيحة الحضرمي: رجل كان له على رجل
مال، فجحده إياه، وذهب به، ثم صار إليه بعد ذلك للرجل الذي ذهب

(1) البقرة: 194.
(2) النحل: 126.
447

بماله مال قبله، أيأخذه مكان ماله الذي ذهب به ذلك الرجل؟ قال: " نعم،
لكن لهذا كلام يقول: اللهم إني أخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه مني،
وإني لا آخذ ما أخذته خيانة ولا ظلما " (1).
والأخرى، وهي أيضا قريبة من سابقتها (2).
وزاد في خبر آخر: " إن استحلفه على ما أخذ منه فجائز أن يحلف
إذا قال هذه الكلمة " (3).
والأخرى: رجل لي عليه دراهم، فجحدني وحلف عليها، أيجوز لي
إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي؟ فقال: " نعم، ولكن لهذا
كلام " قلت: وما هو؟ قال: " تقول: اللهم لم آخذه ظلما ولا خيانة، وإنما
أخذته مكان مالي الذي أخذ مني، لم أزدد شيئا عليه " (4).
ورواية ابن وضاح: كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة، فخانني
بألف درهم، فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد علمت بأنه حلف
يمينا فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة، فأردت أن
أقبض الألف درهم التي كانت لي عنده فأحلف عليها، فكتبت إلى أبي
الحسن (عليه السلام)، فأخبرته أني قد أحلفته فحلف، وقد وقع له عندي مال، فإن
أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت؟ فكتب: " لا تأخذ
منه شيئا، إن كان ظلمك فلا تظلمه، ولولا أنك رضيت بيمينه فحلفته

(1) الكافي 5: 98 / 3، التهذيب 6: 197 / 439، الإستبصار 3: 52 / 169،
الوسائل 17: 274 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 5، بتفاوت يسير.
(2) الفقيه 3: 114 / 485، الوسائل 17: 274 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 5.
(3) الفقيه 3: 114 / 487، الوسائل 17: 274 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 6.
(4) التهذيب 6: 348 / 982، الإستبصار 3: 52 / 168، الوسائل 17: 273 أبواب
ما يكتسب به ب 83 ح 4.
448

لأمرتك أن تأخذها من تحت يدك، ولكنك رضيت بيمينه، لقد مضت
اليمين بما فيها " (1).
وصحيحة داود بن زربي: إني أخالط السلطان، فتكون عندي الجارية
فيأخذونها، أو الدابة الفارهة فيأخذونها، ثم يقع لهم عندي مال، فلي أن
آخذه؟ فقال: " خذ مثل ذلك، ولا تزد عليه " (2)، وقريبة منها الأخرى (3).
وصحيحة البقباق: إن شهابا ماراه في رجل ذهب له ألف درهم،
واستودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العباس: قلت له: خذها مكان الألف
الذي أخذ منك، فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب على أبي عبد الله (عليه السلام)،
فذكر له ذلك، فقال: " أما أنا فأحب أن تأخذ وتحلف " (4).
ورواية الأرمني، كان لي على رجل دراهم، فجحدني، فوقعت له
عندي دراهم، فأقبض من تحت يدي مالي عليه؟ وإن استحلفني حلفت أن
ليس له علي شئ؟ قال: " نعم، فاقبض من تحت يدك، وإن استحلفك
فاحلف له، إنه ليس له عليك شئ " (5).
ورواية إسحاق بن إبراهيم: إن موسى بن عبد الملك كتب إلى أبي
جعفر (عليه السلام) يسأله عن رجل دفع إليه مالا ليصرفه في بعض وجوه البر، فلم

(1) الكافي 7: 430 / 14، التهذيب 6: 289 / 802، الإستبصار 3: 53 / 175،
الوسائل 27: 246 أبواب كيفية الحكم ب 10 ح 2، بتفاوت.
(2) التهذيب 6: 338 / 939، الوسائل 17: 272 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 1،
بتفاوت يسير.. وفيهما: عن داود بن رزين.
(3) الفقيه 3: 115 / 489، الوسائل 17: 272 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 1.
(4) التهذيب 6: 347 / 979، الإستبصار 3: 53 / 174، الوسائل 17: 272 أبواب
ما يكتسب به ب 83 ح 2.
(5) التهذيب 8: 293 / 1083، الوسائل 23: 285 أبواب الأيمان ب 47 ح 1،
بتفاوت.
449

يمكنه صرف ذلك المال في الوجه الذي أمره به، وقد كان له عليه مال بقدر
هذا المال، فسأل هل يجوز لي أن أقبض مالي، أو أرده عليه وأقتضيه؟
فكتب: " اقبض مالك مما في يدك " (1).
ورواية علي بن سليمان: رجل غصب رجلا مالا أو جارية، ثم وقع
عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه، أيحل له حبسه
عليه أم لا؟ فكتب (عليه السلام): " نعم، يحل له ذلك إن كان بقدر حقه، وإن كان
أكثر فيأخذ منه ما كان عليه، ويسلم الباقي إليه إن شاء الله " (2).
ورواية جميل: عن الرجل يكون له على الرجل الدين، فيجحده،
فيظفر من ماله بقدر الذي جحده، أيأخذه وإن لم يعلم الجاحد بذلك؟
قال: " نعم " (3).
ثم نقول: إن تحقيق المقال في هذا المجال بذكر مسائل:
المسألة الأولى: المال المطلوب إن كان عينا، فإن كان المالك قادرا
على أخذه من دون فتنة أو مشقة، ولا ارتكاب أمر غير مشروع - كدخول
دار الغاصب بغير إذنه، أو ثقب (4) جداره، أو نحو ذلك - جاز له الأخذ من
غير رفع إجماعا، للاستصحاب، وتسليط الناس على أموالهم، وللأصل.
ولا يجوز له الأخذ من مال الغاصب بقدره حينئذ، للأصل، وظاهر

(1) التهذيب 6: 348 / 984، الإستبصار 3: 52 / 170، الوسائل 17: 275 أبواب
ما يكتسب به ب 83 ح 8، بتفاوت.
(2) التهذيب 6: 349 / 985، الإستبصار 3: 53 / 173، الوسائل 17: 275 أبواب
ما يكتسب به ب 83 ح 9 وفيه: رجل غصب مالا....
(3) التهذيب 6: 349 / 986، الإستبصار 3: 51 / 167، الوسائل 17: 275 أبواب
ما يكتسب به ب 83 ح 10.
(4) في خ ل " ح ": نقب...
450

الإجماع.
وأما إطلاق صحيحة داود الأولى وروايتي ابن وضاح وعلي بن
سليمان فشموله لمثل تلك الصورة غير معلوم، ولا ظاهر.
وإن توقف أخذه على أمر غير مشروع - كتصرف في داره، أو فتح
بابه - من غير إضرار بالغاصب، ولم يمكن بغير ذلك جاز الأخذ أيضا،
ويحل له ما لا يحل لغرض آخر، لنفي الضرر والضرار المعارض لحرمة
التصرف في مال الغير مثلا، فتبقى الإباحة الأصلية بحالها.
وكذا لو تضمن ضررا لم يكن أزيد من ضرر المالك، لقوله سبحانه:
* (فمن اعتدى عليكم) *، وقوله: * (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) *.
ولو نوى ضمان ضرره حينئذ صار جواز الأخذ أظهر، لعدم صدق
الضرر.
ولو أمكن الأخذ حينئذ بالرجوع إلى الحاكم، فهل يتعين - تحرزا عن
ضرر الغاصب أو ارتكاب ما لا يحل - أو يجوز الأخذ، للآيتين؟
فيه احتمالان، والأحوط الرفع.
ولو أمكن المقاصة من مال آخر له جازت المقاصة مع إمكان أحد
الأمرين المتقدمين - من أخذ العين بالتصرف في ماله أو إضراره، ومن
الرفع - أو كليهما، لإطلاق الصحيح والروايتين. ويجوز الرفع أيضا
بلا ريب. ومقتضى الآيتين جواز الأمر الأول أيضا.
والظاهر أن تأخير الغاصب في الرد تأخيرا موجبا للضرر كنفس
الغصب وعدم إرادة الرد أيضا.
ثم لو اقتص المالك من مال الغاصب، ثم رد الغاصب العين،
فللمالك الأخذ، للاستصحاب، وعليه رد المال المقاص - لعدم ثبوت جواز
451

التصرف فيه - إليه حينئذ أيضا.. وكذا لو ظفر المالك بعينه.
هذا إذا كانت العين المقاصة باقية، ولو تلفت فلا يجب على المالك
العوض من ماله، للأصل.
وهل يجوز له أخذ عين ماله من الغاصب - للاستصحاب - أو
لا يجوز، لاستلزامه الجمع بين العوض والمعوض؟
فيه إشكال، وإن كان الأول أقرب، لما مر، ومنع كونه ما أخذ عوضا
عن ماله أولا، بل هو أمر جوزه الشارع عقوبة، ومنع عدم جواز الجمع بين
العوض والمعوض ثانيا.
المسألة الثانية: وإن كان المطلوب دينا، والغريم جاحدا، وليست له
بينة، أو كانت ولم يمكن التوصل إلى الحاكم، أو أمكن ولم يكن حكمه
نافذا عليه، أو احتاج الإثبات عند الحاكم إلى مدة، أو تعب يوجب الضرر،
أو كان مماطلا ولم يمكن الانتزاع بالحاكم، جازت المقاصة من مال الغريم
بلا خلاف يعرف، كما صرح به في الكفاية أيضا (1)، وتدل عليه الآيتان،
والأخبار المتقدمة جميعا مع الجحود، وطائفة منها مع المماطلة.
ولو أمكن الوصول إلى الحق بالرفع إلى الحاكم من غير تأخير وضرر،
كان مقرا مماطلا أو جاحدا، ففي جواز التقاص حينئذ وعدمه قولان:
الأول: للأكثر - كما في المسالك والكفاية (2) وعن الصيمري - ومنهم:
الشيخ والشرائع والمسالك والدروس والخلاف (3)، بل قيل: عامة المتأخرين (4).

(1) الكفاية: 275.
(2) المسالك 2: 388، الكفاية: 275.
(3) الشيخ في المبسوط 8: 311، الشرائع 4: 109، المسالك 2: 389، الدروس
2: 85، الخلاف 2: 646.
(4) انظر الرياض 2: 411.
452

للعمومات المتقدمة، بل صريح بعضها، وهو رواية إسحاق، حيث قال
فيها: أو أرده عليه وأقتضيه. فإن الاقتضاء صريح في إمكان التوصل.
والثاني: للنافع (1)، للأصل، وبعض الاعتبارات اللازم رفع اليد عنها
بما مر.
وهل يحل التقاص مطلقا؟ كما هو مذهب المعظم.
أو يجب ذكر الكلام المذكور في الأخبار الأربعة الأولى؟ كما عن
الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب (2).
الأظهر: الأول، للأصل، وعدم دلالة غير الثالثة على تعيين ذكره
والتوقف عليه، بل غايته الاستحباب، كما عليه أكثر الأصحاب.
وأما الثالثة، فهي وإن دلت بالمفهوم على اعتباره في الجواز إلا أن
مقتضاها اعتباره في جواز الحلف خاصة، وهو مما لم يقل به أحد.
ويشترط جواز المقاصة بعدم الترافع والتحالف، فإنه لا يجوز التقاص
بعده، كما مر.
ولا يشترط فيها إذن الحاكم، للأصل.
نعم، تشترط فتواه في محل الاختلاف.
المسألة الثالثة: مقتضى عموم أكثر الأخبار المتقدمة وخصوص
صحيحتي داود ورواية علي بن سليمان: جواز المقاصة من جنس الحق
ومن غيره، كما هو ظاهر الفتاوى، وصريح جماعة أيضا (3)..
فما يظهر من بعضهم - من التأمل في جواز الأخذ من غير جنس

(1) النافع: 284.
(2) الفقيه 3: 115، التهذيب 6: 349.
(3) النافع: 284، الكفاية: 275، الرياض 2: 412.
453

الحق - لا وجه له أصلا.
وهل يتوقف الأخذ من غير الجنس على تعذر الأخذ من الجنس أم
لا؟
عن جماعة - منهم الشهيدان (1) -: الأول، والأقرب - الموافق لظاهر
جمع آخر (2) -: الثاني، للعمومات، وعدم دليل على تعيين الجنس حين
إمكانه.
فإن قيل: الأخذ من غير الجنس يتوقف على تقويم وتفويض، بقبول
أو بيع، وكل ذلك مخالف للأصل، لا يصار إليه إلا مع التوقف، ولا توقف
مع إمكان الأخذ من الجنس.
قلنا: التقويم لا مخالفة للأصل فيه، والتفويض يتحقق في الجنس
أيضا، مع أنه لو سلم يجوز ارتكابه مع الدليل، وهو هنا موجود، لأن ما
يدل بعمومه على أخذ غير الجنس يدل على ذلك أيضا، للتوقف.
ثم إن كان المأخوذ منه من جنس الحق، فإن كان ما ظفر به بقدر
الحق أو كان زائدا عليه وأمكن أخذ القدر بدون التصرف في الزائد
فلا كلام.
وكذا إن وقع القدر والزائد في يده بإذن الغريم بقرض أو وديعة
- على القول بجواز التقاص منها - فيأخذ القدر، ويرد الزائد.
وإن لم يكن بيده وتوقف أخذ القدر بالتصرف في الزائد أيضا - كما
لو كان المجحود ألف درهم، وظفر بكيس أو صندوق فيه ألفان،

(1) الشهيد الأول في الدروس 2: 85، الشهيد الثاني في المسالك 2: 389.
(2) منهم المحقق في الشرائع 4: 109، والعلامة في التحرير 2: 188، والسبزواري
في الكفاية: 275.
454

ولم يمكن أخذ الألف إلا بنقله إلى مكان آخر وفتحه - فهل يجوز هذا
التصرف في الزائد أم لا؟
الظاهر: نعم، لأدلة نفي الضرر المعارضة مع أدلة النهي عن تصرف
مال الغير، ولأنه لو لم يجز التصرف في الزائد لما جاز التصرف في قدر
الحق حينئذ أيضا، لأن سبب الحرام حرام، مع أنه جائز لإطلاق الآيتين،
وبعض العمومات المتقدمة.
ومن ذلك ظهر جواز التصرف في الزائد من غير الجنس أيضا،
ويكون الزائد في الصورتين أمانة في يده، ولا ضمان عليه لو تلفت بدون
تقصيره وتفريطه - كما صرح به في التحرير (1) - إذا لم يمكن الأخذ بدون
الزيادة، للأصل.
ولو أخذ الجنس الذي لم يكن بيده وتلف كان من ماله، لأنه إن
أخذه بقصد التقاص صار ماله، وإن أخذه مترددا بين التقاص وعدمه كان
تصرفا غير جائز، فيضمن.
ولو كان المأخوذ من غير الجنس، فظاهر الكفاية الإجماع على
تخييره بين أخذه بالقيمة وبين بيعه وقبض ثمنه لحقه، حيث قال: ويتخير
عند الأصحاب (2).
وظاهر الدروس الخلاف فيه، حيث قال: والأقرب تخيره بين تملكه
بالبيع وبالقيمة (3).
وكيف كان، فالظاهر التخيير، لتجويز الاعتداء، وأخذ الحق منه

(1) التحرير 2: 188.
(2) الكفاية: 275.
(3) الدروس 2: 85.
455

وقبضه، وأخذ مثل المال منه على سبيل الإطلاق في العمومات، وهو
يحصل بكل من الوجهين، والأصل عدم تعين نوع خاص منه.
وليس له الانتفاع بما أخذ قبل القبول أو البيع، وعليه المبادرة إلى
أحدهما، فلو أخر مع الإمكان فنقصت الثمن ضمن النقصان، ولا يضمن ما
نقص قبل التقصير، كذا قال في التحرير (1).
ولا أدري دليلا تاما على تضمين نقصان الثمن بالتأخير، مع كون
أصل التصرف جائزا، والأصل عدم الضمان، سيما إذا كان التأخير لطلب
زيادة في القيمة، أو مصلحة أخرى للمالك أو نفسه.
وأولى بعدم الضمان ما إذا لم يحصل لأجله ضرر على المالك، كما
إذا كان المال مما لم يرد مالكه بيعه.
ولو تلف المساوي للحق من غير الجنس قبل القبول أو البيع من غير
تقصير منه، فقال الشيخ: الأليق بالمذهب عدم الضمان (2). وهو كذلك،
للأصل.
واحتمل الفاضلان الضمان، لأنه قبض بدون إذن المالك (3).
وفيه: أن إذن الشارع أعظم من إذن المالك.
المسألة الرابعة: في جواز المقاصة من الوديعة وعدمه قولان:
الأول: للتهذيبين والسرائر والشرائع والنافع والمختلف والإرشاد
والتحرير وشرح الشرائع للصيمري والتنقيح والنكت والمسالك (4)، وفيه

(1) التحرير 2: 188.
(2) المبسوط 8: 311.
(3) المحقق في الشرائع 4: 109، العلامة في التحرير 2: 188.
(4) التهذيب 6: 349، الإستبصار 3: 53، السرائر 2: 36، الشرائع 4: 109،
النافع: 284، المختلف: 412، التحرير 2: 188، التنقيح 4: 268، المسالك
2: 389.
456

وفي الكفاية: أن عليه أكثر المتأخرين (1)، وقيل: بل لعله عليه عامتهم (2).
وهو الأقوى، لعموم الآية، وإطلاق أكثر الأخبار المتقدمة، بل
عمومها الناشئ عن ترك الاستفصال، وخصوص رواية إسحاق بن إبراهيم
السابقة، وأظهر منها صحيحة البقباق، ورواية علي بن سليمان.
ودلالة الصحيحة على الرجحان - المخالف لظاهر الاتفاق كما قيل (3)،
حيث إنهم حكموا بالكراهة - غير قادح في الحجية، لاحتمال خصوصية في
واقعة شهاب - من جهته، أو من جهة الرجل، أو من جهة ماله - أوجبت
ذلك الرجحان.
والقول بأصالة عدم الخصوصية واه جدا، إذ قد تكون جهات
الرجحان موافقة للأصل أو مساوية مع خلافها بالنسبة إلى الأصل.
والثاني: للصدوق في أكثر كتبه والتقي الحلبي والكيدري والطبرسي
وابن زهرة (4) مدعيا عليه إجماع الإمامية، ونسب إلى بعض متأخري
المتأخرين، ولعله صاحب الوافي (5)، ونسبه في التحرير إلى الشيخ أيضا (6).
للإجماع المنقول، وللكتاب، والسنة المستفيضة الآمرة برد الوديعة (7).

(1) المسالك 2: 389، الكفاية: 275.
(2) الرياض 2: 412.
(3) الرياض 2: 412.
(4) الصدوق في الفقيه 3: 185، التقي في الكافي في الفقه: 331، الطبرسي في
مجمع البيان 1: 288، ابن زهرة في الغنية (الجوامع الفقهية): 592.
(5) انظر الرياض 2: 412، الوافي 18: 815.
(6) التحرير 2: 188.
(7) الوسائل 19: 71 أبواب أحكام الوديعة ب 2.
457

وخصوص صحيحة ابن عمار: الرجل يكون لي عليه الحق،
فيجحدنيه، ثم يستودعني مالا، ألي أن آخذ مالي عنده؟ فقال: " لا، هذه
خيانة " (1).
ورواية ابن أخي الفضيل الصحيحة عن ابن أبي عمير: إن ابني مات
وترك مالا في يد أخي، فأتلفه، ثم أفاد مالا فأودعنيه، فلي أن آخذ منه
بقدر ما أتلف من شئ؟ فأخبرته بذلك، فقال: " لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك " (2).
والأول ليس بحجة، سيما مع مخالفة أجلاء الطائفة والشهرة العظيمة
المتأخرة.
والثاني بالمعارضة بالمثل من الكتاب والسنة المجوزة للتقاص (3)،
الراجحة على ما ذكروه بالشهرة، وباتفاقهم على رجحانها على عمومات
حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه، مع أن ما ذكروه ليس بأقوى من
تلك العمومات.
والروايتان محمولتان على الكراهة بقرينة الأخبار المجوزة للتقاص
عن الوديعة، مع كونهما أعم من اجتماع شروط المقاصة من إمكان الأخذ
منه، وعدم الإحلاف سابقا، وغير ذلك.. واحتمال كون الإتلاف في
الأخيرة مما لا يوجب الضمان المجوزة للتقاص.
المسألة الخامسة: لو اقتص حقه، ثم أتى الغريم بالمال المجحود أو

(1) الكافي 5: 98 / 2، الفقيه 3: 114 / 483، التهذيب 6: 197 / 438، الوسائل
17: 275 أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 11.
(2) التهذيب 6: 348 / 981، الإستبصار 3: 52 / 172، الوسائل 17: 273 أبواب
ما يكتسب به ب 83 ح 3.
(3) راجع ص: 395 و 396.
458

المماطل فيه، فإن كانت عين ما اقتصه باقية جاز لمن اقتص أخذ حقه، ورد
المقتص، لأصالة عدم اللزوم. وكذا لو تمكن من انتزاع حقه بعد التقاص
بالبينة والإثبات والأخذ، ورد المقتص مع بقاء عينه، لما ذكر.
وهل يجب عليه ذلك، أم لا؟
الظاهر: الثاني، للأصل، والاستصحاب.
ويمكن أن يقال: إن الثابت من أدلة التقاص ليس أزيد من جواز
أخذه والتصرف فيه ما دام غريمه جاحدا أو مماطلا، وأما بعد الإقرار
والبذل فيستصحب عدم جواز التصرف، فإنه قبل التقاص لم يكن جائز
التصرف، وبعده لم يثبت الزائد عن الجواز ما لم يبذل، فيستصحب العدم
بعد البذل، إلا أنه يتعارض الاستصحابان حينئذ، ويرجع إلى التخيير أيضا.
وكذا الحكم لو كانت العين تالفة، إلا أن عدم الوجوب حينئذ أظهر،
لأصالة عدم لزوم التغريم من ماله، واستصحاب الأول.
وهل يجوز له مع عدم رد المقتص به قبول ما بذل له الغريم أيضا؟
الظاهر: لا، لسقوط حقه بعد التقاص في نفس الأمر، وإن لم يعلمه
الغريم وكان غاصبا بحسب علمه.
المسألة السادسة: هل يختص التقاص بما إذا علم حقه على الغريم
واقعا، أو يجوز مع العلم الشرعي الحاصل بالأصول الشرعية أيضا؟
الظاهر: الثاني، لقيام مقتضى الأصول الشرعية مقام الواقع، فلو جوز
كون جحود الغريم لأجل علمه بحق له عليه أو على مورثه، ولكن
لم يعلمه، يجوز التقاص.
وكذا لو علم حق لمورثه على زيد، وادعى هو الإيفاء، ولكن
لم يعلم به ذلك الوارث، فلا يجب عليه الترافع، والأخذ بعد يمين نفي
459

العلم، بل يجوز له التقاص، لأصالة عدم الحق في الأول، وعدم الإيفاء في
الثاني.
المسألة السابعة: يجوز التقاص من مال الغريم المشترك بينه وبين
غيره، وعليه أداء مال الغير وإيصاله إليه، للعمومات، وأدلة نفي الضرر،
ولأن حرمة مال الشريك ليس بأزيد من حرمة الزائد على الحق من مال
الغريم.
المسألة الثامنة: لو كان الغريم غائبا، ولم يعلم جحوده أو عدم
بذله، يجوز التقاص من ماله الحاضر، للعمومات، ولإطلاق صحيحة
البقباق، ورواية إسحاق، بل صحيحة زربي (1)، وعدم ثبوت الإجماع الثابت
في الحاضر المقر الباذل في ذلك.
المسألة التاسعة: لو كان حقه مظنونا لا يجوز له التقاص، لعدم
علمه بحق ثابت، وعدم شمول العمومات له.
وتسلطه على إحلاف الغريم، أو أخذ الحق بعد نكوله على سماع
الدعوى الظنية لا يدل على ثبوت الحق له.
نعم، لو نكل وحكم الحاكم به تجوز له المقاصة حينئذ لو لم يبذل.
المسألة العاشرة: لو كان له على شخص حق، ولم يعلم به الغريم
أو نسيه يجوز له التقاص، من غير وجوب الإعلام والمطالبة، للعمومات.
وكذا لو كان حق عليه، ولم يعلم تذكره وعدمه وإقراره.
وكذا لو كان له حق، ومنعه الحياء أو الخوف أو مصلحة أخرى عن
المطالبة.

(1) المتقدمة جميعا في ص 397.
460

المسألة الحادية عشرة: يجوز تقاص ما أعطاه لغيره رشوة محرمة
أو ربا، إذا كان مضطرا في الإعطاء، بل غير مضطرا أيضا، إذا علم الآخذ
كونه رشوة أو ربا.
المسألة الثانية عشرة: لو كان لزيد مال على عمرو، ولعمرو على
بكر، يجوز لزيد المواطاة مع بكر، وأخذ حقه منه، للعمومات.. ويجوز
لبكر إعطاؤه، لأن جواز أخذ الغريم يستلزم ذلك.. ويجوز حلف بكر على
البراءة.
المسألة الثالثة عشرة: لو كان الحق مختلفا فيه بين العلماء لا يجوز
لطالب الحق التقاص قبل الترافع بتقليد مجتهد يفتي بثبوته، كما مر في
صدر الفصل، فلو جنى عليه أحد بجناية، ديتها عند بعض المجتهدين
عشرة، وعند بعض آخر عشرون، لا يجوز له تقاص العشرة الزائدة
المختلف فيها بتقليد الثاني.
المسألة الرابعة عشرة: لو كان له حق على من لا يفي ماله بديونه،
يجوز له التقاص من ماله ما لم يحجر عليه الحاكم.
ولو حجر عليه فهل يجوز له تقاص تمام حقه من مال الغريم أم لا؟
فيه إشكال، والأحوط: لا.
ولو كان له حق على ميت عليه دين زائد على التركة لا يجوز له
تقاص الزائد عن حصته بعد التوزيع، لانتقال ماله بموته إلى الديان.
المسألة الخامسة عشرة: يجوز التقاص من مال الغريم المتزلزل
- كما ابتاعه ببيع الخيار - لصدق ماله عليه، فيعمل المشتري لو فسخه البائع
ما يعمله في صورة التلف.
المسألة السادسة عشرة: يجوز التوكيل في التقاص، لأنه أمر يقبل
461

الوكالة، لعموماتها.
وهل يجوز لغير ذي الحق التقاص له من غير توكيل، إذا علم مطالبة
الغير لحقه؟
الظاهر: نعم، لأنه دفع ظلم عن الغير، وهو جائز، بل واجب.
المسألة السابعة عشرة: الحق الذي يجوز تقاصه أعم من أن يكون
ذو الحق معينا أو أحد الأفراد، فلو أوصى أحد بشئ لواحد من أولاد زيد،
يجوز لأحدهم مقاصته بعد الجحود أو المماطلة، لصدق كون حقه عليه،
لأن ذلك أيضا نوع حق.
وعلى هذا، فيجوز للفقير تقاص الزكاة والخمس ورد المظالم عن
الغني المماطل.
وهل يجوز للحاكم ذلك للإيصال إلى أهله؟
الظاهر: نعم، بل يجب، لما مر من وجوب دفع الظلم عن المظلوم.
المسألة الثامنة عشرة: هل يشترط في التقاص عن غير الجنس
التقويم، أم يجوز بدونه إذا كان غير زائد على الحق قطعا، كأن يقاص من
له ألف دينار على شخص فرسا له غاية قيمته من العشرين إلى الأربعين؟
الظاهر: الجواز، للأصل.
المسألة التاسعة عشرة: يجوز التقاص من المنافع كما يجوز من
الأعيان، فيجوز له إجارة دار الغريم وكراية دابته، لصدق الظفر بالمال.
المسألة العشرون: هل يجوز تقاص مستثنيات الدين - كفرس
ركوبه، وثياب بدنه، ونحوهما - أم لا؟
الظاهر: أنه إن لم يتملك ما يفي به الدين غير هذه الأمور لا يجوز،
ووجهه ظاهر، وإلا فيجوز، لأن المستثنى ليس عين هذه الأمور، بل أعم
462

منها ومن أثمانها.
المسألة الإحدى والعشرون: الظاهر عدم حصول التقاص بدون
التصرف، للأصل، وعدم شمول العمومات، فلا يجوز قبول أمة الغريم التي
في بيته أو عبده مقاصة، وعتقه من كفارة، ولا قبول داره التي يسكن فيها
الغريم، أو ضيعته التي في تصرفه، ووقفها أو بيعها للغير، من غير أن
يتصرف الغير فيها.
ولو كان لزيد حق على عمرو، ولبكر حق لا يعلمه على زيد،
وغصب بكر مال عمرو، لا يجوز له مقاصة ذلك المال، وجعله عوضا عن
حق بكر عند نفسه، ولا تبرأ ذمته بذلك، فتأمل.. والله العالم.
المسألة الثانية والعشرون: قال في القواعد: ولو نقب جداره ليأخذه
لم يكن له (1) أرش النقب (2).
أقول: لا ينبغي الريب في جواز النقب، لأدلة نفي الضرر، ولقوله
سبحانه: * (فمن اعتدى عليكم) * (3).
ويلزمه عدم ضمان الأرش، لأنه تصرف جائز، والأصل عدم
الضمان. ولو ضمن الأرش كان الجواز أظهر - كما مر - كما إذا لم يكن
الأرش زائدا على حقه.
المسألة الثالثة والعشرون: ولو جحد من عليه مثله جاز أن يجحد
أيضا، ويكون صادقا بعد قصده التقاص، فيحلف على نفي ما جحده..
والله العالم بحقائق أحكامه.

(1) في خ ل " ح " و " ق ": عليه....
(2) القواعد 2: 231.
(3) البقرة: 194.
463

المطلب الرابع
فيما يتعلق بالاستحلاف والحلف
وقد مر بعض ما يتعلق بذلك في المطلب الثاني - من اشتراط كون
الحلف بإذن الحاكم والمدعي، وعدم سماع الدعوى بعدها، وغير ذلك -
وبقيت أحكام أخر متعلقة إما بنفس الحلف، أو الحالف، أو المحلوف
عليه، لا بد من ذكرها، فهاهنا ثلاثة أبحاث..
البحث الأول
في أحكام تتعلق بنفس اليمين
وفيه أربع مسائل:
المسألة الأولى: لا يصح الإحلاف إلا بالله سبحانه، أي لا يترتب
الأثر المقصود من الإحلاف إلا إذا كان به بلا خلاف، بل عليه الإجماع في
كتاب الأيمان عن الشيخين في المقنعة والنهاية، والغنية والمقداد والسيد في
شرح النافع (1) ونسبه في الكفاية إلى ظاهر الأصحاب (2)، بل لعله إجماع
محقق، فهو الدليل عليه، مضافا إلى الأصل، والنصوص المستفيضة:
منها صحيحة سليمان بن خالد المتقدمة، وفيها - بعد سؤال بعض

(1) المقنعة: 554، النهاية: 555، الغنية (الجوامع الفقهية): 617، والمقداد في
التنقيح 3: 503، حكاه عن السيد في الرياض 2: 248.
(2) الكفاية: 226.
464

الأنبياء عن الله سبحانه عن كيفية الحكم بين الناس -: " احكم بينهم بكتابي،
وأضفهم إلى اسمي تحلفهم به " ثم قال: " هذا لمن لم تقم له بينة " (1).
ورواية محمد بن قيس: " إن نبيا من الأنبياء شكى إلى ربه كيف أقضي في
أمور لم أخبر ببيانها؟ فقال: ردهم إلي، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به " (2).
ومرسلة أبان، وفيها: " احكم بينهم بالبينات، وأضفهم إلى اسمي
يحلفون به " (3).
دلت هذه الأخبار على وجوب الحلف باسم الله في قطع الدعوى.
وفي المروي في تفسير الإمام الوارد في كيفية قضاء رسول الله
المتقدم بعضها: " وإن لم تكن له بينة حلف المدعى عليه بالله " (4).
وفي رواية البصري المتقدمة: " فعلى المدعي اليمين بالله الذي لا إله
إلا هو " (5).
وفي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة: " فإن أقام بعد ما استحلفه بالله
خمسين قسامة ما كان له حق " (6).

(1) الكافي 7: 415 / 4، التهذيب 6: 228 / 550، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 1 ح 1، بتفاوت.
(2) الكافي 7: 414 / 2، الوسائل 27: 230 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى
ب 1 ح 3، بتفاوت يسير.
(3) الكافي 7: 414 / 3، التهذيب 6: 228 / 551، الوسائل 27: 229 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 1 ح 2.
(4) الوسائل 27: 239 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 6 ح 1.
(5) الكافي 7: 415 / 1، الفقيه 3: 38 / 128، التهذيب 6: 229 / 555، الوسائل
27: 236 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 4 ح 1.
(6) الكافي 7: 417 / 1، التهذيب 6: 231 / 565، الوسائل 27: 244 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 9 ح 1، وفي الجميع لا توجد لفظة: حق.
465

دلت بالمفهوم على أنه لو أقام البينة قبل الاستحلاف بالله ولو حلف
بغيره كان له حق، فلا تسقط الدعوى.
ورواية أبي حمزة: " لا تحلفوا إلا بالله، ومن حلف بالله فليصدق،
ومن حلف له بالله فليرض " (1).
دلت بالمفهوم على عدم وجوب التصديق والرضا بمن لم يحلف بالله
وإن حلف بغيره، وكذا حرم الحلف بغير الله، فيكون فاسدا.
ويظهر من الوجه الأول دلالة صحيحة الخزاز: " من حلف بالله
فليصدق، ومن لم يصدق فليس من الله، ومن حلف له بالله فليرض، ومن
لم يرض فليس من الله " (2).
ومن الوجه الثاني دلالة صحيحة محمد: قول الله تعالى: * (والليل إذا
يغشى) * (3)، * (والنجم إذا هوى) * (4) وما أشبه ذلك، فقال: " إن لله تعالى أن
يقسم من خلقه بما شاء، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به " (5)، وقريبة منها
صحيحة علي بن مهزيار (6).
وصحيحة الحلبي: " لا أرى أن يحلف الرجل إلا بالله " (7)، ونحوها

(1) الكافي 7: 438 / 1، التهذيب 8: 283 / 1040، الوسائل 23: 211 أبواب
الأيمان ب 6 ح 1.
(2) الكافي 7: 438 / 2، الفقيه 3: 229 / 1079، الأمالي: 391 / 7، المحاسن:
120 / 133، الوسائل 23: 211 أبواب الأيمان ب 6 ح 3، بتفاوت.
(3) الليل: 1.
(4) النجم: 1.
(5) الكافي 7: 449 / 1، التهذيب 8: 277 / 1009، الوسائل 23: 259 أبواب
الأيمان ب 30 ح 3.
(6) الفقيه 3: 236 / 1120، الوسائل 23: 259 أبواب الأيمان ب 30 ح 1.
(7) الكافي 7: 449 / 2، الفقيه 3: 230 / 1085، التهذيب 8: 278 / 1010،
الوسائل 23: 260 أبواب الأيمان ب 30 ح 4، بتفاوت يسير.
466

رواية سماعة (1).
وموثقة سماعة: هل يصلح لأحد أن يحلف من اليهود والنصارى
والمجوس بآلهتهم؟ قال: " لا يصلح لأحد أن يحلف أحدا إلا بالله " (2).
وظاهر أنه إذا لم يصلح يكون فاسدا، لأن نفي الصلاح الفساد.
ورواية المدائني: " لا يحلف بغير الله " وقال: " اليهودي والنصراني
والمجوسي لا تحلفوهم إلا بالله " (3).
ويستفاد من خصوص الأخيرتين وعموم ما تقدم عليهما عموم
الحكم للمسلم والكافر، كما هو الحق المشهور، وتدل عليه أيضا صحيحتا
الحلبي وابن أبي عمير: عن أهل الملل كيف يستحلفون؟ فقال:
" لا تحلفوهم إلا بالله " (4).
وصحيحة سليمان بن خالد: " لا يحلف اليهودي ولا النصراني
ولا المجوسي بغير الله، إن الله عز وجل يقول: * (فاحكم بينهم بما أنزل
الله) * (5).
خلافا للمحكي عن المبسوط والإيضاح والدروس في المجوسي،
فأوجبوا عليه الحلف بغير لفظ الله مما يرفع احتمال إرادة غيره منضما مع

(1) الكافي 7: 450 / 3، التهذيب 8: 278 / 1011، الوسائل 23: 261 أبواب
الأيمان ب 30 ح 5.
(2) الكافي 7: 451 / 2، التهذيب 8: 279 / 1015، الإستبصار 4: 39 / 133
الوسائل 23: 267 أبواب الأيمان ب 32 ح 5.
(3) الكافي 7: 451 / 5، التهذيب 8: 278 / 1014، الإستبصار 4: 39 / 132،
الوسائل 23: 266 أبواب الأيمان ب 32 ح 2.
(4) الكافي 7: 450 / 1، التهذيب 8: 279 / 1016، الإستبصار 4: 40 / 134،
الوسائل 23: 267 و 269 أبواب الأيمان ب 32 ح 6 و 14.
(5) الكافي 7: 451 / 4، التهذيب 8: 278 / 1013، الإستبصار 4: 39 / 131،
الوسائل 23: 265 أبواب الأيمان ب 32 ح 1، بتفاوت يسير، والآية في المائدة: 48.
467

الله، لرفع احتمال إرادة النور أو الظلمة الذي هو إله باعتقاده (1).
وفيه - مع شذوذه - أنه اجتهاد في مقابلة النصوص.
وقد يستدل له أيضا بأن بدون ذلك لا يحصل الجزم بأنه حلف.
وفيه: أن المعتبر من الحلف هو كونها بالله، وهو قد وقع، وأما
مطابقة قصده للفظه فلا دليل عليها، مع أن العبرة في الحلف إنما هي على
نية المستحلف إذا كان محقا لا الحالف، كما نقل بعض متأخري المتأخرين
الاتفاق عليه (2).
وتدل عليه رواية إسماعيل بن سعد الأشعري: عن الرجل يحلف،
وضميره على غير ما حلف عليه، قال: " اليمين على الضمير " يعني: على
ضمير المظلوم (3).
ورواية مسعدة، وفيها: " وأما إذا كان ظالما فاليمين على نية
المظلوم " (4).
هذا، مع أن دليلهم لو تم لاطرد في غير المجوسي من أهل الملل
الباطلة، فلا وجه للتخصيص به.
وللمحكي عن الشيخ في النهاية والفاضلين (5) وجماعة (6)، فجوزوا

(1) المبسوط 6: 194، الإيضاح 4: 13، الدروس 2: 96.
(2) انظر الرياض 2: 402.
(3) الفقيه 3: 233 / 1099، وفي الكافي 7: 444 / 2، والوسائل 23: 245 أبواب
الأيمان ب 21 ح 1 لا توجد: يعني على ضمير المظلوم.
(4) الكافي 7: 444 / 1، التهذيب 8: 280 / 1025، قرب الإسناد: 9 / 28،
الوسائل 23: 245 أبواب الأيمان ب 20 ح 1.
(5) النهاية: 347، المحقق في الشرائع 4: 87 والفاضل في التحرير 2: 191.
(6) كالفاضل السبزواري في الكفاية: 270، والفاضل الهندي في كشف اللثام 2:
339، وصاحب الرياض 2: 402.
468

إحلاف الذمي، بل مطلق الكافر - كما قيل (1) - بما يقتضيه دينه إذا رآه
الحاكم أردع له من الباطل، وأوفق لإثبات الحق.
لرواية السكوني: " إن أمير المؤمنين (عليه السلام) استحلف يهوديا بالتوراة
التي أنزلت على موسى " (2).
وصحيحة محمد بن قيس: " قضى علي (عليه السلام) فيمن استحلف أهل
الكتاب بيمين صبر أن يستحلفه بكتابه وملته " (3).
وصحيحة محمد: عن الأحكام، فقال: " في كل دين ما يستحلفون
به " (4) وفي بعض النسخ: " ما يستحلون به ".
وأجيب (5) عن الأول تارة: بضعف الرواية.
وأخرى: بكونها قضية في واقعة لا عموم لها.
وثالثة: بجواز اختصاصه بالإمام.
ورابعة: باحتمال كون الحلف بالتوراة منضمة مع الحلف بالله.
وعن الثاني: بالأخيرين، وباحتمال كون المجرورين في " كتابه
وملته " راجعين إلى من استحلف، ويؤيده إفرادهما.
وعن الثالث: بجواز كون المراد أنه يمضي عليهم حكمه إذا حلفهم عند

(1) المسالك 2: 371.
(2) الكافي 7: 451 / 3، التهذيب 8: 279 / 1019، الإستبصار 4: 40 / 135،
الوسائل 23: 266 أبواب الأيمان ب 32 ح 4.
(3) الفقيه 3: 236 / 1117، التهذيب 8: 279 / 1018، الإستبصار 4: 40 / 137،
الوسائل 23: 267 أبواب الأيمان ب 32 ح 8.
(4) الفقيه 3: 236 / 1116، التهذيب 8: 279 / 1017، الإستبصار 4: 40 / 136،
الوسائل 23: 267 أبواب الأيمان ب 32 ح 7.
(5) الكفاية: 270، الرياض 2: 402.
469

حاكمهم، كما أنه تجري عليه أحكام عقودهم، ويلزم عليهم ما التزموا به.
ويرد على الأول: بعدم ضير في ضعف الرواية سندا بعد وجودها في
الأصول المعتبرة، مع أن ضعفها ليس إلا للنوفلي والسكوني، وفي ضعفهما
كلام.
وعلى الثاني: أن القضية في واقعة كافية في إبطال العموم المطلوب،
مع أن القضية الواقعة غير معلومة، فيلزم تخصيص العام بالمجمل، فتخرج
العمومات المتقدمة بأسرها عن الحجية.
وعلى الثالث: أن أمثال تلك التجويزات لا يلتفت إليها في بيان
الأخبار، وإلا بطل الاستدلال بها بالمرة، مع أن ذلك الاحتمال أيضا مناف
للعموم المطلوب، وموجب للإجمال في المخصص، فتأمل.
وعلى الرابع: بأن الانضمام أيضا مناف للمطلوب من عدم جواز
الاستحلاف بغير الله.
وعلى الخامس: بأنه خلاف الظاهر المتبادر، مع أنه أيضا مناف
للمطلوب من جهة أعمية المستحلف من المسلم، ومن جهة أن استحلاف
المسلم بكتابه أيضا غير المطلوب.. إلا أن يقال: المراد بطريق ما أنزل في
كتابه، ويقر في ملته، وهو أيضا خلاف ظاهر آخر.
وعلى السادس: أنه تخصيص للحديث بلا مخصص.
فالصواب أن يجاب عن الجميع بأنها معارضة للأخبار المتقدمة،
وهي راجحة بالأشهرية رواية وفتوى، والأصرحية دلالة..
وبموافقة الكتاب، التي هي من المرجحات المنصوصة، حيث قال
470

سبحانه في آية الوصية في السفر: * (فيقسمان بالله) * (1) يعني: الأخيرين من
غير المسلمين.
وبموافقة الاحتياط والأصل.
وبالمخالفة لمذاهب العامة، كما صرح به في الوافي (2) وشرح
المفاتيح وغيرهما (3).
وبالأحدثية، التي هي أيضا من المرجحات المنصوصة، لكون بعض
الأخبار المتقدمة مرويا عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، والأخيرة لم تتجاوز عن
أبي عبد الله (عليه السلام).
فروع:
أ: هل المراد بالحلف بالله الحلف بهذا اللفظ المقدس، أو به وبمثله
من الأسماء المختصة به - كالرحمن والرحيم - أو بهما وبمثلهما من
الأوصاف الدالة على تلك الذات المقدسة - مثل: بالذي لا إله إلا هو،
وبالذي خلق كل شئ - أو بذات الله؟
الظاهر: الأخير، لأن المعنى الحقيقي للفظ الله هو الذات المقدسة،
فالمراد الحلف بتلك الذات المتعالية، فيصح الحلف بكل ما أفاده.
ويدل عليه أيضا قوله في صحيحة الحلبي - بعد النهي عن الحلف إلا
بالله -: " فأما قوله: لعمر الله، وقوله لاهاه فذلك بالله " (4).

(1) المائدة: 107.
(2) الوافي 16: 1059 - 1060.
(3) كالكفاية: 149.
(4) الكافي 7: 449 / 2، الفقيه 3: 230 / 1085، التهذيب 8: 278 / 1010، قرب الإسناد: 292 / 1151، الوسائل 23: 260 أبواب الأيمان ب 30 ح 4، بتفاوت.
471

وكذا قوله في صحيحة محمد المتقدمة: " وليس لخلقه أن يقسموا إلا
به " (1)، فإن الضمير راجع إلى الذات دون اللفظ.
والظاهر أنه لا خلاف فيه أيضا إلا عن بعض المتأخرين في شرحه
على النافع، ولذا جعل بعض من تأخر عنه قوله مخالفا لظاهر الإجماع
المحقق والمحكي عن الشيخين (2).
ب: كما لا يصح الحلف إلا بالله سبحانه، ولا يترتب الأثر إلا عليه،
ولا ينعقد في باب الأيمان إلا به، كذلك لا يجوز الحلف إلا به سبحانه..
فيأثم الحالف بغيره من المخلوقات - كالأنبياء، والأئمة، والملائكة،
والكتب المعظمة، والكعبة، والحرم، والمشاهد المشرفة، والآباء،
والأصدقاء، ونحوها - على الأشهر بين الطائفة، بل قيل: إنه مقتضى
الإجماعات المنقولة (3). وصرح به جماعة، منهم: المحقق الأردبيلي
وصاحب المفاتيح (4) وشارحه وبعض مشايخنا المعاصرين (5).
لروايتي أبي حمزة وسماعة، وصحاح محمد وعلي بن مهزيار
والحلبي، المتقدمة جميعا (6).
فإن الأولى متضمنة للنهي الصريح في الحرمة.
والثانية والأخيرة متضمنة لقوله: " لا أرى " والظاهر منه نفي الجواز.
والثالثة والرابعة متضمنة لقوله: " ليس لخلقه أن يقسموا إلا به "

(1) راجع ص 414.
(2) انظر الرياض 2: 248.
(3) الرياض 2: 402.
(4) المفاتيح 2: 39.
(5) الرياض 2: 248 و 402.
(6) في ص 414 و 415.
472

والمتبادر منه نفي الجواز أيضا.
وحملها على الحلف الذي يترتب عليه الأثر الشرعي لا وجه له.
مضافا إلى ما علله بعضهم من أن القسم بشئ يستلزم تعظيما له،
ولا مستحق للتعظيم المطلق وبالذات سوى الله تعالى (1).
وربما يشعر بذلك قوله في صحيحة الحلبي (2) ورواية سماعة (3):
" ولو حلف الناس بهذا وأشباهه لترك الحلف بالله ".
وتدل على الحرمة أيضا مرسلة يونس المروية في الكافي: عن قول
الله تعالى: * (فلا أقسم بمواقع النجوم) * قال: " أعظم إثم من يحلف بها "
الحديث (4).
ورواية الحسين بن زيد الطويلة، المروية في الفقيه، المشتملة على
جملة المناهي، وفيها: " ونهى أن يقول الرجل للرجل: لا وحياتك وحياة
فلان " (5).
ورواية صفوان الواردة في حكاية أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) مع أبي
جعفر المنصور الكاذب، حيث إنه بعد ما قال له (عليه السلام): إن مولاك يدعو
الناس إليك، فقال: " والله ما كان " فقال: لست أرضى منك إلا بالطلاق

(1) انظر الرياض 2: 248.
(2) الكافي 7: 449 / 2، الفقيه 3: 230 / 1085، التهذيب 8: 278 / 1010، قرب الإسناد: 292 / 1151، الوسائل 23: 260 أبواب الأيمان ب 30 ح 4.
(3) الكافي 7: 450 / 3، التهذيب 8: 278 / 1011، الوسائل 23: 261 أبواب
الأيمان ب 30 ح 5، بتفاوت يسير.
(4) الكافي 7: 450 / 5، الوسائل 23: 265 أبواب الأيمان ب 31 ح 2، والآية في
الواقعة: 75.
(5) الفقيه 4: 2 / 1، الوسائل 23: 259 أبواب الأيمان ب 30 ح 2.
473

والعتاق والهدي والمشي، فقال: " أبالأنداد دون الله تأمرني أن أحلف؟! "
الحديث (1).
فإنه يشعر بأن الحلف بغيره سبحانه جعل للأنداد له.
وذهب بعضهم إلى الكراهة، لضعف الأوليين سندا، والثانية دلالة (2).
وهما ممنوعان، سيما وأن الضعف منجبر بالشهرة.
وقد يقال باختصاص النهي عن الحلف بغير الله بما إذا أقسم العبد
على فعل نفسه، ومن هو مثله من الخلق، فأما إذا أنشد الله في حاجة فلعله
يجوز له أن يذكر من خلق الله ما يشاء، كما ورد في الأدعية المأثورة.
ولا يخفى أنه لا حاجة إلى الاستثناء والتخصيص، لأن المنهي عنه هو
الحلف والاستحلاف، وأما مثل قولك: أنشدك بكذا، وأسألك بحق كذا،
فليس هو شيئا منهما، فهو خارج عن موضوع المسألة.
وعلى هذا، فيجوز في سؤال المخلوق عن المخلوق أيضا نحو
ذلك، فيقول له: أنشدك بالقرآن العظيم، أو بحق أبيك عليك أن تفعل كذا،
للأصل الخالي عن المعارض، لأنه ليس حلفا ولا استحلافا.
ج: لا شك في مرجوحية الحلف بالله، وكراهتها، واستحباب تركها
لو كان صادقا.
لقوله سبحانه: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) * (3).
وقوله سبحانه: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * (4).

(1) الكافي 6: 445 / 3، الوسائل 23: 230 أبواب الأيمان ب 14 ح 3، بتفاوت.
(2) المسالك 2: 371، الكفاية: 270.
(3) البقرة: 224.
(4) آل عمران: 77.
474

وفي صحيحة الخزاز: " لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين " (1).
وفي مرسلة سلام بن سهم: " من حلف بالله كاذبا كفر، ومن حلف
بالله صادقا أثم " (2).
وفي رواية السكوني: " من أجل الله أن يحلف به أعطاه الله خيرا مما
ذهب منه " (3).
وفي رواية أبي بصير الواردة في قضية سيد الساجدين (عليه السلام)، وادعاء
مطلقته أربعمائة دينار لأجل الصداق، وإعطائه إياه: " فقلت: يا أبة جعلت
فداك ألست محقا؟ قال: بلى، ولكني أجللت الله أن أحلف به يمين
صبر " (4).
ومقتضى هذه الروايات كراهية الحلف واستحباب تركها مطلقا.
إلا أن في مرسلة علي بن الحكم: " إذا ادعي عليك مال ولم يكن له
عليك، فأراد أن يحلفك، فإن بلغ مقدار ثلاثين درهما فأعطه ولا تحلف،
وإن كان أكثر من ذلك فاحلف ولا تعطه " (5).
ومقتضى الجمع تخصيص العمومات بهذه الرواية، إلا أن ظاهر رواية
أبي بصير استحباب الترك في أربعمائة دينار أيضا، ويمكن أن يكون ذلك

(1) الكافي 7: 434 / 1، الفقيه 3: 229 / 1078، التهذيب 8: 282 / 1033،
الوسائل 23: 198 أبواب الأيمان ب 1 ح 5.
(2) الفقيه 3: 234 / 1108، الوسائل 23: 198 أبواب الأيمان ب 1 ح 6.
(3) الكافي 7: 434 / 2، الفقيه 3: 233 / 1096، التهذيب 8: 282 / 1034،
الوسائل 23: 198 أبواب الأيمان ب 1 ح 3.
(4) الكافي 7: 435 / 5، التهذيب 8: 283 / 1036، الوسائل 23: 200 أبواب
الأيمان ب 2 ح 1.
(5) الكافي 7: 435 / 6، التهذيب 8: 283 / 1037، الوسائل 23: 201 أبواب
الأيمان ب 3 ح 1.
475

لاختلاف الحال بالنسبة إلى الأشخاص، سيما الإمام (عليه السلام).. ويمكن حمل
المرسلة على خفة الكراهة في أكثر من ثلاثين درهما.
وكما يستحب ترك الحلف يستحب ترك الاستحلاف أيضا، لرواية
عبد الحميد الطائي: " من قدم غريما إلى السلطان يستحلفه وهو يعلم أنه
يحلف، ثم تركه تعظيما لله تعالى لم يرض الله له بمنزلة يوم القيامة إلا
بمنزلة خليل الرحمن (عليه السلام) " (1).
ثم ما ذكرنا من كراهة الحلف إنما هو إذا كان صادقا، وأما إن كان
كاذبا فهو من المحرمات الشديدة، بل من الكبائر الموبقة، بل عدها في
بعض الروايات المتقدمة كفرا بالله سبحانه، ووردت فيها تهديدات شديدة
في أخبار عديدة:
كقوله (عليه السلام): " من حلف على يمين وهو يعلم أنه كاذب فقد بارز الله
تعالى " (2) أي: حاربه.
وقوله: " اليمين الصبر الفاجرة تدع الديار بلاقع " (3).
أقول: البلاقع جمع بلقع، وهي: الأرض القفر التي لا شئ بها. يريد
أن الحالف بها يفتقر، ويذهب ما في بيته من الرزق. وقيل: هو أن يفرق
الله شمله، ويقتر عليه ما أولاه من نعمه (4).

(1) التهذيب 6: 193 / 419، ثواب الأعمال: 130 / 1، الوسائل 23: 289 أبواب
الأيمان ب 52 ح 1.
(2) الكافي 7: 435 / 1، ثواب الأعمال: 226 / 1، المحاسن: 119 / 131،
الوسائل 23: 203 أبواب الأيمان ب 4 ح 4.
(3) الكافي 7: 435 / 2، ثواب الأعمال: 226 / 3، الوسائل 23: 204 أبواب
الأيمان ب 4 ح 5.
(4) قال في النهاية 1: 153 البلاقع جمع بلقع وبلقعة: وهي الأرض القفر التي
لا شئ بها، يريدون أن الحالف بها يفتقر ويذهب ما في بيته من الرزق. وقيل:
هو أن يفرق الله شمله ويغير عليه ما أولاه من نعمه.
476

وفي رواية أخرى: " إياكم واليمين الفاجرة، فإنها تدع الديار من
أهلها بلاقع " (1)، والأخبار بذلك المضمون كثيرة.
وفي أخبار أخرى: إنها تورث عقر الرحم وانقطاع النسل (2).
وفي آخر: إنها " تورث العقب العقر " (3) وفي بعض النسخ: " العقب
الفقر " (4).
وفي رواية أخرى: " إنه ينتظر بها أربعين ليلة " (5) أي لا يتجاوزها
بهلاك صاحبها.
هذا في الحلف.
وأما الإحلاف، فلا يحرم إذا كان المستحلف محقا إجماعا، ولذا
استحلف مولانا الصادق (عليه السلام) من سعى به عند منصور الدوانيقي، فحلف
ومات (6).
وكذا إذا كان مبطلا، لأن الحالف لم يحلف إلا صادقا، فلا وجه لكون
المستحلف به آثما وإن أثم بالكذب في أصل الدعوى.

(1) الكافي 7: 435 / 3، ثواب الأعمال: 226 / 2، الوسائل 23: 204 أبواب
الأيمان ب 4 ح 6.
(2) الوسائل 23: 202 أبواب الأيمان ب 4.
(3) الكافي 7: 436 / 4، الوسائل 23: 204 أبواب الأيمان ب 4 ح 7.
(4) الكافي 7: 436 / 4، ثواب الأعمال: 226 / 4، الوسائل 23: 204 أبواب
الأيمان ب 4 ح 7.
(5) الكافي 7: 436 / 7، المحاسن: 119 / 130، ثواب الأعمال: 226 / 5،
الوسائل 23: 205 أبواب الأيمان ب 4 ح 9.
(6) راجع ص 421.
477

المسألة الثانية: يستحب للحاكم تقديم الوعظ على اليمين لمن
توجهت إليه، لأنها إما مكروهة أو محرمة، والترغيب في ترك المكروه
والتحذير عن فعل المحرم مطلوب قطعا، فيعظ الحالف بذكر الآيات
والأخبار الواردة في ثواب ترك الحلف مع الصدق وعقاب فعلها مع
الكذب.
وكذا يستحب وعظ المستحلف أيضا، لما عرفت من استحباب
تركه.
المسألة الثالثة: يجزي للحالف أن يقول في يمينه: والله ماله قبلي
كذا، وترجمة ذلك بلغته - أي لغة كانت - بلا خلاف فيه كما قيل (1)، لصدق
اليمين، وعدم دليل على لزوم الزائد، ولإطلاقات الحلف بالله..
ولرواية أبي حمزة وصحيحة الخزاز، المتقدمتين في المسألة
الأولى (2)، المتضمنتين لقوله: " من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله
فليرض ".
ولمرسلة الفقيه: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من حلف لكم بالله
فصدقوه " (3).
إلا أنهم قالوا: إنه يستحب للحاكم تغليظ اليمين عليه قولا، ك‍: والله
الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الطالب الغالب،
الضار النافع، المهلك المدرك، الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية،

(1) انظر الرياض 2: 402.
(2) راجع ص 414.
(3) الفقيه 3: 37 / 126 وفيه: من حلف لكم بالله على حق فصدقوه، الوسائل 27:
245 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 9 ح 2.
478

كما في الصحيحة المتضمنة لإحلاف الأخرس (1).
أو زمانا، كالجمعة، والعيد، وبعد الزوال، وبعد العصر، كما في
الآية (2).
ومكانا، كالكعبة، والمقام، والمسجد الحرام، والحرم، والمشاهد
المكرمة، والمسجد الجامع، ثم سائر المساجد، والمحراب منها.
وبغير ذلك، كإحضار المصحف.
واستدلوا له بأنه مظنة رجوع الحالف إلى الحق، ومظنة تعجيل
المؤاخذة إن أقدم عليها، وبصحيحة الأخرس، وبالآية الواردة في الوصية
* (تحبسونهما من بعد الصلاة) * أي صلاة العصر * (فيقسمان بالله) * (3).
ورواية زرارة ومحمد: " لا يحلف أحد عند قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) على
أقل ما يجب فيه القطع " (4).
والمروي في قرب الإسناد: " إن عليا (عليه السلام) كان يستحلف اليهود
والنصارى في بيعهم وكنائسهم، والمجوس في بيوت نيرانهم، ويقول:
شددوا عليهم احتياطا للمسلمين " (5).
ولمرسلة البرقي (6) المتضمنة لإحلاف الصادق (عليه السلام) الساعي له عند

(1) الفقيه 3: 65 / 218، التهذيب 6: 319 / 879، الوسائل 27: 302 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 33 ح 1.
(2) المائدة: 106.
(3) المائدة: 106.
(4) التهذيب 6: 310 / 855، الوسائل 27: 298 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 29 ح 1، بتفاوت يسير.
(5) قرب الإسناد: 86 / 284، الوسائل 27: 298 أبواب كيفية الحكم وأحكام
الدعوى ب 29 ح 2.
(6) الكافي 6: 445 / 3، الوسائل 23: 269 أبواب الأيمان ب 33 ح 1.
479

المنصور بالبراءة بعد حلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة
الرحمن الرحيم.
وفي الكل نظر، لعدم نهوضها لإثبات العموم، وورودها في موارد
خاصة.
نعم، لا بأس بالقول به، لاشتهاره بين الأصحاب، بل نفى بعضهم
الخلاف فيه (1).
وهذا القدر كاف في مقام الاستحباب، ولذا يخص ذلك بالحاكم دون
الغريم، لاختصاص فتاويهم به.
ولو امتنع الحالف عن التغليظ لم يجبر عليه، للأصل.. ولا يصير
بامتناعه ناكلا لو حلف بالله، لعدم تركه الحلف، ولوجوب تصديق من
حلف بالله، كما مر.
قالوا: واستحباب التغليظ ثابت في جميع الحقوق المالية وغيرها، إلا
في المالية إذا كانت أقل من نصاب القطع ربع الدينار، لرواية زرارة ومحمد
المتقدمة.
وفيه: أنه يمنع فيه عن تغليظ خاص، ولكن لعدم ثبوت الاشتهار
- بل الفتوى في ذلك - وانحصار الدليل التام فيه يكون الاستثناء صحيحا.
المسألة الرابعة: يحلف الأخرس بالإشارة المفهمة على المشهور
- كما صرح به جماعة (2) - لأن الشارع أقام إشارته مقام تلفظه في سائر أموره.
وقال الشيخ في النهاية: يحلفه الحاكم بالإشارة والإيماء إلى اسم الله

(1) الرياض 2: 402.
(2) منهم الشهيد الثاني في المسالك 2: 372، السبزواري في الكفاية: 270،
صاحب الرياض 2: 403.
480

سبحانه، وتوضع يده مع ذلك على اسم الله المكتوب في المصحف، وإن
لم يحضر المصحف يكتب اسم الله سبحانه، وتوضع يده عليه (1).
ولعل دليله: أن حصول الإفهام بالإشارة والعلم بمرادها يحصل من
ذلك الوجه.
ونسب جماعة إلى النهاية وضع اليد على الاسم خاصة (2).
وقال ابن حمزة في وسيلته: إذا توجه الحلف على الأخرس وضع
يده على المصحف، وعرفه حكمها - أي حكم اليمين - وحلفه بالأسماء
- أي أسماء الله تعالى - فإن كتب اليمين على لوح، ثم غسلها، وجمع الماء
في شئ، وأمره بشربه، جاز، فإن شرب فقد حلف، وإن أبى ألزمه (3).
ودليله على الجزء الأول لعله حصول الإشارة المفهمة بذلك.
وعلى الجزء الثاني صحيحة محمد: عن الأخرس كيف يحلف إذا
ادعي عليه دين فأنكر، ولم تكن للمدعي بينة؟ فقال: " إن أمير
المؤمنين (عليه السلام) أتي بأخرس، وادعي عليه دين، فأنكر، ولم تكن للمدعي
بينة، فقال: أمير المؤمنين (عليه السلام): الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى
بينت للأمة جميع ما تحتاج إليه، ثم قال: ائتوني بمصحف، فأتي به، فقال
للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه إلى السماء، وأشار إلى أنه كتاب الله عز
وجل " إلى أن قال: " ثم كتب أمير المؤمنين (عليه السلام): والله الذي لا إله إلا هو "
إلى آخر ما مر في المسألة السابقة " إن فلان بن فلان المدعي ليس له قبل
فلان بن فلان الأخرس حق، ولا طلبة بوجه من الوجوه، ولا سبب من

(1) النهاية: 347.
(2) منهم فخر المحققين في الإيضاح 4: 336، الفاضل المقداد في التنقيح 4: 257.
(3) الوسيلة: 228، وفيه:... وحلفه بالإيماء إلى أسماء الله تعالى...
481

الأسباب، ثم غسله، وأمر الأخرس أن يشربه، فامتنع فألزمه الدين " (1).
ونسب جماعة إلى ابن حمزة الطريق المروي خاصة (2)، ونفى عنه
البعد الفاضل المقداد (3)، ورجحه المحقق الأردبيلي، واختاره الإرشاد
وشرح المفاتيح، للرواية الصحيحة الخالية عن المعارض، وضعف دليل
المشهور، كما ذكره الأردبيلي، قال: ومجرد كون الإشارة معتبرة في مواضع
لا يوجب كونها كلية وعدم جواز العمل بالرواية. انتهى.
وتضعيف دلالة الصحيحة بكونها قضية في واقعة ضعيف غايته، إذ
ذكر أبي عبد الله (عليه السلام) ذلك بعد السؤال عنه عن كيفية حلف الأخرس مطلقا
أوضح شاهد على عدم اختصاصه بواقعة خاصة، وكذا قول أمير
المؤمنين (عليه السلام): " الحمد لله الذي " إلى آخره.
ومنه يظهر ضعف ما قيل أيضا من جواز كون حلفه بهذا الطريق بعد
الحلف بالإشارة، ويكون ذلك من باب التغليظ (4).
بل ذلك أضعف جدا، لأنه لو كان كذلك لما كان وجه للإلزام بالدين
بعد الامتناع من ذلك الحلف.
واحتمال امتناعه عن الإشارة أيضا أسخف بكثير، لأن معه لم يكن
وجه لذلك لو كان المقصود بالذات الأول.. فهذا القول أتقن وأظهر.

(1) الفقيه 3: 65 / 218، التهذيب 6: 319 / 879، الوسائل 27: 302 أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى ب 33 ح 1، بتفاوت.
(2) منهم الفاضل المقداد في التنقيح الرائع 4: 257، والشهيد الثاني في المسالك
2: 372، وصاحب الرياض 2: 403.
(3) التنقيح الرائع 4: 259.
(4) الرياض 2: 403.
482

البحث الثاني
فيما يتعلق بالحالف
وفيه أيضا أربع مسائل:
المسألة الأولى: الأصل في الحالف هو المنكر دون المدعي - كما
مر في صدر المقام الثاني من البحث الثاني من الفصل الثالث - إلا في
مواضع دل الدليل على يمين المدعي، وقد مر بعض صوره، كصورة رد
المنكر، ومع نكوله على أحد القولين، ومع الشاهد الواحد، ومع البينة في
الدعوى على الميت.. وله صور أخرى أيضا تأتي في مواقعها.
المسألة الثانية: يتسلط المدعي على المنكر حلفه في كل دعوى
صحيحة يتعين فيها الجواب على المنكر، ويطالب به، بحيث لو أقر أو أتى
بما يقوم مقام الإقرار - من النكول، أو الرد إلى المدعي وحلفه - ألزم
بالحق، سواء كانت الدعوى متعلقة بفعل المدعى عليه نفسه، أو بفعل الغير
مما يوجب الإقرار به إلزامه بالحق:
بالإجماع، والنصوص، كما في رواية البصري المتقدمة: " فإن حلف
فلا حق له، وإن لم يحلف فعليه "، وقوله في آخرها: " ولو كان حيا لألزم
اليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه " (1).
نعم، هذه القاعدة غير مطردة في الحدود، كما مر، وسيجئ أيضا.
المسألة الثالثة: يجب أن يكون الحالف - سواء كان المدعى عليه،

(1) الكافي 7: 415 / 1، الفقيه 3: 38 / 128، التهذيب 6: 229 / 555، الوسائل
27: 236 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب 4 ح 1.
483

أو المدعي الذي ردت عليه اليمين - باتا عالما بما يحلف عليه، بالإجماع
والمستفيضة:
كصحيحة هشام بن سالم: " لا يحلف الرجل إلا على علمه " (1).
ومرسلة ابن مرار: " لا يستحلف العبد إلا على علمه، ولا يقع اليمين
إلا على العلم، استحلف أو لم يستحلف " (2).
وقد يقال: إن ذلك إنما هو إن كانت الحلف على فعل نفسه - سواء
كان إثباتا أو نفيا - وإن كانت على فعل الغير فكذلك إن كان في إثبات، وإن
كانت على النفي حلف على نفي العلم إن ادعي عليه العلم.
وقد يعبر بأن الحلف على العلم إن كان في الإثبات مطلقا، وكذا إن
كان في نفي فعل نفسه، وإن كان في نفي فعل الغير حلف على نفي العلم.
وقد يختصر ويقال: الحلف على البت أبدا، إلا إذا حلف على نفي
فعل الغير.
أقول: الحلف على نفي العلم - كما صرحوا به - إنما هو إذا ادعي
عليه العلم، ولما كان علم كل أحد وعدمه معلوما لنفسه أبدا، فيكون حلفه
على نفسه حلفا على البت والقطع أيضا، فلا حاجة إلى التفصيل ولا إلى
الاستثناء، بل الحلف على الإثبات والنفي على البت مطلقا أبدا، ويكفي أن
يقال: الحلف على البت أبدا.

(1) الكافي 7: 445 / 3، التهذيب 8: 280 / 1020، الوسائل 23: 246 أبواب
الأيمان ب 22 ح 1.
(2) الكافي 7: 445 / 4، الوسائل 23: 247 أبواب الأيمان ب 22 ح 4، وفيهما:...
عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن بعض أصحابه، وفي التهذيب 8:
280 / 1022: وعنه (محمد بن يعقوب) عن بعض أصحابه...
484

وعلى هذا، فلو ادعى حقا على أحد، وأنكره، يحلف بتا على عدم
الاستحقاق، أو نفي ما يدعيه، كما يأتي.
وإن ادعى على غيره ممن يوجب ثبوته ثبوت الحق على ذلك
المدعى عليه - كالمورث والوكيل والولي - فإن لم يدع العلم عليه لم تسمع
دعواه، وإن ادعى العلم سمعت، ويحلف أيضا على نفي ما يدعيه من العلم
بتا.
ولو رد اليمين على المدعي يحلف أيضا على البت، سواء كانت
يمينا متعلقة بفعله أو فعل الغير الذي يحلف على نفي العلم به.
ثم إنه قد ذكرنا سابقا أن من ادعى على أحد حقا، وأجاب هو بقوله:
لا أدري، فإن لم يدع عليه العلم لا حق له عليه، وإن ادعاه له أن يحلفه
على نفي العلم.
واعلم أيضا: كما أنه يمكن العلم لكل أحد بانتفاء فعل نفسه، كذلك
يمكن علمه بانتفاء فعل غيره، من إقرار المدعي، أو كون الفعل مقيدا بزمان
أو مكان أو حالة خاصة يعلم انتفاءه فيه، أو يحصل له العلم بالانتفاء بأمور
خارجية وقرائن منضمة.
وتحصل من هاتين المقدمتين ومما مر من أنه على البت أبدا أن
الضابط الكلي: أنه يجب أن يكون حلف الحالف بنية منطبقة على جوابه،
فإن أجاب بالنفي أو الثبوت قطعا حلف عليه، سواء كان في فعل نفسه أو
غيره مما يوجب خلاف ما أجابه ضمانه، وإن أجاب بعدم العلم حلف عليه
كذلك إذا ادعي العلم عليه.
وتنشعب من ذلك الضابط جميع الفروع.
485

وقد يستشكل في مواضع لا إشكال فيها بعد ما ذكرنا، فإنه إن كان
المورد مما لا يلزم على المدعى عليه شئ بالإقرار فلا تسمع الدعوى..
وإن كان مما يلزم، فإن أجاب بانتفاء الفعل بتا يحلف عليه، وإن أجاب
بنفي العلم يحلف عليه إن ادعي علمه.
المسألة الرابعة: المدعي إما يطلق الدعوى - كقوله: لي عليك
عشرة، أو: ما في يدك من العين الفلانية مالي - أو يقيدها بسبب خاص،
كقوله: لي عليك عشرة بسبب الاقتراض، أو ثمن المبيع الفلاني، أو: ما
في يدك من العين الفلانية سرقتها مني..
وعلى كل من التقديرين إما يجيب المدعى عليه بالإطلاق، أو
بالتقييد..
فإن أطلقا فيكفي الحلف على نفي الاستحقاق المطلق بلا خلاف،
لمطابقة المحلوف عليه مع الدعوى، فتسقط بالحلف على نفيها بمقتضى
الإجماع والأخبار.
ولو قيدها المدعي بعد حلف المدعى عليه على نفي المطلق، فادعى
ثانيا: أن لي عليه عشرة ثمن المبيع، لا يسمع أيضا، لأن نفي المطلق
بالحلف يستلزم نفي المقيد، إلا بعد مضي زمان أمكن أن تكون تلك دعوى
ثانية ثابتة على المدعى عليه بعد المرافعة الأولى.
وإن قيدا يكفي الحلف على نفي المقيد أيضا في سقوط تلك
الدعوى إجماعا.
ولو ادعى بعد الحلف الاستحقاق بسبب آخر يسمع منه، ويطلب من
المدعى عليه الجواب، وله حلفه، لأن سقوط شئ خاص لا يستلزم
سقوط خاص آخر.
486

وكذا لو ادعى بعدها الاستحقاق المطلق، لأن سقوط الخاص
لا يستلزم سقوط العام.
وإن أطلق المدعي وقيد المدعى عليه - كأن يدعي عليه عشرة،
وأجاب بأنه ليس علي عشرة ثمن المبيع - وحلف عليه، لم يفد في سقوط
الدعوى أصلا، وتكون الدعوى باقية، والوجه واضح.
وإن انعكس، فادعى المقيد، وأجاب بنفي المطلق - فيدعي: أن لي
عليك عشرة ثمن المبيع، فأجاب بأنه ليس لك علي شئ أصلا - وحلف
عليه، فلا شك في سقوط الدعوى، لأن انتفاء المطلق والعام يستلزم انتفاء
المقيد والخاص، ولصدق الحلف المسقطة للدعوى.
وتدل عليه أيضا صحيحة محمد (1) الواردة في كيفية حلف الأخرس،
حيث ادعي عليه الدين، وكتب في الحلف ما هو عام.. ولازمه أنه لو طلب
المدعي منه الحلف بعد ذلك على نفي المقيد لم يكن له ذلك، إذ لا حلف
بعد حلف، ولا حلف بعد سقوط الدعوى.
ولو طلب منه أولا الحلف على نفي المقيد، فهل يجب عليه ذلك،
وللمدعي تلك المطالبة؟
الظاهر: لا، إذ لم يثبت من الشرع إلا تسلطه على احلافه، وأما
تسلطه عليه في كل جزء جزء من متعلقات الحلف فلا، والأصل يقتضي
عدم التسلط.
ولا يصير بتركه ما أراد ناكلا بعد إثباته بأصل الحلف على المدعى به،
ولو بما يشمله بالعموم.

(1) المتقدمة في ص 429.
487

وليس ذلك إلا من قبيل أن يدعي عليه العشرة، ثمن المبيع الذي باعه
منه في يوم كذا، بلفظ كذا، في مكان كذا، وهكذا، ويريد بها الإحلاف
على نفي جميع تلك الجزئيات، فإن أبى المدعي إلا بأن يحلفه كذلك،
ولم يرض بالحلف المطلق، فللمدعى عليه الإباء عنه أيضا، فيتوقف حتى
يرضى المدعي بالمطلق.
والحاصل: أنه لا يجب عليه الحلف بالمقيد، وليس للمدعي إجباره
عليه، للأصل السالم عن المعارض.
وقد عبر الأكثر عن هذا القسم بأن المدعى عليه لو أراد الحلف على
نفي الاستحقاق المطلق ففي إجابته قولان، أشهرهما: نعم. والمعنى واحد.
ثم إنهم قد يستدلون على الإجابة وعلى عدم التسلط على إجباره
بالمقيد بأنه قد يكون للعدول من المطلق إلى المقيد غرض صحيح، بأن
كان قد غصب أو استأجر أو سرق أو اشترى، ولكن برئ من الحق بوجه
من وجوه الإبراء، وتكليفه بنفي المقيد يوجب إما الكذب في الحلف، أو
وقوعه في مضيق طلب الإثبات.
وهو كان جيدا لو كان المخالف - وهو الشيخ على ما حكي عنه (1) -
يقول: بأن للمدعي الإحلاف على نفي سبب التقييد، كأن يحلف على أنه
ما اشتريت منك، أو ما استأجرت، أو ما سرقت.
ولكن الظاهر أن الخلاف إنما هو في الإحلاف على نفي المقيد، كأن
يحلف على أنه ليس في ذمتي ثمن المبيع، أو وجه الإجارة، أوليس في
يدي مغصوب منك.

(1) انظر المبسوط 8: 207، وحكاه عنه في المسالك 2: 373.
488

ولا يخفى أن ذلك لا يوجب كذبا في الحلف لو صدق في الواقع وإن
تحقق الشراء أو الاستئجار أو الغصب أولا.
وأما الإحلاف على نفي السبب منفردا، أو مع نفي المسبب - من
الاشتغال بثمن المبيع، أو نحوه - فلا تسلط عليه أصلا، إذ قد ذكرنا في
بحث الدعوى أنه يشترط في سماعها كونها صريحة في ادعاء الاستحقاق،
ودعوى السبب منفردا لا توجب دعوى استحقاق، فتكون غير مسموعة،
فلا يترتب عليها تسلط إحلاف.. ودعواه منضمة مع المسبب وإن كانت
مسموعة إلا أنه باعتبار جزئها الأخير، فهو ما به الدعوى حقيقة، فيكون
تسلط الحلف عليه خاصة، فتأمل.
489

البحث الثالث
في المحلوف عليه
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لو ادعي عليه دين وهو معسر جاز له أن يحلف أنه
لا حق له، ويوري إن علم صدق دعواه - صرح بذلك في التحرير (1) -
لصدقه في دعواه.
المسألة الثانية: الحلف ينصرف إلى ما حلفه الحاكم عليه، فلا تنفع
تورية الظالم من الخصمين، لرواية مسعدة بن صدقة: " فإذا كان مظلوما
فيما حلف عليه ونوى اليمين فعلى نيته، وأما إذا كان ظالما فاليمين على
نية المظلوم " (2).
ولو كان أحد الخصمين معتقدا لحقية ما يحلف عليه اجتهادا أو تقليدا
مخالفا لاجتهاد الحاكم، لم يفد في تأويل الحلف اعتقاد نفسه، لأنه في
الترافع محكوم بمتابعة الحاكم، وليس ما اجتهده أو قلده حكم الله في حقه
حينئذ.
المسألة الثالثة: قالوا: لا يجوز أن يحلف أحد ليثبت مالا لغيره، أو
يسقط حقا عن غيره.
وهو كذلك، للإجماع، والأصل واختصاص الروايات صريحا أو

(1) التحرير 2: 192.
(2) الكافي 7: 444 / 1، التهذيب 8: 280 / 1025، قرب الإسناد: 9 / 28،
الوسائل 23: 245 أبواب الأيمان ب 20 ح 1، بتفاوت يسير.
490

ظهورا فيما يراد به حق الحالف نفسه، ولأن الحلف إنما يكون فيما إذا نكل
عن الحلف أو أقر بالحق يثبت، ولا يتحقق شئ منهما في حق الغير.
قال في التحرير: فلو ادعى رهنا وأقام شاهدا أنه للراهن لم يكن له
أن يحلف، بل إن حلف الراهن تعلق حق الرهانة به، وإلا فلا. انتهى (1).
أقول: سماع الشاهد الواحد من المرتهن أيضا محل نظر، بل على
الراهن اليمين، فلو حلف تعلق حق الرهانة.
وأما قوله: وإلا فلا، ففيه إشكال، لأن في نكوله تضييعا لحق
المرتهن، فلعل المدعي والراهن اتفقا على ذلك لتضييع حقه، سيما مع
عدم تمكن الراهن من أداء حقه من غيره.
وكذلك في دعوى الملك الذي آجره غيره إذا ادعاه ثالث.
والتحقيق: إن الدعوى إما تكون مع الراهن أو المرتهن.
فعلى الأول: تختص الدعوى على ملكية الراهن، فإن حلف الراهن
سقطت الدعوى منه ومن المرتهن، وإلا تثبت الدعوى على ملكية المدعي،
ولكن لا يبطل الرهن، لعدم منافاة بين ملكيته وصحة الرهن، لجواز أن
يكون بإذنه، فللمرتهن العمل بمقتضى المراهنة.
فإن ادعى على الراهن بعد ذلك فساد المراهنة، فإن أجاب المرتهن
بأنه رهن بإذنه، يصير مدعيا، وعليه الإثبات، ويقبل الشاهد الواحد مع
اليمين لو أجزناه في المراهنة أيضا، وهو ليس حلفا لإثبات مال الغير، بل
لحق نفسه.
وإن أجاب بعدم فساد المراهنة يكون منكرا، وعليه الحلف، فإن

(1) التحرير 2: 192.
491

حلف تثبت المراهنة الصحيحة، ولا ينافيها عدم ملكية الراهن.
وعلى الثاني: فإن ادعى عليه ملكية المرهون فقط لم تسمع دعواه،
لما عرفت في بحث شرائط سماع الدعوى من عدم سماع دعوى غير
صريحة في الاستحقاق وإن ضم معها فساد المراهنة، فيكفي جواب
المرتهن بعدم الفساد، وعليه الحلف، وتبقى دعواه مع الراهن.
وكذلك في الإجارة والإصداق ونحوهما.. والله العالم.
تم مقصد القضاء.
492